منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الروايات المغلقة (https://www.liilas.com/vb3/f836/)
-   -   قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر (https://www.liilas.com/vb3/t195238.html)

كَيــدْ 04-06-14 02:03 PM

قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


سلامٌ ورحمةٌ من الله عليكُم :)


تنتشر الزهور عن طريق حبوب اللقاح
تبدأ بُرعمًا ثم تكبر لتصير زهرًا فاتنًا
وأنا هنا سأنثر حروفًا تكونُ حبّاتَ اللقاح
ستكون الكلمات براعمَ في بدايتها ... لتنتهي بـ " رواية "
وكالماء ستكونونَ أنتم تروونها
براعمي ستكبُر ... لتُنشئ روايتي – الرابعة
والتي ستكون الأولى – نشرًا


.
.





مُقدمة /





قلتُ له :


قُل لي! هل قيدٌ من الشمع ينير بصيرتي؟
هل قيد من الخمر ينسيني .. همًّا وظلامُ رؤى
كانت لي في منامي تُخاويني؟
قُل لي! هل قيدٌ من الأدمع بالفرح يرويني؟
فأجابني مستاءٌ يراددني : بل قيدٌ من - الفرو - يرديكَ قتيلًا
حيًا أمامي ببؤسٍ تُحادثني



" ‌أحببتها ... فكانت لي قيدًا دون أغلالٍ تُكبلني"



.

.

.



تتجانس الأصوات، لتُصدرَ محلولًا قلويًا من مجموعةِ أحماض صوتية! تُزعج السامع كأنما كانت أمواجًا فوق صوتية. ما بين بُكاءٍ وعويل، وحولقاتٍ تتبعها دموع. والأرض تتشارك مع الأصوات في تفاعلٍ كيميائي مع الدماء، لتكونَ دماءًا تخَشّن ملمسها إثر حباتِ الحصى والرمال، والجسد المُصدر لكل تلك التفاعلات مُلقًا على الأرض، دونَ حراك، دون حياة.
وطفلٌ هناك يقف، قُرب الجثة الهامدة، تُقربه من صاحب الجسد الملقى قوى روحية، هو " طفلٍ ووالده " !!

ماذا يجري؟ ما هذهِ الدماء؟ ما بهِ أبي لا يفيق؟ لمَ العويل والبكاء؟ ... تتردد مجموعة أسئلةٍ لا يجد عقله البريء لها حلًا، فما الذي يجري يا رباه!
يجتذبه جسدٌ آخر، ليزرعه في أحضانه، يُغطي عينيه عن هذا المنظر،كيف نسيه؟ كيف لم ينتبه لوجوده؟ كيف لم يمنع ناظريه من التحديق بكلّ تلك اللترات منالدماء؟

حاول الطفل الإبتعاد، وهو يهتف بتساؤل مرتبك : عمي ... وش يصير؟ ليه أبوي ما يقوم؟

يردد على مسامعه بصوتٍ مُجهد بأن كل شيءٍ سيكون بخير، والده بخير، وهو بخير، والجميع بخير.
أعاد سؤاله وعقله لا يريد تصديق كلماته المهوّنة، فهو قد توارث عن والده النباهة والذكاء، يعلم جيدًا أنّ ما يحدث أمامه يُحتم عليه الحرمان من والده للأبد : ليه أبوي ما يقوم؟

زمّ عمه شفتيه ثم نادى بصوتٍ عالي : عنــــــــــــاد

أقبل إليه المراهق ذو الست عشر من العمر ووجهه متجهمٌ تتصاعد أنفاسهُ من صدمةٍ لم تزل إلى الآن

أردف بصوتٍ مُختنق : خُذ أخوك ... طلعه من هنا

الطفل برفض : أبي أبوي يصحى بالأول


اجتذبه عناد ليغرس رأسه في صدره الصغير، هو أيضًا يدرك حجم المعاناة التي ستلحق بهذا الطفل في الأيام القادمة، يرى دماءَ والده تضُج بعنفٍ منحُفرٍ زرعت برصاصاتٍ على أنحاء جسده، مشهدٌ دموي يُجسد العنف واللا إنسانية، فكيف سيتحمل هذا المشهد عقلُ طفلٍ لم يتجاوز العاشرة بعد؟

عناد بشدةٍ عُرف بها رغم صغر سنه : تعال معاي

هو برفضٍ وملامح مشدودةٍ مُتشنجة : ما أبي

حملهُ بذراعيه وهو يقاوم ويركل بقدمه على أنحاءٍ مُتفرقة من جسد عناد، ليس بعد كل ذاك العُنف سيذهب، ليس بعد كل ذاك العويل سيرحل، يجب أن يعرف ما الذي يجري تحديدًا، هل سيخسر والده للأبد؟ سيخسر آخر من بقي له من رائحة الوالدين؟ سيخسر آخر من سيطبق عليه برّه؟
سقطت دموعه دون انتظار، وهو يهمس بصوتٍ مختنق يرجو من عناد تركه، لكن عناد تجاهل وهو يُخرجه من هذا الموقع الذي شهد إغتيال والده.
علت أصوات سيارات الشُرطة، وأنوارها تُعلن وجودها خارج المنزل، منزل الأديب المُغتال " فهد النامي ".



روابط الفصول

" القيــد الأول "

(1)
http://www.liilas.com/vb3/t195238.html#post3449475
(2)*1
http://www.liilas.com/vb3/t195238-2.html#post3449967
(2)*2
http://www.liilas.com/vb3/t195238-3.html#post3450698
(3)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-4.html#post3452121
(4)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-4.html#post3452887
(5)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-5.html#post3453517
(6)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-6.html#post3454587
(7)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-7.html#post3456436
(8)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-10.html#post3459517
(9)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-12.html#post3460414
(10)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-12.html#post3460419
" القيــد الثاني "
(11)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-13.html#post3461356
(12)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-15.html#post3462329
(13)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-17.html#post3463013
(14)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-18.html
(15)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-20.html
(16)*1
http://www.liilas.com/vb3/t195238-22.html
(16)*2
http://www.liilas.com/vb3/t195238-23.html
(17)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-24.html
(18)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-29.html
(19)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-30.html
(20)*1
http://www.liilas.com/vb3/t195238-32.html
(20)*2
http://www.liilas.com/vb3/t195238-36.html
" القيد الثالث "
(21)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-36.html
(22)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-37.html
(23)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-39.html
(24)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-41.html#post3496239
(25)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-42.html#post3497979
(26)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-43.html#post3499563
(27)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-44.html#post3504051
(28)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-44.html#post3504236
(29)*1
http://www.liilas.com/vb3/t195238-46.html#post3507548
(29)*2
http://www.liilas.com/vb3/t195238-47.html#post3509091
(30)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-49.html#post3512673
" القيــد الرابـع "
(31)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-49.html#post3514738
(32)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-52.html#post3537250
(33)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-53.html
(34)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-57.html
(35)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-60.html
(36)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-62.html
(37)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-65.html
(38)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-65.html
(39)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-66.html
(40)
http://www.liilas.com/vb3/t195238-70.html

" القيــد الخامس "
" القيــد السادس "
(51)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(52)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(53)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(54)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(55)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(56)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
تصبيره من الجزء(57)
(57)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(58)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(58)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(59)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(59)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(60)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(60)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر


القيد السابع
(61)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(62)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(63)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(64)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(64)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(65)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(66)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(66)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(67)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(67)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(68)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(68)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(68)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(69)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(69)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(70)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(70)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(70)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر

القيد الثامن
(71)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(71)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(72)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(72)*2
قيودبلا اغلال عانقت القدر
(72)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(73)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(73)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(72)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(73)
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(74)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(74)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(74)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(75)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(75)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(75)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(76)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(76)*2و3 متتابعين
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(77)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(77)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(78)*1
قيود بلا اغلال عانقها القدر
(78)*2
قيود بلا اغلال عانقها القدر
(78)*3
قيود بلا اغلال عانقها القدر
(79)*1
قيود بلا اغلال عانقها القدر
(79)*2
قيود بلا اغلال عانقها القدر
(79)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(80)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(80)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر


القيد التاسع
(81)*1
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(81)*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(81)*3
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(82)*1 - (82)*2

قيود بلا اغلال عانقت القدر
(83)*1&*2
قيود بلا اغلال عانقت القدر
(83)*3
قيود بلا أغلال عانقت القدر
(84)*1













كَيــدْ 04-06-14 02:06 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


(1)





الرياض - العاشرة صباحًا

على تلك الأريكةِ الحمراء، والتي زُرعت في هذه الغرفة على يدي والده وبذوقه قبل أعوامٍ وأعوام. كان يتمدد بجسده الضخم وكتابٌ ذو غلافٍ أخضر استقر بين يديه، وفي وسطه كُتب بخطٍ عريض ( حياةٌ وممات ) .. كان يقرأه دون تركيز، لم يعد يستطيع التركيز في أيّ شيءٍ منذ تلك الصدمة التي حلت عليه قبل أسبوع.
وهذا الكتاب، ألم يكن من المُفترض عليه انهاءه قبل أسبوع، تمامًا في نفس التاريخ الذي توفي فيه كاتبه!
زفر بقوةٍ وهو يقلب آخر ورقة، ليقرأ بها كلماتٍ كتبها والده كختامٍ لهذا الكتاب
( حينَ تكونُ محاصرًا في غرفةٍ قديمة، حولكَ الجدران وفوقك السقف .... تذكر أنّ في الأسفل – أرضًا – ولا تيأس )
ثمّ في الزّاويةِ اليُسرى نقش بخطٍ رفيع وأنيق، يعكس شخصيةً واثقةً ثابتة، توقيع فهد النامي. ثم أسفله كتب تاريخ انتهاء هذا الكتاب / ٢٩ - ديسمبر ١٩٩٩
وللأسف .. مات بعد أن أنهى كتابه هذا بيومين، ليخلف وراءهُ مجموعة أوراقٍ سكنت بين غلافين عن أعين الناس وفكرهم، ليكون هو المحرر لها في كل عام، يبدأ في قراءته بداية اليوم الذي دون فيه اسم والده مع الأموات، وينتهي منه قبل نهاية اليوم، وكأن الكتاب لم يُكن متجاوزًا للمئتي صفحة! .. لكنه هذه المرة، قرأ الكتاب بعد مضي أسبوعٍ كاملٍ على الذكرى، وما منع ذلك هو ألمه الجديد الذي دوِّنَ مواربًا للألم القديم والذي لم يندمل بعد, فكيف يتحمل الثاني وهو يهوي في الأول؟ كيف له الآن أن يكور الذكرى ويعصرها وقد تضاعف الألم ليصبح ألمان؟ كيف يسحقها للحظاتٍ قبل أن تتكون من جديد؟ يسحقها سحقًا مؤقتًا وكأنه يشرب مضادًا لحين غرةٍ، كيف له كلّ ذلك وقد تضاعف الألم لإثنين؟ الأول كان لفراق والده ... والثاني .... آهٍ كيف طرأ على باله الآن؟ قلبه يتفتت لشظايا من ملحٍ ذُوّب في لترات من مستنقعٍ قذر! لا مجال الآن للألم، فكيف يسمح لنفسه بالتألم على من زرع الألم الأول قبل أن يكون السبب في الثاني! كيف يجرؤ من الأساس على التفكر فيهِ بعد كل ذاك! ليذهب للجحيم ... ليذهب.
وقف بعد أن وضع الكتاب على الأريكة، ليتأمل الغرفة التي كانت تأخذ طابع العصورِ الوسطى. كل شيء، كل جزء، كان بذوقه هو، ولازال كما أردا. خزانةُ الكُتب الخشبية تأخذ ثلاث حيطانٍ والأخير كان يقبع الباب الخشبي الكبير في وسطه، بينما حوله وزّعت صورٌ على الحائطِ الحجري كانت تحمله صورته مع والده، وفي كلّ صورة، كان يوجد هو! من زرع الألمين وأكمل حياته ضاحكًا مُستبشرًا عدم الإطاحةِ به، من زرع الألمين وتظاهر بالوجع في الأول، بينما تحلى بالسخريةِ والجمودِ في الثاني، من مزق قلبه قطعًا وأودى بعينيه مُحترقةً لمقاومة الدموع التي ترفعت عن السقوط لأجله، فليس هو، ليس هو من يستحق البُكاء لأجله، ليس هو!!!
خمسةَ عشر عامًا مضى، كان فيها أحمقًا، يعانق القاتل، يضحك له، يشكي له، يُحدثه عن شوقه الكبير لضحيته، وهو بكلّ خداعِ الثّعالب يواسيه وبكلّ خسةٍ يمطر عليه كلماتٍ للدعاء للمتوفى بالرّحمةِ والجنان.
أغمض عينيه وهو يتجه للباب الضخم، الذي يُغلق بعد دخوله، ويغلق بعد خروجه، ولا يدخله أحدٌ سواه، بعد أن كان القاتل يدخله معه، أصبح منفيًا من الدخول بل من المكوث في المنزل الخاص بوالده والذي ورثه عنه.
حركّ المفتاح الذي كان في الباب ليفتح القفل، ويصدح صوت احتكاكِ المفتاح الحديديّ بقفل الباب الصدئ، ثم دفع الباب ليخرج ويقفله خلفه. بملامحَ ماتت مرتين، ولازالت تُغتال.


*_-*_-*_-*_-*


الظلام يلفها، والوحدةٍ تخنقها دون أدنى رحمة، عيناها جاحظتان تنظر إلى الجسدِ المُبتعد كثيرًا، وفي غمضاتٍ كان ابتعاده يتضاعف.
صرخت بأعلى صوتٍ لها وهي ترى جسدها يبتعد أكثر وأكثر، تركض خلفها لكنها لا تلحق بها : يُمـــــــــه !
تركضُ في فراغ، في ظلام، المكان حولها فارغ، فقط محشوٌ بالظلام. ارتفعَ صوتها أكثرَ وأكثر، على أملِ أن تسمعها وتتوقف : يُمه وقفي تكفين ... يُمــــه
لكنها لم تتوقف، ولم تبطئ في هرولتها حتى! . . ثانيتان فقط، لتشعر هي بقبضةٍ انتشلت سكونَ شعر جسدها، ليقشعرّ جسدها وهي تشعر بأنها تغرق في هذه القبضة. تصرخ لكن بلا صوت! تتحركُ محاولة لتحرير جسدها ولا فائدة، بدأت بالأنين وهي تحاول مناداة أمها، لكنها اختفت من أمام عينيها! واختفت من حولها!
شهقت يقوةٍ كأنما انتُزعت روحها بقوة، وهي تستوي جالسةً على سريرها السكري، كالممسوسةِ التفتت هنا وهناك تبحث عن شيءٍ مجهول، وكل ما تشعر به هو ألمٌ حاد يسار صدرها وبرودةٌ في قدميها الممدودتان على السرير، ابتلعت ريقها وهي تشعر أنها وإلى الآن لازالت في ذاك العالم المظلم.
وأخيرًا استوعبت وهي تقبض على قلبها الذي يؤلمها، وبجنونٍ خرجت من غرفتها، غيرَ مُباليةٍ بالوقتِ أو مظهرها المُبعثر، لتجدَ والدها جالسًا على إحدى أرآئك الصالة العلوية التي يطغى عليها اللون الأبيض، يسند رأسه على كفيه بهمْ. لتقف أمامه منهارةً باكية : يُبه
أخافه مظهرُ ابنته، ما الذي أيقظها الآن وهذا ليس بوقت إفاقتها التي تطول لثقل نومها. خشيَ أنّ ضررًا أصابها، كاد يتكلم إلا أنها سبقتهُ ودمعاتها تشوه وجهها البريء، تحفرُ خدها بقسوة!
جيهان وهي تجلس على ركبتيها أمامه وعلى الأرض، تحفر ملامحها بين ركبتيه مُتوسلة وهو جالسٌ أمامها على الأريكة : تكفى يبه، تكفى طلبتك لا تردني، أبي أشوفها شوي، أبي أتطمن عليها، خايفة! خايفة وقلبي قابضني، تكفي يا نظر عيني لا تردني، أبي أشوف أمي
أغمض عينيهِ مُتنهدًا، والحديث عن زوجتهِ يُربكه، يُشعره بالضعف / العجز. أمسكَ كتفي ابنته ليوقفها، لكنها حفرت ملامحها أكثرَ بين رُكبتيه وهي تقبله : تكفى يبه طلبتك، تكفى
رطّب شفتيه بلسانه، ومنظرها هكذا لا يعجبه، يشطر قلبه، لا يُحب أن تتوسلَ لهُ احدى بناته، هو توجهنّ أميراتٍ لا أقل، فكيف يرضى أن تتوسلَ له إحداهنّ.
مسحَ على شعرها الحريري، وهو يهمس بابتسامةٍ أبويةٍ رقيقة : ما أرد أميرتي لو على موتي
وقفت بسرعةٍ كالملسوعةِ وهي تنظر له بامتنان، ثم قبلت رأسه بفرح : مشكور يبه مشكور
أخذت المفتاح من يدهِ التي مدّها لها، وقبل أن ينطق بالعفو، ركضت باتجاهِ غُرفةُ أمها التي أكملت الإسبوعَ وهي محرومةٌ من بناتها ... لمَ؟ لا أحدَ يعلم، علاقةُ والدِ جيهان يوسف بزوجته كانت نعم العلاقة، كانت مثالًا على الحُبّ والتفاهم، ولكن وقبل شهرٍ بالتحديد إنقلب الوضعُ رأسًا على عقب، أُفسدت العلاقة بعد مشاداةٍ عنيفة لا يعلم سببها إلا هُما، ومن ثم بدأ الكره، والتفكك!. تأزمت العلاقة إلى أن قام يوسف بفعلٍ جنوني، وهو حبسُ زوجته في غرفةٍ مُستقلة، وعزلها عن بناتها بل حرمانها من صوتهنّ حتى، وبما أنها قد حُرمت منهنّ، فهنّ أيضًا قد حُرمن منها!
بابتسامةٍ بهيةٍ وقفت أمام الباب وهي تضع المفتاح لتفتح القفل وتدخل، وتصطدمَ عينيها بظلام الغرفة. ارتعش جسدها من البرودة القاسية، وهي تدُور برأسها باحثةً عن طيفِ أمها، لكنها لم تجده!
جيهان بلهفةٍ يتخلخلها الإستغراب وهي تقترب من السرير : يمه .. وينك؟
اصطدم قدمها بجسدٍ مُلقى على الأرض بجانب السرير، وبسبب الظلام كانتْ رؤيتها مشوشة. بتعجبٍ أخفضت جسدها مُقطبة الحاجبين وأناملها تتلمسُ الجسد الملقى، وما أثار صدمتها هو السائل الدافئ الذي بلل يدها. وبرعبٍ ركضت نحو الجدار لتفتحَ إضاءة الغرفة، وتُصدم بما بلل يدها، بالسائل الأحمر، بالدمــاء!
نظرت إلى الجسد، إلى أمها، وجرحٌ قد شوه معصمها، لتصرخَ بجنونٌ وهي لا تستوعبُ ماتراه أمامها، لا تستوعب ماتشهده عيناها، لا تستوعب ما أثارَ قلبها رُعبًا / فقدًا / حُزنًا، وأقواها صدمة.
تهاوت على ركبتيها وصراخها ارتفع، عيناها اتسعتا بذعر، ليكمل مسيرةَ الصدمة جسدها الذي انتفض كقطةٍ مُبللة.
: يُمـــــــــــــه !!!


*_-*_-*_-*_-*


الساعةُ الثالثة عصرًا

الأجواء هُنا مرتبكة، تعكس غضب الإثنين الجالسين، الأصغر يهزّ قدمه بقوة، والآخر ذو الواجد والثلاثين من العمر يشد على ركبتيه بأناملهِ القاسية : سلطــــان
أطلقها بحدةٍ ليرفع الآخر رأسه بملامحَ حادة، وهذا الجدال العقيم هو ذاته الذي يتكرر كل يومٍ في هذا الأسبوع : خير!
هزّ رأسه بأسى فأردف سلطان بخشونةٍ وغضب : لا تقتنع وخلك وراه، صدقه بكل شيء وكذبني .. ما يهمني، ولا تهمني
رفع حاجبه بحدة : متأكد؟
تنهد سلطان بحنقٍ وغلّ : ليه منت راضي تقتنع؟
الآخر بجدية : حبكت القصة في راسك من مكالمة ورميت بعلاقتك مع عمك على هالأساس؟ * ثم أردف بتحذيرٍ مذكرًا له * سلطان .. تراه عمك
توقف سلطان بغضب، ويده ترتعش إثر انفعاله : اي صح عليك .. عمي، اللي لازم أرفعه على راسي وأقوله : كفو والله ياللي قتلت أبوي
صرخ الآخر بغضبٍ من سخريته : سلطاااان ... عدل طريقة كلامك معي ... ماني أصغر عيالك
حرك سلطان يده في الهواء بغير مبالاة : بتكون في جهته ... بكون في الجهة المعاكسة .. ولا بيهمني من تكون، أخوي الكبير، والا غريب من الشارع .... وهذا آخر كلمة عندي يا عناد
تحرك سلطان مبتعدًا من المجلس، فزفر عناد الهواء الملوث من رئتيه يرتجي غيره، من سيُصدق أنّ عم سلطان كان ليكون القاتل؟ ... نفض رأسه نافيًا، هناك خطأ، بالتأكيد هناك خطأ.
انتظره للحظات، لكنّ الوقت طال، فأدرك أنه عزل نفسه في تلك الغرفة مُجددًا، ككل مرةٍ يشعر فيها بالضياع ولا يعترف. لا أحد يعرفه جيدًا سواه، في كل حركاته وكل انفعالاته، حتى عمه الذي كان يدرس جميع تفاصيله لم يُدركه جيدًا. آه يا سلطان، لم تحيرني يومًا كما حيرتني اليوم!
وقف، واتجه لتلك الغرفة، ليقف أمام بابها الخشبي، وبصوتٍ عالٍ آمر : سلطان .. أنا راجع للبيت، فكر بالسالفة زين ... لا تتسرع وتنسى إنه أبوك الثاني
لم يرد عليه سلطان وتجاهله، لكن في داخله اشتعلت نيرانٌ لكلمةٍ قالها عناد " أبوك " .. فهمس لنفسه باشمئزاز : يخسى
انتظر عناد ردًا ولم يصله، فهدر : عالعموم أنا بعد بتأكد من هالسالفة وبشوف صحتها من عدمها .... لا تتسرع
قال جملته تلك وصمت، ليستدير خارجًا من البيت دون كلمةٍ أخرى، وهو لا ينوي الإتجاه لمنزله حقًا، بل يسعى للذهاب لسلمان، في منزله.


*_-*_-*_-*_-*


قبلَ ذلك بساعات

صرخت مُناديةً لها تهذي بها، لا تريد أن تخسر عبقها، لا تريد أن تصبحَ في هذا السنّ محرومةً من أمها. أمسك والدها بها وهو يضعها على السرير الأبيض ويصرخ بالممرضةِ لتأتي
حينها كانت لا تهذي إلا بجملةٍ واحدة : إذا .. صار لها شيء, إذا فقدتها .. بتفقد بنتك، بتفقد بنتك. والله والله والله ، وهذاني حلفت بالثلاث، منت أبوي إلا بالإسم، منت أبوي إلا بالإسم، منت أبوي إلا بالإسم " وبصراخٍ إرتفع أكثر " منت أبوي إلا بالإسم، نذرًا على ما أشوفك قدامي إلا أب بالإســــم
آلمته كلماتها، لكنه لم يُلقِ لها بالًا فما يهمه الآن سلماتها، بدأ جسدها بالسكون بعد أن غرست الممرضة إبرةً مُهدئةً في يدها. استكنت وهي تغلق عينيها وخدها مُبللٌ بالدمع، أغلقتها وهي تهمس بـ " يمة " وعيني والدها لم تفارق ملامحها.
مسحَ على شعرها بعد أن نامت، كل ما يحصل الآن بسببها، بسبب أمها، كل هذه التعقيدات ومايصيب ابنته وما سيحصل مستقبلًا هو بسببها. كان يمكنه أن يغفرَ لها لو أنها فعلت أمرًا آخر، لكنّ الخيانة قاتلة، مؤلمة، لا مكان للحب في حضرتها، مسح على وجهه بهم، وهو يتمتم : ليه سويتي كذا يا منى؟ ليه؟
إلتفت بعد أن قبل جبين ابنته ليجد فتاته الأخرى والتي تصغر جيهان بعامين، ذات العشرين ربيعًا تقف وعيناها المُبللة بالدموع تنظر إليه بشجون، مايتعجب منه هو سكون هذه الفتاة بين كل المصائب التي حصلت، ما يتعجب منه هو عدم معارضتها له أثناء حبسهِ لأمها، يعلم بأنها الأشد حكمةً بين فتياته، لكنه بدأ يشك أنها تعلم كل شيء، تعلم خيانةَ أمها له لذا لم تتدخل كجيهان ولم تفعل شيئًا، بل كانت تقف ساكنةً أمام كل مايحصل، عيناها ترسل شرر عتابٍ لأمها، وشفقةً بوالدها
همس بهدوءٍ وحنان وهو يتألم من دموع ابنتيه : تعالي حبيبتي، تعالي أرجوان
تقدمت منه وملامحها تنبؤ بالإنهيار، وبثانيةٍ صرخت باكية وهي تستوطن أحضانه المُقدسة، بانهيارٍ صرخت عاتبه : ليه؟ ليه سوت كذا ليه؟ هي لو تحبنا ماسوت اللي سوته
تأكد الآن بأنها تعلم كل شيء، أكملت باكية : كنت أدري بكل شيء، قبل لا تكشفها، أدري بس ماتكلمت، ما كنت أبي تصير بينكم مشاكل، سكت وليتني ماسكت، ليتني تكلمت معها، كان ممكن تسمع لي، ليتني ما سكت! ليتني ما سكت.
تنهد وهو يحتضنها ودمعةٌ قد تسللت إلى خده ألمًا رُغمًا عنه، من الصعب ما يواجهه، من الصعب عليه أن يتحمل كل هذا، الآن ابنته تعلم، وسقطت زوجته الغالية والخائنة من عينيها، لا يتحمل أن تشعر ابنته بالعار مثله، لا يحتمل أن تشعر ابنته بالكره لأمها، لا يحتمل أن تعيش ابنته وهذه الذكرى تعشعش ذاكرتها. هو كان بإمكانه تطليقها، لكنه لم يفعل لأنه فكر في أميراتهِ أولًا، لم يُرد أن يتشتتن. كان سيعيش معها مكرهًا، لكنه وبعد أن كشفها كانت تتمادى في الحديث معه، تذكره بخيانتها في كل مرة، وفي آخر مرةٍ سمعها تتكلم في الهاتف مع أحد كلابها - كما يطلق عليهم هو - ، فثار وقتها وحبسها. بالرغم من صمته عنها لم تتب، بالرغم من فضله بأنه لم يفضحها أمام أهلها ولن يفضحها، لم تجز عما تفعله. لا يعلم ما الذي حصل لتتغير، كانت تحبه، وهو يعشقها! فما الذي تغير؟ ما الذي تغير؟
همس بنهرٍ وهو يمسح على خصلات شعرها السوداء : لا .. لا تقولي كذا، أمكم تحبكم حتى لو غلطت، أمكم تحبكم بس الشيطان كان أقوى، حتى لو تكلمتي ما كنتِ بتستفيدي شيء، النفس أمارة بالسوء يابنتي، والشيطان شاطر
يدافع عنها بعد كل ماحصل! يدافع عنها أمام ابنتها، يخشى أن تكرهها! لكنها أمها، ومهما فعلت ستبقى أمها، مهما فعلت فلن تحقد عليها أو تكرهها. لكن لمَ فعلت كل ذلك؟ لمَ شوهت صورتها أمامها وأمام والدها؟
عضت شفتيها بألمٍ وهي تتمتم بوجع : جيهان تحبها كثير يبه، وتحبك إنت بعد، كل اللي قالته ماكان من قلبها صدقني، هي للحين ماتجاوزت الصدمة، وفكرت أن أمي تفارقنا تجننها ... لا تهتم لحلفها ونذرها، نذرها محرم ومستحيل توفي فيه
يوسف بهم : لا حول ولا قوة إلا بالله، لا تفكرين في شيء حبيبتي، وروحي شوفي ليان لا تتركيها بحالها. وأنا بروح للدكتور أسأله عن حالة أمك
هزت رأسها بالإيجاب ليخرج في نفس الوقت الذي خرج منه الطبيب من الغرفة المقابلة لغرفة جيهان، ليسأله بلهفةٍ على مسامع أرجوان : كيف حالها يادكتور؟ بشرني
نظر إليه الطبيب بوجهٍ لا يُفسر لثوانٍ قصيرة، ومن ثم حرك رأسه نافيًا! بمعنى أنه لا فائدةَ من شيء، لا أمل، لا حياة، لا وجود لها الآن، ماتت!
لحظاتٌ ويوسف جامدٌ مكانه، جسده تصلب وحواسه أُنتشلت، والطبيبُ مسترسلٌ في الكلام : فقدت دم كثير، ولا قدرنا نرجع نبضها، الله أخذ أمانته، إدعو لها بالرحمة
أردف بعد ثوانٍ حين رأى صمت يوسف : الشرطة جاية للتحقيق، هذا انتحار .....
قاطعهُ صوتُ سقطةٍ خلف يوسف، ليتيقظ يوسف كالملسوعِ مُستديرًا، ويرى أمامه جسد ابنته ملقًا على الأرض، غيرُ مدركةً لماحولها، فاقدةً للوعي!
يوسف برُعب : أرجوااااان


*_-*_-*_-*_-*


في منزلٍ آخر وفي الحاديةَ عشرَ والنصف صباحًا - سابقًا

جلست بجانبِ ابنتها وهي تمسح على شعرها بحنان، حالها لا يعجبها منذ أسابيع، سابقًا كانت لاتزورها بكثرة هكذا، بالطبعِ هي لا تقطعها، لكنها كانت تزورها يومينِ في الإسبُوع، والآن أصبحت تزورها كلّ يومين! وغالبًا ما تنام عندها
همست بحنان : ديما حبيبتي
ديمَا وقد علمت بما ستقُوله أمهَا : تكفِين يُمه لا تفتحِين معي نَفس الموضوع .. قلت لك مافيني شيء!
أمها بمُحاولةٍ لاستدراجها : عن أيْ موضوع تتكلمِين؟ أنا حتى ماقلت وش أبي
لم ترد لتهمس أمها بضيق : لا تضايقيني عليك
أدارت جسدها باتجاهِ أمها لتُمسك بكفّها اليُمنى وتُقبلها : الله لا يوفقني إذا حاولت أضايقك .. أنا نيتي العكس .. وماودي أضايقك بمشاكلي
أمها : قولي اللي عندك إذا ماتبين الضيقة تزورني، وش اللي صاير بينك وبين زُوجك؟
صمتت لثوانٍ طويلة ووالدتها تتنتظر حركةً من شفتيها، لتهتف بعد مدّة : أسيل وافقت؟
أم فواز أغمضت عينيها وهي تُحرك رأسها يمينًا وشمالًا، لكنها لم تُحاول الضغط عليها، ستتركها للوقت الذي تتكلم فيه بنفسها. ردّت عليها بهدوءٍ يتخلخله الضيق على ابنتها الأخرى : ما أدري عنها يمه، أحس في نظرتها رفض كبير، ماتبي تتزوج من بعده، وكل مافتحت معها السالفة قالت بعد متعب مافي ثاني، خصوصًا إنه أخوه. هالبنت ما عرفت لها شيء، أوقات أحسها بتوافق وأوقات العكس .. الله يصلحها بس
ديما بتنهيدة : لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا بتكلم معها
أم فواز : ايه الله يرضى عليك تكلمي معها، وعسى ربي يلين قلبها على يدينك
وقفت : أجل أستأذن
حين همّت بالذهاب رنّ هاتف المنزل لتحول وجهتها إليه بدلًا من الدرج، رفعته ليصلها صوت رجلٍ اتضحَ منه الإختناق والوجع : السلام عليكم
ديما بابتسامةٍ وقد عرفت الصوت : هلا عمي يوسف وعليكم السلام .. شلونك؟
لم يرد عليها بالجواب الذي كانت تتوقعه، بل بجوابٍ آخر، بعيدًا جدًا، ليمسح ابتسامتها الناعمة بجوابهِ ذاك.


*_-*_-*_-*_-*


مُمددةً على سجادةِ الصّلاةِ بعد أن أنهت صلاة الضحى وللمرة العاشرةِ رُبما صلاةَ الإستخارة. تغمض عينيها ونغمُ صوتهِ يتردد في مسامعها، وللآنَ هي مُترددة، محتارة.
لا تريدُ أن تظلم أخَ عشيقها الذي تقدمَ إليها، ومن جهةٍ أخرى لا تريد خيانة الرّاحل. بدأت الأفكار السوداوية تداهم عقلها، لتستغفر ربها مُسرعةً بعد أن ترددت تلك الجملة في عقلها
" ليه مات؟ ليه أنا اللي يصير فيني كذا؟ " .. تمتمت بالإستغفار وهي تمسحُ دمعةً تسللت إلى خدها، لتقفَ مُلملمةً لسُجادتِها نازعةً لجلال الصلاة. استعاذت من الشيطان الذي كان يبث تساؤلاتٍ متجاوزةٍ في عقلها
لمَ ولمَ ولمَ ؟!
لا تريد أن تتكرر أدآة الإستفهامِ هذه في رأسها، هي مُؤمنةٌ بما كتبه الله لها، وتعلم بأن نصيبها أن تصبح - أرملة - حتى قبل أن تسكنَ بيته. ولأنها مؤمنةٌ بالله، مؤمنةٌ بالقدر، ستفكر مليًا قبل الرفض أو الموافقة، ستفكر فهذه حياةٌ فانية، ولن تظلمَ نفسها بها.
تنهدت قليلًا، لتندفع دموعها بعجز، للمرة اللا معدودة تسقط اليوم .. للمرة اللا محسوبة تسقط خلال هذه السنة والتسعة أشهر، وللمرة اللامعقولة تبكي دمًا داخلها.
كم هو قاسٍ هذا الفقد، كم هو قاسٍ أن تتعلقَ بشخصٍ في فترة قليلة، وتفقده في فترةٍ أقلّ وأسرع. زمت شفتيها وهي تمسح دمعاتها بعنف، لكن ما الفائدة؟ ... هاهي تسقطُ من جديد!
وقبلَ أن تمتدّ يدها لتمسح دمعةً قاسيةً تدحرجت على خدها، انتفض الباب بطرقةٍ قوية وصوتٍ أقوى ينادي بإسمها
: أسيل .. إفتحي الباب بسرعة ... عمتي منى توفت !


*_-*_-*_-*_-*


عندما أرى عينيه الحادة
يهتزّ الدمُ داخلي وترتفعُ درجة حرارته فوقَ درجةِ غليانِ الماء
لكنّ العجب، أنه لا يتبخر !
رُبما لأنه الأحمرُ وليسَ الشفاف !

كانت ستتهور وتكتبُ اسمه، لكنها تداركت عقلها وألغت ماكانت ستكتبه، وهو هوية عشيقها وحُبها العذري
تنهدت وهي تسجلُ خروجها من " الفيس بوك " متجاهلةً بعض التعليقات المُفصحةِ عن إعجاب أصحابها الشديد بكتاباتها، وكما يلقبونها هناك، هي ملكة الأبجدية والتلاعبُ بالكلمات
ابتسمت وهي تتذكره ليظهر وشمها مليًا بجانب الزاوية اليمنى لشفتيها، حُبها لهُ صعب، وصعبٌ للغاية. تعلمُ أنه لن يقبلها، ليس استصغارًا لها، لكنها في نظرهِ ليست إلا أُختًا. ومن جهةٍ أخرى، رُبما الرّفض القاطع لحُبها له سيكون من عائلتهِ هو.
بللت شفتيها وهي تقف لتنظرُ لملامحها في المرآة، وهاهي تبدأ طقسها الدائم في الوقوف أمام المرآة محدثةً انعكاسها، وملامحها القمحية تشع جمالًا ونعومة. مررت لسانها على شفتيها الصغيرتين والممتلئتين لتتجاوزهما وذلك بملامسة طرف لسانها للوشم الذي كان بحانب شفتيها مُباشرة، ذلك الوشم الذي زُرع عمدًا كعلامةِ قفلٍ على شفتيها، بالأحرى علامة تحريمٍ مقصودة!
همست وهي تميل برأسها الصغير بشكلٍ لم يُلحظ حتى شعرها الذي يصل إلى نصف عنقها الطويل تساقط مع جهة ميلانها : قالت عني حلوة * مسحت على شعرها الناعم لتكمل بخفوتٍ أكبر وقد ازداد ميلان رأسها بتفكير * لكن في النهاية .. جمالي أنقصه الكثير والكثير ... بس ، ممم .. معقولة كانت تقصد كل كلمة قالتها ... أنا حلوة؟
كانت تقصد فتاةً في جامعتها، إذا أنها مشت بجانبها مرةً لتبتسم لها بوداعةٍ وتثني على جمالها لتزيد ثقتها، وقد كانت تقصد كل كلمةٍ قالتها
ضمت شفتيها قليلًا للحظات وعينيها تتأملان انعكاسها بثقةٍ مزيفة، لكن مالبث أن تلاشت ثقتها المزعومة ليحل محلها الإحباط المشوب ببصيص أملٍ ضعيف : طيب كيف يشوفني هو؟ أخت .. والا حبيبة؟ ... نظرت العالم كلها لي تفنى قدام نظرته هو.
عضت شفتها بقوةٍ آلمتها لتمسح أفكار المُراهقة تلك : تعقلي يا إلين تعقلي ... لا تفكري بهالطريقة الساذجة واللي ما تدل على شيء سوى صغر عقلك
سحبت الأكسجين لرئتها بعمق، لتأخذ المنديل وتمسحَ بقايا الكُحل من عينيها، وتتبعه بمسح " قلوسها " الوردي، لأنه وبكل بساطة بالتأكيد سيكون بالأسفلِ مع عائلتِه.
ارتدت عباءتها على ملابسها التي كانت عبارةً عن تنورةٍ طويلة بلونٍ تركوازي وبلوزةٍ بيضاء منزوعةُ الأكمام، ثمّ لفّت حجابها ومن ثمّ خرجت من الغرفة متوجهةً للأسفل، للمكانِ الخاص بجمعةِ العائلة، ألقت السّلام بهدوءٍ ووقار، لتجلسَ بجانب هديل المبتسمةِ لها : يا هلا .. تو الناس كان نمتي أكثر
إلين بابتسامةٍ نقية : كنت فايقة من ساعة ونص، بس نفسيتي زفت عشان كذا ظليت مقابلة الفيس
هديل بصوتٍ رقيق لا يسمعه سواهما : طيب متى تتكرمين علي وتعطيني حسابك؟
إلين بشقاوة : خاص
هديل بتكشيرة : كيفك! ميتة عليه أنا
ضحكة إلين ضحكةً لفتت نظرَ الجميع : من قلة التدقيق يعني؟
أبو ياسر بابتسامة : دوم الضحكة ... ماتبون تشاركونا؟
نظرت إليه إلين بحب وبعض الخجل : سوري عمي كـ ...
أبو ياسر قاطعها بحده : يعني ضروري تنكدين علي من الصبح
إلين بصدمة : شقلت أنا؟
أبو ياسر بجدية : كم مرة قلت لك لا تناديني عمي !
ضحكت بخفوتٍ وراحة لتهمس : سوري يبة
ياسر كعادته يُحب أن يُعاندها : قلتلك من قبل بس ماصدقتني، هي مرة قالت لي إنها ماتعتبرك أبوها ....
قاطعته بشهقتها ومن ثمّ اندفعت مُدافعةً عن نفسها : يا الكذاب أنا متى قلت كِذا؟؟
ضحك ياسر وهو يلعبُ بحاجبيه ليُغيضها : من أسبوعين بالضبط
هو هكذا يُحب استفزازها، يعاملها تمامًا كما يعاملُ أخته هديل، يُحبها كأختهِ لا كيتيمةٍ قد كفلها والده!
أم ياسر بابتسامةِ حُبٍ لها : ماعليك منه يمة ... كذاب من يومه وأنا عارفة، ما كأنه كبر خلاص وصار دكتور بعد
ضحك هو بخفوتٍ بينما ابتسمت إلين بانتصار، ليقطعَ مجرى حديثهم فجأةً صوتُ رنين الهاتف لترفعه أم ياسر التي كانت الأقربَ له : السلامُ عليكم
الطرف الآخر : وعليكم السلام والرحمة
أم ياسر بابتسامة : هلا أختي أم فواز صباح الخير



كَيــدْ 04-06-14 02:12 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

ينظران لبعضهما طويلًا، دون كلمةٍ وكلًا منهما يفكر بماذا سيبدأ، لكن وكما هو معروفٌ على كليهما، انفعالاتهما الداخلية لا تظهر أبدًا على ملامحهما الجامدة. صمتٌ مطبقٌ من الطرفين، هو جاءَ إليه ليتأكد إن كان ما قاله له سلطان صحيحًا، والآخر يدرك جيدًا لمَ جاء.
أخيرًا تكلم الآخر : خير يا عناد ... وش بغيت؟
صمت عناد قليلًا بملامحه الحادة وهو يريح ظهره للوراء، إلى أن هدر بثبات : وش اللي بينك وبين سلطان؟
فارق العُمر بينهما ستةَ عشر سنة، لكنهما في نفس مستوى العقل، والدهاء، وبنفس مستوى البرود والثبات، إلا إن لم يتفاوت حسب الموقف نفسه.
سلمان بهدوء وعينانِ ضيقتان بتساؤل : وش اللي بيني وبينه؟
تنهد عناد ثم تقدم بجسده قليلًا ليريح مرفقيه على ركبتيه فتدلت ذراعيه في الهواء ليثبتهما عن طريق إشباكِ أنامله : أنا عارف إنّ سلطان فاهم الموضوع غلط، أكيد انه فاهمه غلط ... مستحيل تكون انت! عشان كذا جيتك .. ودي أصلح بينكم ... صار لكم اسبوع وكل واحد في طريقه ... ما تبون أعمالكم ترتفع لله
ابتسامةٌ صغيرة ارتسمت على ملامح سلمان، يدرك أين يريد عناد أن يصل، يريد استدراجه ليتحدث هو بنفسه نافيًا التهمة عليه، وهنا سيتصنع الصدمة ويبدأ بالتساؤلات التي قد تربكه لسرعتها. لكن ليس عليه هو، ليس على سلمان يا عناد.
هتف سلمان ببرود وهو يضع احدى ساقيه على الأخرى : والزبدة! أكيد إني ما أبي أي خلاف يكون بيني وبين ولدي ... بس مشكلته ماهو راضي يقتنع بجلسة الصلح اللي عقدتها
عناد بابتسامة : الله يهديك يا عمي ... أي جلسة صلح وانتو طول هالإسبوع محد شاف عيون الثاني
سلمان ببرود : الجوال موجود
تنهد عناد، يبدو أن هذا الحوار لن ينتهي على هذه الحالة. وقف، واقترب من سلمان ليجلس على الأرض أمامه : طيب ممكن أعرف السبب ورى كل هالمشكلة؟
دقق سلمان في ملامح عناد الرجولية بصمت، ثم ابتسم : قلتها ... مُشكلة .. وهي بيني وبينه ... يعني يكون من الأفضل انك ما تدخل بيننا
لم تتحرك خليةٌ في ملامح عناد بل بقيت ثابتة، هاهو سلمان يُظهر بعض التصرفات التي قد تثبت صدق سلطان، انفعال كلماتهِ الآن رغم هدوءه يثبت أن خلفه أمرًا لا يرغب بقوله. لا لا مستحيل، بالتأكيد هناك خطأ.
عناد بابتسامةٍ مُغتصبة : بس في كل مرة تتخالفون فيها أنا أكون الوسيط ... وش اللي اختلف الحين عشان تنفعل؟
شدّ سلمان على كفه وهو يعلم أسلوب عناد في الضغط جيدًا، لكنه حاول التحفظ بهدوءه.
عناد بجمود وهو يمسك بكف سلمان المشدودة : ليه مرتبك وشاد أعصابك؟
أول فكرةٍ زرعها عناد في رأسه : المذنب سيرتبك وإن كان ذو ثباتٍ كسلمان، يستحيل أن لا يرتبك من لم يقم بفعلةٍ ما حتى وإن كان داهيةً وذو ثقةٍ ومكرٍ كبيرين.
أردف عناد بجديةٍ وهو يركز بعيني سلمان الثابتين، لا دلالة على ارتباكه إلا يده التي شدها لجزءٍ من الثانية لكنه لاحظها : انت اللي قتلت أبوي فهد؟؟؟


*_-*_-*_-*_-*


العاشرة مساءًا

دخل للمجلس بعد أن أعلمته الخادمة بحضور أخيه، ليقف عند الباب مستندًا على إطاره مُكتفًا يديه إلى صدره : خيـــــر ... وش باقي بعد من محاضرتك ما كملتها؟
نظر إليه نظرةً حادة يعلم سلطان معناها جيدًا، لكنه تجاهل نظرته ليردف بحدة : والا لا يكون جاي تنام عندي؟ ... ماعندك بيت انت؟
زفر عناد وهو يحرك رأسه يمينًا وشمالًا بأسى : حالتك ميؤس منها
ثم وقف ليتحرك باتجاهه إلى أن أصبح أمامه ثم نقر جبهته : ما تلاحظ إنك صاير بزر ما تنطاق!
تجاهله سلطان وهو يستدير ليذهب، لكن عناد أمسكه ليسحبه باتجاهه : أنا كم مرة معطيك محاضرة في اللباقة ... سلطان وقف تتصرف مثل الأطفال
نفضه سلطان بغضب ليعود للإستدارةِ إليه، ثم بانفعالٍ صرخ في وجهه : وبصير عدو لك بعد إذا كنت معاه، ما ودي أكرر لك اللي قلته العصر ... فبكل بساطة افهم ... أنا بايع كل علاقاتي عشان أبوي وبس
عناد بغضب : ومين قال لك إني معه؟
صمت سلطان قليلًا، ثم هتف وعينيه تستشف الكلام من عيني عناد : صدقتني؟
لم ينطق عناد ببنة شفه، وعينيه ثابتتان في ملامح سلطان الحادة. إلى أن أردف : رحت له والا نبشت في ماضيه
عناد بعد زفرةِ قهر : رحت له
ابتسم سلطان بسخرية : ما نكر؟
عناد : شرايك انت؟
ضحك سلطان وهو يحرك رأسه بأسى : هو اللي قتله يا عناد ... هو اللي قتل أبوي وأبوك، واللي قتلني قبل لا يقتله!
أمسك عناد برأسه ليزرعه في صدره متمتمًا بأسى : الله فوق ... الله فوق


*_-*_-*_-*_-*


ممددةٌ على سريرها ودموعها تنسابُ بحريةٍ تامة، مرت ثلاثةُ أسابيع على العزاء، ثلاثةُ أسابيع لم تنم لها عينٌ براحة، منظرُ والدتها والدمُ يغطيها يتلف الصمت عندها فيجعلها تستسلم للبكاء، تستسلم للحزن، تستسلم للضيق.
أطلقت شهقةً ومن ثم تبعتها شهقات، إلا أن شعرت بيدٍ تمسحُ على شعرها بلُطفٍ بالغ. فارتفعت أنظارها لتراه أمامها، لترى قاتل أمها - من وجهةِ نظرها هي -، لترى من سلب ضحكتها وفرحها!
زمت شفتيها تحاولُ منعَ شهقاتها، تحاولُ كبتَ ضعفها أمامه ... لكنها وبكل بساطة، لا تقدر.
صرخت باكيةً بعتابٍ بالغ : ليه؟ ليه قتلتها ليه؟
ارتجفت شفتيها وهي تكمل أنينها، قاسٍ، قاسٍ هو هذا الشعور، قاسيةٌ هي فكرة أنها لن ترى أمها مرةً أخرى، تشعر بأنّ يدًا تمسكُ بها وتسحقها، ليتها ماتت معها، ليتها لم تشعر يومًا بهذا الشعور، ألم الفقد ... والخذلان
أجل الخذلان! فوالدها خذلها بقتلهِ لأمها، خذلها فليسَ أبٌ من يبعث الحزن إلى ابنته، ليس أبٌ هذا الذي يقتل الفرحة في قلب ابنته، وليس أبٌ من يجعل دمعات ابنته تسقط بمساعدةٍ منه ... وبسببه !
غطست بملامحها في وسادتها لتصرخ متجاهلةً بأن من يقف بجانبِ سريرها هو والدها ومن الخطأ أن تصرخَ عليه، صرخت وهي تتجاهل حجم ماتفعله : إطلــــع من هنـــا .... إطلع
صرخت في وجهه وكأنه ليس والدها، صرخت صرخةَ فتاةٍ لم تخرج بعدُ من صدمتها، صرخت وهي متجاهلةٌ أن صراخها ..... ذنب !
يوسف بهدوءٍ ومنظر ابنته يؤلمه أكثر من ألم فقدهِ لزوجته : استهدي بالله ياجيهان ... هذا قضاء وقدر واللي تسوينه غلط
جيهان بصراخٍ يرتفعُ تدريجيًا : ماهو غلط! ماهو غلط .. قتلك لها هو الغلط فلا تركب الغلط فيني
تنهد متمتمًا : لا حول ولا قوة إلا بالله
التفت مُعطيًا إياها ظهره ليخرج، يعلم بأن ماتفعله ومايصدر منها ليس وعيًا .. ولا بغير وعي! ... هي الآن بين الوعي واللا وعي، لم تصرخ في وجهه قط، كانت تحترمه أشدّ احترام. لكنه يعذرها الآن .. لأنها وإلى الآن، مازالت بين الوعي واللا وعي !


*_-*_-*_-*_-*


من جهةٍ أخرى وفي نفسِ البيت.

كانت تجلسُ على سريرها وأمامها تجلس أختها الصغرى ليان والتي تبلغ من العمر سبع سنوات، تسرح شعرها بشرودٍ وعيناها تنظر إلى الفراغ، ولا شيء غير الفراغ. أطلقت تنهيدةً مُوجَعة، وهي تتمتم بالإستغفار.
عمتها أم ياسر وزوجة عمها أم فواز لم يتركاهم خلال هذه الأسابيع الثلاث، بالرغم مما حدث والإشاعات التي ظهرت فيهم إلا أنها وإلى الآن لازالت قوية
في المستشفى وبعد وفاةِ أمها حضرت الشرطة لإستحوابهم من أجل قصةِ الإنتحار هذه، يوسف لم يسرد لهم كل شيء بالتفصيل، فهو لايريد لسمعة زوجته بعد وفاتها أن تتشوه، بالرغم من أن ذلك كان خطرًا عليه خاصةً إن علموا بكذبه، ففي ذلك الوقت ستتجه الأصابع نحوه بأنه قتلها، لا هي من انتحرت، رغم أنه لا يوجدُ دليلٌ ضده، إلا أن كذبه يكفي لإدانته
استجوبوا أرجوان وبذكاءٍ منها لم تذكر كامل القصةِ أيضًا. أما جيهان فهي لم تقل شيئًا، لم تعطهم مجالًا للسؤالِ حتى، بل صرخت في وجههم مُجبرةً لهم على تركها لوقتٍ آخر. ليعودوا إليها بعد أيام، ويستمعوا لقصة عثورها عن الجثة، دون أن تذكر أنها كانت محبوسةً في غرفتها، لا تعلم تحديدًا لمَ لم تسرد كامل الحقيقة، ربما لأنها لا تريد إلّا عدم التذكر، فهي تعلم من هي جيهان جيدًا، الفتاة المتعلقة بأمها وجدًا، فكيف لا تكون بجانبها؟ ... هذا مافسرته أرجوان لصمتها، بالتأكيد هذا هو التفسير ولا سواه.
انتشرت الإشاعات بسبب انتحار مُنى، البعض كذب هذه المقولة واستنتج من عقله المريض بأن ماحصل كانَ جريمةَ قتل، ومن قتلها هو زوجها
والبعض قال بأن موتها كان بسبب لص, دخل البيت وفي اثناء سرقته رأته وقتلها. والبعض قال بأن إنتحارها كان بسبب معاملةِ يوسف لها، كان يضربها ويعذبها لذا اختارت طريق الموتِ بنفسها
واختلفت الأقاويل ... ويبقى ابن آدم مُحبًا لنشر الأقاويل والإشآعات
أفاقت على صوتِ ليان المُنادي لها، منبأةً بأنّ هاتفها يصيح، لترفعه أرجوان وترد على صديقتها مروى. تحدثتا قليلًا وطلبت منها أرجوان أن تأتي إليها فهي تشعرُ بالضيقِ يكبتُ عليها.
أغلقت منها بعد عشرَ دقائقَ واتجهت للحمام كي تستحم. فلربما سيزيل الماء عنها كل الضيق، رُبما سيزيل عنها الحزن والتفكير.


*_-*_-*_-*_-*


صوت خطواتٍ تتخطى عتبات الدرج وصاحبها ينوي مُغادرةَ المنزل، ينظُر لساعتِه السوداء وهو يُعاتِب نفسه لتأخُّرهِ عن عمله، لكنّ صوتًا شجيًّا خلفَه أوقفه، صوتٌ حنونٌ يجعله بدون أدنَى شعورٍ يبتسم : على وين ياولدي؟
إلتفَت سيف لأمّه مُبتسمًا، ليتجه نحوها مُتجاهِلًا تأخره ويقبّل رأسها، وبحُب : سوري يُمه، ما انتبهت لوجودك
أم سيف بابتسَامة : وين تنتبه وانت راكض مثل المَجنُون
سيف : تأخرت على الشركة اعذريني
أم سيف : أجل ما أعطلك، بس وين مرتك؟
شتت نظراتِه وهو يمشي باتجاه الباب : ماصحت للحين ، مع السلامة يمة
أم سيف بتعجب من ردّه المُختصر، لكنها ألحقته بتأخره عن عملِه : فمان الله


قبل ذلك بدقائق

خرجَ من غُرفَتهِ بعجلٍ وهو يُغلِق أزرّة كُم قميصه وملف يُعانقُ أوراقَ صفقةٍ داخله محشورٌ تحتَ ابطه، كان يستغفر ربه داخلهُ من شدة قهره لتأخره عن عملِه، مُنذُ ماحدثَ بينهُ وبين زوجته وحُرمتها عليه أصبحَ ينام وحدهُ ولا يجدُ من يُفيقه مُبكرًا كالسابق، وفي طورِ عجلتهِ انزلقَ الملف من غير أن ينتبِه، ليصرخ بغَضبٍ : يلعــ .. أستغفر الله بس
انحنى بجَسده للأسفل لكنّ جسدًا سبقه ليصلَ إلى الأرضِ قبله ويجمعَ الأوراق بعجلٍ ومن ثمّ ارتفع لتضعَ الأوراقَ على الطّاولةِ بجانِبهما وتعودَ أدراجها لغُرفتها في حينِ كان ينظر إليها بصمتٍ وهدوء
رُغمًا عنه تُشعرهُ بأنه لا شيء بدونِها ... ارتسمَت ابتسامةٌ على شفتيه ... وأعتقدُ أنني كذلك!
سحب المّلف من الطاولة ليتجه نحو بابِ الجناح لكنّ صوتها الرّقيق أوقفه : ماتبي تفطر؟
إتجهت أنظارهُ نحو الواقفةِ على عتبةِ الباب بميلانٍ وعيناها البنيتان تنظر إليه ببرود، شكلها وإن كانَ عاديًا بالجلابيةِ أغراه، رُبما لأنه أتم الشهر والنصف وهو محرومٌ من قربها. صدّ عنها وهو يستغفر داخله، ثم همس وهو يتجَنب النظرَ إليها : لا
ليُكملَ طريقَه خارجًا في حينَ تنهدت هي باضطراب.
نظراتُك، هدوءُك، صمتكَ وسُكونك.. كلها تُدلّ على رغبتكَ العارمةِ بي، لكنك أنتَ من جنى على نفسِك ياسيف بجُملتكَ تلك!
تكررت الجملةُ في عقلها لتعضّ شفتيها بألم
" أنتِ علي كحرمة أمي يا ديــما !!! "


*_-*_-*_-*_-*


يبتسمُ بحنانٍ وهو يُحاولُ إخراجَ أخته من حالتها هذه، كانتْ السّاعة حينها تنبؤ بدخول التاسعة صباحًا عليهم، غُرفتها الكئيبةُ لم تتغير منذ أن تركها قبل تسعةَ أشهر، الأثاث نفسُه والألوان نفسها، وأيضًا . . الظلام نفسه!
فواز بتذمرٍ وعتاب : أسيل! عاجبِك حالي الحين؟ عيب عليك والله، بسافر بعد أيام وانتِ رافضة تجلسين معي ساعتين ورى بعض!
دفنت وجهها بالوسادةِ وهي تحاربُ رغبةً عارمة بالبكاء، فواز يُذكرها به، يُذكرها بمرحه، يُذكرها بضحكه، يُذكرها بمتعب!
يالَسُخف الحالةِ التي وصلت إليها، حتى أخاها أصبحت تنفُر منه، فقط لأنه يُذكرها به، ولا شيء آخر, بالرغم من أنه كان غائبًا عنهم لتسعة أشهرٍ نظرًا لعمله في بروكسيل, وعاد حين سمع بوفاة زوجة عمه, إلا أنها لا تريد أن تتحدث معه.
همست وهي تتجنب النّظر إليه : تكفى فواز، مافيني قوة على شيء
فواز بألم : ومتى كان لك قوة على شيء من بعد اللي صار؟ بهالفترة تغيرتي كثير، صايرة كئيبة ... وبشكل مزعج!
أنهى جُملته تلك ومن ثمّ خرج من غُرفتها وهي غارقةٌ بين كلماته، وتحديدًا * مُزعج *
أصبَحتُ مزعجةً لهم، لفواز الذي غادرني منذ تسعةَ أشهر، لم يعد يحتملني فكيف بأمي وديما اللتانِ إحتملتاني ومزاجي قرب السنتين! كيف بهم؟ أعلمُ بأنّ كلّ ما أفعلُه خاطئ، لكنه أيضًا .... ليس بيدي، أقسم أنه ليس بيدي، لا أستطيع أن أنساه، لا أستطيع أن أمحي صورتهُ من عيناي وهو يسقُط أمامي، لا أستطيع محو صوتهِ ورناتِ ضحكاتهِ من أذناي. لا أستطيع نسيانَ لمساتِه! قُبلاتِه! غزله وكلماته. ترّملتُ قبلَ أن أذهب إلى بيته، وكم هو قاسٍ هذا الشعور.
لكنني الآن، سأريحهم، سأريحُ فواز وأمي وديما، سأريحهم جميعًا.


خارجَ غُرفتها

تنهد وهو يتخطى عتبة الدرج ليصلَ إلى أمه الجالسةِ في الصالة الداخلية، على أريكةٍ بلونٍ دموي وفنجان القوةِ في يدها. جلس بجانبها ليصله صوتها الملهوفُ سائلًا : وش صار معك؟
فواز بتنهيدةٍ ضيقة بعد أن جلس بجانِب والدته وأخذ فنجانًا : أعتقد بتوافق
أم فواز بفرحةٍ وراحة : الحمدلله يارب الحمدلله
فواز : كلامي معها كان قاسي شوي، بس كل هذا لمصلحتها، هي أكيد ماهي مزعجة بالنّسبة لنا، بس ماهو بمقدورنا نطلعها من اللي هي فيه، وحدها العلاقة الجديدة تقدر تطلعها، وأنا أثق في شاهين بقدر ثقتي في الرّاحل
أم فواز بحزن : الله يرحمه
فواز بحزنٍ هو الآخر على رفيق دربه : الله يرحمه .. الله يرحمه





كَيــدْ 04-06-14 02:13 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 

من بابِ الجمال : ذا العينان البُنيتان !
وصلها تعليقٌ على هذا المنشور في الفيس بوك، وكان سؤالًا عن إسم هذا الرجل، ذو العينين البُنيتين، الرجلِ الذي استحقّ كل هذا الغزل والعشق. ابتسمت ببساطةٍ وكتبت : قال لي قلبي أنّ الإفصاح قد يكُون خطأً! ... عُذرًا عزيزتي أفضلُ الصمت عن الإفصاح
انتظرت دقائق ولم ترد عليها تلك المجهُولة، كانت دائمًا تُحاول التقرب منها والتحدث معها، وهي تقابلها باللباقةِ التي يطغى عليها الرّسمية، فليست الثقة السّريعة من صفاتها. انتظرت قليلًا ولكن المجهولة لم ترد، لتسجل خروجها كعادتها، فهي لا تأمنُ أن يقع هاتفها في يدِ أحد. دقائقَ ليُطرقَ بابها وتسمعَ صوتَ ديما : إلين ... يلا استعجلي شوي، بتفوتنا المحاضرة
إلين بابتسامةٍ زاهية بعد أن نظرت للساعةِ في معصمها وكانت العقارب تقترب من العَاشرة : جاهزة .. بس ألبس عبايتي وأطلع
ديما : انتظرك
لتسمعَ صوت خطواتها تبتعد ومن ثم تنهض لتأخذ عباءتها وترتديها في غرفتها تحسبًا لوجود ياسر، بالرغم من أنها تعلم بأنه الآن في عيادته، ولكنّ الحذر واجب
غطت وجهها قبل خروجها كعادتها أيضًا إذا كانت متزينة، بالرّغم من أنّ زينتها خفيفة ولا تقارن بغيرها إلا أنها ومن سابع المستحيلات أن تسمح لياسر أن يراها بزينتها، يكفي أنه يرى وجهها، لأنه وبكل بساطة، من الصعب عليها أن تتجول في المنزل بنقاب، فيكفيها الحجاب والعباءة.


*_-*_-*_-*_-*


في منزلٍ آخر

بحقدٍ كانت تقرأ ردها وبجانبها تجلس أختها، تردد الكلماتَ بسخريةٍ وحقدٍ واضح : عذرًا عزيزتي أفضل الصمت عن الإفصاح .... اوووووه وقحة !!
أماني بتعجب : وش عليك منها اتركيها تحبه لين تموت
رانيا بنقم : مايكفيها إنهم معيشينها بنعمة! والحين عينها على ياسر !!! جد وقاحة
أماني بطيبة قلب : اتركيها بحالها، حرام عليك البنت يتيمة و ....
قاطعتها رانيا : ومو بعيد تكون لقيطة وبنت حرام!
أماني : استغفر الله العظيم من تفكيرك
رانيا بشرودٍ وهي تنظر للفراغ : ماني راضيتها عليه يا أماني، ياسر يستحق أفضل منها، أحترمه وأعتبره مثل أخوي، وإلين ماتناسبه، يكفي إننا مانعرف أصلها!
رانيا : الأخلاق تكفي .. أنا مدري ليه إنتِ الوحيدة من العايلة كارهتها، الكل يحبها وانت ... * تنهدت وهي تحرك رأسها يمينًا وشمالًا بأسى *
اعتدلت رانيا على سريرها الأبيض وهي تنظر لها بتركيز : ماكنت أكرهها، بس هي لاعبة بمخكم، أنا الوحيدة اللي عارفتها، أنا وبس، إنتِ عارفة كيف كانت علاقتنا، كنا قراب من بعض كثير، بس من يوم عرفت حقيقتها كرهتها
أماني قطبت حاجبيها : عن أي حقيقة تتكلمين
رانيا وهي تصد بوجهها عنها، مهما كرهتها وحقدت عليها لكن قلبها لا يطاوعها في فضحها : مو شغلك
أماني بحدة : بعد مافتحتي السالفة قدامي! صار شغلي
رانيا وقفت مُبتعدة عنها لتخرجَ من الغرفة بعد أن ألقت على مسامعها جملةً واحدة : وأنا ماني حابة أتكلم
لتخرج بعدها تاركةً أختها الصغرى حائرة في تصرفاتها وتناقضاتها، زفرت بضيق وهي تتمتم : مردي بعرف يارانيا ، بعرف


*_-*_-*_-*_-*


يقف بجانب عناد رافعًا لحاجبيه مُتعجبًا : وش فيها ذي؟
عناد بابتسامةٍ ضاحكة : زعلانة منك
نظر إلى ملامحها المُتجهمة وهي تحرك أناملها الصغيرة على أطراف كوب العصير الذي أحضرته لها الخادمة, وفي لحظةٍ كانت قد رفعت وجهها لتلقي نظرةً خاطفةً عليه ثم استدارت.
ابتسم باستغرابٍ وهو يقترب منها : أفا بس! غدوي ما تبي تكلم سلطانها؟؟
نظرة إليه باستعلاءٍ ثم صدت, ليضحك وهو يمسك بيدها ضاغطًا عليه بقوه : زعلانة أجل؟
تأوهت وهي تسحب يدها منه بعنف, ثم صرخت : يا الخايس!!
ضحك وضحك معه عناد, فأطرقت برأسها عاتبة, لينظر سلطان هذه المرة لعناد بجدية : جد وش فيها؟
عناد بابتسامةٍ يقلد عتبها : سلطان متغير علي من فترة
ثم ضحك بصخبٍ لتنظر هي إليه بحدة وتهديد, فأردف ضاحكًا : يووووه انفجرت قنبلة هيروشيما
ليتحرك باتجاه سلطان وهو يضحك ضاربًا كتفه بخفة : عندي شغل في المكتب ... يمكن أتأخر عليكم فحاول تراضيها بأسلوبك
غمز له ثم ذهب, لينظر سلطان إليها ويبتسم, ثم اقترب أكثر ليهمس : في وشو متغير عليك يا الظالمة؟
تجاهلته وهي تلعب بتنورتها ليتلقف يدها يعدد بأناملها بتفكير : أمس, وقبل أمس, وقبل يومين, وقبل أيام ... كم مرة أرسلت لك في الواتس ولا تردين!! والحين صرت المتغير هاه!
غيداء بحدة بعد أن سحبت يدها : لو كنت جد مهتم كنت جيت لبيتنا * ثم بعبوسٍ أردفت * امي زعلانة منك
يعلم انها تكذب فهو في كل يومٍ يحادث أمه عوضًا عن الذهاب إليها, فمنذ انشغل بموضوع سلمان وهو لا يجد الوقت ليزورها
ابتسم يُجاريها : بكرة بزورها إن شاء الله
نظرت إليه بحدةٍ : يعني جد انت قاطعها مثل ما قاطعتني؟
مطّ شفتيه بأسى : للأسف ظروفي أقوى مني
نظرت إليه بنظراتٍ عاتبة، ثم اقتربت منه لتهتف : وأنا أقول ليه قايلة لي أمس إنها زعلانة منك!
يعلم أنّ أمه عاتبة عليه لأنه لم يزرها منذ مدةٍ طويلة، لكنها ليست غاضبة على نحوٍ كبير لأنه كان يكلمها باستمرار, كما أنه أعتذر البارحة منها ووعدها أنه سيزورها. ابتسم ثمّ هتف : طيب آسفين، بتصل عليها الحين وأعتذر
غيداء بعبوس : وأنا؟
اقترب منها ليُقبل جبينها بحنانٍ بالغ : انتِ القلب والروح والأنفاس اللي عايش عليها
ارتفع حاجباها بتحذير : ماني غزل يا قليل الحيا! ترى بقول لعناد
ضحك وهو يهزّ رأسه، لا فائدة ترجى من اعتدالها، ستبقى الفتاة طويلة اللسان التي لا تحترم إخوتها بتاتًا.
غيداء : تدري وش قال لي عناد؟
سلطان وهو يقطب حاجبيه، يعرف ذاك المخادع جيدًا : وش هبب؟
غيداء وهي تمطّ شفتيها بقهر : يقول إنّ الأخوان من الرضاع دايمًا ما يهتمون ببعض ... عشان كذا لازم أتوقع منك أي شيء
كشرّ بملامحه : الحمار! وانتِ صدقتيه؟
هزت رأسها بصمتٍ فتأتأ بأسف : وهذا العشم فيك؟ تصدقين في أخوك اللي يحبك؟
استغلت انحدار محور الحديث إلى هذا النحو لتقفز أمامه بحماسٍ هاتفةً برجاء : أجل اثبت لي وخذني للملاهي
ابتسم : ماخذه المكر من أخوك؟ أقول امشي عني امشي
غيداء ووجهها ارتخى بحزن : ليه؟
سلطان : مافيني
عبست فجأةً وتراجعت لتجلس على الأريكة وتسند ذقنها على كفيها وفمها ممدودٌ للأمام بدلال، فابتسم لأنه علم أنها غضبت عليه الآن حقًا، ثم اقترب منها ليجلس بجانبها : زعلتِ غدوي؟
صدت عنه للجهة المعاكسة فوضع يده على رأسها ليهمس : واللي يقول إنه كان يمزح!
لم ترد، فأردف : دامك ما تبين خلاص بروح
وقف لكنّ يدها امتدت بسرعةٍ لتوقفه : لا لا أمزح ما زعلت
ضحك عليها ثمّ حرر يده بلطف : محد يعرف لزعلك غيري
ابتسمت ببراءة : وأنا أقدر أظل زعلانة على سلطاني؟
اتسعت ابتسامته وهو يمد يده يداعب شعرها الخفيف ليُشعثه، فعبست وهي تبعد يده : هييييي سلطان يا الخايس ... ترى بالحيل ثبته
سلطان بضحكة : بنتظرك برا في السيارة ... لا تتأخرين اوكي
أومأت بابتسامة ثم اتجهت بسرعةٍ للمكان الذي علقت فيه عباءتها وهي تمرر كفيها على شعرها, بينما هو خرجَ غافلًا عن كل ما يحدث في المنزل بتواجده.
بعد قليلٍ كانت تلفّ الطرحة على رأسها وتدندن، وفي طريقها للخروج مرّت بتلك الغرفة الغامضة، والتي يجلس فيها سلطان ساعات كثيرة من يومه، الغرفة التي تقع في زاويةٍ بعيدة عن غُرف الضيوف والمجالس، وكأنّ سلطان لا يريد لغريبٍ أن يُفكر بدخولها حتى. دائمًا ما كان فضولها يدفعها لسؤال عناد عنها، ودائمًا ما شعرت بالرغبة في دخولها ولم تستطع. انتبهت لبابها الذي كان مفتوحًا قليلًا وظلام الغرفة كان واضحًا لعينيها، فابتلعت ريقها وهي تقترب منه، وفي هذه الساعة تكون الخادمة تستعد للنوم، هذا إذا كانت لك تنم حقًا.
ما إن وصلت للباب حتى توقفت وهي تستمع لحركةٍ خافتةً بداخله، فذُعرت وهي تتراجع للوراء لكنها اصطدمت بجسدٍ صلب أثار القشعريرة في جسدها، ففغرت فمها وهي تحاول التقاط الهواء، ليس سلطان، ولا عناد، له رائحة تشبه الدخان. ابتلعت ريقها ببطء، وقبل أن تستدير كان يده تطبق على فمها تمنع صوتها وصرختها التي كانت ستخرج من إكمال طريقها، فاتسعت عيناها وقد تأكدت، ليس سلطان، ولا عناد ... إذن من هو؟ وكيف دخل وهما في البيت؟
ومن بين كومة الذعر والخوف، وبين الأمل بقدوم سلطان، سمعت الواقف خلفها يتكلم ببطءٍ وخبث : من وين جانا المزز؟
اتسعت عيناها وبآليةٍ ارتفعت يداها لطرحتها تتشبث بها دون أن تفكر بالمحاولة في التخلص من يده التي تُقيد فمها وجسدها، فضحك ومع ضحكته خرج رجلٌ آخر من المكتبة لتتسع عينيه ما إن رآها : من وين جبتها؟
الآخر : كانت تتجسس
هتف الذي خرج وهو يؤمئ برأسه دون اهتمام : عالعموم انتهيت من شغلي، بقي الخطوة الأخيرة ونخرج، مدري شلون الإستاذ خلانا نخاطر بهالشكل وندخل بيته في وجوده!
الآخر : هه .. كل همه يثبت دهاءه واحنا اللي بناكلها ... يلا يلا كمل شغلك وخلنا نخرج بالمزة
لم يهتم الآخر وهو يُخرج علبة كبريت ليُشعل عود ثقابٍ ويرميه داخل الغرفة، وفي جزءٍ من الثانية كانت النيران تتأجج أمام عينيها، فشهقت شهقةً مكتومة وعينيها تتسعان بذعر، لتتبع شهقتها ضحكة الرجلين.
الرجل الذي يُقيدها بيديه : يلا نطلع قبل يرجع، هو خرج من شوي ومابيرجع إلا بعد ما تاكل النيران البيت مو بس الغرفة ذي!
الآخر : مشينا


أما سلطان فقد كان في سيارته ينتظر قدومها، وتعجب من تأخرها فبدأ بالتأفأف : يا الله غدوي ... ما تترك عادة التأخر لو تشوف العالم كله قدامها
رفع هاتفه ثم اتصل على هاتفها، ليصدح صوته من الجهة المُقابلة وتنتفض فجأةً مع صياحه، لكن الرجل الآخر اقترب ليُخرج هاتفها من حقيبتها ويقرأ اسم ( سلطاني )
ابتسم بسخرية : هذا هو يدق * ثمّ دمى الهاتف دون اهتمامٍ بالأرض *
: خلنا نمشي بسرعة ما ودي أتأخر على المزة اللي عندي
ارتفع معدل نبض قلبها وبدأ جسدها بالإرتعاش أكثر وأكثر، ما الذي يقصده هذا الرجل؟ ماذا يريد منها؟ .. ابتلعت ريقها ثم أمسكت بكفيه تحاول نزعها، لا تفهمه، لا تفهم ما تعنيه كلماته، ظنت أنه سيخرسها فقط وسيتركها ما إن ينتهيا، لكن لا يبدو أنه يفكر بذلك بتاتًا!
شدّ على فمها أكثر بكفه الضخمة، ثم بكفه الأخرى بدأ بتلمس جسدها المُغطى بالعباة : جسمك صغير ... كم عمرك؟ ... اعتقد ما بين 12 و 15 ... – حرك رأسه يمينًا ويسارًا بأسى – توقعتك أكبر وناضجة ... بس ما عليه، تفين بالغرض
انقطعت أنفاسها وزاغت عيناها، وجسدها ارتعش دون فهم، دون استيعاب. لمَ يتلمس جسدها بهذا الشكل المُغزز؟ لمَ تبدو لمساته مُرعبةً بهذا الشكل؟ بينما الآخر هتف بملل : أنا بطلع وانت الحقني بعد ما تنتهي
ثمّ خرج دون كلمةٍ أخرى، بينما الآخر كان غير قلقٍ بشأن سلطان، فهو في هذه الساعة غالبًا ما يكون خارج منزله، وتلك هي المعلومات التي وصلته من سيده. ارتفعت كفه عن جسدها، لينزع طرحتها بشدةٍ ويبدأ باستنشاق رائحة شعرها، وهي واقفةٌ دون مقاومة بملامح باهتةٍ لا تعلم ما يحدث لها، لكنها ما إن شعرت بشفتيه تتحركان على وجنتها مرورًا إلى عنقها، ارتخت قدماها حتى كادت تسقط، لكنه ثبتها وهو يترك فمها ليخلع عنها عباءتها.
وبمرور الوقت، ومن بين جمودها وصدمة عينيها التي ثبتت بالفراغ دون أن تشعر فعليًا بما يفعله هذا الرجل بها، شعرت بجسده يُنتشل عنها بقوةٍ فانتفضت كمن استيقظ من إغماءةٍ مؤقتة، لتشهقَ بقوةٍ تجتذب الهواء تشعر أنها تغطس في ماءٍ فاختفت ذرات الهواء منه، ودون أن ترى شيئًا مما يحدث حولها، كانت فقط تستمع لصراخٍ من أشخاص تجهل صوتهم، أو جهلت صوتهم الآن، نظرت لنفسها لتُجفل من مظهرها، متى أصبحت بهذا الشكل؟ شعرت بالدوار يداهمها والدنيا تسودّ من حولها، تتألم! جسدها يؤلمها، تشعر أنّ دبابيس غُرست به.
ودون أيّ فهم، دون أن ترى غير نفسها ومن ثمّ الظلمة التي أُسدلت على عينيها، تساقطت دموعها وهي تغيب عن وعيها تمامً

.
.
.
.

هذهِ بدايةٌ فقط للتعريف عن الشخصيات ورؤوس الأحداث


وأمنيتي أن تروق لكم ولذائقتكم ()
ودمتم / كَيــدْ !



MaNiLa 04-06-14 06:36 PM

رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
 


السلام عليكُم ورحمة الله وبركاتُه ..


مرحبًا بكِ عزِيزتي / كَيدْ ..


بداية مُشوقة للغاية،
شخصيات كثيرة وأحداث متشعّبة،
أسلوبٌ سلِِس ..

كلّ هذا يُخبرنِي أنّي سأتواجدُ كثيرًا بين صفحاتِك، ولاشكّ سأستمتع ..


لكِ كلّ التوفيق.


الساعة الآن 08:59 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية