اعترف صلاح لنفسه بأن هناء ما زالت لديها القدرة على مفاجئته بصورة عجيبة , بل قادرة على قلب كيانه رأسا على عقب ,بعد لقائهما هذا المساء والذى كشف عن رغبتها بمشاركته لها فى مشروعها الخيرىّ الجديد ... ليس فقط بصفته مستشارا للشئون القانونية ولكن منفذا ومتابعا لكافة الاجراءات الخاصة بادارة المشروع من الألف للياء ,,, أخبرته بأنه لا طاقة لها بتولّى زمام ادارة مشروع ضخم كالذى تنتوى افتتاحه من أجل مساعدة الفتيات اليتيمات من أجل تعلّم حرفة يدوية ومن ثم مساعدتهن لتسويق أعمالهن المختلفة حتى يحصلن على دخل ثابت يعينهن على الحياة.
كان يعتقد فى البداية بأنه مجرد احسان وعطف على فتيات فى مقتبل العمر يتعرضن يوميا لمشكلات لا حصر لها بدءا باستغلالهن لوحدتهن وضعفهن فى أعمال أقل ما يقال عنها أنها قذرة ... سقوطهن فى يدى من لا يرحم لأعمال ربما تكون منافية للآداب أو مخالفة للقانون ,أو على أفضل حال اجبارهن على الزواج بدافع الستر فتقبل احداهن طوعا أو قسرا ,, ولكن هناء قامت بتصحيح المفهوم الخاطئ الذى تكوّن لديه بأنه فى المقام الأول هو مشروع خيرىّ ويهدف للربح بذات الوقت كما أتها تريد انشاء قسم خاص من أجل الفتيات الأصغر سنا لمتابعة هواياتهن المفضلّة ,انشاء مكتبة وملعب صغير يضم ممارسة بعض الرياضات الخفيفة ... والجزء الأكثر اثارة للدهشة ... مساعدة الراغبات منهن فى استكمال دراستها سواء الأساسية وحتى الثانوية أو اللاتى تطمحن من أجل نيل شهادة جامعية أو الالتحاق باحدى المعاهد ,,, قالت هناء بحرقة وهى تسرح بخيالها الى البعيد:
-لا يمكننا اغفال هذا الجزء التكميلى لحياة الفتيات ,,, التعليم وليس فقط محو الأمية بل أتحدث عن حصولهن على مؤهلات متوسطة أو حتى عليا تكفل لهن مستوى معيشى أفضل وأكثر رقيّا ,كما أنها تمنحهن فرصا لا حصر لها فى مجال العمل ,ولا تنكر أنها ستشكّل فارقا فى حياتهن الخاصة بعد الزواج وانجاب الأطفال.
آلمه قلبه من أجلها ... أتراها نادمة على قرار سابق بالاكتفاء بزواج دونا عن استكمال دراستها الجامعية ... يذكر جيدا أنها كانت متفوقة بدراستها وحصلت على مجموع مرتفع بالثانوية العامة ... أهلها لدخول أفضل الكليات على مستوى الجمهورية الا أنها اختارت الالتحاق بواحدة منهن أثارت استياء عمها المتسلّط فى حينها ,ما زال يراها حبيبته الصغيرة بضفائرها الطويلة التى تتدلى على كتفيها ونظرات الحيرة تتجلى فى عينيها .. هل عاد بهما الزمان للوراء حينما فاجأته بقرارها لترك الدراسة حتى تتفرّغ من أجل اسرتها الناشئة ,كان موقنا يومها أنها لم تكن سعيدة بهذا القرار وأنها قبلت له مرغمة .. ولعن صمته وضعفه ذلك اليوم ... لماذا لم يقف الى جوارها يشد من أزرها ؟ بل لماذا لم يمنعها من ارتكاب تلك الحماقة ؟
تخلّى عنها اخلاصا لصديقه الذى تزوجها واحتراما لقدرها الكبير فى قلبه وعقله ,,, هو من دفع الثمن غاليا فيما بعد ,ومن يجزم بأنها لا تفعل بالمثل وربما أزيد ... ان حلمها لاسعاد الآخرين وحمايتهم جزءا من احساسها بانعدام الأمان والثقة .. كاد أن يرفض عرضها فهو ليس بحاجة الى عمل آخر ,لولا رؤيته لرجائها الصامت فى عينيها بألّا يكرّر خطأه السابق ,ومع ذلك طرح سؤاله عليها:
-لماذا لا تستعينين بشخص آخر ؟ أحدا من أقاربك مثلا ؟
-أحتاج الى شخص له خبرة فى الشئون القانونية.
-كان يمكنك اللجوء الى مجدى العمراوى فهو محامٍ ذو شأن عظيم كما أنه قد أصبح فردا من العائلة.
أجابته يائسة:
-أيعنى هذا انك ترفض مساعدتى ؟
نظر مباشرة الى عينيها رافضا أنصاف الحلول ,يبغى الصراحة كلية بلا أسرار وبلا أكاذيب فقال معتدّا:
-لماذا أنا بالذات يا هناء ؟
-ربما لأنك الوحيد الذى لن يتهمنى ثائرا بالجنون ,فأنا قررت وضع ميزانية ضخمة لهذا المشروع ربما تلتهم أكثر من نصف ميراثى ,,, ربما أحتاج الى من يدعمنى دون الخوف من طمع أو جشع .. والأهم لأننى أثق بك ثقة عمياء ,أنت صديق وفىّ.
كانت اعترافاتها تتوالى واحدا تلو الآخر تعدّد له الأسباب وتغمره بسعادة لا مثيل لها ,فعلى مر السنوات ما زالت تكن له كل احترام وتقدير ,أهذا هو ما تريده يا صلاح ؟ أن تظل حبيسا فى خانة الصديق المخلص ؟
-أنا موافق ,بشرط واحد ... لن أمس قرشا من أرباحك سوف أكتفى فقط براتبى الشهرى.
أسقط فى يدها ,,, كيف لم تنتبه لرنة الكبرياء فى صوته معلنا باباء متمنّع عن حق أصيل له ,حاولت بلا جدوى أن تثنيه عن شرطه هذا قائلة بوضوح:
-ولكنك ستبذل جهدا لاقامة هذا المشروع وسوف يستهلك أغلب وقتك ,,, فمن حقك أن تنال جزءا من الأرباح التى يدرّها.
هزّ رأسه بنفى قاطع وهو يقول بصرامة:
-أما أن توافقى على شرطى أو أنسحب نهائيا من الموضوع برمته.
سارعت للموافقة خشية أن يقدم فعليا على الانسحاب فأضاف مستطردا:
-وسوف نضيف هذا البند الى العقد الذى سوف نقوم بالتوقيع عليه ... لا أريد لأى شخص أن يتهمنى باستغلالك.
-لا أحد يجرؤ على مسائلتك كما لا يجرؤ على محاسبتى !
ضاقت عيناه قبل أن يقول بنبرة متهكمة:
-ولا حتى ابنك ! ما هو رأيه أم أنك لم تخبريه بعد بنيّتك ؟
-كريم ... أنه .. لا يملك الا موافقتى على ما أريد ,فأنا أمه وأدرى الناس به ,ربما يعارض فى البداية ولكنه سيتقبّل الأمر بالنهاية.
-أنتِ المسؤولة عن أقوالك.
-ماذا تعنى ؟
-لا أظنّه متقبّلا لوجودى بحياتك.
-حسنا فالأمر متبادل بينكما.
أجاب ببطء :
-أنه ابنك فكيف يمكننى استنكار وجوده بحياتك ؟
-لا أقصد هذا , ما عنيته أنك سبق ورفضت أية علاقة له بهديل.
أشاح بوجهه بعيدا قبل ان يقول بانفلات أعصاب:
-لن أسمح له بأن يتلاعب بمشاعر ابنتى ليتركها بعد ذلك محطّمة بعد أن ينال تسليته.
شهقت هناء بقوة من فسوة اتهامه فطفقت تدافع عن ابنها بحرارة:
-كريم لا يحاول اللعب بعواطفها ... لم يفعلها بسنوات مراهقته أبدا وهو الآن رجل بمعنى الكلمة .. ويمكنك أن تسألها بنفسك ان كان قد حاول تجاوز الحدود ولو بكلمة واحدة ,أتصدّق أنه كان عازما على نية الزواج منها ؟
قطّب جبينه مفكّرا وقد اصابته جملتها الأخيرة بالدهشة فقال متسائلا:
-كيف تكونين أكيدة مما تقولين ؟
-هو أخبرنى بنفسه كما اعترف بحبه لها.
-ربما ... كان هذا قبل أن يعرف ... بطبيعة العلاقة القديمة التى كانت تربطنا ...
قالت بصوت معذب:
-كريم هو الآخر يعانى مثل ابنتك وربما أكثر ,اشعر بأنه بات غريبا عنى ,كما أن غيابه المتكرر عن المنزل صار يقلقنى لأبعد الحدود ,, أننى أفقده يا صلاح كل يوم ... ولا أجد من يعيده لى.
أخذ يدير كلماتها فى ذهنه : أمن الممكن أن يكون عاشقا لابنته فعلا ؟ وهل برفضه السابق حطّم قلبين متحابين كما انهار حبه القديم ؟
قاطعه صوت هناء الآت من بعيد:
-أنت الذى تنتقم منه يا صلاح ,ولكنك لا تدرك فداحة خطئك.
-ولمَ أنتقم من كريم ؟ هل عدتِ لخيالاتك عن كرهى لأبيه ؟
-كلا أنت تنتقم منه بسببى أنا , بحرمانه ممن يحب.
أمسك بيدها دون سابق انذار ليضغط على أطرافها برفق وهو يقول معترفا:
-لا يمكننى أن اؤذى من ينتمى اليكِ فكيف بابنك ؟ أنتِ غالية على قلبى ومقامك لا يمكن المساس به أبدا.
-هل تعدنى بأنك على الأقل لن تمنعهما اذا ما قررا الدفاع عن حبهما واستئناف علاقتهما ؟
ضربت على وتر حساس للغاية فأفلت يدها كالملسوع وقال بصوت غائم:
-ربما ... ينجحان حيث فشلنا نحن.
أغمضت عينيها ببؤس وهى تشعر بشقاء الدنيا يتملّكها ,تدعو الله ألا يكون نصيب ابنها من السعادة كحظها العاثر ... فقدت الحبيب والزوج وفى طريقها لخسارة الابن ...
احترم صمتها لفترة طويلة قبل أن يقول بعمليّة:
-سأحتاج منكِ الى اجراء توكيل لى بخصوص انشاء المشروع ,كما أننا سنضطر الى البحث عن عقــار يصلح لهذا الغرض.
-من الغد سوف أذهب للشهر العقــارى ,ويمكننا أن نستعين بأحد المكاتب للتسويق العقــارى من أجل البحث عن المكان المثالى.
هتف باعجاب واضح:
-ياه لقد خطّطتِ لكل شئ ,هل كنتِ متأكدة من موافقتى لهذه الدرجة ؟
أجابته بمكر:
-ألم أخبرك أن عرضى غير قابل للرفض ؟
رد بمودة :
-بل قولى أننى لا أستطيع أن أرد لكِ أمرا.
ابتسمت له برحابة صدر وقالت بسعادة:
-الله لا يحرمنى وجودك الى جوارى.
منحها ابتسامة صافية بينما ظلّ حائرا ومشتت الفكر هل يستسلم لمشاعره التى سبق ووأدها فهى تعاود محاولة الطفو على السطح من جديد ,وكبتها لن يولّد الا الانفجار.
#############