وتساءلت مارتينا , أهذه هي عادته دائماً أم انه يتجنب قاعة الجلوس منذ جاءت هي إلى البيت . كي لا يلتقي بها ؟ لكنها احسمت الأمر بأن هذا ليس من شأنها ما دام هو لا يقلق راحتها .
ذهبت في صباح احد الايام إلى غرفة تيفولا , بعد الإفطار , لتبدأ عملها . لكنه اخبرها انه لا يحتاج اليوم . لأن الطبيب قادم بعد قليل لإجراء الفحوص له .
نظر إليها وقال " انت متعبة من العمل, اذهبي اليوم في نزهة قصيرة , خاصة ان الجو صحو, ولا أثر للمطر"
وحين غادرت الغرفة , صاح من وراءها " ابقي بعيدة عن البحر , لأن الأمواج قوية وهائجة "
ذهبت إلى غرفتها واخذت دفتراً للرسم وعلبة اقلام وكانت انيز هناك ترتب الغرفة , فقالت لها " ما دمت تذهبين إلى الخارج , اجلبي معك عدد من البيض إذا ما ممرت قريباً من حقل السيدة هاريك "
غمرت مارتينا سعادة كبيرة ومفاجئة حين اصبحت خارج البيت, وكأنها تلميذة صغيرة اطلقوها من المدرسة فجأة .ريحانة
ولم يخامرها هذا الشعور لأنها كانت تكره العمل مع تيفولا بل العكس, كانت سعيدة معه , لكنها رأت نفسها وحدها لأول مرة منذ ان جاءت إلى تريفينون , وفي هذا سعادة كبرى لها .منتديات ليلاس
اتخذت طريقها إلى ناحية البحر مسترشدة بهدير الأمواج, وكانت الرياح قوية , تنشر شعرها على وجهها , وحين وصلت إلى المرتفعات الصخرية المطلة على البحر , شاهدت الأمواج الهائجة وهي تصطدم بالصخور محدثة هديراً عنيفاً وتارة كمية هائلة من الرذاذ الأبيض.
تأملت البحر طويلاً, وبالرغم من سعادتها بذلك, إلا انها احست بخيبة أمل حين لم تلمح أي أثر للمحاربات, تلك الحيوانات البحرية الرمادية اللون . لكنها تذكرت ان هذه الحيوانات ستعود إلى هنا مع مطلع الايام القادمة . لكن هل ستكون هي نفسها في ذلك الوقت هنا ؟

مشت طويلاً فوق تلك الصخور العالية وهي تتأمل فيما حولها . وبالرغم من انها عاشت سنوات طويلة في الريف إلا انها احست هنا برهبة وخوف يسريان إلى قلبها , ومن الوحدة تحت هذه السماء الشاسعة , والصخور والبحر وهدير الأمواج . وجلست بجانب صخرة كبيرة تستطيع الاحتماء بها من الريح , وهيأت دفترها واقلامها وبدأت في تخطيط بيوت فينور وبقايا المنجم. لكن الريح الشديدة كانت تعصف بها وتوشك ان تمزق اوراق الدفتر , وهي تفكر إلى اين ستنتهي حياتها وإلى متى ستبقى في تريفينون بعد فترة قصيرة انتابها الضجر . فمزقت الورقة والقتها للريح ونهضت لتذهب إلى حقل السيدة هاريك لتأخذ البيض وتعود إلى البيت . لم تكن تعرف الطريق إلى الحقل, فقررت الوصول إلى الطريق الرئيسي اولاً . وبينما هي تسير سمعت صوت محرك سيارة من خلفها فانسحبت إلى جانب الطريق, ولكن المنبه لم يكف بالرغم من وجود مكان كاف لعبور السيارة تماماً. كانت سيارة مارك فهتف بها وهو يلوح لها بيده " اهلاً , هل استمتعت بوقتك ؟ هيا , سوصلك إلى حيث تريدين "
بعد تردد قصير اجابته , وهي تفتح باب السيارة وتصعد " إنني ذاهبة إلى حقل السيدة هاريك لأخذ كمية من البيض طلبتها انيز"
" حسناً, سآخذك إلى هناك"
بعد دقائق من الصمت سألها مارك ثانية وهو يضحك " كيف يسير العمل في مشروع الكتاب؟"
" ببطء , ما زال أمامنا الكثير من العمل"
" اوه , هذا مؤسف "
اجابته بعد ان تأملته طويلاً , وهي تبتسم " لماذا ؟ لأنه يعني انني سأبقى في بيتكم مدة أطول؟"
" يا إلهي , كلا لا أعني هذا ".منتديات ليلاس
" ماذا تعني إذن ؟"
" أعني ان عمي رجل مريض, ولا نريد ان يرهق نفسه كثيراً حتى لا تنتهك صحته , بالرغم من انه يشعر بتحسن كبير هذه الأيام ونحن نشكرك على ذلك"

" نحن ؟" سألت بدهشة وهي ما تزال تبتسم.
" بالطبع حتى دومنيك , كان إعتراضه على بقائك في البداية هو لخشيته من ان تسبب رؤيته لك صدمة اخرى لك لكن النتيجة جاءت عكس ذلك تماماً"
" لكن دومنيك لم يغير من موقفه حتى الآن "
" تعرفين ان احزان واحقاد كل تلك السنين لا يمكن ان تتلاشى خلال ايام"
لم تجبه مارتينا . وظل هو ايضاً صامتاً حتى وصلا إلى مفترق طريق. فأوقف السيارة واشار إلى طريق الحقل قائلاً " ذاك هو حقل السيدة هاريك, اسألي السيدة حتى تدلك عليه "
اخذت مارتينا البيض, وحين استفسرت السيدة هاريك عن سبب وجودها المفاجئ في تريفينون اعتذرت لكونها يجب ان تسرع في العودة لأن انيز تنتظرها وودعتها بعد ان شرحت لها الطريق المختصر إلى تريفينون. وقريباً من البيت تسلقت حائطاً صغيراً ودخلت إلى باحة كبيرة كان عليها ان تجتازه قبل الوصول إلى البيت .
كانت هذه الباحة جزء من بناء قديم ملحق بالبيت الكبير يحوي مخزن الغلال وادوات الفلاحة التي تعود الى انيزة واصطبلات كانت تستعمل ايام كانت تريفينون مزدهرة , هناك سمعت صوت كلب يقترب منها , فانتابها الخوف, رغم انها كانت تحب الكلاب منذ الصغر , وهرعت إلى البناية القديمة . لكن الكلب تبعها إلى هناك ووجدت نفسها في غرفة واسعة ومظلمة بعض الشيء , فيها معاول وفؤوس وكميات كبيرة من الحطب والقش.منتديات ليلاس
كما شاهدت سلماً خشبياً يقود إلى مخزن علوي . فتسلقت السلم حتى تكون في أمان أكثر هناك . دخل الكلب وراءها وظل عند اسفل السلم ينبح ويقفز , محاولاً الوصول إليها .
كان احد الكلبين اللذين اعترضاها في الليلة التي جاءت فيها إلى تريفينون غير انها منذ ذلك اليوم لم تشاهدهما . وحين سألت انيز عنهما اجابتها انهما غالباً ما يمكثان خارج البيت في البناية الملحقة.منتديات ليلاس

ظلت مارتينا محبوسة في المخزن العلوي فترة طويلة من الزمن وقد جمدت من الخوف, لا تدري ماذا تفعل ولا كيف تبعد الكلب عنها . فكرت انه ربما دومنيك هو الذي علم الكلب على معاداتها , لكنها سرعان ما سخرت من اوهامها .
هدأ الكلب , حين سمعت صوت اقدام قادمة في الباحة فهتفت مارتينا من مكانها متوسلة , قبل ان يبتعد العابر من الغرفة .
" من فضلك , هل تبعد هذا الكلب عني ؟ إنني خائفة "
توقف العابر للحظة , ثم جاء صوت اقدامه وهو يقترب من الغرفة . ظن انه زاك يقوم بعمله هنا . لكن سرعان ما التقت عيناها دومنيك حين دخل إلى الغرفة صاح " يا إلهي , ماذا تفعلين هنا ؟"
" هربت من كلبك"
" انت مجنونة ! ألا تعرفين انه لا يؤذيك"
" إبعد عن السلم , حتى أنزل ..."
"هيا , هيا انزلي , لا تخافي"
قعد الكلب عند ساقي دومنيك , وراح يتمسح به محركاً ذيله اما مارتينا فقد بدأت في النزول . غير ان قدمها انزلقت في منتصف السلم, فأطلقت صرخة قوية وافلتت البيض من يدها, لكن يداً قوية امسكتها من خاصرتها وانزلتها على الأرض.منتديات ليلاس
كانت ترتعش من الخوف والإنفعال وقد إمتلأت عيناها بالدموع .
قال دومنيك لها ساخراً " ماذا كنت تفعلين ؟ تستكشفين خفايا تريفينون ؟"
حدقت مارتينا في وجهه بغضب, تمنت لو ان علبة البيض ما تزال في يدها , لتضرب بها وجهه, ثم اجابته بصوت مرتعش" كلا , كنت اجلب البيض لأنيز من حقل السيدة هاريك"

انتبهت فجأة انه ما يزال يمسكها من خاصرتها فأحست بالحرارة إلى وجهها , وقالت وهي تبتسم من بين دموعها " إن كلبك يكرهني "
" ما زلت غريبة عليه , سيعتاد عليك بمرور الزمن "
" انت تكرهني ايضاً والكلب يحس بذلك"
" اهكذا حقاً ؟" قال مبتسماً وسحبها نحوه واقترب بوجهه من وجهها فأصابها الذعر وحاولت ان تفلت من بين يديه , لكن بدون جدوى , وقالت وهي ترتجف بعد ان تخلص منها .منتديات ليلاسمنتديات ليلاس
" ما كنت اظن ان هناك ذئاباً مع الكلاب في هذا البيت "
" ألا تتذكرين انك تمنيت ان يقع ملك كورنوول في هواك ؟ ها هي أمنيتك تتحقق"
" لكني أكرهك , ولا أود رؤيتك "
تبسم دومنيك وقال وهو يتأمل وجهها مبتسماً "اظن انك تعلمت من تاريخ عائلتنا , انه إذا ما احببنا شخصاً نظل اوفياء له "
" من الأفضل ان توفر عواطفك لأمرأة اخرى "
خيم الصمت عليهما , وكانا لا يزالان يقفان في مكانهما بدون حركة . وحين طال الصمت سألت نفسها . لماذا امكث معه في هذه الغرفة المظلمة ؟
" من فضلك لو شرحت لأنيز ما حل بالبيض "
" بل سأذهب إلى البقالة واجلب غيره "
" شكراً" اجابته وتركت الغرفة. كان الجو بارداً في الخارج فرفعت ياقة سترتها حتى تغطي رقبتها اتقاء للريح الباردة .واحست بحقيقة مرة تستقر في اعماقها شيئاً فشيئاً , هي انه ليس شيء يبقيها في تريفينون سوى حب دومنيك!

نهاية الفصل