لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-04-09, 02:44 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

- 6 -

فتح نضال باب الغرفة ففوجيء بناديا تمارس أحد تمارينها الرياضية بطريقة مثيرة ألهبت دمه وأثارت أعصابه. وقفت رأساً على عقب على السرير مسندة جسدها إلى الحائط تاركة لقميص نومها الأصفر أن ينحسر حتى صدرها كاشفاً معظم مفاتنها .همهم بغضب وصفق الباب وراءه بعنف وتقدم من السرير لكنه سرعان ماتوقف وقد احتقن وجهه حتى الانفجار ما إن لاحظ أن الستارة مرفوعة عن النافذة مما يسمح لأي مار من الحديقة أن يراها على هذه الصورة الفاضحة. قفز إلى النافذة وأطل منها يتفرس بقلق ليتأكد من عدم وجود أحد ، ثم تطلع إلى شباك غرفة غسان المطلة جانبياً على غرفته. كانت مظلمة فأسدل الستارة بعصبية حتى كاد يسقطها واستدار صارخاً بحنق مكظوم:
-مابقي إلا أن تعملي معرضاً وتدعيهم للفرجة.. أنسيت أنك في أول حملك؟.
كان وجهها المحتقن ينضح بالعرق وعيناها حمراوين تكادان تخرجان من محجريهما فيما راحت تتنفس بصعوبة لكن ذلك لم يمنعها من اغتصاب ابتسامة ساخرة والتلويح برجليها في الهواء قبل أن تقول بصوت متحشرج مخنوق:
- لاتخف عليّ . ثم ليس هناك غرباء لتخشى أن أغويهم أو يغووني. اللهم إلا إن كنت ماتزال قليل الثقة في نفسك!.
ازداد فوران دمه لملاحظتها اللئيمة فاقترب منها وأنزل رجليها بغلظة دفعتها لاطلاق صرخة ألم قبل أن ينبر فيها بقسوة:
- لاداعي للتظارف السمج!. ماذا سيقول من يراك في هذا الوضع؟ على الأقل أحسبي حساب أمي..
- معك حق. فهي " الرجل" الوحيد الذي يحسب حسابه في هذه العائلة!.
تجاهل تعليقها وراقبها تتمطى وتتقلب شبه عارية إلى أن استعاد جسسدها ليونته تربعت من ثم على الفراش مغطية ساقيها بقميصها متصنّعة الاحتشام واردفت وهي تحرك رأسها دائرياً:
- مارس هذه الرياضة أسبوعاً وستكون لي من الشاكرين. إنها أفضل طريقة لتستعيد رشاقتك وتصقل عقلك!. بماذا تآمرتما أنت وأخوك الكبير؟.
حدجها بنظرة ثاقبة محاولاً استقراء قصدها . أضفى عليها تورد وجهها وتعرّقه رونقاً خمرياً زادها فتنة وإغراء مما جعل الرغبة تتمطى في أحشائه رغم حنقه عليها. نفخ بهدوء واكتفى بمتابعة حركاتها مقطباً.. توقفت وعادت تسأله بالحاح:
- ماذا دار بينك وبين غسان؟.
فك أزرار قميصه وقال باقتضاب.
- لاشيء يذكر.
- ليس ثمة أسرار عائلية خطيرة إذن؟.
قالت بسخرية فكشر وحذرها بحنق:
-لاتستفزيني ياناديا!... أشعر أنني واقف على برميل بارود فلا تحاولي إشعاله!.
- ياللهول !.. إنني غير راغبة في إشعال أي شيء ياعزيزي. لكن هذا لن يمنعني من قول رأيي . أتعرف مقدار الخيبة التي أشعر بها! كنت أحسب السيدة أمك كتلة من العقل والمنطق والأعصاب المتينة فإذا بها امرأة... أقل من عادية!.. كم أن المظاهر تغشّ.. أهي فقدت عقلها أم ماذا!.
حدجها شزرا وهو يلوح بإصبعه مهدداً:
- سبق وحذرتك من أن تتعرضي لأمي باي سوء!.
جلس بجانبها ومرر يده على فخذها بلطف مستدركاً بهدوء:
- لقد أحسنت صنعاً بالبقاء على الحياد الليلة...
أبعدت يده بجفاء:
- لا أريد الإساءة إلى أمك من قريب أو بعيد . بالأحرى بت أشفق عليها.. ما هو رأي غسان؟.
سألته بصرامة دفعته للقول باستسلام:
- يخشى أن تكون وقعت في شراك مكيدة مرتبة بإتقان..
ضِيقت عينيها وحدجته بحيرة وقد استعصى عليها. ادراك قصده. أوضح بعد صمت قصير:
- الشركة تعاني من بعض المشاكل المالية، و اليابانيون أنذرونا بأنهم قد يطلبون الحجز إن لم نسدد رصيد صفقة الإطارات قبل نهاية تموز.
- وما دخل الشركة بقصة أمك؟.
- أنت تجهلين طبيعة السوق وصراعاتها. الكثيرون يطمعون في الشركة ولربما اكتشفوا شبه الرجل بأبي فقرروا استخدامه للتأثير على أمي..
حدقت إليه بغباء فاغرة الفم هنيهة. حين فهمت ماقال نخرت وضربت على السرير.
- ماذا أصابكم الليلة ياآل مناف؟ قبل قليل أمك..والآن أنت وأخوك !. لا أعرف من منكما الأغبى أنت أم هو؟ تتحدثان عن الشركة وكأنها شركة البوينغ وعن أمك وكأنها اكرم النحاس.. يالأخيلتكم الواسعة السطحية !.. أمك تتوهم أن زوجها قام من بين الأموات فرجعت مراهقة طائشة تتقّد عيناها بالشبق، وغسان يتوهم أن الناس لاهمّ لهم إلا سرقة شركتكم العظمى، وأنت ضائع بين الاثنين.. متى ستنضج يانضال مناف؟ إن كان هناك مكيدة فهي في عقل أمك المضطرب أما الشركة اللعينة فلا يطمع فيها إلا غسان.
نفنح ببرود:
- كفي عن شكوكك في أخي . أظن أنك أنت الطامعة في الشركة لاهو!.
- تعرف جيداً أنني غير طامعة في شيء. لكني لن أسمح لأحد أن يغتصب حقوق زوجي المسكين.. إن طموح غسان لاحدّ له وسذاجتك لاحد لها..
لطمها بقسوة على ساقها فأطلقت صرخة ألم خافته وانتفضت غاضبة فيما هو يزمجر:
- لاتفقديني صبري ياناديا. أنت تفتعلين مشكلة لا أساس لها ، فأمي لن تتخلى عن الشركة لغسان أو لأي شخص فاطمئني ولاتشغلي رأسك الجميل بشؤون ليست من اختصاصك!.
رمته بنظرة نارية قبل أن تهدر بصوت محتقن غيظاً:
- إن مددت يدك عليّ مرة ثانية لاتلوم إلا نفسك!.
رفعت قميصها عن ساقها ومسحت مكان اللطمة التي تركت أثراً أحمر.. بدا عليه الحرج فغمغم وهو ينهض:
- آسف .. الأفضل أن أخرج..
سارعت تمسك بيده وقد سيطرت على أعصابها قائلة ببرود:
- أريد أن أعرف علام اتفقتما أنت وأخوك!. أتصور أنه اقترح عليك أن تغتالا هذا الطارق مناف!؟.
كانت تعرف تماماً كيف تستفزه بأسلوبها الخبيث في التكلم بأقصى درجات الجدية في أتفه المواضيع، وبتهكم مفرط في أخطرها.. بإمكانها أن تحول المزحة إلى مأساة والمصيبة إلى طرفة دون أن يتمكن من معرفة حقيقة مايدور في خلدها . ورغم غيظه فقد حافظ على برودة أعصابه وأبعد يدها بهدوء:
- أنت شيطانة ياناديا ولا أعرف إلى متى أستطيع تحمل كيدك ولؤمك؟!.
-وأنا أيضاً لا أعرف إلى متى سأتحمل زوجاً لايشاركني كل أسراره العائلية!.
قالت بسخط وهي تبادله النظر بغضب. أسقط في يده فتجنب نظراتها وعاد يجلس على السرير وهو يزفر باستسلام:
- لم نتفق على شيء .. وأنت محقة .. إنه يشتط في شكوكه وأوهامه إلى درجة غير معقولة . تحدث عن محاذير ومخاوف لها أول وليس لها آخر.. برأيي ليس هناك ما نخشى عليه ومنه إن كان هذا الرجل طارق مناف أو لم يكن.
- ممتاز !.. وليس هناك مايمنع إذن أن يرجع إلى أمك ويعيشا في ثبات ونبات ويخلفا الصبيان والبنات وكأن العالم ينقصه أولاد الحرام!..
-لاتعودي إلى استفزازتك!.
-ولماذا تحسبني أستفزك؟ لست متبحّرة في القانون الكنسي ولكن إن ثبت أن هذا الرجل هو طارق مناف حقاً فإنه سيخلق لكم مشكلة كبيرة اسمها الزنى....لاتندهش . كلاهما تزوج مرة ثانية وهو مايزال مرتبطاً بالآخر بسر الزواج المقدس. أتعرف معنى هذا؟ معناه أن زواج أمك من أكرم النحاس زنى، وزواج والدك المفترض من تلك المرأة زنى أيضاً. أما أبناؤه منها فهم في عرف الكنيسة غير شرعيين.. أي أبناء حرام!..
دهمته القشعريرة وهو يحملق إليها بذهول .. نظرت إليه بانتصار ثم راحت تفصل فكرتها:
- هذا جانب بسيط من جوانب القصة التي طلعت بها أمك علينا . الزواج الكنسي رباط أبدي مقدس بين الرجل والمرأة لايفصمه إلا الموت ، أوالطلاق في حالات استثنائية كما لابد أنك تعلم . وقد تصرفت أمك على أساس أنها أرملة وتزوجت من رجل ثان. أما أبوك، المفترض أنه لم يمت، فقد حصل على اسم وسجل عائلي جديدين ، وسنعرف لاحقاً كيف فعل ذلك إن كان فاقد الذاكرة، وبموجبهما استصدر ورقة " مطلق حال" ليتزوج من المرأة الأخرى فيما هو ليس مطلق الحال. وهذا هو الزنى!.
- بالله كفي عن استخدام تلك التعابير المفزعة. الزنى. أولاد الحرام. وكأنك كنت تعملين في محكمة تفتيش!.
- ونسيت ان أذكر الحرمان .. هنا تكمن المصيبة الكبرى!.
- أنت مرعبة ياناديا . لم تخطئ أمي حين وصفتك بالشريرة.
- أمك وصفتني بالشريرة؟.
قاطعته بصوت كالفحيح وقد أكفر وجهها وقدحت عيناها شرراً. شحب وجهه لزلة لسانه لكنه سارع يحاول لفلفة الأمر:
- إنني أمزح.. ماذكرته لاينطبق على حالتهما. لا أرى أنهما زنيا أو خرجا على قانونك الكنسي أو المدني. لم يكن لهما يد فيما حدث، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتبرهما مسؤولين عنه. أمي تزوجت باعتبارها أرملة، وهذا من حقها ، وهذا الرجل ، أن كان أبي فعلاً، فهو قد فقد ذاكراته ونسي أنه زوج وأب فتزوج لينشئ أسرة وهذا أيضاً من حقه. ولا أظن أن الكنيسة متحجرة إلى درجة اعتبارهما خاطئين يجب رجمهما. ان تلك المسألة لاتستأهل كل هذا التهويل لكنها تقودنا إلى تساؤل مهم فعلاً...
صمت يأخذ نفساً عميقاً محاذراً التقاء نظراتهما ثم أردف:
- نعم . إنه سؤال خطير يبدو أننا غفلنا عنه تحت وطأة الصدمة . وهو يتعلق بدين الرجل. ماهو دينه؟ ألا يمكن أن يكون مسلماً؟.
حدقت إليه بإمعان ثم عقدت حاجبيها مبدية الدهشة . سيطر على الاثنين صمت هادئ أوحى أنهما نسيا، أو تناسيا ، مناكداتهما.استعادت ناديا هدوءها وهي تقول:
- أستبعد أن تكون تلك المسألة غابت عن أمك . لاأشك أنه مسيحي.
قفزت عن السرير وخلعت قميصها قبل أن تستدرك:
-لم يسبق أن حدثتني عن أبيك.
لم يصرفه السؤال عن التفرس بشبق في عريها الصارخ بالند اءات اللاهثة. نفخ بقوة وقال فيما هي تبحث في الخزانة عن ثوب:
- وماذا تتوقعين من طفل في الرابعة من عمره أن يتذكر؟ لاشيء بتاتاً.. وعيت الدنيا دون أب وتأقلمت معها على هذا الأساس.
- على العكس مني إذن!.
قالت وهي تضع بعض مساحيق التجميل على وجهها بعد أن ارتدت بلوزة زرقاء سماوية وبنطلون الجينز الضيّق. طلت شفتيها بحمرة خفيفة ثم استدركت دون أن يبان في صوتها أي تأثر:
- لعل مأساتي الكبرى هي حرماني أبي قبل أن أتأكد من شخصيته!.
فاجأه كلامها فحدق إليها باستغراب وقد فغر فمه. اغتصبت ضحكة باردة وأردفت وهي تبادله النظر عبر المرآة:
- لاتزعم أنني فاجأتك أمك ماتزال حتى الآن تتهمني بأنني أبنة حرام!.
- أنت مخطئة ومتجنيّة.
قاطعها بحنق وقد أكفهرت ملامحه. نهض ودنا منها:
- أمي لم تتفوه بمثل هذه الافتراءات أبداً . إنها مثل حد السيف وراء ظهرك وهي لاتسمح لأحد بالاساءة إليك بكلمة. أنت صرت فرداً من العائلة وأية أهانة توجه إليك هي إهانة للعائلة كلها.. ولا أري أي معنى لمثل هذا الحديث الآن.
استدارت نحوه وواجهته بعينين ساكنتين وملامح جامدة مردفة بصوت لاحرارة فيه:
- كم أن القدر لئيم. فيما لم يرتح أي منكم لفكرة أن والده على قيد الحياة كنت أساءل لماذا لم يحدث الأمر لي أنا ، لماذا لايخرج من قبره لأعرف من هو
- لكنك تعرفين من هو!.
-على الورق فقط..
قالت بسخرية واتجهت إلى الباب:
- أهو حقاً حنا ديب أن أحد عابري السبيل الذين كانت أمي تتصيّدهم بين الوصلة والوصلة؟ أنا خارجة لاستنشاق بعض الهواء.
تابعها بوجوم وهي تخرج رادّة الباب وراءها بهدوء ثم لوح بيديه بعنف وتهاوى على المقعد يتبادل وصورته في المرآة نظرات خاوية. كانت تلك أول مرة بعد زواجهما تتطرق إلى هذا الموضوع بشكل مباشر وفجّ مبدية ذلك القدر الكبير من الأسى والألم.

***
حين وافته إلى عند سبيرو لتبلغه، بعد أسبوع كامل من التفكير، موافقتها المبدئية على الزواج به، صفق بفرح طفولي ونادى على سبيرو بأعلى صوته ليسأله إن كان يوافق على أن يكون اشبينهما. سارعت تضع يدها على فمه ترجوه أن يهدأ ثم لوحت لسبيرو الذي أطلق صرخة ابتهاج أن يصمت ويبقى في مكانه . تفرست فيه بعينين ضاجتين بالانفعالات والمشاعر ثم قالت بهدوء:
- لاتستعجل كثيراً يانضال فثمة مايجب أن أقوله. أعتقد أنك سمعت أقاويل كثيرة حولي. لذا أرى أن تسمع الحقيقة مني الآن وتتراجع. وسأتفهم موقفك وأعذرك إن فعلت ، فهذا أفضل ألف مرة من أن تعرفها بعد الزواج حينما يكون الأمر قد خرج من يدك فتندم ساعة لاينفع الندم. كنت في الثالثة من عمري يوم هجرت أمي أبي بعد أن أصبح مستحيلاً عليهما الاستمرار في العيش تحت سقف واحد. أخذتني إلى حضانتها وعادت إلى ممارسة مهنتها الأولى, الرقص في الملاهي. كان أبي قد تزوجها غصباً عن أسرته. يزعمون أنه أحبها بجنون فيما لم تحب هي إلا ثروته. وقد استطاعت، بالحيلة والمكر، أن تستولي عليها وتبددها على متعها . والظاهر أن أبي لم يكن إنساناً طبيعياً، أو أن الغضب والحقد أفقداه صوابه بعد أن بددت ثروته واكتشف أنها لاتحبه، فراح يشهر بأمي مدعياً أنني لست من صلبه وأنه طردها بعد أن اكتشف أنني ثمرة علاقة محرمة قامت بينها وبين أحد زبائنها ، وتقدم بدعوى إلى الكنيسة يطلب التفريق بينهما مستنداً إلى هذه الادعاءات. أمضيت معها خمس سنوات نتنقل مثل النوّر من مدينة إلى أخرى إلى أن أتاها عرض للعمل في ملهى عربي في لندن. أدخلتني إلى دير للمريميات وأوصت الراهبات بي بطريقة نمت عن أنها قررت التخلي عني بدورها نهائياً. غابت خمس سنوات ثم عادت إلى عمان لتبيع بيتاً كانت تملكه في الدوار وقطعة أرض في منطقة التوسع الجديدة. زارتني مرة واحدة وأمضت معي أقل من ساعة. لم أعرفها أول مارأيتها. كانت لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها إلا أنها بدت كالمومياء بوجهها الأصفر الناحل المسلول وعينيها الغائرتين ويديها المرتجفتين دائماً لإدمانها على المخدرات على ما أعتقد. شعرت بالنفور منها لكني اشفقت عليها. أبلغتني ببرود أن والدي توفي في بيروت قبل عدة أشهر وأنها ستهاجر إلى استراليا لافتتاح مدرسة لتعليم الرقص الشرقي بالاشتراك مع مغترب فلسطيني قد تتزوجه إن سارت أمورها على مايرام . وعدتني بأن ترسل ورائي ما إن تستقر هناك . لكني شعرت بأنها غير صادقة. لم يزعجني الأمر. على العكس سررت إذ أدركت أنني سأتحرر منها نهائياً . لعلي أخذت منها قسوة القلب وبرودة العاطفة. عشت مرتاحة هانئة مع الراهبات بحيث نسيت أن لي أباً و أماً. تمنيت لها الخير وسألتها عن حقيقة خلافها مع أبي وما أسمعه من بعض الطالبات حول إنكاره بنوتي. كانت تلك الأقاويل تحرجني وتسبب لي شعوراً بالنقص رغم أنني أعيش وسط بنات معظمهن يتيمات أو لقيطات. أجابتني أن أبي كان يعاني من مرض عصبي وأنه خسر معظم ثروته في القمار والصفقات التجارية الفاشلة ، فأصابته لوثة جعلته يتوهم أنها خانته وسلبته ماله. وقد بذلت كل ما في وسعها لرعايته ومساعدته على تجاوز أزماته الصحية والمادية لكنها فشلت ثم قررت أن تهجره بعد أن بدأ يصب جام غضبه عليّ فخافت أن يؤذيني في واحدة من ساعات جنونه. نصحتني ألا أعطي بالاً لتلك المزاعم التي تحاول النيل مني وأخبرتني أنها دفعت لادارة الدير خمسة ألاف دينار هي نصف ماتملكه أربعة منها تكاليف إقامتي وتعليمي إلى أن أبلغ الثامنة عشرة والألف الخامسة لأسافر بها إلى استراليا عندما تستدعيني. بكت وهي تودعني مؤكدة أنها ستبقى على اتصال دائم بي. لكني منذ ذلك الحين لم أسمع عنها خبراً.
صمتت ترتاح قليلاً بعد حديثها الطويل وتبادلت التحيات الرأسية مع عدد من رواد "السناك" ثم بللت ريقها بجرعة من النبيذ قبل أن تردف:
- اقتنعت بما قالت واستعنت به لاستعادة ثقتي بنفسي والتصدي بشجاعة لأية بنت تحاول التعريض بي. لكني عدت بعد عدة أسابيع إلى وساوسي وعذاباتي حينما رحت أفكر في أنها لم تجزم بشكل صريح أنني ابنة حنا ديب. لم تقسم لي. كما كان يجب أن تفعل، أنه أبي. أسهت عن ذلك أم تجاهلته قصداً لأنها تعرف أنني لست سوى ثمرة علاقة أثيمة أقامتها مع لا أعرف من؟ مضت حتى الآن عشر سنوات وماتزال الشكوك تؤرقني، وستظل إلى أن ألتقي بها ثانية لأجعلها تقسم إنه أبي لاغيره. والمشكلة أنني أجهل إن كانت ماتزال على قيد الحياة أم ماتت. لم أتلق منها حتى بطاقة معايدة في الأعياد. أعتقد أن الناس نسوا تلك القصة بعد كل هذه السنوات ، لكن زواجي ، ومنك أنت تحديداً، ابن عواطف بشارة سيدة الأعمال الكبيرة وارملة اكرم النحاس، قد يعيد فتح ملفي من جديد ويضعني تحت مشرحة أهل عمان جميعهم.
لم تزده صراحتها إلا ولعاً بها وتصميماً على أن تكون له. تناول يدها وقبلها قبل أن يسألها مجدداً إن كانت توافق على الزواج به. فهو يحبها هي ، كما هي، وسيظل يحبها إلى آخر الحياة . وأومأت برأسها بالإيجاب.
وهو فعلاً أحبها من النظرة الأولى. صرعه جمالها ودلالها وخلبت لبه عيناها الساحرتان فاستسلم لها وأسلمها قياده بغبطة ونشوة وانطلاق.
لم يتصور أن المهمة السخيفة التي كلفته بها أمه بأن ينوب عنها في حضور المهرجان الخيري السنوي الذي تقيمه جمعية الشبان المسيحية الاورثوذكسية في ذكرى اغتصاب فلسطين، ستقلب حياته رأساً على عقب . كانت عواطف قطب ذلك المهرجان ولولبه، بل هي التي اخترعت فكرة إقامته لتطل منه على ساحة القضية الوطنية التي شغلتها أعمالها ومشاغلها عنها.وقد اعتادت أن تختتم المهرجان بالتبرع بمبلغ كبير لايقل عن الخمسة ألاف دينار لنصرة قضية فلسطين مثيرة بذلك نخوة وجهاء الطائفة أو غيرتهم فيسارعون إلى الحذو حذوها .
استيقظت صبيحة المهرجان مصابة بنزلة صدرية ترافقها حرارة عالية طرحتها الفراش. حين أدركت أنها لن تستطيع حضور المهرجان طلبت من غسان أن يحل محلها لكنه رفض ببرود وقح، ولم يتحرج عن تكرار انتقاده لما يعتبره تصرفاً غير محمود من قبلها في استغلال المهرجان للظهور بمظهر المحسنة الكبيرة بينما هي في الواقع لاتعمل أكثر من تنفيذ وصية أكرم في تخصيص نسبة من أرباح الشركة لقضية فلسطين.
جرحها كلامه بحيث نسيت مرضها وزعقت فيه بغضب أنها ليست بحاجة الى وغد مثله ليعلمها كيف تقوم بواجبها الوطني. وأنه كان مجرد شخاّخ في القماط حين كانت هي تناضل.
كان متفقاً مع غسان في الرأي حول هذا الموضوع وسبق لهما أن ناقشاه أكثر من مرة منتقدين ليس أمهما ولكن الأسلوب الذي حوّل تلك المناسبة إلى فرصة يشبع أثرياء الطائفة بها نزواتهم وأهواءهم في التشاوف وادعاء الوطنية وشراء راحة البال بحفنة من الدنانير. لكن وقاحة غسان الصفيفة أزعجته وجعلته يتعاطف بحرارة مع أمه. لذا وجد نفسه ينساق باستسلام لتلبية رجائها حين التفتت إليه تستنجد به. كان عاجزاً عن محاكاة غسان في تمرده الجلف أو مجاراة عطاف في لامبالاتها المقرفة. وهذا مادفعه لأن يكون معظم الأحيان، بغير قليل من الغيظ المكبوت، الحل الوسط في أية مشكلة تطرأ بين أمه وأخيه، والوسيط الحريص على الحفاظ على الحد الأدنى من التفاهم بي ن أفراد اسرته. لكنه لم يندم هذه المرة. فلولا حضوره المهرجان ماالتقى بناديا ، ولا انفتحت أمامه أبواب السعادة والحب على مصراعيها. وكان الندم من نصيب أمه التي لعلها ماتزال حتى الآن تعض أصابعها!.
حين أطلت على الحضور بكل حسنها ونضارتها لتفتتح المهرجان ببعض القصائد الوطنية أحس بكيانه كله يتزلزل وهو يحدق إليها مشدوهاً انشداه آدم ما إن وقعت عيناه على حواء للمرة الأولى. سحرته وقفتها الشامخة بقدر مافتنته حركاتها التمثيلية المتناغمة مع إيقاع قصيدة بيروت لممحمود درويش. كان معجباً بالقصيدة،لكن أسلوبها البديع في الالقاء، الجامع بين عذوبة الصوت وغنائية الكلمات وعنفوان المعاني ، أسر مشاعره فاستكان إلى خدر لذيذ جعله يفقد الإحساس بالمكان والزمان في آن. أهي القصيدة التي أسبغت على الفتاة شاعرية مجنحة كالطيف أم هي الفتاة التي كست القصيدة بثوب من السحر اللألاء؟ تسمرت نظراته عليها لاتستطيع عنها فكاكاً وقد انتابته رغبة جامحة في اختطافها والهرب بها إلى حيث لايكون سواهما. وراح يتابعها بجماع أهواء نفسه وكتلة شهوات جسده محاولاً جهده جذب انتباهها إليه . التقت نظراتهما غير مرة لكنها لم توله أي اهتمام رغم افتراضه أن جلوسه، وهو الشاب الطارئ على المهرجان- إلى يمين المطران لابد أن يثير فضولها ويدفعها للتساؤل عمن يكون ، خفق قلبه بقوة وقرصته الغيرة وهي تترجل عن خشبة المسرح برشاقة لتقف إلى جانب شاب وسيم رياضي القوام انهمكت واياه في همس ضاحك خاله ، إذ أمسك بعينيها تطرفان نحوه، يدور حوله.في تلك اللحظات ، على الأرجح، قرر أن تلك الفتاة يجب أن تكون له. التفت عنها يتطلع فيما حوله بثقة وكأنه يكتشف . للمرة الأولى ، ماذا تعني الثروة من جاه ونفوذ وسلطة. فمقعده، بالأحرى مقعد والدته، بين المطران وممثل وزارة شؤون الأرض المحتلة،أما بقية الحاضرين، بمن فيهم وجهاء الطائفة وأكابر القوم، فقد تقهقروا إلى الصفوف الجانبية والخلفية.وحدها أمه، بالخمسة ألاف دينار ، تنال حظوة الصف الأول بكل مايعنيه ويوحي به. وللمرة الأولى أيضاً يدرك قيمة أن يكون ابن عواطف بشارة، أرملة اكرم النحاس !. لم يشك في أنه محط اهتمام جميع هاته الصبايا الحسناوات المنتشرات كالزنابق في القاعة ضاحكات لاهيات عابثات يبحثن عن فوارس أحلامهن. كان ، حتى تلك الليلة، قليل الخبرة ضعيف التجربة في علاقاته مع الجنس الآخر. وهذا ما أنمى فيه أحاسيس خجل فطرية تجاه المرأة دفعته إلى الترفع، وربما العجز، رغم الفرص التي يوفرها له مركزه الاجتماعي، عن إقامة علاقات حميمة متعددة ومتشعبة وفاسقة كالتي كان غسان مجليّا فيها. فكان أن انصرف بكليته إلى التحصيل العلمي وقد سيطرت عليه فكرة نيل الدكتوراه في الاقتصاد وكأنه يريد إثبات قدرته على بزّ غسان في مجال من المجالات.
أما تلك الليلة ، وهو يتابع منفعلاً غادته العابثة التي راحت توزع تحياتها ذات اليمين واليسار وكأنها تناكده، فقد شعر أن شخصاً جديداً ينمو داخله ، وأن الشاب المراهق الخجول الحالم الذي كانه حتى الآن راح يضمحل تاركاً مكانه لرجل واثق بنفسه يعرف تماماً ماذا يريد . وهو يريد تلك الانثى.
لم يعرف كيف مر الوقت وهو يتقلب على جمر القلق يلاحقها بقحة ما إن تقع عيناه عليها ويفتش عنها بشوق ما إن تختفي عن ناظريه. لم يصدق ان المهرجان انتهى وقدم الشيك إلى المطران حتى سارع يتخلص من الجمع الذي التم حولهما دالفاً إلى الكواليس. تفاءل حين وجدها وسط مجموعة من الصغيرات تنتظر حضور أوليائهن لاصطحابهن . اتجه نحوها بثقة ومدّيده قائلاً بحرارة:
- آنسة ناديا؟. أنا نضال مناف. جئت لتهنئتك وشكرك . لقد وفرت لي سعادة لم أعرفها منذ زمن طويل. كنت رائعة في إلقائك. ولا تلقي بهذا الأسلوب المتميز إلا شاعرة حقيقية.
شع الزهو في وجهها المشرق الذي خضبته حمرة خجل خفيفة وصافحته بود وهي تقول بارتباك:
- أنت الذي يجب شكره. إن كرم السيدة والدتك يبعث على الاعتزاز. وأعتقد أن هذه صفة أصيلة في العائلة. أليس كذلك؟.
كان غاطساً في سحر عينيها فلم يستوعب معنى ما قالت، وإذ سترجع كلماتها ببطء ادرك أنها قدمت له طعماً لايفوت . ولم يعرف كيف واتته الجرأة ليقول بثقة مسيطراً على انفعالاته محاولاً تقليد أسلوب غسان:
- عليك أن تكتشفي ذلك بنفسك. هذا إن سمحت لي!.
وكأنها بدورها لم تكن تنتظر غير تلك الإشارة لتجيب بمرح وهي تداعب شعر إحدى الصغيرات:
- حب الاكتشاف يسري في عروقي. لقد بدأ الأهل بالحضور لأخذ أطفالهم. قد أفرغ من عملي بعد ربع ساعة، وبعدئذ أصعد إلى البوفيه لشرب فنجان قهوة.
- أأعتبر نفسي مدعواً لمشاركتك القهوة؟.
رنت إليه وقد ضيّقت عينيها قبل أن تقول بمكر:
-جرت العادة أن يدعو سيادة المطران ضيوفه إلى فنجان قهوة في الصالون في ختام المهرجان وأظن أنه من المستحسن ألا تتخلف عن دعوته.
- حين يتلقى الرجل دعوة من ملاك فإن البابوات أنفسهم يسقطون من حسابه!. حتى هو نفسه فوجيء ببلاغة جوابه وأحس بالرضا وهو يرى ضحكتها الصافية الرنانة . حين تمالكت نفسها دندنت بصوت غرّيد:
- ألاتكون تتعاطى الشعر بدورك: أنا أعشق الشعر والشعراء ولكن حذار فإنني ناقدة لاترحم!.
هي التي خطفته تلك الليلة وطارت به إلى حقول النجوم. رفضت ركوب السيارة أو أمّ أي من المرابع الليلية والفنادق الفخمة التي اقترح أن يسهرا فيها. أخذته سيراً على الأقدام إلى سناك بسيط محشور في قبو إحدى العمارات في حارة متطرفة من منطقة الكرامة لم يسبق له أن طرقها قبلاً . كان عبارة عن شقة متوسطة الحجم واطئة السقف تضم صالة مربعة مفتوحة على ثلاث غرف استعيض عن أبوابها بستائر قصبية ملونة يمكن إسدالها لفصل الرواد عن بعضهم . كانت الإنارة خافتة حمراء تضفي جواً من الحميمية على المكان وتتناسب مع موسيقا يونانية جميلة مألوفة الوقع على أذنه . تحلق عدد غير قليل من الزبائن حول عدة طاولات من الفور مايكا في الصالة وكان أغلبهم من الشبان باستثناء رجلين وامرأة في منتصف العمر انزووا يتهامسون حول طاولة ركينة.
نمّت الهتافات الودية التي استقلبتها بترحاب والابتسامات العذبة والتعليقات المرحة التي ردت بها عن إلفة عميقة تربط فيما بينهم وبينها . تقدمته إلى طاولة في أقصى الصالة مخصصة لشخصين فقط ولوحت بيدها تحيي باليونانية امرأة مربوعة القامة مكتنزة الجسد لاتخلو من جمال وقفت وراء البار تعد الشراب، ثم قالت:
- إنه أرخص وأحسن وأرقى سناك في العالم كله وصاحبه المسيو سبيرو ألطف وأظرف رجل في العالم ولايستقبل في وكره سوى اللطفاء الظرفاء أمثاله..
انتظرته إلى أن جلس وشمل المحل والرواد بنظرة سريعة وأشارت صوب عجوز ناحل صغير الرأس قطني الشعر في العقد السابع من عمره توارى وراء طاولة عليها جهاز تسجيل متوسط الحجم وكأس خمر طافحة ، ثم أردفت بمرح:
- المسيو سبيرو وفلسطيني من أصل يوناني، أو يوناني من أصل فلسطيني لافرق. كان يحتفظ بوثائق تثبت أن أهل كريت والفلسطينيين ينحدرون من أصول كنعانية واحدة. لكنها بقيت في فلسطين!. هاجر والداه إلى حيفا قبل نصف قرن وهرب منها عام /48/ إلى القدس وحارب مع عبد القادر. استقر من ثم فيها حيث عشق وتزوج امرأة جميلة لعوباً. عام /1968/ أبعدته سلطات الاحتلال لتعاطفه مع الفدائيين ووعدته زوجته أن تلحق به. لكنها لم تفعل حتى الآن. افتتح هذا السناك وتخندق فيه يغرق أحزانه في الخمر والصداقة والشعر بانتظار حضورها.
- يبدو أنه شخصية طريفة صديقك المسيو سبيرو.؟.
- إنه شخص استثنائي وستكتشف ذلك بنفسك . لقد أوقف محله على شلة من أصدقائه ومعارفه وضيوفهم الحميمين. قاسمنا المشترك شرب الخمر والحب والاستماع إلى الموسيقا اليونانية والشعر ومأساة سبيرو. الاسبوع الماضي أنشدنا عباس منذر، وهو الكهل السمين الجالس إلى الطاولة المنزوية قصيدة جميلة أعجبت المسيو سبيرو فوزع على كل طاولة زجاجة خمر مجانية. إنه الآن يتفحصك فإن رقت له ونزلت في نفسه منزلاً حسناً سيرسل لنا زجاجة من الخمر الممتاز وينضم إلينا ليشرب معنا قدحاً. وإن لم تعجبه ستكون الزجاجة من النوع الرخيص فأفهم أنه غير مسموح لي باصطحابك إلى هنا ثانية . لكن اطمئن ستروق للمسيو سبيرو.
ضحك بسعادة وأمسك يدها بعفوية قائلاً وقد بدأ يستمتع بالجو المحيط به:
- أحب المسيو سبيرو . لكن مايهمني أنك تعتبريني ضيفاً حميماً وصديقاً عزيزاً بحيث غامرت بإحضاري إلى هنا.
افترقا بعيد منتصف الليل شاعراً أن القدر نسج حبائله حولهما وحدد مسار حياته من الآن وصاعداً. لم يتحدثا عن نفسيهما بما يذكر . هبط عليهما المسيو سبيرو بزجاجة خمره اللذيذ وقصصه المشوقة عن آلهة الاغريق الذين ندموا على ماأنزلوه من بلاء على رؤوس مخلوقاتهم المسكينة فمنحوها سر صنع الخمر لمساعدتها على تحمل شقائها وعذاباتها وإيهامها أنها صنو الآلهة ذاتها في سموها وعظمتها وحريتها..وعن زوجته اللعوب الغادرة:
- السمراء الأجمل من افروديت . لكنها مثل أفروديت قاسية القلب على عشاقها وطالبي وصالها . لقد فضلت القدس عليّ ولا ألومها. هي في الستين الآن لكني أراهن أنها ماتزال تحب وتعشق كما لو أنها في العشرين.
قال المسيو سبيرو بأسى بلغة عربية سليمة مقدسية اللهجة لم تخل تماماً من لكنته الأجنبية. عقد حاجبيه واستدرك بخبث وهو ينقل بصره بينهما رافعاً قدحه الأحمر:
-الحب الحقيقي لاينتهي ابداً ياأصحابي. وستعرفون ذلك إن أحببتم بعضكم بعضاً حباً حقيقياً صادقاً.
ابتسمت ناديا بود فيما انتشى نضال بتلك الرمية المواتية فهتف بمرح :
-حبي حقيقي يامسيو سبيرو وأراهنك أنه سيدوم ابدا!.
تدرجا في شوارع عمان المعتمة الهادئة اللطيفة الجو صامتين متشابكي الأيدي شاعرين أن أي كلام لن يرقى إلى مصاف عواطفهما التي تفتحت على تلك المنحة الآلهية المسماة حباً. اختلطت مشاعرهما وخواطرهما وأحلامهما بالمسيو سبيرو وفلسطين والآلهة الاغريقية والزوجة اللعوب التي فضلت القدس والنبيذ المعتق الفاخر والموسيقا اليونانية الساحرة.
لم يندهش حين وجد أمه تنتظره ، رغم مرضها، وقد تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل . تلقته مكفهرة حانقة لتؤنبه بقسوة على سلوكه المعيب في التغيّب عن دعوة المطران دون اعتذار مفضلاً رفقة فتاة عابثة سيئة السلوك!. فاجأه تهجمها العنيف على ناديا وزاد من حنقه أنه تم بحضور غسان الذي راح يرمقه باستخفاف وكأنه يشمت به. فانفجر يقول بانفعال لم يسبق أن تجرأ على مثله:
-سيئة السلوك التي تتحدثين عنها هي أجمل وأنبل فتاة قابلتها في حياتي، أرجو ألا تسيئي إليها بأية كلمة لأنني لن أسمح لأحد بالتهجم عليها أمامي.
لقد توقع أن تغضب أمه لتغيبه عن دعوة المطران، وأن تسأله أين أمضى كل هذا الوقت ومع من، لكنه لم يتصور أن تكون قد صارت على علم بكل شيء، وأن تصب جام غضبها على رأس ناديا بهذا الشكل المهين. لكن رجاءه لم يلق أذناً صاغية من أمه التي راحت ، دون أية مراعاة لشعوره ، وغير مبالية بوجود غسان ، تقرعه كأنه طفل اقترف ذنباً كبيراً قائلة إن عليه أن يبتعد عن تلك الفتاة . لم تداور أو تلمح، بل راحت تقصفه بكل ماتعرفه عن ناديا سواء مايتعلق بأمها الراقصة وأبيها الذي أنكر أن تكون ابنته، أو فيما يخص سلوكها الشخصي:
- إنها ليست أحسن من أمها. لقد شقت عصا الطاعة على الراهبات وتركت الدير لتسكن وحدها في غرفة لدى أرملة مشبوهة السلوك بدورها. ولولا أن رئيسة الدير تخشى عليها الانحراف لطردتها من وظيفتها في المدرسة.
وكأن غسان شعر أنعليه تقديم يد العون لأخيه ، قاطع أمه يقول بحدة:
-رويدك ياأمي . منذ متى صرت قاضية معصومة عن الخطأ لترجميها بكل هذه الحجارة؟.
استمد من تدخل أخيه الجرأة ليقول بتصميم:
- كل هذا لايعنيني في شيء. إنها فتاة لاغبار عليها.
- أفقدت عقلك ياولد؟ ألم تفهم بعد أن أمها كانت بنت هوى. أتدرك معنى ذلك؟.
حملق في أمه ببلاهة بدت له قاسية متجبرة إلى درجة أفزعته. شعر بالضعف إزاء اتهامها الأخير فأطلق ضحكة صفراء يداري بها اضطرابه وسألها بقلق :
-من أين لك كل هذه المعلومات ؟ إنها أقاويل وأكاذيب. ثم كيف عرفت أنني سهرت معها؟ أوضعت جواسيس في إثري؟
زجرته بقسوة:
-كف عن التساخف يانضال ، مثلي لايخفى عليها شيء. ليس هناك من يجهل حقيقة أمها. لهذا صارت في الخامسة والعشرين دون زواج رغم ماتمتاز به من جمال وذكاء وثقافة رفيعة. لاأحد يغامر بالتورط مع بنت لها هذه الأم. صادق واحبب واله مع من تشاء من الفتيات، لكن ليس مع واحدة مثل ناديا وتكبرك بثلاث سنوات.لا أريد أن تكون لك أية علاقة معها.
وفقد أعصابه . لم يعرف كيف أفك تزمامها من يده لينفجر في وجه أمه في ثورة غضب لاسابق لها. لعل السبب نتج عن شعوره العميق بالعطف على فتاة رائعة الجمال سامية الأخلاق تتهم زوراً وبهتاناً فتحركت فيه النخوة للدفاع عنها.
أو قد يكون باعثه نظرة غسان المشفقة التي صبت الملح على جرح كبريائه، فانتفض راغباً في إثبات رجولته . أوهو الاستخفاف الذي تبديه أمه في كلامها معه. فوجد الفرصة سانحة لاعادة الاعتبار إلى شخصه ووضع حد لها . زعق مطلقاً لانفعاله العنان:.
- أنا ما عدت طفلاً لتكلميني بهذه اللهجة ولست بحاجة إليك أو إلى أي شخص آخر ليبصرني بصالحي ويعرّفني بما يفيدني ويضرني. قلت لك وأعيد إن البنت أنبل وأطهر مخلوقة تعرفت إليها. سمعتها أعطر من سمعة الراهبات أنفسهن.! وحتى لوصح ماقلته عن أمها فهذا لايعيبها ولايعنيني وليست مسؤولة عنه، ثم أنك تتحدثين عن أصلها وفصلها وكأننا من السلالة الملكية بينما نحن لسنا سوى لاجئين لم نكن لنساوي فلساً لولا أموال اكرم النحاس. فخففي تحاملك عليها ولاتشغلي فكرك بأمري وحرريني من وصايتك.
لم يتوقع أن يتطور الأمر إلى مواجهة عنيفة بينه وبين أمه كادت تصل بهما إلى حد العداء. صدمه موقفها المتعنت السلطوي فواجهها بعناد وركب رأسه معتبراً أن المسألة تحولت من مجرد علاقة حب إلى قضية إثبات وجود. لم يكن سهلاً عليه الخروج من ثوب الابن البار المطيع المحب السلس القياد الذي يحاول تعويض أمه عما يراها تفتقده في أخيه المتمرد والشرس الأناني والدخول في ثوب الرجل المستقل المصادم الخارج عن طوعها والمتطلع إلى ممارسة حياته دون وصاية ورقابة وتوجيه. ورغب بصدق أن يصل إلى حل وسط معها. أن يقنعها أن من حقه أن يحب ناديا ويقيم معها العلاقة التي يهوى ويشاء،وأنه ليس على البنت أن تضرس للحصرم الذي أكله والداها. ذكرّها أنها هي نفسها كانت السباقة إلى عصيان أبيها والتمرد على مشيئته لحماية حبها والارتباط بالرجل الذي اختاره قلبها. فكيف تحللّت لنفسها ماتحرمه عليه؟ لكن جوابها كان قاطعاً وجاهزاً دائماً: سيرة أمها والفارق في العمر بينه وبينها . وإذا كان هو غارقاً في حالة من العشق الأهوج تعميه عن رؤية هذه المحاذير فإنها مصممة على السعي بكل قواها لاعادته إلى صوابه وإنهاء العلاقة بينه وبينها قبل أن يتورط فيما لا تحمد عقباه.
وكان ذلك بداية الشرخ بينه وبين أمه، وهو شرخ راح يكبر يوماً بعد يوم مع اتساع شقة الخلاف بينهما وتشبث كل منهما بموقفه بعناد.
قابل ناديا في الليلة التالية عند المسيو سبيرو. هناك انفتحت أمامه أبواب عالم جديد صاخب ممتع التقى فيه نماذج إنسانية متنوعة المشارب والطبائع والأهواء، تضم الشاعر والفنان والسكير واللامبالي والمتبطل والحزبي والمتمرد والفقير والميسور.
كان قاسمهم المشترك ، كما قالت ، الشعر والخمر وفلسطين والمسيو سبيرو والموسيقا اليونانية، وأضاف هو إلى ذلك جو السناك الغرائبي الذي أضفى عليهم مسحة فريدة من نوعها ليس سهلاً تحديدها.فآناً هم شخصيات كاريكاتيرية عابثة لاهم لها إلا قتل الوقت فراراً مما تعتبره سخف الحياة الانسانية وخيباتها اللامتناهية،فترفع لواء التمرد والرفض حالمة بعالم يستحيل وجوده. وحيناً هم أرباب حكمة ومفكرون يفتشون عن نظريات جديدة تطمح إلى تفسير معنى الحياة وتقويم اعوجاجها ورفع المظالم والآلام عن بشرها.
في هذا الوسط كانت نادياه ، كما ألف مناداتها ، قلب المجموعة النابض ولولبها وعقلها، كأنما الآخرون زمرة من الأطفال وهي المعلمة والمشرفة عليهم .وجودها الملح الذي يعطي الطعام نكهته والشذا الذي لاتحلو الوردة دونه والصوت الأبح الذي لاتشتعل القصائد إلا به. فهي الأجمل والأبهج والأمرح والأمهر والأذكى..
ومازادته لقاءاتهما المتواترة، من العصر حتى بعيد منتصف الليل ، إلا تعلقاً بها وانكاراً لشكوك أمه، وبحيث أصبح متيقناً بانها حتى لو كانت ثمرة خطيئة ونتاج علاقة أثيمة، فإن أباها هو بالتأكيد واحد من تلك الآلهة العابثة التي اعتادت غواية الحسناوات وانسالهن أطفالاً يقفون في منتصف الطريق بين الآلهة والبشر، كما كانت تحكي أساطير سبيرو عن أرباب الاولمبوس!.
فاجأته بعد شهر تدعوه لتمضية السهرة عندها قائلة إنها ملّت من الأماكن العامة وبمقدورها الآن ، مستدركة بغير قليل من الاستهتار، استقباله في غرفتها بعد أن سافرت صاحبة البيت إلى بيروت لزيارة أقرباء لها. وافق بغبطة لكنه لم يستطع منع عقرب شك صغير من الدبيب في صدره. فبقدر ما دغدغت الدعوة في كيانه من رغبات جامحة، فأنها أثارت قلقه بما دللت عليه من سلوك متحرر يبرر اتهامات امه لها. ولاجدال في أنه رغب في امتلاكها منذ وقعت عيناه عليها. لكن علاقتهما لم تخرج، حتى تاريخه، عن حدود الحب العذري. لم تسمح له بالتمادي كثيراً في التعبير عن مشاعره، وتحفظت في إظهار عواطفها مكتفية باعتباره صديقاً حميماً فقط. تغاضت عن عناقه الحار لها وهما يرقصان وعن ملامساته العفوية لجسدها، لكنها رفضت بحزم أن تمنحه شفتيها وهما يفترقان ليلاً. كانت نظراتها زاجرة إلى درجة أنه لم يجرؤ حتى على اختطاف قبلة من خدها رغم رغبته الشديدة فيها!.
أمضى بعد ظهر كئيباً في انتظار موعده المسائي وهو يتقلب على نار النشوة والقلق، الرغبة والخوف، اليقين والشك. كان يريدها بكل قواه ، بل إنه راح يرسم وقائع الليلة الاسطورية التي سيمضيها وهو يمتح من محاسنها ومفاتنها ماشاءت له غرائزه ورغباته. ستكون تجربته الأولى مع امرأة حقيقية خارج نطاق ال****** والعذراوات اللواتي كن يوفرن له متعة سطحية باردة. لكنه كان مرعوباً حتى الموت من فكرة أن تتبدى له عن امرأة متحررة إلى درجة ألا ترى مانعا من النوم معه. ماذا سيكون موقفه إن اكتشف أنها ليست عذراء، وهل يستطيع حبه تحمل تلك الصدمة أم سينهار مع انهيار.صرح العفة والطهارة الذي رفعه لها حتى السحاب؟.
ذهب في الموعد المحدد مسلحاً بباقة ورد وزجاجة "سننرانو" وخاتماً ماسياً.
فتحت له الباب قبل أن يطرقه وكأنها كانت تراقب قدومه. استغرب ذلك الأمر لكنه أرجعه إلى حرصها على عدم لفت انتباه الجيران، دارى ارتباكه بالتلويح بالباقة والزجاجة قبل أن يلقي تحية خافتة ردت عليها بابتسامة وسارعت تغلق الباب بهدوء موضحة:
- ستزعل الست روز إن علمت أنني استقبل أصدقائي في غيابها!.
كانت ترتدي بنطلون جينز كاحت اللون وقميصاً أبيض معقودا من طرفيه حول وسطها وبشكل كشف حيّزاً من بطنها. هز رأسه بتفهم وتبعها إلى غرفة بسيطة الأثاث تحوي سريراً مفرداً وأريكة وأربعة مقاعد متوسطة الحجم قديمة الطراز وجهاز تلفزيون أسود وأبيض ومكتبة جدارية تكدست فيها الكتب دون ترتيب . شكرته على الورد والخمر بصوت خلا من الحرارة ، فلم يجرؤ على إخراج الخاتم من جيبه خوف استيائها. وتشاغل بتفحص غرفتها. لاحظ وجود زجاجة نبيذ يوناني نصف ممتلئة وصحون فستق وبذر على ترابيزة بين الأريكة وطاولة التلفزيون . في الجدار الموازي للمكتبة لوحة جدارية لخارطة فلسطين مجسمة وبجانبها ملصق ملون لفدائي ملثم متنكب بندقية كلاشن وقد التفت برأسه إلى خلفه يحدق فيه بعينين نفاذتين مليئتين بالتصميم . في الجدار المقابل ملصق آخر لرجل ملثح جالس على كرسي خشبي وقد تناثرت حوله الكتب والأوراق وأطرق غارقاً في تفكير عميق. كان الوجه مألوفاً لكنه عجز عن تذكر اسم صاحبه وان كان متأكداً أنه لزعيم إحدى الثورات الشهيرة. اقترب من الملصق وتفرس فيه بامعان قبل أن يستدير عنه وهي تدخل إلى الغرفة. وضعت مزهرية الورد على ظهر التلفزيون:
- أيعجبك غيفارا؟ إنه أحد أسباب تركي الدير . هناك لاتستطيع استبدال صور المسيح والعذراء والقديسين بصور الفدائيين وغيفارا وحبش....
قالت بلهجة غلب عليها المرح وهي تسكب النبيذ في قدحين ناولته أحدهما ورفعت الثاني بإرة في صحته. رشف جرعة صغيرة ثم تلمظ بنشوة:
-لذيذ. لكن ليس أكثر منك.
تندت شفتاها بالخمرة فتلألأتا كعنبتين ناضجتين شهيتين . أشارت إليه بالجلوس وهي تقول برصانة:
- لدينا أقل من ساعة قبل حضور الآخرين.
فوجئ ورفع حاجبيه متسائلاً فاستدركت:
- عباس ورأفت وسعاد وزينب . الشاعر قابلته عند سبيرو وستتمتع بصحبة الآخرين. إنهم ظرفاء وسهرتهم لطيفة.
لم يستطيع السيطرة على نفسسه فترك لملامحه التي شحبت أن تكشف عن امتعاضه وأطبق بيده على القدح بقوة حتى أوشك أن يحطمه وهو يحدجها بخيبة واضحة . حين رآها لم تبد أي اهتمام تنحنح ثم قال بمرح مصطنع:
- حسبت انك دعوتني لتبوحي لي بمكنونات قلبك!.
ظلت جامدة الملامح وهي تقول بجفاء وكأنها معلمة تقرع تلميذاً مشاغباً:
- قلت أمامنا ساعة قبل حضورهم. وهذا أكثر من كاف للبوح بمكنوناتنا ووضع النقاط على حروف علاقتنا..
أفرغت قدحها في جوفها وكأنها تستمد القوة من الخمرة:
- لم يمض على علاقتنا سوى أسابيع لكن بإمكاني القول إن عواطفنا نحو بعضنا تبلورت إلى درجة أنك بدأت تلمح إلى الزواج، رغم أنني أعتقد أن الوقت لازال مبكراً على ذلك، أقله بالنسبة لي. أريد الآن معرفة إلى أي مدى أنت مستعد للمضي في تلك العلاقة.
سارع يرد بحماسة:
- إلى آخر الشوط .. الزواج.
لوحت بيدها تخفف من غلوائه قائلة:
- لاتستعجل . أتحسب الزواج مجرد كلمة؟ أريدك أن تفكر بهدوء وإمعان فالشوط لايزال في أوله. وأنا صرت، أو هكذا أعتقد، على درجة من النضج والتجربة تحصّن رأسي من الدوران بالوعود المعسولة للرجال المتخصصين في أغواء بنات جنسي!.
هم أن يتكلم ليؤكد لها صدق نيته، لكنها لوحت بيدها تمنعه:
- تعرف أكثر مني أن طريقنا ليست مفروشة بالورد بل بالديناميت . أنا أكبر منك بسنتين وسبعة أشهر وعشرين يوماً. وإذا نجحنا في تجاوز هذه النقطة، رغم أهميتها الكبيرة، فلا يمكن أن ننسى أن هناك فوارق اجتماعية كثيرة بيننا . فأنا يتيمة نشأت في دير ومعلمة ابتدائي بسيطة وفتاة متحررة كثيرة الصداقات أعيش على سجيتي دون عقد ومحاذير. أما أنت فمن عائلة ثرية معروفة، ويكفي أن أمك هي أرملة اكرم النحاس. ولم أندهش حين اكتشفت أنها مغرورة مدعية بقدر ماهي ثرية وحريصة على ألا تلطخ أية شائبة نصاعة مركزها ومكانتها.
إنها لن تسلم أبداً بفكرة أن اصبح زوجة لابنها.
قاطعها يقول بحماسة:
- آه منكن أنتن النساء! تتسرعن دائماً في اصدار أحكامكن دون تفكير. أمي ليست كما تتصورينها كما أنك لست كما تتصورك. من لايعرفها يحسبها امرأة مخيفة مغرورة متكبرة بينما هي في الواقع سيدة عادية طيبة بسيطة واعية وأنا واثق أنكما عندما تتعارفان ستتفاهمان وتتفقان بسهولة.
- يبدو أنك لاتعرف أمك!.
فاجأته لهجتها القاسية المليئة بالتهكم ، وانتبه حينذاك إلى أنها تتكلم عن أمه بثقة من يعرفها حق المعرفة. وهذا ما توضح له وهي تستدرك:
- زارتني أمك صباح اليوم في المدرسة.
امتقع وجهه وتقلصت ملامحه فيما راح العرق يتصبب من رقبته وكتفه. أردفت قبل أن يتمكن من قول أي شيء :
- لم أشعر بأي ود نحوها. ربما لأنني بطبعي أنفر من جميع هؤلاء الأدعياء الفارغين المصنّفين في خانة علية القوم والأكابر الذين يتسلقون على اكتافنا ويتاجرون بكل ماله قيمة في حياتنا ، حتى الوطن، ليحولوه إلى تفاهة. أيضايقك ما اقول؟.
سألته باهتمام لم يخل من قلق حين لاحظت توتره واستياءه. اعتصر قلبه ألم عميق وهو يرى إلى هذا العداء غير المبرر بين أحب امرأتين إلى قلبه. هم بالتكلم لكنه شعر بأنه محاصر، ولا يستطيع قول شيء قبل معرفة ماذا حدث بينهما. لذا أبقى فمه مطبقاً واكتفى بالتطلع إليها محاولاً جهده السيطرة على أعصابه . هزت رأسها بضيق وغمغمت بغيظ:
-معك حق في أن تنزعج. قد أبدو قاسية ومتجنية على أمك، وهذا ما أشعر به، فلا يحق لي إطلاق الاحكام على الآخرين خاصة وأنا أعاني من قسوة الأحكام التي يصدرها الآخرون عليّ، على كل حال فإن أمك كانت البادئة ، وكانت قاسية وليئمة بحيث لم أستطع ضبط أعصابي فانفعلت وأهنتها. والعصبية نقيصة لم استطع أبداً التخلص منها. أما أمك فهي استاذة في فن ضبط النفس . إنها قادرة على التصرف بلطف وتهذيب مفرطين وهي تطعنك في صميم فؤادك. وهذا ماحدث اليوم. اتجهت مباشرة إلى هدفها. قالت، ولا أعرف مدى صحة قولها، إنها لم تفكر يوماً أنها ستتدخل في مشاكل أبنائها العاطفية فهي ربتهم على أن يكونوا أحرار في شؤونهم، ولكن ضمن المنطق والمعقول وأن يلتزموا القيم والأعراف السائدة . ولهذا فقد حضرت لمقابلتي وهي مدركة مسبقا تلك المحاذير التي ستنتج عنها. أنها لم تستطع الصبر أكثر مما فعلت وهي ترى العلاقة تتطور بيني وبين ابنها الطائش.
قالت الكلمة الأخيرة باستهزاء وسكتت هنيهة تحدق إليه بتحد:
- تتطور بسرعة البرق بحيث تخشى أن يفلت الزمام من أيدينا نحن الثلاثة. ليس لها اعتراض على شخصي الكريم، فأنا شابة جميلة جداً ومثقفة جداً وأتمتع بمزايا -لم تذكرها- تجعل أي رجل يتمنى أن أكون زوجته . كلام جميل مغموس بالسم والإهانة.
قالت بازدراء ثم تشاغلت بملء قدحها ورشفت منه عدة رشفات:
- لكني ان كنت أصلح لأي رجل فإن ابنها مستثنى بإلا ولأسباب عديدة. الأول أنه مازال صغيراً على الزواج. وفهمت من ذلك أنك أبلغتها أنك تريد الزواج بي. السبب الثاني، وهي محقة فيه، أنك تصغرني بثلاث سنوات. وهذه مشكلة قد تبدو بسيطة الآن لكنها ستكبر وتتفاقم مع الزمن. السبب الثالث أنك تنوي السفر إلى الولايات المتحدة للتخصص، والزواج سيحول دون ذلك. السبب الرابع والأهم أنها ترى أنك غير جاد في علاقتك معي. وهي على الأغلب نزوة سرعان ماتعبر ولاتريدني أن أكون ضحية شاب عابث حتى لو كان ابنها. إنها داهية ولكن...
زفرت بقوة واستدركت ملوحة بيديها:
- كان حديثها منطقياً ومقنعاً بحيث تعاطفت معها وهممت بإن أطمئنها إلى أنني مستعدة للخروج من حياتك إن كانت علاقتنا ستؤثر سلباً على مستقبلك. لكنها ارتكبت خطأ فادحاً لايرتبكه إلا كل غبي قصير نظر. إنه غرورها الذي يجعلها تعتقد أنها قادرة على فرض رأيها وشراء من تشاء بمالها. فاجأتني تقول، برياء صفيق ، إنها مهتمة بمستقبلي لما عرفته عني من تفوق. وقد سمعت من السيدة رئيسة الدير أنني كنت أنوي متابعة دراستي الجامعية في باريس للتخصص في العلوم الإنسانية لكن الظروف عاكستني. وهي لاترى ما يمنع من أن تساعدني وتتكفل بنفقات دراستي هناك.
أفرغت كأسها في جوفها:
-رحت أرتجف وقد فقدت صوابي . طلبت منها أن تغرب عن وجهي وهددتها بأن أنشر على الملأ كيف أن سيدة كبيرة القدر مثلها تريد شرائي بمالها القذر كي أقطع علاقتي مع ابنها . جاءت السيدة الرئيسة على صياحي وحاولت تهدئتي. أتصدق أن أمك لم تبد أي انزعاج وهي تقول إن الانفعال لاينفع في مثل هذه المسائل، وعليّ أن أكون عاقلة كي لا أخسر كل شيء. وأي عقل أبقت لي؟ ياللسخرية ! اردت أن أقول لأمك إنها ليست أفضل من أمي التي جاءت تعيّرني بها. وإن نقودها ليست أنظف. وأنني تبرعت بما تركته لي أمي للثورة لأنني لم أرد مالاً غير نظيف. لكنني سكت من أجلك . لقد فكرت بالأمر وندمت على سلوكي المعيب وعلى تسرعي في رفض رشوة أمك!. كانت فرصة لن تتكرر ثانية ، منذ سنوات وأنا أحلم بباريس ليس للعلم والتخصص بل لما تعنيه لي من حرية واستقلال . هناك سأكون من أشاء وأعيش كما أهوى دون إدانة ومحاسبة على أخطاء أمي وأبي. هناك سأحب دون خوف.. ألا توافقني على ذلك؟.
- لقد تجاوزت حدودها. إنها أمي ولكن ليس إلى هذه الدرجة. لاأصدق أنها يمكن أن تتصرف بهذا الشكل. طلبت منها بوضوح ألا تتدخل في شؤوني. وسأعرف كيف أضع حداً لها . سنتزوج لتونا.
بعد أن هدأت عاصفة زواجهما واستكانت عواطفه واضطرت أمه إلى منحه موافقتها وبركتها، بدأ يدرك ، بغير قليل من الغضب ، أنه تسرع أكثر مما يجب، وأن ناديا ساقته بدهاء إلى شراكها. فهي التي صورت له الأمر على الشكل الذي تصوره، وهي التي أذكت جمر التحدي في صدره لتدفعه دفعاً في طريق حددت اتجاهاته سلفاً.وهو لم يتمكن حتى الآن، رغم تحرقه إلى ذلك، من ترميم علاقته بأمه وإعادتها إلى سابق عهدها من الحرارة والمتانة. بل إنه بدأ يرزح تحت وطأة إحساس مكرب بأنها لن تغفر له أبداً فعلته رغم استسلامها للأمر الواقع. كذلك أخفق في جهوده ، المباشرة والملتوية ، لتنقية الجو بين المرأتين. ظلت العلاقة بين أمه وامرأته فاترة حذرة تفتقر إلى الوئام والتفاهم. وهذا ماكان يصيبه بحالة عصبية من الإحباط والتوتر ويحرمه الطمأنينة وراحة البال.
لايعني ذلك أنه بدأ يندم. على العكس فإن حبه مايزال متأججاً قوياً رغم العواطف التي اجتاحته والتي لاينجو منها، كماقيل له، أي زواج في سنواته الأولى... ولكن!.

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 07-04-09, 02:45 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 


- 7 -

- كنت أبحث عنك سعادة الجنرال!. أأستطيع الانضمام إلى معيتكم؟؟.
سال يوسف بلهجة لم تخل من تهكم دفعت ابراهيم إلى تضييق عينيه والتحديق إليه بتحفز دل على عدم ارتياحه لذلك الأسلوب في مخاطبته. لكن يوسف لم ينتظر إذنه وسحب كرسياً جلس عليه وهو يستدرك:
- ليل خانق وهدوء كئيب يثير في النفس مخاوف لزجة غير مفهومة . الليلة تذكرني بليالي الحصار في بيروت، كنا نسميها الليالي المجنونة. (FOLLLES MIUTS ). إنه السكون الذي يسبق العاصفة. كان الملحق الصحفي في السفارة الروسية صديقاً لي واعتاد ان يتذكرني بين الفينة والأخرى بزجاجة فودكا من نوع" بولسكا" الفاخر فنشربها أنا وغسان في صحة الرفيق بريجنيف على أنغام معزوفة القصف الاسرائيلي العذب. بم.. بم.. ترالالالا. كانت ذات مفعول ساحر يساعدنا على النوم بعمق وتنبلة . أما الليلة فأرى أن وسكي العمة تاتشر هو سيد الساحة!.
مصمص بشفتيه وهو يتفرس في زجاجة " البلاك ليبل" باعجاب ، ثم تناول قدحاً ملأه حتى منتصفه وتذوق جرعة صغيرة؟ أتبعها بأخرى وتلمظ بغبطة:
-فاخر.. معك حق في أن الوسكي السك رحيق لاتستسيغه إلا النخبة.. إنه يجلو العقل ويفتح البصيرة. لقد ساعدني الأسبوع الماضي على ربح 200 دينار في البوكر!..
حدجه ابراهيم بضيق هنيهة ثم علق باستخفاف:
- جميل . نعم . الوسكي السك يمنح شاربه القوة والاندفاع ويشجعه على المجازفة بثقة واقتدار دون مبالاة بالنتائج. أتعرف ماذا خطر لي ذات مرة؟ لو أنهم يطبقون نظام الوسكي على جيوشنا مثل النظام المنضم لماخسرنا أي حرب! فالوسكي يقوي عزائم القادة من جهة ويشحذ همم الأفراد من جهة أخرى. خذ على سبيل المثال تأثيره الجنسي. إنه يحفز في الرجل عناصر الجرأة والوقاحة والمباغتة ، وهذا ماتعشقه المرأة في الذكر. الهجوم والاقتحام المباشر دون لف ودوران فإما النصر أو الموت فداء الواجب. أتعلم!.
حدق إلى يوسف بعينين ذابلتين تلاشت عدوانيتهما وهو يجرع من كأسه بتلذذ. حين شخص إليه يوسف باستغراب شد جذعه وأردف:
- المدينة،أو المدنيّة،لافرق، فرضت على الرجل نمطاً سخيفاً من السلوك الزئبقي المتحذلق أجبره على مراعاة المرأة على حساب حقوقه الآلهية والتاريخية. وهذا أدى بدوره إلى تحميل المرأة عبء واجبات اجتماعية أجبرتها على تدجين طباعها الأصيلة واكتساب طباع مصطنعة حولتها من أنثى نارية إلى مجرد كتلة من رخام بارد يوحي بالمتعة أكثر مما يمنحها فعلاً . وبذلك خسر الطرفان الكثير من خصائصهما الطبيعية. الرجل فقد بعض ، وعلى الأرجح معظم عنفوان ذكورته، والمرأة فقدت فوران أنوثتها.. ليس هناك رجل لا يشتهي أن يسحل المرأة من شعرها إلى كهفه ليفترسها افتراساً، وليست هناك امرأة لا تشتهي أن يسحلها الرجل من شعرها إلى كهفه لتلتهمه التهاماً.. لكن ايامنهما لايجرؤ على التعبير عن تلك الرغبة فكيف بتنفيذها؟! لذا فإن قليلاً من الوسكي السك قد يعين الاثنين على .. على تذكر الطبع ونسيان التطبّع!..
كركر يوسف ضحكة ماكرة قبل أن يقول وعيناه تلمعان من انعكاس ضوء المصباح عليهما:
- أنت تدهشني ياسيدي الجنرال. هذا جانب جديد من شخصيتك كنت أجهله . حسبت أن خبرتك تقتصر على شؤون السياسة والعسكريتاريا فقط فإذا بك ضليع في كل العلوم! الذكورة والأنوثة تستعيدان أصالتهما في عصر الكهف؟ أنت مصيب. المدينة تعطينا رجلاً ناقص الرجولة وامرأة ناقصة الانوثة، ولهذا فإننا نحتاج إلى بيروسترويكا جنسية! إنها فكرة تستحق أن توضع في نظرية علمية!.
ابتسم ابراهيم بانشراح وطبطب على الزجاجة وهو يعقب:
- إنها الحضارة التي ألبستنا قشرة سميكة ثقيلة من السلوك المتكلف والتقاليد المقرفة وجعلتنا نتصرف عكس ماتمليه علينا رغباتنا وأهواؤنا وغرائزنا. الأمر يشبه تماماً إحساسك بالسقم وأنت تأكل المنسف بالشوكة والسكين دون أية متعة ولذة فيما المفروض أن تدبك فيه بأصابعك العارية وتغمس يديك حتى الكوع في اللحم والسمن....
اختتم كلامه بضحكة مجلجلة شقت سكون الحديقة فاهتزت الطاولة وفزعت طيور الليل التي حوّقت باضطراب حولهما. حين سيطر على نفسه رفع كأسه وشرب نخب يوسف قبل أن يتابع وقد نمت حركاته عن نشوة امرئ أشبع بالكحول لكنه لم يبلغ مرحلة السكر:
- لكن نظريتي ، كما أرى، لاتنطبق على كل الناس ولا تنجح في كل الحالات هناك نساء لسن نساء ولن يكن، ورجال ليسوا رجالاً ولن يكونوا ولوشربوا كل وسكي اسكوتلندا. انظر حولك وستلاحظ ذلك بسهولة.
التفت يوسف حوله بحذر ثم قال جاداً :
- ليس هناك سوانا ياسعادة الجنرال، فهل تعنيني أم تعني نفسك؟
كشر ابراهيم وضيّق عينيه حادجاً يوسف بنظرة ثاقبة مرتابة ثم انفجر في ضحكة مائعة قبل أن يقول وهو يمسح رذاذ لعابه الذي تطاير على شاربه وذقنه:
- أنت عفريت يايوسف.أتعرف ماذا يعجبني فيك! زئبقيتك. إننا نعرف بعضنا من سنة ولكني حتى الآن لم أستطع كشف حقيقتك.. أأنت مناضل حقيقي كما تدعي أم مجرد مغامر محتال ألقته الظروف في طريق شاب أهوج فتعلق بك تعلق الضائع في الصحراء بنجمة سرابية؟ أتعرف! منذ وقعت عيني عليك ادركت أنك شخص مثير للشبهات.
-فراستك حادة لكنك جانبت الصواب هذه المرة. فأنا لست إلا صفحة مفتوحة بإمكان الطفل الصغير أن يقرأها. ولعل هذا ما أنفرك مني ياسعادة الجنرال. أما الزئبقي المثير للشبهات فهو قول ينطبق عليك أكثر مما ينطبق عليّ!
خلت لهجة يوسف من أية نبرة استفزاز مما خفف من وقع كلماته. فضحك ابراهيم بود وغمغم من بين أسنانه:
- إنك تضطرني إلى إعادة النظر في رأيي فيك. أنت لم تنضج بعد إلى درجة اجراء كل الحسابات اللازمة قبل أن تطلق أحكامك القاطعة. أنا لم أنفر منك، بل لنقل إنني كنت حذرا بعض الشيء.
- وحذرك هو الذي دفعك لمعارضة خطبتي لعطاف؟.
- لم أعارض بالمعنى الحرفي للكلمة. لقد حذرتهم فقط.
تناول زجاجة الوسكي وادارها ببطء ثم جرع منها:
- لاتنسى أنني بمرتبة ولي أمرها بغياب أي ولي آخر. والمفترض أن أكون المرجع الأخير في مثل هذه القضايا الحساسة رغم أن عواطف لاتعترف لي بأي حق في هذا الشأن . نضال استعان بي لإقناع أمه بالموافقة على زواجه بناديا. وعندما عرفت أنك تنوي طلب يد عطاف وجدت من واجبي أن أقول رأيي ، إن لم يكن كولي لأمرها فعلى الأقل كصديق للعائلة.
-ورغم أن أحداً لم يأخذ به فأنت لم تتوقف عن محاولاتك سحب البساط من تحتي!
أطلق ابراهيم ضحكة باردة:
- أنت واهم إن حسبت أنك تقف على أي بساط . إن تحتك طبقة من الرمال المتحركة وأية خطوة خاطئة ستوقعك على رأسك. عواطف ليست بالمرأة التي يمكن خداعها..
حدق يوسف إلى ابرهيم بإمعان وكأنه يحاول استكشاف مدى جديته. حين راح هذا يتمايل بنشوة قال متهكماً:
- أنا لاأحاول خداع أحد ياسعادة الجنرال ول أعرف من أين جئت بهذه الفكرة عني. أتتقصد استفزازي أم أن الوسكي بدأ يفعل فعله فيك؟.
- لاهذا ولاذاك. كل مافي الأمر أنني شكاك بطبعي من جهة. وأن ثقتي بالمناضلين السابقين والحاليين معدومة من جهة أخرى.
فتح يوسف عينيه دلالة عجزه عن فهم ماسمع فأوضح ابراهيم بسخرية:
- بعد عودته من بيروت سالماً مسلحاً لم يكن لغسان من حديث الا عنك . كان معجباً بك إلى حد يثير الريبة . هكذا قال يوسف ، هكذا فعل يوسف . هكذا يعتقد يوسف . يوسف رجل رائع.. عظيم.. لولاه مابقيت حيا.. كان مفتوناً بك افتتان التلميذ بسيده المعلم. وهذا ليس بالغريب على شاب ضائع متمرد كغسان كان يبحث عما يؤمن به ، عن مثل أعلى. عن موّجه! أواستاذ فوقع على محتال..
- أنت تشتط ياسعادة الجنرال..
زعق يوسف بصوت خافت فابتسم ابراهيم باستخفاف:
- رغم أنني شكّاك بالفطرة كما قلت لك فإنني أوشكت أن أصدق فعلاً مزاعم غسان... قلت في نفسي لعله صادق ولعلك فعلاً نادر المثال. لهذا انتظرت بفارغ الصبر التعرف إليك. لكن ما إن رأيتك حتى خاب أملي. حسبت أنني سأتشرف بمقابلة رجل وقور حكيم عركته التجارب وتركت أثارها على سيمائه فإذا بي أتفاجأ بمتحذلق متأنق يلبس بيار كاردان ويتعطر بألان دولون ويسشور شعره عند جوني ويقدم نفسه باسم المناضل السابق ( COMAT TANT ) . ذلك أكثر مما يلزم لفضحك وتعريتك....
مكيافيلية فجة مقرفة. إعلان رسمي بأنك طويت الماضي وصرت جاهزاً لممارسة دورك الجديد زوجاً لدى عطاف أو بالأحرى صهراً لدى عواطف!.
لوح يوسف بيده بحنق وقاطعه قائلاً بحدة:
- هذا لغو يا جنرال ، لاتجعلني أشكك في سلامة عقلك!.
- لاداعي للانزعاج ياصديقي. إنني أعبر عن رأيي الصريح تحت تأثير الكحول. وأعتقد أنه لم يفاجئك.
ابتسم يوسف بازدراء وقال بهدوء مستعيداً سيطرته على أعصابه:
- معك حق . أعرف أن الود مفقود بيننا لأسباب كثيرة. فنحن على طرفي نقيض على طول الخط. جنرال سابق ومناضل سابق. أنت سليل الحسب والنسب وابن العيّن عبد الله نصار مستشار جلالة الملك عبد الله. وأنا ابن الاسكافي جورج مستشار حفاة بيروت.. أنت كاهن المعبد المتخم بملذات الحياة وأنا المشرد الراغب في هدم الهيكل النتن.
رفع ابراهيم يده وقاطعه قائلاً بسخرية:
- مهلاً.. مهلاً يارجل. لم يبق إلا أن تقول أنك المسيح المنتظر وأنا الشيطان!. ألم أقل لك أنك لم تنضج بعد. قد نكون على طرفي نقيض كما تعتقد لكننا متشابهان ومتساويان في المحصلة . متشابهان في خيباتنا وسقطاتنا وهزائمنا. الهزيمة هي قاسمنا المشترك. أنا هزمتني عواطف وأنت هزمتك عطاف!.
حدق إليه يوسف باستغراب فأوضح بعد أن رشف من كأسه:
- هزمتني عواطف برفضها لي وهزمتك عطاف بقبولها بك!.
- أتعتبرها صفقة خاسرة إذن؟.
- بالتأكيد . كان عليك البحث عن طريدة أفضل . ليست عطاف بالمرأة المناسبة لك رغم بائنتها المغرية. ولا تحاول الزعم بأنك مغرم بها ، فألاعيبك لاتمر على رجل مثلي.
-والاعيبك أيضاً لاتمر على رجل مثلي ..لا أعرف كيف لم يفتضح أمرك حتى الآن ياجنرال.
بدت الدهشة على ابراهيم فتطلع إلى يوسف بقلق ثم سأله متململاً:
- ماذا تعني؟‍‍!.
ضحك يوسف وأخذ نفساً نفخه بهدوء:
- أتعرف مالذي أثار دهشتي اليوم؟ ليس خبر العثور على طارق مناف بل ردة فعلك. لقد بذلت جهداً كبيراً لتمثيل دور من فاجأه الخبر. لكن تمثيلك لم يمرق عليّ... لم يشحب وجهك وتجحظ عيناك وتقفز عن كرسيك كمن لسعه العقرب كما يجب أن يحدث مع رجل تفاجئه المرأة التي يحبها بأنها عثرت على زوجها حياً! وقد تأكدت من شكوكي حين وجدتك جالساً بكل برودة أعصاب تستمتع بوسكيك اللذيذ. ولا أخفيك أنني تلصصت عليك عدة دقائق قبل أن تنتبه إلى وجودي. وتلك عادة تأصلت فيّ من عملي محققاً في أمن الثورة. إن المرء يتحرر حين ينفرد بنفسه من حذره الفطري ويترك لتعابير وجهه أن تكشف لصاحب العين البصيرة دخيلته. أتعرف ماذا اكتشفت وأنا أراقبك؟.
حافظ ابراهيم على صمته مكتفياً برسم ابتسامة غامضة على شفتيه منتظراً دون كثير فضول سماع مايريد يوسف قوله. عب هذا الأخير من كأسه وكأنه يستمد من الشراب الشجاعة ليتكلم بصراحة. أردف بعد هنيهة بحذر:
- أنت على علم مسبق بقضية طارق مناف؟.
خنخن ابراهيم بسخرية ثم شمرّ كمي دشداشته:
- أها.. نظرتك خارقة وليست ثاقبة فقط.. وماذا كنت تريدني أن أفعل ؟ أرقص من الفرح أم أموت من القهر ؟ لقد اندهشت مثلي مثل الآخرين تماماً.. غير أنني أمتاز عنهم بقدرتي على ضبط نفسي.
أبعد كأس الوسكي بظاهر كفه وكأنه قرر أن يتوقف عن الشراب:
- لاينقصك الذكاء يايوسف. اكرر ثانية اننا متشابهان في أمور كثيرة . لكننا نختلف عن بعضنا اختلاف المحترف عن الهاوي. الأول متزن دقيق في حساباته حذر في تحركاته والثاني انفعالي مندفع لاتهمه النتائج كثيراً . العسكري المحترف لايغامر بخوض الحرب دون دراسة عناصرها وظروفها وشروطها والتأكد من إمكاناته، فإنه وجد ان احتمالات النصر راجحة خاضها والإ فإنه يتخلّى عنها بحكمة. أما الهاوي فيدخل المعمعة كيفما كان تاركاً للوقائع الميدانية أن تقرر نتيجتها . فإن انتصر كان بها وإن انهزم استسلم وكفى..
قطّ يوسف شفتيه بحيرة
- وارد.. لكن ليس لهذا أي علاقة بسؤالي لم تجبني على سؤالي.. أنت على علم مسبق بالأمر سعادة الجنرال؟.
زمجر ابراهيم:
- كف عن مناداتي بهذا اللقب. إنك تلفظه بطريقة مثيرة للاستهجان!.
- أعتذر ياسيدي.
نقر ابراهيم بأصابعه على الطاولة ثم قال مستعيداً حديثه:
- أنت على صواب ياعزيزي. لقد عرفت كل شيء من اللحظة الأولى..أتعلم؟.
أخذ نفساً عميقاً ثم استدرك بمرارة:
- ليس عاشقاً حقيقياً الذي لايكتشف أقل تغيير يطرأ على معشوقته . صرت أشبه بالراصد الجوي لعواطف خانم. قد تكون أستاذة في ضبط النفس والسيطرة على أعصابها لكني بروفسور في كشف دخيلتها!. نظرة واحدة إليها- وفرقع بأصابعه- تكفيني لمعرفة مايدور في خلدها. وعيت الدنيا على عواطف فارتبط الاثنان بمفهوم واحد في ذهني. عواطف هي الدنيا والدنيا هي عواطف. أحببتهما معاً وعشتهما معاً وحقدت عليهما معاً. لم أفقد أملي حتى وهي تحب طارق وتتزوجه. وانتظرتها رغم الاحتلال الذي حسبت أن لالقاء بعده. وصبرت عليها وهي تتزوج أكرم وترحل معه إلى فرنسا.. كنت واثقاً إنها مهما لفت ودارت سترجع لي.. جنون ربما!.. نعم.. انها تجبرني على الجنون ولا أعرف إلى أين سيقودني جنوني.. قد ... قد..
كان في صوت ابراهيم من الفحيح وفي وجهه من التعابير ما جعل قشعريرة فزع تدب في أوصال يوسف. أبعد رأسه بارتباك قبل أن يجفل الاثنان على نحنحة مباغتة ظهرت على أثرها ناديا خارجة من العتمة . لوحت بيدها وقالت بمرح مبالغ فيه:
- هل أتطفل عليكما ان شاركتكما جلستكما؟.
سارع يوسف يزيح كرسياً مشيراً إليها أن تجلس فيما استعاد ابراهيم طبيعته:
- الجمال على الرحب والسعة دائماً.
جلست وابراهيم يرفع زجاجة الوسكي قائلاً بمرح مصطنع:
- أتشاطريننا الشراب أيضاً؟.
هزت رأسها نفياً وهي تبتسم:
-لا أرغب سوى في النوم.. لكن كيف أنام والكل سهران أو متوار عن الأنظار..
نقلت نظراتها بين الرجلين ثم علقت ضاحكة:
- ها قد اكتمل عقدنا الآن.. الغرباء الثلاثة في العائلة!.
كركر ابراهيم ضحكة ماجنة وهو يقلّبها بنظرات نمت عن إعجابه ثم قال:
- لاغريب إلا الشيطان ياعزيزتي.. لسنا بشياطين!. في صحتك أيتها الملاك!.
رفع كأسه وشرب نخبها فهزت رأسها شاكرة:
- مارأيك ياجنرال؟ أهو حقاً طارق مناف؟.
مط شفتيه وهو يتملاها بقحة ثم همهم بصوت أقرب إلى الهمس:
- وماذا يعني أن يكون طارق مناف .. ليكن من يكون.. طارق أو غير طارق هذا لن يغيّر في الأمر شيئاً.. قلت لها إن طارقها القديم انتهى.. مات.. اندثر.. سحبه النمل. هذا الطارق الجديد شخص آخر مختلف تماماً.. لايمكن أن يكون هو حتى إن كان هو.. إنه اللغز الذي ليس له حل .. ليس المهم أن يكون أو لا يكون بل أن نعرف إلى أي مدى تنطبق الحقيقة على الواقع و الواقع على الحقيقة!.
حدج جليسيه بخبث ثم استدرك بتهكم:
-أتعرفان ماذا خطر لي الآن؟ المعادلات الرياضية البسيطة التي درسناها في المرحلة الابتدائية. إذا كان 1/2س تساوي 1/2 ع فإن س = ع، أليس كذلك؟.
هزا رأسيهما إيجابا. نظر حوله وتناول عودا يابساً من الأرض ثم أزاح زجاجة الوسكي والكوؤس وخط على الطاولة المعادلة 1/2 س= 1/2ع إذن س= ع. ثم ملأ كاساً حتى نصفه بالوسكي ووضعه فوق المعادلة.
- هذا الكأس نصف ممتلئ وفي الوقت نفسه نصف فارغ. لنحذف النصف من طرفي المعادلة فيبقى لدينا ان الكأس الممتلئ يساوي الكاس الفارغ. لنواصل اختصار المعادلة بحذف الكاس من طرفيها فماذا يبقى!
ضحك يوسف باستهزاء قبل أن يقول:
- الممتلئ يساوي الفارغ!.
هز ابراهيم رأسه وقال محذراً:
- لايفكرن أحد أنني سكران!. لا أعتقد أنني كنت أصفى ذهناً مما أنا الآن. كنا نتسلى بتطبيق تلك المعادلة على كل مايخطر في بالنا فيطلع معنا دائماً أن أي شيء يتساوى ونقيضه .. أأنا مصيب؟.
ابتسم يوسف وناديا بسخرية وهما يتبادلان نظرة متواطئة دلت على اقتناعهما أن الرجل سكران. لكن ذلك لم يمنع ناديا من القول بجدية:
- لعبة وهمية ربما تثبت أن المرأة الجميلة تساوي المرأة البشعة الخير يساوي الشر والقوي يساوي الضعيف الخ.. لكن كيف تطبق تلك المعادلة على طارق!.
- لم أطبقها لأن طارق الميت لايساوي عامر كمال الحي! هذا مارميت إليه بتلك المعادلة الخيالية . إن العثور على طارق حياًَ بعد عشرين سنة موتٍ وهو فاقد الذاكرة أمر يرفضه المنطق حتى وإن كان حقيقياً . الحياة مليئة بالظواهر الشاذة الخارقة التي يقف العقل البشري أمامها عاجزاً تماماً مثلما نقف الآن أمام معادلة الكأس الملآن والكأس الفارغ.. ولهذا فإن طارق مناف القديم لن يكون هذا العامر كمال أبدا..
تطلع إليه يوسف بحيرة ثم غمغم بازدراء:
-معادلتك لامعنى لها وهي هلوسة رجل أفرط في الشراب..
هز ابراهيم إصبعه في وجه يوسف وقال بخمول:
- حذار من الإهانات يا بنّي! .
قاطعته ناديا بحيرة:
- وكأنك تقول إن الرجل هو فعلاً طارق مناف؟ .
- لا.. أنا لم أقل شيئاً... قلت فقط إن طارق القديم ليس طارق الجديد!.
ضرب يوسف علىالطاولة بقبضته قائلاً بنزق:
- هذا قول ينطبق علينا جميعاً... أنا الآن غيري بالأمس... أنسيت أنك كنت قبل قليل تعيرني بذلك ؟ نعم، لا مجال للمقارنة بين يوسف نجيب بيروت وبين يوسف نجيب عمان..
رفع إبراهيم يده يوقفه:
- لكن ذاكراتنا ماتزال في مطارحها ولم تسلخناعن مواضينا انسلاخاً كاملاً..
- أرجوكما أن تتحدثا بوضوح ومنطق وإلا اعتبرتكما رجلين سكرانين تهذيان!.
قالت ناديا بغيظ فضحك يوسف متهكماً:
- ومن قال إننا صاحيان أو عاقلان؟ إننا في عصر قيامة الموتى وموت الأحياء. نعم إنه الهذيان ياعزيزتي ناديا... طارق مناف يرجع من مدينة الموتى وعواطف تدق أبوابها... إذا كان الإنسان حيوناً ناطقا فالحيوان إنسان أخرس، هذه هي معادلة إبراهيم، ألم تسمعا الأخبار قبل قليل؟ مخيمات بيروت ستقع خلال ساعات في قبضة "أمل" الأخوة الأعداء يتقاتلون وهم يذرفون دموع التماسيح، غورباتشوف يعمل بيروسترويكا وريغان حرب نجوم، فهل بعد ذلك غرابة في أن يكون طارق حيا؟.
هبت نسمة قوية تجاوبت معها أوارق أشجار الدلب والتفاح في وشيش صاخب مما دفع إبراهيم إلى أخذ نفس عميق زفره باستمتاع وهو يتملّى من وجه ناديا الذي راح يتوهج فاتناً مع تراقص ضوء المصباح على صفحته.
- المناضل السابق صار فيلسوفاً؟ ... لا يمكن أن تغلط عواطف، إن قالت إنه طارق فهو طارق، لكن أكرر أن ذلك لن يقدم أو يؤخر في شيء، لن يرجع....لكل منهما مساره الخاص هي الآن أرملة الثري المعتوه أكرم النحاس وهو عامر كمال المحاسب البسيط في إحدى الشركات... إن المسارين يسيران منذ عشرين سنة في خطين مستقيمين ومن المحال أن يلتقيا... وإن حاول أحدهما أو كلاهما الخروج من مساره فإن النتيجة ستكون التدمير الذاتي، تماماً مثلما يحدث في حال خروج قمر صناعي من مداره.
- قد تكون على حق في تلك النقطة...
علق يوسف مقطباً وهو يهرش رأسه... تنحنحت ناديا وقالت بحذر:
- أظن أن قضيتنا ليست فريدة من نوعها... وأنا أتمشى في الحديقة تذكرت أنني قرأت من زمن بعيد قصة عن جندي مات في الحرب، لكنه لم يكن ميتاً ورجع بعد سنوات فأنكرته أسرته، لقد رتبوا أمورهم، زوجته وأولاده، باعتباره شهيداً وتوارثوه وحصلوا على الامتيازات المخصصة للشهداء. لهذا لم تلائمهم عودته حياً وطردوه شر طردة.
هز يوسف رأسه مبدياً الدهشة، ومطّ إبراهيم شفته دلالة الجهل ثم غمغم:
- إنها الطباع الشريرة في الإنسان... لكن الأمر مختلف في قضيتنا... فليس هو الذي عاد بل عواطف هي التي تجري وراءه وتلاحقه بطريقة مقزّزة! لقد فقدت صوابها...
بدت الدهشة على ناديا وحدقت إلى إبراهيم بحيرة فتدخل يوسف قائلاً بغموض:
- كان عارفاً بالمسألة من بدايتها وأجرى التحريات اللازمة والوافية لهذا هو يتحدث بتلك الثقة عن الرجل... أليس كذلك يا سيدي؟ ..
ازدادت دهشة ناديا وعادت تتفرس في إبراهيم:
- أحقاً مايقول؟!.
- بادلها إبراهيم النظر ثم هز كتفيه دون معنى فنبرت بعصبية:
- لماذا أخفيت ذلك عن عواطف؟!.
نفتخ إبراهيم بضيق ثم فرقع بلسانه:
- لأنني أريد إنقاذها لا إغراقها! ... إنني أتعاطى مع القضية بالعقل، وأرى ألا مصلحة لأحد، وتحديداً عواطف، في النفخ في رماد الماضي..
ضربت ناديا الطاولة بقبضتها فاهتزت وانقلب كأس يوسف لكنها لم تبالي...
- إنني لا أفهم أي شيء...
ابتسم إبراهيم بغموض وراقب هنيهة يوسف وهو يمسح الطاولة بمحرمة ورقية ثم تطلع إلى ناديا:
- لو أنك أصغيت لي جيداً لفهمت ما أريد قوله من ساعة، إنه طارق مناف وليس بطارق مناف، عامر كمال وليس بعامر كمال، الشيء وعكسه، الحقيقة والوهم...س و ع.
هذه هي المعادلة الصحيحة جداً نظرياً ولكن المستحيلة جداً عملياً، فالكأس الفارغ لا يساوي الكأس الملآن، وأنا لو شربت كأساً فارغاً...
وتناول كأساً فارغاً وتظاهر بأنه يشرب منه:
- لن أشرب إلا الهواء! لهذا قررت تجنيب عواطف مرارة شرب كأس فارغ... لوحت ناديا بيدها وقالت بحدة:
- لكن لا يحق لك أن تقرر نيابة عنها... القرار لها ولأولادها.
- أنت تدهشيني ياناديا... وكأنك ترغبين في تدميرهم... ألا تدركين معنى أن يخرجوا إلى الناس قائلين هذا طارق مناف بعث حياً؟.
- لن يسعدك ذلك أبداً..
قال يوسف بخبث دفع إبراهيم إلى التحديق إليه بحدة قبل أن يقول بإصرار:
- نعم... لن يسعدني أبداً أن يعود طارق!.
- هو طارق إذن؟.
سألت ناديا بعصبية وقد بدا عليها نفاد الصبر، ابتسم إبراهيم بمكر:
- لايستطيع أحد أن يجزم بذلك ياعزيزتي..
- ماهي الحقيقة إذن؟.
قطب إبراهيم ثم ابتسم بسخرية:
- ليست هناك حقيقة مطلقة، كل شيء نسبي، أليس هذا ماهو متعارف عليه؟ سأتجاسر على القول إن الحقيقة هي نتاج ظروف معينة خاضعة لمنطق معيّن ومرتبطة بنظرية الثابت والمتحوّل... الثابت أننا موجودون ثلاثتنا حول هذه الطاولة الآن.. أما المتحوّل فهو طبيعة هذا الوجود، أي نسبيته، وهذاما تحددّه.. تحددّه...
نظر فيما حوله ثم دل فجأة على المصباح:
-اللمبة... إنها تضيء الطاولة من جهة الشمال وتضفي علينا شكلاً معيناً، ولو أبعدناها نصف متر إلى الغرب لتغير شكلنا تبعاً لتغير زاوية الضوء وقوته، إن أبعدناها عشرة أمتار سنتحول إلى ظلال لاملامح لها، إن أطفأناها سنتلاشى في العتمة، لكن هل يعني ذلك إننا غير موجودين أو غير حقيقيين؟ لا... كل مافي الأمر أن حقيقتنا تغيرت حسب الضوء...
- عدنا إلى سفسطة س وع ياجنرال!.
علقت ناديا باستهجان فضحك إبراهيم ..
- فكري كمايحلو لك لكنها الحقيقة، لنطبقها على طارق فماذا يطلع معنا.؟.
- إنه حقيقة متغيرة!.
قال يوسف فهز إبراهيم رأسه برضى:
- لنأخذ مثلاً قصة فقدان الذاكرة، إنها فرضية مقبولة، لكن ماذا لو لم يكن فاقداً ذاكرته؟.
- تطرقت عواطف إلىهذا الاحتمال لكنها نفته.
قالت ناديا وسارع إبراهيم يعلّق:
- لأنه لم يواتها.. وهذا يعني أن هناك زوايا أخرى للموضوع تقدم احتمالات مغايرة. كان طارق من الرجال الذين لا يمكن أن يكتفوا بامرأة واحدة، ألم تعترف عواطف بلسانها أن الشكوك راودتها في أن هناك امرأة أخرى في حياته؟ لا أعني أنه زير نساء، ولكن مثله مثل كل الرجال، لم يكن يجد غضاضة في إقامة علاقات عابرة مع أية امرأة تلقى هوى في نفسه، ولقد اكتشفت عواطف، بعد ولادة نضال، أن له علاقة مع إحدى صديقاتها الحميمات، واسمها إن لم تخني الذاكرة مهاة.. طاش صواب عواطف، ذهبت إلى بيت مهاة وضربتها. كانت فضيحة مدوية أدت إلى انفصال مهاة عن زوجها، وإن كنتما لا تصدقاني اسألا عواطف أومريم، ومنذئذ بدأت مشاحناتهما ومشاجراتهما التي وصلت إلى درجة إقدام طارق على هجر البيت أكثر من مرة ولفترات طويلة أحياناً.لم أزرهما مرة إلا وشعرت أن سوء التفاهم يتفاقم بينهما ويهدد حياتهما الزوجية بالانهيار، وبالتأكيد كانت ستنهار لولا وفاة طارق... لا أزعم أنني فوق الشبهات، لكن لدي تحليلاً للغز وفاته أو اختفائه، يؤكد الشكوك التي تحدثت عنها عواطف في السهرة.
أخذ نفساً عميقاً ومسح العرق المتصبب في جبينه وقد بدا عليه أنه استعاد سيطرته على نفسه، وكأنه ليس الرجل الذي كان يتخبط قبل قليل في حالة من الهذيان، وأردف بطلاقة لسان وقد برقت عيناه:
- أعتقد أن الحياة قائمة على سلسلة من المصادفات تفرضها ظروف قاهرة خارجة على إرادتنا كلية، وهذه المصادفات ترافق الإنسان من لحظة إطلالته على الدنيا وإلى أن يغادرها، فليس هو الذي يختار والديه، ولا والداه هما اللذان يختارانه، تصورا مثلاً لو أن الاختيار كان من حقنا؟ كنا رفضنا إلا أن نكون أبناء ملوك وعظماء وأثرياء، أليس كذلك؟ ومن أين سيجلب الفقراء ومتوسطو الحال أبناء لهم؟ هاها ها... لهذا فإن حياتنامبنية على الحظ والنصيب والصدفة، ونحن بالتالي مسيّرون لا مخيّرون، وما حدث مع طارق لم يخالف هذه القاعدة، لقد جاء إلى عمان ليس لحضور ندوة سياسية كما قال لعواطف بل لتمضية بضعة أيام مع عشيقته نبيلة الخليل...
غمز بعينية وكركر ضحكة ساخرة:
- لعلكما تتساءلان من أين لي تلك المعلومات؟ لا أظنكما تجهلان أن رجلاً في رتبتي ومركزي يومذاك لا يمكن أن يخفى عليه أدق الأسرار فكيف إذا كانت أسراراً تهمني؟ ونبيلة لم تكن سيدة عادية، فأبوها أحد وجهاء بيت لحم وخالها وزير مفوض في وزارة الخارجية، ومثل تلك المرأة لا يمكن أن تقنع بدور العشيقة السرية التي يكفيها الالتقاء بعشيقها مرة في الأسبوع، كان تريده لنفسها دون أن تشاركها فيه امرأة أخرى حتى إن كانت زوجته، لقد سيطرت عليه إلى درجة نجحت معها في إقناعه بتطليق عواطف كي يتزوجها...
- قصة من بنات خيالك وهي لاتقل شططا عن قصة فقدانه الذاكرة!.
قاطعه يوسف بسخط لكن إبراهيم لم يتوقف:
- وبرأيي فإن قصة العاشقين المتيمين انتهت على الشكل التالي، غادر طارق ونبيلة القدس صباح الإثنين كلٌّ في سيارته حيث كانا متفقين على الالتقاء في أريحا لينزلا سوية إلى عمان، في أريحا سمعا بوقوع الحرب، فتفتق عقلاهما عن مؤامرة موت طارق...وضعا سيارته في منطقة توقعا أن تشهد عمليات عسكرية وقررا أنه مهما تكن نتيجة الحرب فإنه صار بإمكانهما الاختفاء عن الانظار والزواج.
- ماهذا الذي تخرّف به يارجل؟!.
قالت ناديا بانفعال وهي تضرب الطاولة بقبضة يدها:
- أنت مفتر كبير... إنك تظهر طارق في صورة الوغد النذل الذي لم يحمل أية عاطفة لامرأته وأولاده، ولم يجد حرجاً في التخلي عنهم من أجل غانية، بل إنه صاحب عقل إجرامي مرعب رتّب قصة موته ببرودة أعصاب مستغلاً الحرب وانتحل شخصية جديدة ليتزوج عشيقته المزعومة، أتريدنا أن نصدق أنه لم يبال بالحرب ورجع من أريحا ليضع سيارته في الوادي؟ ليس إنساناً طبيعياً ذلك الذي تتحدث عنه يا جنرال بل مخلوق سافل مقيت انساق وراء نزواته وشهواته.
ضغط يوسف بلطف على يد ناديا فصمتت وقد تسارعت أنفاسها، ثم قال ببرود مركزاً نظراته في عيني إبراهيم:
- أنت تكره طارق كرهاً أعمى ياسيدي.,..
كشر إبراهيم وهز إصبعه في وجه يوسف وهو يقول باستهجان:
- وماذا تعرفان عن طارق مناف أنتما؟ أتصدقان حقاً الصورة الجميلة التي رسمتها له عواطف فظهر فيها رجلاً مثالياً شهماً نبيلاً محباً لامرأته وأولاده متفانياً في رعايتهم؟ هذا كله كذب... نعم.هذا كله كذب، فهو ماكان إلا رجلاً مدعياً أوقع عواطف في حبائله طمعاً في ثروتها، نعم.. كرهته لأنه خطف مني حبيبتي ودمر حياتها وحياتي ومازلت اكرهه إلى الآن وسأكرهه حتى الممات!...
تفرست منه ناديا بذهول قبل أن تسأله بتحد:
-أمعقول أن عواطف كانت ساذجة عمياء إلى حد أنها ظلت غافلة عن حقيقته فلم تكتشف عيوبه وسيئاته أبداً بل إنها مقيمة على حبه إلى الآن وهي مستعدة للتضحية بكل شيء ليرجع إليها ؟.
حدق.إليها إبراهيم بفتور:
- الحب أعماها مثلما أعماني. حين بدأت تكتشفه على حقيقته اختفى من حياتها بالموت فكان أن تناست كل عيوبه وسيئاته وماعادت تذكر سوى حبها له، وهذا أمر طبيعي لأن ابن آدم تعلم أن يصفح عن أمواته ويحولهم إلى أشباه آلهة مهما كانوا سيئين.
نفخت ناديا بنفاد صبر وقالت بازدراء:
- كفاك اغتياباً للرجل، أنت تكرهه لأنه فاز بقلب عواطف وليس لأي سبب آخر، لقد خسرت معركتك معه وكان عليك أن تقبل الهزيمة وتنسحب بكرامة لكنك كنت أضعف من أن تفعل ذلك.
أخذت نفساً عميقاً ثم بللت شفتيها بلسانها:
- الحقيقة الثابتة كما تقول هي أن عواطف لم تحبك أبداً، وهذا ما يفسر موقفك منه، خسرت بحياته وخسرت بموته وأظن أنك ستخسر بعودته حياً، أنت غريب يا سيدي، غريب وغامض ومخيف، وأنا واثقة أن عواطف رفضتك لهذه الأسباب كلها.
زمجر إبراهيم وقد بدا عليه الغضب الشديد:
- أنتن النساء عاطفيات إلى درجة تعجزكن عن التعامل بمنطق مع الأمور، لم يكن المهم أن تقبل بي عواطف أو ترفضني، تحبني أو تكرهني، بل أن تعترف بأنني كنت مصيباً وكانت مخطئة، أن ترضخ وتأتي إليّ نادمة مستغفرة ، وهذا مالن تفعله حتى لوكنت آخر رجل في الدنيا.
ورغم ذلك تخليت عن كل النساء، بمن فيهن زوجتك وابنتك، من أجلها؟.
- أردت أن أتخلص منها فلم أقدر. إنها تمتلكني.. أنا مهووس بها، مدمن عليها، إنها تمشي في عروقي مع دمي، مهما ابتعدت وهربت تتمرد عليَّ قدماي، وتعيدانني إليها، أسفي فقط على زوجتي لمياء، كانت الدريئة التي صوبت عليها أحقادي المكدسة ضد عواطف، اخترتها صغيرة وجميلة، لأناكد عواطف وأنتقم منها، وكانت ساذجة وبريئة إلى حد أنها وقعت في هواي فعلاً، ولو كنت إنساناً سوياً لعشقتها ونسيت عواطف كلها، لكنها لم تكن إلا طفلة لم تثر فيّ سوى أحاسيس العطف والارتباك، لم تشعرني أبداً أنها امرأة ولا نجحت في إزاحة عواطف من مخيلتي...
- إنت شخص يثير الشفقة ياسيدي!.
علقت ناديا بجفاء... عبس ثم لوح بيده بازدراء!
- معك حق.. أنا أثير الشفقة فعلاً... أتعرفين لماذا؟ لأنني الابن الشرعي لكل ماشهدته في حياتي من هزائم وخيبات. في الماضي البعيد، زمن البطولات والأمجاد والمثل العليا، كان المهزوم في حبه أو حربه ينتحر أو يتوارى عن الانظار.لكن كل شيء تغير منذ أيام هولاكو، الهزيمة تفقس الهزيمة كمايفقس القمل الصيبان.
صمت واشرأب برأسه يتابع مريم التي عبرت البوابة واتجهت إلى الممر العشبي. قطب وغمغم بضيق:
- جاءت مريم، يبدو أن قمتهم العائلية انتهت فأرسلوها تستدعينا..
توقفت مريم عند السياج وشملتهم بنظرة مرتابة قبل أن تقول بجفاء:
- عواطف تسأل عنك ياجنرال.
حدجها بشزر ثم أشاح بيده مشيراً إليها بالانصراف:
- بعد قليل...
قطبت بامتعاض وهزت كتفيها بازدراء قبل أن تستدير وتبتعد متمهلة، حدق يوسف إلى إبراهيم يتفحص أساريره التي نمت عن البغض ثم سأله بحذر:
- الود معدوم بينكما يا سيدي؟.
- إنها إنسانة مجبولة بالخبث واللؤم والحقارة، جاءت من حيث لا يعرف أحد وصارت الكل بالكل في هذا البيت، إن تأثيرها كبير ومدمر على عواطف..
- مزاجك غريب الليلة، أرى أنك في حالة لا تساعدك على حب أحد!.
- لقد وقفت لي دائماً بالمرصاد وكأنني قتلت لها قتيلاً... كنا أطفالاً ولم تكن تسمح لي باللعب مع عواطف إلا تحت رقابتها الصارمة، كانت تعمل دائماً على إبعادنا عن بعضنا ولا تفوت فرصة لزجري وتأنيبي على ماأقول وأفعل، لكن كرهي الحقيقي لها بدأ يوم صفعتني بسبب قبلة طبعتها على خد عواطف، كنا نلعب ببراءة لعبة العروس والعريس وعاقبتني وكأنني اقترفت جريمة نكراء.
نفخ بقوة:
- هي وطارق من طينة واحدة، لهذا وقفت معه ضدي، كانت تعرف أنني إن تزوجت عواطف فلن يبقى لها مكان عندنا، ولا أشك في أنها لعبت دوراً كبيراً في تشجيع عواطف على الزواج به، ولولا أن الأستاذ رياض استخدمها لكانت حياة عواطف وحياتي سارتا في طريق مختلف تماماً... لكن الحظ الأسود وضعها في طريقنا ليحصل ماحصل.
نظر إلى ساعته وضرب جانبي الكرسي براحتيه قبل أن يقول متثائباً:
- الساعة الثانية والربع! ... عليّ أن أهيء نفسي لتلك المقابلة الهامة... لن أستعيد توازني إلا بحمام ساخن... ربما نتابع دردشتنا المسلية في وقت لاحق، فكرا جيداً في س وع.
نهض بصعوبة واهتز قليلاً قبل أن يتوازن ويبتعد بخطوات عسكرية مشدود الجذع مرفوع الرأس، تابعاه إلى أن ابتلعته العتمة ثم تبادلا نظرات مفعمة بالحيرة.

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 07-04-09, 02:49 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

- 8 -

لم تتخلص عطاف من يوسف إلا بصعوبة وقد بلغ بها الغيظ منتهاه. لم تفهم كيف أمكنه أن يفكر بالجنس في مثل هذه الظروف. وجدته ينتظرها ماإن خرجت من لدن مريم ليطلب منها موافاته إلى غرفته. حسبته يريد التحدث معها حول قضية أبيها، لكنها فوجئت به يغلق الباب ويحتويها بين ذراعيه بشبق ليمطرها بقبلات محمومة دلت على توتره الجسدي. صدته بلطف قائلة إن الزمان والمكان غير مناسبين وهي في حالة لا تسمح لها حتى بالتفكير بالجنس فكيف بممارسته وهما معرضان للاكتشاف في أية لحظة! لكن الرغبة كانت مسيطرة عليه إلى حد أنه أوشك أن يغتصبها لولا مقاومتها العنيدة والشرسة، ونجحت بعد لأي في التملص من قبضته ومغادرة الغرفة قبل إثارة انتباه أحد.
تسللت مباشرة إلى الملحق الغربي راغبة في الاختلاء بنفسها، أغلقت الباب وراءها ولبدت بهدوء إلى أن تأكدت أنها أصبحت بمأمن منه، أضاءت من ثم المصباح الغازي فشع ضوءه كشمس صغيرة عمشت لها عيناها الزائغتان فأغمضتهما واستندت بظهرها إلى الحائط شاعرة بإعياء شديد.
سكنت عدة لحظات وقد سيطر عليها إحساس حاد بالخواء أوشكت معه أن تتهاوى لكنها سارعت تتماسك وانتصبت شادة جذعها ثم فتحت عينيها ببطء مرسلة نظرات كسيحة في القاعة الساكنة الموحشة فاحت فيها رائحة رطوبة عفنة نتيجة إغلاقها المحكم منذ منتصف الخريف.. غطت الملاءات البيضاء معظم الأثاث باستثناء الشوفينيير الضخم بمرآته المستطيلة التي احتلت معظم الجدار وعكست الصالون بكامله تقريباً فبدا أشبه بسرداب ضيق متطاول مثير للرهبة بالأشكال الغريبة التي أخذتها قطع الأثاث ..ظلعت إلى المرآة بتثاقل محاذرة الارتطام بالأثاث ووقفت على مبعدة خطوتين منها تحدق في ظلال صورتها الشاحبة الساكنة وراء طبقة الغبار الكثيفة العالقة على صفحة المرآة.
زمّت شفتيها بغيظ ماإن توضحت صورتها وقد زادها السهر والقلق كآبة وتجهماً... لقد أدركت، منذ بدأت تستوعب حقائق الحياة، وبكثير جداً من المرارة، أنها ليست ولن تكون جميلة مهما تحايلت وتجمّلت... ولعلهاكانت تعودت على هذا الواقع وتقبلته برضى واستسلام لولا انسياقها دائماً إلى مقارنة نفسها مع أمها التي تضج بالفتنة والنضارة رغم تجاوزها منتصف العمر، ومع أخويها اللذين يتمتعان بوسامة تحسدهما عليها النساء... تخال أحياناً أنها الشاة السوداء في قطيع من الخراف البيضاء، وكأنها ليست ابنة أمها وأخت أخويها... كانت ترى العيون، كيفما التفتت، تسترق إليها النظرات المستغربة دالة على الحيرة والإشفاق. وسمعت بأُذنها ذات مرة إحدى صديقات سميرة تسألها إن كانت هذه الطفلة ابنة عواطف حقاً، وأدركت منذ ذلك الحين أن ثمة خطأ فيها، ولعل هذا ماخلق فيها إحساساً بالغربة وكأنها موجودة في وسط لا تنتمي إليه، فانطوت على نفسها لتعيش في عالمها الخاص تبنيه حكايات الجن والعفاريت والفوارس تبرع مريم في قصّها مانحة إياها عزاء كانت تفتقده في العالم الواقعي. ولا تعرف إلام كانت ستظل على هذه الحال لولا اقتحام يوسف كيانها وهي تخطو في شعاب سنوات مراهقتها القلقة المعذبة. كان اقتحاماً صاعقاً فجر فيها دفعة واحدة تلك الأحاسيس الصاخبة طال انتظارها لها، وفي مقدمتها إحساسها بأنوثتها. هَوتهُ من أول مرة سمعت فيها غسان يتحدث عنه بحماسة مضفياً عليه هالة شبه أسطورية بوّأته مرتبة الفارس الذي حلمت به بشوق وشبق لكنها لم تجرؤ على تأميل نفسها بأن يتجسد لها في صورة رجل حقيقي مرئي وملموس. عشقته بجماح عواطفها البكر وغرائزها المتفتحة رغم إدراكها استحالة ارتباط فارس مجلّ مثله في الحرب والحب بفتاة خائبة مثلها في الحياة والجمال، وقد يكون ذلك ماوّلد فيها الرغبة في التعبير عن ذاتها فوجدتها في الأدب، وكانت أولى قصصها من وحي يوسف، الفارس الفدائي المسحور الآتي إليها من عالم السحر ليحملها إلى مجاهل عوالم سحرية تقطف فيها أحلاماً كما تقطف الياسمين من الشجيرات المتعانقة على أسيجة الحدائق..
عاشت عامين كاملين أسيرة طيفه والحلم المستحيل إلى أن هبط فجأة من ملكوته إلى أرضها المقفرة يحمل إليها الخلاص والأمل. لم يختلف في شيء عن صورته المقيمة في ذهنها إقامة الإله في محرابه إلا في الحزن المقيم في عينيه أزلياً متستراً وراء لامبالاة مستهترة لفارس ترجل حاملاً في ملامحه أسفار آلاف السنين من حروب خاضها واقفاً وقفة عزّ جسدها لها هذا الفلسطيني التائه المتعصب لفلسطينيته وانطون سعادة. تجنبته خائفة الخيبة وأن تحيلها ناره رماداً، لكنه سعى إليها ينتزعها من قوقعتها ملقياً إياها في تلك التجربة الموعودة من الأزل وإلى الأبد. لم يمهد بنظرة أو كلمة أو إشارة، قال لها بعد أن قرأ قصصها نحن متشابهان في عذاباتنا ياعطاف فأحست أنه الوحيد دون الناس كلهم الذي فهمها فأنالته نفسها. حلمت دائماً بأن تمتلكه وفعلت ذلك في كل قصصها وخواطرها لكنها لم تتوقع أن تكون على هذا القدر من الجرأة والوقاحة لتبادر هي إلى امتلاكه.
أنالته نفسها دون حساب أوخوف أو شرط وكأنها تريد انتزاع الحزن من عينيه والأسى من قلبها وبين ذراعيه القويتين الدافئتين عرفت معنى أن تكون امرأة وقررت أن يكون لها.
انتبهت إلى وقع أقدام تعبر تحت الشباك تلتها نحنحة عواطف فأزاحت الغطاء عن "الفوتوي" واستلقت عليه باسترخاء وهي تدقق في الشوفينيير. كان نسخة طبق الأصل عن الذي قيل إن جدها الثالث لأمها صنعه بيديه وتوارثته العائلة جيلاً بعد جيل قبل أن يضطرهم الإبعاد إلى التخلي عنه. خشيت عواطف أن يتعرض للسرقة أو التلف فأودعته أمانة في دير الراهبات. أثناء إقامتها في فرنسا راسلت الدير فأرسل لها صوراً له استعانت بها في صنع تلك النسخة ولأجلها شيدت الملحق الغربي ليصبح أشبه بمتحف صغير يضم مجموعة من التحف الفنية واللوحات الشهيرة، الحقيقية أوالمزيفة بإتقان، التي أهداها إياها أكرم أو اشترتها بنفسها وذلك إلى جانب عدة صور قديمة بالأسود والأبيض لوالدها وجدها.
احتلت صورة طارق المبروظة في إطار مزخرفه من الأبنوس الأسود زاوية الجدار اليمنى المتقاطعة مع الشوفنيير بدا فيها رجلاً ساحراً بطلعته البهية وعينيه المتألقتين وابتسامته العذبة وشاربه الخفيف المروّس. كان الشبه واضحاً بينه وبين نضال باستثناء فروقات طفيفة في استدارة العينين وبروز الأنف وتسريحة الشعر. كانت تلك أوضح صور والدها، فصوره الأخرى القليلة التي خرجت معهم لم تكن كافية لإعطاء فكرة واضحة عن ملامحه.. بعد زواج أمها بأكرم عثر غسان على الصورة وكلف أحد الرسامين برسم نموذج مكبر لهاوطبع منهاعدة نسخ أطرها وعلقها في كل غرف البيت مماأثار دهشتها كماأثار استغراب مريم التي سألته لماذا كل هذه الصور فزعق فيها بحدة طالباً منها ألا تتدخل فيما لا يعنيها. حين قالت له إن صورة واحدة تكفي وإن مافعله قد يكون غير مناسب وستحمله أمه على محمل التجريح بها وبأكرم ضحك بسخرية قائلاً إن أمه هي من بدأت التجريح.
كل ماتذكره في تلك الفترة المضطربة من حياتها أنها عاشت في دوامة من الإثارة والاضطراب خلال الأيام القليلة التي مرت بين إعلان النبأ والزواج. أذهلتها الهدايا الأسطورية التي غمرها بها هذا الشيخ العملاق ذو الوجه السمح والنظرة الدافئة والذي قيل لها إنه سيصير زوجاً لأمها واباً لها فانتابها نحوه إحساس بانجذاب خجول لاسيما وهو يتودد إليها بحرارة ويرفعها بين ذراعيه بخفة ليقذفها في الهواء، ويتلقفها من ثم بيدين ثابتتين قويتين تشعرانها بالغبطة والاطمئنان. سعدت لقول مريم إن زواج أمها هو لخيرهم جميعاً لأنه سيوفر لهم الحياة السعيدة الهانئة ويقيهم الحاجة والخوف من المجهول. والخوف من المجهول رافقها منذ ذلك اليوم الكئيب الذي انتزعتها فيه تلك القوة الشريرة من سريرها وبيتها وألعابهاوحارتها لترميها في وسط غريب غير مألوف أنذرتها بقسوته أحزان أمها ودموع مريم وهلع أخويها. راقبت مرتاعة انقلاب حياتهم رأساً على عقب حتى خيل إليها أن أمهاماعادت أمها ومريم ماعادت مريم وغسان ونضال ماعادا غسان ونضال. كان أكثر ما أقلقها التغيير الكبير الذي طرأ على أمها وحولها إلى امرأة عصبية متوترة دائمة الشرود لا تكف عن الصراخ والسباب لأي سبب. حسبت لوهلة أن وجود العم إبراهيم الذي التقاهم بحرارة وأواهم في داره. سيعوضهم عما فقدوه، لكن لم يفتها أن أمها لم تكن سعيدة أو مرتاحة. سمعتها أكثر من مرة تتكلم عنه مع مريم بضيق وتبرم. لهذا رفضت بعناد أن تدعوه بابا رغم إلحاحه عليها ورغم اللطف الكبير الذي كان يعاملها به، ورغم توقها الكبير إلى التفوه بتلك الكلمة... وحين ظهر أكرم في حياتهم حسبت أن الوضع سيختلف، وسيصبح بإمكانها مناداته بابا، لكن أحداً لم يطلب منها ذلك، لا أمهاولا مريم ولا هو، وكان عليها أن تنتظر عدة أيام بعد سفرهما لتدرك بغيظ أنها فقدت أمها ولم تربح أي أب.
تراءى لها، ولا تعرف حتى الآن إن كانت مصيبة أم مخطئة، أن التعاسة حاقت بها بموت والدها، ولعل هذا ماأنمى فيها الأحساس بحاجتها الماسة إلى الأب، ولو بالتبني، متوقعة أن تجد لديه طمأنينة افتقدتها غالباً، وليملأ نقصاً رافقها دائماً، وقد يكون هذا مادفعها دفعاً إلى يوسف، فلديه فتشت إلى جانب الحبيب عن الأب، واعتقدت أنها وجدته في رجولته الهادئة المتسامحة وشعره الفضي يضفي عليه سيماء كهولة سابقة لأوانها.وقد أدرك هو تلك الرغبة الدفينة على ما يبدو منذ وقعتهما الأولى، تأملها بعمق ثم نفخ بقوة :
- كان عليّ أن أخّمن أنك مازلتِ عذراء يافتاتي الصغيرة. لو عرفت لما تورطت معك. لقد ألزمتني بواجب لا أعتقد أنني مستعد له، ليست القضية مسألة ضمير، أو أخلاق. من الصعب أن أدعي أنني أؤمن بأي شيء بعد بيروت، ولوكنت أية فتاة أخرى لما اكترثت، كنت لفظتك دون أي شعور بالذنب، مثلما أنا ملفوظ بطريقة من الطرق، ولكنك مجرد طفلة خرقاء وأنا عجوز أحمق.
استدارت على الباب يفتح بعنف قبل أن تظهر عواطف:
- ماذا تفعلين هنا؟ منذ ربع ساعة وأنا أبحث عنك، كيف تتحملين هذه الرائحة؟
أجالت نظرة سريعة فيماحولها ثم حركت الباب بعصبية عدة مرات تهوّي الغرفة قبل أن تتجه نحو عطاف التي نهضت متثاقلة وتبادلت وأمها قبلة سريعة وهي تتثاءب:
- أحببت الاختلاء بنفسي قليلاً، وأحسب أنني غفوت قليلاً.
- عملت عين العقل..
غمغمت عواطف وهي تستدير إلى المرآة وتتشاغل بترتيب شعرها بيدها:
- لقد تعبت الليلة، كلنا تعبنا.
لوحت عطاف بيدها باستهتار وهي تبادل أمها النظرات عبر المرآة.
- لابأس علينا...الهيئة أننا لن نعرف الراحة الليلة.
- أخشى ألا نعرفها أبداً..
غمغمت عواطف وهي تلتفت لتتبادل وعطاف نظرات هادئة، هزت هذه الأخيرة رأسها ببطء ثم ابتسمت قائلة برفق:
- دردشنا قليلاً أنا ومريم، ذكرتني بقصص وأحداث قديمة جداً.
فتحت عواطف عينيها بتساؤل فأوضحت عطاف:
- عن البابا...مرضي... المضايقات التي تعرضت لها على يد الضابط الإسرائيلي...
عضت عواطف شفتها لكن عطاف سارعت تجلس وتشد أمها تدعوها للجلوس إلى جانبها:
- لم أعرف أنني سببت لك كل هذا العذاب، أنا آسفة يا أمي!.
نفخت عواطف بهدوء وجلست وهي تقول بحرارة:
- على العكس كنت عزائي في تلك الأيام الصعبة.
أمسكت يدها واعتصرتها بحرارة فغمغمت عطاف بصوت مفعم بالتأثر:
- رغم ذلك عانيت كثيراً، لو كنت محلك لانهرت أولمتّ بالتأكيد.
- لا تبالغي، كل الناس معرضون لماتعرضت له، وكثيرون عانوا وتعذبوا أكثر مني، قد تحسبين أنك أضعف من مواجهة المحنة، لكنك ما إن تصيري وجهاً لوجه معها حتى تكتشفين أنك أقوى بكثير مما تحسبين وأن لاخيار أمامك سوى مواجهتها وإلا وقعت تحت أرجلها وانتهيت. لست أقوى من غيري ولا غيري أقوى مني، كل مافي الأمر أنني بذلت جهدي وعملت مااعتقدت أنه الصواب.
- والآن ؟.
نظرت عواطف إلى ابنتها باستغراب فأوضحت عطاف بحنان:
- تعملين الصواب؟.
حدجتها عواطف بإمعان ثم هزت رأسها ببطء عدة مرات بالإيجاب:
-إنه طارق، طارق مناف بلحمه ودمه، زوجي وأبوك، ولو لم أكن متأكدة مئة بالمئة لما...
سكتت فجأة وعادت تحدق إلى عطاف قبل أن تقطب قائلة بنزق:
- حتى أنت ياعطاف؟ إنكم تكادون تجعلونني أشك في نفسي، لم أتوقع أن تكونوا جميعاً على هذه الدرجة من الشكوك والعقوق... نعم، العقوق...أنتم عاقون!.
رنت إليها عطاف بحيرة وقلق ثم أغضت قائلة بضيق:
- لا أرى في الأمر أي عقوق يا أمي، تعرفين تماماً أن المسألة ليست سهلة ومن حقنا أن نشكلك فيها كما نشكك أنت في البداية، توما لم يؤمن إلا حين رأى المسيح بعينيه! فاصبري علينا قليلاً!.
- كيف أصبر وقد خاب أملي فيكم كلكم؟ حتى الآن لم ألمس منكم أي تعاطف أو تفهم... إنكم لا تصدقونني... وحتى مسألة الشبة التام بين هذا الرجل وأبيكم لم تثر لدى أي واحد منكم الفضول لرؤيته... أخشى أن أكون أنجبت مخلوقات دون عواطف!.
زمت عطاف شفتيها مبدية الامتعاض لكنها اكتفت بالقول بهدوء:
- لا أريد الدفاع عن نفسي بالزعم أنني لست كالآخرين... أودّ من كل قلبي أن يكون الرجل أبي وأن يرجع إلينا، لقد تسنى لغسان ونضال أن يعرفا البابا ولو لفترة قصيرة، أماأنا فلم يتسنّ لي أن أنده باسم بابا حتى في أحلامي. إنه لمما.يفرحني أن أتفاجأ وأنا في العشرين من عمري ومقدمة على الزواج أن لي أباً، لكن مهمااشتط بي الخيال فإنني أجد نفسي عاجزة عن... عن...
تعذر عليها إيجاد الكلمة المناسبة فتشاغلت بنكش الغطاء بأظافرها. همت عواطف تتكلم لكنها عدلت عن رأيها واكتفت بالإطراق صامتة. بعد هنيهة طرفت عطاف نحوها... ودت من كل قلبها أن تقول لها إنها تصدقها وهي مقتنعة بأن الرجل أبوها، لكن لسانها لم يطاوعها، فاكتفت بأن مدت يدها تضغط على يد أمها برفق شاعرة أنها لم تكن قريبة منها كماهي الآن. نعم كانت أمها منشغلة عنها دائماً بأمر ما... الإبعاد والبحث عن عمل والزواج بأكرم والشركة وسفر غسان إلى بيروت وقصة نضال وناديا وإبراهيم والحفلات وصديقاتها. أما هي فكانت من حصة مريم. حتى عندما تفاجأت ذات يوم مرتعبة بذلك الدم الحار ينساب بين ساقيها يطوي صفحة الطفولة وينقلها إلى طور الأنوثة، خجلت من حمل الخبر إلى أمها، رغم تشوقّها لذلك، واكتفت بإبلاغ مريم التي زغردت وسارعت تخبر عواطف. الحدثان الوحيدان اللذان انتهكا تلك القاعدة كانا في اشتغالها بالأدب وخطبتها ليوسف، لكنهما لم يعكرا حياتهما طويلاً إذ سرعان ما اندمجا في مسارها الرتيب. حين بدأت قصصها تجد طريقها إلى النشر راحت أمها، وقد ملأها الأمر فخراً، توليها اهتماماً متزايداً تمثل في جلسات سمر مسائية تقرأ فيها القصص وتبدي حولها آراء قيمة فاجأت عطاف إذا نمت عن ذوق أدبي رفيع لم تتصور أن أمها تمتلكه. عندما أبدت دهشتها حيال هذا الأمر ضحكت عواطف قبل أن تقول بنزق:
- أوتظنينني لا أفهم إلا في الأكل واللبس وإدارة الشركة؟ لقد شغلتني الدنيا عن نفسي فتخليت مرغمة عن كثير من أحلامي ونزواتي. فزت مرة بالجائزة الأولى في مسابقة الشعر المدرسي، وحين قرأ موجه اللغة العربية دفتر أشعاري قال لجدك إنني إن واظبت قد أصبح شيطانة ذات شأن في جهنم الشعر، وكان هذا رأي أبيك أيضاً. شجعني كثيراً على الاستمرار لكن الحياة جرفتني في سيولها، الزواج والحمل والولادة، ثم جاء الاحتلال و... وأحن أحياناً إلى نظم الشعر وقد يخطر لي مطلع قصيدة، لكن سرعان ما يأتي مايشغلني عنها. أخشى أن يكون شيطاني قدتحول إلى ملاك! لعلي بعد أن أتقاعد أجد وقتاً لنكش إمكانياتي من جديد، هذا إن كان مايزال فيها رمق. ومما يعزيني أن تفلح ابنتي فيما أخفقت فيه..
- أنت لست معي ياعطاف!...
هزت هذه رأسها مجفلة وسارعت تقول برقة:
- آسفة ياأمي، لقد سرحت قليلاً...
- عليك أن ترتاحي... الإرهاق واضح عليك.
- أفضل أن أبقى معك..
ابتسمت عواطف بامتنان واستندت برأسها إلى كتف عطاف:
- هذا ألطف ماسمعته الليلة، شكراً لك... أتعرفين بماذا أرغب؟ أن نذهب أنا وأنتِ في رحلة طويلة وبعيدة... أن نكون وحدنا فقط...
- وتتخلين عن طارقك؟.
تساءلت عطاف بصوت أقرب إلى الهمس فسارعت عواطف ترد وهي تعدل جلستها:
- لا .. أبداً ‎.. لن أتخلى عنه.
- موقفك يثير إعجابي يا أمي... وأرجو من كل قلبي ألا تكوني مخطئة!.
نظرت إليها عواطف بإمعان قبل أن تجزم:
- لست مخطئة...
- ولكن!.. أفكر أن هذا الرجل يصلح ليكون شخصية روائية، لكني أجد صعوبة في إضفاء المسحة الواقعية عليه، فقدانه الذاكرة على سبيل المثال... قرأت بعض الكتب عن النفس الإنسانية وحالاتها، لكن حالة هذا الرجل تبدو غريبة من نوعها.
نظرت عواطف بهدوء إلى عطاف ، ثم قالت:
- تحدثت مع الدكتور جلال في هذا الموضوع، قال إن النفس البشرية أشبه بغابة عذارء لم يتم اكتشاف سوى جزء بسيط منها لهذا فإن هناك مفاجآت ومعلومات جديدة تطلع بها علينا كل يوم فتضيف إلى معارفنا أو تنسفها من أساسها، وفقدان الذاكرة مرض متعدد الأشكال يبدأ من فقدان جزئي ومؤقت، كأن ينسى المريض بعض الأحداث والوقائع لفترة محددة، وهذا قابل للشفاء بسهولة، وينتهي بالفقدان الكامل، والدائم للذاكرة، وهذه من الحالات النادرة جداً والشفاء فيها صعب..
- وأية حالة تنطبق علىهذا الرجل؟.
سألتها عطاف... تشاغلت عواطف بنفض الغبار عن مسند الكنبة:
- قال إن الذاكرة هي الهوية العقلية التي تعطي للمخلوق البشري صفته الإنسانية.إنها تتشكل معه منذ بدايته الجنينية في رحم أمه، وتبدأ عملها ما إن يخرج إلى النور لتصوغ وعيه بشكل تدريجي، إنها أشبه بالكتاب الذي يكتب سطراً سطراً إلى أن يموت صاحبه. وفقدان الإنسان لذاكرته يعني أن كل ماكتب في هذا الكتاب.امّحى وهذا لا يمكن أن يحدث دون تأثيرات هائلة على كيانه.
حدقت إليها عطاف بدهشة، ثم قالت بغيظ:
- أنت تحيرينني يا أمي، إن هذا الكلام يعني أن الرجل ليس فاقد الذاكرة وإلا لكانت ظهرت عليه هذه التأثيرات. أتكون الجنون كما قال يوسف؟.
- دعيني أكمل...
أخذت عواطف عدة أنفاس متلاحقة وأردفت:
-كانت تلك المعطيات على درجة كبيرة من القوة والإقناع فوجدت ألا سبيل أمامي إلا التخلي عن أوهامي برمتها واعتبار الرجل مجرد شبيه لكني لم أستطع.
عادت تنظر إلى عطاف بشرود وكأنها تتساءل إن كان عليها أن تمضي إلى نهاية الشوط في بوحها، أخذت نفساً عميقاً واستدركت بانفعال:
- إنه طارق رغم كل النظريات والمسلمات العلمية والحقائق المادية والقوانين الثابتة. إنه طارق وليس أي شخص أخر لا أعرف كيف ولماذا.. ولكنه هو...
أنهت كلامها بلهجة حازمة وكأنها تريد وضع حد لشكوك ابنتها. توهج وجهها وتألقت عيناها نتيجة الجهد الذي بذلته فيما راح صدرها يخفق بتسارع حتى أوشكت عطاف تسمع وجيب قلبها.. لم تستطع إلا أن تشعر بالتعاطف مع أمها فتركت لتعابير وجهها أن تشي بتقديرها لها وهي تتأمل في ملامحها المشرئبة الممتلئة بالعنفوان والإصرار. انتابتها رغبة طائشة في أن تبادر إلى احتضانها ممارسة نزوة طفولية لم ترتو، لكن الانفعال المسيطر على أمها كبحها فاكتفت بأن غمغمت بلطف:
- إنني أقدر ثقتك بنفسك يا أمي لكن المهم أن يقنع الآخرون أنك على صواب، وأن يكون هذا الرجل أبي فعلاً، أنت بنفسك اعترفت أن الشك غلبك فلجأت إلى حدسك وإحساسك، وربما حاستك السادسة، لكن هذا لا يكفي دون دليل مادي ملموس.
أطرقت عواطف مقطبة الجبين وقد بدا عليها التفكير العميق. شعرت عطاف أن أمها تخفي ماتتحرج عن البوح به، أمسكتها من معصمها برفق فرفعت رأسها وتبادلت مع ابنتها نظرة عميقة، ثم تنحنحت وتضاحكت بقلق قبل أن تقول بصوت متلجلج:
- لدي الدليل.. هل هناك أقوى من الفراش؟.
انفرجت شفتا عطاف عن ابتسامة دون معنى إذ لم تستوعب معنى ماسمعت، رددت الجملة بصوت خافت ثم شهقت بفزع ونظرت بذهول إلى أمها التي سارعت تقول متجنبة نظراتها:
- أشعر أننا قصرنا في حق بعضنا فيما مضى من حياتنا. لم تسنح لنا الفرصة لنكون كما يجب لأم وابنتها أن تكونا، وأنا الملامة على ما أظن فقد اتكلت على مريم أكثر ممايجب... لا أستطيع نكران فضلها الكبير علينا، لكن هذا لا يمنعني من أن أحنق عليها كلما فكرت أن وجودها علّمنا أن نستغني عن بعضنا بطريقة من الطرق، لا ذنب لها في ذلك فأنا...
تلكأت هنيهة ثم أردفت باستسلام:
- لقد أخذت كثيراً من صلاحياتي واستولت على كثير من حبكم، وربما أحببتموها أكثر مما أحببتموني، لكن هذا لاينفي أنك تظلين ابنتي وأظل أمك، وأنت الشخص الوحيد في العالم الذي أستطيع أن أبوح له بمكنوناتي وأسراري بطمأنينة ودون خوف، حتى مريم التي تحبني إلى حد التضحية بنفسها من أجلي أتحرج من البوح لها بكل أسراري. ثمة سقف لقيمها الأخلاقية ومعتقداتها الدينية يمنعها من تفهم موقفي وإيجاد الأعذار لسلوكي رغم يقينها أن الرجل هوطارق.
بلعت ريقها بصعوبة ورفعت رأسها تحدق في عطاف بثبات قائلة دون أن يرف لها جفن:
- إنني واثقة بنضجك وحكمتك، وأنا أكلمك امرأة لامرأة!.
لم تستطع عطاف الاستمرار في هدوئها بعد أن انجلى لها الموقف... توترت أعصابها وشعرت بوجهها يلتهب والرعشة تدب في أوصالها فوقفت وهي تدمدم بخواء:
- أنت ... أنت...
أغمضت عينها وهزت رأسها بقوة وكأنها تطرد الصورة التي ارتسمت أمامها، رمقتها عواطف بقلق قبل أن تهمس
- تذكري أنني أكلمك امرأة لا مرأة..
كزّت عواطف على أسنانها واستندت إلى مسند الكنبة بيديها وهي تقول بصوت أقرب إلى الزعيق:
- ولكني ابنتك قبل أي شيء آخر، إن مافعلته .... لا... الرجفة تصيبني وأنا... قد يكون أي رجل ... كيف واتتك الجرأة؟ يا ألله!..
-اهدئي وكفاك صراخاً...
أمرتها عواطف بصوت ناهر وأرغمتها على الجلوس قبل أن تستدرك برجاء:
- توقعت ، أو أملت أن أجد لديك التفهم والتعاطف... كان عليّ أن أخوض غمار تلك التجربة لقطع دابر كل شك...
لوحت عطاف بيديها وقالت بقسوة:
- لا أعرف ماذا أقول يا أمي.. أحس وكأنني واقفة على رأسي... أشعر بالتعاطف معك وأرغب صادقة في تفهم موقفك لكنه ... لكنك... أواه ماذا فعلت يا أمي.
بدت الخيبة على عواطف وقالت بألم:
- لعلي أنا المخطئة وأنت، أنتم كلكم، على صواب،... ماكان عليَّ أن آمل أو أتوقع أي شيء منكم. أحسب أنك تشعرين بالغضب وحتى بالعار لسلوك أمك الكهلة التي تعيش أواخر سنوات الأمل... فأنا على أبواب سن اليأس كما تعلمين بل سأصير جدة بعد أشهر فناديا حامل كما أبلغني نضال أمس. لابد أنك تتساءلين إن كنت فقدت رشدي لأتصرف بهذا الشكل الطائش الأرعن دون تبصر بالعواقب. أنسيت من أنا ؟ عواطف بشارة بنت الأستاذ رياض المحامي سليلة الحسب والنسب والسيدة المرموقة الناجحة التي تتربع على عرش شركة تجارية مهمة..عواطف التي يستجدي رضاها الرجال وتلاحقها نظرات الإعجاب من المراهقين والكهول على حد سواء... أيعقل أن أفقد صوابي وأضيّع كل شيء مقابل نزوة حمقاء لا أعرف إلى أين ستقودني؟.
أخذت نفساً عميقاً ثم قالت بإصرار:
- لكني مازلت عواطف، وهي ليست نزوة، إنه طارق ... زوجي ورجلي...
- لم يكن عليك أن تنامي معه لتتأكدي من ذلك!..
زمجرت عطاف بصوت متشنج لكن عواطف لم تبد اكتراثاً وهي تقول :
- كان هذا السهم الأخير في جعبتي، قال الدكتور جلال مالديه وتركني أتخبط في وساوسي وحيرتي. فكرت كثيراً في الأمر... كثيراً جداً. لا أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن حالتي آنذاك. سألت نفسي ماهو الحب... لماذا أحببت طارق لا إبراهيم، ولماذا تحب امرأة ما رجلاً ما دون غيره؟ هل يوجد تعريف حسي للحب وهل له شكل مجسّم وعناصر مادية رغم أنه غيرمرئي وغيرملموس؟ ‍وكنت مرغمة على البحث عن جواب...
قاطعتها عواطف تسألها بتهكم:
- وأظن أنك عثرت على الجواب!..
- نعم... وإلا لماعرفتم شيئاً ولا كتفيت بالذهاب إلى الخوري حنّا أعترف وأطلب الغفران.!

***
أذهلني هاتفه الليلي التاسعة تماماً وكنت أدقق بعض تقاريرالشركة جمدت في مكاني مشلولة التفكير لحظات طويلة. قبل أن أستوعب الأمر. كان صوته هادئاً عميقاً وهو يسألني إن كان بإمكانه دعوتي إلى مشاركته فنجان قهوة في البرج. حين سألته بارتباك كيف حصل على رقم هاتفي الخاص اكتفى بالضحك بطريقة مليئة بالإيحاءات.
همهمت بعد فترة صمت بالموافقة واتفقنا على اللقاء قرب وزارة الخارجية.
أول ماتبادر إلى ذهني أنه استعاد ذاكرته وأراد أن يلتقيني على انفرد ليفاجئني بذلك. لكن صوته لم يوح بأي شيء من هذا القبيل، وإنما أوحى بأنه رجل يبحث عن علاقة حب عابرة زيّنها له اهتمامي المثير للريبة به.لكن ذلك لم يردعني. قلت لمريم إنني تلقيت مخابرة عاجلة، وأنا مضطرة للسفر فوراً إلى الزرقا لعمل وقد أنام هناك. خرجت قبل أن أعطي لنفسي الفرصة للتفكير بأي شيء أو التحسب لأي أمر... لا أستطيع الادعاء بأن ماحدث فاجأني أو آلمني أو أشعرني بالأسف..
بدا لي الأمر وكأنه يجري مع امرأة أخرى وأنني لست سوى متفرجة حيادية على مسرحية لا علاقة لي بها... وتذكرت رافايل!.
قبيل العاشرة بقليل وصل. كان يرتدي بذلة سوداء وطاقية فرو روسية لا تتلاءم مع دفء الطقس. صعد إلى السيارة بإلفة صديق حميم ذي دالة وهو يلقي تحية مبتسرة قبل أن يقترح عليّ استبدال البرج بمشرب أقل ازدحاماً. أخذني إلى سناك يوناني متطرف قليل الرواد. جلسنا في مقصورة منعزلة، ودردشنا في أحاديث تافهة قبل أن يفاجئني بالتساؤل عن سبب اهتمامي به وملاحقتي له ليعمل في الشركة. ارتبكت وأظن أن أجوبتي لم تكن مقنعة لكنه تظاهر بالاقتناع وقال لي إن الشيء الوحيد الذي يهمه هو أنه برفقة امرأة فاتنة. تناولنا العشاء مع زجاجة نبيذ معتّق وساعدنا الجو على الائتلاف بسرعة. حين اقترح عليّ أن نكمل السهرة في فندق القدس قلت له إنني لا أحب الأماكن المزدحمة، حدق إليّ بإمعان ثم طلب مني أن أتبعه. تبعته مقررة ألا آبه لشيء، لكني لم أتصور أن ننتهي في غرفة حقيرة رطبة في أحد فنادق وسط عمان الرخيصة على سرير حديدي ذي فرشة أسفنجية مهترئة وأغطية تحمل إلي وساختها آثار من سبقنا إلى ممارسة الجنس. تصرفت معه كزوجة تلبي رغبات زوجها، لكن الهوان اجتاحني إذا فكرت أنه يعاملني بمستوى أحدى" فتيات الهوى اللواتي يبدو أنه اعتاد إحضارهن إلى ذلك الفندق المشبوه ليقضي معهن وطره. فقط وهو يطلب مني النزول من السيارة نظرت إليه بقلق فهم معناه فابتسم بثقة قبل أن يقول بلهجة باردة :
- لا عليك يا سيدة عواطف! من المستحيل أن يتعرف علينا أحد، على كل حال انتظري لحظة.
دلف إلى الفندق ورجع بعد قليل ليناولني منديلاً أسود دثرت به رأسي واعتمر هو القبعة مخفياً تحتها جبهته قائلاً بتهكم :
- لوجاءت الملكة نفسها لما لاحظها أو اكترث بها أحد!.
دخلت صاغرة كاتمة الوساوس التي راحت تفح في رأسي. حتى التفكير بوقوع فضيحة مدوية، من مثل تعرض الفندق إلى مداهمة شرطة الآداب أو أن تكون ثمة مآرب خبيثة لهذا الرجل الذي فقد ذاكرته -كأن يكون ينوي التقاط صور فاضحة لي يستخدمها لابتزازي- كل ذلك لم يزعزع تصميمي على المضي إلى آخر الشوط في تلك المغامرة الحمقاء التي رحت أنزلق في مهاويها كأنها قدر لا مفر منه، تماماً مثلما كانت علاقاتي مع كل الرجال الذين خلقوا في حياتي بصمات لا تمحى..... أبي، طارق.... رافايل... الفدائي، إبراهيم... أكرم... سمير..
كم لاح لي البون شاسعاً بين عواطف بشارة زوجة طارق مناف وبين السيدة عواطف بشارة أرملة أكرم النحاس. الأولى ماكانت سوى زوجة فتية وربة بيت بسيطة وأماً صغيرة تنحصر اهتماماتها في حب زوجها ورعاية أطفالها وتقتصر آفاقها على جبال القدس وسمائها. أما الثانية فهي نتاج رحلة فضنية طويلة بدأت بامرأة تكافح لحماية أسرتها من الضياع والتشرد والحاجة والموت وانتهت، حتى تاريخه، بامرأة ثرية قادرة باردة العواطف متينة الأعصاب عرفت العالم وخبرته واكتسبت من المعارف ماأوحى لها ، أو لعله أوهمها، أنهاحققت ماتصبو إليه وحصنت نفسها من كل طارئ.
نقمت ذات مرة على أكرم حين علمت أنه المسؤول عن إفلاس أحد كبار رجال الأعمال مما دفعه إلى الانتحار. صرخت في وجهه أنه ليس خيراً من أي مجرم يستحق العقاب والسجن. اكتفى بالقول إن هذا هو قانون السوق ولا ذنب له إن كان الرجل غبياً إلى درجة أن ينتحر.
واجهته بكل ماكنت أؤمن به من مبادئ وقيم وأخلاق. أصغى إليّ برحابة صدر ولكن بابتسامة ساخرة نمّت عما يكاد يكون إشفاقاً لسذاجتي. حين صمت منهكة حاسبة أنني أفحمته قطب قائلاً بحنان:
- أقرأت جريمة وعقاب دوستوفيسكي؟ بطلها راسكولينكوف ذلك الطالب الذي برر جريمة قتل المرابية العجوز بذرائع أخلاقية مقنعة. كان شاباً مثقفاُ عاقلاً لكنه فقير وضعيف... لهذا تحتم عليه أن يُكشف وتطاله يد العدالة البشرية، أما لوكان من صفوة القوم وأغنيائهم وأقويائهم لقتل عشرين مرابية عجوزاً دون أن يلتفت إليه أحد. كلنا راسكولينكوف بطريقة من الطرق، لكن الفرق بين راسكولينكوف وآخر هو كالفرق بين نابليون وبطل دوستوفيسكي... وأنت بالذات يا عواطف راسكو لنكوفية حقيقية فلا تكابري وتدعي العكس!..
راكسو لنكوفية! هذا هو الوصف الذي ينطبق عليّ وكان عليّ انتظار أكرم ليكشفه لي! راسكولنكوفية بالفطرة أم الاكتساب؟ أخال أن كل تصرفاتي في الحياة ماشت هذا المبدأ وخاصة بعد وفاة طارق... كانت لديّ الأعذار المقنعة لكل ماقمت به، أليس هذا ماحدث مع رافايل وإبراهيم وأكرم وسمير؟ .
مع رافايل شرعت أثمي بالزعم أنه وسيلتي لدرء الخطر عن نفسي وأطفالي... أكنت على صواب أم خطأ؟ ماعاد بإمكاني أن أنظر إلى الفضيلة والشرف والأخلاق نظرة تقليدية وأنا أرى إلى وطني يُستباح وتُنتهك حرماته بفظاظة، لكني لم أتوقع أن أواجه محنة اختبار أفكاري عملياً... اليهود يعيثون فيه ويأتي يهودي ليعيث فيّ... كانت حادثة ضياع نضال القشة التي قصمت ظهري... ولم تقتصر محنتي على إباحة جسدي لرجل أحتقره وأكرهه فقط، بل لكونها التجربة الأولى بعد طارق رجلي الذي ماعرفت رجلاً قبله، ولا خطر لي أنني سأعرف رجلاً بعده بهذه السرعة وهذه الطريقة.
كان مايقارب العام قد مر على وفاة طارق عشته بتولاً بجسدي وفكري على حد سواء. كانت الرغبة تدب في أحشائي بين الحين والآخر، لكنها كانت رغبة هادئة خفيفة الوطء تقتصر على أحلام ورؤى ضبابية ليلية تتمحور حول طارق نفسه، وكنت أهب من نومي فزعة مضطربة فأسارع إلى كبتها. كان لديّ من المشاغل والهموم آنذاك مايكفي لالهائي عن نفسي ذاتها، و كنت أحسب أنه لن يصير أسوأ مما صار، لكني أبداً لم أحسب حساب رافايل ولا تصورت أن شيئاً من هذا القبيل سيحدث لي.
يتهيأ لي أحياناً إنني ماخلقت إلا للعذاب والشقاء. أهي اللعنة الممسكة برقابنا جميعاً كما قال أكرم؟ أأنا الملعونة، حاملة اللعنة، أم الرجال الذين ارتبطت مصائرهم بي هم الملعونون، حاملو اللعنة؟ وماهو مصير غسان ونضال؟ أليسا رجلين منحتهما أنا الحياة، فهل ستلاحقهما اللعنة أيضاً؟ .
لم يكن هناك مخطط معين في رأسي عندما ارتديت ثياباً بسيطة وتخمّرت بمنديل أسود ونظارة سوداء وقصدت كنيسة البقعا التحتا، شعرت بحاجة ماسة إلى إله يوفر لي بعض العزاء وأشاطره أسراري ويساعدني على استعادة ثقتي المنهارة بنفسي، لا أذكر أن الدين كان ذا شأن بارز في حياتي. فقد غلبت على أجوائنا آنذاك النزعة الوطنية البعيدة كل البعد عن حمأة الإيمان والتعصب الديني . كما لم أتأثر كثيراً بكوني طالبة في دير للراهبات إذ بقيت بمنجاة من الوقوع تحت وطأة إيمانهن الصوفي المتزمت وأسلوب حياتهن الخشنة، ولولا مريم لنشأت على الأغلب لا دينية بتأثير التيارات المادية التي وجدت تربة خصبة في نفوس معظم أبناء جيلي الذين كانوا يتباهون- في زخم المد القومي المتصاعد في خمسينات هذا القرن- بعلمانيتهم ومبادئهم اليسارية...
اخترت مقعداً منزوياً في إحدى زوايا الكنيسة الفسيحة الخالية من الزوار في مثل تلك الساعة والغارقة في سكون جليل خاشع. رددت الصلوات التي أحفظها بحرارة وورع وأضأت عدة شموع أمام صور المسيح والعذراء، وتضرعت إلى شقيقتي القديسة حنّة أن تساعدني وترشدني إلى طريق النجاة. شعرت ببعض الراحة والسكينة ونما في داخلي من جديد الإحساس بوجود قوة علوية تراقبني وتنتظر مني أن أسألها العون.
ناشدّت الرب أن ينظر إليّ بعين العطف ويرحمني.في تلك اللحظة وقع نظري على غرفة الاعتراف التي انشقت ستارتها المخملية الحمراء عن صبية صغيرة حلوة كملاك ترتدي رداء أبيض طويلاً وتنسل إلى المحراب مطأطئة الرأس مشابكة أصابع يديها بخشوع. اتجهت إلى الغرفة مسلوبة الإرادة وطلبت من ذلك الرابض وراء الحاجز الخشبي ذي الثقوب الصغيرة- وتخيلت لفترة أنه قد يكون المسيح نفسه متجسداً في صورة كاهن- النصح.. كان صوته العميق عطوفاً متفهماً يبعث على الثقة والطمأنينة:
- الرب يرمينا في التجربة ليختبرنا ويكشف حقيقة معدننا يا بنتي، الشيطان الملعون جاء إلى سيدنا المسيح وعرض عليه سلطان الأرض كلها ولكنه رفض، وأنت الآن في تجربة مماثلة، وكما رفض سيدنا إغراء الشيطان عليك أن ترفضي إغراء شيطانك الأرضي لأنك إن سقطت في الامتحان خسرت نفسك في الحياة وبعد الممات.
- لكني لست المسيح يا أبتي...
- كل واحد منا المسيح.
- لو أن التجربة تقتصر عليّ وحدي كنت قاومت ورفضت، لكنه يهددني بأطفالي.
- إنه مجرد تهديد لن يجرؤ على تنفيذه، بل هو أجبن من أن ينفذه.
- وهل تتعهد لي ألا يصيبهم سوء.
طال الصمت قبل أن ينفخ بضيق:
- سأكون صريحاً يا بنتي، ما أراه لا يشجعني على أي تعهد. واجبي الديني والأخلاقي يفرض عليّ تحذيرك ومنعك من السقوط في الخطيئة المميتة. لم تغلق بعد السبل في وجهنا. بإمكاننا تقديم شكوى إلى رؤسائه، سأتصل بنيافة البطرك نفسه ليتدخل لدى أعلى المراجع والسلطات لوضع حد لهذا الوغد..
- توقع أن ألجأ إلى تلك الوسيلة فنصحني ألا أفعل لأن أحداً لن يصدق ادعاءات عربية ضد ضابط إسرائيلي كبير....
- سنجعل منها قضيتنا ونؤلب العالم عليهم.
- وماذا يفيدني ذلك إن كان الثمن أحد أطفالي؟ .
- ارحلي إلى مدينة لا يطالك فيها...
- فكرّت في الأمر، ليس ذلك بمقدوري ولا شيء يمنعه من اللحاق بي...
- الخوف متحكم فيك بحيث تطفئين كل شمعة أحاول إشعالها أمامك!.
- أصبت. أنه قادر على تنفيذ وعيده..
- وكأنه لم يبق أمامك إلا السقوط؟ قلت لك إن واجبي الديني والأخلاقي يفرضّ عليّ ردعك بقوة عن الانزلاق في الخطيئة.
- وهل هناك واجبات أخرى يا أبتي؟.
تمتم بصلاة قصيرة ثم قال بهدوء:
- ثمة أوقات نجد فيها أنفسنا ضعفاء عاجزين يا بنتي، قد لا نفعل الصواب دائماً لكن الله غفور رحيم. ما أنا في واقع الأمر إلا إنسان مثلي مثلك، ولا يكفي الثوب الذي ارتديه ليفتح بصيرتي ويهبني القدرة على إصدار القول الفصل كحكيم معصوم، القضية أكبر مني يا بنتي، وأنا مازلت عند رأيي في ضرورة اللجوء إلى مرتبة أعلى مني وأكثر حكمة، المطران جورج في الدير، أأستاذن لك في مقابلته؟.
-لا..
فدانا المسيح بجسده، اليهود جلادوه، سأفدي أولادي بجسدي. رافايل اليهودي جلادي ألا أيهذا الجسد الذي من تراب وإلى تراب ترتمي في حمأة الرذيلة فيما الروح تنّز دماً. يحتويك ذلك الرافايل كغراب يطبق على عصفور،.يشق تربتك بمحراثه الحديدي الصدئ باذرا فيها العار والموت. أغمض عينيّ وأخنق أحاسيسي وأيبّس أعضائي فينتفض صارخاً بقسوة إنه يريد امرأة لا جيفة، يحدجني بلؤم وهو يسألني إن كنت بهذا التصرف اعتبر نفسي الضحية واستصدر لها صك البراءة:
- أتظنين أنك مازلت السيدة المصون طاهرة الذيل؟ لقد سقطت وانتهى الأمر فلا داعي للمكابرة والاستكبار يا حسنائي الجميلة، لن تغفري لنفسك ولن يغفر لك أحد ولو أقسمت ألف يمين أنك فعلت مافعلت مرغمة، لهذا أنصحك أن تستسلمي للأمر وتقبلي ما ليس منه مفر.... على الأقل تمتعي وأشبعي رغباتك المقموعة على ما أظن منذ فقدت زوجك، هذا على افتراض أنه كان قادراً على إمتاع لبوءة مثلك!...

يؤلمني تطاوله على طارق، يقلّب جسدي العاري بعينيه الملتهبتين ثم يستطرد بسخرية:
- أنت صبية ريانة فلا تفوّتي الفرصة عليك... لقد أثمت وانتهى الأمر...
أثمت ... سقطت... أهذه بداية الانهيار؟ حاجز يقع فتنهار الحواجز اللاحقة لأهوي إلى الدرك الأسفل مشلولة الإرادة والتفكير، تتحجر الدموع من عيني وتموت الحياة في وجهي. تلاحظ مريم التغيير الذي أصابني فتحاصرني بأسئلتها وقلقها لكني أتماسك خشية افتضاح أمري، أنزوي في غرفتي يعتصرني إحساس بالقرف والاشمئزاز من كل شيء.جسدي ونفسي وأولادي والعالم. أتجنب حتى النظر إلى المرآة وكأنني أخشى أن تطالعني صورة وجهي وقد حرثته أخاديد العار. أفكر في الموت والانتحار، أن أقتله.. أن أتحول إلى شحنة ناسفة تفجر العالم كله، لكنها ماكانت سوى رغبات عاجزة سقيمة...
حين حان موعدي الثاني معه انشلّت قدماي... لم أتصور أنني قادرة على رؤيته، على أن يدنسّني مرة ثانية، أن يقبلني ويتشممني ويضمني ويعتصرني حتى الاختناق وهو يتأوه، أن تنقضّ شفتاه الذئبيتان على وجهي وعنقي وصدري وبطني تنهشاني و...
ولم أذهب.. في منتصف الليل دهمت البيت دورية قلبت عاليه أسفله وأفزعتنا حتى الموت بحجة البحث عن مشبوه مطارد شوهد يلتجئ إليه. عندما خفروني إلى المخفر لاستكمال التحقيق كنت أعرف ما ينتظرني، استقبلني بنظرة مشفقة قبل أن يقول برفق:
- أنت حمقاء ياعواطف بشارة، قلت لك إنك سقطت وانتهى الأمر.. ألم تعي ذلك حتى الآن... لست مرتاحاً لما حدث الليلة، لكنك أرغمتني.. عليك أن تفتحي عينيك وتري الواقع كما هو لا كما تتوهمينه أو كان... لا أريدك أن تقعي مرة ثانية في شراك الوهم الذي عشته عشرين سنة، لم تصدقي أنك خسرت كل شيء فعشت على أمل كاذب بأنك ستعوضين كل شيء من جديد، لكنك لم تواجهي سوىالمزيد من الخسارة. قضيتك كلها انتهت الآن..
قلّبني بازدراء ثم أردف:
-لهذا عليك أن تدركي أنني السيد وأنك الجارية، أنا القوي وأنت الضعيفة، أنت ما عدت عواطف بشارة بل امرأة أمتلكها بحق قانوني وشريعتي، نعم، إن لي عليك حقاً أكثر مما لك على نفسك، إنه حق المنتصر على المهزوم وواجب المهزوم تجاه المنتصر، أنا أشفق على أطفالك لماشاهدوه وعانوه الليلة، أوصيت الرجال أن يعاملوكم بلطف ورقة لكنهم قساة القلب شرسون يعتبرون الرأفة خطيئة والشفقة جبناً. إنهم أوغاد لايؤتمن جانبهم، ولعلي لو لم أحذرهم بشدة لكانت انطلقت رصاصة طائشة وأصابت مقتلاً في أحد أفراد أسرتك، إنها حوادث كثيراً ماتقع وتسجل دائماً بأنها غير مقصودة.
نهض واقترب مني:
- أعتقد أنه يلزمك الصباح بأكمله لتعيدي ترتيب بيتك... أما بعد الظهر فعليك أن ترتاحي قليلاً لتستعيدي قواك، وأراهن أنك ستزورينني في المساء وأنت بكامل رونقك ونضارتك، وتذكري أن المشبوه الذي نلاحقه مايزال طليقاً مختبئاً في مكان ما في بيتك على ما أحسب، ومن الصعب علي أن أضمن رجالي مرة ثانية إن طلبت منهم استئناف البحث عنه!..
إلى أي درك كانت ستصل بي الأمور لو لم تضعه الصدفة العشواء، ولعلها الرحمة الإلهية التي حلت عليّ متأخرة كثيراً، في طريق المجموعة الفدائية التي هاجمت نادي الضباط في العيزرية؟ لم تكن إصابته قاتلة لكن كافية لإزاحته عن طريقي ولاتنفس الصعداء أخيراً، لكن راحتي لم تدم طويلاً، فالقدر كان لي بالمرصاد ينتظر الفرصة السانحة ليرميني في تجربة جديدة، انتهت بلفظي خارج وطني.
لم يخطر في بالي يوماً أنني سأتورط في العمل الوطني إلى درجة الاعتقال والإبعاد. لاشك أنني تربيت تربية وطنية صرفة تحت جناح أبي لكن زواجي المبكر ومرض أبي ثم وفاته وولاداتي المتلاحقة لم تترك لي الفرصة لإيلاء الشأن العام سوى التعاطف والتضامن من بعيد لبعيد. ثم جاء الاحتلال وموت طارق ليتركاني وحدي في مواجهة مسؤولية أسرتي ويشغلاني عن أي شيء آخر... لكن مع ظهور رافايل بدأت أفكاري تتبع أهواء جديدة، وعاد الهم الوطني يشغل بالي، ليس كمطلب بحد ذاته فقط، بل أيضاً باعتباره نوعاً من الكفارة عن إثمي القسري والشرط الذي قد يساعدني على استعادة اعتباري واحترامي لنفسي. وبدأت أفكر جدياً بالانضمام إلى العمل الفدائي حتى أنني طرحت الفكرة على الدكتور زياد الذي لم يخف عني ارتباطه بمنظمة التحرير، فوعدني ببحثها مع المعنيين...
لهذا وافقت، بحماسة بل وبسرور، حين جاءني ذات يوم ليسألني إن كنت أقبل بإيواء فدائي ملاحق في بيتي ليوم أو يومين إلى أن يتمكنوا من تهريبه. انتابني إحساس مبهم بأن هذا العمل قد يكون بداية خلاصي، وفكرت، ساخرة شامتة، برافايل.وللمرة الأولى منذ الاحتلال لم أتوقف أمام هواجسي ولا ثنتني مخاوفي عن الموافقة، بل كنت على استعداد للتضحية بكل ما أملك لأكون عند حسن ظن الدكتور زياد، وعلى أمل أن يأتي يوم أقف فيه شامخة الرأس لأقول لنفسي ولرافايل وللناس جميعهم، إنني مازلت عواطف بشارة المرأة الفاضلة الكريمة الصلبة المناضلة الشريفة التي لا يمكن أن تتلوث. ستكون هذه التجربة المظهر الذي أخرج منه نظيفة نقية، كما كنت، وكما سأبقى دائماً.
الآفاق الجديدة التي انفتحت أمامي كانت أكثر من رحبة والمغامرة بدت لي مثيرة إلى درجة الإذهال وأنا أطوي جانحي على ذلك الغلام المضطرب الوجل فلا أجد سوى غرفة نومي أخفيه فيها. تدبرت أمر إبعاد مريم عن البيت بالادعاء أن عليّ نذراً قديماً بتنزوير عطاف عدة أيام في دير مارجريس، وقد زارتني شقيعتي حنة في نومي تطالبني بالوفاء به دون تلكؤ ورجوت مريم أن تنفذه عني.
أحضره الدكتور زياد في العاشرة مساء بعد أن نام غسان ونضال. لم أستطع تمييز ملامحه بسبب الظلام. لفتني الرهبة والدكتور زياد يغادر لأغلق الباب عليّ وأولادي وهذا الغريب. نمت مع الصبيين نوماً متقطعاً قلقاً يتجاذبني إحساس بالارتياح ومخاوفي من مغبة انكشاف الأمر وما سيجره ذلك من ويل ووبال عليّ. لم أعرف كيف طلع الصباح لأسارع إلى الخروج مع الصبيين بعد أن أعددت له بعض الأطعمة السريعة. أمضيت النهار في زيارة بعض الأصحاب ثم أخذت الصبيين بعد انصرافهما من المدرسة إلى أحد المنتزهات فتغدينا وأمضينا بقية اليوم في الدير مع عطاف ومريم. في التاسعة رجعنا إلى البيت وكان كل شيء على حاله. بعد أن نام غسان ونضال تشجعت وقررت أن أتعرف إلى هذا الذي جاءني من حيث لا أدري ليضع مصيري وأسرتي على كف عفريت. كان لم يبلغ العشرين بعد.. أقرب إلى الطفولة منه إلى الرجولة، ضعيف البنية ناحل الجسد لايشبه من قريب أو بعيد الصورة التقليدية المرسومة في ذهني للفدائي الصلب الضخم قاسي الملامح الجسور الذي لا يهاب الموت ولا يتورع عن القتل.
لست أدري ما الذي جذبني إليه أكثر. إحساسي بالعطف عليه وهو الملاحق الذي قد يواجه الموت في أية لحظة، رغم كل ما يشكله وجوده من خطر عليّ، أم البراءة الخاشعة في عينيه الحذرتين تنضحان بالحيرة والتساؤل وتكشفان عن حياء فطري تمثل في إبداء احترام فائق حيالي بحيث كان يتحرج عن رفع بصره نحوي فجلس مطرقاً مرتبكاً لائذاً بابتسامة شاحبة لا معنى لها، أم قد يكون الأمر مرتبطاً بإحساسي بنقائه العذري الذي لم تشبه شائبة بعد، والذي يشكل نقيض ما أنا فيه؟.
لم يكن إعجابي به إعجاب المرأة بالرجل، ولا رغبتي رغبة الأنثى بالذكر، بل كانا أقرب إلى مشاعر الأمومة حيال طفل بائس مثير للشفقة بثيابه البسيطة الوسخة ووجهه الأصفر الدال على سوء التغذية. لم أفكر بقمع الرغبة التي راودتني في التربيت على شعره الأسود المكزبر القصير ولا حاولت كبت النشوة التي دبت في أوصالي وأنا أتخيل أنني أحتضنه بلطف مطلقة العنان لعواطفي المقهورة. خطر لي أنه قد يغسل بطهارته الطفولية الأوساخ العالقة في جسدي وروحي من علاقتي الأثيمة مع رافايل.
لكني لم أتجرأ على إبداء إية إشارة أو ملاحظة تفضحان مكنونات صدري، فهو لم يزد عن كونه طفلاً غرّاً، وخشيت أن ألوّثه بخطيئتي بدل أن ينظّفني بطهارته. أمضيت ليلتي وأنا اقاوم بضراوة خواطري ورغباتي، وفكرت بتمضية اليوم معه بعد ذهاب الصبيين إلى المدرسة لكني تهيبت الأمر، خفت أن تكون تجربة مدمرة لا تقل سوءاً عن تجربتي مع رافايل، أمضيت نهاري كما أمضيت الأمس، لكن بمزيد من التوتر والاضطراب اتصلت. في العشية بالدكتور زياد آملة أن يبلغني أنه تم ترتيب عملية إخراجه قبيل انتصاف الليل كما هومقرر لكن قوله إن نتيجة التحليل تحتاج إلى يوم آخر ألقاني في دوامة من القلق لاحظها غسان فسألني إن كنت أشكو من شيء.
كانت ليلة ليلاء بكل مافي الكلمة من معنى، ورغم الأبواب الثلاثة المغلقة بيني وبينه فقد عجزت عن تهدئة أفكاري وضبط أنفاسي وأنا أتخيل أنني أسمع وجيب قلبه وأحس بحرارة أنفاسه. تقلبت على سرير مريم الحديدي متألمة متصدّعة أتخبط في هواجسي ووساوسي ورغباتي، صلّيت وتضرعت وعانقت نضال كأنما أستمد منه الصلابة والقوة. في الصباح، وقبل أن أوقظ الصبيين، فوجئت به يفتح باب الغرفة بحذر ليسالني، وقد هببت فزعة خوف انتباه الصبيين، إن كان ثمة خبر عن الدكتور زياد. حين خرجت من الغرفة تجاسر على التحديق في عيني قبل أن يتمتم بارتباك إنه أمل أن أمر عليه لتمضية بعض الوقت معه فقد أرهقه الملل والوحدة والعزلة عن العالم وأخباره. أجبته بجفاء أنني نمت في ساعة مبكرة تحت وطأة ماأعانيه من إجهاد. بدا عليه الاحراج وانسحب وهو يغمغم معتذراً مما أنقذني من مغبة فقد السيطرة على نفسي وإظهار ضعفي أمامه. لقد صممت على ألا أسقط، على ألا ألوثه، على قمع حججي حتى لوكانت صحيحة ومنطقية.
مررت في الظهر على الدكتورزياد لأبلغه أن أعصابي تلفت وماعاد باستطاعتي التحمل أكثر مماتحملت. تطلّع إليّ وهز رأسه بتفهم قبل أن يقول بنبرة اعتذار:
- إن الوضع يزداد صعوبة، اعتقلوا ليلة أمس اثنين من رفاقنا، وأية حركة من قبلنا الآن قد تعرضنا جميعاً للانكشاف. أكملي معروفك حتى صباح الغد فقط، فإن تمكنا من تهريبه كان خيراً وإلا سنخفيه لدى عائلة أخرى. لقد أتعبتك فوق تعبك ياعواطف، وماكان عليّ تحميلك هذه المسؤولية الجسيمة.
هممت بأن أقول له إنني لم أعد قادرة على التحمل أكثر، فأنا لم أذق طعم النوم منذ حضر لعندي، وإنني... لكني أطبقت فمي وغادرته شاردة الأفكار..أخذت غسان ونضال إلى الدير وأمضينا بعد الظهر هناك قبل أن أقرر على حين فجأة أن يبقيا مع أختهما ومريم. خطر لي أن وجودهما في البيت في هذه الظروف قد يعرضهما للخطر في حال وقوع أي طارئ. وافق الصبيان بحبور إلا مريم التي حدجتني بريبة وحيرة فزعمت أن ذلك وفاء لنذر قديم أيضا.، حين سألتني كيف سأمضي الليلة وحدي في البيت قلت إن ذلك ليس مشكلة.
غادرتهم في السابعة ورحت أمشي على غير هدى أحاول عبثاً التخلص من هواجسي. حين أوقفتني إحدى الدوريات قرب الحديقة شعرت بالخطر، لكنني لم أجرؤ على العودة إلى البيت في مثل هذا الوقت المبكر، فصعدت لعند لبنى.وجدت بعض الأصدقاء المشتركين الذين رحبوا بي بحرارة. كانوا يتناقشون في موضوع الساعة وهو تكاثر عمليات خطف الطائرات من قبل الفدائيين. وعلى غير عادتي اكتفيت بالاستماع دون إبداء أي رأي. كان الغلام الجاثم في غرفتي، يملأ عليّ أفكاري، وبدأت أتساءل، نادمة ، عما دفعني لإبعاد الصبيين والمجازفة بقضاء الليلة مع هذا الذي يظل، رغم كل شيء، غريباً عني يحمل لي ولأسرتي المخاطر ولا أعرف حتى اسمه الحقيقي.. أبو ثائر! ... حتى اللقب فضفاض عليه مثير للهزء، ومع هذا هو هناك، في غرفتي، في حرمي، ماذا يفعل الآن؟ بماذا يفكر وهو يتمدد على سريري ويطمر وجهه في مخدتي ويفتح خزانتي ليرى ملابسي ويتشمم عطوري ويفتش في ثبابي الداخلية محاولاً ،لا ريب ،الغوص إلى عمق أسراري ! رباه ماذا فعلت؟.
حين تسللت إلى المنزل وساعة الحائط تعلن العاشرة كنت في حالة عصبية يرثى لها. بدا لي البيت بغياب مريم والأولاد، و باضطراب أفكاري، وبحضوره الطاغي المطبق على خناقي والمترافق حتى مع الصمت، مع الهدوء، مع ضوء نواصة المدخل الشاحب الكئيب، موحشاً مقبضاً لأنفاسي..، ربضت في غرفة الأولاد نصف ساعة أصغي بقلق محاولة التقاط أية حركة من قبله، لكنني لم أسمع سوى وجيب قلبي وزفير أنفاسي الحارة المتقطعة. أشعلت الراديو ورحت إلى المطبخ. فلاحظت أنه تعشى. عدت إلى الغرفة وحاولت التلهي ببعض القراءات، لكنني لم أستطع التركيز. هممت بخلع ملابسي لارتداء منامتي لكني غيرت فكري وخرجت إلى الشرفة. كانت ثمة نسمة باردة جعلتني أرتجف فيما هدوء موحش،زاد من انقباضي، يخيم على الشارع المعتم الخالي إلا من الدورية المعهودة عند الناصية.
عدت إلى المطبخ وأعددت إبريق شاي ثم دخلت إلى غرفتي دون استئذان،.سقط ضوء الحمام على شبحه المتكوم قرب النافذة المغلقة دون حراك فلم أعرف أهو غارق في أفكاره أم في نوم عميق، لكنه تحرك مجفلاً على حين فجأة، ونهض مسدّداً نحوي عينيه الواسعتين المتوهجتين كعيني قطة. سألته إن كان يرغب في كاس شاي فأومأ بالايجاب تناول مني الكأس.
بيدين مرتجفتين ثم قطع حبل الصمت ليسألني بحذر إن نام الأولاد فهو لم يسمع ضجيجهم المعهود. أجبت بثبات أنهم ناموا فور وصولنا ثم أبلغته أن الدكتور زياد سيحضر في الصباح لاصطحابه.
سهرنا حتى الفجر. تركت له دفة الحديث معظم الوقت ملتزمة بسلوك جاف متكلف رفع بيننا حاجزاً لم يفكر، أو لم يجرؤ على تجاوزه، لكن ذلك لم يمنعه من الانطلاق على سجيته معي، صريحاً صادقاً متحمساً، وكأنه وجد بعد طول انتظار من يستطيع الركون والاطمئان إليه، ولو لفترة قصيرة. تحدث عن مسقط رأسه أريحا ذات الفرادة المثيرة فأثار أشجاني، إذ استرجعت معها حادثة طارق، عن والده شيخ العشيرة العملاق ذي القوة البدنية الخارقة الذي كان يصارع ثلاثة رجال أشداء ويتغلب عليهم تغلب الثعلب على الديوك. حين أبديت استغرابي لضعف بنيته إزاء أبيه قال إنه ورثها عن أمه الضئيلة الأشبه بالنملة أمام والده الفيل المزواج الذي بنى على ثماني نساء وخلف قبيلة من العجيان، ثم تخلى عن كل شيء قبيل حرب حزيران في سبيل أمريكية شقراء أقنعته أن بلادها موطن المتع والثراوات، فضب أغراضه ولحق بها مرتدياً بنطلوناً أبيض وجاكتة حمراء ومعتمراً قبعة كوبوي!.
بطّن حديثه بالطرفة الذكية. والتلمحيات الجنسية اللبقة التي أرغمتني على التخلي، ولو مؤقتاً ، عن جمودي لأغرق في ضحكات صافية عميقة. كان طفلاً رائعاً بحق بحيث تيقنت أنه لم ترادوه ،حتى في لا وعيه، أية مآرب نحوي. لم أعرف إن كان ذلك راجعاً إلى حياء فطري يمكنه من كبت رغباته حتى الخنق، أم لأنني لم أعن له سوى سيدة نبيلة فاضلة تفعمه مشاعر الامتنان لجميلها نحوه فلا يفكر بالإساءة إلي حتى بالنظرة. حتى الإشارت الجنسية التي ضمنها كلامه لم تعن له، كما بدا لي،أكثر مما تعنيه لطفل يحكي نكتة بذيئة سمعها من أحد الكبار فراح يرددها كالببغاء.
فكرت أنه لو قام بالخطوة الأولى، لو بادر لما كان بإمكاني مقاومته أو صده. قد أبدي مقاومة ما لكنها لن تصمد طويلاً أمام عنفوان وتصميم شاب مثله. بل ليس من حقي أن أقاوم فهو ابن بلدي وجلدتي الذي يقاتل من أجل وطني وحريتي معرضاً نفسه للموت في أية لحظة وهو مايزال في ريعان الشباب.إن له حقاً على جسدي أكثر مما لذلك الوغد رافايل!...
وتمطت الرغبة تعوي في أحشائي. وللمرة الأولى منذ وفاة طارق يمتلكني حنين جارف إلى يدين نقيتين تعتصرانني بعنف وإلى فم نظيف تترطب شفتاي المتشققتان بريقه الطيب.اشتهيت صدراً حنوناً أريح رأسي المتعب عليه مطلقة لدموعي العنان أغسل بها آثار رافايل وفضلاته. أردت مناجاة لطيفة تهدهدني على أجنحة الحب البريء وتحملني إلى تلك العوالم الفردوسية التي يخيّل إلي أن دهوراً مرت على آخر مرة ارتدتها فيها برفقة طارق.
لكن شيئاً من ذلك لن يحدث. أغادره قبيل الثالثة فجراً أجر أذيال الخيبة ويعجنني القهر، أعجز عن طرق مجاهل الراحة والنوم، ويعجز بدوره. تلتقط أذناي المشنّفتان حركته الوجلّة المضطربة، أتخيله يذرع الغرفة بجنون أخرس كحيوان هائج يبحث عن شق ينفذ منه إلى الحرية. لن أعرف إن كان اضطرابه ناتجاً عن تفكيره بي أو عن اقتراب موعد إطلاق سراحه. تتسمر عيناي على باب غرفة نومي الذي تقصدت تركه موارباً ،متوقعة مؤملة، أن ينشق عنه علىحين غرة. ماعليه سوى أن يلوح بيده وسألبيه. أحقاً صدق أن الولدين نائمان؟ لا يمكن أن تمر تلك الكذبة على فطنة شخص مثله.. لا اشك في أنه عرف أنني عدت بمفردي وأننا وحدنا في ذلك البيت الساكن الموحش، فأين هو هذا الشيطان اللعين الذي يقولون أنه يطل برأسه ما اجتمع رجل وامرأة؟ أحقاً هو غر ساذج إلى هذا الحد؟ أين هي الصفات المفترض أن يمتلكها من يطرق درب الثورة؟ الجسارة والتهور والمغامرة والذكاء؟ أين وارى مشاعره الإنسانية ورغباته الطبيعية؟ .
تنشدّ أعصابي حتى الانقطاع ما إن ينشق باب غرفتي ويخرج مرتدياً جلباب طارق الأبيض. أغمض عيني فيما قلبي يدق بدوي متسارع حتى أخاله يكاد ينفجر في صدري. أنتظر بلهفة أن ينتصب أمامي كإحدى الأماني المستحيلة. لكني سرعان ما أصحو على هدير جريان الماء في سيفون الحمام لأسقط مهشمة على أرض الواقع الصخرية. أطلق صرخة حارقة تضيع في صخب تدفق الماء. أعانق المخدة الباردة. أستعيض بها عن جسده الفتي الحار فيما خيالي المقهور يهوي في دركات اليأس.
لم أصح إلا على طرقات الباب فهببت مجفلة مذعورة... قبل أن ينصرف، وقد سبقه الدكتور زياد ليستكشف له الطريق ،أوقفته وطبعت قبلة سريعة على خده، ثم دفعته خارجاً وأغلقت الباب بعصبية شاعرة أنني أوشك على الانهيار.
صعقت حين عرج عليّ الدكتور زياد في الصباح التالي ليخبرني بصوت مختنق أن الشاب قتل أثناء محاولته عبور النهر. فرّت الدماء من عروقي، وفقدت السيطرة على أعصابي فانخرطت في بكاء مرير. شعرت أنني مسؤولة عن موته فلو لم أتحامق وأشتكي إلى الدكتور زياد لربماكان مايزال جاثماً في غرفة نومي حياً يرزق. بكيته كما بكيت أبي وطارق... بكيت إخفاقي، بكيت شبابه وظرفه وبراءته وأحلامه الكبيرة التي ظلت معلقة في عالم الغيب، وسقطت فريسة حمّى قوية رمتني في الفراش أسبوعاً مضعضعة القوى سوداوية المزاج. أعاني من انهيار عصبي حاد.
منذئذ تملكني إحساس عميق بأنني لم أعد أسيطر على مصيري، وأن هناك قدراً ما يستوقني في طريق لا مفر لي منه نحو مصير لا مهرب لي منه.ووجدت في الرضوخ لهذه الفكرة راحة، وإن تكن مهينة، افتقدتها منذ وفاة والدي.أدركت أن عليّ العيش بشروط الظروف المستجدة، شروط الهزيمة كما قال رافايل، وما أنا في النتيجة إلا امرأة مهيضة الجناح عليها أن تحمي نفسها وأسرتها.
أهذا ماجعل الأمور أسهل مما كنت أتوقع حيال المواقف اللاحقة التي كان عليّ مواجهتها؟ إبراهيم وأكرم وسمير! صارت لدي أعذار جاهزة دوما لاستصدار فرمان المغفرة الإلهية، والأخلاقية، الذي حصل أن جسدي فقد حرمته التقليدية باعتباره رمزاً للشرف والفضيلة والكرامة، وماعادت تحوطه تلك الهالة من الاحترام التي ترقى إلى مرتبة القداسة، هان عليه الهوان بعد العار الذي ألحقه به رافايل، وماهو في النتيجة إلا تراب. بالطبع لم يدفعني ذلك إلى ابتذاله لدرجة التعهير ولكنه خفّف عني وطأة السقطات اللاحقة التي وجدت نفسي منساقة إلى مستنقعاتها...
حين اغتصبني إبراهيم لم أترك لعواطفي العنان في الانجرار وراء أهواء الغضب والانتقام، هذا إن افترضت أن امرأة مثلي في وضعي آنذاك مطرودة من وطنها وحيدة معدمة قادرة على الانتقام من رجل في مركزه وسلطته. كل ماكان بإمكاني القيام به هو ترك بيته وقطع صلتي به والاعتماد على نفسي في تدبير أموري وإعالة أسرتي. لم يكن ذلك الخيار صعباً أو مستحيلاً، فالآلاف مثلي مشردون يعانون شظف العيش وقساوة الحياة لكني ببساطة جبنت وضعفتز كان الوضع اختلف لو كنت أتقن حرفة ما، أو لو أن البلاد ماكانت خارجة لتوها من معارك أيلول تلعق جراحها المتجرثمة بالبغض والحقد والانتقام والفوضى مما لم يترك لي سوى خيارات شديدة المرارة أهونها أن أرضى بالعيش في غرفة حقيرة في أحد المخيمات أو الأحياء الشعبية المعجونة بالبؤس والفقر والصراع الضاري من أجل البقاء على قيد الحياة، لهذا استصعبت التخلي عن حياة الدعة والأمان والشبع وتحميل أطفالي وزر مشكلتي مع إبراهيم.
كانت خطيئتي المميتة أنني أسلمت زمام أموري إليه واعتمدت عليه اعتماداً كلياً منذ حططت رحالي في عمان، فصرت عاجزة عن عمل أي شيء دون مساعدته ومشورته. بل بلغ من غفلتي وغبائي أنني رضخت له حتى في تسجيل الصبيين في مدارس خاصة تشكل أقساطها السنوية ذاتها ثروة صغيرة. تساذجت إلى حد الاعتقاد فعلاً أنه يعاملني بنوازع إنسانية تفرضها القرابة والصداقة والشهامة وعشرة الطفولة. كيف سمحت لنفسي أن أنسى أو أتناسى، إنه رجل رفضت حبه بازدراء وصددته بقسوة واستهتار؟.
كيف نسيت أن عواطف بشارة الصبية المفعمة بالكبرياء المغرورة بجمالها المتباهية بوجاهة أسرتها المعتصمة بقدسها، هي غير عواطف بشارة الأرملة المبعدة عن وطنها الفقيرة الملوثة بعار رافايل الضائعة في عمان.؟ كيف غاب عن ذهني أن ماكان يحق لي في حياة أبي وزوجي وتحت سماء مدينتي ماعاد يحق لي الآن؟
رأيت ، بعد أن أمعنت التفكير بهدوء ورويّة متجاوزة عملية الاغتصاب القذرة ومتغلبة على انفعالاتي وأعصابي الهائجة، أن البقاء معه، إلى أن تتاح لي الفرصة السانحة للتخلص من حاجتي إليه، هي الوسيلة للإنتقام منه ، سأبقى لأقول له، بصوتي وعيني وملامحي وجسدي، إنني أرفضه ولن أكون له أبداً،ز سأبقى لأتحداه في عقر داره، لأرد له الصاع صاعين. وكنت على ثقة من أنه أضعف وأجبن من أن يواجهني ويتجاسر على مطالبتي بشيء سأجعل جريمته تنقلب عليه، وسأريه كيف يكون العذاب والمعاناة!.
وصح ما توقعت... تغير الرجل بعد أن أدرك هول مااقترف، صار همه استغفاري والتكفير عن جريمته. ابتعد عني فما عدت أراه إلا لماماً، ثم غاب مع وقوع حرب تشرين والتحاق وحدته بالجبهة السورية. لكن مخصصاتي لم تتأخر يوماً واحداً عن موعدها في الأول من كل شهر، مئة دينار في مغلف يسلّمني إياه سائقه دون أن يرفقها بأية قصاصة. لم يمنعني ذلك من مواصلة البحث عن عمل يتناسب وإمكاناتي ويتلاءم وشروطي، فأنا لم أكن مستعجلة....
يوم ظهر أكرم النحاس في حياتي حسبته، وهو يلوّح أمامي بسنّارته الذهبية، فخاً جديداً من أفخاخ قدري اللئيم ، لكنه كان فخاً مفروشاً بإغراءات لا يمكنني مقاومة سحرها. وجدت فيه فرصتي للخلاص من إبراهيم، ومن كل مخاوفي مرة وإلى الأبد. بل إنني بادرت بحماسة طائشة، إلىحساب الدين الذي ترتب لإبراهيم عليّ خلال السنتين اللتين قضيتهما في ضيافته. وضعت ثلاثة آلاف دينار، وهي أكثر ممايستحق ، في مغلف ومعها رسالة قصيرة أفرغت فيها كل حقدي وطلبت من مريم أن تسلمه إياها ما إن أغادر عمان، لكنني عدت وغيّرت رأيي حين فكرت أنني سددت ديني له بجسدي، وحولت المبلغ إلى الجمعية الخيرية الأورثوذكسية في القدس.
الرجال الآخرون في حياتي، رغم قلتهم، امّحوا أوكادوا من ذاكرتي. تلاشوا في زواريب النسيان إذ انتهوا مع انتهاء الصفقات التي فرضتهم عليّ. الذين عجزت عن شرائهم بالمال اشتريتهم بعلاقة عابرة مسايرة في ذلك شروط السوق. لكنني حرصت على انتقائهم بدقة جامعة بين المصلحة والمتعة، فبعد كل شيء ما أنا إلا امرأة في قمة نضجها الأنثوي، وماكان بإمكاني أن أتبتّل إلى الأبد ناسية حق جسدي عليّ. لقد نسيته بالفعل ثلاث سنوات بعد وفاة أكرم حين غرقت في دوامة العمل. وهموم الشركة ومسؤوليات دوري الجديد في الحياة، تصرّفت وكأنني صرت في عمر ومركز لا يسمحان لي بإيلاء رغباتي الطبيعية سوى اهتمام سطحي لا يتجاوز نظرة إعجاب لرجل وسيم أو شهوة عابرة أسارع إلى كبتها بصرامة وتأنيب. لكن الأمر اختلف مع العقيد سمير، رئيس دائرة الإمداد في وزارة الدفاع. لم أستطع المرور به مرور الكرام لسببين مفحمين، الأول رجولته الطاغية التي حوّلتني إلى مجرد أنثى متفجرة الغرائز، والثاني الصفقة المسيلة للعاب التي لا يمكنني الحصول عليها إلا بواسطته. لم أحتج إلى وقت طويل من التفكير لأقرر أن علي ضرب العصفورين بحجر واحد. دامت علاقتي معه شهراً نلت فيه مارغبته من متعة وفائدة، لكن سارعت إلى قطعها ما إن لاحظت أنها بدأت تأخذ مساراً ليس في الحسبان. اعتقدتهُ يمزح حين عرض عليّ الزواج. لكن القضية تحولت إلى جد ثم محنة وهو يلاحقني بحبه كمراهق أفقدته عواطفه توازنه واتزانه . كان مستعداً لطلاق امرأته والهجرة معي إلى أي بلد أشاء إن كان ذلك يذلل عقدة اختلاف دينينا. وتعلمت من تلك التجربة ضرورة التزام الحذر في أمثال تلك العلاقات بحيث أقصرها على متطلبات العمل وحده دون السماح، لنفسي أو للطرف الآخر، بأية تجاوزات عاطفية قد تقودني إلى مالا تحمد عقباه.
لكن الأمر مع طارق مختلف تماما.، لقد سحب البساط من تحت قدمي، كان عليّ أن أتأكد منه بواسطة جسده، وسأتجنى على الحقيقة إن ادعيت أنه هو الذي راودني عن نفسي. نبيذ سبيرو وموسيقاه الحالمة جرداني من كل محاذيري، كانت حركة يدي مقصودة وأنا أضغط بلطف على يده الخشنة طالبة منه أن يثق بي. لم نتبادل سوى كلمات قليلة مضطربة قبل أن يحتويني بين ذراعيه في تلك الغرفة الحقيرة ذات الرائحة العفنة والسرير الحديدي الذي يئن مع كل حركة.
تعامل معي برفق وحذر وكأنني تحفة ثمينة يخشى عليها أن تنخمش. استسلمت له بكليتي منصرفة إلى مراقبة حركاته وأسلوبه. حين خلع بنطلونه وأطفأ النور مكتفياً بضوء اللمبادير الأحمر الخافت طلبت منه إبقاء المصباح مضاءً. تطلع إليّ باستغراب لكنه نفذ طلبي. كان جلده قد بدأ يترهل فيما تهدل كرش متوسط أسفل بطنه. أطلقت زفرة ارتياح وأنا أرى أمامي جسداً عارياً أليف الشكل، واجتاحني على حين بغتة شعور عارم بالخجل ضخ الدماء الحارة إلى وجهي فأغمضت عيني وتكوّمت على نفسي تاركة لرعشات لذيذة أن تتموج في أوصالي... مع قبلاته ورائحته وهمهماته وزفراته لم يعد هناك سوى طارق....
عدد الرجال في حياتي لا يتجاوز أصابع اليدين، وهذا لايسمح لي بإطلاق حكم قاطع حول آلية العملية الجنسية لديهم. لكني على ثقة، من تجربتي الشخصية وتحليلي، بأن لكل رجل أسلوبه الذاتي- المتفرد- في ممارسة الجنس. جميعهم متشابهون في الخطوط العامة لكنهم يختلفون عن بعضهم في التفاصيل اختلاف أمزجتهم وأهوائهم وميولهم وطباعهم وأذواقهم وعواطفهم وقدراتهم.
، فعشرون سنة غيّبت معظم ذكرياتي. لكن الأمور راحت تنجلي شيئاً فشيئاً ماإن توهجت عيناه بتلك الومضة الساطعة وهو يدغدغ أنفي بشفتيه الحارتين. وخيل إليّ وأنا أصحو من نشوتي، إنني عدت عشرين سنة إلى وراء، بل إن كل مامرّ عليّ ماكان غير أضغاث كابوس سقيم، فأنا ما أزال السيدة عواطف بشارة مناف، وطارق مايزال حياً، فلا أنا فقدته، ولا الحرب وقعت ولا كان هناك احتلال ورافايل وإبعاد وعمان وإبراهيم...
لكن اللمبة الكتيمة بضوئها المرتجف الأصفر والجدران المتآكلة المتشققة والرائحة العفنة سرعان ما أعادتني إلى واقعي القاسي المضطرب، فهببت مذعورة كاتمة صرخة فزع. كان خارجاً من الحمام ملتفاً بمنشفة حول وسطه وقد رفرفت ابتسامة لطيفة على فمه. حدّق إلي بإمعان ثم غمغم:
- علينا المغادرة فالساعة تقترب من الثالثة، على كل سأتصل بك غداً...
غطيت جسدي بالشرشف الوسخ ونهضت قائلة بحزم:
- ليس بهذه السرعة يا عزيزي، أنا التي سأتصل بك حين تسمح لي الظروف بذلك.
وقررت ألا أعيد التجربة معه ثانية إلا بعد أن يستعيد شخصيته الحقيقية ويرجع، ونرجع، السيد والسيدة مناف.

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 07-04-09, 02:50 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

- 9 -

رد إبراهيم الباب وراءه بهدوء واقترب من عواطف صامتاً وقد خلا وجهه من التعبير. بدت مرهقة إلى أقصى حد وهي تنفث دخان السيكارة بعصبية فيما تبعثر شعرها دون ترتيب وتعمقت تجاعيد وجهها. اتكأت إلى حافة المكتب بكتفها وحدقت إليه مقطبة:
- أين تواريت كل هذا الوقت؟ سمعت أنك أفرطت في الشراب!.
شد جذعه مكشراً..
- جاستوستك مريم من جديد؟.
ودنا منها وهو يتمايل مردفاً بسخرية:
- شعرت أنني شخص غير مرغوب فيه فاختفيت عن الأنظار أدفن أحزاني في الوسكي لكن دون إفراط... أنا رهن إشارتك يا سيدتي مادام ليس هناك غيري لنجدتك في الملمات!.
تثاءبت ثم سحقت السيجارة في المنفضة قبل أن تقول بخفوت وهي مطرقة:
- يتهيأ لي أن هذه الليلة لن تنتهي أبداً!.
- ليالي الحروب طويلة ومضنية دائماً يا عواطف..
حدقت إليه مقطبة وهمت بأن تتكلم لكن دهمتها نوبة سعال حاد لم تتخلص منها إلا بعد جهد. حين هدأت رفعت نحوه وجهاً محتقناً وعينين بلون الدم مخضبتين بالدمع. سحب محرمة ورقية من العلبة وناولها إياها وهو يغمغم بإشفاق:
- لا أنصحك بالنظر إلى المرآة يا عواطف، أنت مرهقة والأفضل أن تأخذي حماماً ساخناً وتنامي / 24/ ساعة متواصلة.
مسحت وحهها ورتبت شعرها بيدها وهي تقول بلطف:
- ماعدنا شباباً يا إبراهيم، بعد أشهر سأصبح جدة..
- ممكن لكنك بالنسبة لي لن تكبري أبداً، أنت متعبة فقط..
حاولت أن تبتسم لكنها لم تنجح سوى في زم شفتيها... نفخت باستسلام:
- لم أتصور أنها ستكون حرباً بهذه الصعوبة... أتعلم بماذا كنت أفكر قبل حضورك؟.
تشاغلت بفرك بقايا السيجارة ثم استدركت:
- كنت أفكر أن حياة الإنسان ماهي إلا حرب دائمة ضد قدر قوي شرس صعب هو المنتصر دائماً إلا في حالات نادرة، هكذا كانت حياتي. ولقد خسرت كل معاركي مع قدري حتى الآن ... موت أمي وأنا طفلة... هروبنا من القطمون في حرب الـ /48/.عصياني أبي بسبب طارق، موت أبي بالسرطان قبل أن يبلغ الخمسين من عمره... الاحتلال وضياع طارق .. الفدائي...إبعادي من القدس ... موت أكرم...
كان صوتها مشبعاً بالمرارة وهي تستطرد بعد لحظة صمت..
- حتى المعركة الوحيدة التي حسبت أنني سجلت فيها نقطة لصالحي، وهي زواجي بطارق، انتهت إلى الهزيمة الشنعاء!.
- أو تظنين أنك ستربحين معركتك هذه ؟.
سألها ببرود ، تفرست فيه بإمعان ثم هزت رأسها بالإيجاب:
- أريد ذلك. أظن أنها معركتي الأخيرة وأنا مصممة على خوضها حتى النهاية. أحلم بأن أرفع رأسي في وجه قدري لأؤكد له أنني لست ألعوبة صغيرة في يده، وأنه لن يكون المنتصر في كل مرة...
بدت الحيرة على إبراهيم ... تنحنح ثم قال برفق:
- لعلك على حق يا عواطف... ولكن...
جلس وشدها من يدها للجلوس مقابله:
- لكنها ليست معركتك وحدك... لقد جعلتها معركة الجميع، والأولاد ليسوا مقتنعين بها... إنهم، بل إننا جميعاً نرى ألا مصلحة لك أولنا في هذه المعركة، لا تقاطعيني، لو قلت إنك أحببت هذا الرجل "عامر" لأنه يشبه طارق أو لأي سبب آخر، لعذرتك. لكن أن تتخيلي أنه طارق وتقعي في حبه لهذا السبب فهذا مالا أستطيع فهمه... إن ذرة شك واحدة كفيلة بتحويل حياتك وحياة أبنائك إلى جحيم، فهل أنت قادرة على الجزم أنه طارق؟ اجزمي لي الآن أنك مقتنعة قناعة مطلقة أنه طارق مناف وسأقف إلى جانبك بكل قواي حتى لو كنت متأكداً أنه ليس طارق!.
اختتم كلامه بنبرة مليئة بالتحدي دفعتها للتحديق إليه بثبات وقد بدا عليها الشرود. نهضت فجأة واتجهت إلى النافذة فأزاحت الستار وأطلقت نظراتها في الفراغ البعيد الذي بدأ سواده يبهت، حين التفتت كان وجهها قد استعاد هدوءه.
- أنت تتلاعب بالألفاظ ولن تقف إلى جانبي بأي حال من الأحوال. ليس بإمكاني الاستماع إليك بتجرد يا إبراهيم. تريدني أن أتناسى كل مابيننا وأصدق أنك لا تنطق عن هوى؟ هراء... أفهم دوافعك وقد أتفهم دوافع أولادي أيضاً وكل ما أريده منكم أن تعاملوني بالمثل. أنا امرأة في كامل وعيي وأهليتي، ولا أعتقد أن أي واحد منكم أحرص على مصلحتي مني، فلماذا إصراركم على التشكيك والرفض. أيخشى غسان على سمعتي أم على الشركة أم على مصلحة العائلة؟ يريد الشركة؟ ليأخذها ويريحني فقد تعبت من همومها ومشاكلها ولا أطمح إلا في قضاء بقية عمري بهدوء مع من هو لي وهذا حقي...
اغتصب ابتسامة صفراء ، ثم لوح بيديه وهو يقول بضيق:
- يبدو أنك صرت عالمة نفس يا عواطف، لكن تشخيصك غير صائب! أنا لا أنطق عن هوى كما تظنين وإنما أريد حمايتك من المخاطر التي تهددك...
- أوه... كفاك نفاقاً يا إبراهيم... أنت لا تخاف عليّ بل تخاف أن تخسرني من جديد، كن صادقاً وصريحاً، لايروق لك أن يطلع لك طارق ثانية ليأخذني منك مرة أخرى، قد ترضى ألا أكون لك، لكنك لن تسمح بأن أكون لغيرك، أأنا مخطئة؟.
سألته باستفزاز أثار حفيظته، امتقع وجهه وضرب مسند المقعد بعنف:
- لا ... مازال حبك لعنة مطبقة عليّ، وسيظل إلى أن يموت أحدنا..
نهض واقترب منها حتى لاصقها ونفخ بحنق وقد فاحت رائحة فمه المتخمّرة بالكحول:
- إن لؤمك وقسوتك لا يطاقان.
أشاحت بوجهها لكنه أرغمها على مواجهته:
- لكن لا تربطي بين هذا وذاك، لا علاقة لحبي بموقفي من ذلك الرجل الذي يشبه المرحوم... انتبهي... المرحوم طارق، عودي إلى صوابك ياعواطف، عهدي بك متزنة عاقلة. طارق مات، مات، ومات كل مايتعلق به، إنهاعشرون سنة، انظري كم تغير العالم... لم يبق شيء على حاله ، طارق مناف وهم...
نفخ بحنق والتفت يحدق إلى صورتيهما في زجاج النافذة:
- نعم هو وهم وأنا حقيقة، هوميت وأنا حي.. كفي عن الهرب مني ومن حقيقتي قبل أن ينهار كل شيء من جديد فتضيعي وتضّيعينني معك.. لقد أخطأت خطأ فادحاً حين اخترته في المرة الأولى، فلا تكرري خطأك ثانية، ورغم كل ماحدث بيننالم يستطع أحدنا أن يتخلى عن الآخر. إنني أحبك ومازلت وأنت لا تستطيعين العيش بدوني.
- يخيل إليّ أن حبك المزعوم ماهو إلا كراهية!.
قالت باستخفاف وهي تبتعد عنه، استدار يتابعها ثم ردد بخفوت...
-وقد يكون كرهك المزعوم لي حباً... ليس هذا مستبعداً... نعم أحببتك حتى الكره وكرهتني حتى الحب! معادلة ساخرة مجنونة... إلا يزعمون أن الفارق بين الحب والكره شعره؟.
همت أن تتكلم لكنه سارع يردف:
- حقاًلا أريد فتح الدفاتر العتيقة... لكنك تجبرينني ياعواطف على فتحها... حين تزوجت طارق قلت لنفسي إن كل شيء بيننا انتهى، لكني فوجئت بأن علاقتنا بعد وفاة أبيك وبحجة أواصر القربى عادت تترمم، فوضعت عواطفي في ثلاجة تاركاً للحياه أن تواصل مجراها بانتظارما لا أعلم، ثم قامت الحرب وباعد بيننا الاحتلال فاعتقدت أنها النهاية ولا لقاء بيننا ثانية أبداً . لكن القدر عاد ليتدخل في حياتي ويعيدني إلى نقطة الصفر.. حين سمعت بنبأ وفاة طارق حسبت أنه تدخل هذه المرة لصالحي، وهو بالتأكيد سيرتب الأمور لنلتقي ثانية. سيطرت عليّ تلك الفكرة بقوة تغذيها معرفتي العميقة بك، قد لا تصدقين إن قلت إنني توقعت إبعادك. كنت واثقاً أنك لن تسكتين وتستسلمين ولابد أن تنزلقي في حمّى الهياج الوطني ضد الاحتلال، وهذا ما سيؤدي بك إما إلى الاعتقال أو الإبعاد، خشيت فقط أن تشتطي فتلقي مصرعك. وكان عليّ الانتظار خمس سنوات لتأتي؟.أتتخيلين معنى أن أوقف حياتي خمس سنوات في انتظارك؟.
فرقع بأصابعه فجأة وأطلق ضحكة جوفاء قبل أن يردف باستهزاء :
- أنسيت أنني كنت يومذاك ضابطاً قد الدنيا والحاكم المطلق لمنطمة الأحراش حيث كلمة مني تحيي وأخرى تميت؟ نعم، للأسف نسيت ذلك ووضعت نفسي، بغباء أستحق عليه الرجم حتى الموت، تحت رحمة امرأة قاسية صرخت في وجهي بكل لؤم أنها لا تريدني حتى لوكنت الرجل الأخير في العالم.
سكت لدى طرق الباب واستدار بانزعاج إلى مريم التي أطلت برأسها فصرخ فيها بعصبية:
- اتركينا وحدنا!.
نظرت مريم إلى عواطف فأومأت هذه رأسها تطلب منها الاستجابة:.
انسحبت بهدوء فيما إبراهيم ينفخ باستهجان:
- كبر رأسها حتى ماعادت تقيم وزناً لي! موقفها هو انعكاس لموقفك أم العكس؟.
لبثت عواطف صامتة زامة شفتيها، لوّح بيديه بحنق واستطراد:
- ولماذا أتيت لعندي مباشرة بعد إبعادك من القدس؟ أنسيت أن موت طارق يعيدنا إلى نقطة البداية؟ لا أحسبك كنت ساذجة إلى حد الاعتقاد أن حبي لك انتهى، أو أن بقائي أعزب كان لزهدي في النساء؟ وهل تصورت أن تقيمي عندي وأن أرعاك وأعيل أولادك، أولاد غريمي، كرمى للصداقة والقرابة العائلية فقط؟ لا تتظاهري بالبراءة ياعواطف، كنت تعرفين تماماً ماذا أريد، وكان عليك أن تأخذي هذه الحقيقة بعين الاعتبار قبل أن تغامري بقبول ضيافتي.. أتعرفين؟
حدق إليها بشراسة ثم استدرك بازرداء:
- أنا لم أغتصبك، بل أنا الذي تعرضت لاغتصابك، أتعلمين لماذا؟ لأنك أنت التي دفعتني دفعاً لاغتصابك. رتبت الأمور بمكر لا نظير له كي يحصل ماحصل. تذكري وإن كنت لا تريدين التذكر فسأساعدك، حين دعوتك إلى داري في الرابية لم تسأليني لماذا؟ ولم تبدي أي اعتراض أوحذر، رغم أنها المرة الأولى التي نلتقي فيها بمفردنا. ألم تسألي نفسك ماذا أريد وتتحسبي لما قد يحدث ونحن وحدنا؟ كنت تعرفين أنني سأعرض عليك الزواج، وكنت عازمة على رفضي وبطريقة استفزازية جارحة لكرامتي لا تترك أمامي غير التصرف كما تصرفت. نعم، جئت عندي لأنك كنت راغبة في أن أغتصبك، لماذا؟ لأنك أردت أن أظهر بمظهر النذل المتوحش، ولتظهري أنت بمظهر الضحية البريئة ولتحفري بيني وبينك هوة من الغضب والبغض والشك تسمح لك بالادعاء أنك قد سدّدت بطريقة من الطرق دين إبراهيم عليك. ولم تسدديه فقط بل صرت تملكين ما تهدّدينني وتبتزّينني به. كنت واثقة أنني سأندم وسأحاسب نفسي حساباً عسيراً وأحاول بمختلف الوسائل التكفير عن فعلتي الكريهة، بل سأتوارى عن وجهك كالكلب الذي يتحاشى غضب سيده، وهذا ماحدث. تواريت عن وجهك، وبقيت أنت في بيتي تعيشين على حسابي وتتنعمين بما أبذله لك ولأولادك إلى أن جاءك أكرم بجيوبه الطافحة ووعوده المعسولة فطاش صوابك وبعته نفسك مثل ... مثل...
صعب عليه لفظ الكلمة فاكتفى بالاقتراب منها وهو يلوح بقبضته مهدداً فتراجعت برأسها بهدوء دون أن تسمح لملامحها بالتعبير عن مكنوناتها ، أسبل يده بحنق:
- واختتمت ذلك الفصل التافه من مسرحيتك بأن أرسلت لي مفتاح البيت دون كلمة شكر واحدة كأنك تتقصدين إهانتي؟ كرهتك حينئذ حتى لتمنيت أن أقتلك، ولعلي لو وقعت عليك لقتلتك. ورغم ذلك نسيت كل شيء حين رجعت بعد أربع سنوات تطلبين عوني ونصيحتي لأنه لم يكن بإمكانك ائتمان أي شخص غيري لإدارة شركتك. لدغتني مرتين من قبل ولم أتعظ... نذرت نفسي لك طيلة العشر سنوات الماضية فماذا كانت النتيجة؟ أن تأتيني الآن، بعد فوات أوان الندم، لتقولي لي إنك استعدت ميتك ولم يعد لك فائدة مني؟ ياللسخرية!.
بدا عليها الوجل وهو يتفرس فيها بعينين يتطاير منهما شرر البغضاء. وقد انتفخت عروق رقبته لكنها تمكنت من السيطرة على انفعالاتها وقالت بصوت مليء بالتحذير:
- اضبط أعصابك يا إبراهيم ولا تحاول أن تتعشاني قبل أن أتغداك، ضع في اعتبارك أنه ليس مطلوباً مني تقديم حساب لأحد، وخاصة لك، لقد تركتك تفرغ تفاهاتك لأنني أردت معرفة كل مايدور في عقلك المريض، لكني لم أتخيل أبداً أن تبلغ بك الصفاقة حد قلب الحقائق وتفسيرها على هواك. ليس هناك حرف واحد صحيح في كل ماقلته...
صبرت إلى أن انتهت الساعة من إعلان النصف بعد الثالثة، أخذت نفساً عميقاً وقالت:
- لم يكن لي أبداً موقف مسبق منك، وإنما كانت تصرفاتي ردات فعل على مواقفك مني. راعيت قدر الإمكان واقع أننا نمت إلى بعض بصلة قرابة، وعلى هذا الأساس عاملتك ومازلت لم أفكر فيك كزوج وحبيب رغم كل جهود أبي وترغيباته فأنت، لم تعن لي أكثر من قريب كان يمكن أن تقوم علاقتنا على الصداقة والاحترام لولا إصرارك المحموم على فرض نفسك وحبك عليّ... أماطارق فجسد لي كل أحلامي وآمالي، أحببته ولم أحبك، وهذا من حقي مثلما هو من حقك أن تحب من تشاء، شرط ألا تحاول فرض حبك عليه. وبسببك عارض أبي زواجي بطارق فاضطررت لعصيانه، وحين رجعت إلى القدس وجدتك أمامي وكأن شيئاً لم يكن، كان سلوكك طبيعياً بحيث وثقنا أنا وطارق إن بإمكاننا بدء مرحلة جديدة من الصداقة القائمة على الاحترام والود.
تفرست فيه بحدة قبل أن تردف بسخط:
- ويوم أبعدوني من القدس كان طبيعياً أن ألجأ إليك في عمان باعتبارك القريب والصديق، وأنت الذي أصررت على استضافتنا لبينما نتدبر أمورنا. حذرتك بأننا سنصبح ضيوفاً ثقلاء بعد عدة أيام فغضبت وقلت إنني أهينك بكلامي هذا. لم يدر في خلدي آنذاك سوى أنك تساعدني لوجه الله وليس لأي سبب آخر، الغريب يسارع إلى تقديم العون في مثل هذه الظروف فكيف بالقريب؟.
تشاغلت بإشعال سيكارة ونفثت الدخان بقوة:
- بلى ياإبراهيم وثقت بك وقلت لنفسي إنك تغيرت فعلاً بل وبدأت أرتاح إليك وأطمئن إلى صداقتك، لكن ذلك لم يدم طويلاً. فاجأتني بعد أشهر بالعزف من جديد على نغمتك القديمة غير مدرك أن رحيل طارق لم يغير شيئاً في مشاعري نحوك أما تفسيرك المضحك لاعتدائك عليّ فهو أسخف مايمكن أن أسمعه. أنت أحمق يا إبراهيم إذ تنساق إلى هذا الحد وراء أوهامك المريضة وافيتك إلى بيتك لأسباب كثيرة، الأول لأنني امرأة تثق بنفسها، ولا تخاف أن تكون واحدها مع قطيع من الذئاب لا الرجال فقط، والثاني لأنني لم أتصور أبداً أن تنحط إلى ذلك الدرك من السفالة، والثالث لأنني كنت أعرف ماذا تريد وكنت مصممة على وضع حد لك بعد أن طفح كيلي من إلحاحك وإصرارك.
لوحت بيديها بعصبية ونخرت:
- لكن حدث مالم يخطر لي على بال.... ورغم ذلك لم أتأثر كثيراً، أتعرف لماذا؟ لأن جسدي كان ميتاً وأنت تعيث فيه، ولأنني لم أعتبرك رجلاً بل حيواناً أصابه السعار.... لهذا تغلبت على الصدمة وضبطت أعصابي وقررت أن أبقى وكأن شيئاً لم يكن. قد لايكون هناك عذر أخلاقي لسلوكي لكن العذر الواقعي موجود دائماً. لقد علمتني تجربتي أن للحياة شروطها القاهرة التي ليس بإمكاني اتقاء شرها إلا بدفع ثمن فادح قد يكون أهونه التضحية بجسدي. كان عليّ أن أختار بين السيء والأسوأ، السيء أن أبقى والأسوأ أن أرحل لأتشرد مع أطفالي، لاتحسب أنني كنت مرتاحة ومطمئنة.... لقد بحثت عن عمل، أي عمل، وكنت مستعدة حتى للخدمة في البيوت، لكن الأبواب كانت كلها مغلقة في وجهي، فاضطررت إلى التنازل وإحناء رأسي كيلا تقتلعني العاصفة... أنا لا أبحث لنفسي عن البراءة، فأنا أعرف تماماً حجم أخطائي وذنوبي، لكنها أخطائي وذنوبي أنا ولا علاقة لك ولأي شخص آخر بها، ومن كان بلا خطيئة فليأت ويرجمني بمئة حجر‍!....
صمتت وقد تسارعت أنفاسهاوهي تحدق إليه بشراسة، بدا عليه الشرود قبل أن يفقع فجأة ضحكة ساخرة:
- منطق محكم.... لكنه مجبول بالباطل، طالما كنت على هذه الحالة من اليأس التي أجبرتك على الرضوخ لشروط الحياة القاسية كما تزعمين، فلماذا رفضت الخيار الأخلاقي الذي قدمته لك؟ لا أظن أن الزواج مني كان أسوأ من تعهير روحك وجسدك، حتى وإن كنت لا تكنين لي أية عاطفة.. عرضت عليك حلاً مشرفاً ووفرت لك فرصة العيش بكرامة أنت وأولادك والتخلص من كل مشاكلك ومخاوفك، لكنك رفضته بكل استهتار فلماذا؟.
وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال بادرت تجيب بلؤم:
- الزواج بك كان يعني لي أن أعيش حالة اغتصاب دائمة!.
أدركت، إذ شحب وجهه ورمقها بذهول فاغر الفم، أنها بالغت في قسوتها، فاغتصبت ابتسامة باهتة واستدركت مضفية نبرة لطف على صوتها:
- لا أريد جرح مشاعرك يا إبراهيم، أرجوك دعنا ننسى الماضي بكل سيئاته وحسناته، لا أنكر جميلك، وفضلك عليّ، فبقدر ما كنت حبيباً سيئاً كنت صديقاً طيباً عطوفاً وقفت إلى جانبي وأغثتني يوم احتجت إلى من يقف إلى جانبي ويغيثني.لماذا لا نكون أصدقاء فقط؟ الصداقة الحقيقية أجمل من الحب مئة مرة، فتخلص من حبك الخائب وعش.. ودعني أعيش!.
- الويل لك.... الويل لك!.
فح ممتقع الوجه وقد بلغ به الغضب حد الهيجان، اقترب منها رافعاً يده كأنه يهم بصفعها فتقهقرت وهي تطلق صرخة تحذير، توقفت فجأة وضرب فخذه بعصبية وزمجر:
- لا بأس ، لا تخافي، مع أنه بودي لو أقتلك وأخلص حقاً...
نفخ بقوة ثم قرر بيأس :
- لقد أحببتك كمالم يحب رجل وامرأة وعذبتني أنت كما لم تعذب امرأة رجلاً.... لم أستطع نيلك ولا التحرر منك.... لم يبق لأي شيء معنى... وهاأنتذي تفلتين من يدي للمرة الثالثة ليس بسبب طارق فأنت لن تسترجعينه وهو لن يرجع إليك، كوني على ثقة بذلك، بل لأنني يئست فعلاً، الثالثة ثابتة... دمرّت أحلامي ودمرتني معها، عليك اللعنة..
- دمرت نفسك بيدك ولا علاقة لي بالأمر، لست أول ولا آخرخائب في حبه يا إبراهيم... ولو كل خائب تصرف مثلك لتوقفت الحياة وخرب العالم، أشعر فقط بالأسف لأنني سببت لك العذاب، هذا إن كنت صادقاً، أما طارق فاطمئن من جهته، سأسترجعه...
قالت بثقة متناهية، فتفرس فيها بعينين جاحظتين ثم أمسكها من معصمها بقوة وقال بحنق:
- تخلصي من أوهامك يا امرأة، قلت لك إنه لن يرجع.
سحبت معصمها بعنف وسألته بقلق:
- ماذا تعني؟.
- أعني ماقلت بالحرف، لن يرجع.
- أهناك ماتخفيه عني يا إبرهيم.؟.
بدا عليه الشرود هنيهة ثم غمغم بلطف مناقض تماماً للهجته السابقة:
- لا أخفي شيئاً ، أظن أنني انفعلت أكثر من اللازم.
نظرت إليه بحيرة ثم زفرت بهدوء وتهالكت على الكنبة قبل أن تقول وقد شابت صوتها رنة عتاب:
- كفانا قسوة على أنفسنا يا إبراهيم، إننا نتصرف بحماقة منقطعة النظير ولقد آن الأوان لنتعقّل. كفانا طيشاً ، كفانا... لقد تعبت واهترأت أعصابي ، إنني أحتاج إلى صديق ناصح شفوف، وكنت آمل أن أجده لديك فإذا بنا نعامل بعضنا كأعداء موتورين.
حدق إليها وقد بانت عليه الدهشة.. لم يستطع استيعاب معنى الانقلاب المفاجئ في موقفها وكأنها ليست هي التي كانت تواجهه قبل قليل بمنتهى القسوة. بإن عليها الضعف والإحباط وكأنها موشكة على الانهيار فعلاً. توقف عند الغضون العميقة وقد ملأت وجهها الأصفر فيما تهدل جلد فكيها وازداد السواد حول عينيها اللتين ضاقتا وغارتا فبدت متعبة مكتهلة... اجتاحه شعور طاغ بالشفقة عليها فاقترب منها مادّاً يديه وكأنه ينوي أخذها بين ذراعيه، لكنه.توقفت ما إن رفعت يدها مجفلة وقد ومضت في عينيها نظرة تحذير. أسبل يديه وقال بفتور وقد استعادت ملامحه جمودها:
-أنت تطلبين المستحيل، من الصعب أن نحل مشكلة عمر في يوم ياعواطف. لم أقصد استفزازك بالقول أنه لن يرجع بل كنت أقرر حقيقة واقعة. لقد تكلمنا بمافيه الكفاية حول هذا الموضوع، وماعاد ثمة فائدة من قول المزيد، أنصحك بإخلاص أن تنزعيه من رأسك المتعب الذي ركبه القلق وفقد صوابه، عيشي الواقع كما هو لأنك أضعف من أن تغيّري قيد أنملة فيه. تبدين لي أحياناً ساذجة إلى حد أصدق معه أن المرأة مخلوق بنصف عقل مهما صارت وتصورت!.وطالما الأمر هكذا اذهبي وخوضي حربك الخاصة وحدك واخسريها وحدك.
- لن أخسر ، كن على ثقة من ذلك...
قالت بحدة، فابتسم بغموض واتجه إلى المكتب، تناول سيجارة وقلّبها بين أصابعه المشدودة، أشعلها وسحب منها بشراهة ثم اتجه إلى النافذة ماراً من وراء عواطف. كانت طلائع الفجر قد أرسلت نورها الرمادي تكشف عن الطبيعة غلالتها السوداء فبانت تضاريس الخليج وهياكل السفن الرابضة كتماثيل فوسفورية تعكس أضواء خافتة لا حياة فيها. حين تكلم كان صوته خافتاً غير مسموع بوضوح:
- ستخسرين كثيراً، بالأحرى لقد خسرت وانتهى الأمر، وأنا أول خسائرك، ماكنت صادقاً حين أبلغتك أنني سأرحل، أما الآن فلا يوجد أمامي سبيل آخر، ليس بمقدوري أن أصبر أكثر مما فعلت، صار بقائي عبثاً في عبث ياعواطف... نعم، أظن أن الوقت حان لأتركك تنزعين شوكك بيدك. تريدين استعادة طارقك المزعوم فافعلي ذلك وحدك وأنت عارفة أنه ليس ثمة مغفل اسمه إبراهيم نصار ليقيك من عثراتك ويساعدك كلما وقعت في ورطة أوتأزمت أمورك. قراري هذه المرة نهائي وحاسم، سأنتزعك من قلبي وحياتي مهما سبب لي ذلك من ألم.
استدار نحوها بوجه ران عليه الهدوء. كانت صامتة هادئة بدورها. وضع السيكارة في فنجان القهوة فانطفأت بنشيش خافت:
- بلى، عليّ انتزاعك من قلبي حتى لو اضطرني الأمر إلى إجراء عمل جراحي، والهيئة أن الظروف تمد لي يد المساعدة. تلقيت قبل أيام رسالة من ابن عمتي يبلغني فيها أن لمياء أدمنت على الكحول إلى درجة لم تعد معها قادرة على رعاية ابنتي: لابد أنها صارت صبية الآن. كنت أفكر بتكليف محام برفع دعوة قضائية لنزع حضانة الصغيرة منها، أما الآن فأرى أن أذهب لمتابعة القضية بنفسي، إنني بحاجة إلى تغيير الهواء والناس، منذ زمن وأنا أفكر بزيارة الولايات المتحدة.
قطع حديثه دخول مريم دون استئذان، لم تترك له مجالاً للتعبير عن غضبه، إذ اقتربت من عواطف وقالت لها دون أن تلتفت نحوه:
- قالت ناديا إن الجنرال على معرفة بالمسألة من البداية...
زمجر بصوت خافت فيما بدت الحيرة على عواطف فنهضت وهي تجيل بصرها بين الاثنين:
- أي مسألة؟.
- أسأليه؟!.
تطلعت إليه باستغراب. شد جذعه وضيق عينيه وقد بدا عليه الارتباك، تلجلج قليلاً لكنه سرعان ما سيطر على نفسه، وقال ببرود:
- كنت على علم بالمسالة منذ اللحظة الأولى، قد تنجحين في إخفاء الأمر عن الجميع إلا عني. تابعتك خطوة خطوة، وقابلت الرجل... أعني عامر كمال.
بدا عليها الذهول وحملقت إليه بعينين جاحظتين، حين تغلبت على دهشتها وجدت صعوبة في السيطرة على صوتها الذي خرج متلعثماً:
- ولماذ لم تقل لي؟.
- رأيت أن تدخّلي قد يزعجك فاكتفيت بالمراقبة من بعيد.
- دعينا وحدنا يامريم.
قالت بنبرة آمرة وقد استعاد صوتها صلابته، حين خرجت مريم وردت الباب وراءها ضحك بسخرية:
- إنك تخيفينني!.
- قابلت الرجل إذن؟! بأية صفة وماذا دار بينكما؟.
- أردت الاستطلاع عن قرب...
- كنت تتابعني خطوة خطوة إذن؟
دمدمت بصوت مخنوق وهي تتفرس فيه بنظرة ثاقبة وكأنها تريد الغوص إلى أعماقه. فركت يديها بعصبية قبل أن تتساءل:
- إنه طارق ... أليس كذلك؟
هز رأسه بفتور:
- إن رغبت يمكن أن أصنع منه طارق مناف...
- أتعني أنك تحدثت معه في هذا الموضوع؟.
- إنه إنسان حذر جداً وبارع في التملص من الأسئلة التي تتناول ماضيه... كأنه يخفي سراً خطيراً...
زعقت عواطف بعصبية:
- إنه طارق إذن! ... لماذا لم تقل ذلك أمام الأولاد؟.
- قلت لك رأيي بوضوح، اتركيه في حاله وابقي في حالك.
حدقت إليه بغباء:
- ماذا يجري؟ أنت تتلاعب بي يا إبراهيم. كلامك مليء بالألغاز، يبدو أنك تعرف عنه أكثر بكثير مما أعرف!.
- يجوز... ولعل السبب أن الرجل أقدر من المرأة على تقييم الرجل، ولأنه يثق بالرجل أكثر مما يثق بالمرأة، لهذا فهمت عامر كمال أكثر ممافهمته أنت ، واطمأن إليّ أكثر مما اطمأن إليك. ثم إن لكل رجل مفتاحاً إن وقعت عليه وصلت إلى حقيقته ... ومفتاح عامر كمال عبادته لأسرته، ولعلك لاحظت تلك الواقعة لكنك لم تدركي تأثيرها على حياته.
- بلى أدركتها وذكرتها، وللدكتور جلال فقال، إنها قد تكون أحد المؤشرات على أنه طارق، لعلها ردة فعل غريزية على فقده لنا، وهو يخشى أن تتكرر مأساته مرة أخرى، لهذا فإن أسرته هي محور حياته.
- تمحورين كل شيء ليخدم فكرتك، على كل حال أنت حرة، أما أنا فقد قلت ماعندي.
أخذ نفساً ونفخه بقوة:
- لا تعتقدي أنني أهرب منك، أنا فعلاً أشفق عليك ياعواطف وأرجو أن يساعدك الله لتجتازي هذه المحنة بسلام، لكن بقائي أصبح عبئاً عليّ وعليك، لم يبق هناك أي أمل... كان الخطأ خطئي لأنني...
حدق إليها بثبات ثم استطرد ببرود:
- أتذكرين يوم أخذتنا أمي إلى ديرمارجرجس لتفي بنذر لها؟ قالت لنا إن كنا مؤمنين صادقين وصلينا للقديس جورج بقلوب صافية فإنه سيلبي الأمنية التي نطلبها. أشعلنا الشموع وصلينا بحرارة، تمنيت أن أصير رجلاً عظيماً غنياً لأجعلك أسعد النساء.وحين سألتك ماذا تمنيت قلت إنه سر، أتذكرين!؟.
- لا ... إلام تريد أن تصل؟!.
- إما أن القديس جورج غير صادق وإما إيماننا غير صادق، أنا من ضيّع في الأوهام عمره.
دندن بصوت حزين فسارعت تغمغم بنفاد صبر:
- كلنا ضيّعنا في الأوهام أعمارنا...
- ليس مثلي ... الهيئة أنني سأخرج مهزوماً على جميع الجبهات.
- أنت خارج إذن؟
- نعم... كفاني مكابرة...
- أملت أن نظل أصدقاء‍!
-أمازلت مصرة على أن نكون أصدقاء؟ ياللسخرية! ...
حافظت على هدوئها وهي تقول برجاء:
- عليك أن تبلغ الأولاد أن الرجل هو طارق!.
لوّح بيديه في ضيق وقال بحدة:
- إنه طارقك وليس طارقي أو طارق أولادك...
- ولكنك قلت لتوك أنه طارق ...
- قلت ؟ ماذا قلت؟ لا تراهني عليّ كثيراً ياعواطف، لقد أفرطت الليلة في الشراب وثرثرت كثيراً...
استشاطت غضباً وزعقت بحنق:
- كفاك تهريجاً، إنها قضية مصير بالنسبة لي ولأولادي وتريد تحويلها إلى مهزلة؟ لن تذهب قبل أن تعلن الحقيقة على رؤوس الأشهاد...
- رويدك... رويدك... ماذا ستفعلين؟ تصوبين مسدساً إلى رأسي وتأمرينني بالقول إنه طارق؟ لن أفعل ذلك أبداً.
- لأنك وغد حقير...
صرخت بحقد وهي ترتجف... حدجها ببرود قائلاً:
- أخشى أنك فقدت صوابك ياامرأة.. على فكرة... أريد أن أترك لك ذكرى قبل أن أرحل.
اتجه إلىالمكتب وسحب من تحت الدليل رزمة من الأوراق المخروزة لوّح بها ثم رماها على الكنبة:
- إن كنت تريدين الحقيقة فقد تجدينها هنا،أشعر الآن أنني تحررت منك...
لم تعودي تستأهلين حتى شفقتي ... اقرئيها بهدوء وتذكريني دائماً!.

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
قديم 07-04-09, 02:51 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2007
العضوية: 33834
المشاركات: 1,230
الجنس أنثى
معدل التقييم: تمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عاليتمارااا عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 815

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تمارااا غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تمارااا المنتدى : القصص المكتمله
افتراضي

 

- 10 -

صمت ثقيل الوطأة مطبق على غرفة الجلوس يزيد من كآبته النور الأصفر الشاحب للشمعدان النحاسي الضخم المركون في الزاوية بين لوحة الاوبيسون الجدارية والستارة المخملية نصف المرفوعة. الظلال الباهتة تثير الخمول في الأحداق المرهقة الناعسة وتبعث في النفوس توتراً لزجاً ينقط من الملامح المكتئبة تنم عن أعصاب مشدودة حتى الانقطاع. تأخذ اللوحة التي تمثل مشهداً ساحرا لمجون آلهة الأولمب شكل كتلة سوداء ينعكس عليها ظل وجه ناديا التي زادها الإرهاق الساكن في تعابيرها فتنة وإغراء. تتمدد نصف مضطجعة على الكنبة مادة ساقيها المضغوطتين في بنطلون الجينز الأزرق فيبرز انسيابهما المتناسق يثير في نفسي، رغم أنفي، نزوات قلقة أحاول جهدي خنقها. ليس باستطاعتي التفكير فيها إلا كأنثى مشتهاة تجسد نموذج حواء الأكمل جامعة في ذاتها كل ما أتمنى. الجمال والدهاء، اللطف والشراسة، الغرور والدعة، الفضيلة والرذيلة، الأمومة والعهر. ولولا أنها زوجة أخي ما منعني مانع عن السعي لنيلها مهما كلفني الأمر، وامرأة مثلها ليست أبداً سهلة المنال، بل إنها لتفقد كل سحرها إن لم تكن عصية كقلعة حصينة دونها خرط القتاد! هي الجائزة الكبرى لمن يتغلب على جميع منافسيه بعد صراع دموي شرس ليقف وقد خضبته دماؤه ودماء خصومه مطلقاً صرخة النصر المدوية!.
أهز رأسي إذ تتلاقى عيوننا فجأة وأسارع أهرب بنظراتي وأطرد أفكاري بعيداً عنها. أنتقل من مريم الساهية بشخيرها الرتيب إلى نضال الغارق في تفكير عميق فيوسف نصف النائم برأسه المتكئ على كتف عطاف وأحط عند هذه الأخيرة أغمضت عينيها وسرحت في أفكار هادئة كما بدا من استكانة ملامحها ودقات إصبعها الآلية على ركبتها. قميص نومها البنفسجي المغلق القبة يضفي عليها حفنة رونق تخفف من صرامة عبوسها الأخرس.
مازلت حتى الآن أستصعب تصديق ذلك الحب الذي يدعيه يوسف لكن الظاهر، أو تمثيله المقنع، يدفعني إلى التسليم بإمكانية وقوعه في هواها... كنت أمزح حين أوقفته قبل صعوده إلى الباخرة اليونانية لتقوده إلى حيث لا أعلم قائلاً بجدية:
-إن ضاقت بك السبل تعال إلى عمان وتزوج أختي. صحيح أنها تعاني من عرج بسيط وجمالها دون الوسط لكنها تعوض عن ذلك بالذكاء والمهارة والاجتهاد وطيبة القلب. ثم إن بائنتها تكفيك لتشكيل تنظيم خاص بك إن قررت ترك الحركة!.
ما خطر في بالي قط، وأنا أعرف يوسف كما أعرف نفسي، أن تصبح مزحتي حقيقة. أحب عطاف وأريد لها الخير والسعادة في كنف زوج عطوف محب. لكني ما تصورت أن يكون هذا الزوج يوسف نجيب نفسه. أن يدفن نفسه وأحلامه في حضنها البارد، هكذا أفترضه!... أينها من النسوة اللواتي كنا نبحث عنهن وسط دوي القذائف وبين أنقاض بيروت النازفة؟ كنا نفتش عن الأكثر إثارة وخبرة، الأجمل، الأفجر والأغلى. الرجل كائن بسيط واضح رتيب حتى السأم، أما المرأة فعالم صاخب مجهول وعر المسالك ضبابي الرؤية متقلب الأهواء غامض النزوات. كان يوسف يعشق التنظير:
لدى كل امرأة ما يكفي من الضد. في الحسناء ثمة قبح. في الفاضلة ثمة عهر، في الذكية ثمة غباء، في الطيبة ثمة لؤم، والعكس صحيح. وليس ثمة فرق في النتيجة بين مخدع الفاضلة وماخور ال*****. ففي المطرحين الوقائع واحدة.
بإمكاني الادعاء أنني أفهم المرأة بجميع وجوهها لكن أمي تستعصي عليّ. تنزلق دائماً ما إن أحسب أنها حطت رحالها وقررت الاستقرار. لديها دائماً ما تفاجئني به! تصدمني إلى حد زلزلة كياني. أبي حي يرزق بعد عشرين سنة موتاً؟ مسخرة... هستيريا.. جنون.. أحاول لوك القصة فتتكسر أسناني.
إنه حزيران الشؤم. شهر ملعون يأخذ معاني تجريدية كابوسية. أرى النور، ولعله الظلام، في حزيران. أبي يموت في حزيران. نُبعد من القدس في حزيران. أرمي نفسي في أتون بيروت في حزيران. تراجيديا حزيرانية. دراما حزيرانية كوميديا مأساة. ماذا يريد مني حزيران؟ أهي مصادفة أم مؤامرة مدبرة من قدر لعين- جميعنا نتحدث عن القدر اللعين. اللعنة- دأبه مناكدتي وقهري؟..
لماذا اختارت أمي اليوم وليس البارحة أو غداً؟ أرزح تحت وطأة إحساس خانق بالغيظ أودّ معة لو أمارس فعلاً عنيفاً أخفف به عن نفسي. قبل خمس سنوات وجدت في نفسي الجرأة لممارسة هذا الفعل بعقلانية ووعي وتصميم. كتبت رسالة قصيرة لنضال أبلغه بقراري طالباً منه الاهتمام بأمه وأخته ويممت شطر بيروت لا أحمل سوى جواز السفر ومئة دينار.
منذ أدركت معنى رحيل أبي رحلته التي لا عودة منها وجدت نفسي أتأقلم، بغير قليل من الاعتزاز، مع فكرة أنني صرت رجل البيت، وأنني حللت محل أبي في رعاية أسرتي الصغيرة المحبوبة. ظلت صورته بأدق تفاصيلها، رغم أنني لم أكن أتجاوز السادسة حين فارقني، محفورة في ذاكرتي بصوته الأجش الشجي وإطلالته اللطيفة وحبه الكبير لي، ولهذا، أظن، لم أصفح قط عن عواطف خيانة ذكراه بالزواج من أكرم. لربما كنت نسيته وسلوته بسرعة لولا الظروف التي تلت رحيله. رأيت، ولفترة طويلة، أنه لو لم يمت لما حدث ما حدث. لما سقطت القدس. لما أذلنا الاحتلال. لما سكنتنا المخاوف والكوابيس. لما فقدنا وطننا وتشردنا. لما وجد الغرباء الدار سائبة لنواياهم الخبيثة. كان عليّ الانتظار عدة سنوات لأدرك معنى زيارات رافايل المفاجئة المفزعة ومغزى النظرات الغريبة يلتهم بها أمي الخائفة المنكمشة العصبية. ولاكتشف، بخيبة مفعمة بالازدراء، أن الرقابة الصارمة التي فرضها علينا لم تكن لأسباب وطنية، أثارت فيَّ آنذاك مشاعر فخر اعتدت التباهي بها أمام أترابي، بل لمآرب خبيثة في الأرملة الحسناء التي هي أمي، عواطف.... لم يكن بمقدوري إلا أن أكظم غضبي الطفولي وأنا أرى إلى فزعها ما إن يداهمنا رافايل بإحدى زياراته المباغتة المرعبة. وهو الغضب الذي ما فتئ ينهشني إلى أن نادتني بيروت للتحرر منه. ولعلي ما ذهبت إليها إلا بأمل أن أتواجه فيها مع رجل يكون بترتيب من ذلك القدر اللعين، رافايل... حلمت كثيراً بذلك اللقاء. وضعت سيناريوه بالكامل وبالتفاصيل المملة. في يوم ما، وبعد معركة ضارية ما، ووسط الركام والجثث ودخان الحرائق وطعم الموت سينجلي الغبار عن رجلين مثخنين بالجراح مخضبين بالدماء يقفان وجهاً لوجه. سأعرفه من النظرة الأولى. إنه وجه لن أنساه أبداً، بنظراته النارية وابتسامته اللئيمة وأنفه المروّس وفمه الدقيق المزموم وذقنه الحليقة وسالفيه الطويلين الكثين. سأناديه باسمه وحين يحملق في مندهشاً أفرغ فيه المشط صارخاً بانتصار هذه من غسان مناف يا بن الزانية”! .
لكن القدر لاحقني بلؤمه حتى النهاية. المرة الوحيدة التي شاهدت فيها عسكرياً يهودياً بالعين المجردة كانت عندما أصيبت طائرة إسرائيلية وهبط طيارها بالمظلة في بيروت الشرقية. كان أبعد من أن تناله آلاف الطلقات التي انصبت عليه من الغربية كزخ المطر. راقبته بخمول متخيلاً بأسى البسمة الشامتة على وجه رافايل الساقط هانئاً في أحضان أهل المنطقة الشرقية. حاولت أن أفكر فيهم بحيادية علني أقدر موقفهم وأتفهم حججهم لكني عجزت. انتابني الغثيان وأنا أتصورهم يسارعون إلى الطيار ليتلقفوه بالأحضان ويعيدوه إلى قومه ليستقل في اليوم التالي طائرة جديدة متخمة بصواعق الموت التي سيفرغها فوق بيروتهم الثانية. فبصقت بقرف.
في بيروت الحصار والقذائف والرعب والبكاء والجثث المشوهة والرؤوس المقطوعة والأطراف المبتورة والدماء النازفة والنساء المفجوعات والأطفال الممزقين لا يعود ثمة قيمة لشيء. يختلط كل شيء بكل شيء. يصير الموت حياة والحياة موتا وما مضى مثلما سيأتي ومن يضحك كمن يبكي. تضيع الرؤى وتتهاوى الآمال ويتحول العالم إلى أنشوطة موت. الحالة الوحيدة الثابتة في تلك القيامة الفوضوية هي الجنس. طقوسه سرمدية خالدة أبداً مهما كانت الظروف والأحوال. كأنما هو الفعل الإنساني الوحيد العصي على الخوف واليأس والموت. صعقت لدى رؤيتي رجلاً وامرأة يخرجان عاريين من بين أنقاض عمارة طالتها قذيفة إسرائيلية وقد خضبتهما الدماء. ضحكت حتى سالت دموعي وهما يركضان إلى سيارة الإسعاف برشاقة غزالين جبليين غير مباليين بالناس وجروحهما وتعثرهما بالأنقاض وقد غطت المرأة وجهها بيديها وستر الرجل عورته بقطعة خشبية. كان ذلك لقائي الأول بيوسف نجيب. كلما استعدنا تلك الحادثة تنفرج شفتاه عن همهمة تحسر قبل أن يعلق متهكماً:
-الجحيم ذاته محتمل إن كان الجنس مسموحاً فيه. لكني أخشى أن يكون أقسى عذاب فيه حرمان نزلائه من الجنس!.
قرّبنا من بعضنا كوننا المسيحيين الوحيدين العاملين في منطقة الفاكهاني. يوسف في أمن فتح وأنا في الدفاع المدني. اكتشفنا أن بيننا أموراً كثيرة مشتركة. عشق النساء والطباع النزقة والنقمة على العالم والتوق إلى المجد، دون أن يكون ثمة معنى محدد لهذا المجد. اعتدنا أن نمضي ساعات طويلة في منزله القريب من مكتبه نشرب العرق ونلغو في كل شيء. الحرب والسياسة والثورة والعرب واليهود والرجعية والدين وأمريكا وروسيا والله والإنسان والجنس. حين ننتشي نؤم بانسيون الست بديعة لنمارس الجنس الفردي والجماعي على أنغام موسيقا فاغنر وأغاني فيروز وأزيز الرصاص والقذائف. لم تفدنا حادثة يوسف في تعلم الحذر والحرص. قررنا أن الموت في أحضان المرأة هو أمتع وأنبل وسيلة لمغادرة دنيانا المعاقة،وتوطدت علاقتنا فلم نعد نفترق كي نموت إن حانت منيتنا سوية!.
حين سألني يوسف إن كانت عطاف ستقبل به ولن تعترض عواطف أجبته بثقة:
-سيحبانك كما أحبك. ثم إنهما لن يعثرا على أحسن منك. ولا تنسى أنني رجل البيت وولي أمر الاثنتين!.
ولي الأمر!... رجل البيت! الأب! طارق حي!... سيخ نار يخترق رأسي كلما أفكر بذلك الجنون الذي أصاب عواطف. أحاول استيعاب الأمر وتفهمّها والتعامل معها بحكمة لكن عنادها يقودني بدوري إلى الجنون. ماذا يحدث؟ لماذا يحدث؟ أهو بداية سقوط جديد؟.
يبدو لي أحياناً كما لو أن ثمة دورات عذاب في الحياة لا تني تتكرر بآلية قدرية لا مفر منها. الدورة الأولى موت أبي. الدورة الثانية مغادرة القدس... وجه أمي في بياض الشمع وعيناها الحمراوان تحجرت دموعهما وهي تبلغني بصوت لم أسمعه منها قبلاً ولا بعداً أننا سنرحل صباح بعد غد. يتساءل نضال بفزع إن كان الرحيل يعني أن نترك كل شيء وراءنا. تتجاهله. وأتجاهله بدوري منسلاً إلى الحمام مطلقاً لدموعي الخرساء العنان. حين خرجتُ كانت قد سيطرت على أعصابها واستعادت هدوءها فراحت تتكلم وتتحرك بآلية خرجتُ متجنبة النظر إليّ كأنها لا تريدني أن أرى ضعفها. عيل صبرها من نشيج مريم فزعقت فيها بحدة أن تخرس وتغرب عن وجهها. حام نضال حولي بقلق وهو يبكي فطبطبت على رأسه بلطف وطمأنته أن كل شيء سيكون على ما يرام. لكني كنت واثقاً أنه لم يبق شيء على ما يرام.
الدورة الثالثة كانت زواجها من أكرم النحاس. لم أصدق أنها قادرة على التخلي عن كل شيء، ذكرى أبي ونحن، بسهولة تخليها عن ثوب قديم من أجل رجل أثار حقدي بقدر ما أثار موقفها اشمئزازي. أصغيت إليها مذهولاً وهي تحاول تخفيف الوطأة عليّ بالإدعاء أنه رجل طيب كريم فاضل سيكون لنا نعم الأب.. حاولت إعماء بصري برزمة من الدنانير لوحت بها أمام وجهي طالبة مني أن أكون كما عهدتني دائماً، رجل البيت، أرادت شرائي مثلما اشتراها أكرم. جاشت نفسي بالغثيان ورغبت أن أصرخ فيها ألعنها وألعن المال. أن أصفعها علها تعود إلى رشدها وتتخلص من نزوتها الحمقاء. أن أقول أن عليها البقاء فأنا رجلها ومعيلها والمسؤول عن الأسرة وسأعمل كي لا نحتاج أحداً ولا يشترينا أحد. إنها لنا وليس من حقها أن تكون لغيرنا حتى لو كان الثمن مال الدنيا كله.
تحركت ناديا وتمطت متنحنحة بخفوت. فتح عينيه نصف فتحة وتابع باستمتاع حركة ردفيها الرشيقة وهي تنهض وتنساب إلى البلكون. لم يبق في الغرفة إلا عطاف ومريم. الاولى ما تزال سادرة في شرودها والثانية انتظم شخيرها الخافت. استوى في جلسته ثم سأل عطاف عن نضال ويوسف. لوت شفتها دلالة جهلها:
-وماذا الآن؟.
لم يكن في مزاج لقول أي شيء حول الموضوع. إذ ظل صامتاً أردفت برجاء:
-الماما في وضع صعب يا غسان فلا تكن قاسياً عليها....
هز رأسه دون معنى وخرج إلى البلكون. امتعض إذ لم يجد ناديا فجلس على الأرجوحة. ألاّ يقسو؟ عليه أن يقسو قبل أن يضيع كل شيء... لو أنه قسا يومذاك لربما كانت أعادت النظر في الأمر. لكنه سكت مكتفياً بلوك أفكاره الخرساء مقهوراً. ابتسمت بحبور معتبرة صمته دليل رضاه. حين رحلت وهدأ غليانه بعض الشيء حاول قسر نفسه على تقبل الأمر والتأقلم مع ما لا بد منه. ارتمى، وقد فاض المال في يده في مناشط وجدها تنسجم وظروفه الجديدة. أهمل دراسته وعاش على مزاجه مراهقاً متلافاً يلهث وراء المتع والملذات والموبقات. لكن كل ذلك لم ينفعه كثيراً. ما إن يعود إلى البيت الخالي منها حتى يصيبه هياج مجنون وهو يتخيلها تتمرغ عارية في أحضان أكرم الفاسقة مثل أية ***** رخيصة يشتريها بحفنة نقود، فلا يجد أمامه إلا نضال ومريم يفش حنقه فيهما. كان تحمسهما لزواجها وابتهاجهما بعطايا أكرم وهداياه يثيران حنقه ويدفعانه إلى معاملتهما بلؤم وقسوة. تحملته مريم بصبر عجيب لكنها فقدت ذات يوم أعصابها حين ضرب نضال بقسوة لتجاسره على توجيه ملاحظة جارحة له، فانفجرت تلعنه وتعنفه وتهدّده بالاتصال بأمه لتأتي وتضع حداً له. طاش صوابه لتطاولها عليه وقذفها بإبريق زجاجي أصابها في رأسها وأفقدها وعيها. انتابه الرعب وهو يرى الدماء تنبجس من جبينها بغزارة فسارع يغادر البيت لا يلوي على شيء معتقداً أنه قتلها. هام على وجهه حتى الصباح وهو فريسة للقلق والندم والخوف. حين هدّه التعب وامتلكه اليأس لم يجد بداً من طرق باب بيت ابراهيم. استقبله بحرارة وأصغى إليه بتفهم دون كلمة لوم واحدة. طمأنه مازحاً أن مريم شيطانة ولن يقتلها شيء... وكان محقاً... رجع إلى البيت حيث وجد أن إصابتها اقتصرت على جرح سطحي عالجته بثلاث قطب في مستوصف الحي. اعتذر منها ووعدها باصلاح سلوكه ولكنه فشل. وكان لا بد أن تصل كل هذه الأحداث إلى مسامع أمه، وأن تحضر خصيصاً إلى عمان "لمناقشته الحسابوإعادته إلى الطريق القويم.." قالت له إنه خيب أملها في أن يكون رجل البيت، وما هو إلا غلام طائش تكاد تفقد كل آمالها فيه. فقد أعصابه وقال دون تفكير أنه لومارس دوره كرجل البيت لما كان سمح لها ببيع نفسها لأكرم النحاس ولظلت امرأة محترمة وأماً فاضلة!..
مايزال حتى الآن يحس طعم صفعتها المدوية فيلتهب وجهه ويرتجف مقروراً يسحقه إحساس ممض بالإثم والخزي. طردته من حضرتها قائلة إنها لا تريد أن تراه ثانية أبداً. خطر له أن يلم أغراضه ويغادر البيت نهائياً، لكنه وجد الفكرة، حين هدأ قليلاً، مغامرة غير مأمونة العواقب. فهو المخطئ في حق أمه أولاً ولا يملك من المال إلا ما يكفيه لأيام معدودة ثانياً والمغادرة في مثل هذا الظرف تعني ألا يعود ثانية أبداً. فبقي لكنه تجنبها طيلة الأسبوع الذي أمضته في عمان. صار ينسل من البيت في الصباح الباكر ولا يرجع إلا في ساعة متأخرة من الليل. حين جاءته مريم عشية سفر أمه ترجوه إصلاح الأمور أدرك أنها هي التي أرسلتها رغم إنكار مريم الشديد. قالت له إن تصرفه لا يصدر إلا عن ابن قسا قلبه وتحجرت عواطفه. كررت معزوفتها التقليدية عن تاريخ أمه المجيد وتضحياتها الكبيرة من أجلهم منذ وفاة أبيه وحتى زواجها من أكرم. قالت إنه لا يحق لأحد أن يلومها ويحاسبها إلا إن كان ابناً عاقاً، مثله، أو رجلاً مأفوناً حاقداً كابراهيم. حدق إليها بذهول وقد فاجأته إشارتها إلى ابراهيم. تأكد أن مريم. الأبعد ما تكون عن الذكاء، إنما تنطق بلسان أمه.
لا يستطيع إنكار وقوعه تحت تأثير إبراهيم الكبير آنذاك. كان يراه على العكس من أمه المتحفظة ومريم المعادية، رجلاً رائع الشمائل يجمع إلى رتبته العسكرية الرفيعة الظرف والثقافة والكياسة واللطف. فكن له احتراماً وودا عميقين واعتبره، ولا سيما بعد حادثة مريم، مثلاً أعلى يحتذى. وتوطدت منذئذ علاقتهما رغم ما بينهما من فوارق عمرية وعقلية ومعرفية. لم ينس أبداً فضل الرجل عليهم أيام محنتهم وشهامته في استضافتهم عامين عاملهم خلالها كأنهم أفراد أسرته لا مجرد أشخاص تربطه بهم صلة قرابة بعيدة. حين تلقى برقية أمه تبلغه باختضار أكرم وتطلب منه موافاتها إلى مرسيليا وقع في حيرة. قرر في البدء تجاهل دعوتها قائلاً لنفسه إنها مثلما بدأت نزوتها وحدها عليها أن تنهيها وحدها. لكنه سرعان ما اكتشف أنه لا يستطيع أخذ الأمر بمثل هذه الرعونة. فهي رغم كل شيء أمه، والمحتضر زوجها وولي نعمته أحب ذلك أم كره. ولو لم تكن في حاجة ماسة إلى من يقف بجانبها في هذا الظرف لما استدعته. حين ضاقت السبل أمامه وشعر بحاجته إلى ناصح لجأ إلى إبراهيم. أنبه هذا بشدة على موقفه المفتقر إلى الحد الأدنى من اللياقة والإحساس بالواجب. قال إن عواطف لا تستحق أبداً هذه القسوة. وهي لو أرسلت وراءه لضرب صفحاً عن كل ما مضى وهرول إليها ليقف بجانبها:
-لا يحق لك إدانتها. إنها امرأة عظيمة مهما فعلت، وهي لم تخطئ في حقك أو حق أخيك وأختك...
بعد يومين طار إلى فرنسا ووقف إلى جانبها في حزنها. لكن الشرخ كان قد فعل فعله بينهما. انتظمت علاقتهما منذئذ على أسس يغلب عليها التكلف والتحفظ، لا سيما وهي تندمج في شخصية الأرملة الحسناء الثرية مالكة شركة القدس التجارية. طمح إلى أن يكون له دور في إدارة الشركة لكن يفاعته وجهله بالأعمال التجارية حالا، مؤقتاً، دون ذلك. ويبدو أنها أدركت رغبته فحرصت، وكأنها تحاول إعادة الروح إلى علاقتهما، على استشارته في كل كبيرة وصغيرة موحية إليه بأنها تضع فيه كل ثقتها. حين ناقشته في حاجتها إلى رجل أهل للثقة اقترح عليها إبراهيم نصار. ابتسمت بارتباك قبل أن تقول إنها تفضل العمل مع شخص آخر بمنأى عن العلاقة الشائكة بينها وبين إبراهيم. أجابها بأنه لا يرى من هو أوثق وأقدر منه على إدارة الشركة.
زارته في منزله بعد أيام واضعة حداً لقطيعة استمرت أكثر من أربع سنوات لقي استقبلها كملكة نزلت عليه دون ميعاد. وافق على عرضها بغبطة طفل لقى القمر في سريره. حين حاولت زوجته كبح جماحه بالقول إن عليه التفكير ملياً في الموضوع رد بحزم لم يخل من جفاء أنه يتطلع إلى مثل هذا العمل منذ ترك الجيش، ثم أنه لا يستطيع رفض طلب لعواطف، ابنة عمه رياض بشارة!.
سكتت زوجته على مضض وقد تعكر وجهها ومزاجها وكأنها أحست بالخطر القادم...ولم تتحرج أمه عن القول باستهجان ما إن خرجا من بيت إبراهيم:
-ماذا رأى في تلك اللعبة البلهاء ولماذا اختارها صغيرة إلى هذا الحد؟.
أدارت السيارة ثم غمغمت:
-لم أتصور أن يكون بمثل هذه الحماقة ليتزوج طفلة. قد يتمتع بها فترة، لكني أراهن أن زواجهما لن يستمر طويلاً.
لم يعرف إن كانت أمه لعبت دوراً مباشراً، إضافة إلى دورها غير المباشر، في تدمير حياة إبراهيم الزوجية. راقب بأسف تخلي إبراهيم عن زوجته وطفلته دون مبالاة وانصرافه بكليته إلى الشركة -عواطف باذلاً جهداً جباراً لجعلها واحدة من أبرز وأنجح الشركات في ميدانها.
-في أسوأ أيام الحصار ما بدا عليك الهم مثل اليوم ؟
لم يستوعب كلام يوسف إلا بعد أن كرره... أفسح له ليجلس بجانبه قبل أن يقول بسخرية مخفضاً صوته إلى درجة الهمس:
-رحم الله بيروت وأيامها. على الأقل كنا نعرف أين نحن وماذا يحدث.
-لهذا كنا نرفض الزوغان في الغارات؟.
-كنا مطمئنين إلى أن ساعتنا لم تحن بعد.!
-وحتى لو حانت فالموت في العراء على وجه الأرض...
-أفضل من الموت كالجرذان تحت الأنقاض..
-كنا نموت خوفاً من أن تكون نهايتنا كهؤلاء التعساء الذين كنا نتقيأ ونحن نسحب بقاياهم.
-الموت الرحيم في أحضان عفاف..
ضربا كفيّ بعضهما بعضاً ثم ضحكا بمرح قبل أن يقول يوسف بلهجته البيروتية:
-سقا الله تلك الأيام! أين يمكن أن تعثر اليوم على نساء مثل عليا ورسمية وميرفت وأم وصفي والحيفاوية وتيريز والأميرة زينة وكتكوت؟..
-رغم كل الموت والعذاب كنت تلقى من يقدم لك لحظة حب حقيقية تنسى معها الحرب والموت والعذاب.
-إن لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت بتولا؟ لماذا لم نظل شبانا عابثين عبثيين مجانين نعيش ليومنا فقط
-لأن عصر الجنون انتهى وبدأ عصر اللاجنون. أتعيد الكرة لو أن الحرب نشبت الآن!
حدق إليه يوسف بإمعان ثم قال بسخرية:
-كفاني ما نلته. منذ وعيت وأنا أخوض حروبي وحروب الآخرين. ألم تقل إننا صرنا في عصر اللاجنون؟ اعقل إذن واترك الجنون لغيرك. لا. لن أعيدها. وأنت؟
أشعل غسان القداحة التي وجدها على الأرجوحة فشع وجهه للحظات مكفهرا مقطباً ثم ذاب في العتمة وهو يقول بكآبة:
-ولم لا أفعل؟ الهيئة أنني ما أزال أفضل عصر الجنون. أحس أحياناً بالقرف إلى درجة التفكير في التخلي عن كل شيء والرحيل بحثاً عن... لا أعرف ماذا.
-ماذا يقرفك؟
أشعل غسان القداحة وتفرس في يوسف:
-أتساءل أحياناً إن كنت ذهبت إلى بيروت فعلاً أم ما كان الأمر إلا وهماً!.
نفخ يوسف على النار فانطفأت قبل أن يقول بثقة:
-وهم. هذا هو القرف!.
-المسيح قام من بين الأموات. الأب والابن والروح القدس. الحب والحرب والموت. الأقانيم الثلاثة. أحبوا بعضكم بعضاً. اكرهوا بعضكم بعضاً. العين بالوجه والسن بالفم - ماذا تقول لو جاءك الآن من يقول أن أباك قام من بين الأموات؟.
مرت فترة صمت طويلة قبل أن يرد يوسف بسخرية:
- جنون مطبق. مات أبي وأنا في العشرين من عمري في معركة تل الزعتر ودفنته بيدي في بستان قريب مع عدة جثث أخرى. لا مجال لمثل هذا الاحتمال بالنسبة لي على الأقل؟.
- وبالنسبة لي؟.
سأل غسان بخواء. أطرق يوسف ثم قال برفق:
-ليس مستحيلاً. لكن العقدة هي فقدان الذاكرة. لا أستطيع هضم فكرة أن يعيش هذا الرجل حياته الطبيعية باسم وشخصية إنسان آخر بكل هذه البساطة... لكن كما قلت إنه عصر اللاجنون، حيث كل شيء ممكن. ولا أخفيك أنني أشعر بالتعاطف مع أمك. سواء كانت بكامل قواها العقلية أو تعاني من حالة هوس جعلتها تتخيل زوجها الراحل في صورة هذا العامر كمال، وسواء كانت مصيبة أو مخطئة، فإنني معجب بعنادها وتصميمها على القتال حتى الرمق الأخير من أجل ما تؤمن به.
-وهذه هي العقدة الأصعب!.
فاجأهما نضال بتعليقه الساخر وهو يسد باب الشرفة بجسده رافعاً يديه إلى أقصاهما. لم يتمكنا من رؤية ملامحه لكن لهجته النزقة نمت عن غير قليل من العصبية. زفر بعمق وأسبل يديه بتثاقل:
-استمعت إلى نتف من حديثكما. كل شيء ممكن في عصر اللاجنون.... جميل!. إما هو طارق مناف وإما عامر كمال. الأول أبونا الميت من عشرين سنة والثاني رجل غريب لا تجمعنا به صلة ومع ذلك اقتحم حياتنا كالإعصار ليخرب طمأنينتنا ويدمر استقرارنا. إن كان أبي كما تؤكد أمي فعلينا الرضوخ للأمر وتحمل عواقبه مهما كانت، نحن وهو ..سيكون عاراً علينا أن نتجاهله وكأنه غير موجود. وإذا أضفنا إلى أمي مريم وإبراهيم والوقائع المتوفرة فإنني أرى أن الكفة تميل لصالح إنه طارق مناف.
نفخ غسان من منخره وقال بتهكم:
-لست مجبراً على تصديق مزاعمهم والانسياق وراء هلوساتهم. قد يكونون مجرد ثلاثة حمقى وقعوا تحت تأثير فكرة غيبية شيطانية.
-لا أعتقد أنهم حمقى. ومن الممكن أنه طارق.
ضرب غسان عمود الارجوحة وزمجر:
- لا تكن غبياً يا أخي الصغير!
سارع يوسف يتدخل قائلاً بحدة:
-لا داعي للمهاترات المسألة لا تحل بالمناكدات وكل واحد حر في رأيه.
-كلام جميل شرط أن يلتزم به شقيقي الكبير. إنه مصمم على أن هذا الرجل ليس طارق مناف، وحتى إن كان طارق فالأمر لا يعنينا. صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل. لنحاول على الأقل من أجل خاطر ماما. إن كان طارق فمن حقها أن تواجهه بالحقيقة وإلا ليرح كل واحد في حال سبيله!.
نهض غسان وقال بهدوء موجهاً حديثه إلى يوسف قبل أن يستدير نحو أخيه:
-تحدثنا بما يكفي حول هذا الموضوع. أنا أرفض بشكل مطلق أن أربط مصيري ومصير أسرتي بقرار هذا الرجل. ماذا يضمن لي أنه لن يطلع نصاباً افاقاً يستغل الفرصة ليزعم أنه طارق الفاقد الذاكرة فيبتزها ويبتزنا معها! حتى الآن لم تصل إلى نتيجة حاسمة وإذ بها تقع في شراكه وتعرض عليه أهم مناصب الشركة وأعلاها أجراً. أنا رجل الأسرة ومن واجبي تحمل مسؤولياتي والتصرف بما تمليه عليّ مصلحتنا بمنأى عن افتراضات خيالية تزعم أن سين من الناس قد يكون أبي الميت من عشرين سنة. إن كنت مخطئاً صححا لي!.
سيطر صمت عميق بحيث بدا أن حجج غسان أفحمت نضال. لكن هذا الأخير لم يستسلم بسهولة. همهم ثم قال بهدوء وكأنه يتجنب استفزاز أخيه:
-أنت محق شرط أن تكون شكوكك في الرجل صحيحة، لكنك تقترف خطأ كبيراً إن لم تكن، وفي هذه الحالة سنتحمل وزر خطأ قد لا نغفره لأنفسنا أبداً.
-إن كان هذا ما يقلقك فإنني مستعد لتحمل الوزر وحدي. لتقع اللعنة عليّ وعلى أبنائي من بعدي لنكراني أبي، إن كان أبي، وعيشوا أنتم وأبناؤكم مرتاحي البال مطمئني الخاطر!.
أنهى كلامه بسخرية لكنه سرعان ما استدرك بصرامة.
-لن أغفر لنفسي أبداً أن نتورط في خطأ يجعلنا نأكل أصابعنا ندماً...
-ماذا تريد إذن؟.
سأل نضال ببرود وقد بدا عليه أنه رضخ لمنطق أخيه. ابتسم هذا بانتصار وقال برفق:
-لا أريد سوى خيرنا ومصلحتنا. ليس هناك ما يمنعنا من التحقيق في الأمر بترو وهدوء وعقل. وحين نصل إلى اليقين المطلق يصبح لكل حادث حديث. أما الآن فلنواصل حياتنا نحن وهو بهدوء.
-يبدو أن اجتماع القمة انتهى!.
قاطعهما يوسف وهو ينحني شاخصاً إلى إبراهيم الذي حمل حقيبته السامسونايت وراح يقطع ممر الحديقة بسرعة. ناداه غسان عدة مرات لكنه واصل مسيره دون أن يلتفت. تبادل الثلاثة النظرات الحيرى التي سرعان ما قطعها لغط صاخب اختلط فيه الصياح باللعنات.
هرولوا إلى الصالون ففاجأهم منظر عواطف التي بدت في أقصى درجات الهياج والغضب وهي تدمدم ملوّحة برزمة الأوراق:
-الوغد... الحقير... السافل..

 
 

 

عرض البوم صور تمارااا   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الخاص, العاصفة, الكاتب انيس خوري, انيس, حصاد, حصاد العاصفة للكاتب:الياس انيس خوري, حصاد العاصفة الياس انيس خوري, دوري, روايه حصاد العاصفه
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t108640.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 17-01-10 03:33 PM


الساعة الآن 03:25 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية