بسم الله الرحمن الرحيم
البارت السابع والعشرون
,
,
المملكة العربية السعودية – حائل
الخامسة مساءً
دخلا الى المنزل ليقول يوسف بابتسامة
: الحمد لله على السلامة , نوّرت بيتك
ابتسم وسار بجواره
تأوّه ومال بجسده الى الوراء وهو يمسّد على ظهره
لمحها تختفي بسرعة خلف ستار غرفتها
حينها تحوّلت ملامحه الى الجديّة
قال
: يوسف تعال غرفتي ابي أكلمك بموضوع
دخلا الى الغرفة ليقول يوسف
: آمر
جلس أمامه وقال
: ما يامر عليك ظالم , انا ابي أطلع لشقة بروحي
قال يوسف وقد بدأ يغضب
: وراه ؟ أحدٍ مضايقك ! عيّنت شي ما عجبك هنيا ؟
أمسك بيدِه وهو يقول بهدوء
: اسمعني , انت عندك حريم , وانا رجال عزوبي , في حرج علي أدخل واطلع وهم بتتقيد حريتهم في بيتهم
نهض يوسف وقال بحدة
: لا تفتح لي ذي السالفة مرةٍ ثانية
نهض عمر وقال بجديّة
: انا ما اقدر اجلس في بيتك , انت مو غشيم كم مرة صار تصادم بيني وبين حريمك
التفت اليه يوسف وعينيه تكادان تُحرقان عمر من الغضب
لم ينبس ببنت شفة
خرج مغلقًا الباب بقوةٍ وراءه
زفر عمر وجلس وهو يضع كفّه على رأسه
استغفر الله بهمس ونهض ليستخير في أمرِ خروجه من المنزل
ولو اضطر الى الشجار مع يوسف !
,
,
" الرياض
1431هـ
التفتت الى ابنتها والدمعُ في عينيها
قالت بتأثر
: الف مبروك يا روحي
ابتسمت بخجل وعانقت والدتها
حينها دخل والدها مبتسمًا بكلِّ ما في العالم من حنان
عانقها وقال ببحة
: ايييه , كبرت بنيتي وصارت عروس
ابتسمت وهي تُخبئ وجهها في كتفه
جاء أحد أشقائها وقال بعجلة
: يبه الشيخ بيخطب – نظر اليها مبتسمًا – شوي ونجي نبارك لك بس يروحون
ضحكت وخرج والدها الى ضيوفه
مرّت ساعةٌ ونصف ليذهب الضيوف
ثم دخل أخوتها ووالدها
باركوا لها
وجلسوا جميعًا حتى ساعةٍ مُتأخرةٍ من الليل معها
,
لتمرّ الأيام , على عقدِ قرانها
وتسمو علاقتها بابنِ عمها , خطيبها !
حتى مرت ثلاثةُ أشهر , من أجمل أيامها معه
,
في منزلها , كانت أسرةُ عمّها في ضيافتهم
غمزت لها احدى بناتِ عمّها
: اييه تطورنا وصرنا نجي البيت , ما انتظرتوا لين الزواج !
قالت مستغربة
: ما فهمت !
قالت زوجةُ عمها بضحكة
: الّا فهمتي , عادي لا تستحين انا ام زوجك وهذولا خواته
ابتسمت بذهول
: والله مو فاهمة وش تقولون
ضحكت احدى بناتِ عمّها
: اييه ما عليه , يقولون والعهدة على الراوي انّك قبل يومين كنتي مع جاسم في غرفته
ثم انفجرن ضاحكات
قالت زوجةُ عمّها
: الراوي خواتها , الرائي اللي شافك وانتي داخلة وانتي طالعة انا
فتحت عينيها بصدمة
شعرت بالدماءِ تفور في قلبها
سينفجر الآن لا محالة
شعرت بأنّ عينيها تُحرقانها قهرًا وغبنة
دخلت فتاةٌ الى غرفته !
ثم قال بأنّها هي !
كيف !
أيعقلُ أن تصل بِه الشناعةُ الى هذا الحد !
حينها سمعت صوتَ والدتها قريبًا
استعادت رباطةَ جأشها
ان كان حقيرًا ستكونُ أحقر
ابتسمت متصنعةً الخجل
ثم همست
: لا تقولون لأمي
ابتسمن وغمزن بتفاهة
دخلت والدتها وانضمت اليهن
مرّ الوقت بطيئًا على نفسها
وهي تتآكل حزنًا
ذهبوا أخيرًا عائلةُ عمّها
صعدت الى غرفة والدتها
طرقت الباب ودخلت
رفع والدها النظارةَ عن عينه ومدّ لها بذراعه
: تعالي بابا , اليوم كلمني عمّك في موعد العرس يقول يبونه بعد شهر او شهر وعشر أيام
جلست بجوار والدها ومقلتيها ملتهبتان من حبسها لدمعها
قالت والدتها باستغراب
: وش فيك
التفتت الى والدتها لتقول الأخيرةُ بقلق
: وش فيك ! وش صاير لك ؟
قالت بعبرةٍ مُختنقة
: ابي أخلع جاسم
شهقا والديها بصدمة
اعتدلَ والدها في جلسته وقال بجديّة
: وش صاير ؟
لم تستطع الضغط على نفسها أكثر
شهقت بحدة وهي ترمي بجسدها الصغير في حضنِ والدها
: يباااا يــبــاا , جايب وحدة لبيت عمي ومسوي بلاه معاها وقال لهم انّها انا , يبه خانّي وشوّه سمعتي , كسرنننيييي يبااا كسسسرنييي , قهرننني يباا الله يقهره
شهقت والدتها وتراجعت بغير تصديق
أما والدها , فأغمض عينيه بقوة , وقلبه ينقبض حتى صعُبَ عليه التنفس
قالت والدتها هامسةً بحرقة
: من قال لك !
شهقت بالبكاء وهي تقول
: عمتي وبناتها , آآآه يا يبه أرخص في بنتك , أرخصها يباا
ضمها والدها أكثر ثم قال بتعب وغصة
: والله ما عاش من يرخصك , والله لا أقهره مثل ما قهرك
ظلّت تبكي على صدرِ والدها حتى غفَت عينيها
حملها والدها وأراحها على السرير
نهض بقوة وفتح صندوقًا قد ادخرَ فيه المال منذُ زمن
أخرجه والتفت الى زوجته بجديّة
: كم عندك فلوس ؟
قالت ببحةٍ من بكائها
: يمكن عشرة
: هاتيهم
ضمّ ما مع زوجته الى ما معه وعدّه
أعاد لها سبعةَ آلاف ونهض بتعب
: هذا مهره , الله لا يوفقه ولا يفتحها بوجهه الخسيس
سمعا أنينها
ليقتربا منها
قالت بتعب
: يمه
طبطبت والدتها عليها
: يا عيون أمك
: اخواني لا يدرون , الموضوع بيني وبينكم لاحد يدري , تكفون
قبّل والدها رأسها وهو يقول بحسرة
: لا تخافين بابا
في اليوم التالي تقدمَ والدها بطلب الخلع الى المحكمة
وانتظروا اسبوعان , ليتمَ استدعاء كلا الطرفين
كان جاسم ووالده مستغربيْن
وقفوا بين يدي القاضي
ليقول
: من المتقدمة بالطلب ؟
قالت بثقةٍ كبيرة تستمدها من والدها الذي بجانبها
: انا
قال ابو جاسم مستغربًا
: محمد وش صاير ؟
لم يُجبه أخاه
قال القاضي
: وش السبب يا بنتي ؟
اختنقت ليشدّ والدها على يدها
قالت بقوة
: أكرهه , ما أطيقه بعيشة الله , مقرف كريه ! لمن أشوف أحس اني أشوف شيطان
استعاذ القاضي من الشيطان الرجيم وهو يشعرُ بالذهول
رمَى والدها المال عند رجلِ جاسم
: هذا مهرَه , نخلعه ونفتك
التفت جاسم ووالده بصدمةٍ عنيفة
قال ابو جاسم بعدم تصديق
: محمد وش فيه ! ليش تخلعه ؟؟ صاير شي ! نتفاهم عليه ليش بالمحاكم وخلع وقضية !!!
قال جاسم بجنون
: تخلعيني !
قالت بتقزز
: ايه , الحياة معك ما تنطاق !
صرخ بها
: طيب ليش ما طلبتي الطلاق ! ليش خُلع لــيــش !
قالت بانتقام
: مو انا اللي اطلب الطلاق , انا أكسرك وما أنكسر , انا أخلع ما أتطلق
حكمَ لها القاضي بالخلع
خلعته !
وعلِمَ الجميعُ بالأمر
لتُفاجأ بهجوم بنات عمّها وأعمامها جميعهم على منزلها
كانوا يصرخون ويشتمون
حتى قالت إحدى أخوات جاسم بغضب
: نامت معاه وشكله ما عجبها وتركته
صُدِمُوا من كلماتها ليسألوها عن السبب وتُخبرهم بكلِ بساطة
أغمضت عينيها وجلست أرضًا بتعب
كانوا يقفون في باحةِ المنزل ومعهم والدها وأشقاءها
وهي ووالدتها في المطبخ ويسمعن كلّ ما يحدث
ثاروا عليها
وقذفوها , ودنسوا عرضها بكلماتهم
حتى انهار الأب , وسقط بسكتةٍ قلبية لم يُفق من بعدها !
مرّ عامان من بعدِ وفاته
في كلِّ يومٍ يأتون فقط لضربها وشتمها وكيل اللعنات لها !
حتى جاء يوم تهجموا فيه كعادتهم
قال ابو جاسم وهو أكبرهم
: خلعتي جاسم لكن والله ما نهدّك , جهزي نفسك بكرة بنجيب المملك ويزوجك فارس
وكأنّ صاعقةً حلّت عليها
رفضت بجنون
ورفضَ أخوتها وقالوا بأنهم أولياءُ أمرها ولن يرضوا بذلك
ليأتيَ اليومُ الآخر ويُلقى القبضُ على اخوتها الثلاثة
وجاء عمها بضحكةٍ باردةٍ مستفزة
: اخوانك ودخلتهم السجن بطقة اصبع , لا تحسبين رفضهم بيمنعني
قالت برعبٍ على اخوتها
: خلاص طلعهم وبتزوج فارس
قال ببرود
: بكرة ؟
هزّت رأسها بطاعة
عادَ اخوتها للمنزل ليلًا وهم مكسوروا الخاطر
فارس زير النساء , شارب الخمر , أكثرُ رجلٌ عرفوه يتزوج سرًا ويُطلق , قبيح الخُلق , سليط اللسان , كيف تتزوجه !
بعد منتصف الليل
أوى الجميعُ الى فُرشهم
لتدخل والدتها الى غرفتها وتقول بهمس
: قومي , حجزت لك على الشرقية ومن الشرقية على دبي ومن دبي على المغرب ومن المغرب على باريس ومن باريس على لندن , ما بتقعدين هنا , هذولا ما في قلوبهم رحمة يزوجونك فارس بدم بارد وفارس ذا مو بعقله يمكن يشغلك بالدعارة , مو كافي من سنتين هم ما خلوا فيك عظم سليم , وكم مرة اشتكينا ولا فاد هذولا ما نقدر عليهم , كل اللي معي من ورث ابوك لي وورثه لك وورث ابوي لي بعطيه لك روحي وتصرفي , وطلعت جوال اكلمك فيه , بس لين يطيح اللي في راسهم وترجعين , لا تخافين
قالت برعب
: مستحيل ! ما اقدر اسافر بروحي شلون أدبر عمري
قالت والدتها بغضب
: بتدبرين عمرك , انتي مثل ابوك قوية وتتحملين , مو أحسن من تتزوجين هالوصخ ؟ لا خلقة ولا أخلاق ولا دين , حتى صلاة ما يصلي ! وسمعت والله أعلم فيه مرض من بلاويه السودا , بيصير هربك تهديد لهم , هم من نفسهم بيقولون خلاص ما نزوجها بس ترجع , وبترجعين
قالت بمحاولة
: ما اقدر اسافر بدون محرم
: ابوك كان حاسب حساب انّ بيصير شي , قبل لا يتوفى الله يرحمه وقع على موافقة انك تسافرين بدون محرم
: يمه حرام !
: الضرورات تبيح المحضورات
: واخواني ؟
: اخوانك ما بيدهم شي , ولا بأقول لهم شي , الموضوع بيني وبينك وبسس
نهضت تجر نفسها عنوة
وكأنها تُساق الى الموتِ سوقًا
كيف لمَن شاركوا والدها ذاتَ الحليب أن يكونوا بهذه القسوة !
كيف لأرواحهم أن تجلدَ روحها بسياطٍ من خيبة !
أنتم من أحببتكم دومًا
أنتم من كنتم لي آباءً آخرين , تشاركون أبي ابوّته لي
أعمامي !
هذا حملني وهذا أطعمني وهذا في العيدِ كساني
في حجر هذا غفت عيني وعلى كتفي ذاكَ جلست وتعلقت برقبة الثالث مرارًا
كيف تقتلون زهور المشاعر في قلبي لكم
وتُبدلوها بأشواكَ يابسة , مدببةُ الأطراف !
جهزت حقيبةً صغيرة وارتدت عباءتها
عند باب المنزل عانقتها والدتها بقوة وهي تُجبر نفسها ألّا تبكي
وكأنها تجبر رئتيها على التوقف عن التنفس
وتُجبر قلبها على التوقف عن الضخ
وتُجبرَ جوارحها على التوقف عن الاحساس
كأنها تقتل نفسها ببطئ , وهي تتركها ترحل
كانت قاب قوسين او أدنى لتتراجع عن قرارها
لكنّها مصرةٌ ألّا تتزوج ابنتها الطاهرة ذاكَ الفاسق
قالت باختناق
: استودعك الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك , الله يحفظك وييسر لك سُبل الخير ويعمي بصيرة كل ذي شر عنك , الله يكفيك شر من أراد بك شر , الله يحفظك , يارب اني استودعك بنتي فاحفظها بعينك التي لا تنام
بكت بضعف وهي تقول
: يمه ما ابي , ما اقدر
قالت والدتها بقوة
: والله ما تاخذين فارس , حتى لحم خنزير ماكل , يمكن لو تتزوجين كافر أهون منّه
خرجت لتجدَ سائق الأجرة ينتظرها
توجهت الى المطار وسافرت الى الشرقية
ومن الشرقية جالت برحلةٍ استمرت ثلاثة أيام عبر الطائرات لتصلَ الى لندن
حيثُ الغربة
حيثُ الوجع
حيثُ شعرت بأنها مشردة !
جابت طرقها الباردة
وفي عرائها المتجمدِ جلست
كم أوجعتها لندن وقسَت عليها , قبلَ أن تفتح لها أبوابها وتضمّها اليها !
,
زمجر بجنون
: وين راحت !
قال شقيقها الأكبر وهو يكاد يموت خوفًا على شقيقته الصغرى
: مــــا أدري والله ما أدري
سألوا والدتها لترد عليهم بصدمةٍ وجنون بأنها لا تعلم
هربت !
اذًا هربت بمفردها ولا يعلمون الى أين !
قال عمها بصوتٍ هادر
: أقسم بعزة جلال الله بس ألقاها انّي أسفك دمها , والله لا أغسل شرفنا اللي ضيعته
حينها أدركت والدتها أنّها قد فقدت ابنتها الى الأبد !
أرسلت لها أنّ عودتها مستحيلة
فهذا المجنون قد قتلَ ابنةَ عمٍ له سلفًا
قبلَ أعوامٍ طويلةٍ مضت
لأنها حسبَ قوله أضاعت شرفهم
فلن يتوانى أبدًا عن قتلِ ابنةِ أخيه بدمٍ بارد ! "
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
صرخ به بجنون
: وانت وش دخلك ؟ من سمح لك تتصرف من راسك !
ظلّ صامتًا ينظرُ اليه دون تعبير
صرخ به مجددًا
: وينه بأي مستشفى ؟
: ماني قايل لك , بعد اسبوع بيحقنونه , انا مؤمن بالقضاء والقدر , لو ربي أراد يقبض روحه قبضها وهو بحضن أمه , وان ما اراد ما بيقبضها لو انّه في غرفة العمليات ونسبة النجاح صفر , بيدنا دواء ليش ما نجربه , الطبيب يقول حالته حرجة وهذا الحل الوحيد
قال بغضبٍ وحرقة
: الله ياخذك يا وليد كان بيصير لفهد شي , والله ماني مسامحك لا دنيا ولا آخرة ان صار له شي
انفبض قلبه من الحزن
يدعو عليه وكأنه قطعة أثاثٍ لا قيمةَ لها !
وكأنه خردةٌ لا يُنظرُ اليها !
وكأنه ليسَ ابنه كفهد !
أولاه ظهره وصعد الى غرفته وهو يشعر بالحرقة والألم
قالت ام فهد وهي تبكي
: حرام عليك , انت ما عندك قلب ؟
قال بغضب
: بيموّت فهد !
قالت بحدة
: شلون يموته يعني ؟ ماهو أخوه مثلاً ! ثلاثة من صديقاتي سووا لعيالهم نفس العملية وتشافوا , وبعدين فهد ولدك ووليد ماهو ولدك ؟! انا اللي ماني أمّه ولا اصير له , ماهو الّا ولد زوجي اللي من صغره ما يحبني ولا يحتك فيني رحمته وأشيل له امتنان لأنّه حاول محاولة على الأقل ينقذ فهد
تركته صاعدةً خلف وليد
طرقت الباب ليفتحه بهدوء وكان قد انتهى من ارتداء ملابسه
قالت بتردد
: عادي اتكلم معاك ؟
ترك الباب مفتوحًا واتجه الى سريره ليجلس عليه
جلست على الكرسي بقرب الباب
قالت بحنان
: وليد لا تزعل من ابوك , هو يحبكم كلكم ولا يفرق بينكم , بس ضايق خلقه عشان فهد
لم يُجبها
اختنقت بدموعها لتقول
: ادري انك تكرهني بس والله انا ما اكرهك وابي لك الخير وممتنة لك لأنّك تبي تساعد فهد , والله يحز بخاطري انّك تنام مقهور
قال بهدوء
: ماني مقهور , قهرني قبل سنين وحرق قلبي حرقة ما تجي نقطة من كلامه اللي قاله توّ
قالت بتعب
: وليد متى تنسى وتسامح ؟ حنّا أهلك !
: حاولت وما قدرت , انا ما لي اهل , اهلي ماتت , ظلّت ريحتها , اختها وبنتها , مالي غيرهم , وانتي يشهد الله ما اكرهك , ولا لك ذنب في حالتي ولا لك ذنب باللي صار لأمي , لكن خليك في حياتك وخليني في حياتي ولا تحاولين ترحميني وتعطفين علي
: اعتبرني اختك ! من سنين حاولت أكون ام لك , لكنّي ما قدرت وانت ما قدرت , انت مو ولدي انت ولد ضرتي , وانا زوجة ابوك , ما تقبلنا بعض , مرّت سنين يا وليد حاول تتقبلني !
هزّ رأسه ايجابًا دون أن يُجيبها
قالت برجاء
: وجهك أصفر , خلني أطلع لك عشى !
: مو مشتهي شي
: سحبوا منك دم كثير ؟
: يعني
قالت بصدق
: الله يرضى عليك ويوفقك ويجزاك خير
نهضت وأغلقت الباب خلفها
استلقى وليد وحاول النوم
لكنّ قلبه يؤلمه
دعاءُ والده يرهق جوارحه
اتصل على ملاك
: تعالي غرفتي بسرعة
جاءته ملاك مسرعة وجلست بقربه
: وش فيك ؟
قال بإرهاق
: اقري علي , تعبان
قالت بقلق
: وش صاير لك
أغمض عينيه دون أن يجيبها
ظلّت ملاك بجواره تتلو وترتل ما تحفظ من آيات الله
حتى سكن ونام
مسحت على شعره ومسحت دمعتيها
يؤلمها حالُ شقيقها
دومًا قلبه متألم
دومًا جروحه متفتحة لتُجرثمها الكلمات الغير مقصودة , او النظرات
قبّلت جبينه وهي تمسح على صدره وتقول بخفوت
: أعيذك بعزة الله وقدرته من شر ما تجد وتحاذر , بسم الله الشافي المعافي , اللهم اشرح صدره وأرِح قلبه واجلو همّه وحُزنه
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
الحاديةَ عشرةَ مساءً
مرّت أيام منذ اتصلت به وقال أنّه سيتحدث اليها في وقتٍ لاحق ولم يُعد الاتصال
ها قد دخلوا في العشرِ الأواخر
وهذه ليلة الثالث والعشرين
هذا يعني أنّه مرّ اسبوعٌ على اتصالها
أخبرت رتيل عن الأمر , لتحثّها الأخيرة على معاودةِ الكرّة
دخلت غرفتها واتصلت
مرت الثواني طويلة
ردّ عند آخر رنّة
: الو
قالت بخفوت
: السلام عليكم
ردّ
: وعليكم السلام
صمتت لثوانٍ طويلة , ليسأل
: مين ؟
فتحت عينيها بصدمة
أيعقلُ أن يكون لم يعرف صوتها ! أم أنّه لم يُسجل رقمها !
قالت بحذر
: داليا !
: اييه , نعم ؟
تلعثمت حروفها
وتكوّنت كغصةٍ في حنجرتها
قالت بصعوبة
: كلمتك قبل اسبوع وقلت انّك مشغول وبتكلمني وقت ثاني !
قال ببرودٍ يستفز أعصابها المشدودة
: ما عندي شي أقوله عشان أكلمك
صُدمت من كلماته
كانت قاسية
قالت بارتجاف وهو تُحاول إظهارَ قوتها
: انا عندي اللي أقوله !
: معناها انتي اللي تتصلين وتطلبين حاجتك ماهو انا اللي أجيك واسألك عنها
صمتت لثوانٍ
أبدًا لا يُسهل عليها الاعتذار
كلماته تستفزها وتثيرُ جنونها
لم تعتد أن تُعامل هكذا
ملأت رئتيها هواءً وزفرته بهدوء ثم قالت
: علي انا اعتذر على اللي سمعته , انا ما اقصد
: اها !
: وشو اللي اها ؟!
: تبين شي ثاني !
قالت وهي تضغط على اسنانها
: لو سمحت لا تكلمني كذا
قال باستفزاز
: شلون تبيني اكلمك ؟
: ما اطلب منك الّا انك تحترمني !
: امم زي ما احترمتيني وانتي تقولين ما ابيه ؟!
: قلت لك انا اعتـ...
قاطعها بنبرةٍ ميتة
: اعتذارك مرفوض , مع السلامة
أغلق الهاتف لتنظر اليه بصمت
مرّت ثوانٍ لتنفجرَ باكية
ليسَ عدلًا ما يفعله علي بها !
لمَ يُعاملها بهذه القسوة
أخبرته أنها لا تقصد !
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
مرّت ثلاثةُ أيام مذ سُحبت عينةٌ من دمِ وليد
ذهب وليد في يوم العملية الى المشفى وظلّ أمام الباب ينتظر حتى خرج الطبيب
قال وليد بتوتر
: بشّر دكتور !
ابتسم وقال
: نحتاج اربعة وعشرين ساعة اضافية بعدين بنحلل دمّه ونشوف تأثير اللي حقنّاه فيه
ازدرد ريقه وهزّ رأسه ايجابًا
ظلّ جالسًا في المشفى حتى مرّت اربعٌ وعشرون ساعة
ليتقدم منه الطبيب وعينيه تلمعان بالدمع
كان متأثرًا
وقد أحبّ فهد وطالما تمنى شفاءه
هو طبيبه الذي اكتشف مرضه , وهو الذي أشرف على علاجه حتى اللحظة
قال بصوتٍ متهدج
: وليد
نهض وليد وهو يرتجف
: بشّر !
ابتسم وعانقه
: الف الحمد لله على سلامته , فهد طيّب الحين !
ظلّ متجمدًا غيرَ مصدق
كلُّ ظنونه كانت منصبةً الى أنّه لن يتعافى أبدًا !
مهلًا , ربما تأثير النعاس والتعب جعله يتخيل أنّ الطبيب أخبره بأنّ أخيه تعافى !
ابتعد وقال ليتأكد
: دكتور وش النتيجة !
ضحك الطبيب
: قايل لك روح نام وارتاح , ما قمت تجمع , اقول لك فهد طيّب الحين !
صمت لثوانٍ حتى استوعب
قال بلا تصديق
: الحمد لله رب العالمين
خرّ ساجدًا وأطال السجود
كاد يبكي في سجوده
كان يحمَد الله بلا تصديق
مرّت دقائق حتى نهض
وكفّه يرتجف وصدره يعلو ويهبط باضطراب
قال بارتباك
: عادي اشوفه
ابتسم وأومأ ايجابًا
توجه الى غرفة أخيه
دخل ليجده مستيقظًا وينظرُ في الفراغ
حينَ رأى وليد اعتدل في جلسته وقال بتعب
: وليد !
اقترب وليد دون أن يتكلم
ظلّ ينظر اليه ليقول فهد مستغربًا
: وش فيك ؟
انحنى وقبّل جبينه بعمق ثم قال بخفوت
: الحمد لله على سلامتك , انت طيّب الحين
عقد حاجبيه بصمت
قال وليد مبتسمًا
: خلاص راح المرض !
هزّ رأسه ضاحكًا
: لاقيني انت !
: والله راح
صمتَ لثوانٍ طويلة قبل أن يقول
: صادق وليد !
: والله العظيم صادق
حاول النهوض وهو يقول بلا تصديق
: بسأل الطبيب
حينها دخل الطبيب
ليسأله فهد ويؤكد له بأنه سليمٌ الآن
قال لأخيه بنبرةٍ متهدجة
: وليد بقوم للحمام ساعدني
ساعده على النهوض ليدخل ويتوضأ
ثم خرج ليصلي ركعتين شكرًا وحمدًا لله
انتظره وليد ريثما ينتهي
ثم قال بإرهاق
: فهد انا لي أكثر من 24 ساعة مواصل , بقوم للبيت أرتاح
اقترب فهد منه وقبّل رأسه بامتنان
: الله لا يحرمني منك , روح ارتاح ابوي
: انا طلبت لك من الكافتيريا أكل خفيف , بعد شوي بتجيك امك تجيب لك اغراض واكل
هزّ رأسه ايجابًا لينهض وليد ويعود الى المنزل
دخل ليجد والده وزوجة ابيه واختيه
قال ببرود ودون أن ينظر الى والده
: ولدك اللي كنت بأذبحه الحين طيّب وما عليه شر وينتظركم تروحون له , ام فهد خذي له ملابس واكل
تركهم في انفعالاتهم وصعد الى غرفته
بعد دقائق دخلت ملاك الى غرفته وهي تبكي
عانقته وهي تقول
: لو تعرف قد ايش انا فخورة فيك , انت احسن انسان في العالم كلّه
ابتسم بهدوء وقال
: لا تروحين معاهم انا لا قمت من النوم بوديك , تعبان حدي
قبّلت كتفه وتراجعت
: نوم العافية
خرجت لتتركه ينام
,
,
المملكة المتحدة – لندن
العاشرة والنصف مساءً
ليلة العيد
: يعني شلون ؟
ضحكت وهي تقول
: بيتي مو مرتب وبكرة عيد !
قال بغيض
: لأنّك رفلا , المفروض مرتبته من زمان
قالت مغتاضةً أكثر منه
: لا والله ! مين اللي كان يشغلني وما يخليني في بيتي ؟!
قال بتبرير
: فطرت مرتين عند عزوز ومرة عند أهلي
: المرة اللي عند اهلك انا كنت عند صاحباتي , والمرتين اللي عند صاحبك وحدة منهم كنت في بيت خالتي سارة والثانية بعد الفطور على طول جيت أخذتني !
: الاسبوع الأخير يومين منّه آخذك ساعة وحدة بس نفطر وأرجعك وش سويتي في بقية الوقت ؟
: رحت رتبت شقة خالتي سارة ! حرام كبيرة ومحد ينظف لها
: يا شيخة
: سعود خلينا حلوين ما ابي اتهاوش معاك ليلة العيد !
قال بعنادٍ يُشبِه عنادَ الأطفال
: مالي دخل , ابي اصير رومانسي اقضي ليلة العيد مع زوجتي !
ضحكت بعمقٍ ثم قالت
: وانا مالي دخل ما ابي أعيّد وشقتي مو مرتبة ومنظفة
صمتَ وصمتت
مرّت ثوانٍ حتى قال
: أجل بجي أرتب معك
قالت بصدمة
: لا
: الّا , نخلص بعدين ننزل نتمشى
: لا سعود ماله داعي , بكرة نتقابل !
أصرّ على رأيه حتى وافقت , ترجلَ من سيارته وأغلق الهاتف وصعد الى شقتها , فتحت له الباب وهي ترتدي بجامةً بيتية
ضحكَ حين رآها
خبئت وجهها وراء كفّيها بخجل
: لا تطالع
أغمض عينيه بسخرية
: ايه زين بجلس كذا طول الوقت
ضحكت وهي تتوجه الى المطبخ
ترك معطفه في غرفة الجلوس وتبعها
رأى الفوضى تعمّ المطبخ
حكّ رأسه وأدار ظهره
: خلاص لين انا من رأيي نتقابل بكرة
انفجرت ضاحكة ليعود اليها بضحكة
: طيب وش اسوي ؟
مدّت له بقطعةِ قِماش وأشارت الى أحد الرفوف
: طلع العلب كلها ومسحها من فوق وتحت وحطها في ذا الكرتون لين أنظف الدولاب وأرجعهم فيه
ابتسم وراح يعمل وهو يتحدث اليها
انتهيا من المطبخ وراحا يرتبان غرفة الجلوس
ينفضان المقاعد وما تحتها
اقتربت لين من طاولة التلفاز لتمسح الغبار العالق فيها
وتحسس أنفها لتبتعد وتعطس
التفت اليها وضحك من شكلها
كان قد أصبح فوضويًا للغاية
وشعرها قد تمرد على جانبي وجهها
بدَت لهُ لذيذة !
نبهته من سكرته آهتها
عقد حاجبيه
: وش فيك ؟
نهضت وهي تضغط بسبابتها وابهامها اليمنيين على مقدمة سبابتها اليسرى
: جرحت نفسي !
اقترب لينظر الى اصبعها
رفع حاجبه
: هذا جرح الحين ! خدش صغير
رفعت عينيها اليه وهي تقول
: يعورني
ضحك ورفعه الى شفتيه
قبّله وقال
: راح ؟
ابتسمت ولم تُجبه
ظلّ ينظر اليها حتى اقترب أكثر
أمال رأسه الى مستوى رأسها
قبّلها لثوانٍ ثم ابتعد بذاتِ الهدوء الذي اقترب فيه
أبقت عينيها مُغمضتين , غير مصدقة !
كانت تريد اعطاء نفسها الوقتَ الكافي لاستيعاب القبلةِ الأولى !
أنزلت رأسها قليلًا وهي تمسح على جبينها
كانت تحترق خجلًا
ابتعد عنها مبتسمًا وخرج من الغرفة ليخفف من احراجها
حينها وضعت كفّها على قلبها الذي تسارعت نبضاته بجنون
تنفست الصعداء
ياله من جنون !
مالذي سببته قُبلتك هذه , ماذا فعَلت !
خلقت في قلبي عُرسًا من النبضات المتسارعة
وفي أنفاسي اضطرابًا لم أعهده من قبل
مالذي حدثتني عنه شفتيك !
ومالذي زرعته فيّ أنفاسك التي أصبحت أنفاسي !
سمعت صوته عائدًا لتولي الباب ظهرها بسرعة وتعود الى
عملها
دخل وانتبه لرجفة جسدها وهي تعمل
ضحك بخفوت وتابع عمله مبتسمًا !
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
العاشرة والنصف مساءً
كانت تعمل على حلوى العيد
دخلت داليا وهي غاضبة
جلست وسحبت صحنَ المعجنات وراحت تأكل بنهم
التفتت اليها رتيل وقالت
: لا تختنقين
صرخت بها
: اسكتي
ضحكت رتيل ولم تُجبها
قالت بغيض
: الكلب الحاقد
نهرتها رتيل بحدة
: داليا
تأففت وصمتت
لتمرّ ثوانٍ وتبكي
تأففت رتيل وهي تقول
: استغفر الله لا تصيرين بزرة , خلاص طنشيه انتي سويتي اللي عليك
قالت بغيض وهي تملأ فمها بالطعام
: يققهههرررر
ضحكت رتيل وهي تسحب الصحنَ من أمامها
نهضت لتشرب الماء بعد أن غصّت
قالت رتيل بتعب
: داليا ساعديني ! ظهري صار يعورني من الشغل
جلست داليا وهي تقول بحنانٍ وتأنيب ضمير
: يا عمري انتي , ذي السنة انا رامية كل شي عليك
لم تُجبها رتيل وتابعت عملها وداليا تساعدها
قالت داليا بملل
: باقي مجلس الضيوف والدور اللي فوق يبيلهم تنظيف
قالت رتيل ساخرة
: نظفتهم وخلصت يا روح امك
قالت داليا غير مصدقة
: احلفي !
: والله , اول امس سويت المجلس وامس بديت في الدور اللي فوق واليوم كملته
غضبت داليا
: ليش تسوين بروحك ؟ ليش ما تنتظريني اقوم معاك ؟!
رفعت كتفيها
: ما في وقت وانتي نومك كثير وش اسوي لك
شعرت داليا بضيقٍ حقيقي
نهضت وقالت
: الحين اجيك
خرجت من المطبخ الى غرفة والدتها فورًا
طرقت الباب ودخلت
قالت بخفوت
: يمه ليش تاركين الشغل كلّه على رتيل ومحد مصحيني اشتغل معاها ؟
قالت والدتها
: والله قلت لها تتركه ما رضت قالت ما في وقت
قالت داليا بجدية
: يمه تراك متغيرة على رتيل
قالت والدتها
: انا !! لا أبدًا بالعكس
جلست داليا
: والله انّك متغيرة عليها
صمتت ام صقر قليلًا قبل أن تقول
: ما اتحمل الحزن اللي فيها , كافيني وجعي وشوقي لولدي وتزيده رتيل علي
قال ابو صقر بغضب
: تقومين تقلبين على هاليتيمة اللي شايلة بيتك كلّه وتاركة اهلها وجالسة عندك لأنّها تزيد عليك حزنك ؟ وش القلب اللي عندك
بكت وهي تقول
: ما اقدر والله , انا ابي ولدي وبالموت أصبر نفسي وأمنيها برجعته , رتيل تبكيه وتنهار عليه ! انا قلبي ما يتحمّل
قال ابو صقر باستياء
: خسارة والله البنت اللي عادتك مكان أمها وانتي تقسين عليها
نهضت داليا وهي ترمق والدتها بنظرةٍ متألمة وخيبةٍ كبيرة
: ما توقعت انّك تعاقبين رتيل بذنب ما سوّته , ما يكفي امها ميتة وابوها ميّت وزوجها اللي مربيها مختفي !
تركتها ونزلت الى رتيل
اقتربت وجلست بجانبها وأخذت ما بيدها
: قومي رتيل تروشي وسوّي حمام مغربي استرخي فيه بعدين نامي , انا اكمل عنك
قالت رتيل بارهاق
: ما تقدرين تكملين كل شي !
: قومي يا روحي اقدر , نامي طيب
نهضت رتيل دون اعتراض وصعدت الى غرفتها
مسحت داليا دمعتين وحيدتين
لم أعتقد أن أنشغلَ بنفسي الى حدٍّ أنسى فيه رتيل
التي لم تنسني يومًا !
رغم عظَمِ همّها
زفرت وتابعت العمل حتى ساعة متأخرةٍ من الليل
,
أطالت المكوث في دورة المياه
استرخت تمامًا تحت الماء الحار
حين خرجت كانت تشعر بالدوار
استلقت على سريرها وأغمضت عينيها
عادت بها الذكرى الى قبل اثنتي عشرةَ عام
حينَ كانت ابنةَ ثمانيةَ أعوام
*في ليلةِ العيد
اتصل صقر على علي ليخبره أنّه قادمٌ لأخذ رتيل
وصلَ الى منزل عمّه لتخرج اليه مسرعة وهي مبتسمة بسعادة
ركبت بجانبه وقبّلت وجنته وهي تهتف
: بكرة عييد
ابتسم وقبّلها أيضًا
: كل عام وانتي قلبي
ضحكت بسعادة
قادَ سيارته الى محلات الحلويات , ونزلت برفقته لتختار على ذائقتها ما يُضيّف به ضيوفهم في الغد
ثم أخذها الى محل لُعب الأطفال لتقتني لٌعبتها لهذا العام
قالت برجاء
: بشتري لهديل وداليا
ابتسم
: اشتري
أسرعت لتحضر لهنّ مثل ما أخذته لنفسها مع اختلاف اللون
عاد الى منزله وهي معه
قالت
: صقر خبي الألعاب بالسيارة بكرة بعد العيد أعطيهم
هزّ رأسه بطاعة
: تامريني يالشيخة
نزلت معه الى منزل عمّها ومكثت لبعض الوقت ليأتي علي ويعيدها الى المنزل
وصباح العيد توجهوا الى المسجد الذي يصلون في كلّ عام
عقِب الصلاة خرجن النساء ليتوجهن الى السيارات ويذهبوا الى منزلِ ابو صقر
كان صقر يقف بجوار سيارته
خرجت رتيل بثوبها الزهري , يتوسطه حزامٌ أبيض
حينَ رأته قفزت بمرح وأسرعت ناحيته
انحنى بطوله وحملها عاليًا ثم ضمّها اليه بقوة
قالت بسعادة
: كل عام وانت بخير
ابتسم وهو يقبّل رأسها
: وانتي بخير يا روح صقر وابوه وامّه وهله كلّ ابوهم
قال عبد الله مبتسمًا
: رتول ما عايدتي عليّ
التفتت اليه وكادت تذهب لكنّ صقر منعها
: مو لازم تحضنينه قولي كل عام وانت بخير
قالت بغيض
: شمعنى انت
حملق فيها وقال
: بنت ! لا تخليني أعصب عليك في العيد !
قالت بضجر
: انت بس تعصب وتهاوش ! العيد يزعل منك بعدين
ضرب رأس بخفة
قال عبد الله بمحبة
: كل عام وانتي بخير يارب
أخرج ورقةً نقدية من فئةِ خمسين ريال ومدّها اليها
أخذتها بسعادة
: شكرًا
قال صقر ساخرًا
: خمسين ! هذا اللي قدرك عليه ربي
ضحك وهو يحك رأسه محرجًا
: والله ما عندي , وباقي النتفتين هديل وداليا بعد
ركبوا السيارات ورتيل خلف صقر
قالت
: صقر ما أعطيتني عيدية !
غمز لها بمرح
: بعدين
ابتسمت وصمتت
في منزلِ العم
جلس في صالة الاستقبال الكبيرة
قال لصقر
: رتيل ما عايدت علي !
: جد ! – نهض واقترب من الباب ليناديها , وجاءت اليه مسرعة – ما عايدتي على ابوي !
شهقت بخفة وهي تضعُ يدها على فمها
دخلت واسرعت اليه لترمي بجدسها الصغير في حضنه بمرح
: عمممي كل عام وانت بخيير
ضحك وهو يضمها بحنان
: وانتي بخير حبيبتي , من العايدين
التفتت الى صقر , لا تعلم بمَ تُجيب
ضحك صقر وقال وهو يغطي فمه من الجانبين
: قولي من الفايزين
التفتت الى عمها الذي كان يضحك
: من الفايزين عمو
قبّل رأسها وأعطاها " العيدية "
اقتربت من صقر وهي تمسك بيده وتسحبه
: قووم طلع الألعاب من السيارة
نهض معها وفي الخارج أخرج ورقةً نقدية من فئة خمسمئة ريال
قال بتحذير
: والله يا رتيل اذا عرفوا داليا وهديل يا ويلك
عانقته بقوة ورفعته سبابتها وهي تقول
: والله والله والله ما أعلم
: ايه شاطرة
أعطاها الألعاب لتدخل
وعاد هو الى المجلس..*
شهقت بالبكاء وهي تُخبئ وجهها في وسادتها
ها قد انقضت أعيادُ العمر ولم أعانقك لأهتف لك بالمعايدة
ها قد كبرتُ يا أعيادي العشرون كلّها
لم أعد طفلتك التي تحملها وتضمّها الى صدركَ صباحَ كلّ عيد
ولا الصغيرةَ التي تصطحبها معك ليلة العيد الى السوق لتشتري لها هديتها
ها قد كبرت وأصبح مطلبي عودتك وكفى بهِ مطلبًا
انقضى العمرُ يا عمري ولم نلتقي !
كم انتظرُك في كل عيدٍ منذُ سبعةِ أعوام
لأكويَ ثوبَ العيد خاصَتِكَ ليلًا
لأرتب شماغك وأتأكد أنّ عقالك وطاقية رأسك جاهزان
لأرتب هندامك صباح العيد
لأحّرق قطع العود تحت ثوبك
لأعطر أماكن النبض في جسدك
لأقبّل جبينك الندّي
لأهمس لك كما تهمس كل الإناث لأزواجهن
" كل عام وانت بخير يا عيدي "
لأنتظر عودتك من الصلاةِ وأعانقك
لأمدّ لك حلوى العيد وتمدّ لي بمثلها
لأريح رأسي على صدرك
كما هنّ جميع النساء مع أزواجهن !
حقٌ من حقوقي يا صقر لا أطالبك بأكثر من ذلك !
أطالبك أن تعود
ان تكون صقري
أن تريح قلبي
ان تجلو حزني الذي شاب في قلبي منذي رحيلك
لم يعُد العيد يستهويني
ولم أعُد أنتظر اطلالة صباحه المميز
لأنك انتَ العيد في ناظري
فإذا غبتَ لم يُعد هناك عيد !
,
,
المملكة العربية السعودية – الشرقية
الخامسة والنصف صباحًا
كان المنزل كعادة أغلب المنازل صباح العيد
في فوضى واضطراب
دخل وليد الى غرفة شقيقته التي كانت تُجمل نفسها
قال بضحكة
: والله مدري على ايش كاشخين انا وانتي !
رفعت كتفيها بضحكة
: ما عليه نورّي ابوي كشختنا قبل نمشي
اقترب منها
: ركبي لي الكبكات
التفتت اليه وابتسمت وهي تركب الكبكات
مرّ الوقت ليذهبوا الى صلاة العيد
انتهت الصلاة وخرجن النساء
ركبت ملاك مع شقيقها
وابو وليد معه زوجته وابنه وابنته
عادوا الى المنزل
حين نزل وليد من السيارة ونزلت ملاك
اقتربت منه
قبّلت كتفه وهي تقول
: كل عام وانت بخير وصحة وسلامة , الله يعيده عليك بالرضا والرضوان حبيبي
ابتسم وقبّل رأسها وعانقها بحنان
: وانتي بخير يا عمري
وصلت سيارة والدهم ونزلوا جميعًا
ذهبت ملاك الى والدها لتقبّل يده
: كل عام وانت بخير يبه
قبّل رأسها
: الله يرضى عليك , وانتي بخير يا يبه
التفتت الى زوجه ابيها وقبّلت وجنتها
: كل عام وانتي بخير خالتي
ابتسمت لها
: وانتي بخير حبيبتي
رفع ابو وليد رأسه لينظر الى وليد الذي لم يكن ينظر اليه
اقتربا روان وفهد من أخيهما ليباركا له بالعيد
ثم دخلوا الى المنزل جميعًا
قالت ام فهد
: وليد كل عام وانت بخير
ابتسم بهدوء
: وانتي بخير وصحة وسعادة
جلسوا الى الفطور
صباحات العيدِ مُختلفةٌ عن كلّ الصباحات
حتى وان خلت من الأحاديث , تبدو لطيفةً ومشرقة !
قال فهد
: وليد متى بتطلعون الرياض ؟
نظر الى ساعته
: نص ساعة بالكثير , الطيارة بعد الظهر لازم نبكر بالروحة
قالت ام فهد
: والله لو تعيدون معنا احسن !
قال بهدوء
: لنا فترة طويلة ما سافرنا , مو مطولين خمس ايام ونرجع !
قالت روان بضيق
: ودي أروح معاكم
قالت والدتها بسخرية
: لا والله !
ضحك وليد وقال
: بس تكبرين شوي عادي آخذك معي , شوفي ملاك لو انها صغيرة ما آخذها
ضحكت ملاك على كذبته
ورفع فهد حاجبه الأيمن
لتقول روان بسخرية
: وش شايفني انت ؟! مرة بزر ما افهم !
ضحك وقال
: وش اسوي لك انتي امك ما تخليك
تأففت لتقول والدتها
: روان لا أهفك بالكاس الحين , لا تنكدين علينا
قال ابو وليد بهدوء
: ما تبي تعايد على عمامك قبل تمشي ؟
هزّ رأسه نفيًا وهو ينهض
: مالي حاجة فيهم أعايد عليهم
ترك مجلسهم لتتبعه ملاك بعد دقائق
ارتدوا ملابس مريحة للسفر ونزلوا
ودّعوا عائلتهم وانطلقوا الى الرياض برًّا
ليعايدا على خالتهما , ثم يسافران من مطار الملك خالد الدولي الى لندن
,
,
استراليا – كانبرا
السابعة صباحًا
بعد ان باركت لزوجها بالعيد وتناولت افطارها معه
: عيل آنا بروح لبيت يدّي الحين , كل شي مزهب حق ضيوفك
هزّ رأسه مبتسمًا
: يعطيك العافية
قالت برجاء
: لو هالعيد اتيي معاي تعايد على هلي
قال بلطف
: معليش ما اقدر والله , الشباب متعودين كل صباح عيد يجوني
زفرت ونهضت
: انزين تبي شي ثاني ؟
هزّ رأسه نفيًا بصمت
ارتدت معطفها الطويل وحجابها ثم خرجت مع خادمتها وسائقها الخاص الى منزل جدّها
وجلس هو في صالة الاستقبال الكبيرة
دخل سعد واقترب منه ليقبّل كتفه
: كل عام وانت بخير طال عمرك
زفر ثم قال
: وانت بخير يا سعد
انتظرا لبعض الوقت حتى قدِم مالك وسلطان ومعها مجموعةٌ من الشباب من معارف ابو راجح ومعارفهما
جميعهم مغتربون , يقضون صباح العيد مجتمعين
,
,
المملكة العربية السعودية – الرياض
السابعة والنصف صباحًا
ذهب علي مع شقيقه وشقيقته ووالدته الى منزل عمّه
كما جرت العادة في كلِّ عيد
جاءت رتيل بالقهوة ووضعتها على الطاولة
وعايدت على أخويها ثم قالت
: تقهووا , ربع ساعة ونحط لكم الفطور
قبل أن تخرج التفتت الى علي لترمقه بنظرةٍ حادة
انفجر ضاحكًا وقد علِم سبب نظرتها
مرّت بجواره وهي تدهس قدمه بغيض
دفعها عنه ولا زالت ابتسامةٌ عالقة على محيّاه
عادت الى المطبخ لتسأل هديل بهمس
: اخوك وبعدين معاه ؟
همست هديل
: يقول سوّت اللي عليها ثلاث مرّات اتصلت عليه , وهو يعرف وش اللي المفروض يسويه
رفعت رتيل كتفيها
: ما ينعرف له والله
بعد أن تناولوا افطارهم
قال علي موجهًا حديثه الى عبد الله
: عبد الله لا هنت ابي اشوف داليا
قال عبد الله مستغربًا
: داليا !
هزّ رأسه ايجابًا
: خلّها تجي ولا تعلمها اني بشوفها
نهض عبد الله مبتسمًا وأدخل علي الى المجلس الآخر
نادى داليا
: ادخلي شوفي المجلس نظيف او لا بعد شوي بيجون اخوياي
قالت مستغربة
: نظيف رتيل منظفته
: ادخلي تأكدي بس
تأففت وتوجهت اليه
دخلت لتلقي نظرة
سمعت صوتَ إغلاق الباب
التفتت بسرعة وشهقت وهي تراه أمامها
ابتسم وحكّ مقدمةَ أنفه
تراجعت وهي تقول
: نعم ؟
ضحك وقال
: الله ينعم عليك
كانت جدُ حاقدةً عليه , وتتمنى تحطيم جمجمته !
اقترب منها , حاولت التراجع لكنه أحكم على خاصرتها وقرّبها منه
حبست أنفاسها وهي في وضعها هذا
أمال رأسه حتى الصق جبينه بجبينها وأنفه على أنفها
قال بهمس
: كل عام وانتي حقتي
أغمضت عينيها بخجلٍ واضطراب
قالت بارتجاف
: مو حضرتك زعلان ؟! وش تبي الحين !
ضحك بعمق
: ما تتوبين انتي ! خلاص رضيت , الدنيا عيد والناس فرحانة والقلوب صافية , ما يصير ما نتراضى
صمتَ لثوانٍ ثم قال بجدية
: بس والله يا داليا لو عدتيها
قاطعته برجفة وهي توشكُ على البكاء , ولا زالت عينيها مغمضتين
: والله ما أعيدها
ابتسم
: طيب افتحي عيونك
: لا
خطف قبلةً جعلتها تفتح عينيها وتشهق
ضحك بشدة وتخلصت هي من ذراعه التي تشدُّ عليها
قالت باضطراب
: ابعد ابي اطلع
ابتسم واقترب ليقبّل رأسها
: بتصل عليك يا ويلك ما تردين
خرجت بسرعة ودخلت الى المطبخ وهي ترتجف
رأت رتيل وعانقتها بقوة
لاحظت رتيل رجفتها
: وش صاير لك !
همست لها
: عبد الله دخلني عند علي
ضحكت رتيل وقالت
: السالفة يبيلها مخمخة , خليها بعدين
,
,
المملكة المتحدة – لندن
الرابعة مساءً
ثاني أيام عيد الفطر المبارك
: اجلسي هنا انا بروح أشوف التذاكر وأرجع
هزّت رأسها ايجابًا وجلست
,
: طيب خالتي انتي خلّك هنا , انا بروح اشوف التذاكر وأرجع لك عشان نروح لسعود وأهله
جلست ليذهب هو
التفتت الى الفتاة التي بجانبها لتبتسم
: سعودية ؟
ابتسمت الفتاة
: ايه
: مشالله السعوديين كثر بالعيد يجون يعيدون هنا , وين امك واهلك ؟
ابتسمت بهدوء
: امي متوفية الله يرحمها , جاية مع اخوي
قالت بتعاطف
: الله يخليه لك ويرحم اميمتك , انا عايشة بروحي هنا
قالت باستغراب
: ماهو ولدك اللي كان معك ؟
ابتسمت بحنان
: لا , جاري سعودي , أعدّه ولدي
ابتسمت ولم تعلق
عاد ليقول
: لقيت تذاكر وكلمت سعود , الحين بيجي مع زوجته واهله تعالي نجلس من هناك عند الظل
نهضت والتفتت الى الفتاة
: مع السلامة يا بنتي
ابتسمت الفتاة
: الله معاك
ذهبت المرأة المُسنة مع الشاب الذي معها
وانتظرت الفتاة لثوانٍ ليأتي أخوها الذي رأى المرأة وهي تذهب
قال ضاحكًا
: مداك تعرفتي على الناس ؟
ضحكت ونهضت
: لا , جلست جنبي تنتظر , سعودية
ابتسم ولم يُعر الأمر اهتمامًا
: طيب انا قلت لو نجي في الليل أحلى !
قالت معترضة
: ما بنشوف شي !
ضحك وقال
: يا بيبي لندن في الليل كلّها منورة بتشوفين كل شي , احلى من النهار
عقدت حجبيها بغيض
: لا تقول بيبي , اوكي زي ما تبي
,
,
الى الملتقى :)