لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-07-16, 02:31 PM   المشاركة رقم: 846
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 





سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


بكرر وأنوه إنّ فيه جزء نزل قبل هذا بتاربخ 29 رمضان عشان اللي ما انتبهوا له ، + بارت اليوم رغم وسطيّة طوله بس فيه شيء جميل أتوقع الكل كان منتظره :) وَ من بعد اليوم بنثبت على مواعيد محدّدة راح أذكرها نهاية البارت.

شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$

بسم الله نبدأ ،
قيود بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم عن العبادات


(76)*2



" دريت عن الموضوع من ساعتين، انرسلت ورقـة طلاقها لها اليوم الصبح "
ردّهـا كـان في حاجبيْها الذين انعقدَا، عبـر بينهما الصمتْ، لم يظهـر على وجهِها الكثيـر من الاهتمـام، لكنّها صمتت، وكأنها لم تكُن تجدُ ردًّا، لا تدرِي ما تقول ، سعيدةٌ لأن الموضوع لم يكُن كما خشيَت ، لكنّها في المقـابل لا تدري ! ما معنى أن يكون حدثَ لأمّها أمرٌ جلِل.
وضَع سلطـان كفّه على يدِها التي تستقرُّ على فخذِها، ضغطَ عليها وهو يلفظُ بصوتٍ متمهّل : رحت لهـا . . وقالت تبِي تشوفك.
هذهِ المرّة اتّسعَت عينـاها بصدمـة، أشـاحت وجهها الباهتُ عنه لتنظُر للأمامِ دون تصديق، تريد أن تراها؟ تريد أن تقابلها؟ لمَ؟ ما الذي يستدعي عليها هذا اللقـاءَ الأجوف؟ .. نعم! تدرك أنّه سيكونُ أجوفًا، تدرك أنّ المشاعـر والعواطِف انتهت بينهما بل لم تكُن أصلًا ! حدّ أن تغـار من غيداء مثلًا! ومن قبـل من سلطـان، حين ترى تعامـل أمٍ لم تحمله في رحمها، كـانت فقط أمّه بالرضـاع، وبالرغمِ من ذلك حنونةٌ عليه وكأنّه ابنُ رحمـها، بينما هي! لم تعِش يومًا لمسـةً حنونةً منها ، لا تذكر أنّها مرةً مسحَت دمعها، لا تذكر أنّها مرةً ابتسمَت لها في أحاديثَ ناعمـةٍ بينهما، لا تذكر أبدًا لحظـاتٍ جميلة .. هل فعلًا لم تكُن بينهما لحظـاتٌ رغم الأوقات الطويلة التي كانت تكون فيها قُربها؟ كـانا كثيرًا ما تسافرانِ في مقعدين متجاورينِ في الطائرة، لا يكون معهما والدها، تسكنـانِ في نفسِ الفنـدق، غرفتيهما ملتصقتينِ يفصُل بينهما جدار، تخرجـانِ كثيرًا في سيّارةٍ واحدة، تجلسـانِ بجانب بعضيهما ، لكن هل حدثت بينهما مواقفُ " لذيذةٌ " بين أمٍ وابنـة؟ .. يا للعـار! لم يحدث، لم يحدث إطلاقًا .. كلّ تلك السنينَ لم يحدث بينهما فيها تشابُكٌ ابتسمـا معهُ رغم القرب .. هل يعقل؟ هل يندرجُ ذلك في المنطـق؟ .. لا تذكُر أنّه كان بينهما ذلك، أو ربّما كـان ومن قلّته لا تذكر!!!
عـادَت لتنظُر لملامح سلطـان الذي كان يترقّب ردّها، ابتلَعت ريقها بأسـى ، قبل أن تهمسَ بصوتٍ بحّ بخيبتِها : ما أبي أروح لها . .
عقدَ سلطـان حاجبيهِ قليلًا، تنهّد، ومن ثمَ مدّ يدهُ ليضعها على كتفِها وهو يلفظ بتفهّم : فاهمك .. وما ودّي أجبرك .. بس مو عشانك هالمرة ، عشانها هي فكّري.
غزل تقطّب جبينها بحسرة : عشانها؟
سلطـان يهزُّ رأسه بالإيجاب : هذي في النهايـة أمّك يا غزل ، مهما سوّت.
غزل بغصّةٍ تُشيح عينيها عن ملامِحه : نفس المنطق هو أبوي.
سلطان : قد طلب يشوفك مرّة ورفضت؟ لو جاء ما كنت بقول شيء حتى لو ما أطيقه ، الفكـرة اللي قبل إنّه لا طاعة لمخلوق في معصيَة الخالق ! والمرّة الأخيرة اللي قلت فيها ماراح أخليك تدخلين بيتكم لأنّي شفت أبوك وهو ودّه يضرك ، غير كذا ماراح أشجعك على شيء مثل كذا! بس هو اللي قال يبي هالشيء بأفعاله .. أمّا أمك لا.
غزل تُعيدُ نظراتها نحوه بضيق، تشعُر بسكاكينَ تقطّع من صوتِها ، من كلمـاتِها التي خرجَت إليه مستوجعِة تئنُّ بتكدّسِ الجراح : ما أقدر!
سلطـان بتأنّي : خلاص .. نغيّر طريقة الإغراء ، شرايك يكون عشاني؟
ابتسمَت رغمًا عنها وبيـاضُ عينيها يغشـاهُ الاحمرار : مسكتني من يدي اللي تعورني.
سلطان بابتسامة : يعني؟
غزل : اسمح لي أفكر قبل.
سلطان يتنهّد : غزل ترى منتِ رايحة جهاد عشان تفكرين تقتنعين بخطوتِك هذي أو لا! كم ساعة وبترجعين.
غزل تهزُّ رأسها بالنفيِ لتلفظَ بإصرار : بفكّر .. إذا بالنسبة لك الموضوع سهل فأنا أدري راح يخرب نفسيتي فوق ماهي مختربة أصلًا !!
سلطـان : ومتى إن شاء الله بتقررين؟
غزل تبتسمُ بتودّد : اليوم بقولك بس عطنِي فرصة أفكر.
سلطـان ينهضُ وملامحه تتعجّن بضجر : الله يصلحك بس.


،


في الليل ، وبعد صلاةِ العشـاء تحديدًا بساعة.
أوقفَ السيّارةَ أمـام الفندق الذي يقطُن فيه متعب، نظـر لهُ وهو يلفُظ بحيرة : عادي يعني لو وصلتك بنفسي ماراح يكون شكلي مشبوه؟!
متعب بجمودٍ وهو يفتح البـاب : لا .. أصلًا يدرون عنّك بس الشيء اللي أنا موضحه لهم بس.
أدهم يرفع أحد حاجبيه : اللي موضحه لهم؟
متعب يبتسم : أحسه يسلك لي .. هذا اللي قلت لك اسمه عبدالله ،
أدهم : وش رتبته ذا؟
متعب : أتوقع عميد .. وشكله المسؤول عن هالقضية عامةً واللي دخلت نفسي فيها.
أدهم : طيب شلون يسلك لك؟
متعب يهزّ كتفيه : مدري بس حاسس إنّي كذّاب ... أقصد بسالفة تزوير الهوية وعنك .. قلتله إنك بس مجرد صديق وعرفته بباريس.
تراجـع أدهم بظهرُه للخلف : لو بيتعامـل معك بجدّية قانونيًا كان مسكك على سالفة الهوية هذي .. انتبـه له.
رفعَ متعب حاجبيه : وش قصدك؟
أدهم بجمودٍ ينظُر للأمـام : ما أدري .. بس يمكن مخبّي عنك شيء.
متعب بسخرية : ليه أنا مين بالنسبة له عشان يقولي كل شيء!
أدهم ينظُر لهُ بضجر : انزل بس وفكني من غثاك ... مرتِي صارت تزعل من كثر ما أطلع بسببك.
فتحَ الباب وهو يضحك : زوج فاشل عجزت تدلعها بأول أيامكم؟
أطبـق الباب دون أن ينتظـر ردّه، بينما ابتسمَ أدهم بسخريةٍ من نفسِه وهو يحرّك السيـارة حتى يعُود للمنـزل ، الآن ستستقبلـه بالتأكيد كالمعتـاد بنظراتِها الحاقدة وبصوتِها وكلماتها الوقحة !! تمتم بخفوت : نصبر .. وش ورانا غير الصبر !

بينما رمـى متعب جسدهُ على السرير بعد أن دخـل غرفته، دسَّ كفيْهِ أسفـل رأسه، ينظُر للسقفِ الأبيضِ بشرود، ابتسـامته الكاذبة مع أدهم تلاشَت، وبقيَ في جنباتِ شفاهه جمودُ الأسى، ما الذي تريده يا شاهين من قصّتك الجديدة؟ أن تصعَد بي إلى غيوم الأمـل حتى تتلاشى وأسقطَ فجأة؟ أن أنكسـر من جديد؟ أن أفـرح لتتحطّم ابتسـامة الفرحـة وتوجعني أكثر! ماذا تريد من كلّ هذا؟ منذ متـى صنعْت في نفسِك هذهِ الشخصيّة التي تهوى تعذيب من حولك .. لا ! بل تعذيبي أنا ! من بينِ كلّ البشـر . . . لطالمـا كنتُ أرشدك بعيدًا عن أخطائك حين تفتعلها، ولو أنّك آذيتَ نفسك كنتُ سأرشدك لكفّارةِ ما فعلت .. لكن كيف أرشدك وذنبك هذهِ المرّة مارسته عليْ؟ لم أعُد أفهمك .. هل تريد تعذيبي أكثـر؟ هل تريدني أن أحبّك من جديدٍ وأحيـا ، ومن ثمّ أموت بقسوةٍ أكبـر !
يا ربّ العباد ! مالي وأمنيـاتي الآن؟ كيف يطلبُ قلبي دون إرادةٍ منّي أن يكون صادقًا بالرغم من كونِ عقلي لا يريد التفكير بـ - كذبته - من الأساس! يدرك أنّها خدعـة ، ولو أنّ المنطـق يغادر كلّ شيء ، المنطـق يا شاهين، أن لا يكون ذاك الصوت الحاقد عليّ صوتُك ، ألّا تكون الكلمـات تلك كلماتك ، كيف ذلك؟ لا يُمكـن ، هُنا تقطُن الحقيقة للأسـف ، كلماتك التي لا تأويلَ لها سوى " تأكّد من موت أخوي اللي ما أبيه بهالدنيا! "، كلمـاتك التي رسخَت في جدران ذاكرتِي وأنت تسأل " مات؟ "، ومن ثمّ تُكمـل بوعيدِ صوتِك إن كـان فشِل . . كلماتُك تلك لا أنساها، لا أنساها أبدًا !!
من جديدٍ وكعـادةِ الليـالي التي يقضيها بالتفكِير قبل نومِه، يسترجع البعضَ أو الكُل ممّا حدثَ قبل أكثـر من ثلاثِ سنين، من تلك الليلـة ، ومنذُ اتّصـال أسيل بِه . . . ابتسمَ بخيبة ، يومَها دخـل في هذهِ المعمعَةِ حين افتضحهُ اتصالها، ومن ثمّ غـدر بهِ أخوه لأجلها ! . . ماذا فعلَ بِي حبّك يا أسيل من دمـارٍ حتى الآن! ماذا فعل؟!!
عـادت إليه نظراتُ ذاك الذي اصتدمَ بِه تلك الليلـة - سالم -، شعـر أنّها حوله، لذا سحبَ إحدى الوسائد التي كانت متناثرةً حولَ رأسِه ليغطّي بها وجههُ وهو يزفُر بضيق . . ذلك اليوم بعد أن أخذَ هاتفه الذي كان يرنّ، ردّه على أسيل ، والتي لفظَت مباشـرةً باسمِه " متعب ".
ابتسامـة الشرّ في وجهِ سالـم، ومن ثمّ إغلاقِه للهاتِف، استدارته لأحدِ الرجـال الذين كانوا معه . . نظـر لهُ بنظراتٍ متوجّسـة وهو يرمي الهاتفَ بعد أن أشار لرجلٍ كان خلفُه ليُمسكـه مباشرة ، ومن ثمّ عصَف صوتُه الوحشيُّ بخشونتِه في المكـان المُعتـم، والهادئ : شوف لي معلومات آخر الأرقـام الموجودة .. وركّز أكثر شيء عن أب .. ام .. اخوان ... زوجة !
حينـها اتّسعَت عينـاه بذهول، وقد فهمُ ولو بشكلٍ مبسّط .. أن هنـاك خطرًا سيعانقِ من قصدهم ! ، امه، اخوه ، وزوجته ! . . بينما عـاد سالِم لينظُر إليه، يبتسم ابتسامةً ساخنـةٍ بالشر، وهو يلفظُ بنبرةٍ ماكرة : من وين نبدأ أخ متعب؟
ومنذُ تلك الليلـة ، انتهَت حياته التي اعتادها ! الهدوء، السـلام، كـان يفضّل الموتَ على أمورٍ كثيرةٍ حكَى معه عنها في تلك الليلـة ومن بعدِها ، قـال له سيمُوت ، أو يقوم بخدمةٍ واحدةٍ لأجلـة ، ومن بعدها " وعدَ " أنّه سيتركه وينساه، لمْ يكُن أحمـق ليصدّق وعدَه، لكنّه استطـاع ارغامِه بهم ، وبعدَ أن عـاش لحظاتٍ من التوجّس والترقب وهو ينتظُر أنْ يُسجن في يومٍ مـا بتهمتِه ، نسيَه سالم ، كمـا قال، ولم يكُن يدرك وقتها أنّه اختـار له الموتَ ببطءٍ بعيدًا . .
ارتخَت كفوفُه على الوسادةِ وهو يتذكّر كيف أنّ شاهين كان هو من انتبـه لظهورِ علاماتِ الادمـان عليه . . لمَ نبّهه لذلك؟ كـان يستطِيع أن يُكمل بكلّ بساطةٍ هذا الموتَ البطيء، يبدو أنّه ملّ، لذا اختـار الموت السريع حتى يحضى بِها . . لحظة ! متى تزوّجها؟ في هذا العـام على الأرجح ، لمَ انتظـر كلّ ذلك الوقت إن كـان دافعه أسيل؟ . . أزاحَ الوسادةَ عن رأسِه وهو يعقدُ حاجبيه ، انتظـر لسنتين ! إن كـان هناك من قد يقتل أقرب الناس لديه لأجلِ امرأةٍ فهل يُعقل أن ينتظر لسنتين؟!
أغمضَ عينيه للحظـة، للحظتين ، وحاجبيه لازالا منعقدين .. لكنّهما سرعـان ما ارتخيا ، لتُخلق على شفتيه ابتسامة ، ساخِرة ، متألّمة ، فشاهين بالتأكيد انشغل لوقتٍ فقط بالنجـاح، حتى يستطِيع وقتها أن ينال رضاها بزواجِه.
كلاهما غدرا بِه ، كلاهما !! هوَ حين قتله ، وحين حينَ رضيَت بِه وخانته! وعدتنِي في يومٍ مـا أنّها لن تكون لسواي، لكنّها كانت كاذبـة، مثله ، كلاهما كاذبان !!!


،


وصـل للمنزلِ في غضونِ ثُلثِ ساعـة، ترجّل من السيّارةِ وهو يتمتمُ بكلمـاتٍ مـا، يخطُو باتّجـاه البابِ وهو يحكُّ فروةَ رأسِه بضجَر، فتحَ البـابَ ودخـل، ليبحثَ بعينيه سريعًا وحين لم يجدها اتّجه مباشرةً للدرجِ كيْ يصعَد، دخـل غرفتـه، بالتأكيد ستكون الآن تدرسُ أو ربّما هربَت لتلك الغرفـة من جديد! لوى فمه وهو هذهِ المرّة يجزم بأنّه سيحملها قسرًا ويحبسها في غرفته يومين عقابًا !
وصَل لبابِ غرفتـه ليجدهُ مفتوحًا تقريبًا، دفعـه فقط دون مبالاةٍ ودخـل وهو يلفظُ بصوتٍ هادئ : نجلاء.
كانت في تلك اللحظـةِ على السرير، اضطربَ جسدها ما إن سمعَت صوته يناديها بذاكَ الاسم، أشاحت وجهها بعيدًا عن نطاقِ رؤيتِه، كـانت تجلسُ وهي تضمُّ ركبتيها إلى صدرها وتلفُّ ذراعيها على ساقيها، لكنّها الآن كانت تخفضهما بهدوءٍ وكأنّها تُخفِي حالـةَ ضعفٍ كـانت تغزوها . .
اقتربَ وهو يبتسم ويعقدُ حاجبيهِ باستغراب : غريبة شايفتني راجع من برا وهاجدة! بالعادة بتهاوشين وتقولين ليه ما أخذتك لأهلك !!
إلين بخفوت، ظهرت منه نبـرةٌ مـا، نبرةٌ كـانت في غيرِ مكانِها : ما يهمني.
كـانت تحاول أن تُخفِي نبرةَ الاختنـاقِ الباكـي تلك، لكنّها سطعَت على كلمـاتِها، ظهرت لمسامِعه .. حينها ابتلعت ريقها بينما صوتُ خطواتِه اقتربَت فجأةً وملامحه تتغيّر، تحرّكت بانفعـالٍ كي تبتعد، تهربَ منه بالمعنـى الصحيح وقد أدركت أنّه قرأ ملامِح صوتِها الباكي، لكنّه كـان أقرب إليها من الهربَ، التصقَ جسدهُ بجسدها ما إن وقفَت لترتعشَ بربكةٍ وتتراجع جالسةً على السرير، في حين انحنى إليها بملامِح هادئـة، لم تُظهر الاستنكـار الذي اعتلاه، لم تُظهـر توجّسه وخوفـه .. أمسك فكّها برقّة، ومن ثمّ رفـع رأسها ، كـانت تقاومُ تيّارَ يدِه التي تجرفها إلى عينيه، يرغمها على النظر إليه حتى يستطِيع رؤيـة عينيها بوضوح .. كـانت أضعف! أمّها بعثَت بالمزيد من الضعف، بالبكـاءِ على ماضيها وعلى حياتِها هذهِ المرّة، أمّها كـانت مفتـاح الانفجـار ، كـانت السبب في النظـرة التي اعتلَت على ملامِح أدهـم ، الصدمـة من عينيها المُحمرّتين وملامحها المُنتفخـة لتُخبره بوضوحٍ أنها بكت ساعات ، بكَت لوقتٍ طويل ، بكَت وانسلّت من قناعتها بعدمِ البكـاء!
همسَ دون تصديق : كنتِ تبكين ؟!!
إلين ترفعُ كفّها لتُمسك بمعصمِ يدِه التي تقبضُ على فكّها، حاولت أن تجلعه يُطلقها وهي تلفظُ بسخرية : افـرح ، ما عاد تحتاج تقولي قوّتك كاذبة !
أدهم بحدةٍ يرفعُ وجهها إليهِ بقوّةٍ وهو يلفظُ من بين أسنـانه : وش صـار؟
إلين ببهوتٍ وهي تشتّت عينيها بعيدًا عنه : مو شغلك.
أدهم : مو شغلي !!!
اقتربَت ملامحه منه فجأةً بانفعـال، شهقَت شهقةً خافتـةٍ وهي ترجع رأسها للخلفِ لكنّه شدّ على فكها ليقربها من وجههِ قسرًا وهو يلفظ بحدّة : وش صار؟
ارتعشَت شفتيها بخوفٍ من قربِه، أنفاسه تلفحُ وجهها المُحمر، حرارتُها تلهبُ بشرتها، تّذيبُ جلدها في علامـةِ انصهـارٍ أخيرة، بعد أن انصهر الدمـع وبعد أن بكَت، هاهو الآن يصهر جلدها بعيدًا عن ملوحةِ عينيها التي انصهرت بنارِ أمّها .
أدهم يقرّبها منه أكثر وهو يدرك أن قربـه يستفزّ الذعـر فيها وسيجعلها تتكلّم رغمًا عن صمتها، وببرودٍ يكرّر : وش صار؟
أغمَضت عينيها بضعف، الأدرينـالين يتصاعدُ في جسدِها، قلبها باتَ ينبضُ بقوّةٍ مرتبكـةٍ وهي تهمسُ برجـاء : ابعد.
أدهم بخفوت : بمقابـل تردّين على سؤالي.
إلين بصوتٍ واهِن : شيء يخصني.
أدهم : اللي يأذيك يأذيني.
فتحَت عينيها ببطءٍ وهي تشعُر بغصّةٍ تزاحـمُ حنجرتها، ابتلعَت ريقها بصعوبةٍ ليتحرّك حلقها بوضوحٍ لعينيه، حينها شدّ على أسنـانه بغضب، أغضبـه أن تحزن حدّ أن تبكي وهي في بيتِه/بيتها، ما الذي قد يُحزنها؟ ما الذي قد يُذيبُ جمودَ عينيها ويُسقطُ الغيـم الأبيضَ في هيئةِ مطر؟ لطـالما كانت غيمةً بيضـاء! لم تكُن سوداءَ يومًا تحمل المطر، فلمَ تبكِي؟ كيفَ يُولد المـطر من غيرِ رحمِه؟!ا
هتف من بينِ أسنانه بغضبٍ جارفٍ ووعيد : احكِي .. والا ماراح يكون سكوتك ذا شيء طيّب لِك.
استفزّها من تهديدِه هذا لشيءٍ يعنيها هي فقط ولا يعنيهِ هو، لذا صرخَت بغضب : مالك شغـل فيني .. مالك شغل!!
أدهم يضغطُ على فكّها وهو يدفعها للخلفِ لتسقطَ على ظهرها، شهقةُ ذعرٍ تسلّلت من صدرِها إلى المُحيط، اعتلاها بحسدِه دون أن يترك فكّها ، بينمـا تجمّد جسدها دلالـة الخوفِ وعينيها تهتزّان، تنظـر لأحداِقه الغاضبـةِ وهي تضيق، شفتيه اللتين زمّهما بغيظٍ ليلفظَ أخيرًا بصوتٍ هامسٍ أقرب لفحيحِ أفعـى غاضبـة : أجـل ليلنا طويل .. ماراح أتركك لين توصلنِي الإجابة.
انفجـرت بالبكـاء من جديد، سقطَت دموعها، انبثَقت من عينِها، والبؤسُ في عينيها لم يسقُط، الحزن لم يغادرها كمـا يجب حتى تستطيع الصمودَ أمـامه . . بهتَ بصدمةٍ من بكائها أمـام عينيه، بينما اندفـع صوتها صارخًا وقد هُزمَ ثباته أمـامه وامتلأ بنبرةِ البُكـاء : أنت وش اللي تبيه مني بالضبط!! وش اللي تبيه ؟؟ اتركني بروحي ، تكفي اتركني بروحي هالمـرة مافيني حيل .. والله ما فيني!!
صمتْ، وصدرهُ يرتفـعُ بتنفّسٍ حادٍ منفعل، الآن ترجُوه ، لمَ؟ ما سبب هذا الضعف الذي غزاها الآن؟ ليسَ بسببه، وليس بسببِ حياتِها التي ابتدأت معه ، يشعر أنّ هنـاك ما أصابها وهناك ماهو أعمقُ حدّ أن يجعلها تضعف أمامه، ولو أنّه كان السبب لما أظهرت ضعفها!
أرخـى قبضته عن فكّها قليلًا، لم يكُن يمسكها بشكلٍ مؤلمٍ لكنّ قبضته كانت قويّةً على رقّةِ بشرتِها وخشيَ أن يجرحها .. رقّت ملامحه، دفـع الغضبَ عنه، وانخفضّت نبرةُ صوتِه الحـادةِ دون أنفاسِه وهو يهمس : وش صار؟
إلين بقهرٍ تلفُّ وجهها عنه حين استطـاعت بعد أن خفّف من قبضةِ يدِه، وبحدةٍ باكيـة : أنت ما تفهم ؟ ما تفهـــم !!! إذا مضايقتك لهالدرجـة بطلع وأنام بعيد عنّك ، مافيه عذر لإصرارك ذا غير أنك متضايق مني!!
أدهم يبتسم برقّة : أتضايق؟ وبعدين ترى سبق وحذّرتك لا تروحين لذيك الغرفـة.
إلين تنظُر لهُ بقهر، وبتحدي : ولو رحت؟ وش بتسوي لو حصلتني مقفلة الباب بالمفتاح مثلًا.
أدهم بنبرةٍ حنونةٍ وهو يمسحُ بإبهامِه على خدّها ليُرعشها : بكسر البـاب وبعدين أشيلك بيني يديني.
إلين بربكـةٍ أصابتها رغمًا عنها، لم تعتد لمسـة رجلٍ ولم تعتد قربًا كهذا، حتى وإن كـانت تكرهه لكنّه يربكها رغمًا عنها، لفظَت بنفورٍ مرتبك : أبعد.
أدهم بابتسامة : قلت لك ببعد إذا علمتيني وش اللي مبكيك.
إلين بخفوتٍ مختنق : شيء يخصني.
أدهم : اللي يخصك يخصني.
إلين تكرّر بحدةِ صوتها الذي ارتفع : شيء يخصني.
أدهم : أجل ماراح أبعد عنك.
أغمضَت عينيها بجزعٍ وكفيها تبهتـانِ عن دفعِه، هذهِ المرّة لم تحاول أن تُزيحه عنها قسرًا، لم تحاول وهي تشعر بأن جسدها باهِت، بأنّها تتوهُ عن القوّة التي كانت تتلبّسها منذُ أيـام، قوّتها الزائفة كما كان يقُول لها.
شدّت على أجفانِها بقوّةٍ وصوتُه يردف بخفوتِه الحنونِ ذاتِه : وش صار؟
لمْ تردّ هذهِ المرّة بحدتِها وآثـرت الصمت، في حين لفظَ هو يبحث عن الجوابِ بأسئلته : صار لأحد من أهلك شيء؟
شهقَت وهي تفتح عينيها بذعر : بعيد الشر!!
أدهم : أجل انحرمتي بوحدة من موادِك اللي منزلتها؟
قطّبت جبينها : لهالدرجة تشوفني دلوعة؟
أدهم يبتسم : قولي عادي لا تستحين .. وأنا بدبر لك عذر دامك مهملة.
لوَت فمها وهي تدرك أنّه قد رسمَ في عقلهِ صورةَ الطـالبةِ المهملةِ لها، ردّت ببطءِ كلماتِها الموضحة : ترى كوني رسبت ما يعني إني مهملة.
أدهم بسخرية : محد يرسب وهو مجتهد.
إلين بغيظ : هي مرة وحدة بس .. وإلا درجاتي دايم عالية!
ابتسم : طيب ليه كنتِ تبكين؟
أشاحَت وجهها مباشرةً باختنـاقٍ وصوتُها يعودُ ليضيقَ بآلامِه، عادت لها صورةُ أمّها، شعرت بالنقصِ يغزوها من جديد، من تسمى أختها، والدها، أمها!! كلّ تلك المفاهيمِ تفقدُها ، هذا النقصُ كم يُكلّف من الأنفـس ما فوقَ وسعِها " حزنًا "، هذا النقصُ لن يكُون إلا حين تغادرنا قناعتنا .. للأسف ، رغمًا عنها تحزنُ ورغمًا عنها تتحسّر على أمورٍ لم تذقها. هل كـانَ يجب أن تذوقَ كلّ هذهِ الخيبـةِ بعد ظهورِهم، تريد قول " ليتَ "، تريد التمنّي الآن و " ياليتهم لم يظهروا " لكنّها تشيخُ قبل أن تبدأ في التمنّي، تشيخُ كلّما أدركت بذلك أنّها تخسرُ نفسها أكثر في وحلِ خيباتِها.
جاءها صوتُه من جديدٍ يكرّر سؤاله بنبرةٍ تستفزّ الحزن فيها أكثر : ليه كنتِ تبكين؟ وش صار؟!!
تقوّس فمها قليلًا، تنظُر للبعيد، لمـا وراءِ كتفِه ، للسقفِ الخـاوي من ألوانِ الحيـاةِ وهذهِ الكآبـةُ في غرفتـه التجأت لها كي تزيدَ من حزنها أكثـر . . همسَت دون تعبير : جات اليوم.
أدهم يعقدُ حاجبيه دونَ فهم : جات مين؟
إلين تبتلعُ ريقها، نظـرت لملامِحه الحـادةِ وقد أدركت أن صوتها انزلقَ بتلك الكلمـاتِ دون شعورٍ منها، تنفّست بتحشرجٍ بينما احتدّت ملامحه قليلًا وهو يلفظ بحزم : مين اللي جات؟
إلين ببهوت : اللي ينقال عنها امّي . .
لم تشعُر بهِ إلا وهو ينتفضُ مبتعدًا عنها وملامحه تتبدّل بنـارٍ عصفَت فيها عواصِف حـارقة، عواصِف تحملُ براكينَ كرهٍ وازدراء ، براكينِ غضب !! . . ارتفعَ صوته فجأةً بتقززٍ وهو يقفُ أمامها بينما اتّكأت هي على ساعديها كي ترفع جسدها قليلًا بعد ابتعادِه : وش اللي كـانت تسويه هنا ؟!!!
مرّرت لسانها على شفتيها وهي تعتدلُ بجلوسِها، تمرّر كفيها على شعرِها القصيرِ كي تنفُضَ عنه غبـار العبَث الذي أصابه، مُشعثةٌ ملامحها من الأسـى، مُشعثٌ صدرها من الخسرانِ والهوان . . همسَت دون تعبيرٍ وهي تهزُّ كتفيها : ما أدري وش كانت تبي بالضبط .. قطّت كم كلمـة وطلعت.
توحّشت ملامحـه فوقَ وحشيّتها، شدّ قبضتيهِ بوعيدٍ وهو يمرّر أحداقهُ على ملامِحها التي ترسّبت فوقها آثـار البكـاء، وبصوتٍ متباطئٍ يُنبئ بالخطـر : هي السبب بدموعك؟
عقدَت حاجبيها بتوجسٍ ولم ترد على سؤالِه الخافِت ذاك، وكـان صمتُها كافيًا لتصله الإجابـة، حينها تحرّك بغضبٍ مبتعدًا عنها وهو يهتفُ بنبرةِ شرٍّ ووعيد : والله لكسر راسها وأنسى إنها كانت بيوم مرة أبوي .. بنسى إنها كبيرة عجوز النــــــار!!!
شهقَت بصدمةٍ وهي تنتفضُ واقفـةٌ لتلحـق بِه بعد أن استوعبَت سببَ سؤالِه، هرولَت من خلفِه وهي تراه يمشي بخطواتٍ سريعةٍ يكسر بها المسافـات ومن الواضح أنّ شيطـانًا قـام على رأسِه، وصَلت إليه لتُمسك عضدهُ تحاول إيقافه وهي تلفظ برجـاء : لحظة .. لحظــة أدهم وش بتسوي ؟!!!
أدهم يحاول أن يسحب عضده وهو يهتف بحدّةٍ غاضبـة : بكسـر راسها الحيوانة شلون تبكيك؟ شلون تتجرّأ تدخل بيتك وتبكيك فيه؟!!
إلين بحدّة : لا تسبها .. تظل أمّي.
نظـر لها بغضب : بجهنننننم .. أمّك بس يوم تتجرأ وتنزل دموعك بنسى إنها امك !!
إلين تنظُر لعينيه برجاءٍ خفَت به صوتها : لا تسوي شيء ما عليك منها.
أدهم يستديرُ بكامِل جسدِه إليها، عـاد ليتطلّع لعينيها المحمرّتين، لوجهها المنتفـخ في دلالـة البكـاءِ الطويل، منذ متى قدمَت؟ وماذا قالت لها حتى تبكي بكاءً يبدو أنّه طـال لساعات! ما الذي قالته تلك المرأة ال . . . صمتَ وهو يريد شتمها ، شدّ على أسنانِه ليلفظَ من بينهما بعصبيةٍ بالغة : وش قالت؟!
ارتبكَت من سؤاله لتُشتّت عينيها وتلفظ : كلام ما ينقـال.
أدهم يرفعُ أحد حاجبيه : وشو ما ينقال؟
إلين بغضبٍ تنفجر في وجهه : ما ينقـال وبس يعني لازم تركّز على كل شيء !! خلاص ما أبي أقوله فكّني منك!!
شعرَت بِه يُمسِك بمعصمِها فجأة، سحبها إليه لتصتدمَ بصدرِه، ابتلعَت ريقها وهي تنظُر لملامحهِ الجامدةِ وهو يلفظُ بنبرةٍ خافتـة : وش قالت؟
إلين بشفتينِ ترتعشـان، باتَ قربه ونظراته وصوتُه الخافِت بنبرتِه الخطِرةِ هذهِ تُربكها وتضعفها ورغمًا عنها يتسلّل إليها الخوفُ منه .. لذا همسَت وهي تبتلع ريقها : بتعصّب.
كـاد يبتسم على براءةِ كلمتِها تلك لكنّ غضبه كـان أكبر، لذا أمـال فمهُ وهو يهتفُ بتساؤلٍ حازم : أنا معصب من غير يعني قولي.
إلين بربكة : بتعصب أكثـر.
أدهم بصبر : وصلت حدي في العصبية يعني تطمني.
إلين وصوتُها يرتعش : بتتجاوز حدك هالمرة وب . ..
صرخ بنفاد صبرٍ يُقاطِعها : وبعدييييييييييييييين !!! بتحكين وإلا شلون؟
إلين تُشيح وجهها عنه وهي ترتعشُ باضطراب، ابتلعَت ريقها قبل أن تهمِس : سبّتك ووو . . و بس !!
زفـر وهو يُغمض عينيه ويهتف بداخله " يا صبر أيوب "!!! .. لكنّه هذهِ المرّة ترك معصمها ، ربّما في داخِله لم يُرِد أن يعلم، يدرك كيفَ تراه، ويُدرك أنّها تتمادى بكلمـاتِها وربّما أفصحَت أمام إلين أنها أرادتها ليـاسر ، بالتأكيد تفعلها .. وكما قالت ، سيتجاوز حدودَ غضبِه ربّما إن هيَ أخبرته، لذا هذّب إرادتـه في المعـرفة . . فتحَ عينيه لينظُر إلى ملامِحها المُرتبكـة ، تخشـاهُ وإن مثّلت عكسَ ذلك ، ليسَ جاهلًا كي تخفـى عنه نظراتُ الربكـةِ والخشيـةِ كلّما اصتدمـا .. ابتسم، لا يدري هل ذلك يساعده أم لا ، لكن، ماذا كانت ردّة فعلِها لشتمِ أمّها له والحديثِ السيء الذي لم يعلمه؟ . . شعر أنّه سيهلك نفسه بالتفكير بردّة الفعـل والكلماتِ معها ، لا يريد أن يسألها ، ولا يريد أن يعلـم ، فهي الآن احتدّت بصوتِها عليه لأنه شتم امّها ، هل ستدافع عنه مثلًا؟
رفعَت كفَها لتُمسك معصمها وتتراجـع قليلًا للخلفِ وهي تُخفـض ملامحها المضطربـة عنه، شتفتيها ترتعشـان رعشـةً خافتـة وكأنّ البـرد أصابها، صوتُها ابتلعتـه الرجفـة ، تكره ضعفها الذي باتَ يظهر أمامه شيئًا فشيئًا، اليومَ نقضَت وعدها وبكَت ، وغدًا ماذا؟ قد تستسلمُ لهُ وتنصـاع ، تُصبـح له كمـا يريد بعد هذهِ الخشيـةِ التي باتت تُصيبها كلّما غضِب.
رطّب شفتيهِ بلسانِه وهو يعقدُ حاجبيهِ ويبتسم بعطف، وبخفوت : قطّعتي شفايفك.
انتبهَت أنّها كانت تعضَ شفتها من شدّة ربكتها، تنفّست بعمقٍ وهي ترفعُ وجهها نحوَه وصدرها يتعرقـل بأنفاسِها المُضطـربة، وبخفوتٍ تبرر : كنت خايفة تروح لها وتجيب العيد.
أدهم بحنـانٍ وهو يدرك أنّ تبريرها كـاذب، هيَ خائفةٌ منه! : خلاص ماني رايح لها تطمّني . . وعلى فكرة تطلعين شينة لو خايفة .. حلاتك صرصور يخوّف وما يخاف.
فغرت فمها من تشبيهه المُقزّز ، وبتهكّم : أنت تخاف منه يعني؟
أدهم بابتسامة : لا أنتوا اللي تخافون منه.
صدّت بوجهها عنه : تشبيه معفّن .. لا عاد تشبّه.
ضحكَ بصخبِ صوتِه لتبتلع ريقها وتُرخي أجفانها من فوقِ أحداقها دون أن تُغمِضها . . بينما اقتربَ أدهـم منها خطوةً وهو يهمسُ بنبرةٍ خافتـةٍ مبتسمـة : خاطري بشيء.
نظـرت لهُ مباشرةً بتوجّس، ويدها تشتدُّ على معصمِها وكأنها تدرك ما يريد ، لفظَت بربكـة : وشو؟
أدهم بمكر : بتخافين مني؟
إلين تتراجـع للخلفِ بتوتّرٍ وحذر : ليه بخاف؟ وش تبي؟
أدهم ببراءة : شيء بسييييييط مررررة ، وعادي ما يخوّف بس أنتِ الجبانة.
تحرّكت بسرعةٍ كي تبتعدَ وهي تدركُ جيدًا إيحاءاتِه الماكـرة تلك، لكنّها صرخَت فجأةً بذعرٍ ما إن أحاطَ خصرها من الخلفِ ليجذبها إلى صدرِهِ قسرًا ويضحكَ قرب أذنها وهو يلفظ بخفوت : وشوله الخوف يا بنت النـاس ما آكل والله !!
إلين بغضبٍ تحاول أن تفكّ حصار ذراعيهِ وكفوفها المرتعشتينِ بخوفٍ لا تساعدانِها : ابعـــــــد !! وخر عني يا قليل الأدب.
أدهم بعبث : تغويني هالكلمـة.
إلين بخوف : وش تبي؟!!
أدهم : بس هذا والله.
أكمـلت شفتيه إجابـته، التصقتا بوجنتِها في قبلةٍ عميقـةٍ جعلتها تشهقُ وهي توسّع أحداقها وتتنفّسُ بقوّةِ صدرِها الذي ارتفـع، ضغطَ على بطنِها الذي تشنّج بكفيه ليحتضنَ ظهرها إلى صدرِه الدافئ أكثر، جسدُها يرتخي، يستندُ بكفيهِ على الاستقامـة . . يشعُر بخلجاتِ الربكـةِ فيها ويشعر بالتشنّجـاتِ التي أصابَت أقدامها لتثقُل وتتّكئ على كفيْه ، لكنّه يشتـاق ، يشتاق لتقبيل وجنتِها ، هذا الحصـارُ عليهِ شحّ بوجنتِها ، هذا الحصـار الذي يمنعهُ من إغراقِ جفـافِ شفتيه لملمسِهما، لطالمـا وجدتُك في الزهُور ، أكرّرها كثيرًا ، أكرّرها ولا تتعبُ شفاهِي ، أنتِ زهـرة ، بُستـان، أنعمَ الله عليها بنعومةٍ لا تقوى أشواكِي على جرحِها . . زهرةٌ بيضـاءُ ناعمة، حتى الندى يؤذيها ! . . طـالت قبلته ، وطالت رجفتها حتى ضغطَت بقدمِها على قدمهِ بقوة، لم يتأثّر بهِ كونها حافيةً وهو لا .. لكنّه شعر بها، وابتسـم متراجعًا قليلًا لتضربها بمرفقها في بطنِه وهي تصرخ بغضبٍ ووجهها احمرّ بشدة : قلييييييل أدب !!!
وكانت تلك آخر كلماتها قبل أن تهرول للغرفـة كي تهرب منه وتنبثقَ ضحكةٌ عميقةٌ من صدرِه وهو يضغط على بطنِه الذي آلمه.

،


صباح اليومِ التالي ، وبعدَ الفطور الذي كـان مُشبعًا بالصمت، كـانوا يجلسُون في غرفـة الجلوس، جيهان تردُّ على رسـالة الدكتورة " ندى " والتي أخبرتها أنّها اليومَ لن تكون موجودةً في العيـادةِ لحالةٍ طارئة، تنهّدت بضيقٍ وهي تُعيد ظهرها للخلف، بحجمِ ما ترتاحُ حينَ تُخبـر غريبةً عنها بما يختلجُ صدرها من حُزنٍ إلا أنها تخجلُ من هذا التعرّي، تخجلُ من هذا الانهزامِ أمامها ومن عينيها اللتينِ تلتمعـانِ حزنًا .. من " فواز " الذي يسقُط اسمـه من فمِها كثيرًا أمامـها.
نظـرت نحوَ والدِها الذي وقَف، حينها تحنحنَت بربكةٍ وحرجٍ وهي تلفظ : يبه.
نظـر لها وهو يبتسم : عيوني.
جيهان بخجل : تخليلي هالعيون .. بغيت أقولك إنّ الدكتورة ندى أرسلت لي إنها ما تقدر اليوم تشوفني ..
يوسف يعقدُ حاجبيه : عسى ماشر.
هزّت رأسها بالنفي : انشغلت عن عيادتها اليوم.
تنهّد بصمت، ومن ثمّ غرقَ في صمتِه للحظـات، عينـاه بهتتا وكأنه بدأ يفكّر بشيء مـا جعلها تعقدُ حاجبيها مستنكـرة ، لا تطمئنُّ لسكوتِه، لغرابـةِ ملامحـه هذهِ الأيـام، لحيرتِه واهتمـامه الذي تضاعفَ بهم . . تحرّك فجأةً باتّجـاه البـاب وهو يمرّرُ لسانه على شفتيه ، وبنبرةٍ مستعجلـة : مضطر أطلـع الحين * نظر نحوهنّ ليردف بتحذير * ولا تطلعون ! ماني متأخر . .
لفظَ كلماتِه المحذّرةَ تلك ومن ثمّ خـرجَ لتحرّك جيهان رأسها نحوَ أرجوان وهي تُميل فمها وتنظُر لنظراتِ الاستنكـار في عينيها : مو كأنه يوم عن يوم يصير أغرب؟
ابتعدَت نظراتُ أرجوان عن البـاب الذي أغلِق بعدَ خروجِ والدها، نظـرت لجيهان وهي تعقدُ حاجبيها، وبحيرة : مرة ! فيه شيء مضيق خاطره ..
التمعَت عينا جيهان بتمرّدٍ وهي تنهضُ وتقتربُ منها، خفتَ صوتُها كي لا تسمعها ليـان وهي تقرّب وجهها من أرجوان لتهمسَ بخفوت : بطلـع وراه وبشوف وش اللي مشغله.
أرجوان تنظُر نحوها بدهشة : وشو؟ بتلحقينه؟
جيهان : اصصص لا تسمعك الفصعونة وتعلمه بعد ما يرجع .. بشوفه بس وش عنده ، واضح إنّه بيروح للشيء اللي مخرب عليه مزاجه من أيام.
أرجوان : للشيء؟
جيهان بتصحيح : للشخـص .. وحاسة إنه لأبو عيون فلتانة هذاك.
أرجوان بجزع : جوج بلا استهبال ترى بيعصب! واضح إنه ما يبينا نطلع لو درى بيمسح فيك البلاط.
جيهان تلوي فمها بتمرّد : وشلون بيدري يعني؟
أرجوان بحدة : جيهان ! انثبري أقول . .
جيهان : معليش بس تبينا نظل كذا ما ندري وش اللي مخبيه؟ يعني واضح إنّه شيء سيء وضايق خلقه بسببه .. ما يهون علي أشوفه بهالوضع عشان كذا بعرف وش وراه واللي مسوي فيه كل ذا . . وأنتِ تصرفي مع ليون لين أطلـع .. أشغليها ماراح أتأخر.
أرجوان : ماراح تحصلينه أكيد أمداه يبعد ..
جيهان : لو بعّد فمنك أنتِ .. اصرفي ليان وإذا ما حصلته بالحي وبالمقهى اللي يكون فيه بالعادة برجع.
أرجوان تزفُر : يا صبـر الأرض . .

خرجَت من المبنى وهي تثبّت حجابها الذي شعرت بهِ متراخيًا من عجلتها، بحثَت بعينيها في الشارعِ الذي تزاحمه الحيـاة، أصواتُ النـاسِ ورائحة الخبز ، ضوءُ الصبـاحِ الذي يزاحـمُ عينيها فتغضّهما عن السمـاء، تُخفضُ أجفانها وتُشيح بصرها عن شمسِها الدافئـة . . تحرّكت خطواتُها بزخمٍ تبحثُ بحذرٍ وخشيةٍ من أن يكون والدها قريبًا ويراها ، عـادةً ما يجلسُ في المقهى المقـاربِ لهم في هذا الوقت عدا أنّه تخلى عن عادتـه لسوءِ مزاجِه منذ أيـامْ . . اتّجهت لذلك المقهى وهي تمرّر لسانها على شفتيها، إن لم تجدْهُ هنـاك ستعود مباشرةً فهي لا تنكـر أنّها مرتبكـة فوالدها باتَ حازمًا في أمـر خروجهنّ دونـه.
وقفَت عند بابِ المقهى ليصتدمَ كتفها بالخـارجِ منه، ابتعدَت بجسدها وهي تتمتمُ بكلماتٍ متضايقـة، بحثَت بعينيها سريعًا لتسقطَ فجأةً على ملامحه، حينها سارعَت بالالتصـاق بإطار البابِ وكأنها بذلك تحتمي من انتباهِه .. ضيّقت عينيها تحاول أن ترى الذي يجلسُ معه .. ظهرهُ كـان يواجهها بينما ملامح والدها تقابلها ولو رفـع عينيه للبـابِ سيراها بالتأكيد .. كـان يتكلّم بكلمـاتٍ رأت الحدّة فيها من حركةِ شفاهِه وعقدةِ حاجبيه ، غاضِب ، هنـاك غضبٌ وحنقٌ يتصاعدُ بركانهما في عينيه . . . حانَت من الشـاب الذي يجلسُ معه التفاتـةٌ للجانِب .. كان بدر ، ينظُر للجالسينَ وهو يزفُر بضيق ، عقدَت حاجبيها ، ومن ثمّ تراجعَت وهي تشتمُ بقهر .. هو السبب إذن ! الآن تأكّدت شكوكها من بعدِ نظرتِه له في المطعمِ صباح الأمـس .. ما الذي يحدثُ وما علاقة ذاك الشابِ بتغيّر والدها وحذره؟ ضيقِه ومزاجـهِ السيء !! .. استدارَت وملامحها تتغضّن بضيق ، أرادت أن تغسلَ جزءً من فضولها لكنّه الآن تضاعف . . هزّت رأسها بالنفيِ وهي تُميل فمها وتُتمتم : لازم أعرف وش مسوّي هالكلب فيه !!
شهقَت بصدمةٍ وتوقّفت خطواتها بل تراجعَت ، اتّسعَت عينـاها وهي ترى الملامِح التي ظهرت أمامها ببرودِها ، تجيء ردّة فعلها " بالنبض "، يتعرقـل قلبها باسمِه كلّما فكّرت بِه فكيفَ حين يظهر؟ كيفَ حينَ يبزُغ مع ضوءِ الصبـاح وترمـق عينيهِ حقيقـةً لا ذكـرى ! .. كيفَ تجيء ردّات الفعـل بشهقةِ شفاهٍ وشهقةِ قلبٍ ولا يتهاوى جسدها في الفتور؟
بهتت ملامحها وصدرها يرتفعُ باضطراب، بينما كتّف ذراعـيه ، ببرود، بجمود .. وصوتُه يظهرُ إليها من عدمِ التعبير : وش اللي مطلعك بروحك هالوقت؟


،


يمسحُ وجههُ المبتلّ بالمنشفـة، صفيرٌ في أذنـه، لا يدري من أيْن، لكنّه يشعُر بأنّ هنـاك صراخًا يُخلقُ في مسامِعه، يغادره النومُ فلا يستطيع أن يسترخِي ولو للحظـة، لا يستطيع سوى الحزن وهذا الصـداع الذي يكادُ يحطّم رأسـه.
رمـى المنشفة الرطبة جانبًا وملامحه متجهّمةٌ بضيق، عينيه تضيقان، تريدان النوم لكنّ الأرقَ سحقَ حاجته له . . رفـع وجهه للبابِ حينَ طُرق، عقدَ حاجبيه وهو ينهض، وبضجر : لحظـة.
تحرّك باتجـاه الباب ليفتحَ قفله، ابتسمَ له عبدالله ما إن سقطَت عينـاه على وجهه، دخـل وهو يلفظ : صباح الخير ، شفيك متضايق كذا؟
أشـاح متعب وجهه وهو يغلق البـاب، في حينِ جلس عبدالله على المقعدِ الذي يجلسُ عليهِ عادةً، واتّكأ متعب على البابِ بكتفِه وهو يكتّف ذراعيه ويلفُظ بجمود : ما أذكر أنّي قلت لك متضايق من وين جبت هالاستنتاج.
عبدالله : أووووه النفسية منتهية اليوم.
متعب يزفُر وعُقدة حاجبيه تتضاعف : ادخل في الموضوع مباشـرة ، وش تبي مني؟
عبدالله يبتسم : الله يلطف على صدرك.
متعب بحدة : شيء ثاني؟
عبدالله يضع ساقًا على الأخـرى : تعال يا ابن الحلال واجلس خلنا نحكي زي الناس.
زفـر بمزاجٍ سيء ، دائمًا ما ينهضَ في الصبـاح ومزاجُه يحكِي هذا السوء، منذُ أكثـر من سنتين ومزاجـه باتَ عادةً للأسف، يطغــى على سكونِ الصبـاحِ ويطغـى على زرقتِه ، ينهضُ عاقدًا حاجبيه وغالبًا ما ينـامُ بهذهِ الهيئةِ أيضًا . . واليومَ تضاعفَ سوءُ مزاجـه، بل تضاعفَت منذ عاد للريـاض، بحجمِ ما شغفَ بالعودةِ إلا أنّ كونه قريبًا ممن غدروا بهِ وخانوه يؤذي صدره، بعده عن والدته رغم أنه على ذات الأرض .. كل ذلك يؤذيه !!
تحرّكت خطواتُه قسرًا ليقتربَ منه، جلسَ على المقعدِ الذي أمامه لتفصل بينهما الطـاولة، وبهدوءٍ ظاهريٍّ وهو يفرشُ ذراعه على سطحِها : جلست .. ممكن تدخل في الموضوع مباشرة؟
عبدالله بابتسامةٍ وقورة : ما أبي أضغط عليك .. عشان كذا كنت دايم ساكَت وتاركك براحتك ، بس اليوم معليش محتاج إدلالك .. أبيك تعلمنِي وش صار من سنة 2012 للحين . .
ظهر على ملامِحه الظـلام، هذا الظـلام الذي يبترُ الظـلالَ فلا تُسعفه بحمايـةٍ مـا ، من عريّ المشاعِر ومن أوجاعِها . . . همسَ بصوتٍ دون تعبير : تبي تقنعني إنّك ما تدري !!
عبدالله بهدوء : أتوقع محنا عالمين للغيب يا متعب! أبي التفاصيل.
يدرك جيدًا أنّه لا يعلم كلّ التفاصيل، يدرك جيدًا لأنّه لم يعلم حتى الآن أنّ لشاهين دورًا معهم .. هل يخبره الآن؟ هل يقولها لهُ فتنتهي حياتـه خلفَ قضبانٍ ومحاكمـةٍ قد ينتجُ منه " إعدام " . . لمَ هذهِ الغصّة الآن؟ لمَ توجعني فكرة أن يحدثَ لهُ أذى وهو الذي " هان عليه أنا "؟! لمَ توجعني يا شاهين فكرة أن أؤذيك؟! لمَ ما زلت أريد حمايتك وأكرهك ولا أكرهك!! . . عادَت لهُ كلمـاتُ أدهم البارحـة، عضّ شفته السُفلـى بحسرة ، الرسائل لا تكذب، عينـاي لا تخطئآن رقمك ، صوتك لا تتشوّشُ نبرته عن مسامعي يا شاهين . . لأكون منصفًا ، الرسائلُ قد يُخادِعها أحـد ، قد يغدر بكَ أحدٌ كما حدَث لي ويرسلها من هاتِفك .. لكنْ الصوت !! لا يمكن .. لا يُمكن أبدًا.
رفـع كفّه المضطربـة ليمسح بها على جبينه، نظـر لملامِح عبدالله بضيق، سيقولها له وينتهي كلّ شيء .. سيقولها له . .
عبدالله : بالوقت اللي سافرت فيه أنت قدرنا نمسك واحد من الجمـاعة اللي تحت سالم وكانوا معه يوم طحت بيدينهم .. علّمنا عنك من بين اعترافاته .. ومنها صارت حمايتك واجبة علينا، بس بيوم حريق الفندق كان فيه جثّة بشقتك .. ما ظهرت إنها لك بالتحاليل بس طلعناها على أساس إنها لك ، وبعدين اكتشفنا من ملفات قديمة إنها لشخص له سوابق، وكـان منضمّ للرازن .. اللي أبي أعرفه ، هو اللي كـان له دور بالحريق أكيد .. بس شلون مات بدالك؟ أنت اللي قتلته؟!
عقدَ حاجبيه وكلماته الأخيرة تخرج بنبرةٍ جامـدة، حينـها زفـر متعب وهو يتذكّر تلك الليلـة ، نظـر لعينيْهِ مباشرةً ومن ثمّ هتف ببطء : بعلمك كل شيء .. كل شيء هالمرة .. بس بالأول عندي شرط.
عبدالله يعقد حاجبيه : شرط أيش؟
متعب بتأني : بسألك عن شيء بسيط .. وأبيك تجاوبني عليه .. مجرّد معلومة أبيك تأكّدها لي إذا أيه أو لا . . تقدر تعطيني هالخدمة؟.
نظـر لهُ بتوجّس، يستطيع أن يجبره على الكلام ، لكنّه لا يستصيغ ذلك مع أمثـاله، يعطـف عليه بالمعنـى الصحيح، لذا أومأ رأسه ببطءٍ وهو يلفظ بتمهّل : اسأل.
متعب بهدوء، لا يدري إلى أين سيصِل، لا يدري ما هذهِ الحجّة الضعيفة التي جالت في عقله .. لكنّه الأمـل الأخير ، الأمـل الذي يدرك أنّه انقطـع قبل حتى أن يُعقد " من شدّة اليأسِ الذي يعتريه " : فيه امكانيّة إن أي أحد ينتحل صوت شخص؟ يعني انسـان يكلمك بصوتْ شخص تعرفـه ، نفس النبرة ونفس الصوت.
عقدَ عبدالله حاجبيهِ باستنكـار، أمـال فمه قبل أن يلفظ بتساؤل : ليش تسأل هالسؤال؟!!
متعب برجاءٍ خافت : رد علي .. فيه امكانية؟
عبدالله بعدَ صمتٍ قصير : مممم نقدر نقول فيه ..
تشنّج فكّه وصدره يرتفـع في تنفّسٍ عسِير، تقدّم جسده للأمامِ وهو يرفع ذراعه الأخرى ليفرشها على الطاولـة مع أختها .. هاتفًا بلهفة وأمـلٍ انعقد : متأكد؟
عبدالله يرفع حاجبيه بتعجب : هذا سؤال ينسأل لي؟ أيه فيه امكانية.
متعب يبتلع ريقه بصعوبـة : شلون؟
عبدالله : إذا متواجدة عيّنات من الصوت .. يعني تسجيلات ففيه امكانيـة إنّ أحد يقلّده والتقنية تطوّرت .. وصعب للأذن تستوعب إذا هو الصوت الحقيقي أو لا . .* أردف بشك * أيش تبي من هالسؤال؟!
شعـر بأجفانِه تثقُل .. صدرهُ يضيقُ ويغادرهُ الأكسجين، ملامحه تشحب ، لا يدري في هذهِ اللحظـةِ ما المشـاعر التي اعترته غير الأمـل الذي تصاعدَ فيه، الأدرينـالين ضخّ في جسدِه بارتفـاع معدّل نبضاتِ قلبه، رعشـةُ شفاهِه، صوتُه الذي اختنـق .. ضغطَ بكفيه على فمه، أسند مرفقيه على الطـاولة وهو يغمضُ عينيه، صورةٌ من الحُزن تداعَت، تحطّم إطـارٌ من الإطـارات الأربعةِ للخيبِة ، بيـاضُ عينيهِ تلاشـى وباتَ احمرارًا أسدل عليه ستائر أجفانه، بينما صوتُه المختنقُ يخرجُ من فمِه برعشته، يصتدمُ بكفيه فيختنق أكثر بنبرتِه الراجيـة، المستغيثة، السائلـة الله " حيـاة " وانبعاثًا بعدَ موتِه الذي طـال : يارب .. يارب يارب ، يارب أكون حقير إنّي صدّقت فيه .. يارب أكون غلطـان وأستاهل الموت .. يارب أكون كل شيء سيء بس هو لا !! هو صادق .. هو أخوووووووي .. يارب اكتبني قدّامه بحقارةِ اللي ظنْ فيه ظن سوء بس هو لا يكون غدر فيني .. يارب إنّي أحتاجه! والله أحتاجه بصفي .. ما كسـر ظهري إلا هو !! ما كسـر ظهري إلا شاهين فيارب اكتبني الظـالم وهو المظلوووووم.
غطـى وجهه بأكملـه ، مشـاعرُ عصفَت بِه ، أمـل وحزن ، لكنّ الحزن كـان آخر ، كـان حزنًا من نفسه ، يا الله لا تكتب لأملي الانقطـاع .. اللهم إنّي أحتاجه وإنّي لهذا الشقـاءِ راضي ، اللهم إنّي راضٍ عن تلك السنوات، أضحّي بها لأجـل هذا الأمـل ، لم أعد أبـالي كم بقيتُ هنـاك، كم حزنت، كم كُسرت، لم أعـد أبـالي بحزني لكنّي أبـالي بِه !! كسرتني تلك الكذبـة ، فلا تكتبها كذبـةً أيضًا .. كسرتني غربتي أضعافًا حيـن فقدته .. يا الله اجعلني الظـالم ، يا الله اجعلني الظـالم وهو المظلوم .. يا الله إنّي أحتاجه .. أحتاج أن أسند نفسي عليه وأحتمـل البقيّة من حياتي التي فرغَت من دونه .. إلهي كم بكى فؤادي قطعـةً مني احتجتـها وظننتُ أنّها خذلتني .. اكتبه ظنّ سوء ! اكتبـه ظنّ سوءٍ وعاقبنـي بظلمٍ هو ظلمـاتُ يومِ القيامة، أريد العقاب وأريد أن أحترق لأنّي ظـالم، لا أريد أن أكون مظلومًا ، لا أريد هذهِ الخيبة ..لا أريد أن أشقى أكثر، أريد أن أحيا ، وأحتاجه! أحتـاجه ماءً وأحتاجه حيـاة. اللهم إنّي أحتاجه!!
بقيَ يكرّر " يارب " ويدعي على نفسِه أن يكون ظالمًا ، بقيَ يغرقُ في عاصفـةِ أملهِ وحُزنِه حتى غابَ عنه صوتُ عبدالله وبقيَ يتأرجح على نشوةِ الحقيقة .. أن يكون بريئًا من كلّ ذلك ، أن يذهب إليه الآن ويحتضنه عن سنينَ بكـاه، عن سنينَ فقده، عن سنينَ اشتاقهُ ورأى أنّ شوقه محرّم، عن سنينَ كـان فيها يحتاجه وظنّ أنه يحتـاج قاتله .. لام نفسه كثيرًا .. من يحتاج شخصًا آذاه؟ من يحتاج هذا الإحتياج الظـالم للنفس؟
شعـر فجأةً بكفيْن قبضَتا على معصميه بقوّةٍ لتسحبَا يديه عن ملامِحه التي غرقَت بانفعـالِه، لم يكن يدري أنّه أصبـح يتنفّس بقوَة، لم يكن يدري أنّ نبضـاتِ قلبه باتت تتصاعد حتى يكاد صدره أن ينفجـر، لم يكن يدري أنّه يكادُ في هذهِ اللحظـةِ أن يموت ، بينما عبدالله كـان يقفُ بجانِبه وهو يلفظُ بصوتٍ صارخٍ يصلُ إليه مشوشًا : متعب شفييييك؟؟!!! اهدا .. اهدا وتنفّس بشويش.
كـان جسدهُ ينتفضُ وهو يهمسُ بأنفاسٍ ذاهبـة، بعينينِ جفّتا عدا من الحمرةِ التي غزَت بياضهما، يلفظُ بصوتٍ لازال راجيًا : يــــــــــــا الله !!!!
عبدالله بانفعالٍ يصفعه : اصحى بتذبح نفسك .. شفيك وش صار لك؟
متعب الذي لم يشعر بصفعته : شاهين .. شاهين.
عبدالله يعقدُ حاجبيه : شاهين!! شفيه ؟؟!!
نظـر نحوهُ متعب بعينينِ تضبّبتا عن الرؤيـة ، وبرجـاء : أبي أشوفه !! أبي أتأكّد منه شلون؟
عبدالله بحدة : شلون أيش؟!!
رفـع كفّه المرتعشـة ليمسحَ على فمِه ويغمـض عينيه بقوّة ، كيفَ يتأكّد؟ كيفَ يتأكدُ ليلتقي بِه ولا شكّ في قلبه؟ كيف يلتقِي به وهو متعب فقط .. متعب الحيّ وليس الميّت . . . بقيَ ساكنًا للحظـاتٍ طويلة، تركه فيها عبدالله وهو يتراجـع للخلف، يريده أن يسيطر على انفعالاتِه ويسكُن ومن ثمّ سيعلـم ما الذي جعله بهذا الانفعـال بعـد أن سأله ذاك السؤال دون مناسبـةٍ ما ، أو هكذا يعتقد.
مرّت دقائقُ امتدّت لربعِ ساعة، لم يكن متعب يريد أن يتأخّر في التأكّد أكثر، لذا وجَد نفسه ينظُر لعبدالله بحدّةٍ ليلفظَ بعد أن استقرّت أنفاسه : بعلمك كل شيء .. كل شيء وأبيك تساعدني.

يُتبــع . .

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 09-07-16, 02:53 PM   المشاركة رقم: 847
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 



،


حملَت حقيبتها ومن ثمّ نقابها لتخطُو خطواتها المُضطربـةِ نحوَ البـاب، نزلَت لتجده ينتظـرها في الأسفـل، ابتسمَ ما إن رآها ووقف، بينما تنفّست بربكـةٍ وهي تُشيح بنظراتِها عنهُ وتلفظُ بصوتٍ خافت : شوف .. كوني وافقت أروح لها ما يعني إنّي بطوّل! ساعة وتجيني.
ابتسمَ سلطـان وهو يُشير لها بصمتٍ أن تمشي أمامه، لوَت فمها بامتعـاضٍ ومن ثمّ تحركَت تخطو قبله، بينما لفظَ وهو يراها ترتدِي النقـاب : ماراح أجيك إلا بعد ما تتّصلين علي ترى.
غزل تتمتم بضيق : سلطان واللي يعافيك ما يبيلها.
سلطان بحزم : ماراح أجيك إلا بعد ما تتصلين.
تنهدت ولم تُجِب ، في اللحظـة التي كـانا فيها قد خرجـا، المسافاتُ باتت قصيرة، سرعـان ما وصلت لبابِ السيّارةِ وسرعان ما أصبحت تتحرّك، لأنّها تخشى ما سيحدثُ بعد دقائق باتَ كلّ شيءٍ سريعًا، لأنّها تخشى اللقـاء تقلّصت مسافاتُ البُعد ، لأنّها تخشاها ضحكَت عليها الخطوات وتناقصَت عددًا . .
تنظُر بعينيها للطريقِ المُلتهِب بضوءِ الصباح، تتحرّك السيارة فيظهر العـالم كلّه بحركاتٍ كاذِبة/مُخادعَة .. كيف ستلتقي بها؟ كيف ستنظُر لعينيها ولا ترى عبرهما ظـلال الماضي؟ كيف تقدِر على المواجهـة وهي التي كانت تريد أن تهربَ من تلك الأيـام فكيفَ تعود؟ . . تنفّست بضيقٍ وهي تُغمضُ عينيها لوهلـة، تعضُّ طرف شفتِها السُفلـى ، لا تقوى ! لذا وجَدت نفسها فجأةً تستديرُ نحوه، عقدَت حاجبيها قبل أن تلفظ باندفـاعٍ ورجاء : لا سلطان .. خلاص ما أبي ماني موافقة رجعني.
سلطـان يعقدُ حاجبيهِ دون أن ينظُر نحوها، نظراته مرتكزةٌ على الطريق، يدرك مخاوفها ويدرك المأساويّة في علاقتها مع عائلتها .. لذا لفظ بتمهّل : غزل .. تراها أمّك ماهي أبوك.
ماذا يعني؟ هل اختلف الوضـع؟ هل هذا يكفي حتى يحفّزها؟ ماذا يعنِي إن التقَت بملامحِها الشبيهةِ بها، ماذا يعنِي إن هي لمحَت من بؤرةِ بؤبؤها أيـامًا سوداء لازالت تُثقل أهدابها بالدمـع .. ماذا يعني إن كان امّها وليسَت والدها؟ كلاهما أسكنا فيها عُقدةً لا تريد أن تنفكّ حتى هذهِ اللحظـة، كلاهما آذيآها بطريقةٍ أو بأخرى.
ارتعشَت شفاهُها قبل أن تتنفّس بعمقٍ وتهتف بغصّة : أيش تعني أمّي؟ أيش تعني هالكلمـة وهي ما سقتها بأفعالها !!
سلطان ينظُر لها نظرةً خاطفـة قبل أن يُعيدها للطريق ويلفظَ بهدوء : يعني سقتها بالمشاعر؟!
غزل بحرارة : لاااا .. حتى المشاعر ما كانت تقول إنّها أم !!! باردة ، وتكرهني ، وما تشيل همّي .. باردة بالأفعـال وبالمشاعر ليه بداري خاطرها وأجيها؟
سلطان بتمهّل : باردة بالأفعـال ، ويمكن مشاعرها ما تظهر لك بوضوح . . بس مين قال تكرهك؟
أغمضَت غزل عينيها وهي تصدُّ بحسرة : هيّ قـالت بأفعالها.
سلطان : لو تكرهك ليه بتطلب تشوفك؟ ليه زارتك مرّة قبـل الحين؟ . . غزل ، يمكن عيونك ما تشوف بس أنا شفتها بذاك اليوم مبسوطة عشانك ، لما طلبت مني أمس أجيبك لها كانت عيونها مشتاقـة لك . . هي تحبّك مهما كانت باردة ومهما كـانت قاسية .. عشان كذا صحّي الأم اللي بداخلها بأفعالها وتعبيرها بعيد عن برودها.
هزّت رأسها بالنفي، عينيها المغمضتينِ تشدُّ عليهما أكثـر، لن تستطِيع، لن تستطِيع أبدًا أن تحتمل وقوفها بجانبها أو جلوسها معها .. بينما مرّر سلطان طرفِ لسانِه على شفتيهِ وهو يزفُر بتروّي ، وبنبرةٍ حازمـة : ما أظن بتقتنعين بأي طريقة كانت .. عشان كذا ماراح أسمع اللي تبينه وبتروحين .. ماني راجع ..
ارتفعَت أجفانها لتنظُر لهُ بأسـى ، تزدردُ ريقها وتتقوقعُ في صمتِها بعد أن أنهـى النقاش أخيرًا ولم يبالي بما تريد، أعـادت ظهرها للخلف، أسندته على ظهرِ المقعدِ وهي تنظُر بحسرةٍ إلى الطريقِ وتهمسُ داخلها : يــــــارب !!!

رنّ الجـرسُ مرّتين فقط، ومن ثمَّ فُتـح وكأنّها كـانت تنتظر بلهفةٍ بعد أن اتّصل بها سلطـان قبل خروجه ، ابتـسم لها وهو يضعُ كفّه على ظهرِ غزل ليحثّها على الدخول، بينما بدأت تلك نوبـةَ انفعالٍ قلبيـة، شعرت أنّ قلبها ينبِضُ ببأسٍ وكأنها تخوضُ سباق ماراثون، الهواءُ يضيق، وأصواتٌ شعرت أنّها تجيء من الزوايـا، أصواتُ الحيـاةِ هنا ، رائحـة الصراخ من حنجرةِ والدها، القسـوة، وحلّة البرودِ في ملامِح الأمّ التي أمـامها ، سمِعَت صوتها يبكِي بخفوتِه أسفـل الوسادة ، كأنّها دخلَت بعد سنينَ طويلـةٍ لتنبثقَ الذكرياتُ من الأسى ، كم ليلةً قضتها تبكِي بينَ جدرانِ غرفتها؟؟ كم ليلةً أمضتها تتحسّر وتُتمتم بكلماتِ الكره والحقد وشتائمها التي كانت تُطلقها عليهما دون تردّد!!
تنفّست بعمقٍ وهي تشتت أحداقها تنظُر للزوايا ، لم تنتبه لكونِ سلطان قد اعتـذر من امّها لا يستطِيع أن يبقـى، رحَل دون أن تنتبه ، ولم تستفِق لرحيلِه إلا حين شعرت بكفيّ أمها تُمسك كتفيها وهي تلفظُ بحنان : فصخي نقابك مافيه أحد غريب هنا.
اتّسعت عينـاها بصدمةٍ حين شعرت بكفّيها، لم تستطِع السيطرةَ على رعشـةٍ جزّت جسدها لتتراجـع بنفورٍ وهي تبحثُ بعينينِ مرتبكتينِ عن سلطان، لا تصدّق أنه تركها هنا ورحل! تركها لوحدها وهو يعلم أنّها عانت في هذا المنزل !!
ابتسمَت امّها بحسرةٍ وهي تتفهّم نفورها ، لا تلومها ولا تملك أن تبدّله في ليلةٍ وضحاها، هتفَت بخفوت : هاتي عبايتك.
عضّت غزل شفتها السُفلى وهي تتنفّس بانفعـال، لم تشعر بنفسها وهي تحرّك رأسها بالنفيِ وتلفظ بصوتٍ خافتٍ مرتعش : مالها .. داعي.
ام غزل تقتربُ بإصرارٍ حتى بدأت بنفسها تفتحُ النقابَ دون أن تدفعها رعشـة الخوفِ من غزل للابتعـاد . . . غصّة .. حُرقـة .. وحزنٌ أحـال قلبها للرمـاد، سقطَ النقـابُ من يدِها، ارتفـع صدرها بقوّة ، لم تكُن تدرك أنّ دموعها قد بدأت تُظلّل أحداقها، لم تكُن تدرك أنّ صدرها أنّ بحسرةِ أمٍ تاهَت عن عواطِفها ، لم تكن تدركُ وهي تضمُّ غزل إليها بقوّة . . . أنها بكَت !!
هذهِ النظـرة كيفَ خلقتها في عيني ابنتها؟ هذهِ الرعشـة منها !! هي خائفة، خائفةٌ منّي وخائفةٌ من قربي ، خائفةٌ من هذا المكـان ، خائفةٌ ونفورها ينطُق بأحرفِه من عينيها . . . كيفَ خلقَت كلّ ذلك؟ كيف لم تصحو إلا الآن؟ كيفَ بقيّت طول السنينِ تركضُ في الدنيـا ولم تنتبه .. بل لم تبالِي بِها !! .. كيفَ ترى الآن هذهِ النظـرة ولا تبكِي حسرةَ السنينِ التي جالَت في هذهِ اللحظة ..
ضمّتها إليها بقوّة ، بينما اتّسعت عينا غزل وتجمّد جسدها بصدمـة ، وصوتُ أمّها يصلُ إلى مسامعها هامسًا بنبرةِ بكاءٍ وبحّة : حسبك الله علي وعليه ... حسبك الله على هالسنين.


،


يلوِي فمه باستنكـارٍ وهو يقفُ خلفَ البـاب، الصوت الذي يصلُ لمسامعه ليسَ صوتًا واحدًا بل لاثنين !! . . لم يبالِي وهو يطرق البـاب ويدخـل مباشرةً دون أن ينتظـر ردّه كعادتـه ، نظـر ببرودٍ لسعُود ومن ثمّ للشخـص الجالِس معه .. تحرّكت خطواتُه نحو أقربِ أريكةٍ ليجلسَ وهو يلفظُ دون اهتمـام : وش تبي؟
سعودْ بجمودٍ وهو يرفع حاجبه الأيسر محذرًا له من أيِّ تهورٍ قد يقوم به، أشـار للجالسِ معه بيدِه وهو يلفظ : هذا أحمد الأمير .. شريكنا.
أمـال شفتهُ السُفلى وهو ينظُر لأحمد الذي ابتسم بهدوء، رمقـه من أعلاه لأسفلـه ليبتسم أخيرًا باحتقار، وبسخرية : والنعم.
أجفلَت ملامـح أحمد بصدمةٍ من تلك النظـرة ، بينمـا شدّ سعود على أسنـانِه وهو يغمضُ عينيه، يُمسك زمـام أعصابِه منذ آخرِ مرّةً استفزّه فيها . . .
نهضَ تميم بضجرٍ وهو يحكُّ رأسه، وبنبرةٍ ملولة : خلصت والا بقى شيء؟
سعود من بينِ أسنانه : اجلس ..
تميم يرفـع حاجبيه وهو يمطُّ فمـه : بأي حجة؟ أسمع كلامكم السخيف عن شغلكم والا تبيني أراعي رجولك وأ . . .
قاطعـه سعود بصرخةٍ مفاجئة : تميــــــــــــــم!!! اجلس بدون حكي ماله داعي.
تميم يبتسم باستفزاز : سبق وقلت لك أنا ما أنجبر .. وحاليًا ما ودي أجلس فما راح أجلس طبعًا!
سعود الذي يدرك أنّه سيفعـل مافي رأسه : انقلـــــــــــــــــــــع
اتّسعت ابتسامتـه ومن ثمّ تحرّك وهو يغمزُ لأحمد بسخريةٍ ويلفظ : تشرفنا يا عزيزي.
ليخـرج مخلّفًا ثورانًا جديدًا في صدرِ سعود الذي نظـر لأحمد بعد أن لفظَ بتحذير : الولد متمرد يا سعود.
سعود بحدّة : أنا اللي بعقله .. ما انولد اللي يعاندني مثل ما يسوّي هو ..

بينمـا مدّ تميمْ يديه بكسلٍ بعدَ أن خـرج وواجـه ضوءَ النهـار ، ابتسـم وهو يصعدُ لسيّارته ، يتجاهل السائق الذي يسأله إن كان يريده أن يقود هوَ ويوصله حيثما يريد . . حرّك السيـارةَ وهو يمسـح على وجهه ، يشعر بالضجـر ، لا يدري أين يذهب الآن وما قد يسليه !


،


تزاحمـه الأصوات والنهـار، باتت عادةً له بعد أن ينهضَ أن يصلّي الفجـر ومن ثمّ ينتظـر لما بعد الشروقِ فيغتسـل ويخرج، يتناولُ إفطارهُ في أقرب مطعم، ومن ثمّ يتمشى في الحيّ أو قريبًا منه أو يخرج مع فـارس حتى يحين وقتُ ساعاتِ عمله.
كـان يجلسُ في إحدى المطـاعم، يتنـاول الشـايَ بروتينٍ مملّ، ينظُر للداخلـين والخارجينَ بعينينِ اعتـادتا هذهِ النظـرات الصامتةَ للعالمين، عبر البـابِ وعبر النافذةِ التي تنمُّ بشفافيّتها عن ملامِح العابرينَ على الرصيف، زفـر هواءً ساخنًا رغمَ البرودة، ومن ثمّ نهضَ وهو يضعُ الحسـابَ على الطـاولة، تتداخلُ في عقلِه أفكـارٌ أوّلها أسيل وأهمّها أسيل، يجبُ أن يخبرها ، ما فهمه من حديثِ شاهين أنّه لا يريد إخبارها في هذا الوقت، لكن إلى متى؟ هل ستبقى جاهلـة لكلّ شيء؟ بالتأكيد لن يرضى .. لذا يجب أن يخبرها ، اليوم أو غدًا لكن يجبُ أن يكون قريبًا.
أغمضَ عينيهِ وهو يتحرّك باتجـاه الباب، كيف يعودُ الأموات؟ أكثـر سؤالٍ أرّقـه الليالي التي رحلّت .. سبحانك يا من كتبَ لهُ الحيـاة ونحنُ سكـارى عزاء ، سبحانك يا الله يا من ردّه إلى أرضِه بروحِه لا جثّةً فقط.
خرجَ من المطعـمِ ليستنشـق عبيرَ الصبـاح، تحرّك وهو يدسُّ يديهِ في جيبيْ معطفِه، ينظُر للعابـرينَ ولأعينهم، يحاول أن يستنبطَ من أحداقِهم شوقًا وحنينًا كالذي ينطـق من أعينِه.
اقتربَ من جهةِ المبنـى الذي يقطنه، بالرغمِ من كونِه باتَ يكرهه للشوقِ الذي يُأجّجه فيه إلّا أنه يضطرُّ للسكنِ في أطرافِ ذكرياتِهم، على السرير الذي نامَت فيه معه قبلًا، على أريكةِ الصالـةِ التي جلَست عليها ساعاتٍ طويلة، على الجدران التي تشبّعت بعطرِها، وعلى الوسادات التي احتفظَت بخصلاتٍ خفيّةً من شعرِها البني، على بعضِها في ذكـرى ، يا الله كيف يريد أن ينساها وهو واهنٌ عند الذكريات؟
هيَ رحلةٌ في بحـر الوجوه، أحداقهُ سفينـة ، غرقت واللهِ يا جيهان تريد أن ترى شبيهًا ، رغمًا عن رغبتـه في الابتعـاد يريد أن يرى شبيهًا بِها .. لا بل لشوقِه، يريد أن يرى وجهًا يعانِي ذاتَ معانـاته .. على من يكذِب؟ يريد أن يراها .. أن تنعقـد حاجباهُ وهو يلمـحُ طرفَ رمشِها الطويل، وعينيها البنيّتينِ التي عشِق . . .
تنهّد صدرهُ بضيق، ومن ثمّ غضَّ البصـر عن أشواقِه، أشاحـهُ عن وجهِ أحدِهم، لتصتدمـا بشبيهةٍ لها تمشي وتلتفتُ أحداقُها في المـارة . . وقفَ فجأةً وهو يوسّع أعيُنه . . شبيهةٌ لها !! لحظـة ! . . لم يشعر إلا وجسدهُ يتصلّبُ ناظرًا لها ، لجيهان ، نعم .. قلبه الذي اضطرب الآن أخبره أنّها هيَ .. عينيها، ملامحها البيضـاء، قامتها وكلّها . . وكأنّ الأمنيـاتِ التي تمنّى أن تبزُغ في وهمٍ خُلقَت في حقيقة، بحجمِ ما كـان يوسف يحرص على أن لا يلتقيا من بابِ المسافاتِ القريبـة إلّا أنّه الآن يراها .. دون يوسف! وحيدة . . لم يكَد صدرهُ يشعرُ باختلاجاتِ الشوقٍ والحنينَ حتى عقدَ حاجبيه مستنكرًا من عينيها اللتين تتلفّتـان يمنةً ويسرةً وكأنها تبحثُ عن شيء، تمشي وحدها حتى أرجوان ليسَت معها . . ما بِها؟ .. بلّل شفتيه بطرفِ لسانِه ومن ثمّ تحرّكت خطواتُه بتوجّسٍ يتبعها ، رآها تقفُ عند بابِ المقهى القريبِ من مسكنِهم، يصتدمُ عابرٌ بكتفِها ويمضي، يستفزّه! بينما لا تبتعدُ بل تستندُ على إطـار البـاب وكأنها تقطُن الآن في مكانٍ يخصّها وليسَ للنـاس .. عضّ شفتهُ وخطواتُه تتباطأ من خلفِها، تحرّك رأسها بحثًا عن شيء أو عن شخصٍ في المعنى الصحيح، يثبَت رأسها عن الحركـة، ومن ثمّ تمرُّ ثوانٍ قليلـةٌ قبل أن تتراجـع وقد نوَت أن تعودَ أدراجها بعد أن وجَدت ما تريد .. لكنّها في اللحظـة التي استدارَت ، في اللحظـةِ التي اصتدمت عينـاها بعينيه، في اللحظـةِ التي شهقَت بصدمـةِ رؤيتـه ، هذهِ الشهقةُ التي زلزلت صدرهُ بالإيمـان الكامِن بها، زلزلته! الإيمـان بأنّها تسحقُ كل الإنـاثِ في تارِيخ حوّاء، تجعلـه يدرك كم يظلـم جنان في هذهِ اللحظـة بنظراتِه التي اجتذبتها لعينيها كمغناطيسٍ يسحبُ إليه كلّ معدنٍ تصنّع الصـلابةَ وهو بعيدٌ عنها .. يلينُ أمامَ الحب! أمام الشوق وأمام عينيكِ يا جيهان .. تتبدّل التكوينـات لأجدَ صوتِي نوتـات! لأجدَ عينيّ محيط، امتلأتا بزرقـة السماءِ المعطاءةِ في كنفِك، أجدُ أنّني لستُ أنـا في بعدك، ولست أنا في قربك، تتلاعبينَ بي حدّ أن أكـره نفسي حين أفتقدُ مشاعري معك، هذهِ المشـاعر التي تعصِف بي الآن . . لمَ اشتقتك؟ وظللتِي في عينيّ موسيقى الحُب! لمَ أنظـر إليكِ الآن وفي عينيّ " شغف "! ولمَ يسكُن فؤادي تيّارُ نظرتكِ وفي صدري صوتُ شهقتِك الناعمـة يسري، هذهِ السمـاءُ باتت باهتـة ، غُلّفَت بشفافيةِ دمعِها وكلّها حزين، الصباحات التي كُتبَ فيها الفراق لوّثت ابتساماتها .. للأسف!
زمّ شفتيْه، تجاهل شهقتها وتجاهل شوقه وحنينه، تجاهل مشاعره وتجاهل كلّ الخيبـة وكلّ الضعفِ الذي يوهِن قلبه .. وبنبرةٍ جامدةٍ لفّظ : وش اللي مطلعك بروحك هالوقت؟
راقبها وصدرها يرتفـع بينما عيناها تنظُرانِ إليهِ ببهوتٍ وكأنّها لا تصدّق حتى الآن أنّ الدروب أفضَت بالتقـاء، أن الشُعَبَ التقت في نهاياتِ أطرافِها لتمسّ بعينيها عينيهِ الآن وتراه أمـامها ، فواز .. أمامها ! يا الله بعد الأيـامِ وبعد الحسراتِ والخيبات، بعد تلك الليلـة التي اصتدما فيها بحديثٍ أخـرسَ منها الكبرياء، بعد أن خسرَت وخسِر .. كلانا خسِر، كيف خسِرنا؟ لا ندري! .. نعم أعلم أنّك أيضًا لا تدري كيفَ أننا جميعًا خسرنا ولم يربح أحدنا بسعادةٍ حتى الآن .. أرى في عينيكَ دعواتِي لازالت تجري ولم تسعد حتى الآن ، أسمعُ في صوتِك نبرةً تجهلُ التعبيراتِ وتجهلُك ، تجهل المحيطَ الذي يوصِلها لمسامعـي فتتعثّر خطواتها على نتوءاتِ الهواء . . أنتَ أمامي! وأنا أمـامك والمسافاتِ طويلـة . .
ابتلعَت ريقها بصعوبـة، ارتخَت أجفانها بعد أن استوعبت أنّه أمامها بالفعـل ، اضطربّت أنفاسها أكثر، تشتّت أحداقها أكثر، انحسرَت أمواج الثبـات/الاستقامـة لتشعر أنّه أوخز خاصرتها فمالَت بِعنفوانِ صوتِه الذي كرّر بخفوتٍ بارد : وش قاعدة تسوين بهالوقت بروحك!
زمّت شفتيها وهي تنظُر جانبًا وحضورهُ يهزمها، لكنّها لا تستطيِع أن تتركه يتكلّم معها بهذا الشكـل وهو لا يملك الحق! لا تستطيع أن تجعل حنينها له يهزمها، لا تستطيع أن تنصـاع للهفتها كي تراه ولكلّ اللحظـات التي كانت فيها تتذكّر لحظاتهما، بحجمِ الشوقِ إلا أنها رفعَت أحداقها لوجههِ بقوّة، بحجمِ الحسرة على هذا الفراق إلا أنها نظرت لهً بكبرياءٍ وهي تهتفُ بنبرةٍ باردةٍ كنبرتِه : التحقيق معي بهالشكـل صرت معفي منّه من زمـان .. مارسه على البديلة !!
رفعَ حاجبه وهو يتنفّس بحدة، فهم جيدًا من تقصدُ بالبديلة، لكنّه لم يبـالي بما قصدت وهو يقتربُ بخطوةٍ قصيرةٍ جعلتها ترتبكُ وتتراجـع للخلف، بينما استطـالت نظراتها لما خلفها وهو يلفظ : تراقبين مين؟
جيهان بحدّةِ صوتٍ ارتعشَ لتبدأ أولى علاماتِ التناقض ما بينَ وّقةٍ وضعف، لفظَت بحدّة : أراقب اللي أراقبـه مالك شغل.
سقطَت أنظـاره على يوسف، عقدَ حاجبيهِ دون تعليقٍ وهو يُخفض نظراته إليها، وباستنكـار : وش أسلوب البزارين هذا في الحكي؟
جيهان بتحدّي : نفس أسلوبك مع مسألة الطفش .. يوم طفشت من لعبتك الأولى رحت للعبـة ثانية ..
ابتسمَ بانتصـارٍ ولمعـة عينيها الحاقدتينِ تُشعِره بالرضـا أبدًا، نفس النظـرة في آخر لقاء، نفس القهرِ والغيرةِ التي تلفظها مع كلماتِها .. عينيكِ الشفافتينِ تفضحانِ كلّ شيءٍ يا جيهان ومهما حاولتِ أن تخفي عني قهركِ لا تُجيدين.
عضّ زاويـةَ شفتِه ومن ثمّ عاد لينظـر من خلفها ليوسف، وبمكر : عمي يدري إنّك وراه؟
ارتبكَت ملامحها، وما إن وجّه عينيهِ إلى عينيها حتى وجَدَت نفسها تُشتّتهما بتوترٍ وتزفـر، وبضيقٍ وأنفاسها المتسارعـة تفضحُ انفعالها بقربه : ماهو شغلك .. مالك كلمة علي.
فواز باستفزاز : تو تو تو ليه تتكلّمين بهالطريقة يعني وراك مصيبة؟ أناديه وأخليه يشوفك وأنتِ هنا بروحك؟ لا لا مو بروحك معي!
عقدَت حاجبيها وهي تُفرجُ شفتيها قليلًا وتنظُر له بانزعـاج : وش هالوقاحـة؟ * تحرّكت تريد أن تذهب لتردف بحنق * ابعد بس بروح من هالمكان اللي صار معفن.
ابتعدَت عنه بينما تابعها بابتسامةٍ شغوفـةٍ أخفاها خلفَ نبرتِه الماكـرة : إذا ما قلتِ لي وش كنتِ تسوين هنا بالضبط بعلمه إنّي شفتك.
جيهان تقفُ لتقابله بظهرها، تشعُر بنارٍ تأكُل الأخضـر واليابِسَ منها، كلّها يابِس! تشعر أنّ الشرارةَ فيها تحوّلت لنارٍ ستبتلعها لا محالـة ، فواز الذي يتحدّث معها الآن باتَ ملكًا لغيرها وهي لا تستطِيع أن تكون لغيرِه، لا تقـوى على ذلك، تريد لاسمها أن يظلّ مقدّسًا بارتباطِها بِه ، ارتباطِها الذي نتجَ عنه هذا الحُبّ الذي يلسعها بخيبتِه، يؤذيها أنّه يعيش، حتى وإن لم يكن سعيدًا سيؤذيها ذلك ، يؤذيها أنّ امرأةً حظيَت بِه، أنّها تتأمّل ملامحه بعد أن تنهضَ في الصبـاح ويكون نائمًا، تستمعُ لكلماته الرقيقة، تسقُط أنظـارها على عينيهِ سقوطًا يطولُ ولا ينهضُ بسرعـة، تغرق ! تغرقُ فيكَ يا فوّاز وأنا أغـرق بحزنِ فقدي.
من شدّة قهرها وخسرانِها لم تشعُر بنفسِها وهي تُديرُ رأسها نحوه، تنظُر لهُ بنظراتِها المقهورةِ تلك والحاقدَة، تشدُّ على أسنانها قبل أن تلفظَ كلمـاتٍ امتلأت بسذاجتِها في الاستفزاز : تبي تعرف وش أسوي؟ .. شفت الرجـال اللي مع أبوي؟ هذا الله يسلمك عاجبني .. حليو ومملوح وأحسن منك .. لقيت تعويض صح كنت أقول ما بتزوج بس غيّرت رأيي أول ما شفته.
وبالرغمِ من كونِ أسلوبها في محاولـة الاستفزازِ " غبيًا " إلا أنها نجحَت .. استطاعَت أن تشعل نظراته، أن تنشُر الظـلام على ملامِحه ، أن تجعلَ نظرتهُ تضيقُ بها ونـارٌ تكتوي في صدرِه .. لوى فمهُ وملامحـه باتتْ مرعبـة ، لكنّها لم تُبالي وهي تهزُّ رأسها وصدرها المقهور يخرجُ صوتًا حادًا اكتفى بـ " هه " .. كـانت كالطفـل في استفزازِه، رغم السذاجـة إلا أنها كانت ناجحة..
تحرّكت بخيلاءٍ بعد أن أشاحَت وجهها بانتصـار، بينما اشتدّت شفاهُه وهو يوجّه أنظـاره نحو الجالِس مع عمّه ، وبنبرةٍ غاضبـةٍ من بين أسنانه، يدرك أنها تكذب لكنّه غضِب رغمًا عن إدراكه : وقحــــة !!
جيهان تستدير إليه بعدَ كلمته تلك، أمالت شفتها السُفلـى وهي ترفعُ حاجبها الأيسر بتحدي : وقحة !! لأني أبي أبدا من جديد وأتزوج صرت وقحة !!! هذا وأنا انتهى ارتباطي فيك بس أنت !! ختمت الوقاحة والقرف كنت متزوّج لك ثنتين.
فواز بغضبٍ يغلّف ملامحه التي تعشقها : قليلة أدب .. شكلك مشتهية أسطرك إذا عمي ما انتبه لسواد وجهك وحركاتك بعرف أربيك أنا.
جيهان بعنادٍ طفولي : جرب لو ولد أبوك .. تراني مجربـة ضربك لي من قبل .. ماراح يفرق غير إنّك منت محرم علي ومحرّم تلمسني .. * أردفت بغباء * وأما عن كوني مشتهية أنضرب أو لا فحتى لو مشتهية ما أبيه من يدك الخايسة أبيه من يده هو بعد ما نتزوج ...
شدّ على أسنانِه بقوّةٍ وهو يزفُر من بينهما هواءً باتَ مشتعلًا، تحرّكت خطواتُه نحوها وعينيه تتّسعان بغضبٍ حارق، لا يكاد يصدّق كلمـاتِها، لا يكـاد يصدّق هذهِ الوقاحـة التي تريد بها استفزازه فقط وتنجح في ذلك !!
بينما انتفضَت هي بذعرٍ ما إن رأته يقترب منها، خشيَت أن يفعلها فعلًا ويضربها .. لذا هتفت بهجوم : وخر .. أقسم بالله لو تقرّب ألم عليك هالعالم ومعهم أبوي...
فواز بغضبٍ وهو يقتربُ ببطءٍ بينما هي تبتعدُ للخلفِ برجفـة : معهم أبوك بس؟ وهو شلون! بيفكّك مني بعد؟!
جيهان بارتباك : لا يكون غرت مثلًا؟
فواز بحدةٍ يرتفعُ بها صوته وهو لا يكاد يستوعب مقدارَ وقاحتها : لاااااا .. بس حبيت أربيك!!
ما إن وقفَ أمامها حتى شهقَت بذعرٍ واختارَت هذهِ المرّة أن تهرب، هروَلت بسرعةٍ بينما كادَ هو هذهِ المرّة أن يمسكها بيديهِ لكنّها كانت أسـرع ، أراد أن يُمسكها وقد نسيَ أنّه لا يحقُّ له .. نسيَ أنّها لم تعُد لـه .. وكم جاءته تلك الفكـرة بعد أن استوعبها كوخزِ شوكٍ قطّع أنيـابَ السُكون . . عضّ شفتهُ بقوّة، أغمـض عينيهِ وهو يتنفّس تنفسًا حادًا ألهبَ قلبـه .. يحاول أن يتناساها ولا يقدر .. يحاول أن يتجاهل الشوق ويجدُ أنّه يتضاعف أكثر . . . استدارَ ينظُر للمطعـمِ ويوسف ، للرجُل الذي يجلسُ معه .. ومن ثمّ شدّ على أسنانِه بغضب ، الوقحة! استطاعَت أن تغضبـه رغم أنّه يدرك أنها كاذبـة .. فكرةَ أن تكون لغيرِه تُشعلـه رغم أنّه صرّح لها بعكسِ ذلك .. لم يشعر بنفسِه وهو يتحرّك للداخـل، يريد أن يرى هذا الشـاب الذي قالت بأنّها تريده بدايـةً جديدةً لها ، يريد أن يراه ويحطّم وجهه قبـل أن تسقط أنظاره صدفةً نحوها.


،


يستطِيلُ الوقت ويطول الانتظـار، هذا الانتظـار الدامِي يستفزّه الآن للصراخِ بغضبٍ حارقٍ أن يمُوت، أن يندثِر خلفَ ضريحِ الحقيقة، بـات يشعُر أنّه يتقلّب فوقَ صفيحةِ هذا الانتظـار وحرارةُ الظهيرةِ تُرمِد عينيهِ بلهبِ اللهفـة .. لمَ تأخّر وتأخر الوقت أكثـر؟ لمَ تمارس الدقائق البطء الآن وتجعلهُ يتفتّتُ ببطشِها .. لم يعُد يريد أن ينتظـر، إن كـان لسنواتٍ انتظـر لهفـة للوطن فهو الآن ينتظِر لهفـة للحياة، وهذهِ اللهفـة تقتلُ كلّما طالَت دون قرارِ الخلاص .. قضبانٌ هذهِ يا الله وأغلالٌ أدمَت معصمِي .. قضبـانٌ تواريتُ من خلفها في الظـلام والآن لا أكـاد أنتظـر النور حتى أموت بنفادِ صبري! لم أعُد أريد أن أنتظـر ، الطفْ بي يا الله لم أعد أريد شيئًا سوى أن يتبيّن الحقّ وأرى الحيـاةَ من بؤرةٍ مضيئة ، أرى الحياة بشكلٍ ألطـف فقسوتها خشّنت مبادئي، أهلكتني! زرعتْ فيّ الحقدَ وأنا واللهِ الآن لم أعد أريد من الحيـاةِ شيئًا سوى السمـاح، سوى أن تأذَن لي بابتسـامةٍ حتى وإن كُنتُ ظالمًا .. راضٍ ! راضٍ إنّي على هذا الذنبِ في سبيلِ الراحـة التي أريد .. راضٍ أن أتّكئ على كتفِه وأعتـذر .. أهوى الاعتذار الآن وكم أنا شغوفٌ بِه إن كنت سأبتسم للحياةِ أخيرًا وتبتسمُ لـي . .
كـان يخطو ذهابًا وإيابًا وهو يزفُر نفادَ صبرِه بحرارة، يتمتمُ بحنقٍ كلّما نظر للساعةِ ورآها لا تسيرُ على نحوٍ سريع : وجع للعدو ليش تأخّر ؟!!!
رفعَ هاتفه يريد أنّ يتّصل بهِ من جديدٍ بعد مرّاتٍ حاولَ فيها ولم يُجِبه ، وما إن تصاعَد الرنينُ الأول حتى وصله من الهاتفِ ومن الخارجِ أيضًا !! . . نظـر نحو البـابٍ ببهوت، يتزايدُ علوّ الرنينِ حتى انتهـى بأن أغلقه عبدالله لينقطـع من عندِه .. حينها تأكّد بأنه هو، لم ينتظِر وهو يتّجه للبـابِ ويفتحه ليظهـر أمامه، وبحدة : تأخــرت !!
عبدالله يدخُل بملامح جامدةٍ لا يظهـر منها أي تعبير، وبنبرةٍ هادئة : الموضوع مو سهل ..صار له سنين وبالحيل قدرنا نجيب معلومات عن الرقم ..
متعب يتراجعُ للخلفِ وملامحه الشاحبـة تنظُر إليه بأمل : وأيش حصلتوا؟
عبدالله يزفُر قبل أن يجلسَ على الكرسيّ، نظـر لهُ بحدّةٍ ليعتلِي صوته فجأةً بغضب : ماشاء الله أشوفك محترق تبي تعرف؟ وليه ما علمتني من البداية وريّحت عمرك؟
متعب يشتّت عينيهِ وهو يشدُّ على أسنانِه، يشعر أن قلبه يكاد أن ينفجر وهو يلفظُ برجاء : تكلّم بالأول وبعدين حاسبني.
عبدالله ينظُر جانبًا وفمه يلتوِي بغيظ : شاهين سبق وطلّع له بدل فاقد من رقمه القديم . .
التوَى عنقه باضطرابٍ وأنفاسه تتصاعد ، وبربكـة : متى؟
عبدالله ينظُر نحوه بحدّة : بعد تاريخ موتك لهم بشهر ... وقبل هالشهر كانت آخر عملية بهالرقم بنفس التاريخ .. تاريخ موتك بعد.
لا يكفي! هذا الحديثُ لا يكفـي، لا يريد أن يصدّق الآن ويُصدَم من جديد، لمَ لا يكون شاهين قد فقدهُ في نفسِ اليوم؟ لمَ لا يكون فعلها بِه ومن ثمّ فقدَ رقمـه ذاك؟ . . . تنفّس بتحشرجٍ وهو يشتت عينيهِ بوهن ، يتمتمُ بكلمـاتٍ لم تصل بوضوحها إلى مسامِع عبدالله الذي نظـر لهُ بعينينِ ضيّقتين ، يرى التشتت والضيـاع، التيهِ الذي يعزفُ على ملامِحه شيخوخةً وكهولـةَ غيـاب .. يدرك كم أنّ الغيـابَ يشيخُ بالبدنِ والروح حتى يقضمك الموت ولا يلتهمك .. يكسر منك أجزاءً ويُبقي منكَ جزءً فقط لتعيشَ بآلآمك ، يدرك كم أنّ الخذلانَ يتشبّعُ بالدمـاء حتى يلوّثها بالحقدِ الذي يختلطُ بالحبِّ وبالوجَع ..
رقّت ملامحـه فجأة، قرّر أن يرحمـه ، يرى فيه هذا الضيـاع الذي زعزّع ضوء الحيـاةِ في عينيهِ ليتركهُ في ظلامـه .. لذا ارتخَت شفاهه المشدودة ، ليردف بهدوء : حاولت أحصّل إجابـة ثابتـة تأكد تورطه من العدم بس الموضوع صعب من ناحية الاتصالات .. زين منّي قدرت أطلع هالمعلومات بعد ساعات بحث .. بس متى فقِد رقمه بالضبط صعبة، حتى لو علّمهم وكان نفس العميل اللي تعامل معه موجود للحين شلون بيتذكّر ! .. عشان كذا استجوبت شخص.
التمعَت أحداقـه ليوجّهها إليهِ بسرعـة ، تشنّج فكّه، أفـرج شفاهه يريد أن يسأله من يكون ، ماذا سألته، والأهم ما كـانت إجابته؟ شعر أنّه يريد أن يسأل كلّ تلك الأسئلة لكنّ صوته غصّ في الصمتِ الموجِع فجأةً ودخـل في غيبوبتِه .. لم يستطِع أن يخلق الكلمـات .. في حينِ تفهّم عبدالله صمته ليردفَ دون أن ينتظـر وقتًا أطول حتى يسأله : فيصـل .. اللي كان معك بباريس.
اتّسعت عينا متعب فجأة .. تذكّر مباشـرةً اللحظـاتِ الاخيرةِ هناك والتي اكتشفَ فيها أنّ شاهين أخذها منـه ، حين قـال له أنّه يستمعُ لما يجري ويتلذّذ ، حين أضاف لأوجاعه المزيد وتمتّع بساديّةٍ بآلامِه .. تذكّر كلّ هذا في لحظةٍ خاطفـةٍ ولم يبالي بذاك الألـم واسترجاعِه بحجمِ ما أدرك أنّه بالتأكيد يعلمُ فهو استفزّه بذلك يومذاك.
لفظَ بصوتٍ ميّتٍ خافتٍ بزغَ من همسِ الأمـلِ وأنفاسه المتسارعـة تنعكسُ على كلماتِه فتجعلها تنفعلُ أكثـر : وبعدين ؟ وش صار بالضبط !!
عبدالله : قدرت آخذ منّه المفيد .. شاهين انسرقْ منّه جوالـه بصبـاح نفس اليوم اللي احترقت فيها شقّتك .. وبكذا بيكون بريء من الظنون اللي في بالك . . .
كـانت تلك الكلمـات الأخيرة ، كـانت الكلمـات التي جعلت ألمـه يكتفِي بانتفاضـةِ آهةٍ طويلةٍ من حنجرته ، كانت الاكتفـاءَ من الضيـاع ، كانت القشّة التي قصمَت كلّ الترهات التي أفعمته بالتيه .. كانت هذهِ الحلقـة التي انتظـرها، الحلقة التي التفّت بفستانها الكاذِب على قلبِه وعينيهِ فالتهبتا بنارِ الخذلان . . . تراجـع للخلفِ وهو يضعُ كفّيه على رأسِه ليهزّه بالنفيَ وهو يتنفّسُ بقوةٍ من فمِه ، يرتفع صدره وينخفضُ بقوّةٍ منفعلة ، ينظُر للأرضِ ويغرقُ في ظلمـه ، يغرقُ في احتجاجاتِ الضيـاع الذي رفضَ الحقيقة ، يرتوِي بماءِ الفكـاك .. انسلّت عنه قيودُ الوهم ، تفكّكت وأنـارَ ضوءُ النهـار أخيرًا ، خـرج من ظلامِه ، عـاد الصباح وعادت الشمـس ، انتهـى ذاك الليل ، انتهى الظـلامُ وانقشع .. ليسجُدَ قلبه في تلك اللحظـةِ لله .. قبْـل جسده الذي بقيَ جامدًا للحظـات ، قبل جسدهِ الذي يكتوي بهوانِه ، قبل جسدِه الذي كان يرتعشُ واستقامتـه التوَت ، تحتاجُه! تحتاج شاهين .. شاهين بريء يا الله ! بريءٌ وأنا الظـالمُ إليه وإليك الحمد . . كيفَ يصدّق في هذهِ اللحظـاتِ أن آلام السنينِ لم يكُن لها داعٍ أجاب لها .. لمن أجبتْ؟ لمَن بكيتُ بصدري الموبوءِ بالخيبـة ، لمَ امتلأتُ بتلك الخيبة؟ .. هل انتهى الظـلام .. ينقشعُ الآن رويدًا رويدًا والصورةُ الجميلـة تعودُ لتستوِي .. من قـال أن الصور حين تنكسـر لا تُجبر؟ من قـال أنّها لا تعود وأنا الآن أرى صورتِي معه تُلملمُ وتتلاشى منها الشروخ .. من قـال لنـا أنّ ما يتحطّم لا يعود؟ من قـال لنا أنّنا حين نكره لا نحب، حين نحقدُ لا يتلاشى هذا الحقد .. من قـال أنّ الأخوّة كاذبـة؟ كَذبَ وكذبتُ أنـا ، لم يخذلني، لم يغدر بِي .. كان دائمًا معي وكنت أنا الظالم وأنا الذي حقدتُ دون سببٍ وأردت كرهه .. هل كرهته؟ لا .. لم أكرهه بعد .. لم أكرهه وكيف أقوى؟ كنت منذ سنينَ في غربتين ، واحدةٌ في مدينـة ، وأخـرى في بشـر، والأخـرى أنا اختلقتها من سوءِ ظنّي ... لم يفعلها بي؟ لم يفعلها بي بل أنا من كان المخطئ في النهايـة ، أنا !!!
ارتحلَت لحظـاتُ الصدمـة ، انتهَت ليسجد سجودَ شكرٍ لله ، يلتصقُ جبينهُ بالأرضِ والدموع لا يدري أينَ ذهبَت، تحمرُّ عيناه لكنّها لا تُسقِط ماءً ، يتمتمُ بالحمد وهو يبتسمُ ويضحك دون شعور .. فرحـةٌ غمرته شعر أنّها ستقتله لا محالـة .. لا لن يموت! لن يمُوت الآن بعد أن طرقت الحياة بابه ، لا يريد أن يموت !!
نهضَ بانفعالٍ وهو ينظُر بتشتتٍ حوله ، لا يستطِع أن يرى ملامح عبدالله جيدًا وهو يلفظُ بصوتٍ غادرهُ من علوّ أنفاسِه وانفعـال مشاعره : بروح له ...
زمّ عبدالله شفتيه ، لم يستطِع أن يعترضَ وهو يرى الانفعـال والسعادة على محيـاه ، في حين لم يكن لينتظـر متعب منه الموافقـة ، بحثَ بعينيهِ عن هاتفه ليجده على الأرض ، لا يدري متى سقطَ منه ، ولم يهتمّ وهو ينحني ليحملـه ومن ثمّ يخرج مهرولّا من المكـان . . .


،


يمرّر كفهُ على شعرِه بضجر، لتوّه وصـل واصتدم بإبراهيم ما إن جـاء إلى هنـا لذا ساء مزاجـه فوق ما كان سيء ، دخـل الغرفـة التي باتَ يتشاركها معه هذهِ الفتـرة ، يزعـم سالِم أنّه يريد لعلاقتهما أن تتحسّن ولو قليلًا، بينمـا خططهُ تبتعِد عن هذهِ الفكـرة، يريدها أن تسوء أكثـر وأكثر ، يريدها أن تسوء للنقطـة التي . . .
عضّ شفته بحنقٍ ما إن شعرَ بكتفِ إبراهيم تصتدمُ بِه ليتجاوزه أخيرًا ويدخُل، زفـر بغيظ، ومن ثمّ تبَعهُ ليتّجه مباشـرةً للطاولـةِ ويضعَ هاتفهُ عليه، يتنـاولُ تفاحًا باليدِ الأخرى، ومن ثمّ يحمل السكين ليبدأ بتقطيعه وهو يتجاهل إبراهيم الذي كـان صامتًا على غيرِ العادة ، أمـال فمه وهو يرمِي السكين ويتناول القطعـة التي في يدِه، ينظُر لإبراهم بجمودٍ ليرفـع حاجبه الأيمـن وهو يراهُ يمسكُ بصورة! يتطلّع بها وهو يرفعُ حاجبيه بانبهار . .اقتربَ منه بفضولٍ ليلفظَ بنبرةٍ تصنّع فيه عدمَ الاهتمـام : وش وراك أنت؟!
إبراهيم يصدر صفيرًا بإعجاب : اوووو مااااي قااااد صاروخ أرض جو !!
عقدَ حاجبيهِ بشدّةِ فضوله، وتمرّدت يدهُ لتخطفَ منه الصورة في لحظـةٍ خاطفـة حتى يرى الصاروخ الذي قصـده . . لكنّ ملامحـه بهتت ، اتّسعَت عينـاه بصدمَة، رفـعهما نحو إبراهيم وهو يفرج شفتيه بينما رعشـةٌ سرَت في جسدِه . . لا يدري كيفَ استطـاع أن يسيطر على صوتِه، كيفَ استطاع أن يبتلـع ريقه بهدوءٍ رغـم اشتعال عينيه ، أن يلفظ بنبرةٍ هادئةٍ خافتة متسائلة : من وين جايب هالصورة؟
إبراهيم يمدُّ يده يريد أن يستعيدها له وهو يهتف دون مبالاة : حصّلتها . .
سعد يصرخ فجأةً وهو يُعيد اليد التي يحمل بها الصورة للخلف، بينما الأخرى امتدّت للأمـام ليقبضَ أخيرًا على عنقِه وهو ينفضُ كلماتٍ غاضبـة : من وين جايب صورة أختـي يا **** .... من وين جايبها تكلللللم !!!
راقبَ ملامح إبراهيم التي ظهرت عليها الصدمـة، شعر أنّه يختنقُ من يدِه، لكنّه بالرغمِ من ذلك كان يحاول أن يبعدها وهو يلفظُ باختناق : ابعد يدك يا حيوان . .
سعد يضغطُ على عنقه أكثر وعينيه تطلقان حممًا حارقة : من وين جايبها؟ من وين جايب هالصورة ؟!!!
إبراهيم بغضب : من جهنننننم . .
سعدْ يدفعه للخلف، يتركُ عنقه فجأة، ومن ثمّ يلكمُه بغضبٍ وهو يصرخ : لا تتلاعب معي !! أقسم بالله لو تضرّها بشيء أذبحك ... لو تفكّر مجرّد تفكير فيها أنكل فيك . . . * أردف بعلوّ أكبر وهو يضربه من جديد * من وين جايبها؟!!!!!
إبراهيم يتراجع للخلفِ بغضبٍ وهو يضعُ كفّه على فكّه بعد الضربـة الأخيرة التي تلقّاها ، وبوقاحـةٍ مقهورة يستفزّه بها : والله الطبيعي قبل لا تسألني تشوف وش الأسباب اللي بتخلّي صورة أختك توصل ليد الناس !!
تنفّس بحدّة ، بتسارع الأكسجين إلى صدرِه ، بالانفعـال الذي احمرّت بِه ملامحـه . . رفـع الصورة ينظُر لابتسامةِ اختـه البريئةِ فيها ، ترتدِي زيّ المدرسـةِ وهي تحملُ حقيبـة ظهرها .. كيفَ وصلت إلى هنا؟ كيف!! . . في هذهِ اللحظـة كـاد أن يقتلَه ، تمنّى لو يفعلـها، ولا يدري كيف انسحبَت أقدامـه ليهرول بسرعةٍ خارجًا ، بينما مرّر إبراهيم كفه على شعرِه ولا ينكـر أنّه خاف منه لوهلـة، لم يره بغضبِه الآن قبلًا وللحظـةٍ ظنّه سيقتله !
نظـر نحو الكرسيّ الذي وجَد الصورة مرميّةً عليـه .. عقدَ حاجبيه ، كيفَ ستصل صورة أخت سعد لهنا؟


،


" أبي أشوفك في المكـان اللي قابلتك فيه المرة اللي راحت "
رسالةٌ كـانت كافيـةً لتُشعِل جنونه ، كـانت كافيـةً لتجعله ينتفضُ من خمولِ الوقتِ ويمضي ، أن يتجاوز الكثير من الاشاراتِ الحمراء الآن ويشتمَ زحـام الرياض ، أن يتغيّب في تلك الأحرفِ ونقاطها ، في تلك الرسـالةِ التي وصلَت إليه من رقمِه ، ما معنـاها وما سيكون مكنونها غير أنّ أدهم أخبره ! ربّما لم يخبره ، وربّما لم يصدّقه أيضًا إن كان قال له .. لكنّ طلبه أن يقابلـه أخيرًا يكفيه الآن ، إن علم وصدّق فلن يملك من زمـامِ سعادته شيئًا ، وإن لم يعلم أو لم يصدّق فسيقنعه هو ! يكفِي أنّه وافـق أن يراه بعد المرات الكثيرة التي كـان يتّصـل بِه ولا يرد . .
ضرَب مزمار السيارةِ بغضبٍ وهو يصرخ دون أن يستطِيع السيطرة على علوّ صوته : تحركوا يا حمييييييييييييييييييييييير
وضـع رأسه على المقودِ وهو يتنفّسُ بسرعة ، الزحـام يشقُّ أنفاسهُ ليغـرق في اختناقِه الآن ، السمـاءُ تقترب ، بشمسِها وحرارتها فيذوبُ في وقتِ اشتعالين ، يشتعلُ داخليًا ويشتعلُ من الخـارج، حتى التكييفُ لا يبدّد حرارةَ الشمسِ أو يقلّصها .. لا يُبخّر هذا اللهب . . . رفـع رأسه وهو يسمَع صوتَ المزاميـر من خلفِه، انتبـه لكونِ الزحـامِ قد تناقـص تدريجيًا والسيارة التي أمامه تحرّكت منذ لحظاتٍ ولم ينتبـه ، تنفّس بحدةٍ وهو يحرّك السيارة، يمسحُ على وجههِ ويهمسُ باختناق : انتظرني شوي .. انتظرني . . .

في جهةٍ أخـرى .. اتّكأ على إحدى الجُدرانِ وهو يرفـع رأسهُ للأعلـى ، يحاول أن يضبط أنفاسـه ويرخِي صدرهُ المشدود . . . شكرًا يا الله .. شكرًا لأنّك مددتنِي بالحيـاةِ حتى هذهِ اللحظـة ، لمْ أمُت قبل أن أعـرف الحقيقة، لم أمُت وأنا غارقٌ في خيبتِي وحزنِي ، لم أمُت وأنـا أرآه في إطـارِ صورةٍ كـاذبـة .. حصحص الحق! بعد أعوامٍ وأشهرٍ أمضاها بوجعٍ لم يذُق مثله طول حياتِه ... ماذا لو كان في حلمٍ الآن؟ ماذا لو أنّه يتوهّم هذا من شدّةٍ لهفتـه له .. ربما مازال نائمًا بعدَ كلمـاتَ أدهم في الليلـة الماضية ويحلم أنّ كل شيءٍ كـان كذبًا . . . أغمضَ عينيها وهو يفرجُ شفتيه قليلًا ، يهمسُ بتضرّعٍ وخشوع : لو كان كل ذا حلـم .. يا رب لا تكتب لي أصحـى .. خذني إليكَ أخذ عزيزٍ مقتدر . . .
لو كـان شاهين قد خذلـه فعلًا ، لم يعُد يريد هذهِ الحيـاة وقد ذاق نشوةَ الوهمِ الآن .. لا يريد الانكسـار من جديدٍ بعدَ حلمٍ ومنـام !
تأخّر كثيرًا .. تأخّر وإن كـان في الحلم .. عقدَ حاجبيهِ وهو يفتحُ عينيهِ وينظُر لساعةِ هاتِفه ، ربّما لم ينتبه لرسالتِه ! يا للغبـاء ليته اتّصل ! لكن هل كـان سيقوى على سمـاعِ صوتِه دون أن ينخرطَ في انفعالاتِ صدره ويموت هذهِ المرّة؟!
مرّر لسانه على شفتيه بأسـى .. يجب أن يتّصـل بِه ، هو مستعدٌّ لذلك ، يجب أن يتّصل بهِ حتى يأتي .. لم يعد يتحمّل هذا الشوق .. يريد أن يراه ومن ثمّ يُحلُّ كلّ شيء ، أن تنتهي هذهِ المعضلات ، أن يرى أمّه أيضًا . . اشتاق لهم! هذا الشوق لم يعُد يُحتمـل .. اشتاق لشاهين ، من بعد الحقائق التي تُليَت على مسامعه شعر أنّ شوقه إليه أصبـح قاتلًا ، ولِد هذا الشوق من الخيبـة ، لذا يكادُ يقتله.
رفـع هاتفه بأعصابٍ نفَدت ، قرّر أن يتّصل بِه، لا يجزم أنّه رأى رسالته .. ربّما نائمٌ أو مشغولٌ بشيءٍ ما ، ربّما . . . لكنّ شاهين لا ينـام في هذا الوقت!
ابتسـم ، لازال يحفظُ عاداتِه ، لا ينـام في هذا الوقت ، لا يُحبّ أن يرتدي قميصًا أثنـاءِ نومِه ، لا يستصيغُ مشتقّاتِ الألبـان، يتحسّس جسده من البيض ، يتذكّر التفاصِيل وكأنها لـه .. لازلت أحفظكَ كاسمـي رغم السنواتِ التي مضَت ورغمَ الأشهر التي بُنيَت بيننا وأنا " حاقد "!.
اتَجه لرقمـه وهو يبتسم دون أن ينتبـه لذلك ، يبتسم بشوقٍ ويبتسم لهفةً ليكونَ معه أخيرًا كما كانا منذُ طفولتِهما . . نظـر لاسمه للحظـة ، لكنّه تراجـع عن الاتصـالِ بهِ ما إن سمـع صوتَ سيارةٍ تتوقّفُ بعنفِ جعل إطاراتِها تصرخُ بألمِ الاحتكـاك . . رفـع رأسـه ليعقدَ حاجبيهِ ويتنفّس باضطرابٍ ما إن رآه .. ترجّل من السيـارةِ وهو ينظُر لهُ بانفعـالٍ مُفاجئ ، كـان هناك غضبٌ في عينيه، كـان هناك عتَب .. لم يكُن متيقّنًا في هذهِ اللحظـاتِ أنّ متعب علِم .. لذا غرقَ في عتابـه الصامت .. بينما تنهّد متعب وهو يشعر أنّ أنفاسـه تتّجه للبعيدِ ويختنق . . ينظـر لهُ وهو يقتربُ منه ، يرى الغضبَ في عينيه .. لو ضربه الآن لن يعترض ، فهو ضربـه يومَ التقى بِه قبل أيـام ، ليضـربه حتى يرضـى عن نفسِه ولن يرضى! سنينٌ مرّت وهو ظـالمْ ، ليضربـه على ظلمـه ويردَّ إليه أنفاسه الآن ، أنفاسـه التي غادرته بينما تجمّدت أرجله عن الحركـة.
وقفَ شاهين أمامه مباشرةً وهو يشدُّ على شفتيه ، يضيّق عينيه قليلًا ، ومن ثمّ يلفظُ بغضبٍ وانفعـال : ما أدري إذا الورع اللي معك علّمك بكلامي أو لا .. بس يكفّيني إنّك قدامي الحين عشان أدخّل الكلام براسك وأخليك تصدّق غصب عنك . . .
ارتفـع صدره بانفعالٍ لينخفضَ ويردفُ بأسى : مدري الشرهة عليك والا علي .. كل هالسنوات اللي تعدّت الثلاثين ومع كِذا ما تثق فيني؟!!!!
ابتسـم متعب دون ردّ ، عينيهِ تلتمعــان ، لم تعُد بذاتِ الظلامِ الذي رآه فيها لأوّل مرةٍ بعد سنين .. عقدَ شاهين حاجبيه، شعـر بأنّ أضلعه تصدأ وهو يرى تلك النظـرة الغريبـة في عينيه، النظـرة التي كـانت صافيـةً من ذاك الحقد و . . .
انقطَعت سلسلـة أفكـارِه حينَ ارتفعَت كفُّ متعب، ضغطَ بسبّابته وإبهامِه أعلى أنفِه ، ابتسم ، بل ضحكَ ضحكـةً قصيرةً ومن ثمّ همـس دون تصديق : يا الله !!
شاهين برجـاءٍ وهو يظنّه يسخر منه بتلك الضحكـة : متعب !
متعب يخفضُ كفّه وينظُر نحوهُ بابتسـامةٍ مجروحـةٍ بسنينَ الخداع ، همسَ بتحشرج : كسرَت ظهري هالكذبـة . .
بهتتْ ملامح شاهين ، لم يستطِع أن يستنبطَ من كلمـاتِه فكرةً تُريحه ، لم يستطِع أن يفهم إن كـان يعني كذبه هو " بظنّه " أم يقصد الخدعـة التي سقطوا فيها .. لم يردّ وهو يميل فمه بأسـى ، بينما اتّسعت ابتسامـة متعب، اقتربَ منه فجأة ، وحين همسَ شاهين برجاءِ عميق بـ " تكفى " كـان متعب يقاطعـه حين انحنى برأسهِ ليضعه على كتفِه فجأة .. أثقلته الأيـام والليالِي ، النهاراتِ الصاخبـة بتأمّلاتِ السمـاء .. لكم رآهم في صفيحتها وأحبّها لأنها الشيء الوحيد المشترك بينهم ، كـان يلومُ فارقَ الوقتِ البسيط ، الصلواتِ التي يصلّيها في وقتٍ غير وقتهم ، الأرضُ التي تخضرُّ في بارِيس بينما صحراءهُ هنـا كانَ يحبّها أكثـر ، يحبّ لونها الرمليّ ويحبّ حرارتها التي تغوصُ أقدامه فيها .. كانت السماءُ وحدها من تصله بهم ، وكانت الخيبـاتُ تثقله حتى باتَ منكسرًا .. يحتاجُ كتفَه ليستندَ عليه ، يحتاج وقوفه الآن أمامه وبجانِبه وخلفه! يحميه من حزنه ، يحميهِ من ضيق صدره ، يحميه من كلّ الذي وأدَ الضحكـةَ على فمه.
استندَ برأسِه أخيرًا على كتفِ أخيـه دون أن تخالجُه مشاعـر حقد، دون أن يبـالي بالتعرقلاتِ التي بينهما، دون أن يبالي بالذين وضعوا هذهِ العقبـاتِ بينهما ودون أن يفكّر بمعضلة أسيل في هذهِ اللحظـة ، وضـع رأسه على كتفه ، وهو يهمسُ بصوتٍ يختنق، بصوتٍ متحشرج، بصوتٍ مشتاق : وحشتنـــــــــي !!

.

.

.

انــتــهــى . . .

وموعدنا القادم راح يكون الجمعـة إن شاء الله ، ومن ثمّ بتثبت المواعد على يومي الأحد والأربعاء . .
+ عذرًا منكم على التأخير، وقراءة ممتعة . .

ودمتم بخير / كَيــدْ !



 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
قديم 10-07-16, 10:36 AM   المشاركة رقم: 848
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Sep 2010
العضوية: 190192
المشاركات: 574
الجنس أنثى
معدل التقييم: أبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 748

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
أبها غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي

 

شكرا كيد على الجزءين ..

فعلا الموقف الذي انتظرناه كثيرا وتمنيناه
جاء .. معرفة متعب ببراءة شاهين ولقاءهما
الذي لن يكون لقاءً عادياً .
أجمل كلمة نطقها متعب هي كلمة وحشتني ..
معبرة عن مدى الشوق واللهفة والحب .
بانتظار بقية اللقاء وردة فعل شاهين
مرة أخرى شكرا لمبدعتنا كيد
🍃🌸🍃

 
 

 

عرض البوم صور أبها  
قديم 15-07-16, 06:31 PM   المشاركة رقم: 849
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئ مميز


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 174082
المشاركات: 4,031
الجنس ذكر
معدل التقييم: fadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسي
نقاط التقييم: 4492

االدولة
البلدLebanon
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
fadi azar غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 

رائعة جدا واخيرا عرف متعب برائة شاهين من كل الاكازيب

 
 

 

عرض البوم صور fadi azar  
قديم 15-07-16, 08:37 PM   المشاركة رقم: 850
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jun 2014
العضوية: 267722
المشاركات: 575
الجنس أنثى
معدل التقييم: كَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عاليكَيــدْ عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 947

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كَيــدْ غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كَيــدْ المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر

 





سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية


شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام ويجعل هذهِ الرواية شاهدة لي لا علي :$$ ، عسى بس تظل البارتز ترضيكم، هالبارت واللي قبله ما أرضوني من ناحية الطول والأحداث ضاق وقتي، بس إن شاء الله تختلف عندكم النظرة.

+ بنات الكِك خاصـةً اللي مرسليلي من أيام وما رديت، هاليومين ما أقدر أرد عليكم ، جوالي يعاني من مشكلةٍ ما :( وما أقدر أدخل الكِك من ثاني لأنه غالبًا تروح الرسائل مع أي دخول جديد حتى لو بنفس الجهاز ... راجعة لكم ()

بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !

لا تلهيكم على العبادات

حبايبنا وطاحت مِنْ غُصُون العمر ذكراكم
حبايبنا وِنَاحَتْ مِنْ غُصُون الذّاكِرَه وَرْقَا
تعبنا نِشْعِل التّلوِيح فِي عتْمَات مِينَاكم
ولا رجّع لنا " انتُم " ولا أحْلَامَنَا الغَرْقَا
وِرِحْناَ نْصَافِح اصْوَرْكم رِسَايلْكم هَدَايَاكم
إلَىْ مَافاح عِطْر اشْيَاءَكم بِكْفُوفِنَا العَرْقَا
حَبَايِبْنَا وِكِلْ مَا اعْشُوشَبَتْ لحْظَه بِطِرْيَاكم
تطيح دْموعَنَا منْ شانِكُم ولْشَانَكُم تَرْقَا !
رحَلْتُوا والطّريق الْ بَرْوز آمَانِيه بِخْطَاكُم
يِمُوت مْن الأسَى مِثْل الأمَانِي لِيلَة الفَرْقا !


* العنود عبدالله

(76)*3




في وقتٍ سـابق – وبعدَ مضيّ نصفِ ساعةٍ من زمنِ " العناق ".
غُربـة ، وتوحّدٌ في حالـةٍ لا مرَضيَّة، يزورها البهوتُ وهي تجلِسُ كطالبٍ في سنتِه الأولى، يجهل المكـان ويجهلُ النـاسَ من حولِه ، يجهـل الوجوهَ ويجهلُ تعاليمَ التواصـل .. توجسٌ في نظراتِها كان يؤلمُ أمّها أكثـر ، تبتسمُ لها وهي تضعُ كوبَ الحليبِ أمامها وتلفظَ برقّةٍ حزينة : اشربيه كلّه .. هذا تعويض عن سنواتْ صغرك اللي شربتِ فيها من يد الخدامـات.
ابتلّعت ريقها بصعوبـةٍ وحيرة، نظـرت للكوبِ والضياعُ يوخز نظراتها وكأنها تستنكرُ ما تراه، ترى شيئًا لم تعتده ، هل هنـاك أمٌ تقدم لابنتها كوبًا من الحليب؟ غير كوبِ صدرِها، وغير اللذعـة التي كانت توخزُ لسانَ طفلةٍ من " فلفلٍ " أكلته ولم تبالي بأنّها مُرضِعةٌ لصغيرها؟ .. هه ! . . . لحظة ، كونها كانت طفلةً لم تكُن لتتذكّر الآن شيئًا كهذا .. لكنّ أمًا بإهمالٍ كالذي تراه سترى الفلفلَ مجرّد – نكهة - ! حتى تعتاد صغيرتها بعد أن تكبـر ، تكبر قليلًا قليلًا ، وتشيخ بسرعة .. على لذعة الحياة !
ظلّت تنظُر للكوبِ بصمتٍ وتيه، لم تستوعبْ الفراغَ من حولِها حتى شعرت فجأةً بجسدِ أمّها بجانِبها ، انتفضَت لتنظُر لها بتوجّس، حينها ابتسمت أمّها بأسى وهي ترفـع كفّها، تضعه على شعرِ غزل الحريريّ بأمواجٍ متباعدة والذي أطلقته على ظهرها بعد لحظـةٍ من جلوسها كصورةِ اعتـياد .. لطالمـا كانت سجينـةَ حياةٍ بائسة، لذا نطقَت بتحررٍ سطحي ، من خلالِ شعرها ، ملابسها ، وعلاقاتها !
ابتلعت ريقها بتوترٍ وهي تشعُر بكفّ أمّها التي كانت تمسح على شعرها ، بينما انزلقَ صوتها من بينِ شفتيها لتهمسَ بنبرةٍ حنونة ، أقـرب للرجـاء : اشربيه . . !
وجّهت نظراتها باضطرابٍ نحوَ الكوب، نظـرت لهُ وكأنّ هذا الحليبَ هو الفاصـل، هو البـاب أو المفتـاح ، لحيـاةٍ مختلفةٍ مع هذهِ الأم .. كأنّ هذا الكوبَ الآن إن شربته فستجرّب طعـم شخصيّةٍ جديدةٍ من الجالسـة بجانبها . . . ظلّت تنظُر لهُ بتردّدٍ للحظـاتٍ قصيرة ، لم تطُل أبدًا ، وفي اللحظـة ما بعد الانتظـار القصير كانت يدها تمتدُّ دون إرادةٍ منها، وكأن عقلها البـاطن أراد في هذهِ اللحظـة .. أن ينصـاع لمقبضِ الباب، ويفتحه !
رفعَت الكوبَ لفمها، بينما كانت امّها تبتسمُ وهي تنظُر لها ويدها لازالت تمسحُ على شعرها، ارتشفَت أوّل رشفـة، لتتّسع امها ببسمتها، وتبتلـع غصّة، مرّةً كالعلقـم ، بينما عينيها لا زالتا ملتهبتينِ منذ أكثر من نصفِ ساعـة، لازالتـا تبكيانِ بحُمرتِها.
تجمّدت كفُّ غزل بعيدًا عن فمها، كـان واضحًا لعينيها أنّها لم تعد تريد أن تُكمـل مافي الكوب، وهذهِ المرّة كان الجزء المُمتلئ من الكأسِ هو السلبياتُ بعينِها ، لذا وجدَت نفسها تلفظُ بنبرةٍ خافتـةٍ تحثّها على اكماله : اشربيه كلّه ..
نظـرت لها غزل بربكـة، لكنّها سرعان ما شتّت عينيها وهي تهمس : لا خلاص . .
امها بإصرار : لا لازم تكملينه !
لم ترد، ورغمًا عنها كانت كفّها ترتفعُ أخيرًا لتُكمـله قسرًا، بالرغمِ من كونِها تشرب مجرّد حليب ، إلا أنّ أمّها شعرت بِها تشربُ منـها مشاعر كثيرة ، ترتشفُ منها الكثير من الحسرةِ وتبصقها، بينما وضعَت غزل الكوبَ بصمتٍ بعد أن أنهَت ما فيه، ومن ثمّ مرّرت لسانها على شفتيها، وحين مدّت يدها نحوَ المناديل تريد أن تمسحَ أيّ أثرٍ للحليبِ كانت امّها تلفظُ بعجل : لا خليك!
نظـرت لها غزل باستنكـار، لكنّها سرعان ما ارتبكَت من جديدٍ وشتّت عينيها، نهضَت أمّها لتقتربَ من الطاولـة التي كانت غريبةً من غـزل، عقدَت حاجبيها وهي تنظُر نحوها بفضولٍ تريد أن تعرف سبب تحرّكها للطاولـة، رأتها تقطِف منديلين، ومن ثمّ تقتربُ منها . . أجفَلت ، واتّسعت عيناها بصدمةٍ وهي تشعُر بالمنديل يلامِس فمها، صُدمَت بغرابـة ردّة فعلـها هذِه، وحين تراجعَت كي تهربَ من يدِها كانت امّها تُمسكُ بكتِفها بكفّها الاخرى وهي تهمس : لا تتحركين ... خليني !
عنقها تشنّج، قلبها شعرت بِه يصدأ وصدرها يرتفعُ بنفَسِها الحـاد ، حرارةٌ ارتفعَت في الهواء، شعورها أنّ هذهِ اللمسـة محرّمةٌ بغرابتِها! غريبـة ، نعم غريبـة ! لم يذقها جلدها قبلًا، وكان الانطبـاع الأول أن مذاقها " لا يُعبّر عنه " ..
نظـرت بعينينِ باهتتينِ لملامِح والدتها التي ابتعدَت وهي تبتسم، بينما كفيّ غزل مسندتانِ على الأريكة، جسدها مشدودٌ لخلفٍ في صورةِ صدمةٍ باهتـة . . لفظَت امها بخفوت : ما أقدر ألومك .. ولا لي حق ، شلون صحت على حالي أصلًا؟ ما أدري ! بس من فترة طويلة ، من فتـرة .. من يوم ما غلطتِ . . . وأنا متحسرة عليك! متحسرة عليْ وعليك .. ومن كثر غبنتي كنت أضربك لين رحتي له ، للرجال اللي عرف شلون يسعدك ، وأنا أمك وهو أبوك عجزنا. لا! ما كنا عجزانين ، كنا بس .. متخاذلين ! متخاذلييييين حيـــــــــل يا غزل.
تنفّست بتحشرجٍ وضياعها يزيد بكلماتِها، صوتِها .. ما الذي تريده؟ بعد السنينَ وبعد دهرين ، بعد مرورِ أكثر من أربعةٍ وعشرين عامًا . . ما الذي تريده الآن بكلماتِها هذه؟ صحوة! هل هذهِ صحوةٌ متأخّرة! كيفَ تصدّق؟ بل لمَ الآن تشعر بالرغبـة في البكاء! بعد أن اعترفت أمّها بتخاذلها في اعتنائها بها .. لمَ تشعر أنّها تريد أن تبكي؟ لمَ؟!!
شدّت على طرفِ الأريكةٍ بأظافرها حتى شعرت أنّها ستخلعها من جلدِها، بقيَت تنظُر ببهوتٍ لها .. لا تصدّق أنّها اليوم عانقتها وبكَت! جعلتها تشرب " حليبًا " من يدِها، ومن ثمّ مسحَت لها فمها من آثـارِه ، ما الذي يحدث؟
أمسكت أمّها كتفيها ، ومن ثمّ ابتسمَت بأسـى .. لتهمس : مبسوطة معه صح؟ يائسة من ناحيتنا ، خلاص مافيه شيء يتصلح بيننا ومشاعرك صعب أكسبها .. بس مبسوطة معه صح؟ عرف شلون يسعدك؟
كانت تائهةً في عينيها، غادرها نصفُ الوعيِ وبقيّ نصفه الذي دفعها لهزّ رأسها بالإيجاب دون أن تلفظَ بكلمـة، تذوبُ بين كفيها وتشعر أنّ حرارتهما تصهرانها، لكنّها حرّكت رأسها بآليـة حبّها له ، وأجـابت.
ام غزل تبتسمُ بأمـل : دريت من أحمد عن آخر شيء قلتيه له .. كان الموضوع فيه التبـاس؟ أقصـد موضوع عبدالعزيز!
انتبهَت للصدمـةِ التي ظهرت على ملامِح غزل ، تراجعَت للخلفِ بنفضـة ، أشاحت وجهها عنها وشفتيها بدأتا بالارتجاف للحظـةٍ لتزمّهما أخيرًا، حينها عقدت امّها حاجبيها قليلًا ما إن رأت ردّة فعلها تلك، وبخفوتٍ متساءل : ما صار بينكم شيء؟ ما غلطتي معه مثل ما قلتِ لأحمد صح؟
ابتلعَت غزل ريقها، لم تتوقّع أبدًا أن تسألها أمّها عن ذلك، ظنّت أنّ عائلتها المزعومـة ستنسى بعد سلطـان، وبعد كذبتها تلك ! . . لم ترد، حينها تصاعدت شكوك امّها أكثرًا، تشنّجت ملامحها، ضاقَت عيناها، بينما فكرةٌ واحدةٌ فقط طرأت على عقلها لتنزلق من طرفِ لسانها دون شعور : سلطان دخل عليك؟!!
تحرّك حلقها بربكـةٍ وصدمةٍ من أسئلتها هذِه . . لم تُجِب، لكنّ ربكتها، اضطرابها، رجفـة جسدها . . كانت إجاباتٍ كافيـة .. إجاباتٍ جعلت امّها تشهقُ وتتراجـع للخلفِ وهي تضعُ كفّها على فمها ، وباضطرابٍ مُتسائِلٍ وصوتها يخفت أكثر : طيب ... يدري؟!!!
زمّت شفتيها، وجهها وجّهته إليها، نظـرت لها هذهِ المرّة ، بعينينِ منكسرتين ، بأهدابٍ طويلةٍ تنعكـف، ببشرةٍ شحبَت حين تراقصَت الإجابـة عليها .. نظرت لها نظرةً تكفيها كي تقول لها " لا ، قاعدة أكذب عليه ، ما يدري! محسن ظنّه معي وما يدري " ، ولكَم تجِدُ هذهِ الفكـرة موجعةً لها، تجدها الفكـرة القاضيـة، السيفَ الذي بتـر ذراعي السعادة فلم تعانقها، سلطـان من بينِ كل أحداثِ حياتها " المُعدمة " كان الأجمـل، كان الأنقـى، كـان الربيـع بعد شتاءٍ بارد، وأنا كنتُ أيلُول، أمطرتُ عليهِ بخريف الكذبات، أمطرتُ عليهِ بزهرِ الخداعِ الجاف، كنتُ الفصـل السيء، الشاحب، كنتُ كلّ التعاليـم الميّتـة في الخريف، كنتُ المماتَ وأنت الحيـاة يا سلطان ، كنتُ الظـل وأنت الشمـس، كنتُ الثيـابَ المبتلّةَ والمتعجّنـة بغسيلِ الخداع وأنت المشابك التي حملَت كذباتِي على حبـل الحياةِ الزائفـة هذِه، كنتُ المشتقّات السيئة، وأنت الخيـر بعينِه . . .
أغمضَت عينيها بألمٍ قرأته أمّها ، اهتزّ صدرها بأسـى ، لا تصدّق أن ابنتها بالفعـل لازالت تجري في هذا الذنب وأنّها لم تكُن بريئةً منه! لا تصدّق أنّها تعيشُ حتى الآن على بابِ سلطان، تتمنّى منه ماذا!! قبولًا؟ هل تنتظر من سلطان القبول وهي حتى لم تخبره؟! هل ستسمح لها بإخبـاره؟! لا ... لن تجِد في ذلك الراحـة ، سيسحقها ، بالتأكيد لن يصمت على أشهرٍ قضاها وهي تكذبُ قربـه وعليه.
لم تشعر بنفسِها إلا وهي تضمّها بقوة بعد أن رفعتها، تتنفّسُ بعنفٍ وهي تنظُر للجدارِ من خلفِ غزل، تهزُّ رأسها بالنفي، بينما كلماتها تخرج من بين شفتيها منفعلـةً بذعرها : اتركيــــــه ... اتركيه يا غزل ، اتركيه وأنا بحطك بعيوني لين ما تبدأين من جديد !!!
فرّت دمعـةٌ من مقلتها، قوّست فمها، بحزن، بخيبـة، بانكسار، بخسارةٍ ملأت كيانها بالفراغ !! . . ارتفعَت كفّها، وضعَتها على صدر امّها دون شعور، بينما صوتُها ينسدلُ كستـارٍ على مسرحِ الأمنيـاتِ التي وُئِدَت " بانتهى "، على مسرحِ المواقفِ الظمآنة، على اللحظـاتِ المبتورةِ بنهاياتٍ سعيدة : أحبـــه !
عضّت امّها شفتَها بقوّة، خشيَت عليها من الحب، خشيَت أن تكون وقعَت بالفعـل ، خشيَت ذلك وحدث! . . شدّتها إليها، بينما همسَ صوتها بحسرة : الحب ما يودي ولا يجيب .. الحب ماهو كل شيء يا غزل!
غزل بغصّة : أحبه .. وما أتخيل حياتي بدونه .. أحبه وأتمنى لو الوقت يرجع لورى ، شوي بس! شوي . . ليه ما نقدر؟ ليه ما نقدر نغيّر في الزمن ونتحكّم بمصيرنا؟ نشوف إذا اللي بنسويه صح أو لا ، وبعدين نرجع ونعدل!
أغمضَت عينيها، وبنبرةٍ خافتـة وهي تمسحُ على شعرها بأسـى : مافيه هالشيء يا غـزل .. اللي يروح ما يرجع ، واللي يموت ما يولد !! ما يولد من جديد مثل ما ولد أول مرّة !
غزل تكرّر بحسرة : ليه ما نقدر؟ ما تعطينا الحياة هالفرصـة! ما تعطينا هالخيار !! أقلها تعلمنا الخطوة ذي صح ، والا بتطيّحنا ومحنا بواقفين من بعدها !! ...
امها بخفوت متأسّي : غزل !
غزل بإعيـاءٍ قد بدأت بالبكـاء، تتشبّث بصدرها، أظافرها تكادُ تنغرسُ في جلدِها وصياحُ قلبها هذهِ المرّة يهوي . . لم تستِطع أن تبكِي كما تريد في – منزلها -، قريبًا من سلطان، لم تستطِع أن تبكي وتتحدّث عن سوءاتِ ما في صدرِها بوضوح، لم تستطِع، لأنّه سلطـان ، الذي لا تريد خسارته ! لذا وجدَت نفسها الآن تنفجر، وجدت نفسها الآن تبكي كما يجب، بحجمِ مصيبتها وبحجمِ خسارتها الكبرى .. كيف تحتمل أن تخسره؟ كيف قد لا تنهضُ في يومٍ ولا تجدُ عينيهِ لتشرق كأوّل شمسٍ لها، كيف لا يوقضها لصلاةِ الفجـر التي تتغيّب عن موعدها كثيرًا ولا تستمع لرنينِ منبّهها لأجلها؟ كيف ستؤمـن كما يجب ، ومعلّمها ليسَ معها؟ كيفَ تخسره وتخسر قلبـه؟ كيف تستطِيع تخيّل كلّ ذلك . . ولمَ كان هو النقيّ من كل البشر، جـاءها متأخرًا، ليته جاء أبكر! ليتـه!!
لفظَت بصوتٍ يختنقُ بتعاليمِ البكاء، باهتزازِ أحلامها التي تداعَت وتحطّمت ، بكلماتٍ تتلاشى خلفَ غمائمِ الاختنـاق : يا رب عيونه يا رب ! كيف أصحى بيوم وما ألاقيها؟ يا رب صوته كيف ما أسمعه بيوم؟ شلون أبعِد شلون؟ ما أقـدر والله ما أقـدر . . . بس شلون أكمّل كذبتي؟ أخدعـه وهو نقي .. ماهو مثلي كلّي ذنوب .. ماهو مثلي!!
رفعَت وجهها المغطّى بالدموع، نظـرت لملامحِ أمّها المنكسرة، وبعذاب : تدرين يمه وش سويت فيه؟ كذبت .. قلت إنّي مُغتصبـة وكذبت .. وهو صدّقني! صدّقني لأنه نقي .. وقبل فيني .. رضى فيني وما شافني ناقصة!! .. شلون يا رب .. شلون أكمل كذبتي وشلون أعيش معه؟


،


بهمسٍ يختنق : وحشتنــي .. وحشتني اليوم أكثر ، وحشتني بهالساعات اللي انتظرت فيها أكثر .. وحشتني في دقائق عن سنين ... لأنّي قبل ، ما كنت عايش وما كنت موجود عشان أشتاق وعشان أحس! وحشتوني اليوم ، وحشتــوني عن سنيني كلها وعن هالعمـر . . .
تنفّس بقوّة، هذهِ المرّة تنفّس وهو يشعر أنّ الحيـاةَ عاودته كما عاودت متعب ، كما عاد إليهم وكما حلّت المعجزةُ الجميلـة عليهم، تنفّس . . وشعر أن الضيقَ كلّه يغادره، شعَر أنّ عينيه اللتين ضاقت فيهما الوسيعـة توسّعت ، أنّه الآن يستطيع أن يفرح ، يستطيع أن يبتسم، يستطيع أن يصرخ في الدنيـا كلّها أنه عـاد إليه ، أخيرًا عـاد .. متعب بالفعلِ حيٌّ وبالفعـل عاد . . أيّ كلماتٍ تصفُ مشاعره الآن؟ أيّ كلمـات؟ أيُّ هويّةٍ ينتحلها في هذهِ اللحظـة تستطِيع أن تحتمـل هذهِ الفرحـة؟ هذهِ الفرحـة التي لا تملأه بل تفجّره .
يتنفّس في هذهِ اللحظـةِ بقوّة ، يرتفعُ صدرهُ وهو يغمضُ عينيهِ براحـةٍ ويبتسم أخيرًا، بينما هتفَ متعب بخفوتٍ وهو يغمضُ عينيهِ فوقَ كتفِه : آسف .. حقّك علي وآسف . .
أردف قبلـةً على كتفِه بعد كلمـاتِ الاعتذار، حينها انتفضَ شاهين وهو يمسك كتفيه ويرفعه، ينظُر له بانفعـال، بأنفاسٍ تتصاعد، والأدرينـالين يتصاعدُ في صورةِ انفعالٍ قصوى ، يعقدُ حاجبيهِ ورئتيه تكاد أن تنفجر، يهزُّ رأسه بالنفي، ومن ثمّ يلفُظ بتحشرجٍ واشتياق : لا .. ما تعتذر ، أنت ما تعتذر مني ! ما تعتذر يا متعب دايم قدرك رفيع عندي.
ابتسمَ متعب ابتسامةً كالطيف، حزنٌ وفـرح، كلاهما نثرا بريقهما على عينيه، حزنٌ وفـرح، كلاهما عانقاهُ في هذهِ اللحظـة . . بينما اقتربَ منه شاهين ليقبّل جبينه أخيرًا، يستنشق رائحته التي اشتاقها والتي لم تتغيّر ، وباختنـاق : الحمدلله على سلامتك .. الحمدلله على رجعتك اللي تسوى عندي الدنيا وما فيها .. يا الله ما تدري شلون أنا مبسوط الحين وأحس إنّي بحلم !!
ضربَ كتفهُ بخفّةٍ ليُردفَ هامسًا : حيوان للأبد ... عذبتني هاليومين .. تفكيري كلّه فيك ، فداك والله فداك ... الحين بقدر أرضى على الكلب ذاك اللي اسمه أدهم.
ضحكّ رغمًا عنـه ليعضّ شفته أخيرًا ، لا يصدّق ما يجري الآن، لا يصدّق أنّ عينيهِ الآن تعانقانِه بعد سنين .. لا ! بل لم تكُن ، قالها الآن ، تلك السنينُ لم تكُن وأنا لم أبتعد، أنـا مُتُّ لبعضِ الوقتِ فقط ، وعُدت ، عدتُ إليكم اليوم، عدتُ بعد أن عادَت الحيـاةُ تنبضُ فيّ عبـرك أنتَ يا شاهين ، عدتُ أخيرًا وكان عودتي مفتاحها أنت ، وعودتي أحمدُ !
همسَ بغصّةٍ تكادُ أن تفتّت حنجرته : ترى ما أرضى عليه.
شاهين يبتعدُ عنه وهو يمسك كتفيه ، وبابتسامة : خلك منه أبو لسان فلتان ذاك .. دامك خلاص دريت بعرف الحين أتصرف معه بعد ما انتهت مصلحتي عنده .. والله ما أمشي له السبة اللي قالها لي.
متعب يعقدُ حاجبيه : وش قال من مصيبة بعد؟!
شاهين يضعُ سبابته على فمه بعبث : شيء ما ينقـال للصغار .. اششششش
ضحكَ متعب وهو يشعر أنّ أيَّ شيءٍ اليوم سيبثُّ الضحكـةَ على فمه، أحاطَ عنقـه ليشدّه إليهِ بقوّةٍ وهما الآن يعودانِ بسرعةٍ لأيامِهما السابقة، يتجاهلان في لحظاتِ اللقـاء الأولى التفسيرات، المُعضلات، ما بقيَ بينهما ، يتجاهلانِ كلّ شيءٍ الآن ويعيشانِ لحظـاتِ اللقـاءِ - الأولى - والشوق.
شدّ متعب بذراعِه على عنقِ شاهين بقوّة وهو يشدُّ على أسنانه، وبتهكّم : ما ينقال للصغار؟ تدري ! أنا اللي بربي أدهم على اللي قاله ما يصير يقول كلامه الوصخ عندك .. توك بزر بعدين تخرب . . . وترى والله اشتقت لك ، وأعتذر !
قالها وهو يرخي قبضتـه على عنقـه، لم يستطِع السيطرةَ على فيضِ مشاعره أكثـر ، لم يستطِع أن يكبـح آلامه، أن يمضي الآن ويبتسم فقط، دون عتـاب السنين، دون انجرافاتِ الخيبـةِ منذ أشهرٍ طويلـة، دون حرقةِ الشكوكِ وأشواكِ الحقد، دون أن يعاتب نفسه .. ويطلب منه العتاب ! يريدها منه ، عاتبني ، عاتبني كي أخفف من ذنبِي، عاتبنـي، كيْ تنقشـع الدعوات و " حسبيَ الله عليك " التي قلتها لك قبلًا، عاتبنِي ولا تصمت، حتى أعرف ظلمـي أكثر، عاتبنـي ولا تصمت ، حتى أحترق ، ويرحـل ذنبي رمادًا .. لأرتاح، وأجده من جديد، يومَ القيامـة . .
قلتها قبلًا، نحنُ خصمان ، خصمـان وقد ظننت أنّك الظـالمُ وقتها ، لكنّني الآن أقولها بطريقةٍ أخرى ، أنا وأنت خصمانِ يومَ القيـامة ، وأنا الظالم هذهِ المرة ، أنا الظـالم .. فلا تسامحني حتى وإن اعتذرت لك ألفًا !!
زمّ شفتهُ بأسـى وهو يبتعِد عنه، رفـع كفّه ليضغطَ بسبابتِه وإبهامِه على أجفانِه المغمضة، ضحكَ ضحكةً خافتـة، ومن ثمّ لفظَ بخيبةٍ وهو يُخفِي حمرة عينيه الملتهبةِ بملوحتها : شفيني صرت حساس من بعد باريس؟ مدينة دلوعة .. من حقّي أكرهها.
تصلّبت ملامح شاهين بأساها، ابتلـع ريقه وهو يراقبُ الانكسـار عليه، كفّه التي يضغطُ بأصابعها أجفانه، والأخـرى يضعها على خصره، ابتسامتـه التي تنعكـف، بشرته التي تنسحبُ الحيـاة منها، وصوته الذي كان مختنقًا ... ليجعله في المقابل يختنق معه ، لافظًا بابتسامةِ عتَب : قلت لك لا تعتذر .. قدرك أكبر عندي من اعتذار وتفاهات ... من متى كنّا نعتذر لبعض؟
متعب يُخفضُ كفّه لواجـه شاهين بحمرةِ عينيه، اتّسعت ابتسامتـه بحزن، ومن ثمّ همـس : شلون كنت عايش هالفترة كلها بعذاب من العدم؟ لا .. شلون كنت ميّت؟ ميّت بهالعذاب يا شاهين؟! .. شلون صدّقت فيك؟ .. وحقدت عليك ، وتحسّبت ... وظليت أحبك فوق كل شيء !
شاهين ببساطـة ، لا يرى للعتـاب الآن مكانًا، عتابه الأول كان لأنه لم يصدّقه بعد، لكنّه الآن يموت ، العتـاب يموت ، ولا يريد أن يضاعفَ حزن متعب أكثر ، لذا لن يهتمّ لشيءٍ إلا أنه عـاد : الأخيرة تمحي كل شيء ..
متعبْ يهزُّ رأسه بالنفي، ومن ثمّ يقتربُ ليلفظَ بأمرٍ وهو يعقدُ حاجبيه : يلا اضربني مثل ما ضربتك المرّة اللي فاتت .. تحسب عليْ ، قول إنّي ظالم ، وإنّي خصمك .. ريّحني في الدنيا وخلني أتعذّب بالآخرة.
شاهين وحاحبيه يتمايلانِ برفض، لفظ : لأنّي أبي أريحك في الدارين حسبي الله على من كـان السبب .. وأنت الله يحللك من ظلمـي ، ماني خصمك طول حياتي ومماتي وبوقت الحساب.
متعب برفضٍ يغصُّ فيه صوته : ماني مرتاح كذا.
شاهين بشغب : تعال أضمك وترتاح .. حضنــي لك حنان ، يا زيني والله ..
متعب يبتسم رغمًا عنه، يئِد ضحكته ليلفظَ بحاجبينِ ينعقدان : اعقل .. لمرّة وحدة كون جدّي.
شاهين بضحكة : والله أنا جدي .. أبي أضمك بس خلاص كبرنا حسبي الله على الكبر . . . والا أقول ، ينقلع الكبر وينقلع كل شيء . . .
ضمّه بعد جملتِه الأخيرةِ مع ضربةٍ معتادةٍ لكتفِه ، ضحكَ متعب وهو يدفعه، وبامتعاض : خنقتني .. عييييب وخر الحين يفهمونا الناس غلط هههههههههههههههههه
شاهين بسخرية : والله؟ ما شاء الله أشوفك كبرت وصرت تقول عيب ! والا باريس خلّت تفكيرك وصخ لهالدرجة؟!
متعب : وجع يوجع العدو ... لسانك ما انقص للحين تراددني؟
شاهين : تعبيرًا عن الأشواق وش يعرفك أنت؟!
دفعه ليردفَ بابتسامةٍ متلاعبة : خلاص ريحتك خايسة أنا اللي اختنقت.
متعب يرفع حاجبه : قليل أدب ... أعوج ما تتعدل ..
في تلكَ اللحظـةِ ارتفـع رنينُ هاتِف، قـاطَع الضحكـة التي خلقَت بينهما من جديدٍ والبسمـة العطـرة بمشاعر ابتعدَت أميالًا عن الحقدِ أو الكـره . . تراجـع متعب وهو يبتسم، يخرج هاتفه من جيبِه بعد أن أدخله في اللحظـة التي رأى فيها شاهين ، قبـل أن يستندَ عليهِ ويكتبَ بذلك أنْ لا قاتـل لآلامِه إلا هو في هذهِ اللحظـات.
نظـر لشاشـة الهاتفِ لتميلَ ابتسامتـه أكثر رغمًا عنه، رفع انظـاره لشاهين الذي كان ينظُر له بترقب، وبتسلية : أدهـم.
تعجّنت ملامح شاهين تلقائيًا بغيظ : وش يبي ذا؟
متعب بتحذير : حدّك ترى ما أرضى عليه ..
شاهين يرفع حاجبه الأيسر : أييييه طاح كرتنا
متعب : ههههههههههههههه أبد أنت الأول دايم ... بس تعال خاطري ألعب فيه ، آخر مرّة ضربني حلفت أردها له وللحين ما رديتها.
التمعَت عينا شاهين بمكر : وأنا ودي آخذ بثاري منه بسبب سبّه لي هالوصخ.
متعب بحدة : لا تسبه . .
شاهين يسحبُ هاتفه وهو يهتف بنفاد صبر : طيييير بس والله لوريك فيه هات الجوال بس.


،


يقودُ سيّارته والهاتفُ يثبّته على أذنـه بيدِه اليُمنـى، بينما صوتُه يتدحرجُ مبتعدًا عن حنجرته وهو يلفُظ بتساؤل : نايمة؟
صوتُها جاءَ مرتبكًا من عُتمـةِ الاهتزاز، وصله ارتباكها بوضوحٍ ليعقد حاجبيه : أيه .. من ساعتين تقريبًا.
سلطـان بشك : شفيه صوتك؟ صار شيء لغزل؟
ام غزل بربكةٍ تشتّت عينيها : لا .. ما صار شيء ..
سلطان بحدة : تراني وافقت أجيبها لك لأني وثقت فيك ... وش صار لها؟!
ام غزل بجزع : لأنك وثقت فيني؟! ليه وش بسوّي فيها؟ بضربها وإلا بذبحها؟ خلاص كفايـة نظراتها لي وخوفها يذكروني بإهمالي وبعدم مبالاتِي فيها قبل! .. لا تزودها علي!!!
استرخَت ملامحه قليلًا، زفـر ليرخي قبضته اليُسرى عن المقودِ ويلفظَ بجمود : طيب وش فيها؟ صوتك يقول إنها ماهي بخير.
ام غزل بصدق : ما صار شيء .. كانت تبكي ونامت بس.
سلطان وحاجبيهِ يزدادانِ انعقادًا بتوجس : وليه كانت تبكي؟
ام غزب تبتلعُ ريقها بتوتر، تبحثُ عن كذبـةٍ ما، بعيدًا عن الحقيقة، بعيدًا عن كونِها بكَت حسرةً على حياتِها التي تدرك ضياعها معه، بعيدًا عن عينيها اللتينِ ذرفتا فقدًا وعشقًا . . . همسَت بحسرة : ماهي متعودة على وضعي معها .. أكيد بتبكي لأنّي أهملتها كثييير.
سلطـان بضيق : بجيكم الحين .. لازم أكون معها . . .
ام غزل بسرعةٍ وذعر : لا لا لا تجي .. تكفى سلطان خلني أنا بروحي معها ، أبي أكسبها وهذي فرصتي.
سلطان بغضب : تكسبينها؟ أنتِ تدرين إنها كل وقتها ضايق خلقها وتبكي؟ الله حسيبها طول هالسنين بنيتوا فيها هالشخصية الضعيفة واللي على أبسط شيء تنكسر! والحين تبين تكسبيها؟ بعد ما طاح الفاس بالراس؟ وين كنتِ من قبل؟!
رفعَت كفّها بألم، ضغطّت على عنقها وهي تشعر بحنجرتها تؤلمـها بتكثّف الغصّة فيها، أغمضَت عينيها بقوّة، وهي تدرك أن كلمـاتِه صحيحة، أنّ كلماته لا غبـار عليها ، ولأنها سبب هذهِ الانكساراتِ فيها، لن تتركها معه! ستُعالجها من حبّه، يجب على غزل أن تبتعد عنه بأسرع وقت، مكوثها قربه يعني انكسارًا أكبر، لن يقبل بها مهما حدَث، وهذهِ الكذبـة سينقطـع حبلها قريبًا، لذا يجب أن تُبعدها عنه بأسرعِ ما يمكن .. تكفي انكساراتٍ ويكفي ضعفًا ، لن تسمـح بحزنٍ آخـر لها.
بينما تنهّد سلطـان بعد اعتلاءِ صوته، أغمضَ عينيهِ لوهلةٍ ومن ثمَّ نظر للطريقِ بانزعاجٍ وهو يلفظ : من البداية مشجّعك على هالخطوة وأبيك تعالجين اللي بينكم .. بس تبكينها وتضايقينها أكثر لا !! هذا اللي ماراح أسمح لك فيه.
ام غزل برجاء : ما كان بخاطري أضايقها ... أبدًا !
سلطان : عشان كذا بخليكم هالمرة .. بس لو تتّصل علي بنفسها وتشتكي من جلوسها معك لا تلوميني وقتها.
أغلـق بعدَ كلمـاتِه تلك، ومن ثمّ تنهّد وهو يرمِي هاتفهُ على المقعدِ بجانِبـه، اقتربَ من وجهتِه/منزل عناد، وهو يطردُ سوءَ مزاجـه المفاجئ عنه، أوقفَ السيـارةَ ليضربَ على المزمـارِ يُنبئه بوصوله، " ماله خلق ينزل " ، لذا انتظـره وهو يعلم أنّه سيدرك أنّه هو .. مرّت لحظـاتٌ قبل أن يرى البـابَ يفتح، تحرّك عناد نحو السيارةِ وملامحه متجهّمةٌ بضيقٍ بارز، وقفَ أمام بابِ سلطـان ليخفضَ النافذّة ومن ثمّ يبتسم وهو يلفظ باستفسار : وش فيه وجهك مقلوب كذا؟
عناد يرفع أحد حاجبيه : حسابك عندي .. بس الحين علمني وش هالازعاج؟ تعيجزت نزل تسلم على امي وغيداء أو حتى تتّصل؟!
سلطان برودٍ وهو يشيحُ وجهه للأمام : مالي خلق .. اركب الحين بس ، سواق أبوك أنا؟
ابتسمَ رغمًا عنه ومن ثمّ تحرّك ملتفًّا حول السيّارةِ حتى وصل لبابِ مقعدِ الراكب الأمامي، فتح البـاب ومن ثمّ صعدَ ليغلقه من خلفِه ، مُردفًا بتهكّم : تحرك ، عشان أعرف أكفخك وما تقدر ترد.
ضحكَ سلطان وهو يحرّك السيارة، نظر نحوه ليهتف باستنكارٍ دون أن يفقد ابتسامته : شسويت لك أنا؟
عناد بغيظ : شسويت؟ تدري إنّ أمّي من كم يوم تحن على راسي عشان أتزوج؟ في النهاية قالت لي لو ما وافقت بخطب لك وأنت ما تدري.
كتمَ ضحكتهُ بعضِّ شفتِه السفلى، ظلّ ينظُر للأمام وهو يلفظ ببراءة : طيب أنا وش دخلني؟
عناد : شايفك شايفك اضحك لا تسكت.
وكأنّ سلطان كان ينتظرُ جملته تلك فقط، انفجـر ضاحكًا بتسليةٍ لينظُر له نظرةً خاطفـة، مرّر لسانه على شفتيه ليلفظ بضحكة : شلون دريت إنّه أنا اللي خربتها عليك؟ لا تكون غيداء علمتك؟
عناد يميل فمه : حتى غيداء تدري؟
سلطان : اففف يا حيوان مين قالك أجل؟ ما أظن امي بتفضحني قدامك؟!
عناد بحنق : ومين بيحشر نفسه فيني غيرك يعني؟ .. حيوان الحين وش يفكني من سالفة الزواج.
سلطان يبتسم حتى ظهرت أسنانه المتراصّة : يا ابن الحلال تزوج بتطق 32 .. إذا شايل هم الحرمة وشخصيتها أتوقع ما يصعب عليك التعامل معها ، إذا شايل هم المسؤولية ما أظن إنّك بزر وتقدر! وإذا شايف هم الجمال عاد هذي سهلة شوف اللي بتخطبها شوفة شرعية وإذا ما عجبتك حوّل! البيوت بالرياض ماهي بهالكثر يمديك تشوف كل البنات هههههههههههههههههه
عقدَ حاجبيهِ بحنقٍ من سخريته، وبوعيد : ما علينا ، تمصخَر لين تشبع وتوريطك لي بردها لك عشر.
سلطان بسخرية : ننتظر بفارغ الصبر.


،


تقضُم ظفر إبهامِها، تكـاد أن تكسره وتلتهمَهُ مرارةً، تهزُّ قدمها على الأرضِ وعينيها ملتهبتينِ بحُمرةِ حُزنها، إلتقَت بِه اليوم، إلتقَت بِه بعد المرّة الأخيـرة التي أغرقها بها في خيبتِها، فرّقتهما الأيـام عن الصدامِ حتى وهما في نفسِ الشارِع، في نفس العمودِ المعيشي " المبنى "، في نمطِ الحيـاةِ ذاتِها إلا أنّ الهواءَ كـان يحرصُ على عدمِ لقياهما حتى في " تنفّس " . . التقيتُ بكَ أخيرًا يا فوّاز من جديدٍ لتغسلنِي بحُزنِي مرّةً أخرى، بخيبتِي وأنا أراكَ تحيا، لا يهمُّ إن كان بسعادةٍ أم لا لكنّك تحيا! تريد البدء من جديدٍ وأنا! لا أزال حتى هذهِ اللحظـةِ غارقـةٌ في عينيكَ وفي حبّي الذي يغسلنِي بالأسـى !!
رفعَت وجهها المُحمرّ ما إن وقفَت أمامها أرجوان وهي تعقدُ حاجبيها بضيق، هتفَت بخفوت : جيهان وبعدين؟
جيهان بغصّةٍ تعضُّ طرفَ اصبعها، شتتْ عينيها قبل أن تُعيدهما إليها، ومن ثمّ همسَت بحسرة : شفته يا أرجوان !
أرجوان بحدّة : ويعني؟ انتهت الحياة يوم شفتيه؟
جيهان تهزُّ رأسها بالنفيِ وهي تُخفِض ملامحها : لا .. ما انتهت ، لأنها منتهية وخالصـة .. * أردفَت بنبرةٍ تختنقُ حتى كادت تتلاشى * يعيش! قاعد يعيش .. شلون وأنا عاهدت نفسي أظل على قدسيّة علاقتنا؟ شلون يبدأ من جديد وأنا عاجـزة أفكّر بالفكرة نفسها؟ شلووون؟ ما انتهت الحيـاة بس معناها انتهت عندي لأنّي عاجـزة من بعده.
أرجوان بخفوت : قلتِ بتعيشين من بعده ، ماراح تظلين واقفة على بابه!
جيهان بحُزنٍ وهي تضمُّ كفيها ببعضهما : كوني للحين أفكر فيه وأحبّه فأنا ما عشت ولا كمّلت حياتِي من بعد ... كنت فاهمة المصطلح غلط، أو أتوهم إنّي فاهمته !!
هل يكفِي أن تتلاعب بالكلمـاتِ وتتلاعبَ بنفسها؟ هل يكفي أن تقول " استطعت تناسيه "؟ وبعد التنـاسي يحلُّ التذكر؟ كيف أبقى معلّقةً بِك ولا أنساك نسيانًا أبديًا، نسيانًا لا تأتيني خلالـه في خاطرَة، في قصيدةٍ عن الفراق! لمَ لازالت أبحثُ عن هذا النوعِ من قصائدِ " رثاء " وأجعل من نفسي - دراميَّةً - تُثير الشفقة وحسب؟ . . . مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا أسيرتك بينما أنت طليقي ، مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا على ظلّك بينما هيَ يتكوّن ظلها من ضوئِك ، مرّت أشهرٌ يا فواز ، وأنا مقيّدةٌ في خريفِنا، في آخر لحظةٍ قبل أن قُلتها " مطلقة " ، في اللحظة التي شعرت بقلبِي يُنتزع .. وبأنّني بدأت أشتاقك ، منذُ أن لفظتها.
مرّت تلك الأشهر ، لكنّك تمضي وإن كـان مضيّك " زحفًا "، بينما أنا بالفعلِ واقفةٌ أمام بابِك، هل هنـاك أملْ؟ وإن كـان هناك أملٌ بأن تفتح لي ، فهل سأرضى بإهدار ما بقيَ من كبريائي أمامك؟ أنـا الواقفـة منذ أشهر، لم أطرق حتى الآن ... فهل يمكن أن أعود إليك؟
ابتسمَت بحسرة، لن يحدُث، لأبقـى كذلك، لكنّه لن يحدُث أبدًا، أنا من أخطأ أخيرًا، لكنّك اخطأت من قبلـي، وتجرّأت على خذلاني بخيانـة ... لن أعود، وسأكون قويّة، وإن لم أمضي أبدًا وبقيتُ طول ما تبقّى من حياتِي أمام بابِك .. أنظُر لجمودِه، ولا أفكّر أن أنظر نحو مقبضـه ... أبدًا.
أحبّك ، لكنّني أمـام حُبّي لك أتكبّر ، لأنّي أحبك، لم أُجِد الحيـاة، لذا ها أنا أكره نفسي كلّما قرأت اسمك في قصيدةٍ اختلّ توازنها بأنينِ الحُزن وانقشعَ ثباتُ قوافيها برثاء شفاهي التي تتلوك، تتلوكَ قرآنا لشريعتنا ، قرآنًا ثابتًا ، لا يحرّف ولا أستطِيع الكُفر بِه!
وقفَت وهي تبثُّ ابتسامتها بالثبـات الكاذِب، تمسَح على وجهها المُحمرّ، ومن ثمّ تهمسُ بزيفِ صوتِها المتسائل : مو كأنه أبونا تأخر؟


من جهةٍ أخـرى، وقفَ في بدايـة الطابـق الثاني، يضعُ كفيهِ في جيبيّ معطفِه، يبتسمُ ابتسامةً هادئةً وهو أبعدُ ما يكونُ عن الهدوء، أبعدُ ما يكونُ عن ذلك، لازال يشعر أنّه يحترق، حتى الآن لازال يحترق ممّا حدَث صباحًا ومن كلماتِها الكاذبـة التي استطاعَت بها استفزازه .. يُزيّف ثباته وهو يوجّه ابتسامته تلك ليوسفْ ويلفظَ قبل أن يبتعد عنه بكلماتٍ تنزَلقُ رغمًا عنه : طيب من متى تعرفه ذا بدر؟
رفـع يوسفْ أحد حاجبيه وهو ينظُر لهُ من زاويـة عينيه مستنكرًا تحقيقه الذي استمرّ منذ خروجهما من المطعم ، وبحدة : وش قصّة التحقيق هذي؟
فواز يشتّ عينيه بربكـة : أبد بس أسأل.
يوسف بحدة : فواز لا تستفزني ! وراك للحين تلاحقني؟
رفـع كفّه وهو يشعر بسذاجـةِ موقفِه، حكَّ عنقه وهو " يمتّر " الجدران بعينيه، وبنبرةٍ متوتّرة : لا بس ترى ما ارتحت له .. أحس وراه شيء يعني الأحسن تبعد عنه !
ماذا! ماذا يقول الآن من حماقات؟ . . . عض لسانه بحرجٍ من نفسِه، ما الذي يقترفه الآن من سذاجاتِ قول؟ هي تكذب ، تكذبُ فقط .. فلمَ استفزّتني بكذباتها الوقحـة تلك؟ لازالت أحترق حتى الآن وكأنها حقيقة، كأن ذاك الأحمق سيأتي يومًا وهو يُمسك يدها وهي زوجـةٌ له . . . كشّر بملامِحه من تلك الصورةِ التي تجسّد طيفها أمامه فجأة، وجَد نفسه يحترق أكثر بدل أن يُهدِّئ نفسه، بينما أمـال يوسف فمه باستنكـار ليلفظ أخيرًا بسخرية : بالله؟ ومن متى تعلمني وش اللي لازم أسويه ووش اللي ما أسويه؟ .. وين أصرف احساسك ذا؟
زمّ شفته بحرجٍ وهو يُشيح بملامحه، بينما تنهّد يوسف دون أن يفهمه، تحرّك بلا مبالاةٍ باتّجـاه الشقة، راقبـه بعينيهِ حتى تلاشـى ، بينما قبضتاه تنشدّان بانفعـال ، ما الذي أفعله بالضبط؟ كـانت تكذب .. وأنا الأحمق الذي لا يزال حتى الآن يحترق بكذبتها . . . سحقًا للسانِك الوقح هذا !!!


يُتبــع . .

 
 

 

عرض البوم صور كَيــدْ  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ليلاس, لغز, أكشن, القدر, الكاتبة كيد, انتقام, يوسف, رواية رومانسية, سلطان, غموض, عانقت, قيود, كيد
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t195238.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 02-10-16 06:32 AM


الساعة الآن 03:33 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية