كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساؤكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
شكرًا لتواجدكم، شكرًا لكلماتكم الطيبة سواءً بالمتصفح أو خارجه، شكرًا للروايـة اللي جمعتنا .. إن شاء الله أكون دائمًا عند حسن ظنكم والله يكتب لي التوفيق والوصول للنهاية بسلام :$$
ممتنة لكم جميعًا وممتنة لكلماتكم الطيبة اللي تسعدني دائمًا، الله يسعدكم ويكتب لكم فردوسه :*
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(73)*2
قُبيْل ساعاتٍ طـوال، ينتظرُ في المطـار بملامحَ بائسـة ، بين عينيْه يُعرّف الموتُ في كلمـة - غـدر -، إلهِي خثّر تلك الدمـاء التي انبثقَت من جراحِه، كـانت سائلةً فوقَ ما يجب، مائيةً أكثر من معدّل السيولَةِ الطبيعية ، ثلاثَ سنينَ تقريبًا ولم تتخثّر، ثلاث سنينَ إلا شهورٌ بسيطةٌ ولازالَت جراحهُ تنزفُ ولم يمُت، جفَّ ، وتجعّد جلدهُ وشـابْ ، يقتربُ من إنهـاء السابعةَ والثلاثينَ من العُمرِ والتجاعيدُ تسكنُ أسفلَ جلدهِ لا على السطحْ، هذهِ التجاعيدُ أعمقَ في المعنى، هذهِ الكهُولة تعني أنّ ضعفهُ أشدّ، أن عقلهُ يتذكّر المعانـاةِ أكثرَ ويتضخّم بذكرياتِه ولا ينسى، يُصبح واهنًا كتكتّلِ رملٍ ما إن يُعبثُ بهِ حتى تتناثرُ ذرّاتهُ هشاشةً، ويصبُح عقله من الجهةِ الأخرى يجلبُ الذكرياتَ القاسيـة للجزءِ الواعـي ، ليتعذّب أكثـر.
أسندَ رأسهُ للخلفِ على حافةِ الكُرسيّ وابتسامةٌ تكادُ تتقوّس للأسفل ترتسمُ على شفتيـْه، راقبَ النـاسَ العابـرين أمامه، ضحكاتُ مراهقٍ قُربه، رجلٌ يتغزّل بامرأتهِ خلفه باللغةِ الفرنسيّة، وبعيدًا ... بُكـاءُ طفل !
لو أنّ كل ما حدثَ لي لم يحدثْ لكنتُ الآن أحملُ طفلًا لي في يدي ، طفلي ، وطفلُها ، يا إلـه الفرحْ، يا إلـه خلقكِ الغـادرين، كادُوا بي يا الله ، دفعونِي في غياهِب الجبِّ ولم أجدْ حتى الآنَ سيّارةً يقتلعونِي من ظلامي .. هل لديهم طفلٌ الآن؟ هل سرقُوا طفلي أيضًا؟ هل سرقهُ مني كما فعلَ بامرأتِي ! . . غصّ في حلقهِ الوجَع، تضخّم حتى تحرّكت تفاحةُ آدم بصعوبةِ بلعهِ لريقِه، كيفَ يُوصفُ الوجَع بكلماتٍ منصفة؟ وحدهُ الذي لم ننصفهُ حتى الآن، وحدهُ الذي لازال يتّكئُ على زاويـة الأقلامِ ولم يسقُط في تعبيرٍ على الورَق، وحدهُ الحُزن ما يُجعّد الجلدَ الأسمـرَ ويُحرقه ، صحراءُ المشـاعر ، يا بطشَ شمسِه !
حاول أن يُغلق مسامعهُ عن صوتِ الطفلِ الباكِي كي لا يحترق، يُغلق مسامعه عن الكلمات المتغنّجة من المرأةِ خلفهُ والتي كانت تردُّ على رجُلها، كانت امرأتُه مختلفـة ، لكنّها كسرته وخذلته !
اقتربَ منهُ رجلٌ كان أحدَ الرجـال المُكفّلين بنقلهِ إلى بلدِه بأمان ، هتفَ ما إن وقفَ أمامه : طيّارتنا الحين.
نظرَ لهُ ببرودٍ ليرفعَ إحدى حاجبيه ويتساءل بنبرةٍ لا مباليةٍ في الحقيقة : وين اللي كان معاي طول هاليومين؟
الرجُل يجيبهُ برسميةٍ عمليّة : مشغُول.
نهضَ بجمود : عمومًا ما يهم !
ولأنّ الوقتَ يُجيد الجراحَ كمـا عقله الذي احتفظَ بالذكريات التي سمّاها في يومٍ جميلةً والآن مؤذيـة ، هرولَ بسرعةٍ ليصل.
الذكـرياتُ جزءٌ من الوجَع، وَ " القلبُ غمدُ الذكريات " .. حينَ يتذكّر لحظةً بينهُ وبين أخيه يتألّم ، وحين يتذكّر لحظةً بينهُ وبينها يمُوت بألمه.
الآن سماءُ موطنِه لاحَت في الأفق، أنـوارُ الريـاضِ دغدغَت عيُونه وقد وصلَ بعد مغربِ اليوم الذي كـان فيه زواجُ أدهـم ، اختلطَت مشاعرُ عديدةٌ في صدرِه، لكنّ شغفه السابقَ بالعودةِ مرِضْ، لم يكُن بنفسِ القوّةِ التي كـان عليها ... نـظر للأنوارِ بضيـاعٍ لا يستطيعُ تحديدَ هل هوَ سعيدٌ أمْ حزِين ، لا يستطيعُ تبيّن مشـاعرهِ بعد سنينَ من الشغف، سنينَ من الأمانِي، سنينَ من الأحلام التي تخيّل فيها عودةً سيرى من بعدها امه ، يحضنها ولن يخجلَ البُكاء على صدرِها .. يرى أسيل ، ويقبّل عينيها التي اشتـاق.
ابتسمَ الابتسامةَ التي لم تعُد شفاهُه تعرف غيرها، البسمةَ التي تكاد تتقوّس معها للأسفـل ، ابتسامةُ الانكسـار والانتهـاء ، ابتسامةُ نزيفهِ الذي لم يتوقّف ، لم تتخثّر الدماء على جلدِه ، ابتسامة التجاعيد التي تتكفكفُ أسفل جلدِه ( اللحـاف ).
كـانت الريـاضُ ملجأه لسنينَ حتى كبُر، كانت تحملُ ضحكاتـه ، والآن تشمتُ بهِ بذكرياتٍ مرّت عليهِ كمرورِ شريطِ حياتِه أمامه ، ومن مكرِها بعثَت إليه كذكرى أولى إحـدى اللحظات التي جمعتهُ بأسيـل ، وشاهين أيضًا !!
*
تكتّفت برفضٍ وهي تكادُ تلصقُ ظهرها بالسيـارة وتلتحمُ بالكرسي ، ابتسمَ بعبثٍ وهو يُطفئ السيارة ويلفظ : يلا انزلي.
أسيل بحدةٍ ممتعضة : لا ، ولا ولا ولا مليون مرة.
متعب يكتم ضحكته : افا !
أسيل بغضبٍ تستديرُ إليه : كم مرة قلت لك فواز لو درى إنّي أدخل بيتك بيزعل !
متعب : عادي زوجتي وبعدين هذا بيتك المستقبلي لازم تتعرفين عليه !
لوَت فمها بغيظ : أصلًا خلاص ما أبي أسكُن فيه أبي بيت مستقل.
متعب بحدة : بنبدأ شغل الزوجات الحين؟ أتوقعها من أيّ مرَة إلا أنتِ !
أسيل بحرجٍ تُبرر : لا مو قصدي كذا ، بس يعني أخوك . .
متعب يقاطعها : لا تشيلين هم هالمسألة .. معليش حبيبتي ممكن ما تآخذين راحتك بس مو حاب أبعد عن امي !
ابتسمَت : يا الله صبرني ! خلاص لا تبكي علينا ..
ضحكَ وهو يفتح الباب ويهتف : يلا بس انزلي لا تحاولين تضيعين السالفة.
أسيل بغضب : عن الحقارة متعب والله عيب!
نظر لها من طرفِ عينه : شقلتي؟
أسيل وقد انتبهت لما قالته، شعرت بالحرجِ وشتت عينيها لتلفظ : بدون قصد.
متعب : طيب يلا انزلي ماراح نطوّل ، سلمي على امي ونسولف شوي وبعدها بترجعين ولا من شاف ولا من درى.
نزلَت من السيـارة بتذمّر : نستاهل أنا وفواز اللي معطينك وجه ! تماديت ..
تجاهلها وهو يلتف حول السيـارة حتى وصلَ إليها وأمسك بكفّها ليتّجهـا نحوَ بابِ المنزل ، فتحهُ متعب ودخل معها وهو يهتف : لو فكّر فواز للحظـة بس يمنعني أطلع معك ماراح يشكر بطن امه اللي جابه.
أسيل تدافع عن أخيها : بوقف بصفه ، طالت بعد تتجرأ على أخوي.
متعب يرفعُ إحدى حاجبيه : ماشاء الله بتوقفين بصفْ أخوك!
أسيل تبتسم : قلتها أخوي جعل العرب يفدونَه.
أدار وجههُ إليهـا : حسابك عندي.
: مين جايب معك يا كلب؟!
التفتا بسرعةٍ نحوَ شاهينْ الذي كان يقتربُ وهو يدير مفتاحَ سيّارتهِ في سبابتِه، تراجعَت أسيل بخجلٍ بينما ابتسمَ متعب بلؤمٍ وهو يلفُظ : ما أحكي مع العزوبيين .. أترفّع.
شاهين يبتسم : حسبي الله على عدو فواز اللي ما حصّل غير يرضى فيك أنت عشان تبثرنا ، تفي بس.
متعب يلكمهُ على كتفهِ بخفةٍ ليلفظَ بصوتٍ حادٍ بتمثيل : عن قلّة الأدب احترم أخوك الكبير.
شاهين بمكر : الحين قولي هو يدري إنّك مآخذ راحتك هالقد؟
متعب وقد فهمه ، ردّ ببراءة : أيه أصلًا قال زوجتك في النهاية مالي حق أحط حدود بينكم.
شاهين بشغبٍ مرر لسانهُ على شفتيهِ وهو يحرّك حاجبيهِ للأعلى والأسفل بلؤم : الحين بتّصل عليه وأسأله.
متعب بحقد : حيوان تسويها.
شاهين : هههههههههههههههههههه أجل تترفّع عن العزوبيين؟!! * وجّه حديثهُ لأسيل * يا مرَة أخوي ترى زوجك ما ينعطي وجه ، أمس قالي مرتِي مخفة من أقولها كلمة تطير مبسوطة ، ترى الشعراء كَذّابين لا تصدقين حكيهم.
متعب بعصبية : انقلع يا كذّاب لا تخليني أشوتك وأقفل باب البيت عليك وبعدين دوّر مين يدخلك ..
شاهين : ههههههههههههههههه امي عطتني مفتاح احتياطي بعد ما سويتها فيني ونمت بسيارتي هذاك اليوم.
متعب : إذا ما سويتها اليوم بسويها بكرا بعد ما أسرق مفتاحك وأنا نايم.
اتّجه للبـاب بعد أن شعرَ بأنّه أثقل الحديثَ معهُ وبقيَت أسيل واقفةً حتى هذا الوقت، بينما لفظَ صوتُه بتحدي : جرب يا ولد عُلا وبتلاقي سالفتك عند فواز عشان يحرمك تطلَع ويّاها.
خرجَ ومتعب يشتمهُ بحنق، استدار إلى أسيل ليهتف بتحذيرٍ وهو يرفعُ اصبعه أمام وجهها : يا وييييلك يا ويييييييييييلك تصدقين كلامه ... حسابه عندي.
أسيل ترفعُ حاجبها الأيسر : وأنت كل العالم ودك تحاسبهم؟ بصدّقه ترى لأنك بيـاع حكِي.
*
حطّت الطائـرة، وعينيهِ يُغمضهما بأسـى وحزنٍ مريـر ، خسرَهما ، خسرهما سويّةً ... يا الله حتى متى ستقتلعُ منّي الدنيا الجذور التي أحيـا بِها؟!
،
يطرقُ بأصابعهِ على المقودِ بغضبٍ وهو ينظُر للساعةِ تارةً ولجهةِ قاعـة الاحتفالات تارةً أخرى، احتدّت أنظارهُ وهو يراها تظهرُ من بينِ ظلامِ الوقتْ، هذا الانصيـاع الدائم لي منذُ كُسرَت انقلبَ فجأةً اليومَ لتتجاهلني، كانت تستفزّني حين تنصـاع بآليةٍ باردةٍ عن غيرِ البشر في لحظةٍ أنتظرُ منها حرارةَ انفعالٍ أو ردّة فعلٍ تُخبرني أنّ " ديم " حيّة ! وحينَ انتظرتُ منها الانصيـاع اليومَ فعلت العكس لتستفزّني دائمًا وتنجحَ في ذلك !
فُتحَ البابُ الذي بجانبه، لم تكدْ تجلسُ وتعتدلُ في جلستها حتى انبعثَ صوتُه من الغضب صارخًا بحدة : وأخيـــرًا شرفتي يا ست ديما !!!!
نظرَت لهُ بجمودٍ بعد أن فترتْ لوهلةٍ من صراخه، أشاحَت نظراتها عنهُ ببرودٍ استفزّه لتُغلق باب السيـارة وتعتدلَ في جلستها وحقيبةُ سهرتها بجانبها.
سيف بحدةٍ وعينيه تكاد أن تخرجا من محجريْهما غير مستوعبٍ هذا التجاهل المستفز ! : قد هالحركات يا ديما!
ديما تنظُر لهُ بصمتٍ لبعض الوقت، مرّت ثوانٍ قصيرة قبل أن تكسرها بصوتٍ فاتـرٍ امتلأ ببحّة حُنجرتها " التعبانة " : آسفة ما قصدت.
نظَر لها بصدمةٍ قبلَ أن يشتعلَ فجأةً ويعضّ شفتهُ كي يكتمَ حـنقه، حرّك السيارة بصمتٍ يصرخُ وهي يلوي لسانه قسرًا كي لا ينبعثَ إليها بلذاعة.
بينما وجّهت ديما نظراتها نحوَ النافذةِ بجمودٍ لتراقبَ الطريقَ وأنواهُ التي بدأت بعدّها بضجَر، لفظَ سيف فجأةً من الصمت : ليه ما طلعتِ وقت جيت لامي؟
ديما دونَ أن تنظُر إليه : ماهي حلوة بحقي وهم أقاربي.
سيف بنبرةٍ تحشرجَ فيها الغضب : بس أنتِ تعبانة !!
ديما : مين قال؟
سيف بحدة : دريت بعد من العصفورة!
تنهّدت بعجزٍ لتُشيح نظراتها عنهُ من جديد، حينها نفدَت أعصابهُ ليمدّ يدهُ بحدةٍ مستلًّا يدها وهو يلفظُ بعصبيةٍ بالغـة : مـــا ......... يا الله يدك حارة!!
تركها وهو يزفُر بغضبٍ من برودها تجـاه مرضها، أسرع قليلًا وهو يشتمُ بخفوتٍ ويتمتم بحنق : وتكابرين ليه؟ منتِ طبيعية يا ديما أبدًا منتِ طبيعية !!
،
تخشّبت حواسهُ كالباب الذي أمامه . . هذا الليل، هذهِ النجُوم، هذهِ السماء كلّها شهدَت على وقوفنا معًا في هذهِ اللحظة. عجِز عقلي أن يُصدّق، هُنا رائحةٌ تطوفُ حول قلبي وتقيّده/تتشبّثُ بِحجراتِه، رائحةٌ اختلفَت عن رائحـةِ الطفلة، ومهدها، ووجنتها. هذهِ الرعشـة التي تُصيبُ أطرافي بنشوةِ وقوفها خلفي، هذهِ الكلماتُ التي تُحاربُ شفتاي كي تخترقهما " أنا بحلم؟ " .. شعرَ بلسانِه يلتوي وصوتُه يغصُّ في حنجرتهِ بتذبذبُ مشاعره ... هل أنا في حُلمٍ لذيذٍ استلّني في نشوةٍ دافئـةٍ وسيُعيدُني مهترئًا؟ هل أنا في جُحرِ قنديل؟ هذهِ الرعشـاتُ والتيارات التي أشعُر بها تسري في عروقي، الكلماتُ التي تُلهِبُ فمي، هي خلفي! وأنا أمامها، هي معي ، وحيديْن، هل تحقّق الحُلم وطمُوح الطفولة؟
استدارَ جسدهُ ببطءٍ يخشى أن يجدَ مكانها فارغًا، أن يكون نائمًا وسينهضُ ولا يجدها .. تلاشَى حُزنه بمتعِب لبعض الوقتِ الذي انتشَى بها، تلاشى في هذا الوقتِ وهي دواءه، هيَ " كفنُ الأحزان ".
ابتسمَت شفاهُه بسمةً صخُبَت بالسعادةِ وهو يراها تُديرُ ظهرها إليه ، تحقّق الحلم فعلًا ... عبَرت أقدامهُ إليها، شقّت الخطواتِ بينهما، بترتها! يُريد فقط أن يتأمّل الملامح التي نضجَت، يُريد أن يتفقّد وجنتها إن كـانت كما هي سابقًا، مُتعةَ أناملهِ وشفاهِه في صغرِه !!
وقفَ خلفها مباشرةً وصدرهُ يرتفعُ بتذبذبِ المشاعِر التي تضمُّ أضلاعهُ في انقباضَاتِ فؤادِه، رفعَ كفيْه ليضعهما على كتفيها حتى يُديرها إليه ويُزيح الستار الذي يفصِل ملامحها عنه، يرفعَ خمارها ويتأمّل الفتنـة.
وما إن أمسكها حتى انبثقَت همسةٌ خائفـة ، عينين زاغتـا بهلـع، انتفاضـةُ جسدٍ اكتنزَ فيهِ الخوفُ والغُربـة وهي تتراجعُ بتعثّر ، هذه الغربـة التي بدأت تشعُر بها منذ الآن، هذهِ الغُربة التي تشعُر بفحيحِها يخترقُ أذنها، بأنفاسِها " الزمهرير " تُجمّد وجنتها عن الانقبـاضِ بخوفْ.
همسَت بـ " لاااااا " وهي تتراجع، همسَت بها بنبرةٍ راجيـةٍ والحرفينِ تاهـا في يأسِها، تاهـا في انتفاضةِ نبرتها التي اهتزّت بهوانِها.
سحبَ يدهُ مباشرةً بتلقائيةٍ والربكـة أصابتهُ في الثبات الباقي فيه، هتفَ محاولًا تهدئة خوفها الواضِح منه ، بنبرةٍ حنونة : لا تخافين ، مافيه شيء بيكون بدون رضاك .. لو تبيني بعد أبعد أهم شيء لا تخافين.
راقبته بأحداقٍ ترتجفُ وهي تُقـاومُ رغبتها بالبكـاء، لا تدري كيف ضعفَت لهذا الحد، كيف ذهبَت القوّة الباقيـة فيها، حتى أنها تكـاد تخلفُ بوعدها لعينيها، بأن لا تبكي ! لا تستوعبُ في هذهِ اللحظـة أنّه باتَ أمامها، يقفُ أمامها، وحيدين ، يا الله ! . . . بقيَت تنظُر لهُ بخوفٍ وتوترٍ بينما كان هو يتراجعُ للخلفِ ببطءٍ حتى تهدأ أنفاسها التي كان صوتُها ينخرُ طبلة أذنه ويُضاعف حنانهُ كي لا تخاف أكثر، كفّيها ترتعشان بوضوحٍ أمامه، كانت لا تزالُ ترتدي عباءتها ، لكنّ نفضةَ جسدها كانت واضحة.
أدهم بحنانٍ وهو يبتسمُ لها وكأنّه يعامل طفلته، لا تزالُ طفلته، لم يغيّر الزمَن هذهِ الحقيقة، لا تزالُ الطفلة التي حملها في زمنٍ مـا، التي داعبَ وجنتها، التي احتضنها وحمـاها ... برقّة : تقدرين تآخذين راحتك ، اعتبريني ماني موجود لو تبين، أهم شيء لا أشوفك خايفة.
إلين تتراجعَ للخلفِ أكثر بخطواتٍ بطيئةٍ وكأنّها تخاف أن تُصبح فريسته، خـافت بشكلٍ لم تظنّ أنها ستُمارسُه، كل القوة التي تبنّتها تخلّت عنها، كلّ الثبات الذي قرأته على نفسِها نسيَته ، هتفت بحدةٍ تكذّب خوفها وتكذّبه بالرغم من كونِ رعشة نبرتها تصدقُه : لأيش بخاف؟ لا تآخذ مقلب بنفسك!
أدهم يُجاريها : إيه إيه .. أنا غلطان معليش.
إلين بنبرةٍ خائفـةٍ حاولَت مواراتها ولم تستطِع، خرجَت كلماتها إليه مرتعشة : لا تقرب مني ، ما أبيك تقرب مني !!
صمتَ ولم يعلّق ، بينما تراجعَت هي أكثر لا تدري أين ستَصلُ بجسدها النافِر عنه، تنظُر برعشة أحداقها لملامحهِ التي هدأت حتى تهدأ معه، لكنها لم تهدأ وهي تبحثُ خلفها عن مهربٍ وقوتها تذهبُ كلّها ، اصتدمَت بطاولةٍ زجاجيةٍ من خلفها، سقطَ من فوقِها مزهرية زجاجية لتنثر الضجيج بانشطارها وتشهقَ إلين بهلعٍ وهي تبتعدُ عنها، ضمّت كفيها إلى صدرها بعذابٍ وهي تُغمض عينيها بقوّة، أنفاسها تسارعَت أكثر، بينما وجدَ أدهم نفسه يتراجعُ بقلقٍ من أن تتوقّف نبضاتُ قلبها من شدّة خوفها ، فتحَ الباب وهو يلفظُ يريد طمأنتها قليلًا بعيدًا عنه : بجيب العشاء .. خذي راحتك.
غابَ ليصدحَ صوتُ آهتِها العاليـة وتنحني للأمامِ وهي تُحيط بطنها، نظرت للأرضِ بعينٍ فقدت ماءها، بشفتينِ تاهتـا عن بعضهما وعبر من بينهما هواءٌ صاخبٌ بالضجيج، شعرَت بوخزٍ في ملامحها، بانشطارٍ في أنسجتها، شعرت بجسدها يتفككُ وهي تفكّر بأنها باتت زوجةً لهُ وباتت قُربه، باتَا لوحدهما .. يا الله! لم تشعُر بهول مُصيبتها إلا الآن، ما الذي فعلته بنفسها؟ ما الذي فعلته بنفسها؟!
رفعَت رأسها بربكةٍ وهي تخشى أن يعُود بأيّ لحظـة، شتت عينيها تنظُر للجدرانِ ولملامح المكان الذي يحتضنها، الذي سحبَ ملامحها، هذا المكان الأول - في التقاء! .. ترنّحت بهوانٍ وعينيها تلتحمـان بالأبواب، رغمًا عنها تحرّكت، لا تريد أن يعُود وهي بفستانها، إلهي ما الذي فعلتهُ بنفسي! كيف أصبحتُ وهو وحيديْن، كيف أصبحتُ دونهم؟
بحثَت في الغُرف بضياع، وجدَت أخيرًا غرفـة النوم لتجد حقيبة ملابسها على الأرض، اُمتصَّت الحيـاة منها وباتت عينيها باهتتينِ وهي ترتعشُ وتُبعدهما عن سرير - العروسين!
بترددٍ ارتفعَت يديها لتبدأ بخلعِ عباءتها ليظهر فستانها الأبيضَ على جسدها الغض، تهدّل جلدُ يدِها، وشعرت بانصهارٍ في عظامها لتسقُط العبـاءة على الأرض وتجلسَ بهوانٍ على ركبتيها، استندَت على الأرضِ بكفٍ أرهقتهُ الرعشـة، رفعَت عينيها المُحمرّتين بملوحةٍ رفضَت الانسكابَ رغم عدمِ مقاومتها وكأنّها انصاعت لوعد شفاهِها، نظرت للسريرِ الذي تدخّلت كفوف هالة وهديل في وضعِ قميصٍ أبيضَ فوقه . . - آه - على حدّةِ الحُفرة التي وقعَت فيها وجدرانها امتلأت بشوكٍ كي لا تستطِيع تتسلقَه، آه، على رخويّةِ الأجفانِ بعد أن امتصَّ الملحُ ماهيّتها وتركها شفافةً تفضحُ حمرةَ عينيها، آه ، على انعكـافِ الهدبِ في ندمِ الانصيـاع لجنُون .. تضاعفَ الندمُ وسيفٌ انغرسَ في صدرها بعد أن غرقَ في قنّينةِ سُمٍّ سيفتكُ بعروقِها، لا أجدُ الآن مأوى لحُزنِ عينيّ إلا الأرض التي تُعانقُ أهدابي الآن ، لا أجدُ قِبلةً لهوانِ أحداقِي سوى تُربةٍ جامدةٍ استلّها " رُخـام "، تأوّهت مراتٍ وهي تسقُط بألمها بعد أن انتهَت حين وجدَت نفسها في قبره، انتهَت بـ " الانتحار ".
دخـل أدهم بعد وقتٍ للغرفـة حين لم يجدها في الصـالة، توقّف بصدمةٍ للحظتيْنِ وهو يراها بحالِها تلك وقد تخلّت عن سوادِ ما تسترُ بهِ زينتها، هروَلت أقدامه إليها بقلقٍ لينحني إليها أخيرًا ويُمسك كتفيها كي يرفها في اللحظة التي ذُعرَت فيها لملمسِ كفيه على كتفيها العاريين، صرخَت ليتركها مباشرةً وتعودَ للسقُوط على ركبتيها بعدَ أن رفعها قليلًا ، انسابَت كفوفها على الأرضِ وهي تنحني إليها أكثر وتغرقُ في أنينها الباهتِ دونَ بُكـاء، بكى صدرُها المجوّف فقط بعد أن عبـر من خلالِه هواءٌ باردٌ وخرجَ في هيئةِ أنين .. وقفَ أدهم بجمودِ جسدهِ وهو لا يستوعبُ كيف أنّها رافضةٌ لهُ لهذا الحد، لكنّه لم يتجرّأ على الاستنكارِ حتى وأهداها العُذر لذلك ، خفتَ صوتُه الهاتف باسمِها المُعانقِ لغيومِ قلبهِ البيضاء والتي لم تُمطِر حتى الآن باستقلاليةِ حيـاة : نجـــلاء . .
إلين تصرخُ فجأةً باترةً بقيّة حديثهِ بغضبٍ توازَى مع مقدار ألمها وانكسـارها : إليييييييييييين .. اسمي إلين ماهو نجلاء !! ماهو نجلاء !!!
أدهم بنبرةِ صوتِه الخافتـة : طيب ، إلين .. خلاص إلين.
إلين بوجَع : ما أعترفْ فيها .. عشْت سنيني كلها باسم إلين مين هذي نجلاء عشان تشيل جزء مني؟ ما اعترف ببنت أحمد ، ما اعترف بالطفلة اللي ولدتها رقيّة ، ما أعترف باللي شلتها بيدينك وهي طفلة !!
قطّب جبينه واعترضَ بصمتِه، راقبَ هيئتها من الخلفِ بفستانها النـاعم، عُنقها الناعم وخصلاتٌ قليلةٌ تعانقُه بعد أن تمرّدت على تسريحةِ شعرها، حتى الآن لمْ يرى ملامحها وكأنّ ملامحها تخاف أن يغرق في فتنتها وتُغويـه، قبضَت كفّيها على الأرضِ لتستقيمَا في عموديّةٍ وتُخفض جبينها إليهما حتى تسنده، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهوانٍ وهي تهمسُ بضعفٍ تتمنّى أنها في كابوسٍ وأنّ حضورهُ كاذب : ياربي ارحمني من كل هالشيء ، ياربي يا حبيبي ارحمني من هالكابُوس ، ارحمني من هالعذاب.
اقتربَ منها بأسى وهو يقطّب جبينه، جرحتهُ بهمسِها المسموعِ وكأنّه مرضٌ إن أصابها لن تُشفى منه .. ابتلعَ قهرهُ وهو يهتفُ بنبرةٍ حملَت بعضَ البرودِ والجفاف : قلتلك ماله داعي هالخوف مني ، ماراح أضرّك بشيء ولا بقرب لك بدون رضاك.
شهقَت بخفوتٍ وهي تفتحُ عينيها بشدّةٍ وتنظُر للأرضِ بصدمةِ حواسها التي صدّقت كل ما يجري حولها ولم يكُن كابوسًا، تجمّدت بينما أردف هو بنبرةِ أسى : بدّلي ملابسك ، واطلعي تعشي أقل شيء عشان نفسك .. إذا تكرهيني هالكثر لا تهتمين لتواجدي قُربك، اعتبريني مو موجود.
وصَلت إليها كلماتُه تلكَ ومن ثمّ صوتُ خطواتِه التي ابتعدَت عن الغرفـة، رفعَت رأسها بتذبذبٍ تتبعُ صوتَ خطواته التي تلاشَت بعد لحظات ... كيف لا أعتبرك موجودًا وأنتَ كنتَ تزور كوابيسي قبلًا؟ قُل ماهوَ منطقي، كُنتَ شبحًا في كوابيسي، والآن أنتَ حقيقةٌ في واقعي !!
يُتبــع . .
|