ضغط جستن زراً صغيراً ثم فتح خزانة من الخشب المحفور واخرج منها سطل الثلج المطلي بالفضة واعطاه الى الخادم الذي دخل لتوه.
"رجاء يا طوم ,احضر لنا كمية جديدة من قطع الثلج وكأسين من الشراب الخاص للآنسة وجولييت "
ثم حول نظره نحو هيلين قائلاً :
"اني افكر جديا في الانضمام اليكما قليلاً. طوم يحضر مشروباً منعشاً تشرب منه ابنتي كميات كبيرة. تفضلي من هنا"
وفي اجمل زوايا الحديقة, كانت جولييت مستقلية على احد المقاعد و قربها خادمة سمينة تخيط بعض الستائر .وما ان شاهدت هيلين حتى هرعت لملاقتها قائلة :
"اعتقدت انك لن تأتي ابداً. ثم ان ألي لم تسمح لي بانتظارك خارج الفيللا "
وبعد انت تبادلت جولييت وألي الاتهمات المرحة حول تصرفات الشيطانة الصغيرة وتقيّد الحضانة الحرفي وبالتعليمات الصادرة اليها, وقبلتها بحنان طالبة منها التصرف بطريقة لائقة وتوجهت الى داخل المنزل. وفجأة تحولت جولييت نحو هيلين قائلة لها :
"لم تذكري لي ابداً انك كنت راصقة باليه, وأنك اتيت الى سمندر نتيجة لسقوطك عن دراجة هوائية وعدم قدرتك على الرقص بعد ذلك الحادث. هل هذا صحيح؟ هل رقصت حقاً على خشبات المسارح ؟"
نهرها و الدها مؤنباً, فاعتذرت قائلة :
"اني آسفة. لقد نسيت. ولكن اردت فقط ان ..."
ولما لاحظت هيلين ان جولييت توقفت على اتمام جملتها نتيجة لتلك النظرة القاسية من والدها, تدخلت بتهذيب قالت :
"لا, ارجوك. دعها تسأل, فلست متضايقة من الاجابة "
ثم التفتت نحو جولييت وتابعت حديثها :
"نعم يا عزيزتي, لقد رقصت على خشبة مسرح. إلا انني لم اكن راقصة باليه بالمعنى الصحيح. كنت قد بدأت لتوي بتقديم وصلات صغيرة بمفردي, وكان يحدوني امل كبير في امكانية وصولي يوماً ما, اذا اجتهدت كفاية, الى مرتبة الراقصات الرئيسيات "
"ولكن لماذا لم تخبريني بذلك من قبل؟ "
ابتسمت هيلين وقالت :
"كنت اشعر بتعاسة يا حبيبتي. ولو بدأت في الحديث عن مشكلتي آنذاك لكنت جعلت من نفسي سخرية امام الناس الموجودين في الطائرة "
تأثرت جولييت كثيرا و دمعت عيانها, ثم قالت لهيلين بحنان :
"ولكنك ستعودين الى المسرح عندما تتحسن رجلك, أليس كذلك؟ "
"لا ... لا اعتقد ذلك ,لأنني ..."
تدخل جستن فجأة عندما شعر بأن هيلين تحاول جاهدة السيطرة على مشاعرها, وقال لابنته :
"انهضي قليلاً يا جولييت, لأنني اريد تلك الطاولة الموجودة وراء الكنبة "
الا ان هيلين كانت قد احضرت طاولة اخرى فيما وصل طوم ومعه المرطبات. وقد نسيت جولييت موضوع الرقص واهتمامها به واخذت كوب عصير وبدأت تشرب. وما هي الا لحظات حتى عادت الى الحديث :
"ارجو الا اتقيأ هذا الشراب. فجسمي بحاجة اليه كثيراً بعد ان تقيأت اربع مرات نهار الجمعة ومرتين ......"
قطب جستن حاجبيه وقال لطفلة الصغيرة :
"لا تتحفينا بهذه التفاصيل, ارجوك. الأفضل ان تغيري الموضوع مرة اخرى "
وتنهدت جولييت وردت عليه قائلة :
" اوه, حسناً. كم اتمنى ان اكون شابة كبيرة. فالكبار يتحدثون دائماً عن امراضهم ولا احد يطلب منهم ان يخرسوا. عم يجب ان اتحدث يا ابي؟ "
نظر إليها بحنان وقال لها مازحاً:
"عن لا شيء, لحين الانتهاء من شرب العصير ,انه طلب ظالم, أليس كذلك؟ "
رفع جستن كأسه الى شفتيه وافرغ بقية شرابه دفعة واحدة. ثم طبع قبلة حنونة على رأس جولييت قائلاً :
" سأغادركما الان ختى تتمكني من اطلاع هيلين على كل ما يدرو في رأسك من اراء وافكار .ولكن لا تلوميني اذا ضجرت منك هيلين كثيراً وفرت هاربة"

ضحك الجميع لتلك النكتة الظريفة و اندفعت جولييت لمعانقة والدها والتمني له بالتوفيق. وقبل ان يذهب, تطلع بهيلين و قال لها بلهجة مهذبة, مبتسماً:
"ألي لن تكون بعيدة. ففي حال احتياجك لأي شيء ارجوك الا تترددي في مناداتها وابلاغها بما تريدين"
تاملته هيلين ملياً وهو يغادر ذلك الركن من الحديقة وتذكرت صفة المدمر التي اطلقتها نورين على جستن فالمونت. نعم, يمكنه ان يكون مدمراً فيما لو اختار استغلال ذلك السحر وتلك الجاذبية للفوز بقلوب النساء الضعيفة والراغبة, ولكنها لماذا تفكر به ! فهي هنا لتسلية صديقتها الصغيرة.
امضت جولييت وقتاً ممتعاً مع هيلين, مركزة معظم اهتمامها على العلبة الموسيقية التي افرحتها كثيراً. وظلت الفتاتان تمرحان وتلعبان فتره طويلة الى ان جاءت ألي ودعتهما لتناول الشاي مع السيد فالمونت على الشرفة. وقد اعربت جولييت عن رغبتها في تناول الطعام لأنها جائعة, فاجأبتها ألي:
"سأحضر لك فوراً بيضة مخفوقة مع الحليب والسكر .هذه هي أوامر الطبيب, ولن تأكلي اي شيء آخر قبل حضوره غداً صباحاً"
احتجت الفتاة بانزعاج قائلة:
"ولكنني اكاد اموت جوعاً. لم آكل شيئاً منذ ثلاثة ايام. ارجوك يا ألي اعطني واحدة من قطع الحلوى هذه"
تنهدت الخادمة الحنونة ثم توجهت نظراتهن جميعاً نحو جيستن, الذي قال مستسلماً:
"حسناً واحدة فقط, واياك ان يحدث لك ماحدث يوم الجمعة"
لمعت عينا جولييت فرحاً ومدت يدها الى طبق الحلوى لتختار اكبر واحدة فيه. ثم تطلعت الى والدها وقالت له مازحة:
"ولماذا يا ابي تذكرنا بتفاصيل مزعجة ونحن نجلس الى المائدة؟"
ضحك جستن وربت على كتف ابنته بحنان قائلاً:
"لقد سجلت هدفاً سريعاً وسهلاً في مرمى والدك"
لاحظت هيلين التعاطف والتوافق المتبادلين بين جولييت وابيها. ولكنها شعرت في الوقت ذاته بأن الفتاة الصغيرة تعرف حدودها بالنسبة الى الاندفاع في تصرفاتها مع والدها .وكان الأمر واضحاً عندما توقفت فجأة عن الاسترسال في حماستها وتندرها بمجرد ان سمعته يقول لها بهدوء, ولكن بلهجة تحذيرية جادة:
"جولييت هذا يكفي"
بعد شرب الشاي قررت هيلين وجولييت القيام بنزهة على الشاطئ. فلبست جولييت كنزة من الصوف الناعم تحسباً لبرودة المساء. واخذت الفتاتان تنعمان النظر بمغيب الشمس وانعكاس الاضواء على سطح الماء. وتأملت هيلين تلك المناظر الرائعة التي تفيض بالدفء والحنان.
وشعرت لأول مرة منذ وصولها الى سلمندر بنوع من الطمأنينة وراحة البال. لدى عودتهما الى الفيللا كانت جولييت صامتة تماماً وقد بدا عليها التعب والارهاق, ذلك ان مرضها قد اثر عليها الى حد كبير .ولهذا لم تعترض مطلقاً عندما اخذتها ألي الى غرفة النوم لتبديل ثيابها ووضعها في السرير. ومع ذهاب جولييت الى غرفة نومها اختفى من افكار هيلين ذلك الشعور الوجيز بالسكينة. ومرة اخرى عاد يتملكها كالمعتاد شعور بالحذر والاحتراز .وظلت هيلين فترة قصيرة وحدها في تلك القاعة الكبيرة, فشعرت بان هناك خطأ ما في وضعها وهو شعور الانسان الزائر وليس الضيف اذا تركه اصحاب البيت وحده. تطلعت حولها بنظرات شاردة واخذت تتساءل ما اذا كان جستين فالمونت سيوصلها بسيارته ام انه سيدعها تذهب بمفردها. وذكرت هيلين نفسها بان مكان اقامتها لا يبعد اكثر من عشر دقائق تقريباً اذا سارت سيراً عادياً وطبيعياً. واردات هيلين ان تلهي نفسها عن هذه الافكار فأخذت تستعيد في ذهنها تفاصيل اللقاء مع جولييت ووالدها جسيتن. وفجأة تذكرت انها تركت حقيبتها القصبية في اطراف الحديقة حيث كانت تجلس مع صديقتها الصغيرة. فتحت الباب الزجاجي المطل على الحديقة وذهبت لاحضارها. لدى وصولها تبين لها ان المكان قد اعيد ترتيبه وتنظيفه وان حقيبتها ليست هناك .عادت هيلين الى المنزل فوجدت الباب الزجاجي مقفلاً من الداخل. وعندما ارادت الذهاب من الجهه الاخرى كادت ان تصطدم بجستين على الزاوية الشمالية. وقال فالمونت:

"لقد استغربت ان اراك آتية من هنا للحظة وجيزة اعتقدت انك ذهبت الى منزلك"
وبدأت هيلين تحاول التقاط انفاسها لتشرح له ماحدث, ولكنه قال لها على عجل:
"اني آسف جداً. كان عليّ اجراء مكالمة هاتفية ضرورية, ومما لاشك فيه ان ألي قد احضرت حقيبتك من الخارج"
ولما وصلا الى القاعة, ابتسم جستين وقال:
"اقفال الباب الزجاجي من الداخل ربما بدا تصرفاً غير لائق يقوم به انسان غير مضياف. ولكن الحقيقة هي غير ذلك تماماً. فالخادم طوم معتاد في مثل هذا الوقت كل يوم على اقفال جميع الابواب والنوافذ لمنع الحشرات الاستوائية المؤذية من دخول المنزل"
ردت عليه هيلين بكل تهذيب:
"لا بأس, فلا داعي للاعتذار"
"كيف لا ,خاصة انك اعطيت وقتك كاملاً طوال بعد الظهر لتسلية ابنتي. كانت خطوة لطيفة جداً منك, وانا اقدّر لك هذه الخدمة الرائعة. وجودك هنا اسعد جولييت الى حد كبير"
ثم توجه الى الخزانة الخشبية وقال لهيلين:
"ماذا تشربين ؟"
"قليلا من عصير البرتقال من فضلك"
واخذت هيلين تراقب اسلوبه المميز وهو يصب العصير في كأسين من الكريستال الخالص. وبعد ان اعطاها شرابها جلس قبالتها ثم قال لها بكثير من الجدية والتفكير العميق:
"اتدرين انني افكر ملياً اذا كان من الخطأ او الصواب احضار جولييت الى هنا. لم يمض وقت طويل على وجودها هنا وقد بدأت اواجه بعض المشاكل"
وبدون ان تدري ماهية رد الفعل المتوقع منها قالت له:
"أتعني مسألة الاعتناء بها؟"
"لا معاذ الله. ولكن بكل بساطة لم تكن لدي ادنى فكرة عن الوقت الذي يجب ان اكرسه لها. ووقتي مع الأسف ضيق جداً. وقد احزنني بوجه خاص انني لم اتمكن من تخصيص وقت اطول لها اثناء مرضها. ومما ارعبني الى حد ما التفكير بما سأفعله اذا اصيبت جولييت لا سمح الله بمرض اقوى و..."
قاطعته هيلين قائلة:
"هناك شخص على استعداد دائم للقيام بهذه المهمة"
وتطلعت اليه هيلين بتفحص فبدا لها رجلاً قادراً تماماً على معالجة اي من المشاكل التي قد تواجهه, بما في ذلك مرض طفلة صغيرة. وكأن جستن لم يسمع ما قالته هيلين فاضاف فجأة:
"كذلك لم تكن خطوة جيدة اخراجها من مدرستها في لندن .فمعظم الاوربيين هنا يفكرون جدياً بارسال اولادهم الى العاصمة البريطانية, وخاصة عندما يبلغون سن جولييت"
ذكرته هيلين بأن جولييت كانت متضايقة جداً بسبب بعدها عنه, وبأنها كانت تتحرق للقائه. تنهد جستن من اعماق صدره وقال:
"هذا هو السبب الوحيد الذي جعلني اتخطى جميع الاعتبارات, بما فيها العملية والعلمية"
"بلا شك هنا مدرسة لتعليم جولييت, اليس كذلك؟"
"نعم ,هناك ثلاث مدارس. ولكنني اعتقد ان اياً منها لا تناسب جولييت بالشكل الذي اريده لها"
شرب جستن قليلا من العصير ثم عادت اليه ابتسامته فأضاف:
"اعتقد ان عليها الذهاب الى مدرسة الآنستين (ميم) .هاتان الاآستان اللتان ستتعرفين عليهما عاجلاً ام آجلاً, وهما الآنسة ماييل والآنسة ميلدريد. انهما سيدتان مسنتان لطيفتان كانتا تدرسان في الهند قبل استقلالها عن بريطانيا. وهما الآن تعيشان هنا وليست لهما اية رغبة بالعودة الى انكلترا .واعتقد ان دخلهما من تعليم ابناء العائلات الاوربية في سلمندر يكفيهما للعيش بمستوى لائق .بالطبع ان اسلوبهما في التعليم هو قديم جداً يتلخص ببضعة مواضيع في تاريخ الامبراطورية والاخلاقيات والاشغال اليدوية وكيفية التصرف بتهذيب اثناء الحفلة السنويه في المبنى الحكومي"

كانت هيلين تستمع اليه بكل رصانة ثم قالت:
"يبدو انهما سيدتان لطيفتان"
"نعم, ولكن لماذا اضجرك هكذا بمواضيع لاتهمك! اخبريني كيف وجدت سلمندر؟"
"اعتقد انها جميلة جداً وانا اتطلع الى اكتشافها بطريقة افضل"
صمت جستن للحظة والقى نظرة على اللوحة الزيتية الرائعة المعلقة على الحائط الجنوبي, ثم تحولت انظاره الى الصندوق الموسيقي المهدى من هيلين لجولييت, والتي وضعته ابنته على طاولة صينية جذابة. مد جستن يده باتجاه الطاولة واحضر الصندوق الخشبي وفتح الغطاء بكل عناية واهتمام ليشاهد راقصة الباليه الصغيرة ترقص على انغام لحن مشهور.
ظل جستن صامتاً تماماً طوال فترة الاغنية القصيرة ويتأمل بجدية الراقصة الصغيرة. وبدون ان يقفل الغطاء لاتزال الراقصة الى قلب الصندوق, اعاده الى مكانه على الطاولة وقال لهيلين:
"هذا الصندوق كان لك, اليس كذلك؟"
اجابته بكلمة (نعم)فقط اذا انها غصت ببقية الجملة.
فقال لها والد جولييت:
"كنت اتصور ذلك. ومما لاشك فيه انه كان يعني لك الامر الكثير. فهل انت متأكدة من انك تريدين التخلي عنه لجولييت ؟"
"نعم, بالطبع. ولو لم يكن هذا شعوري منذ البداية لما قدمته لها. في اي حال, فهذا الصندوق لم يعد يعني اي شيء بالنسبة الي"
تردد جستن لحظة, ثم عادت فجأة البرودة وعدم الاهتمام الى قسمات وجهه وقال لها:
"انا اشكرك على قبولك الدعوة لزيارتنا, ويسرني الآن ان اوصلك بسيارتي الى منزلك"
خلال دقيقه او اقل كان جستن يفتح الباب الامامي لهيلين ثم يصعد من الناحيه الاخرى ويتجه بسيارته نحو بيت ماريز.

نهايه الفصل الثالث

الرواية بدأت تحلو وهنستمتع بأحداثها