لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-04-09, 09:51 PM   المشاركة رقم: 56
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2007
العضوية: 55383
المشاركات: 562
الجنس أنثى
معدل التقييم: HOPE LIGHT عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 14

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HOPE LIGHT غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : HOPE LIGHT المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

|+*| الورقة السادسة من غصن الحرية |*+|



التاسعة والنصف من نفس ذلك المساء...

عندما دخلت إلى بيتنا مع أبي... رأيت أمي تقف بباب البيت... كانت عينيها قد تلونت بجميع ألوان القلق والخوف... لم تسمح لنا بأن نلقي السلام حتى!..
_:"أين هي؟!. ألم تجداها؟!."
نظر إليّ أبي وفي عينيه خوفٌ وقلق لايقل عن خوف وقلق أمي... ثم نظر إليها قائلاً...:"غيداء!.. ادعي لها بالسلامة..."
ازداد توتر أمي مما جعلها تذرف الدموع وتبكي... تقدم منها أبي حينما رآها تجلس على السلم الخارجي... تخفي وجهها الذي تبلل بالدموع بيديها... جلس هو الآخر على درجات السلم ليلفها بذراعه... :"أذكري الله!.. ليكون الله في عونها... اذكريه فهو العالم بمكانها وحالها... واصبري على الفراق والبلاء ياغيداء..."

فقالت من بين دموعها...:"كيف لي أن أصبر؟!. إنني ربيتها مذ كانت في المهد... طفلة ذات يوم واحد فقط حملتها بين ذراعيّ... وفز قلبي لها... أحسستها قطعة مني... سهرت الليل لأجلها... حتى كبرت وأصبحت صبية... عندما تقول لي أمي!.. أشعر وكأني قد ملكت الدنيا بسماعها تنطق هذه الكلمة... وكذلك أحمِدُ الله بأن لم يضع تعبي حين جعلني أسمعها منها كثيراً... والآن تريدني ألا أبكي... تضيع من بين يديّ ولا تريدون مني البكاء... إنها ابنتي يامصطفى!.. ابنتي!.."
رأيت دمعة تهرب من مقلتي أبي... فهو لا يتحمل كلاماً مثل كلامها المؤلم!.. ودموعي أنا غسلتني... كنت أريد البكاء منذ ساعات... ولكني خزنت دموعي بعيداً عن الآخرين... وأمي لم ترحم ضعفي فأبكتني بحديثها...
سمعت صراخ ريم الذي أتى من خلف الباب المفتوح...:"أمي ما الذي حدث؟!. أحمد!.. أبي!.. مابكم تبكون؟!."
رفعت عيني إليها... كانت تقف تنظر إلينا بذهول وخوف... وعندما رأت أمي تنتحب أتت إلى أبي تسأله...:"أين بتول يا أبي؟!. لماذا عدتما بدونها؟!."
كذلك لم تسمع جواباً منه... فالتفتت إليّ... كانت تخفي شعرها القصير خلف خمارها... وعينيها تهدد بسيل من الدموع... أخذت نفساً وهي تقترب مني...:"أحمد!.. أخبرني أين بتول؟!."

أغمضت عيني لأسمح لدمعي أن يسيل أكثر وأكثر... لعله يريحني من همي... لعله يدلني على من ضاعت من بين يدي...
نظرت إلى كفي الذي حوى كفها عصر اليوم... نظرت إلى ذراعيّ اللتين ضمتها قبل سنين... والآن هي خالية لا تحوي شيئاً... لقد ضيعتها بنفسي...ولا أدري أين أجدها...
لم تتحمل ريم صمتي أكثر من ذلك... أمسكت بذراعي لتهزني سائلة...:"أين هي يا أحمد؟!. إنك تذرف الدموع لا تقول لي بأنها رحلت بلا عودة!.. لا تقول لي ذلك!.."
فتحت عيني بخوف مما سمعت... وحاولت أن أخرج صوتي لأنفي ما تقوله... لكن صوت غدير سبقني...:"أحمد!.. تكلم أرجوك... لاتعذبنا أكثر من ذلك..."
نظرت إلى غدير التي كانت تضم أمي تهدأ من روعها... لقد كانت غدير هي الصامدة حتى الآن... لولا أن عينيها قد غرقتا بالدمع... لكنها متمسكة...
وعند الباب على الدرجات الأولى من السلم يقف علي ابن خالتي وأخته ياسمين... فعادت ريم تهزني بشدة...:"تكلم يا أحمد!... إن حصل لها مكروه فأنا السبب!.. أنا السبب يا أحمد... أرجوك تكلم..."

كم أنت بلهاء ياريم... خرج صوتي مكبلاً بالغم... :"الشرطة ستبحث عنها في الغد إن لم تعد!.."
صرخت أمي...:"وما الذي سيصبرني إلى الغد؟!. إنها بتول يا أحمد!.. بتول التي ربيتها من أولى ساعاتها في الدنيا... فكيف لي أن أصبر إلى الغد؟!. هؤلاء الشرطة مجانين..."
ثم وجهت حديثها إلى أبي...:"خذني إليهم علهم يرأفون بي ويبحثون الآن... أرجوك يامصطفى خذني إليهم!.."
نظر إليّ أبي... وشتتني نظراته الحزينة... أربكتني عينيه الدامعة والمعاتبة...
ثم نهض من على السلم... وهم بالدخول إلى البيت... لكن يد غدير استوقفته قبل أن تقول...:"أبي!.. لا أريد أن تتكرر مأساة العام السابق هذه السنة كذلك... أبي أرجوك افعل شيئاً..."
يا لقلبكِ الكبير يا غدير!..
نظرته إليّ تكررت لغدير أيضاً لكن من دون عتاب... وعيون الجميع معلقه بأبي... إلا أمي التي لازالت تجهش بالبكاء وذراع غدير تلفها بحنان... أما ياسمين فكانت تلقي بدمعتها بعيداً كلما قفزت على وجنتيها...
وريم لازالت ممسكة بذراعيّ... حتى هنا لم تستطع الصمود أكثر فأخفت وجهها في صدري وانتحبت... :"كله بسببي!.. أنا السبب في هروبها..."
إنكِ حمقاء ياريم... كم تمنيت لو أقولها بصوت تسمعه... لكني جعلتها تذرف دموعها على صدري أكثر وأكثر... حين أخذتها إلى صدري أكثر... وربت على ظهرها...

_:"عماه!.. أتسمح لي بمباشرة التبليغ والبحث نيابة عنك!.."
انتشلنا هذا الصوت من قعر الحزن والألم... إنه عليّ الذي نسيناه... ونسينا وظيفته... إنه محقق في المحكمة الجزئية... ولديه معارف كثر في هذا المجال... وكأن القدر عاد يبتسم لنا من جديد... حين رأيت عيون الجميع تتعلق به وتترك أبي... حتى ريم التفتت إليه بلهفة تود معرفة ما سيقوله بعد ذلك...
فأكمل بتوتر بان في نبرة صوته...:"إن لي أصدقاءاً لهم خبرة ممتازة في هذا المجال... ولن يقصروا في ذلك... وأنا لن أقصر في خدمتكم أبداً..."

انتقل أبي بنظره إلينا واحداً تلو الآخر... وفي عين كل منا رجاءً بأن لا يطفئ شمعة الأمل التي أشعلها عليٌّ لنا...
فقال بعد أن رسم ابتسامته وهو ينظر إليّ...:"افعل ما في وسعك من عمل... فبك الخير يابنيّ..."
قالت له أمي...:"نعم ياعليّ!.. أعدها لنا سالمة..."
_:"بكل طاقتي سأساعدكم... وبإذنه عزوجل ستعود..."
ألقى بنظرة خاطفة على غدير التي دمعت عينيها في هذه اللحظة... فهي لابد وتذكرت ما حدث قبل عام لحسن...
ثم أمسك عليّ بيد أخته ياسمين وخرجا معاً بعد أن ألقيا السلام... وطمأننا بأنه سيفعل كل ما يجده مناسباً... ولم يسمح لي بالذهاب معه حتى لا أعرقله كما قال لي... وكأنه يعرفني حق المعرفة...
| +* +* +* +* |

السبت: التاسع والعشرون من نوفمبر... الساعة الثانية فجراً...

تقلبت في فراشي طوال الليل... أحاول أن أجد القليل من النوم لكن من دون جدوى... أحاول أن أبعد صوت ذلك الأنين عني ولكن لم أستطع... إنه يزداد وضوحاً كلما تذكرته...
أشعر بقلبي ينقبض كلما أغمضت عيني... وضميري يؤنبني على تركي لذلك المكان دون أن أكتشف مصدره... ربما يكون أحدهم في حاجة لمساعدة ما!.. أو ربما يكون طفلاً صغيراً في مأزق!..
لماذا ياسالم أبعدتني عن اكتشاف الأمر؟!. لماذا سمعت كلامك منذ البداية وأتيت معك لأكون هنا؟!. أو حتى هناك في المعسكر!..
إنني غبيٌ جداً... نعم يا خالد!.. أنت أغبى إنسانٍ عرفته... ضميرك خامد مذ تركت أهلك... وتركت البدور التي بمثابة ابنتك... وأغلى بكثير من ذلك...
إنني أفعل كما فعل أبي منذ زمن... حين تركنا وسافر إلى حيث الحرب المشتعلة... لقد كان جندياً يشهد له الكثير بالشجاعة والشرف... ولكنه عاد لنا جثة... وترك خلفه طفلة كالبدر... أصبحت لها الأب الذي لم تره إلا كالحلم في نظرها... وأنا في الخامسة عشرة من عمري... أصبحت مسؤولاً عنها وعن حبيب... لكن بدور كانت ابنتي... والآن أنا أتركها كما فعل أبي منذ عشر سنين انصرمت...

نهضت من السرير واتجهت ناحية المطبخ الصغير الذي بجانب باب الشقة الرئيسي... سكبت لي بعض الماء لأروي عطشي... الذي داهمني من كثرة التفكير...
وأنا على هذه الحال... إذ رن هاتف الشقة... في ساعةٍ متأخرة من الليل يرن الهاتف!.. لابد وأنه أمر ضروري... أو ربما الهيئة العليا للمعسكر... يصدرون أوامرهم... أجل ربما يكونون هم... ويريدون منا العودة في الصباح كما قال سالم!..
إلهي حقق هذه الأمنية... ودعنا نعود دون قتل أو تدمير...

رفعت الهاتف لأرد على المتصل... فأتاني صوت خشن غريب النبرات... :"صباح الخير... هل أنت سالم أم خالد؟!."
فرددت عليه قائلاً...:"خالد!.. من أنت؟!."
لم يجب على سؤالي بل أردف قائلاً...:"مع ساعات الصباح الأولى تنفذون الخطوة الثالثة من العملية... فقد ألغيت الخطوة الثانية..."
_:"ماذا؟!. من أنت؟!."

سمعت صوت صفارة الهاتف تعلن انتهاء المكالمة... لقد تغيرت الخطة تماماً... لقد ألغيت الخطوة الثانية... أي أننا سنبدأ بخطوة مختلفة عنها... لقد انهارت كل الآمال!..
ماذا يمكنني أن أفعل الآن... هل أتركهم وأذهب؟!. أم أفعل مايريدون منا أن نفعل؟..

فزعت من مكاني وأنا أسمع صوت سالم يحدثني... :"خالد!.. مابك؟!."
ألقيت بسماعة الهاتف التي كانت معلقة في يدي... ووقفت أحدق في سالم على ضوء ضعيف قادم من المطبخ...
كنت كالحجر جامداً في مكاني... نقل سالم بصره مني إلى سماعة الهاتف ومن ثم عاد إليّ... وسأل...:"من المتصل يا خالد؟!."
ألقيت بجسدي على الكرسي الذي خلفي... وأجبته بصوت يرتجف...:"إنهم هم!.."
عقد حاجباه وسألني ثانية...:"من هم يا خالد؟!."
_:"إنهم هم!.. لقد غيروا الخطة..."

جلس قبالتي وعاد يسألني...:"ماذا؟!. وضح كلامك فأنا لا أفهم هذه الطلاسم..."
نظرت إليه وأنا أعيد الكلام الذي سمعته قبل قليل في ذهني... ثم أجبت...:"المنظمة!.. ألغت الخطوة الثانية... وسنبدأ مع الصباح بتنفيذ الخطوة الثالثة..."
اتسعت حدقتا عينيه وهو يسمع كلماتي التي اخترقت كل حواجز الاطمئنان لديه... واحتلت مكانها حواجزاً مُدمرَة تماماً... لقد تحققت ضنوني يا سالم!.. لقد أحسنتَ الضن بهم... وها أنت الآن خائب الضن بهم... لقد فقدنا كل أشعة الأمل التي كنا نملكها...
| +* +* +* +* |

حاولت أن أجد الطريق إلى النوم طوال الليل... ولكن كل الطرق إليه مظلمة... فكيف لي أن أصل إليه وبتول لا أدري أرضها من سمائها...
هل تاهت في الطريق؟!. أم أنها في إحدى المستوصفات التي لم نبحث فيها عنها!.. أو ربما تعثرت في الشارع الذي يفصل بيننا وبين بيت العم حسام... ونقلت إلى المشفى!...

إلهي ساعدني!..
فجأة تذكرت كلام وسام لي... لقد قال [[ربما اختبأت في مكان ما من البيت حتى تخلو بنفسها قليلاً ]]...
نعم ربما!.. لكن أين يمكنها أن تختبئ في بيتنا؟!.
غرفتها أكثر مكان تقضي وقتها به... وكذلك غرفة ريم أو غدير... لكن لو كانت في غرفتهما لعرفا بذلك... فليس هناك مكان في الغرف يمكن أن تختبئ به دون أن يروها فيه... غرفة غدير وريم يفصل بينهما بابٌ للحمام... وغرفة غدير وبتول لا يفصل بينهما سوى جدارٌ دقيق...
والصالة... والمطبخ... ليس بهم مكان يصلح للاختباء... وغرفة والديّ كذلك...

نهضت من مكاني بعد أن أشعلت الضوء الذي بقرب رأسي... التفت في أنحاء غرفتي وكأني لأول مرة أنظر إليها... ثم خرجت من الغرفة... واتجهت إلى غرفة بتول مباشرة... وكل أحاسيسي متوقفة على بتول...

دخلت إلى الغرفة... وأشعلت الأضواء... نقلت عيني على أجزاء غرفتها الصغيرة...
من السرير المرتب بغطائه الأرجواني... إلى الخزانة المغلقة الأبواب... ومنها إلى مكتبها الصغير والمتناثرة عليه كتبها... وصورة اعتلته جمعتنا فيها... وأخيراً إلى الباب النحيل في أحد جانبيها... كان الحمام الصغير الذي بناه أبي لها حتى تأخذ راحتها أكثر...

أول ما اتجهت إليه خزانتها فربما قد اختبأت فيها...
دفتي الباب فتحتها... ولم أجد خلفها سوى ثيابها المرتبة وكأنها لم تمس مذ وضعت... تنهدت بمرارة وأغلقت الدفتين... بعدها ذهبت إلى باب الحمام وفي قلبي أمنية أن أجدها هناك... تضم نفسها بنفسها... وفي قلبي أمل أن أجدها هناك تبكي بصمت... تنتظرني لأضمد أثر طعنتي لها...

طرقت الباب... لأتشبث بآخر ضوء حل ضيفاً جميلاً على روحي... فتحته بعد لحظات مرت دون أن أسمع شيئاً سوى خفقان الجالس بين أضلعي... فاستقبلتني برودة الجو فيه... وثلوج تساقطت عليّ برؤية استعمار الأزرق عليه...
أطفأت الضوء الذي نسيَته... وأغلقت الباب لأفتح معه بوابات آلامي... سقطت عيني على سريرها... فتمنيت لو أنني في كابوس مزعج... وتمنيت لو أنني كنت أعمى على أن أرى هذا السرير اليوم... تقدمت قليلاً ومعي تقدمت الذكريات... إلى أن وصلت إلى ذكرى بعيدة جداً... صورة أحببتها كثيراً...
أول يومٍ أتت به إلى بيتنا هذا... حملتها بين ذراعيّ وأنا صبي صغير... كنت كمن حصل على دمية جميلة...
[[ انتبه لها جيداً يا أحمد... ولا تتركها تبكي مطلقاً...]] ... [[ أمي إنها كالدمية الصغيرة... وأعدك بأن أعتني بها طول حياتي...]]
لكني اليوم أشعر بأنني أضعت عروسي التي أوصتني أمي عليها... وابتسامة شقت طريقها من شفتي لتعكسها عدسة أبي... ووضعتها أمي في تلك الأيام بجانب سرير بتول في صغرها... وضلت بتول تحتفظ بها عند رأسها...

خرت دمعة من عيني... وأنا أتذكر تلك الأيام الرائعة... أغشت تلك الدمعة بصري... فلم أعد أرى بوضوح...
تقدمت إلى الذكريات أكثر... فوصلت إلى تلك الصورة التي اعتلت مكتبها الصغير... وكأنها تنافس الكتب التي تتغير بين فترة وأخرى... على أنها الأفضل والباقية هنا أبد الدهر... هي تلك الصورة التي ضمتنا جميعاً... في عيد الفطر المبارك...
كان يوماً مميزاً... صادف عيد ميلادها... فأصرت على أن نلتقط صورة فيه... أمي... أبي... غدير... ريم... بتول وأنا... كلنا اجتمعنا... وهي الصورة نفسها التي وضَعتها في قلبها الذي قدمته لها هدية بعد أن كنت أجمع مصروفي لهذا اليوم...
سلسة من ذهب في وسطها قلب ذهبي يفتح ليكون نصفين... يوضع فيه صورة صغيرة للذكرى... وهي اختارت هذه الصورة...
[[ أحمد!.. انظر ماذا وضعت في القلب!..]]
عندما وَضعتْ الصورة فيه... أتتني إلى غرفتي لتريني إياها... كم كانت سعيدة به... رأيتها تلبس القلب دوماً... خاصة وأنني قد طلبت من الصائغ أن يحفر عليه أول حرف من اسمها...
والسر في ذلك القلب... أنه لا يستطيع فتحه إلا من يعرف ذلك... فشكله لا يدل على وجود شيءٌ في داخله... أو على مفتاح له... كأنها أحجية تحتاج لحل ما... لذلك لا يعرف أحداً بأن القلب يمكن فتحه... إلا أنا وبتول...
[[ أحمد!.. اجعله سراً بيننا...]] ... [[ أمرك مطاع غاليتي...]]

سمعت صوتاً قادماً من خلفي... أيقظني من الذكريات التي أفتقدها الآن... التفت لأرى غدير تقف بإزاء الباب ودمعة من مقلتيها تتلألأ...
_:"لم أنتِ مستيقظة حتى الآن؟!."
أجابتني بعد أن أبعدت عينيها عني...:"للسبب نفسه الذي أرقك..."
أغمضت جفني تاركاً فرصة أخرى لدموعي بالانهيار... لقد عدت إلى عالم الذكريات... لكن هذه المرة... ذكرياتي الحزينة...
حسن!.. خطيب غدير الذي تعلق بها وتعلقت به في فترة الخطوبة التي دامت ثلاث أشهر فقط... وانتهت بيد الحرب الباغية...
كنت مغمضاً عينيّ... وحين فتحتها... رأيت غدير قد اقتربت مني... فوجدت الدموع نهراً على وجنتيها... :"لماذا تعذب نفسك يا أخي؟!. سيعيدها الله لك..."

إن قلبكِ كبير يا غدير... صبورة كما عهدتكِ... رقيقة المشاعر كما عرفتكِ... وتضحين بكل غالٍ لديكِ من أجل من تحبين...
رفعت كفها إلى ذراعي... تضغط عليه... أحسست بأنها تود لو تبث لي الصبر والطمأنينة بأن بتول ستعود... وهذا ما أنا مؤمنٌ به... لكن هناك ما أحزنني على أختي أكثر...
غدير لازال إصبعها يطوقه خاتم حسن... لازالت متمسكة بحبها له... ولازالت متمسكة بأمل عودته...

لكنه لن يعود ليكفكف هذه الدموع... فقد أودعناه في رحمة الباري معاً... غدير!.. كيف لي أن أكفكف هذه الدمعة؟!.
كانت دموعها تزداد وهي تنظر إليّ... فقلت لها...:"إنكِ لازلت صابرة على البلاء... لكن أرجوكِ لا تقطعيني أشلاءً بدموعك..."
_:"إن الله مع الصابرين يا أخي... إنني صابرة من أجله... لقد رحل حقاً... لكن الشهيد يا أحمد يبقى حياً عند المولى عزوجل... أما دمعتي هذه فلا يمكن أن يكفكفها أحدٌ غيره..."

فاجأتني بحديثها هذا... لكن هذا ليس منطقاً تتحدث به... فأنا أجد به تناقضاً تاماً... إن كانت صابرة فما شأن الدموع أن تظهر... :"ولكنه لن يعود يا غدير... إني لا أريد أن أعذبكِ بكلامي!.. لكنها الحقيقة المرة التي عشناها جميعاً... لقد استشهد في سبيل الله... ووسدته الثرى بيديّ هاتين مع أبي..."
دفنت غدير رأسها في صدري... رغم أنني كنت أصغر منها في السن إلا أنني كنت ضخماً... وهذا الصدر ضمها كما ضم بتول في صغرها...
ضم غدير بعد رحيل حسن عن الدنيا... حسن الذي كان شخصاً رائعاً في نظر الجميع... فرحت لها من كل قلبي لدى معرفتي بأنه سيصبح صهراً لنا...

لقد كان حسن مهاجر من الشمال... أتى إلى هنا... إلى مركز البلاد لدى جدته بعد استشهاد أبويه في بداية الحرب... وجدته تعاني من مرضٍ أرقدها في فراشها طوال الأشهر القليلة المنصرمة... في المستشفى ليس بجوارها أحد غير إحدى حفيداتها و زوجها يعتنيان بها...

غدير!... أعانكِ الله... ومدك بالمزيد من الصبر...
وأنتِ يابتول!.. حفظكِ الله من كل مكروه... وأعادك سالمة لنا...
| +* +* +* +* |

السادسة والنصف من صباح يوم السبت...

بعد أن أشرقت الشمس... وأشرق معها الحماس في قلبي... لأرتدي ثيابي وأهم بالخروج من هذه الدوامة التي كنت أصارعها طوال الليل هنا مع سالم...
حالما انتهيت وهممت بالخروج من الشقة... سألني سالم...:"إلى أين بهذه الساعة المبكرة؟!."
أجبت دون أن أنظر إليه...:"لأقوم بعمل الخير بدل الجلوس هنا... وخيانة الوطن..."
وضع سالم كفه على كتفي ليوقفني عن الخروج...
_:"أجننت؟.. في الفجر صدقتُ ضنونك... لكن الآن بعد أن فكرت رأيت بأن ضنونك خاطئة..."

رمقته بغضب... فأكمل يقول...:"نحن لا ندري على أي أساس تم تغيير الخطة!.. لم لا نذهب ونلتقي ببقية الكتيبة... نحن أتينا إلى هنا يا خالد لتقديم العون لأبناء الوطن والوطن... أتينا إلى هنا لنرفع راية الوطن... لا راية الخيانة..."
رميت بكفه بعيداً عني... لأصرخ بوجهه...:"إنني مجنون حينما صدقتك... ليتني التحقت بالجيش الوطني بدل هذه المنظمة الفاسدة... إنني مجنون عندما اتبعت سبيلك... وتركت سبيل الوطن... ألم ترَ بعينك مارأيته في الأمس؟!. ألم ترَ ابتسامة الخبث التي دوماً تشع من عيني جمال؟!."
لم يرد عليّ بحرف واحد... فقلت له بأسف شديد...:"لابد أنك أعمى يا سالم... نعم!.. لابد أنك كذلك..."
خرجت من الشقة لأهرب من تلك العينين اللتين تؤنبانني... لأذهب وأبحث عن شخص يحتاج للخير...

خرجت من دائرة الظلمة لأدخل عالم النور الذي كنت أحتاج إليه... إنني ذاهب إلى الوطن!..
صوت سالم كان يلاحقني... وأنا لم أعطهِ أي اهتمام... مشيت قليلاً حتى وصلت إلى نهاية الشارع... وقفت أنتظر مرور السيارة التي كانت تعبر الشارع... فأمسكني سالم من ذارعي متوسلاً...:"اسمعني أرجوك!.. أنت محق في كل ما تقول... إنهم خونة وأنا كذلك..."
ركزت عينيّ عليه... أحاول أن أجد شيئاً يقول لي بأن ما سمعته من سالم كان مجرد هذيان... لكنه عندما رأى تعجبي أكد مقولته...:"نعم يا خالد!.. إنهم خونة!.. جمال ومن معه خائنون للبلد... جمال قطعة حجر يحركها الرقم الظاهر في النرد... ومن أعلى منه... هو حجر النرد الذي تلقي به يد الغرب... ونحن كذلك يا خالد!.."

لم أفهم ما قال... لكن كل ما عرفته أنني اشتركت مع مجرمين... إن يديّ هاتين تدنست بدماء الأبرياء... أنا أصبحت سفاحاً...
قال وهو ينكس رأسه...:"سامحني أرجوك... لقد ورطتك معي في ذنب عظيم..."

لقد أغرتني هذه الملامح الكريمة التي كنت ترتديها يا سالم... لقد أغرتني لحيتك الكثيفة التي كنت تحافظ عليها... وصلاتك التي لم تتركها مهما اشتد عليك تعب التدريب... ولم تفُتكَ فريضة أبداً...
ودون شعور مني... رفعت كفي لأصفعه... لقد أغاضتني كلماته... لقد ضيعت نفسي معهم... :"إنك مخادع يا سالم!.. لقد خدعتني!.. أيها المخادع لماذا فعلت بي ذلك؟!. أمن أجل المال أم من أجل حب الدنيا؟!. آآآه يا سالم ما الذي فعلته أنا بك لتجازيني بهذا الذنب الذي ألقيته في ميزاني؟!.."
لم ينطق بأي كلمة... لم يبدو عليه أنه ينوي الحديث... أو أن ينطق بكلمة تريحني لماذا زين المنظمة في عينيّ... أمسكت بياقته وهززته بقوة...:"سالم تكلم!.. انطق بكلمة واحدة فقط!.. وقل لي ماذا فعلوا بدماغك هذا لتخدعني؟!. لماذا يا سالم؟!. ونحن من كان بيننا صداقة قوية لماذا؟!. أرجوك قل لي لماذا؟!."
دمعة من عينه عرفت الطريق إلى وجنتيه ولتختفي وسط لحيته... لقد دمعت عينه... فهل هي دليلاً على ندمه؟!.

تركته!..
فلا فائدة ترجى منه بعد الآن... رغم هذه الدمعة لكن قلبي لن ينكسر الآن لك يا سالم... لن أرأف بك مهما كانت أعذارك ومبرراتك...
مشيت عنه لأعبر الشارع وأذهب منه إلى شارع آخر... لا أدري إلى أين سأذهب... سوى أن قدماي كانت تقودانني في الطرقات التي كنت أسير بها مساء الأمس مع سالم... كل طريق بدا مختلفاً وأكثر وضوحاً عن الليلة السابقة...

تذكرت فجأة ذلك الأنين الذي سمعته من أحد الأزقة... فحاولت العثور عليه... لكن صوت سالم رن في أذنيّ... :"خالد! توقف أرجوك..."
التفت لأراه قادماً يجري... توقفت قبل أن آخذ نفساً عميقاً وأخرجه بآهة جرفت ذرة من الضيق فقط من نفسي...
بعد ثوانٍ وصل ليقف يلتقط أنفاسه اللاهثة... وهو يقول من بين تلك الأنفاس...:"خالد!.. إنني... إنني أطلب منك... مسامحتي..."
رفع رأسه إليّ... وأكمل...:"أرجوك ياخالد!.. سامحني..."

في حين أنني رفعت رأسي للسماء... أطلب منها الرحمة... لكن يجب عليّ أن أرحم سالم الواقف أمامي متوسلاً بأن أسامحه... ليرحمني الله!...
أمسك بكفي وهو يقول...:"إنك لا تعلم ماهي الظروف التي واجهتها قبل التحاقي بالمنظمة... أرجوك سامحني..."
_:"وما فائدة ذلك الآن؟!. إنك جنيت على نفسك قبل أن تجني عليّ... إنك حرمت نفسك من طفلتك الصغيرة لتأتي مع هؤلاء الأنذال... قبل أن تحرمني من أهلي وأحبابي..."
خرت الدموع من عينيه... فقلت له...:"اتركني الآن... فلا أريد رؤيتك أبداً... لا أريد أي صلة تربطني بهذه المنظمة..."
ابتعدت عنه بضع خطوات... فاستوقفني...:"لايمكنك ذلك..."
التفت إليه باستغراب... ما الذي لا يمكنني؟!.
_:"لا يمكنك!... فهم يتبعوننا ويراقبوننا باستمرار... ومن لا يتبع أوامرهم يدمر!.."
فقلت له بغضب...:"ما الذي سيفعلونه؟!. سيحبسونني!.. ليفعلوا... سيقتلوني!.. ليقتلوني ويقطعوني إرباً إرباً... فأنا أستحق كل ما سيحدث لي..."

ومشيت دون أن أنتظر منه كلمة واحدة... لكنه مشى خلفي وأكمل تحذيري... أو لأقل أكمل تهديدي...:"إنهم لن يكتفوا بك... ولن يبدؤا بك أبداَ... إنهم في البداية سيهددونك... ثم يبدؤون في استفزازك... وتدميرك رويداً رويداً..."
قلت بلا مبالاة...:"ليفعلوا كل ما في استطاعتهم..."
قال بصوت منخفض قليلاً...:"سيقتلوا أفراد عائلتك واحداً تلو الآخر..."
تحجرت في مكاني كما الجدار الذي بجانبي... لقد قال أفراد عائلتي... أي أنهم سيقتلون أمي... حبيب... وبدور... أيعقل ذلك؟.. وكيف لا؟.. وهم أوغاد... غدروا بوطنهم... فكيف لا يغدروا بي... وأنا مجرد جندي لديهم...

وقف سالم أمامي... يتوسلني للمرة الألف...:"أرجوك لا تفعل بنفسك كما فعلت أنا... أرجوك سايرهم في خطاهم كما أفعل... لأجل أهلك يا خالد!.."
نفسي لازالت غير راغبة في رؤيته... وقلبي لازال يؤنبها... وهي تردعه عن المضي في الاشفاق على أناس مثله...
إنه مخادع يا خالد!.. فلا تجرفك عواطفك خلفه...

مشيت بخطى واسعة... وهو يلحقني يحاول أن يقنعني بأن ما أفعله خطر على أهلي قبل نفسي...
ولكن النفس ترفض الاصغاء إليه... وضميري الذي صحا في الأمس يأخذني نحو ذاك الأنين... وكلما أحسست بقرب الصوت مني... علا ضميري يحثني على المسير إليه...

وقفت أمام ذاك الزقاق ثانية... أرخي السمع لكل حركة تصدر منه... وسالم لازال بجانبي... فقال لي...:"ألا زلت مصراً على معرفة مصدر ذاك الصوت؟!."
هززت رأسي دون أن أنظر إليه... فقال لي برجاء أخير...:"اسمعني يا خالد!... إن كان شخصاً فاتركه وشأنه... فهو أفضل لحياتك..."
حياتي فداءٌ لأبناء هذا الوطن الشرفاء... خطوت خطواتي الأخيرة إلى داخل الزقاق والذي يفصل مجموعة بيوت عن أخرى...

عندما وقعت عيناي على الكتلة السوداء في نهايته... فكرت بأنه ليس من المعقول أنه لم يمر أحد في هذا الطريق... أو أن هناك من مر ولكنه لم يفكر في دخول هذا المكان...
تقدمت بخطوات مترددة... لكنها كانت واثقة مما أفعله... فإن لم أجد ما يستحق العناء... يكفي أني أرحت ضميري... وإن وجدت فإنني سأكون قد فعلت شيئاً مفيداً لنفسي يوم الحساب...

لكن تلك الخطوات المترددة... أصبحت خطوات مثقلة بجرح جديد... شهقت شهقة أحسست بأن روحي خرجت معها... تصلبت قدماي... وتوقف قلبي وعقلي عن العمل... ما الذي أراه أمامي؟!. هل أنا في كامل وعيي؟!. أم أني قد مت وأصبحت في عالم البرزخ!..

همس سالم من بعيد...:"مابك؟!. لابد وأنه لا شيء هناك!.."
لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة... سوى أنني رفعت يدي أشير إلى ما وقعت عيني عليه... فتقدم ليلقي نظرة... سالم الذي عهدته قوياً لا يهزه شيء... اهتزت فرائصه عندما رأى ما رأيت... وخرج سريعاً من الزقاق وهو يحاول سحبي خلفه...
اعتقدت بأنه ارتعب مما رأى... لكن صوت ما أيقظني تماماً... وقد تكرر أكثر من مرة... صوت انفجارات في المنطقة... فقد بدأت المنظمة بتنفيذ الخطوة الثالثة كما قالوا...

أمسكني سالم من ذراعي يستعجلني بالمسير... لكني جمدت مكاني ورفضت اللحاق به... فتركني وخرج...
تجمد جسدي ولا أعلم ماذا أفعل... لأول مرة أرى هذا المنظر المقزز للنفس... رغم أننا مجندون إلا أنني لم أرَ مثل هذا المنظر من قبل...

جسد هزيل وصغير... كأنه جسد فتاة... ملامح وجهها اختفت خلف قناع من الدم... شعرها مبعثر... ورأسها النازف ملقى على كومة أكياس المهملات... ثيابها الفضفاضة ممزقة في أنحاء عدة... ولا أدري كيف أصف ما رأت عيناي أكثر من ذلك... يديها!.. لا أدري أين هي!.. إحدى قدميها ملتوية للخلف... أم ماذا؟!. لم تعد الرؤية واضحة في عيني التي انعمت بالدموع...
تقدمت لأركع بجانبها... أحاول أن أجد شيئاً يدلني على وجود الحياة في هذا الجسد... تحسست بأصابعي عرقاً في رقبتها... لا أدري هل كان ينبض حقاً أم أن الأمل الذي تمنيته أوهمني بذلك؟!.
حملتها دون تردد بين ذراعيّ... حينها اكتشفت يديها المقيدتين خلف ظهرها...

فككتها!..
ماهذا الذي قُيدت به؟!. لم أتبينه جيداً... فرميت به وانطلقت إلى المشفى حاملاً إياها بين ذراعيّ... رامياً خلفي صوت سالم الذي يحذرني ويهددني... وصوت الانفجارات المدوية التي كلما اقتربت من المشفى ازدادت...
| +* +* +* +* |

بت ليلة الأمس وأنا قلقة جداً... مشتتة الأفكار... لكن يبدو أنني أخذت غفوة بعد صلاة الفجر دون أن أشعر... نهضت من مرقدي فزعة... واتجهت لأغتسل وأغير ثيابي...
بعد ذلك اتجهت ناحية غرفة ريم لأوقظها حتى تتجهز للمدرسة... لكنها فاجأتني بفتح الباب قبل أن أمس مقبضه... :"صباح الخير!.."
_:"أي خير ياترى وبتول ليست هنا؟!."
حز في قلبي سماع هذه الجملة من ريم... فهي تحب بتول كثيراً... حقاً أنهما تتشاجران معضم الوقت... لكن تبقى المحبة تسيطر على قلبيهما... :"أذكري الله!.. إلى أين ستذهب!.. مؤكد أنها ستعود لنا..."

لم تتكلم بل وجهت ناظريها إلى باب غرفة بتول... وقالت وعينيها تغرقان بالدموع...:" كانت يومياً توقظني للمدرسة... وترمي عليّ التعليقات لكثرة نومي... وكسلي... واليوم أستيقظ بمفردي!.."
ربت على كتفها أهدأ عليها... :"هيا الآن!.. اذهبي لتستعدي ليوم دراسي جديد..."
مسحت دموعها وهي تقول...:"كيف لي أن أبدأ يومي من دونها؟!."
تماسكتْ بصعوبة... واتجهت لتغتسل وتغير ثيابها...

أما أحمد فقد كان شيئاً آخر تماماً... طرقت باب غرفته فلم يجبني... فتحت الباب بهدوء وأنا أنادي عليه... وقعت عيني على السرير فوجدته خالياً وشبه مرتب... أي أنه لم يبت ليلته فيه... تفاجأت من ذلك... لكني تذكرت وجوده في غرفة بتول ليلة الأمس...

دخلت إلى غرفة بتول أتقدم خطوة وأتأخر بأخرى... حتى وصلت إليه... وهو جالس على الأرض ورأسه على سريرها... اعتقدت بأنه نائم... لكن صوته أكد لي أنه لم ينم بتاتاً...:"أهناك جديد؟!."
إنه يسأل عنها... ولا جديد في الأمر...
ما الذي تفعله بنفسك يا أخي؟.. إنك تحملها فوق طاقتها... ولكن من يقنعك يا أحمد؟.. من؟!.
نزلت لمستواه... وأغرقت كفي بين خصل شعره الكثيف...:"حتى الآن لا!.. ألم تنم؟!."
رفع رأسه وهو يفرك عينيه بيديه...:"لا... لم أشعر بالنعاس مطلقاً..."

لم أجد كلمة أقولها له... فمن منا نام جيداً؟.. أو من منا شعر بالنعاس!..
_:"انهض وتجهز للمدرسة... إن كنت تستطيع..."
هز رأسه وهو يجيب...:"لن أذهب..."
فقلت له موافقة...:"جيد... اذهب وخذ قسطاً من النوم... لعلك ترتاح قليلاً..."
نهض وهو يختم الحديث الصباحي...:"سأذهب للبحث عنها..."

وخرج من الغرفة... لحقت به إلى غرفته بعد أن استدركت ما قاله...:"مع من ستذهب؟!. لا تقل لي مع عليّ!.. فهو خطرٌ عليك..."
التفت إليّ ونظرة تأنيب رماني بها قبل أن يقول...:"إنني أصبحت كبيراً كفاية لأذهب معه... لكني لن أذهب معه... سأبحث وأنا أسير على قدمي في الشوارع والأزقة..."

ثم تركني وذهب إلى غرفته... نزلت أنا للأسفل ألقيت تحية الصباح على أمي وأبي... فردا عليّ بواحدة خالية من كل شيء... لم تحمل الصباح ولم تحمل حتى سواد الليل معها... وكذلك ريم أتت تُصبح علينا... لكن هذا الصباح لم يكن خيراً كما قالت قبل قليل...
أبي وأمي يبدو عليهما أنهما سهرا الليل بأكمله... أنا وريم لم ننم إلا ساعات قليلة... وها هو أحمد الذي دخل يحمل شيئاً مكبوتاً في أعماقه... جلس على كرسيه... دون أن ينطق بكلمة على غير عادته... فمشاكِسَته غائبة...
بعد ثوانٍ قال...:"صباحكم خير!.."
_:"وصباحك..."
أجبناه جميعاً... نفس الإجابة... خالية من كل شيء...

رفع رأسه الذي كان مطرقاً إلى الأسفل... وأنا التي كنت في قبالته تقريباً... رأيت عينيه تلمع بشدة حتى فَتح لونها جراء الدموع التي تراكمت فيها... وفجأة نهض تاركاً مائدة الإفطار التي لم يمس أحد فينا شيئاً منها... وترك خلفه عبراته ترن في آذاننا...
لقد كان ينظر إلى كرسي بتول الفارغ... والذي كانت أول من يصبح في وجهها يومياً بعد أمي وأبي... حتى اليوم نسي قبلة الصباح كما نسميها!..
وتلى خروجه خروج ريم تجري... والتي كان كرسيها مقابلاً لكرسي أبي بين أحمد وبتول... تركت خلفها الشهقات تقتلنا...

نظرت إلى وجه أمي وأبي...
أمي غرق وجهها بالدموع... وأبي ممسكاً زمام دموعه... لكن أمي لم تتحمل أكثر فخرجت خلفهما...

_:"اذهبي إلى محاضراتك يا غدير!.."
فأجبته...:"لا أستطيع يا أبي... فأمي الآن بحاجة إليّ... كيف نتركها جميعاً ونذهب؟.."
أخذ نفساً وخرج من الغرفة بهدوء لم أعهده في هذا البيت من قبل... لكن هذا الهدوء سرعان ما انقطع بدوي شديد... إنه أشبه بصوت انفجار... وتلاه انفجارات من أماكن عدة من حولنا...
فزعت من مكاني... وخرجت إلى الصالة لأرى أحمد عند الباب متجمداً... وريم على السلم تنزل جرياً... أما أمي وأبي فخرجا من الصالة وأبي ينادي علينا واحداً واحداً...

_:"ما الأمر؟!. ماذا يحدث؟!."
سألتْ ريم بفزع وهي تتجه إلى حضن أمي... لم يجبها أحد غير صوت انفجار آخر...
لأول مرة يُقصف مركز البلاد... لأول مرة نسمع صوت الانفجار بهذا المستوى القريب... وكأنه في البيت... اهتزت الأرض من تحت أرجلنا... واهتز البيت بأكمله... لم تمض الدقيقة حتى عادت ريم تسأل...:"أبي ماذا يحدث؟!."
أجاب أبي بصعوبة...:"لا أدري عزيزتي... لابد وأنهم يحاولون اغتيال قلب البلد..."
يستحيل ذلك!.. يستحيل على أولئك الأوغاد الوصول إلى قلب البلد... فهناك الحراسة مشددة... والجيش لن يسمح لهم بذلك... ستسيطر قوات الوطن عليهم...

فاجأنا أحمد بخروجه دون أن ينطق بكلمة واحدة... والدي أسرع بالامساك بيده...:"إلى أين؟!. لن تذهب اليوم إلى أي مكان..."
سحب أحمد يده من يد أبي وهو يقول...:"لن أجعلهم يمسون شعرة منها... إنهم أنذال سيفعلون بها كل ما يحلو بهم إن وقعت بأيديهم..."

خرج وخرجت معه أرواحنا!..
تلى خروجه انفجارات عدة... وأبي أراد الخروج لكنه لم يشأ تركنا بمفردنا بعد خروج أحمد...
| +* +* +* +* |

 
 

 

عرض البوم صور HOPE LIGHT  
قديم 04-04-09, 09:54 PM   المشاركة رقم: 57
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2007
العضوية: 55383
المشاركات: 562
الجنس أنثى
معدل التقييم: HOPE LIGHT عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 14

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HOPE LIGHT غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : HOPE LIGHT المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة HOPE LIGHT مشاهدة المشاركة
   |+*| الورقة السادسة من غصن الحرية |*+|



التاسعة والنصف من نفس ذلك المساء...

عندما دخلت إلى بيتنا مع أبي... رأيت أمي تقف بباب البيت... كانت عينيها قد تلونت بجميع ألوان القلق والخوف... لم تسمح لنا بأن نلقي السلام حتى!..
_:"أين هي؟!. ألم تجداها؟!."
نظر إليّ أبي وفي عينيه خوفٌ وقلق لايقل عن خوف وقلق أمي... ثم نظر إليها قائلاً...:"غيداء!.. ادعي لها بالسلامة..."
ازداد توتر أمي مما جعلها تذرف الدموع وتبكي... تقدم منها أبي حينما رآها تجلس على السلم الخارجي... تخفي وجهها الذي تبلل بالدموع بيديها... جلس هو الآخر على درجات السلم ليلفها بذراعه... :"أذكري الله!.. ليكون الله في عونها... اذكريه فهو العالم بمكانها وحالها... واصبري على الفراق والبلاء ياغيداء..."

فقالت من بين دموعها...:"كيف لي أن أصبر؟!. إنني ربيتها مذ كانت في المهد... طفلة ذات يوم واحد فقط حملتها بين ذراعيّ... وفز قلبي لها... أحسستها قطعة مني... سهرت الليل لأجلها... حتى كبرت وأصبحت صبية... عندما تقول لي أمي!.. أشعر وكأني قد ملكت الدنيا بسماعها تنطق هذه الكلمة... وكذلك أحمِدُ الله بأن لم يضع تعبي حين جعلني أسمعها منها كثيراً... والآن تريدني ألا أبكي... تضيع من بين يديّ ولا تريدون مني البكاء... إنها ابنتي يامصطفى!.. ابنتي!.."
رأيت دمعة تهرب من مقلتي أبي... فهو لا يتحمل كلاماً مثل كلامها المؤلم!.. ودموعي أنا غسلتني... كنت أريد البكاء منذ ساعات... ولكني خزنت دموعي بعيداً عن الآخرين... وأمي لم ترحم ضعفي فأبكتني بحديثها...
سمعت صراخ ريم الذي أتى من خلف الباب المفتوح...:"أمي ما الذي حدث؟!. أحمد!.. أبي!.. مابكم تبكون؟!."
رفعت عيني إليها... كانت تقف تنظر إلينا بذهول وخوف... وعندما رأت أمي تنتحب أتت إلى أبي تسأله...:"أين بتول يا أبي؟!. لماذا عدتما بدونها؟!."
كذلك لم تسمع جواباً منه... فالتفتت إليّ... كانت تخفي شعرها القصير خلف خمارها... وعينيها تهدد بسيل من الدموع... أخذت نفساً وهي تقترب مني...:"أحمد!.. أخبرني أين بتول؟!."

أغمضت عيني لأسمح لدمعي أن يسيل أكثر وأكثر... لعله يريحني من همي... لعله يدلني على من ضاعت من بين يدي...
نظرت إلى كفي الذي حوى كفها عصر اليوم... نظرت إلى ذراعيّ اللتين ضمتها قبل سنين... والآن هي خالية لا تحوي شيئاً... لقد ضيعتها بنفسي...ولا أدري أين أجدها...
لم تتحمل ريم صمتي أكثر من ذلك... أمسكت بذراعي لتهزني سائلة...:"أين هي يا أحمد؟!. إنك تذرف الدموع لا تقول لي بأنها رحلت بلا عودة!.. لا تقول لي ذلك!.."
فتحت عيني بخوف مما سمعت... وحاولت أن أخرج صوتي لأنفي ما تقوله... لكن صوت غدير سبقني...:"أحمد!.. تكلم أرجوك... لاتعذبنا أكثر من ذلك..."
نظرت إلى غدير التي كانت تضم أمي تهدأ من روعها... لقد كانت غدير هي الصامدة حتى الآن... لولا أن عينيها قد غرقتا بالدمع... لكنها متمسكة...
وعند الباب على الدرجات الأولى من السلم يقف علي ابن خالتي وأخته ياسمين... فعادت ريم تهزني بشدة...:"تكلم يا أحمد!... إن حصل لها مكروه فأنا السبب!.. أنا السبب يا أحمد... أرجوك تكلم..."

كم أنت بلهاء ياريم... خرج صوتي مكبلاً بالغم... :"الشرطة ستبحث عنها في الغد إن لم تعد!.."
صرخت أمي...:"وما الذي سيصبرني إلى الغد؟!. إنها بتول يا أحمد!.. بتول التي ربيتها من أولى ساعاتها في الدنيا... فكيف لي أن أصبر إلى الغد؟!. هؤلاء الشرطة مجانين..."
ثم وجهت حديثها إلى أبي...:"خذني إليهم علهم يرأفون بي ويبحثون الآن... أرجوك يامصطفى خذني إليهم!.."
نظر إليّ أبي... وشتتني نظراته الحزينة... أربكتني عينيه الدامعة والمعاتبة...
ثم نهض من على السلم... وهم بالدخول إلى البيت... لكن يد غدير استوقفته قبل أن تقول...:"أبي!.. لا أريد أن تتكرر مأساة العام السابق هذه السنة كذلك... أبي أرجوك افعل شيئاً..."
يا لقلبكِ الكبير يا غدير!..
نظرته إليّ تكررت لغدير أيضاً لكن من دون عتاب... وعيون الجميع معلقه بأبي... إلا أمي التي لازالت تجهش بالبكاء وذراع غدير تلفها بحنان... أما ياسمين فكانت تلقي بدمعتها بعيداً كلما قفزت على وجنتيها...
وريم لازالت ممسكة بذراعيّ... حتى هنا لم تستطع الصمود أكثر فأخفت وجهها في صدري وانتحبت... :"كله بسببي!.. أنا السبب في هروبها..."
إنكِ حمقاء ياريم... كم تمنيت لو أقولها بصوت تسمعه... لكني جعلتها تذرف دموعها على صدري أكثر وأكثر... حين أخذتها إلى صدري أكثر... وربت على ظهرها...

_:"عماه!.. أتسمح لي بمباشرة التبليغ والبحث نيابة عنك!.."
انتشلنا هذا الصوت من قعر الحزن والألم... إنه عليّ الذي نسيناه... ونسينا وظيفته... إنه محقق في المحكمة الجزئية... ولديه معارف كثر في هذا المجال... وكأن القدر عاد يبتسم لنا من جديد... حين رأيت عيون الجميع تتعلق به وتترك أبي... حتى ريم التفتت إليه بلهفة تود معرفة ما سيقوله بعد ذلك...
فأكمل بتوتر بان في نبرة صوته...:"إن لي أصدقاءاً لهم خبرة ممتازة في هذا المجال... ولن يقصروا في ذلك... وأنا لن أقصر في خدمتكم أبداً..."

انتقل أبي بنظره إلينا واحداً تلو الآخر... وفي عين كل منا رجاءً بأن لا يطفئ شمعة الأمل التي أشعلها عليٌّ لنا...
فقال بعد أن رسم ابتسامته وهو ينظر إليّ...:"افعل ما في وسعك من عمل... فبك الخير يابنيّ..."
قالت له أمي...:"نعم ياعليّ!.. أعدها لنا سالمة..."
_:"بكل طاقتي سأساعدكم... وبإذنه عزوجل ستعود..."
ألقى بنظرة خاطفة على غدير التي دمعت عينيها في هذه اللحظة... فهي لابد وتذكرت ما حدث قبل عام لحسن...
ثم أمسك عليّ بيد أخته ياسمين وخرجا معاً بعد أن ألقيا السلام... وطمأننا بأنه سيفعل كل ما يجده مناسباً... ولم يسمح لي بالذهاب معه حتى لا أعرقله كما قال لي... وكأنه يعرفني حق المعرفة...
| +* +* +* +* |

السبت: التاسع والعشرون من نوفمبر... الساعة الثانية فجراً...

تقلبت في فراشي طوال الليل... أحاول أن أجد القليل من النوم لكن من دون جدوى... أحاول أن أبعد صوت ذلك الأنين عني ولكن لم أستطع... إنه يزداد وضوحاً كلما تذكرته...
أشعر بقلبي ينقبض كلما أغمضت عيني... وضميري يؤنبني على تركي لذلك المكان دون أن أكتشف مصدره... ربما يكون أحدهم في حاجة لمساعدة ما!.. أو ربما يكون طفلاً صغيراً في مأزق!..
لماذا ياسالم أبعدتني عن اكتشاف الأمر؟!. لماذا سمعت كلامك منذ البداية وأتيت معك لأكون هنا؟!. أو حتى هناك في المعسكر!..
إنني غبيٌ جداً... نعم يا خالد!.. أنت أغبى إنسانٍ عرفته... ضميرك خامد مذ تركت أهلك... وتركت البدور التي بمثابة ابنتك... وأغلى بكثير من ذلك...
إنني أفعل كما فعل أبي منذ زمن... حين تركنا وسافر إلى حيث الحرب المشتعلة... لقد كان جندياً يشهد له الكثير بالشجاعة والشرف... ولكنه عاد لنا جثة... وترك خلفه طفلة كالبدر... أصبحت لها الأب الذي لم تره إلا كالحلم في نظرها... وأنا في الخامسة عشرة من عمري... أصبحت مسؤولاً عنها وعن حبيب... لكن بدور كانت ابنتي... والآن أنا أتركها كما فعل أبي منذ عشر سنين انصرمت...

نهضت من السرير واتجهت ناحية المطبخ الصغير الذي بجانب باب الشقة الرئيسي... سكبت لي بعض الماء لأروي عطشي... الذي داهمني من كثرة التفكير...
وأنا على هذه الحال... إذ رن هاتف الشقة... في ساعةٍ متأخرة من الليل يرن الهاتف!.. لابد وأنه أمر ضروري... أو ربما الهيئة العليا للمعسكر... يصدرون أوامرهم... أجل ربما يكونون هم... ويريدون منا العودة في الصباح كما قال سالم!..
إلهي حقق هذه الأمنية... ودعنا نعود دون قتل أو تدمير...

رفعت الهاتف لأرد على المتصل... فأتاني صوت خشن غريب النبرات... :"صباح الخير... هل أنت سالم أم خالد؟!."
فرددت عليه قائلاً...:"خالد!.. من أنت؟!."
لم يجب على سؤالي بل أردف قائلاً...:"مع ساعات الصباح الأولى تنفذون الخطوة الثالثة من العملية... فقد ألغيت الخطوة الثانية..."
_:"ماذا؟!. من أنت؟!."

سمعت صوت صفارة الهاتف تعلن انتهاء المكالمة... لقد تغيرت الخطة تماماً... لقد ألغيت الخطوة الثانية... أي أننا سنبدأ بخطوة مختلفة عنها... لقد انهارت كل الآمال!..
ماذا يمكنني أن أفعل الآن... هل أتركهم وأذهب؟!. أم أفعل مايريدون منا أن نفعل؟..

فزعت من مكاني وأنا أسمع صوت سالم يحدثني... :"خالد!.. مابك؟!."
ألقيت بسماعة الهاتف التي كانت معلقة في يدي... ووقفت أحدق في سالم على ضوء ضعيف قادم من المطبخ...
كنت كالحجر جامداً في مكاني... نقل سالم بصره مني إلى سماعة الهاتف ومن ثم عاد إليّ... وسأل...:"من المتصل يا خالد؟!."
ألقيت بجسدي على الكرسي الذي خلفي... وأجبته بصوت يرتجف...:"إنهم هم!.."
عقد حاجباه وسألني ثانية...:"من هم يا خالد؟!."
_:"إنهم هم!.. لقد غيروا الخطة..."

جلس قبالتي وعاد يسألني...:"ماذا؟!. وضح كلامك فأنا لا أفهم هذه الطلاسم..."
نظرت إليه وأنا أعيد الكلام الذي سمعته قبل قليل في ذهني... ثم أجبت...:"المنظمة!.. ألغت الخطوة الثانية... وسنبدأ مع الصباح بتنفيذ الخطوة الثالثة..."
اتسعت حدقتا عينيه وهو يسمع كلماتي التي اخترقت كل حواجز الاطمئنان لديه... واحتلت مكانها حواجزاً مُدمرَة تماماً... لقد تحققت ضنوني يا سالم!.. لقد أحسنتَ الضن بهم... وها أنت الآن خائب الضن بهم... لقد فقدنا كل أشعة الأمل التي كنا نملكها...
| +* +* +* +* |

حاولت أن أجد الطريق إلى النوم طوال الليل... ولكن كل الطرق إليه مظلمة... فكيف لي أن أصل إليه وبتول لا أدري أرضها من سمائها...
هل تاهت في الطريق؟!. أم أنها في إحدى المستوصفات التي لم نبحث فيها عنها!.. أو ربما تعثرت في الشارع الذي يفصل بيننا وبين بيت العم حسام... ونقلت إلى المشفى!...

إلهي ساعدني!..
فجأة تذكرت كلام وسام لي... لقد قال [[ربما اختبأت في مكان ما من البيت حتى تخلو بنفسها قليلاً ]]...
نعم ربما!.. لكن أين يمكنها أن تختبئ في بيتنا؟!.
غرفتها أكثر مكان تقضي وقتها به... وكذلك غرفة ريم أو غدير... لكن لو كانت في غرفتهما لعرفا بذلك... فليس هناك مكان في الغرف يمكن أن تختبئ به دون أن يروها فيه... غرفة غدير وريم يفصل بينهما بابٌ للحمام... وغرفة غدير وبتول لا يفصل بينهما سوى جدارٌ دقيق...
والصالة... والمطبخ... ليس بهم مكان يصلح للاختباء... وغرفة والديّ كذلك...

نهضت من مكاني بعد أن أشعلت الضوء الذي بقرب رأسي... التفت في أنحاء غرفتي وكأني لأول مرة أنظر إليها... ثم خرجت من الغرفة... واتجهت إلى غرفة بتول مباشرة... وكل أحاسيسي متوقفة على بتول...

دخلت إلى الغرفة... وأشعلت الأضواء... نقلت عيني على أجزاء غرفتها الصغيرة...
من السرير المرتب بغطائه الأرجواني... إلى الخزانة المغلقة الأبواب... ومنها إلى مكتبها الصغير والمتناثرة عليه كتبها... وصورة اعتلته جمعتنا فيها... وأخيراً إلى الباب النحيل في أحد جانبيها... كان الحمام الصغير الذي بناه أبي لها حتى تأخذ راحتها أكثر...

أول ما اتجهت إليه خزانتها فربما قد اختبأت فيها...
دفتي الباب فتحتها... ولم أجد خلفها سوى ثيابها المرتبة وكأنها لم تمس مذ وضعت... تنهدت بمرارة وأغلقت الدفتين... بعدها ذهبت إلى باب الحمام وفي قلبي أمنية أن أجدها هناك... تضم نفسها بنفسها... وفي قلبي أمل أن أجدها هناك تبكي بصمت... تنتظرني لأضمد أثر طعنتي لها...

طرقت الباب... لأتشبث بآخر ضوء حل ضيفاً جميلاً على روحي... فتحته بعد لحظات مرت دون أن أسمع شيئاً سوى خفقان الجالس بين أضلعي... فاستقبلتني برودة الجو فيه... وثلوج تساقطت عليّ برؤية استعمار الأزرق عليه...
أطفأت الضوء الذي نسيَته... وأغلقت الباب لأفتح معه بوابات آلامي... سقطت عيني على سريرها... فتمنيت لو أنني في كابوس مزعج... وتمنيت لو أنني كنت أعمى على أن أرى هذا السرير اليوم... تقدمت قليلاً ومعي تقدمت الذكريات... إلى أن وصلت إلى ذكرى بعيدة جداً... صورة أحببتها كثيراً...
أول يومٍ أتت به إلى بيتنا هذا... حملتها بين ذراعيّ وأنا صبي صغير... كنت كمن حصل على دمية جميلة...
[[ انتبه لها جيداً يا أحمد... ولا تتركها تبكي مطلقاً...]] ... [[ أمي إنها كالدمية الصغيرة... وأعدك بأن أعتني بها طول حياتي...]]
لكني اليوم أشعر بأنني أضعت عروسي التي أوصتني أمي عليها... وابتسامة شقت طريقها من شفتي لتعكسها عدسة أبي... ووضعتها أمي في تلك الأيام بجانب سرير بتول في صغرها... وضلت بتول تحتفظ بها عند رأسها...

خرت دمعة من عيني... وأنا أتذكر تلك الأيام الرائعة... أغشت تلك الدمعة بصري... فلم أعد أرى بوضوح...
تقدمت إلى الذكريات أكثر... فوصلت إلى تلك الصورة التي اعتلت مكتبها الصغير... وكأنها تنافس الكتب التي تتغير بين فترة وأخرى... على أنها الأفضل والباقية هنا أبد الدهر... هي تلك الصورة التي ضمتنا جميعاً... في عيد الفطر المبارك...
كان يوماً مميزاً... صادف عيد ميلادها... فأصرت على أن نلتقط صورة فيه... أمي... أبي... غدير... ريم... بتول وأنا... كلنا اجتمعنا... وهي الصورة نفسها التي وضَعتها في قلبها الذي قدمته لها هدية بعد أن كنت أجمع مصروفي لهذا اليوم...
سلسة من ذهب في وسطها قلب ذهبي يفتح ليكون نصفين... يوضع فيه صورة صغيرة للذكرى... وهي اختارت هذه الصورة...
[[ أحمد!.. انظر ماذا وضعت في القلب!..]]
عندما وَضعتْ الصورة فيه... أتتني إلى غرفتي لتريني إياها... كم كانت سعيدة به... رأيتها تلبس القلب دوماً... خاصة وأنني قد طلبت من الصائغ أن يحفر عليه أول حرف من اسمها...
والسر في ذلك القلب... أنه لا يستطيع فتحه إلا من يعرف ذلك... فشكله لا يدل على وجود شيءٌ في داخله... أو على مفتاح له... كأنها أحجية تحتاج لحل ما... لذلك لا يعرف أحداً بأن القلب يمكن فتحه... إلا أنا وبتول...
[[ أحمد!.. اجعله سراً بيننا...]] ... [[ أمرك مطاع غاليتي...]]

سمعت صوتاً قادماً من خلفي... أيقظني من الذكريات التي أفتقدها الآن... التفت لأرى غدير تقف بإزاء الباب ودمعة من مقلتيها تتلألأ...
_:"لم أنتِ مستيقظة حتى الآن؟!."
أجابتني بعد أن أبعدت عينيها عني...:"للسبب نفسه الذي أرقك..."
أغمضت جفني تاركاً فرصة أخرى لدموعي بالانهيار... لقد عدت إلى عالم الذكريات... لكن هذه المرة... ذكرياتي الحزينة...
حسن!.. خطيب غدير الذي تعلق بها وتعلقت به في فترة الخطوبة التي دامت ثلاث أشهر فقط... وانتهت بيد الحرب الباغية...
كنت مغمضاً عينيّ... وحين فتحتها... رأيت غدير قد اقتربت مني... فوجدت الدموع نهراً على وجنتيها... :"لماذا تعذب نفسك يا أخي؟!. سيعيدها الله لك..."

إن قلبكِ كبير يا غدير... صبورة كما عهدتكِ... رقيقة المشاعر كما عرفتكِ... وتضحين بكل غالٍ لديكِ من أجل من تحبين...
رفعت كفها إلى ذراعي... تضغط عليه... أحسست بأنها تود لو تبث لي الصبر والطمأنينة بأن بتول ستعود... وهذا ما أنا مؤمنٌ به... لكن هناك ما أحزنني على أختي أكثر...
غدير لازال إصبعها يطوقه خاتم حسن... لازالت متمسكة بحبها له... ولازالت متمسكة بأمل عودته...

لكنه لن يعود ليكفكف هذه الدموع... فقد أودعناه في رحمة الباري معاً... غدير!.. كيف لي أن أكفكف هذه الدمعة؟!.
كانت دموعها تزداد وهي تنظر إليّ... فقلت لها...:"إنكِ لازلت صابرة على البلاء... لكن أرجوكِ لا تقطعيني أشلاءً بدموعك..."
_:"إن الله مع الصابرين يا أخي... إنني صابرة من أجله... لقد رحل حقاً... لكن الشهيد يا أحمد يبقى حياً عند المولى عزوجل... أما دمعتي هذه فلا يمكن أن يكفكفها أحدٌ غيره..."

فاجأتني بحديثها هذا... لكن هذا ليس منطقاً تتحدث به... فأنا أجد به تناقضاً تاماً... إن كانت صابرة فما شأن الدموع أن تظهر... :"ولكنه لن يعود يا غدير... إني لا أريد أن أعذبكِ بكلامي!.. لكنها الحقيقة المرة التي عشناها جميعاً... لقد استشهد في سبيل الله... ووسدته الثرى بيديّ هاتين مع أبي..."
دفنت غدير رأسها في صدري... رغم أنني كنت أصغر منها في السن إلا أنني كنت ضخماً... وهذا الصدر ضمها كما ضم بتول في صغرها...
ضم غدير بعد رحيل حسن عن الدنيا... حسن الذي كان شخصاً رائعاً في نظر الجميع... فرحت لها من كل قلبي لدى معرفتي بأنه سيصبح صهراً لنا...

لقد كان حسن مهاجر من الشمال... أتى إلى هنا... إلى مركز البلاد لدى جدته بعد استشهاد أبويه في بداية الحرب... وجدته تعاني من مرضٍ أرقدها في فراشها طوال الأشهر القليلة المنصرمة... في المستشفى ليس بجوارها أحد غير إحدى حفيداتها و زوجها يعتنيان بها...

غدير!... أعانكِ الله... ومدك بالمزيد من الصبر...
وأنتِ يابتول!.. حفظكِ الله من كل مكروه... وأعادك سالمة لنا...
| +* +* +* +* |

السادسة والنصف من صباح يوم السبت...

بعد أن أشرقت الشمس... وأشرق معها الحماس في قلبي... لأرتدي ثيابي وأهم بالخروج من هذه الدوامة التي كنت أصارعها طوال الليل هنا مع سالم...
حالما انتهيت وهممت بالخروج من الشقة... سألني سالم...:"إلى أين بهذه الساعة المبكرة؟!."
أجبت دون أن أنظر إليه...:"لأقوم بعمل الخير بدل الجلوس هنا... وخيانة الوطن..."
وضع سالم كفه على كتفي ليوقفني عن الخروج...
_:"أجننت؟.. في الفجر صدقتُ ضنونك... لكن الآن بعد أن فكرت رأيت بأن ضنونك خاطئة..."

رمقته بغضب... فأكمل يقول...:"نحن لا ندري على أي أساس تم تغيير الخطة!.. لم لا نذهب ونلتقي ببقية الكتيبة... نحن أتينا إلى هنا يا خالد لتقديم العون لأبناء الوطن والوطن... أتينا إلى هنا لنرفع راية الوطن... لا راية الخيانة..."
رميت بكفه بعيداً عني... لأصرخ بوجهه...:"إنني مجنون حينما صدقتك... ليتني التحقت بالجيش الوطني بدل هذه المنظمة الفاسدة... إنني مجنون عندما اتبعت سبيلك... وتركت سبيل الوطن... ألم ترَ بعينك مارأيته في الأمس؟!. ألم ترَ ابتسامة الخبث التي دوماً تشع من عيني جمال؟!."
لم يرد عليّ بحرف واحد... فقلت له بأسف شديد...:"لابد أنك أعمى يا سالم... نعم!.. لابد أنك كذلك..."
خرجت من الشقة لأهرب من تلك العينين اللتين تؤنبانني... لأذهب وأبحث عن شخص يحتاج للخير...

خرجت من دائرة الظلمة لأدخل عالم النور الذي كنت أحتاج إليه... إنني ذاهب إلى الوطن!..
صوت سالم كان يلاحقني... وأنا لم أعطهِ أي اهتمام... مشيت قليلاً حتى وصلت إلى نهاية الشارع... وقفت أنتظر مرور السيارة التي كانت تعبر الشارع... فأمسكني سالم من ذارعي متوسلاً...:"اسمعني أرجوك!.. أنت محق في كل ما تقول... إنهم خونة وأنا كذلك..."
ركزت عينيّ عليه... أحاول أن أجد شيئاً يقول لي بأن ما سمعته من سالم كان مجرد هذيان... لكنه عندما رأى تعجبي أكد مقولته...:"نعم يا خالد!.. إنهم خونة!.. جمال ومن معه خائنون للبلد... جمال قطعة حجر يحركها الرقم الظاهر في النرد... ومن أعلى منه... هو حجر النرد الذي تلقي به يد الغرب... ونحن كذلك يا خالد!.."

لم أفهم ما قال... لكن كل ما عرفته أنني اشتركت مع مجرمين... إن يديّ هاتين تدنست بدماء الأبرياء... أنا أصبحت سفاحاً...
قال وهو ينكس رأسه...:"سامحني أرجوك... لقد ورطتك معي في ذنب عظيم..."

لقد أغرتني هذه الملامح الكريمة التي كنت ترتديها يا سالم... لقد أغرتني لحيتك الكثيفة التي كنت تحافظ عليها... وصلاتك التي لم تتركها مهما اشتد عليك تعب التدريب... ولم تفُتكَ فريضة أبداً...
ودون شعور مني... رفعت كفي لأصفعه... لقد أغاضتني كلماته... لقد ضيعت نفسي معهم... :"إنك مخادع يا سالم!.. لقد خدعتني!.. أيها المخادع لماذا فعلت بي ذلك؟!. أمن أجل المال أم من أجل حب الدنيا؟!. آآآه يا سالم ما الذي فعلته أنا بك لتجازيني بهذا الذنب الذي ألقيته في ميزاني؟!.."
لم ينطق بأي كلمة... لم يبدو عليه أنه ينوي الحديث... أو أن ينطق بكلمة تريحني لماذا زين المنظمة في عينيّ... أمسكت بياقته وهززته بقوة...:"سالم تكلم!.. انطق بكلمة واحدة فقط!.. وقل لي ماذا فعلوا بدماغك هذا لتخدعني؟!. لماذا يا سالم؟!. ونحن من كان بيننا صداقة قوية لماذا؟!. أرجوك قل لي لماذا؟!."
دمعة من عينه عرفت الطريق إلى وجنتيه ولتختفي وسط لحيته... لقد دمعت عينه... فهل هي دليلاً على ندمه؟!.

تركته!..
فلا فائدة ترجى منه بعد الآن... رغم هذه الدمعة لكن قلبي لن ينكسر الآن لك يا سالم... لن أرأف بك مهما كانت أعذارك ومبرراتك...
مشيت عنه لأعبر الشارع وأذهب منه إلى شارع آخر... لا أدري إلى أين سأذهب... سوى أن قدماي كانت تقودانني في الطرقات التي كنت أسير بها مساء الأمس مع سالم... كل طريق بدا مختلفاً وأكثر وضوحاً عن الليلة السابقة...

تذكرت فجأة ذلك الأنين الذي سمعته من أحد الأزقة... فحاولت العثور عليه... لكن صوت سالم رن في أذنيّ... :"خالد! توقف أرجوك..."
التفت لأراه قادماً يجري... توقفت قبل أن آخذ نفساً عميقاً وأخرجه بآهة جرفت ذرة من الضيق فقط من نفسي...
بعد ثوانٍ وصل ليقف يلتقط أنفاسه اللاهثة... وهو يقول من بين تلك الأنفاس...:"خالد!.. إنني... إنني أطلب منك... مسامحتي..."
رفع رأسه إليّ... وأكمل...:"أرجوك ياخالد!.. سامحني..."

في حين أنني رفعت رأسي للسماء... أطلب منها الرحمة... لكن يجب عليّ أن أرحم سالم الواقف أمامي متوسلاً بأن أسامحه... ليرحمني الله!...
أمسك بكفي وهو يقول...:"إنك لا تعلم ماهي الظروف التي واجهتها قبل التحاقي بالمنظمة... أرجوك سامحني..."
_:"وما فائدة ذلك الآن؟!. إنك جنيت على نفسك قبل أن تجني عليّ... إنك حرمت نفسك من طفلتك الصغيرة لتأتي مع هؤلاء الأنذال... قبل أن تحرمني من أهلي وأحبابي..."
خرت الدموع من عينيه... فقلت له...:"اتركني الآن... فلا أريد رؤيتك أبداً... لا أريد أي صلة تربطني بهذه المنظمة..."
ابتعدت عنه بضع خطوات... فاستوقفني...:"لايمكنك ذلك..."
التفت إليه باستغراب... ما الذي لا يمكنني؟!.
_:"لا يمكنك!... فهم يتبعوننا ويراقبوننا باستمرار... ومن لا يتبع أوامرهم يدمر!.."
فقلت له بغضب...:"ما الذي سيفعلونه؟!. سيحبسونني!.. ليفعلوا... سيقتلوني!.. ليقتلوني ويقطعوني إرباً إرباً... فأنا أستحق كل ما سيحدث لي..."

ومشيت دون أن أنتظر منه كلمة واحدة... لكنه مشى خلفي وأكمل تحذيري... أو لأقل أكمل تهديدي...:"إنهم لن يكتفوا بك... ولن يبدؤا بك أبداَ... إنهم في البداية سيهددونك... ثم يبدؤون في استفزازك... وتدميرك رويداً رويداً..."
قلت بلا مبالاة...:"ليفعلوا كل ما في استطاعتهم..."
قال بصوت منخفض قليلاً...:"سيقتلوا أفراد عائلتك واحداً تلو الآخر..."
تحجرت في مكاني كما الجدار الذي بجانبي... لقد قال أفراد عائلتي... أي أنهم سيقتلون أمي... حبيب... وبدور... أيعقل ذلك؟.. وكيف لا؟.. وهم أوغاد... غدروا بوطنهم... فكيف لا يغدروا بي... وأنا مجرد جندي لديهم...

وقف سالم أمامي... يتوسلني للمرة الألف...:"أرجوك لا تفعل بنفسك كما فعلت أنا... أرجوك سايرهم في خطاهم كما أفعل... لأجل أهلك يا خالد!.."
نفسي لازالت غير راغبة في رؤيته... وقلبي لازال يؤنبها... وهي تردعه عن المضي في الاشفاق على أناس مثله...
إنه مخادع يا خالد!.. فلا تجرفك عواطفك خلفه...

مشيت بخطى واسعة... وهو يلحقني يحاول أن يقنعني بأن ما أفعله خطر على أهلي قبل نفسي...
ولكن النفس ترفض الاصغاء إليه... وضميري الذي صحا في الأمس يأخذني نحو ذاك الأنين... وكلما أحسست بقرب الصوت مني... علا ضميري يحثني على المسير إليه...

وقفت أمام ذاك الزقاق ثانية... أرخي السمع لكل حركة تصدر منه... وسالم لازال بجانبي... فقال لي...:"ألا زلت مصراً على معرفة مصدر ذاك الصوت؟!."
هززت رأسي دون أن أنظر إليه... فقال لي برجاء أخير...:"اسمعني يا خالد!... إن كان شخصاً فاتركه وشأنه... فهو أفضل لحياتك..."
حياتي فداءٌ لأبناء هذا الوطن الشرفاء... خطوت خطواتي الأخيرة إلى داخل الزقاق والذي يفصل مجموعة بيوت عن أخرى...

عندما وقعت عيناي على الكتلة السوداء في نهايته... فكرت بأنه ليس من المعقول أنه لم يمر أحد في هذا الطريق... أو أن هناك من مر ولكنه لم يفكر في دخول هذا المكان...
تقدمت بخطوات مترددة... لكنها كانت واثقة مما أفعله... فإن لم أجد ما يستحق العناء... يكفي أني أرحت ضميري... وإن وجدت فإنني سأكون قد فعلت شيئاً مفيداً لنفسي يوم الحساب...

لكن تلك الخطوات المترددة... أصبحت خطوات مثقلة بجرح جديد... شهقت شهقة أحسست بأن روحي خرجت معها... تصلبت قدماي... وتوقف قلبي وعقلي عن العمل... ما الذي أراه أمامي؟!. هل أنا في كامل وعيي؟!. أم أني قد مت وأصبحت في عالم البرزخ!..

همس سالم من بعيد...:"مابك؟!. لابد وأنه لا شيء هناك!.."
لم أستطع أن أنطق بكلمة واحدة... سوى أنني رفعت يدي أشير إلى ما وقعت عيني عليه... فتقدم ليلقي نظرة... سالم الذي عهدته قوياً لا يهزه شيء... اهتزت فرائصه عندما رأى ما رأيت... وخرج سريعاً من الزقاق وهو يحاول سحبي خلفه...
اعتقدت بأنه ارتعب مما رأى... لكن صوت ما أيقظني تماماً... وقد تكرر أكثر من مرة... صوت انفجارات في المنطقة... فقد بدأت المنظمة بتنفيذ الخطوة الثالثة كما قالوا...

أمسكني سالم من ذراعي يستعجلني بالمسير... لكني جمدت مكاني ورفضت اللحاق به... فتركني وخرج...
تجمد جسدي ولا أعلم ماذا أفعل... لأول مرة أرى هذا المنظر المقزز للنفس... رغم أننا مجندون إلا أنني لم أرَ مثل هذا المنظر من قبل...

جسد هزيل وصغير... كأنه جسد فتاة... ملامح وجهها اختفت خلف قناع من الدم... شعرها مبعثر... ورأسها النازف ملقى على كومة أكياس المهملات... ثيابها الفضفاضة ممزقة في أنحاء عدة... ولا أدري كيف أصف ما رأت عيناي أكثر من ذلك... يديها!.. لا أدري أين هي!.. إحدى قدميها ملتوية للخلف... أم ماذا؟!. لم تعد الرؤية واضحة في عيني التي انعمت بالدموع...
تقدمت لأركع بجانبها... أحاول أن أجد شيئاً يدلني على وجود الحياة في هذا الجسد... تحسست بأصابعي عرقاً في رقبتها... لا أدري هل كان ينبض حقاً أم أن الأمل الذي تمنيته أوهمني بذلك؟!.
حملتها دون تردد بين ذراعيّ... حينها اكتشفت يديها المقيدتين خلف ظهرها...

فككتها!..
ماهذا الذي قُيدت به؟!. لم أتبينه جيداً... فرميت به وانطلقت إلى المشفى حاملاً إياها بين ذراعيّ... رامياً خلفي صوت سالم الذي يحذرني ويهددني... وصوت الانفجارات المدوية التي كلما اقتربت من المشفى ازدادت...
| +* +* +* +* |

بت ليلة الأمس وأنا قلقة جداً... مشتتة الأفكار... لكن يبدو أنني أخذت غفوة بعد صلاة الفجر دون أن أشعر... نهضت من مرقدي فزعة... واتجهت لأغتسل وأغير ثيابي...
بعد ذلك اتجهت ناحية غرفة ريم لأوقظها حتى تتجهز للمدرسة... لكنها فاجأتني بفتح الباب قبل أن أمس مقبضه... :"صباح الخير!.."
_:"أي خير ياترى وبتول ليست هنا؟!."
حز في قلبي سماع هذه الجملة من ريم... فهي تحب بتول كثيراً... حقاً أنهما تتشاجران معضم الوقت... لكن تبقى المحبة تسيطر على قلبيهما... :"أذكري الله!.. إلى أين ستذهب!.. مؤكد أنها ستعود لنا..."

لم تتكلم بل وجهت ناظريها إلى باب غرفة بتول... وقالت وعينيها تغرقان بالدموع...:" كانت يومياً توقظني للمدرسة... وترمي عليّ التعليقات لكثرة نومي... وكسلي... واليوم أستيقظ بمفردي!.."
ربت على كتفها أهدأ عليها... :"هيا الآن!.. اذهبي لتستعدي ليوم دراسي جديد..."
مسحت دموعها وهي تقول...:"كيف لي أن أبدأ يومي من دونها؟!."
تماسكتْ بصعوبة... واتجهت لتغتسل وتغير ثيابها...

أما أحمد فقد كان شيئاً آخر تماماً... طرقت باب غرفته فلم يجبني... فتحت الباب بهدوء وأنا أنادي عليه... وقعت عيني على السرير فوجدته خالياً وشبه مرتب... أي أنه لم يبت ليلته فيه... تفاجأت من ذلك... لكني تذكرت وجوده في غرفة بتول ليلة الأمس...

دخلت إلى غرفة بتول أتقدم خطوة وأتأخر بأخرى... حتى وصلت إليه... وهو جالس على الأرض ورأسه على سريرها... اعتقدت بأنه نائم... لكن صوته أكد لي أنه لم ينم بتاتاً...:"أهناك جديد؟!."
إنه يسأل عنها... ولا جديد في الأمر...
ما الذي تفعله بنفسك يا أخي؟.. إنك تحملها فوق طاقتها... ولكن من يقنعك يا أحمد؟.. من؟!.
نزلت لمستواه... وأغرقت كفي بين خصل شعره الكثيف...:"حتى الآن لا!.. ألم تنم؟!."
رفع رأسه وهو يفرك عينيه بيديه...:"لا... لم أشعر بالنعاس مطلقاً..."

لم أجد كلمة أقولها له... فمن منا نام جيداً؟.. أو من منا شعر بالنعاس!..
_:"انهض وتجهز للمدرسة... إن كنت تستطيع..."
هز رأسه وهو يجيب...:"لن أذهب..."
فقلت له موافقة...:"جيد... اذهب وخذ قسطاً من النوم... لعلك ترتاح قليلاً..."
نهض وهو يختم الحديث الصباحي...:"سأذهب للبحث عنها..."

وخرج من الغرفة... لحقت به إلى غرفته بعد أن استدركت ما قاله...:"مع من ستذهب؟!. لا تقل لي مع عليّ!.. فهو خطرٌ عليك..."
التفت إليّ ونظرة تأنيب رماني بها قبل أن يقول...:"إنني أصبحت كبيراً كفاية لأذهب معه... لكني لن أذهب معه... سأبحث وأنا أسير على قدمي في الشوارع والأزقة..."

ثم تركني وذهب إلى غرفته... نزلت أنا للأسفل ألقيت تحية الصباح على أمي وأبي... فردا عليّ بواحدة خالية من كل شيء... لم تحمل الصباح ولم تحمل حتى سواد الليل معها... وكذلك ريم أتت تُصبح علينا... لكن هذا الصباح لم يكن خيراً كما قالت قبل قليل...
أبي وأمي يبدو عليهما أنهما سهرا الليل بأكمله... أنا وريم لم ننم إلا ساعات قليلة... وها هو أحمد الذي دخل يحمل شيئاً مكبوتاً في أعماقه... جلس على كرسيه... دون أن ينطق بكلمة على غير عادته... فمشاكِسَته غائبة...
بعد ثوانٍ قال...:"صباحكم خير!.."
_:"وصباحك..."
أجبناه جميعاً... نفس الإجابة... خالية من كل شيء...

رفع رأسه الذي كان مطرقاً إلى الأسفل... وأنا التي كنت في قبالته تقريباً... رأيت عينيه تلمع بشدة حتى فَتح لونها جراء الدموع التي تراكمت فيها... وفجأة نهض تاركاً مائدة الإفطار التي لم يمس أحد فينا شيئاً منها... وترك خلفه عبراته ترن في آذاننا...
لقد كان ينظر إلى كرسي بتول الفارغ... والذي كانت أول من يصبح في وجهها يومياً بعد أمي وأبي... حتى اليوم نسي قبلة الصباح كما نسميها!..
وتلى خروجه خروج ريم تجري... والتي كان كرسيها مقابلاً لكرسي أبي بين أحمد وبتول... تركت خلفها الشهقات تقتلنا...

نظرت إلى وجه أمي وأبي...
أمي غرق وجهها بالدموع... وأبي ممسكاً زمام دموعه... لكن أمي لم تتحمل أكثر فخرجت خلفهما...

_:"اذهبي إلى محاضراتك يا غدير!.."
فأجبته...:"لا أستطيع يا أبي... فأمي الآن بحاجة إليّ... كيف نتركها جميعاً ونذهب؟.."
أخذ نفساً وخرج من الغرفة بهدوء لم أعهده في هذا البيت من قبل... لكن هذا الهدوء سرعان ما انقطع بدوي شديد... إنه أشبه بصوت انفجار... وتلاه انفجارات من أماكن عدة من حولنا...
فزعت من مكاني... وخرجت إلى الصالة لأرى أحمد عند الباب متجمداً... وريم على السلم تنزل جرياً... أما أمي وأبي فخرجا من الصالة وأبي ينادي علينا واحداً واحداً...

_:"ما الأمر؟!. ماذا يحدث؟!."
سألتْ ريم بفزع وهي تتجه إلى حضن أمي... لم يجبها أحد غير صوت انفجار آخر...
لأول مرة يُقصف مركز البلاد... لأول مرة نسمع صوت الانفجار بهذا المستوى القريب... وكأنه في البيت... اهتزت الأرض من تحت أرجلنا... واهتز البيت بأكمله... لم تمض الدقيقة حتى عادت ريم تسأل...:"أبي ماذا يحدث؟!."
أجاب أبي بصعوبة...:"لا أدري عزيزتي... لابد وأنهم يحاولون اغتيال قلب البلد..."
يستحيل ذلك!.. يستحيل على أولئك الأوغاد الوصول إلى قلب البلد... فهناك الحراسة مشددة... والجيش لن يسمح لهم بذلك... ستسيطر قوات الوطن عليهم...

فاجأنا أحمد بخروجه دون أن ينطق بكلمة واحدة... والدي أسرع بالامساك بيده...:"إلى أين؟!. لن تذهب اليوم إلى أي مكان..."
سحب أحمد يده من يد أبي وهو يقول...:"لن أجعلهم يمسون شعرة منها... إنهم أنذال سيفعلون بها كل ما يحلو بهم إن وقعت بأيديهم..."

خرج وخرجت معه أرواحنا!..
تلى خروجه انفجارات عدة... وأبي أراد الخروج لكنه لم يشأ تركنا بمفردنا بعد خروج أحمد...


| +* +* +* +* |


بقلم المبدعة: شجرة الكرز

 
 

 

عرض البوم صور HOPE LIGHT  
قديم 13-04-09, 07:55 AM   المشاركة رقم: 58
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2007
العضوية: 55383
المشاركات: 562
الجنس أنثى
معدل التقييم: HOPE LIGHT عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 14

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HOPE LIGHT غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : HOPE LIGHT المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

ها هو الجزء السادس بين أيديكم ...
قراءة ممتعة :)

 
 

 

عرض البوم صور HOPE LIGHT  
قديم 15-06-09, 08:54 AM   المشاركة رقم: 59
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2007
العضوية: 55383
المشاركات: 562
الجنس أنثى
معدل التقييم: HOPE LIGHT عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 14

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HOPE LIGHT غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : HOPE LIGHT المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

السلام عليكم ...
نحب أن نعتذر على هذا التأخير في انزال الجزء ...
لكن هناك ظروف حالت دون ذلك...
اسمحوا لنا من جديد...
دمتم بحفظ الله...

 
 

 

عرض البوم صور HOPE LIGHT  
قديم 13-11-09, 09:58 AM   المشاركة رقم: 60
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Nov 2007
العضوية: 55383
المشاركات: 562
الجنس أنثى
معدل التقييم: HOPE LIGHT عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 14

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HOPE LIGHT غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : HOPE LIGHT المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

[FONT="Comic Sans MS"]|+*|الضوء السابع في درب الكلمات |*+|




السبت... التاسعة وخمسٌ وأربعون دقيقة صباحاً... المنطقة الغربية...

كان جالساًيتلذذ بطعامه.... حين قرع باب غرفته الخاصة...
فرد على الطارق:" أدخل"

بان من وراء الباب جندي في بداية العشرينات... انتصب مؤدياً التحية العسكرية... قبل أن يقول بصوت جهوري": سيدي , لقد مرت ساعتان على القصف, فهل يتم إصدار أمراً بالتوقف؟!."

وضع الشوكة و السكين جانباً... متناولاً المنديل ليمسح به شفتيه التين لم تلبثا حتى خطتا ابتسامة عريضة...
تَبِعتها جملته : " يكفيهم لهذا اليوم, إنه مجرد تنبيه و تحذير لأولئك الخونة... فأصدر الأمر حالاً..."

قال الجندي وهو يضرب قدماه ببعضهما البعض: " أمرك سيدي"
ثم انصرف ساحباً معه الباب...
ما إن أغلق الباب... حتى رن هاتفه المحمول...
تعين الرقم الذي كان سبباً في رسم الخبث على ذلك الوجه البغيض... ومن ثم ضغط على زر الاستقبال: " أهلا بك سيدي..."

صوت حمل كلمات بلغةٍ من بلاد الغرب... : " أهلا بك جمال, كيف حالك؟"

زاد من سعة ابتسامته و هو يقول: " بخير.. بخير ..وأنت سيدي, كيف حالك ؟ "
_:"حالي يعتمد على الأخبار التي تحملها لي... "

_:"سيدي لا تخف فكل شيء يجري كما خططنا... فاليوم بدأنا أول جزء من خطتنا... قصفنا مركز البلاد... وكما جاء في المحطات الفضائية أن اقتصادهم سوف يتدهور بغضون أيام"

جاءه من الطرف الآخر صوت ضحكة شيطانيه... تبعها قائلاً _: " جيد ... جيد جداً يا جمال ... الآن لن يستطيعوا أن يصمدوا أكثر من ذلك... سوف يرضخون لنا بطواعيه... ولا تعلم كم هي فرحتي بسماع تلك الأنباء... "
وعاد ليكمل ضحكته ...

|+* +* +*|

مدينة الأمير السكنية...
في قبو إحدى العمارات التي لم تسلم من براثن تلك القنابل... دخلت لأجده لم يلحق به عطب ... و لم تهزه الانفجارات...
قررت أن أبقى هنا ... فهو آمن مكان في هذه الحالة .... فالقنابل تنهمل علينا من كل جانب ... لهذا أصبح من سابع المستحيلات أن أصل إلى المستشفى ....

_:"أولئك الأوغاد ... فعلوها ... ها هم يقتلون الأبرياء بوحشية .. .... يا الله أين أذهب...؟ فالمدينة مدمرة من كل جانب ... آآآآآآآه .... والقنابل تنهال علينا من السماء بلا توقف ... يا الله ... "

أعدت ناظريّ إلى ذلك الكائن الساكن بلا حراك الذي أحمله في يديّ ..... لا أعرف أكيف أبحرت في عالم آخر ... عالم بعيد عن صوت الصراخ .... و الانفجارات .... و المباني المنهارة ....

لقد نسيت إحساسي بالواقع المرير الذي يحدث حولي ... وأخذت انظر إلى هذا الوجه الطفولي ... الذي شوهه اللون الدامي .... وذلك الشعر الحريري ... المتناثر بعشوائية على وجهها .... و تلك الشفتان الكرزيتان .... عدت للحقيقة التي تفجع القلب ... عندما رأيت تلك الدموع الجافة التي على خديها ..... ليضيق نفسي ... و أشعر بألم مبرح في صدري ..... لقد أخطأت عندما لم أدخل ذلك الزقاق البارحة ... عندما سمعت صوت الأنين ... لربما وجدت ذلك المجرم الذي فعل بهذه البريئة هذا الفعل الشنيع ... و خنقته بيديّ هاتين .... أنذال ... أنذال ...

|+* +* +*|


منزل ندخله لأول مرة...
عاد الهدوء الذي تبع تلك العاصفة الهوجاء ... التي أعادت تصميم معالم المدينة ... التي كانت زهرة متفتحة ... و باتت زهرة ذابلة ... فقدت رونقها و جمالها ... بعد وابل القنابل التي لم ترحم لا صغيراً و لا كبيراً.... مناظر تدمي القلب ... و صراخ أطفال ضاعوا في زحام الدمار .... كم يؤلمني رؤية هذا المنظر .... آآآآآه كم أكره نفسي عندما تقف عاجزة ... لا أقدر على فعل شيء ....

_:"أخي!..."
التفت ورائي.. لأجد أختي ياسمين المرعوبة ... ضممتها إلى صدري ...
بصوت ينذر بدمع _:" لماذا ...لماذا فعلوا هكذا ؟ "

بعد أن أدخلت ما أقدر عليه من هواء إلى رئتيّ ... قلت لها :" هؤلاء وحوش بلا قلب, ليس همهم إلا المال ونفوسهم فقط"
وخرجت من فمي تنهيدة طويلة, تترجم الألم الذي يتقد في صدري..

هجم إلى مسامعنا صوت أمي المملوء رعباً :" يا الله ... يا الله .."

التفت أنا وياسمين بسرعة ناحية أمي.. التي كانت تنزل من على السلالم ... وهي تهرول ... فزاد الخوف في قلوبنا ... عندما رأينا تعابير وجهها ... التي ترسم الخوف ...

أبعدت ياسمين صدري ... وتوجهت ناحية أمي بلمح البصر ... وقفت أمامها... و سألتها من فوري : _ " ماذا هناك يا أمي ؟!!!"

أخذت تلتقط أمي أنفاسها الهاربة... ومن ثم قالت :"بني خالتك... خالتك ..."
قاطعتها وقلبي قد قفز إلى جوفي من الخوف :" ماذا بها خالتي ... ؟ "

نزلت دمعة من عين أمي ... لتزيد نار الخوف المتقدة في صدري ... و تبعتها كلماتها الراجفة ...:" كنت أكلمها ... وفجأة سمعت صوت انفجار ... ومن ثم أنقطع الخط ... أنا ... أنا .... "

لم تقوَ على الإكمال ... فدموعها انهمرت بغزارة ...

أما أنا فلم أعد قادراً على التنفس .. وأنا أتصور الأسوأ في خلدي ...
وياسمين تهدأ أمي التي دخلت في دوامة من الدموع ...

لم أجد نفسي إلا أمام الباب ... و يدي تغلف مقبض الباب... لم أدرك أني هناك إلا بعد أن سمعت صوت أختي ياسمين و هي تقول:_" إلى أين أنت ذاهب ؟!!! "

التفتت ناحيتها ... و بعينين شاردتان ..قلت _: يجب أن أذهب لأطمأن عليهم "
جاءني صوت ياسمين و هي تقول _:" أجننت يا علي .. ألا ترى الأوضاع الآن "

أغمضت عينيّ لبرهة ... لأستجمع شتات أفكاري ... لكن صرخت قلب آمرة ... بعثرت تلك الأفكار ... وقادت ذلك الجسد ... لناحية من ملكه ... غير آبهٍ لأصوات تنادي بعودته ....

|+* +* +*|


مركز الشرطة... مكان آخر لم تطأه أقدامنا قبل الآن...

بجسد خارت قواه ... أخذ يقترب ناحية ابنه الواقف طواقاً لحضن أبيه... ركض ناحية أبيه ... وأحاطه بذراعيه ... و جعله يزور حضنه ... رفع يده بعد جهد جهيد ... فجسده أعياه التعب ... وبصوت بالكاد يسمع قال_: " كم يسعدني رؤيتك يا بني .."
_:" وأنا كذالك يا أبي, وأنا كذالك "

أبعده من حضنه... وأسنده حتى أجلسه على الكرسي ... ومن ثم جلس بالكرسي المقابل له ... وقال-:" كيف حالك يا أبي ؟ "
خرجت تنهيدة من فمه المكسو بشنب كثيف أبيض اللون ...ومن ثم قال-:" الحمد لله .. الحمد لله ... كيف حالك أنت يا إسماعيل و كيف حال أختك ؟"
-:"
نحن بخير ... أبي ما الذي جرى ... كيف حصل كل هذا ؟"
هز رأسه بأسى و هو يقول بنبرة صوت حزينة- :" لا أعلم يا إسماعيل, لا أعلم...أنا و الله لم أمد يدي لمال حرام , وأنت أعلم الناس بهذا الشيء "
- : " أعلم ذلك يا أبي... لكن من الذي ورطك في هذا الأمر ؟ "
- :" لا أعلم ... لا أعلم ... "
وأسند رأسه على يده ... و هو يجاهد لكبت عبراته ... فلم يرد أن يراه ابنه في هذا الموقف ... و في هذا الضعف ...
قام من مقعده ... وتقدم ناحية أبيه ... ووضع يده على كتف أبيه ... ورسم ابتسامة مصطنعة ... وهو يقول_: " لا تخف يا أبي , و لا تحزن , أنا سوف أجد الشخص الذي ورطك , وأزجه في السجن ..فقط لا تخزن نفسك .."

بيده الحرة ... وضع يده على يد ابنه الجالسة على كتفه ... واكتفى بصمت ... فالكلام سوف يفضحه ... ويكشف عن الدموع المتربصة به....

|+* +* +*|

هوت يده على وجهه كسوط لاسع .... جعلت توازنه يختل ... ليهوي ناحية الأرض ... و الدم يسيل من طرف فمه ....
دنا منه ... و عينيه يتقدان غضبا ... و بصوت هائج قال- :" أحمق ... كيف تركته يذهب عنك ...كيف ؟"

بنبرة صوت مخنوقة بالخوف قال- :" لقد حاولت ... حاولت أن أردعه عن الذهاب ..لكنه لم يصغي لي ... ومن ثم ... أخذت أصوات الانفجارات تدوي في أرجاء المنطقة ..فخفت ... أرجوك سامحني سيدي جمال ...أرجوك "

انتصب ... ومن ثم ركله بكل ما أوتي من قوة في معدته ... وهو يقول -:" أتسمي نفسك جندياً ... تهرب من أرض المعركة كامرأة ... أنا كنت مخطئاً عندما أعطيتك فرصة ثانية ... أمثالك لا ينفعون لشيء ..."

برجاء أعتلى قسمات وجهه ... و غلف صوته :" أرجوك سامحني سيدي, أرجوك , أعطني فرصة أخرى و سوف أعيده لك .. أنا أعدك .. أعدك بذلك صدقني "

نظر إليه بطرف عينيه ... ومن ثم أعطاه ظهره وهو يقول :" لقد انتهى دورك يا سالم, لقد كشف أمرك, لم تعد تصلح للعمل معنا"

وأشار للجندي الواقف بجواره ... ليتحرك الجندي ناحية سالم ... ويمسكه من ذراعه و يرفعه ليقف ... و سالم يصرخ لآخر نفس راجياً جمال بالعفو ... لكن جمال أكمل طريقة دون أن يلتفت ناحيته ... ليذهب رجائه و استنجاده أدراج الرياح ....
ويتم ما قد أمر به جمال بأن يفعل...

في حين أن جمال طلب من سكرتيره الخاص بأن يصدر أمراً آخر... تأمل المنظر من خلف زجاج النافذة قبل أن ينطق... :"أحضروا لي عائلة الجندي الهارب خالد..."
سكت لبضع ثوان... ثم أدار ظهره مواجهاً سكرتيره... :"لا انتظر... لديه أخت صغيرة يحبها كثيراً... أحضرها إلى هنا... أما البقية فاقتلعوا الشجرة من جذورها..."
|+* +* +*|


لم أعد قادراً على المشي ... الخوف هد جسدي ...
ولا أعلم لماذا قلبي مقبوض هكذا .... أمعقول بأنها ...بأنها ... لاااا لاااا... أخذت أهز رأسي كالمجنون لعل هذه الفكرة السخيفة ترحل عن فكري ...
أتكأت على الجدار ... وأخذت أهوي ناحية الأرض .... و الدمع يرافقني... فهو لم يعد قادراً أن يستحمل البقاء في مقلتيّ أكثر من ذلك ...

أغمضت عينيّ ... لأتذكر تلك اللحظة ... اللحظة الأخيرة ... عندما رأيت وجهها الحزين ... يفارقنا ... كأنه يقول وداعاً ... كأنها كانت تعلم بأنها سوف ترحل عنا ... غرست يديّ في رمال الطريق المخلوطة بفتات المنازل التي دمرها العدو الغاشم .... وصببت فيها جام غضبي ... وأنا أهشمها في قبضة يديّ .... ومن ثم أنثرها في الهواء ... وأصرخ بأعلى طبقة من صوتي ...
:" أيها المجرمون ... أيها القتلة ... إذا جرى لبتول شيء ... فلن تسلموا مني ... سوف أقضي عليكم جميعاً ... جميعاً"

توقفت عن نوبة غضبي ... واستسلمت لدمعي .... فلم يعد لي سواه ... بعد أن تلاشى الغبار الذي خلفته ... لمحت شيئاً من بعيد ... كان ... كان شيئاً يلمع .... قمت على قدميّ ...
وأخذت أقترب بخطى صغيرة ناحيته ... حتى وصلت إلى ذاك الشيء... انتابني شعور بالخوف لدى رؤيتي تلك السلسلة الذهبية... خفق قلبي بشدة عندما دنوت منها وأمسكت بها بين أصابعي... تحسستها برفق ودموعي تسيل على خديّ... لكن هناك شيء ينقصها... ذلك القلب الذي يحتوينا...

همست للسلسلة...:"أين صاحبتك؟!. أين من حُملت على جيدها منذ زمن؟!. آآآه يالله... ماذا حدث لها؟.. لابد وأن تكون سلسلة تشابهك... لكنني متأكد من أنك هي... أين بتول؟!. أين هي الآن؟!. أخبريني إن كنت تعلمين ماذا حل بها..."
لكني لم أسمع جواباً على أسئلتي... غير منظر لطخته أدخنة النيران المتصاعدة... وعزلته عني دموعي...
شدني إلى ذاك الزقاق شيءٌ ما... لا أدري ما هو؟... شيء في داخلي يأمرني أن أدخل إلى ذاك المكان القذر...
مسحت بكفي بقايا الدموع التي منعت عني الرؤية... لتتضح الصورة أمامي... شاهدت كومة من أكياس القمامة متناثرة حول الحاوية الضخمة... لكن هناك شيء متجمد لطخ الأرض بلونه القاني... لونه ذاك جعلني أشعر برغبة جامحة في أن أتقيأ...
دم من هذا؟!. أيمكن أن يكون لها؟!. ماذا حدث لها؟!. إلهي أغثني من عذابي... لم أستطع الوقوف على قدميّ أكثر من ذلك... فجثوت على ركبتيّ وكأن جبلاً ألقيّ على جسدي... اختلطت دمعتي مع تلك الدماء... دمعة واحدة... فعيني قد جفت من كثرة بكائي... كيف لي أن أجدك؟!.

لا يا الله ... معقول .. معقول يا بتول بأنك ... بأنك... لاااااااااااااااااااااااااااااااااا
صرخةٌ هزت ما في داخلي من وجع وألم ....
لم أشعر بنفسي إلا وقد حنيت ظهري ... حتى لامس جبيني الأرض و غرست تلك السلسلة إلى صدري .... كأني أتخيلها هي ...
[[ ليتك الآن أنت مكان السلسلة... ليتك!..]]
كنت أريد بأن أصرخ بأن أبكي ...لكن لم أستطع ... لم أستطع... لم أستطع...
|+* +* +*|


في القبو ذاته...

لم أبعد عينيّ عنها ... فأنا أخاف بأن أبعدهما ويحدث لها ما حدث....
آآآآآآآآآآآه ... كم أشعر بالذنب ..كأني أنا الذي ارتكبت تلك الفعلة الشنيعة ... إن ذلك الشعور يقتلني ...
كانت لا تزال فاقدة الوعي .... ربما كان هذا الأفضل لها ....فإذا استيقظت تذكرت ما حصل لها ... آآآآآآآآآآآآآآآآآآه يالك من مسكينة ... مسكينة ....

فجأت سمعت صوت أحدهم ... فانتفضت وقمت من مكاني ... ووضعت يدي على سلاحي الذي كنت قد حشرته في سروالي من الخلف ... وقد صوبت بصري ناحية مصدر الصوت .... ليخرج رجل ويتبعه رجلين آخرين يحملان رجل كسته الدماء ...
ما أن تلاقت أعيننا ... حتى انتفض الرجل الذي دخل أول ... وأشهر سلاحه .. وأنا أيضاً صوبت مسدسي ناحيته .....
وقبل أن أفتح فمي و أسئله هو سألني أولاً_:"من أنت ؟!"
قالها وهو مصوب بصره ناحيتي ...
_:" أنا الذي يجب أن أسألك هذا السؤال!..."

أخذ يحدق بي لبضع ثواني .. ومن ثم خطى خطوتين .... فصرخت به قائلا:" توقف وإلا أطلقت النار .."
توقف وقال:" لم تجبني عن سؤالي.."
لأصرخ به قائلا :" أسمع يا هذا الأفضل لك بأن ترحل وإلا قتلتك.."

لم يأبه لكلامي ... بل أخذ يقترب مني ... فهيأت نفسي لكي أطلق النار عليه .. لكنه أخذ يقول :" ماذا بك خائف هكذا ....؟ أهناك شيء ؟!."
صرخت ثانية...:" أنا لست خائفا ... والأجدر بك أن تتوقف وإلا .."
بتر جملتي بقوله :" وإلا قتلتني أليس كذلك ... اسمع يا هذا إذا فعلتها فسوف تكون أغبى رجل في العالم ... حيث أنها ستكون نهايتك .... أليس كذلك يا رجال"
ليردوا دفعة واحدة بصوت مشحون بالقوة :"نعم سيدي "

نظرت خلفه ... لتقع عينيّ عليهم ... وكل منهم قد أشهر سلاحه ... حتى الشخص المصاب الذي كان ملقى على الأرض...
رغم ذلك ... لم تهتز شعرة من رأسي.. [[ماذا سأخسر أكثر مما خسرت ...]]
قلت له متحديا :" أسمع .. لا أنت ولا رجالك تخيفوني ... خطوةً أخرى وستصبح هذه الرصاصة في قلبك ..."
خط ابتسامة سخرية على شفتيه وثم قال:"تعجبني جرأتك .... لكن لمعلوماتك .. أنا لا أخاف الموت ... لا أخاف إلا من الذي خلقني ... و الذي سيموت هنا هو أنت .... "
وأخذ يخطو قدما ...
انتهى كل شيء ... لقد أعطيته فرصة .. لكنه رفضها ... لهذا عزمت أمري لأطلق النار ... و الذي يحصل يحصل ...
_:"الآن سوف تكون نهايتك يا هذا .."

لكنه توقف عن التقدم ... [[ يبدو بأنه خاف أخيرا ..]]
لكنه لم يكن الخوف هو السبب ... تمعنت في وجهه جيدا ... لأجد الصدمة مرسومة على وجهه .. وعينيه مفتوحتان على مصراعيهما تنظران إلى ماخلفي ...
تتبعت أثرهما .. لأجدهما واقعتان عليها... تلك الصغيرة المسكينة...
قبل أن أعيد بصري ناحيته ... وجدته انقض عليه كوحش مفترس وضيق الخناق على عنقي بقبضة من حديد ... وأخذ يدفعني إلى الخلف حتى ارتطمت بقوة بالجدار ... وأخذ يزمجر بي قائلا:"أيها القذر كيف تفعل بهذه الصغيرة هكذا ..."
الآن استوعبت ما يدور في خلده ... كان يظن بأني ذلك الوحش الذي آذاها ... فصرخت به من فوري :- (( لاااااااااا أنت مخطئ ... أنا لم أفعل بها شيئاً... أنا وجدتها في أحد..."
بتر جملتي بصراخه :"اصمت أيها القذر... أتظنني أحمقا... من أي طينةٍ صنعتم؟.. بلا شرف ولا أخلاق... إلى أي دين تنتمون؟!..."
وشد قبضة يده على عنقي .. حتى بت بالكاد أتنفس .. .. حاولت بأن أبعد يده عن عنقي بيدي الحرة ... لكنها لم تتزحزح بل شدت الوثاق على عنقي....
حاولت بأن أنطق...بأن أدافع عن نفسي .. لكن الكلمات انحشرت في حلقي .. فأنا بالكاد أتنفس ... رما بسلاحه ... ودفع بيده ناحية يدي القابضة على السلاح ... وأخذه منها ... وصوبه ناحية رأسي ... وأخذ يقول وهو قاطبٌ حاجبيه :"أهذا السلاح الذي أردت بأن تقتلني به... الآن سأهشم رأسك به..."

فجأة دوى صوت انفجار قوي ... يبدو بأنه قريب منا .. لأن الصوت كان قويا ... و الأرض بدأت تهتز تحت أقدامنا ..... لدرجة أنه قد أختل توازننا ... وسقطنا ... ليتحرر عنقي أخيرا ... عندما رفعت رأسي وجدته ساقطٌ على الأرض بمقربة مني... وفيما بيننا كان المسدس واقع.... نظر لي ومن ثم نظر ناحية السلاح...
بالتأكيد كان يفكر مثل ما أفكر ... فرميت بنفسي ناحية السلاح .. وهو الأخر فعل المثل .. لكني أنا من أمسكه أولا ... وبسرعة البرق صوبته ناحيته ... وقلت :" اسمع جيداً!... أنا من المستحيل أن أفعل مثل هذا التصرف الشنيع... فلا أخلاقي ولا ديني يسمح بذلك..."
سمعت صرخت أحد الرجال الذين قدموا معه... لكني لم أتزحزح عنه.. فقد خفت بأن ينقض عليّ مرة أخرى .... قال الرجل:"الأفضل بأن ترمي سلاحك... فنحن ثلاثة ضد واحد.. لا فرصة لك بالنجاة..."
رفع يده يجبره على السكوت... وقال:" لن يقتله أحد ..."
تعجبت من فعله هذا!..
عاد الرجل الآخر ليقول:" لكن يا عبد الرحمن!.."
بتر جملته :"قلت لن يقتله أحد..."

زاد تعجبي وحيرتي... منذ قليل يريد قتلي و الآن يمنعهم من ذلك... أمعقول بأنه خائف من أن أقتله!!... لكن نظراته هذه التي تكاد تصهرني .. لا تدل بأنه خائف .. بل العكس!.. أنا أشعر بأنه غير آبه مما هو فيه الآن...
قطع حبل أفكاري بسؤاله...:" من أنت؟.. وما حكايتك يارجل؟!."
أخذت أحدق به مذهولا... متعجباً مما يفعله...
|+* +* +*|

بدأت الشمس تودع السماء... فقد امتلأ الجو دخاناً... ولم يعد المرء يرى من الشمس سوى خيوطاً صغيرة... رغم أن موعد الشمس على الغروب لم يحن... لكنها تتألم مما ترى...
الثانية عشرة ظهراً...

من هول ما رأيت تسمرت مكاني ... عجزت عن الحركة ... مستحيل بأن يكون هذا منزل خالتي وعائلتها .. لقد بات حطاما ...
لقد سلب منه شموخه ... و النيران المتناثرة تشوه حديقتهم الغناء ... مستحيل ... لا أصدق بأنهم ... لا .. لا .. مستحيل ...
_:"لاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا..." صرخة دوت من حنجرتي ....

كان الدمع يريد أن يخرج للعلن ... ليبكي على من رحلوا ...
كنت محطما تماما وأنا أفكر بأنهم ماتوا .. ماتواااااااااااااا ...

تسلل إلى مسمعي صوت أحدهم وهو ينادي باسمي ... :"علي..."
لوهلة ضننت بأني أتوهم ... فهذا الصوت ليس بغريب عليّ... لهذا التفت ورائي ... لأرى أأنا في حلم أم حقيقة ...
اتسعت حدقتاي من الصدمة .... أمعقول بأنهم أحياء.... إنه زوج خالتي... العم مصطفى!..
عاد ليناديني باسمي ..:" علي!.. علي مابك؟!.."

لا أعلم ما الذي جرى لي .. لم أجد نفسي إلا وقد اندفعت ناحيته .. وحضنته بقوة .. ربما لأنني أردت التأكد بأنه حقيقة .. وليس من نسج خيالي ...
لم أكن أريد تحريره .. لولا أنه هو الذي أبعدني عنه وأخذ يقول :"علي... نحن بخير... لا تقلــ..."
قاطعته بقولي :"لقد ضننت أنكم متـــ...."
بترت جملتي التي لم أستطع إكمالها... وأكملت حديثي سائلاً إياه...:" أين خالتي وغدير وريم؟!.."

نظر إلى خلفه... وتبعته بعينيّ... لأجد خالتي وريم التي كانت خالتي تحيطها بذراعها... واقفتان خلفه .. والدمع ينهمر من مقلتيهما ...
لكني لم أرها معهما .. فتسلل الخوف إلى قلبي ... أخذت أبحث عنها والخوف يعتصر قلبي أكثر فأكثر ...
حتى وجدتها أخيراً ... كانت جالسةً تحت عامود الإنارة منكسة رأسها.... لم أستطع رؤية ملامحها ... سوى أنها غدير... قابعة على الأرض وممسكة بأصبع يدها اليمنى... زاد خوفي وهلعي .. ربما أصيبت بأصبعها .. ربما أصابها مكروه ... هذا ما خطر ببالي لحظتها..
لهذا سألت زوج خالتي :"ما بها غدير ... أأصابها مكروه ..؟ "
ليرد عليّ بصوت به نبرة أسى :" كلا يا بني ... لم يحصل لها شيء ... لكنها كما يبدو متألمة مما حدث ... فالذي جرى ليس سهلا ... الحمد لله بأن الانفجارات الأولى حصلت بمقربة من هنا ... مما أتاح لنا فرصة الهرب ... قبل أن تنهال علينا القنابل مثل زخ المطر ... أولئك المجرمون .... القتلة .... "

أخذ زوج خالتي يسترسل بحديثه .. لكني لم أكن معه... ففكري مرتبط بها ... كم تمنيت أن أذهب إليها وآحدثها ... أطمأن عليها بنفسي .. فقلبي لم يطمأن حتى الآن... فكلام زوج خالتي مناقضن لما أرى... فهي ليست بخير... ضللت أحدق بها على أمل أن ترفع رأسها ... وأرى تعابير وجهها .. لكن لا جدوى من الانتظار...

فجأة خرجت خالتي من صمتها .. وبصوت يتخلله شهقات البكاء قالت:" أحمد يامصطفى!.. أين أبني يا مصطفى .. أين هو ....؟"
هنا صحيت مما أنا فيه ونظرت ناحية خالتي وأنا أسأل:" أين أحمد ؟!!"
و نظرت ناحية زوج خالتي المطأطأ رأسه .. وأعدت سؤالي:" أين هو أحمد ؟!! "
هز رأسه يمينًا وشمالاً... ثم رفعه ليكشف عن عينين ممتلئتان بالحزن ... :"لا نعلم ... لقد خرج مع بدأ القصف... ليبحث عن بتول ... حاولنا أن نتصل به .. لكن الخطوط مقطوعة بسبب ما حصل..."

وقبل أن أفتح فمي بكلمة ... وقعت عينيّ عليه... على أحمد... كان وجهه مكسوا بالدم... وملابسه ممزقة... و بالكاد يمشي... كان يسحب قدميه سحبا...
عندما رأى زوج خالتي نظرات الاستغراب على عينيّ سألني قائلاً...:" ماذا بك يا علي؟.. إلى ماذا تنظر...؟!!"
قلت ... وأنا لازلت مذهولا مما أرى ..:" أحمد ..."
فصرخ :"ماذا ... !!"
والتفت على فوره إلى خلفه... لتقع عينيه على أحمد ويدب الرعب في جسده ...
ركض ناحية إبنه .. الذي أنهار وهوا على ركبتيه... تبعته خالتي التي بدأت تصرخ باكية... :"بني .. أحمد .. بني أحمد .."
وكذلك ريم خلفهما...
حوته خالتي في حضنها ....
_:"ما الذي جرى لك يا بني .. ما الذي جرى ...؟؟؟ " كان سؤال العم مصطفى...
وأخذت خالتي تسأله بصوت به نبرة من الجزع الممزوج بالبكاء...:"بني هل أنت بخير ... ؟؟ بني أجبني ..أرجوك ..."

لكن لا رد من أحمد ... لم ينبس بكلمة واحدة ....
أخذت أحدق به وبتعابير وجهه .. لتستوقفني تلك النظرة التي اعتلت عينيه ... النظرة التي احترت أين أصنفها من النظرات ... لكن الذي أعلمه بأن وخزة أصابتني في قلبي عندما وقعت عينيه في عينيّ ...
ضل زوج خالتي يسأله وخالتي تسأله و نحن جميع نترقب جوابا شافيا يريحنا منه ...
لكنه لم ينطق بشيء ...

فجأة رفع يده ... و فتحها .. لتظهر سلسلة ذهبية.... ملطخة بالدم ...
بدمعة جرفت معها آلاماً من قلبه إلى قلوبنا...:" لقد ماتت ... ماتت ... ماتت بتو..."
أغمض عينيه وبدأ ذقنه يهتز...
في حين أن عمي خطى خطوتين إلى الخلف... و عينيه مفتوحتان على مصراعيهما... وهو يحدق بأحمد ... فهو لم يصدق ما سمعته أذناه ...
أما خالتي .. فقد حررت أحمد من ذراعيها... وأخذت تحدق به هي الأخرى ونظرات الصدمة تعتلي وجهها...
سأله العم مصطفى:" أأنت متأكد ..؟"
لم يرده رد من شفتي أحمد ... لكن الدمعة الأخرى التي انسلت من مقلته كانت كفيله بأن تعطي زوج خالتي الجواب على سؤاله ...
لتصرخ خالتي بأعلى صوتها :"لاااااااااااااااا بتول .. لاااااااااااااااااا أبنتي ..."
وعادت لموجة البكاء ثانية... لكن هذه المرة أشد من قبل ... وكذلك ريم ... أنخرطت في بكاء مرير ...
والعم مصطفى... كان متماسكاً نوعا ما... غير أنه غطى وجهه بكلتا يديه... وبدأت أنفاسه تتسارع ... ومن ثم بدأت تبطئ... وليخفف من تلك الآلام التي تعتصره سمعته يناجي ربه... :" إنا لله... إنا لله..."

كم آلمني ما سمعت وما رأيت .. تلك المسكينة ... لازالت صغيرة على الموت ... لم أعلم ماذا يجب أن أفعل ... كيف أواسيهم ... رغم أني أعلم بأنه لا شيء يواسيهم ... لا شيء ..
التفتت إلى الخلف... لأطمأن على غدير... فهي لم تظهر بجانب أخيها... و أعلم كم هي تحب بتول ....
تفاجأت بها لاتزال على وضعها... قابعة هناك لم تتحرك... سوى رأسها الذي رفعته للسماء... وقد أغلقت عينيها... [[ما الذي جرى لك يا غدير ... ؟؟؟؟]]
|+* +* +*|


أحداث كثيرة تتطور في مركز الشرطة... ولقاء خلف آخر يكشف خفايا كثيرة...

نظر إليه من أسفل إلى أعلى ... ومن ثم خط ابتسامة جانبية ... تبعها بقوله :"أرأيت ما الذي يجري لمن يحاول خداعي ..."
ارتبك هو فطأطأ رأسه من فوره ...
شبك كلتا يديه ... واتكأ بكوعيه على قدميه ... وانحنى إلى الأمام وهو يقول:" أحقا خطر ببالك بأني لن أكتشف أمرك ...بأنك تحاول تحريضهم عليّ ....؟ تكلم يا سلمان ... لماذا أنت صامت هكذا .."

ازدرد ريقه بصعوبة وهو لا يستطيع أن يرد عليه .. فالكلمات تحشرجت في حلقه... لم يجرأ حتى بأن يرفع رأسه...
فك يديه ... ومن ثم عاد ليسند ظهره على الكرسي .. وقال:" الإنسان طماع .... مهما أخذ فلن يكتفي ... خيبت ضني بك يا سلمان .. حقا خيبت ضني بك ... أعطيتك الكثير ... وماذا أعطيتني بالمقابل ... خدعتني ... حاولت بأن تفهمهم بأني مخادع وبأني أجري وراء مناصبهم ...."
ضحك ضحكة عالية ثم أكمل... :" لكنك أحمق... غفلت عن شيء واحد .. ألا وأنه أنني .. أنا يوسف أسعد... الذي لا يهزه شيء ... أنا جذوري ممتدة في الأرض... من الصعب انتزاعي .... ترتجف ها!.. خائف أيها العجوز .... الآن أنت خائف ... على العموم ... هذه ضربة خفيفة ... وإذا أعدتها مرة أخرى ... فستكون الضربة القاضية .. من نصيبك.. لن تستطيع أن تفعل شيئا ... فقرار عزلك من منصبك قد صدر .... وهي مسألة وقت ليس إلا... وتصبح في الشارع أنت وعائلتك ..."
بصوت أقرب منه إلى الهمس قال سلمان :" أنا ... أنا آسف يا سيدي ... أنا كنت .. كنت أحمقاً ... وغبي.. أرجوك أغفر لي وسامحني .. أرجوك..."
لينفجر يوسف ضاحكاَ... قبل أن يقول:" الآن تتأسف ... مستحيل .. مستحيل بأن أسامحك ... لولا أبنك لما أخرجتك من السجن ... ولجعلتك تتعفن فيه .. لكن ابنك يروق لي ... وأشعر بأنه سيفيدني كثيرا ... فهو مخلص ... ليس مثل أبيه ثعلب مكار..."

ومن ثم قام من على الكرسي ... وخطى خطوتين ... :"لقد انتهيت يا سلمان .. انتهيت ... وكل خائن مثلك..."
وجه نظره إلى اليمين .. حيث كان جمال واقفا وأكمل... :"سيكون مصيره مثلك وأكثر..."

دب الرعب في جمال ... وهو يكشف ما بين السطور ونظرات يوسف...
ومن ثم أكمل يوسف طريقه ناحية الباب ... ولما وصل عتبة الباب .. التفتت إلى خلفه ... وبالتحديد ناحية جمال المتسمر مكانه ... وقال له :" جمال مابك واقف هكذا؟.. هيا لنذهب ..."
نظر جمال إليه ... هز رأسه بنعم ... مبتلعاً ريقه بصعوبه.... ونظرة من الخوف سكنت عينيه...

|+* +* +*|

في مكان لا يبعد سوى خطوات قليلة...

_:" أففففففف .. أكان يجب بأن يزوره أبي ...؟ "
نظرت إليّ أمي ومن ثم قالت:" نعم .. فهو كان سيصبح فرداً من العائلة..."
ابتسمت ضاحكا لكلام أمي وقلت :"فردا من العائلة ... الحمد لله بأنه لم يصبح فردا من العائلة .. و انكشف قبل أن يتزوج بتول ... احمدِ الله يا أمي بأن بتول لم تتزوج به .. وتتورط معه بهذه المشاكل... أنه مجرم ..."
هنا فقدت أمي أعصابها .. وصرخت بي...:"كفى يا وسام!.. كفى... إما أن تجلس في السيارة هادئً ... أو أن تخرج منها وتتركني لوحدي حتى يعود أباك ..."
:"حسنا .. سأسكت .. لا أحد في هذه العائلة يريد أن يسمع كلمة الحق .. "
رمقتني أمي بنظرة مهددة ومن ثم التفتت ناحية زجاج النافذة...
فجأة وبدون مقدمات ... وجدت أمي قد بدأت ترتعش ... انتقل الخوف في داخلي ... سألتها:" ماذا بك أمي؟.. لماذا أنت ترتعشين هكذا ... ؟!!"
التفتت ناحيتي ... لأصدم بعينيها المفتوحتان على مصراعيهما ... وعلامات الخوف التي كست وجهها ... هنا تحول الخوف الذي سكن قلبي إلى رعب ... أمسكت بيدها التي كانت تهتز كورقة خريفية ... هبت عليها ريح عاصف ...
بصوت هلع قلت لها :" أمي أجبيني ... ماذا بك ...؟!! "
لم تجبنِ ... بل نكست رأسها ... وبدأت أنفاسها تتسارع ... شعرت لوهلة بأن روحها تكاد تخرج من بين جنبيها...
ما الذي جرى لها ...؟ يا الله .. كانت بخير ... حتى ... حتى نظرت إلى خارج السيارة ... نعم خارج السيارة ... بالتأكيد رأت شيئا ... وجهت بصري ناحية زجاج النافذة .. لأرى ما الذي رأته وسبب لها هذا ... لكن قبل أن أدقق لما خلف النافذة... قالت للسائق بصوت به رعشة من الخوف :"تحرك ... تحرك فورا ..."
فعدت بعينيّ ناحيتها فوراً... وقلت :"لكن أبي ..."
لتقاطعني بصراخها ... :" قلت لك تحرك فورا .."
انصاع السائق لها... وتحرك...
|+* +* +*|

مضى الوقت... وتغيرت الأوضاع... واختلف تفكير المرء عما كان عليه... ليكون الناس كلهم قلباً واحداً ويداً واحدة...

حكيت لعبد الرحمن كل شيء .. كل قصتي ... مذ دخلت في تلك المجموعة التي ظننت بأنها تريد مصلحة البلد ... إلى أن وجدت الفتاة ... ولم أخفِ عنه شيئا وهو كذلك فعل المثل... أخبرني بأنهم مجموعة هدفهم الوحيد إخراج الفساد من وطننا ... و كذلك التخلص من العدو الغاشم ...
كنت محتارا وأنا أسمع قصته ءأصدقه كما صدقت سالم ... فالذي حصل لي جعلني لا أثق بأحد .. لكن تصرفه ... وطريقة كلامه عن العدو .. وتلك اللمعة التي كانت في عينيه...
:"أرضنا حرة ... و لا تأبى إلا أن تكون حرة ... ونحن سوف نعيد لها حريتها رغم أننا مجموعة صغيرة ... وسلاحنا غير متطور كأسلحتهم ... لكن .. لكن .... قلوبنا أشجع من هؤلاء ..."
نظرته تلك... جعلتني أثرت بكلامه جديا... ولامس كل حرف منه قلبي.... وأستفز وطنيتي....

قاطع حديثنا صوت عمار ... وهو واحد من الرجال الذين كانوا معه :"عبد الرحمن ... عبد الرحمن ... عمر ... عمر غاب عن الوعي ..."
قام عبد الرحمن من على الأرض .... وركض ناحيتهم ... ليجلس قرب عمر .. وضع يده تحت رأس عمر وأخذ يهزه ...ويناديه باسمه:" عمر ... عمر استيقظ يا عمر ... أرجوك استيقظ .. عمر ..."
ليقول محمود وهو الرجل الثالث بصوت به نبرة رعب :"أمات ....؟!!"
رفع عبد الرحمن رأسه ناحية محمود الواقف فوقه وقال :"لا تقل هذا يا محمود ..."
ليعود محمود يقول :"لكنه لا يتحرك يا عبد الرحمن ..."
قطعت حديثهم بقولي :"أيمكنني المساعدة ..."
نظر ثلاثتهم إليه والاستغراب مرسوم على وجوههم ...
_:" أأنت طبيب ... ؟!!" سألني عبدالرحمن...
فأجبت:" ليس تماما .. فأنا لم أكمل دراستي ... لكنني درست أربع سنوات ... أعتقد بأنه يمكنني مساعدته..."
أخذ كل واحد منهم ينظر إلى الآخر ... ومن ثم قام عبد الرحمن :"أرجوك ساعده ..."
هززت رأسي بنعم وأردفت قائلا :" إن شاء الله سأفعل ..."
|+* +* +*|


بصعوبة جعلتهم يقدمون إلى منزلنا ... فجميعهم يعيش صدمة رحيل بتول ... و منغمسون في حزن عميق ...
حاول أهلي بأن يخففوا عليهم لكن بلا جدوى ... فخالتي ما إن وصلنا لمنزلنا حتى انهارت علينا ... وريم أصبحت عيناها حمراوان مثل الدم ... من كثرت البكاء ... والعم مصطفى رغم أنه متماسك إلا أن دمعته تلمع في عينيه... حتى يكون قويا أمام عائلته .. إلا أنني متأكد بأنه من الداخل يبكي دما ...
وغدير ... آآآآآآآآآآآآه... لازالت معتكفة في صمتها ... الذي احترت معه ... كم تمنيت حينها بأن أدخل في عقلها وأعلم ماذا يدور فيه ...
أما أحمد ... فحالته مختلفة تماماً... كان موجودا ... وفي نفس الوقت غير موجود ... كان جاليا بأنه منهار تماما ... لا ألومه ... فهو الذي اكتشف بأنها قد ماتت ... ونعى الخبر إلى أهله ... إنه حقا في موقف لا يحسد عليه ....

في تلك الليلة ... بات أحمد في غرفتي أنا وأخي ياسين الذي لازال يجهل ما يحدث ... أما ريم مع ياسمين... وغدير كانت في غرفة أختي الكبرى كوثر... وخالتي وزوجها في غرفة الضيوف...

كان أحمد جالسا على حافة نافذة غرفتي ... ينظر إلى ما ورائها ... ومسحة من الحزن مرسومة على قسمات وجهه ... وسكون يعتلي شفتيه ...كم أردت بأن أخفف عليها حينها .. لكن لم أجد وسيلة لذلك .. ولا أعتقد بأني سأجد ...فالأمر ليس سهلا ...
أخيرا .. خرج من صمته ... وبصوت مبحوح ... ممزوج بحزن ..كانت كلماته تقطع نياط قلبي...:" لقد ... لقد رأيتها ... كانت أمامي ... يفصلني عنها عدة أمتار... لقد رأيت يدها تحت ركام النفايات... كانت أصابعها تتحرك ... نعم كانت تتحرك ... كانت لا تزال على قيد الحياة ... حينما هممت بالوقوف... كنت على وشك بأن أمسك يدها ... لأعيدها إلى الحياة ..."
رفع يده ومدها كأنه يعيش الحدث.. كأنه يرى يدها أمامه الآن ويريد بأن يمسك بها... اهتزت شفتيه قبل أن يكمل غاضباً... متوعداً...
_:"... لكنهم ... لكنهم ... أولئك القتلة ... لكنهم فجروا المكان ... نعم وقعت قنبلة ... لتحول المكان أشلاءا .. وتقذف بي بعيدا عنها ...."
بدأت يده الممدودة تهتز ... لتنهار وتعود إلى حجره... متبوعة بدمعة وجدت طريقها للخارج... كم تألمت لما رأيت وسمعت منه ... المسكين ... الذي حدث له يهد جبالا...

ضم السلسلة وخرقة ملطخة بالدماء إلى صدره... قبل أن يقول...:"لم تركوني للحياة!... لِم لَم يأخوذني ويتركوها!.. آآآه ياعليّ... لم يتركوا لي منها سوى أشلاء ذكريات... سلسلة علقت على جيدها سنين طويلة... وحجاب ستر شعرها جردوها منه... أوغااد... أوغااد... أوغااد..."
قال آخر كلماته وهو يضرب رأسه في الحائط الذي يستند عليه...
_:" اذكر الله ياأحمد... إن الله يمهل ولا يهمل..."
مسح دموعه وهو يلتقط أنفاسه... :"لا إله إلا الله... أيمكن أن تتركني لوحدي يا علي؟!..."
لم أجد نفسي وألا وقد قلت له...:" بالطبع..."

خرجت من غرفتي... لأتركه يختلي بنفسه... وينفس عما يثقل على قلبه... ربما كان بقاءه لوحده الأفضل له ... وجدت أخي ياسين توأم ياسمين... مشاكس لا أعتقد بأنه سيترك مشاكسته أبداً...
سألته مباشرة...:"أين كنت؟!."
تكلم بخوف...:"أرجوك لا توبخني!... خرجت برفقة أصدقائي..."
_:"أي أصدقاء يا أبله؟!... ألا ترَ الأوضاع اليوم؟!. ألم تعلم بما حدث لخالتي غيداء؟!. وأنت خارج للهو والمشاكسة..."
كنت ممسكاً به من أذنه اليمنى... وهو يرفع يده ممسكاً بيدي حتى أتركه... لكنه نكس رأسه وترك يدي بعد كلامي وقال بصوت نادم... :"بلى!.. وقد آلمني حال خالتي..."
تركته وسألته...:"للمرة الثانية والأخيرة أسألك... أين كنت؟!. وماذا كنت تفعل؟!."
_:"خرجنا مع بدأ القصف... كنا نكتشف أين هي مقرات أولئك الأوغاد..."
ضغطت على أسناني أكتم صوتي حتى لا يعلو... :"ماذا قلت؟!. أي أحمق أنت؟!. أتريد لنفسك الموت؟!. أم ماذا؟!. لو تعلم أمي صدقني ستربط بحبل متين بجانبها..."
_:"يالله... لقد وبخوني... أبي وأمي وكذلك جارنا..."
أحسست بأنه قد تغير اليوم... لكن ليس بالكثير... تركته وأنا أقول له...:"سننام الليلة في الصالة... لأن أحمد يريد أن يخلو بنفسه قليلاً..."
_:"حسناً سأذهب للحمام وأنزل فوراً..."
|+* +* +*|


عندما تمتلئ القلوب بالآلام... وتفيض بالعبرات... تعتلي الدموع سطح الوجوه... لتبكي... وتضمد جراح سماء...

آآآآآآآآآآه كم يؤلمني قلبي....وأنا أتذكر أناملك الرقيقة تناديني... أتذكر أنه بمقدوري أن أنقذك يابتول أكثر من مرة... أكثر من مرة كان بمقدوري ذلك... أمام ناظريّ... كان بمقدوري أن أفعلها .. لكن القنبلة حالت بيني وبينك .....
آآآآآآآآآآآه .... لماذا رفضت طلبك ياأبي؟... فأنت لست مذنبة.. ليس لك أي ذنب بأنكـــ... آآآه...
أنا أحبك ..... أحبك... أحبك...
يا للغباء ... الآن أدرك هذا... الآن ياقلبي تدرك ذلك...
ليتني منعتك من الخروج ذلك اليوم .. ليتني أصغيت لشعوري حينها ... لو فعلت ذلك لكنت الآن هنا... حية .. حية ترزقين .... كله بسببي... بسببي ... نعم أنا السبب... أنا قتلتك .. أنا يابتول .. أنا ....
اليوم ألوم نفسي... وفي الغد أقتلها... وبعد الغد أدفنها... فهي تستحق ذلك...
لكن ما فائدة اللوم والعتاب مادامت قد رحلت ... فمهما فعلت بنفسي فلن يغفر لي الذي فعلته بك يابتول ... لن ينسى أبداً ... أبدا .. أبدا ...
|+* +* +*|


دخلت الصالة لألقي بجسدي على الكنبة... تاركاً الباب خلفي مفتوحاً على مصراعيه... دقائق لم تكن طويلة وإذا بياسين يأتي ليفترش الكنبة المقابلة لي... توقعت منه أن يتكلم ويسألني عما حدث بالتفصيل الممل... لكنه ضل ساكناً...
بقيت فترة ليست بقصيرة أتقلب على الكنبة أحاول النوم... ولكن دون جدوى... الجميع خلد للنوم حتى أمي وأبي تركا خالتي والعم مصطفى وذهبا لغرفتهما...
ذهبت للحمام الذي كان بقرب باب الصالة...
عندما عدت لمكاني... بقيت فيه ربما ساعة أخرى... لمحت بعدها غدير وهي تنزل من على السلم ....
نظرت إلى ساعتي .. لأجدها بعد الثانية عشرة والنصف ليلاً ... ربما لم تستطع النوم ... هذا ما خطر ببالي ... وجدتها فرصة لكي أكلمها ... وأرى ما الذي حل بها ... فحالها اليوم لم يعجبنِ ... حتى أنها لم تذرف دمعة على بتول ...
نهضت من مرقدي أنظر إليها هل ستدخل الصالة أم لا... لكني فوجئت بها متجهة ناحية الباب الرئيسي...
هنا ناديتها وأنا أركض ناحية الباب...:"غدير ... أين أنت ذاهبة في مثل هذا الوقت ؟!!!"
التفتت ناحتي ... ومن ثم عادت كأنها لم تسمع شيئا ... فتحت الباب وخرجت ... فتبعتها ... وأنا متعجب مما تفعل ...
أخذت أقول لها:"غدير توقفي ... إلى أين أنت ذاهبة؟..."

لم تجب عليّ بل أكملت مسيرها .. كأنها لم تسمعنِ ... حينها لم أجد وسيلةً إلا أن أركض ناحيتها .. وأمسك بعضدها .. لتتوقف أخيرا ...
بغضب أخفيته خلف الهدوء...:"ما الذي جرى لك؟.. ألا تسمعينني..."
نظرت إليّ ... ومن ثم وجهت عينيها ناحية عضدها المغلفة بيدي ... :" اتركني ... فأنا يجب أن أذهب..."
وأخذت تحاول أن تحرر يدها من قبضة يدي... التي لم تتزحزح...
قلت لها ...:"غدير إلى أين أنت ذاهبة في هذا الوقت المتأخر.... ومن ثم ألست خائفة... فنحن مهددون بأن تنهال علينا القنابل من جديد في أي لحظة...."
_:" لا يهمني ... يجب أن أذهب... أرجوك دعني أذهب..."

لتتشابك عينيّ بعينيها ... وأشعر بخدر في يدي... التي حررت يدها.... وكذلك عينيها حررت عينيّ من تلك النظرة التي سلبت مني عقلي ... وأكملت طريقها ... لكني عدت لأناديها .. بعد أن استعدت رشدي ...:" غدير ... توقفي ..."
توقفت .. لكنها لم تلتفت إليّ.. وقالت:"أرجوك دعني أذهب .. أرجوك..."
لأقول لها :" حسنا ... سأدعك تذهبين ... لكن لن تذهبي لوحدك ... سأذهب معك ..."

عم الصمت لبضع ثواني .... ولم يدم طويلاً فصوتها يداعب إذنيه:" حسنا ... هيا بنا..."
وأكملت طريقها ... وأنا من ورائها ...
|+* +* +*|


كنت منهمكا في معاينة ساق عمر المجروحة ... حين قال لي عبد الرحمن :"ها يا خالد طمئنا عليه!.."
نظرت إليه ...حين أجبته...:" إن حالته سيئة جدا ... فجرحه عميق .. وكما يبدوا بأنه فقد دما كثيرا .. لهذا أغمي عليه ... يجب بأن نذهب به إلى المستشفى..."
صرخ محمود قائلاً:" لا .. المستشفى لا ... "
تعجبت من كلامه ومن ردت فعله فقلت له مستفسرا :"لمَ لا ...؟!!"
أتاني الجواب من عبد الرحمن :" خالد ... المستشفيات ليست بالمكان الآمن لنا ... ومن ثم أنت تعرف الأوضاع الآن ...بالتأكيد المستشفيات مملوءة بالمرضى و الجرحى ... لهذا يجب أن تعالجه أنت ..
_:" لكن أنا كما قلت لك .. لم أكمل دراستي .. وأيضا .. لا تتوفر الإمكانات اللازمة لدي ..."
خرجت تنهيدة من عبد الرحمن ... ومن ثم نظر إلى عمر المغمى عليه .... ليعم الصمت لبرهة ... لكنه رحل بمجرد أن قال عمار :" عبد الرحمن ... لقد حان الوقت ..."
التفت إلى خلفه حيث عمار واقف .. هنا قال محمود :" هيا بنا سنأخذه معنا .. هناك ستقوم حنين باللازم ..."
شعرت بأني تائهٌ بينهم ... لم أكن أفقه شيئا مما يتكلمون عنه...
نظر عبد الرحمن إلى محمود ومن ثم عاد لينظر إلى عمر .... وأخيراً أجابهم:" هيا بنا .. فلنذهب ... أحملوه ..."
انصاع محمود وعمار لعبد الرحمن ومن فورهم حملوا عمر....
أما عبد الرحمن فقد نظر إليه ... ومن ثم قال:" شكرا لك يا خالد .... الآن يجب أن نذهب .."

ومد يده لي ... أما أنا فرغم تعجبي من كلامهم .. إلا أنني مددت يدي له وتصافحنا ... :" أنا لم أفعل شيئا ... لكن.. انتبهوا لعمر .. يجب أن تحرصوا أن يكون جرحه مغطى جيدا ... وأن تغيروه بشكل مستمر حتى لا يلتهب ..."
_:"حسنا .... مع السلامة .."
_:" مع السلامة ..."
أولاني ظهره ومن ثم أخذ يخطو مبتعدا ... وأنا أتبعه بعينيّ...
لم يكمل طريقه .. توقف ... والتفت ناحيتي ... وهو يقول:" خالد .. أنت رجل جيد ... طيب القلب ... تحب وطنك .... لهذا ... لهذا نحن بحاجة لشخص منثلك... بحاجة لك أن تكون فرداً منا..."
قوست حاجبيّ إلى أعلى ومن ثم قلت :"ماذا تقصد يا عبد الرحمن ..؟!!"
ليعود أدراجه ناحيتي ... ويتوقف أمامي مباشرة ... ويضع يده على كتفي :" الذي أقصده بأني أريدك بأن تنظم إلينا ..."
رددت عليه مذهولا:" ماذا ؟!!! انظم إليكم ..."
هز رأسه بنعم وقد رسم ابتسامة على شفتيه ...:" لا أعلم ماذا أقول لك يا عبد الرحمن ...؟"
زاد من سعة ابتسامته وقال:" قل لي بأنك موافق ... فنحن حقا بحاجة لشخص مثلك غيور على وطنه ..."
طأطأت رأسي لدقيقة ... وقلت له...:" عبد الرحمن .. أرجو أن لاتفهمني بشكل خاطئ... لكن ... ماالذي يؤكد لي بأنكم حقا تريدون أن تحرروا البلاد... ولا تكونوا كما الذين من قبلكم..."
هنا تبسم ضاحكا وقال.. بعد أن أنزل يده من على كتفي ... :"لا شيء يضمن لك ذلك... لكن سأقول لك شيئا ... نحن فقدنا من نحب بسبب أولئك المتوحشين ... رأينا كل يوم شخصا يقتل بوحشية أمام أقدامنا ... رأينا بلادنا تذبل بقنابل هؤلاء القتلة .... ذقنا المر منهم ... نحن عشنا كل لحظة من الألم و الوجع الذي سببه هؤلاء الطامعون .. الوحوش الذين لا يعرفون الشفقة ... فماذا تعتقد ؟.. أنكون عون لهم بعد كل هذا ... ؟ أنت حكم ...."

وعاد ليوليني ظهره ... ويذهب بعيدا عني ...
كم تأثرت بعينيه اللتين كانت فيهما الكراهية واضحة حينما كان يتكلم عن العدو ....
كانت نظرت عينيه تلك لا تنتسى ...
_:" عبد الرحمن ... "
ناديته وقد تيقنت أنهم الذين أريد أن أكون معهم .. أقف بجانبهم أمام العدو الغاشم ....
لم يلتفت إليّ... ولم يجبني بكلمة واحدة... بل توقف في مكانه منتظراً حديثي...

لأقل له والحماسة قد دبت بكل خلية في جسدي...:" أريد أن أكون معكم جنبا إلى جمب أمام هؤلاء القتلة ..."
|+* +* +*|


الشوارع مظلمة... لا ضوء يبدد الظلام... لأن بلادنا احتواها الذئاب...
الواحدة بعد منتصف الليل...

ظلت تمشي وأنا خلفها أمشي ... وفي داخلي أتمنى بأن تنطق وتخرج ما في داخلها لي ... لكن للأسف ظلت معتكفة في صمتها ...
مشينا ومشينا ... لتتوقف أخيرا ... توقفت أنا الآخر لأنظر إلى الشيء الذي تنظر إليه... وجدتها واقفة أمام منزلهم الذي بات خرابا.... لم أنتبه إلى الطريق لأنني كنت أفكر فيها وبما تفكر به ...لهذا لم ألحظ في أي خط نسير ... عدت لأتمعن في قسمات وجهها ... لأجدها جامدة ... لا تعبر عن مشاعر داخلية ... قلت في نفسي [[لا بد من كسر الصمت فهي لا أظن ستتكلم]]
لكن قبل أن أتكلم ... وجدتها قد اندفعت ناحية ركام المنزل ... وأخذت تنبش به ... وأنا مستغرب مما أرى ...
تبعتها ... وأردت أن أنهي هذه الحيرة التي أعيشها...:" غدير عمما تبحثين..؟!!"
لم تجبنِ .. بل أخذت تنبش أكثر فأكثر ...
_:" غدير ... أجبيني ... لربما سـ...."
قطعـ جملتي وأنا أراها قد تعثرت وسقطت إلى الأرض... اقتربت منها سريعاً... وقلبي بدأ يدق بسرعة ... خوفا عليها ... جلست بقربها و الرعب قد نحت تعابير وجهي... وقلت بصوت مغلف بالخوف:"غدير أأنت بخير ... ؟!!"

أخذت تهز رأٍسها بلا ...
وخرجت من صمتها بعد طول انتظار .. لتقول بصوت أعياه الحزن.... وضيق البكاء عليه الخناق ..:"كلا لست بخير .. لست بخير ... فقد فقدت الخاتم ... فقدته ... كما فقدت حسن ...."

كم كانت صدمتي كبيرة عندما سمعت اسمه .... لا أعرف كيف أصف ... شعوري حينها ... حزن ... لا بل هو أكبر من الحزن بكثير .. ألم ... لا بل هو أكثر من الألم .... أنها لا تزال تفكر به ... حتى بعد موته... وأنا ... وأنا بصعوبة أمسكت دموعي حينها ...
أما هي فقط عادت لتمسك باصبع يدها البنصر... والذي كان الخاتم يطوقه... وبدأت دموعها الغالية على قلبي تنزل من مقلتيها اللتين ترسمان الحزن رسماً...
لتكمل بصوت أعياه البكاء...:"لقد خسرت حسن و الآن بتول ... .. لقد رحلوا جميعا ... رحلوا .... رحلوا ..."
زاد نزيف قلبي وأنا أراها بهذه الحالة... رغم الوجع الذي سببته لي ... إلا أنني . .. لم أتحمل رؤيتها بهذه الحال ... فهي عندما تحزن أنا أحزن .... وجدت يديّ ترتفعا لا أرادياً ناحيتها .... لكنني .. أدركتها.... وعيت لنفسي.... وأرجعتهما خائبتان .. فأنا لا أستطيع بأن ألمسها .... فهي ليست لي ....
كم رغبة حينها بأن أضمها إلى صدري وأغرسها بالقرب من قلبي ... لكن لم أستطع ... لم أستطع....
زادت حدة بكائها .... وأنا واقف أمامها عاجز .... لا أستطيع بأن أخفف عنها ... آآآآآآآه كم كانت رؤيتها بهذه الحالة تقتلني ... تدمرني ببطء....
:" غدير ... أرجوك لا تبكي ... فهذه مشيئة الله ... لقد ... لقد .. ذهبوا إلى مكان أفضل من هذا المكان..."
التفتت ناحيتي ... تشابكت عينيها الدامعتان بعينيّ ... لأجد نفسي غارقا في بحر عينيها .... كنا سنظل على هذه الحالة لوقت طويل .. لولا المطر لذي انهمر علينا بغزارة ... هي كانت أول من تحرر من ذلك التشابك ... رفعت رأسها ناحية السماء ... أما أنا فقد كنت لا أزال غارقا في بحر عينيها .... حتى أنني لم أشعر بالمطر ... كنت مخدرا ...
لم يوقظنِ من ذالك المخدر إلا صرختها ... :" آآآآآآآآآآآي ..."
نظرت أمامي .. فلم أجدها ... فكالمجنون أبحث عنها بعينيّ... لأجدها فوق ركام المنزل ... وممسكة بيدها .. كما يبدو أنها عادت لتبحث في الأنقاض.. ... هرعت ناحيتها .... وقلبي يكاد يسقط من عرشه من خوفا عليها ...
عندما وصلت أليها سألتها من فوري:" ما الذي جرى ...؟ "
_:" لا شيء...لقد جرحت يدي..."
نظرت ناحية يدها لأجد راحت يدها قد شوهت بدماء ... هنا قلت وبعزم وغضب .... أخفي وراؤه خوف عارم عليها :" هذا يكفي ... يجب أن نعود ..."
هزت رأسها بالنفي وأردفت قائله:" كلا ... يجب أن أجده .. يجب ... يجب ... "
عدت لأقول لها بنفس النبرة:" ألا تربن الجو ومن ثم الظلام حالك... لن تستطيعِ إيجاده .... فهي نذهب هي ..."
هي الأخرى ردت عليّ بغضب يعتصر صوتها :" كلا لن أذهب ... يجب أن أجده ... فهو الشيء الوحيد الذي يذكرني به وببتول ... فقد اخترته أنا وبتول معا .... لن أتركه .... لن أرحل بدونه ... أنت اذهب ..فأنا لم أطلب منك المجيء ..."
ومن ثم وضعت يدها السليمة على فمها وعادت لتبكي ..... في حين أني شعرت بوجع وألم لما سمعت... بألم جعل غضبي يتراجع ....
هوت على ركام المنزل .. وعادت تنبش بيدها السليمة ... غير آبهة بالمطر الذي بات يشتد ... و بالظلام الحالك ...
أما أنا فلم أعد أقدر على الاكتفاء بدور المتفرج أكثر من ذلك ... لهذا قررت أن أتحرك وأن أفعل شيئا ... لعل الوجع الذي في قلبي يختفي ....
قلت لها ...:" غدير ... توقفي أرجوك ... أنا سأبحث عنه ... أما أنت فستعودين إلى المنزل فالمطر غزير و الظلام حالك وأيضا أنت مجروحة .. لن تستطيعِ البحث ... وأنا أعدك بأني سأجده وآتيك به..."
رفعت رأسها ناحيتي .... وأخذت تنظر إليّ ...
قلت لها وأنا أقترب منها رويدا رويدا ... :" هيا بنا لنذهب .. سأوصلك للمنزل ومن ثم سأعود إلى هنا وأبحث عنه ..."
وعندما بت بمقربة منها توقفت مكملا حديثي وهذه المرة أنا الذي تعمد بأن يوقع عينيها بشرك عينيّ ... :"أنا أعدك أني لن أعود إلا و الخاتم بحوزتي ..."
قامت من على الكومة وعينيّ لا تزالان معلقة بعينيّ ... وهي تقول:" حسنا ... فأنا أثق بك يا علي ... سأجعلك تبحث عنه ..."
ابتسمت لها... وقلت:"هيا بنا! لنذهب..."
|+* +* +*|


عندما يبدأ يوم جديد... يبدأ بالضوء الذي يتسلل إلى كل زاوية في العالم... لكن هذا يوم مختلف... فالشمس اليوم كانت باهته... وحزينة...
صباح الأحد... ثلاثون من نوفمبر... الثامنة وعشر دقائق ...

كان جالسا ينظر إلى اللاشيء ... سارحا في عالم من الأحزان ...
لم يعلم كيف يفتح الأمر معه... فالأمر ليس من السهل التكلم فيه ... لكن لابد من فتحه ...
في البدء أطلق تنهيدة طويلة وهو يهيئ نفسه لفتح الموضوع...:"أبا أحمد ... أعلم كم هو صعب بأن أكلمك في هذا الموضوع... لكن يجب أن نرتب لأجل العزاء..."
التفت إليه ... أخذ نفسا عميقا وأخرجه دفعة واحدة ... أدخل كلتا شفتيه إلى فمه .. وهو يحاول أن يكتم رغبته في البكاء ومن ثم قال:" نعم ...افعل ماتراه صحيحاً..."
_:"حسنا .. أنا سأتولى كل شيء ... وهذه هي الدنيا يا أخي موت وحياة... هم السابقون ونحن اللاحقون..."
|+* +* +*|


دخلت إلى المطبخ لأجد أمي منهمكة في تقليب ما في المقلاة...
_:" صباح الخير ماما..." وأنا أقترب منها...
التفتت ناحيتي ثم أجابت :" صباح النور ياسمين ..."
توقفت بجوارها أسألها...:"أتريدين أن أساعدك بشيء ؟"
_:" نعم .. قومي بغسل الأطباق وتجهيزها .."
اتجهت ناحية المغسلة مجيبة عليها...:" في الحال ... "
سألتني أمي مباشرة ... :" هل رأيت خالتك ... ؟"
توقفت لثوان قليلة وقد تذكرت تلك الوجوه الحزينة... :" نعم .. عندما نزلت... كانت في غرفة الضيوف..."
_:" لازالت تبكي أليس كذلك ..؟ "
_:" نعم ... وكانت ريم معها... هي الأخرى كانت تبكي ... ليكون الله في عونهم .."
هزت أمي رأسها بأسى وهي تقول _:"نعم ... ليعينهم الله... المسكينة فقدتها فجأة... ربتها مذ كانت في المهد... ماذا عن غدير ..؟"
:"لا أعلم استيقظت ... ولم أجدها في غرفة كوثر... وحتى لم تكن مع خالتي ..."
_:" أين ذهبت يا ترى ...؟!!"
وقبل أن أجيبها دخلت كوثر... فسألتها أمي مباشرة...:"أين غدير؟!.."
_:" لقد رأيتها تقف في الخارج... عند الباب..."
فسألت أنا...:"ما بها؟!. هل خرج أحمد وهي تنتظره؟!."
أجابت غدير وهي تمد يدها للأطباق المغسولة تجففها...:"لا... أحمد لازال في غرفة الأولاد... أما هي فعندما سألتها أجابت بأنها تنتظر عليّ..."
حدقت بها مستغربة... فسألتها أمي باستفهام...:"مابه عليّ... أليس في الأعلى؟!."

قطع حديثنا دخول أبي ... وهو يسأل:" هل الفطور جاهز يا فاطمة ..؟"
التفتت ناحيته كان لايزال بالقرب من الباب ... وقالت:" نعم جاهز... ستأخذه الفتيات إلى الصالة..."
فقلت...:"صباح الخير بابا"
نظر ناحيتي وقال:" صباح الخير حبيبتي... أعطيني صينية الشاي والحليب لأذهب بها..."
كانت أمي قد سخنت الخبز فوضعته في الصينية وأعطتها لوالدي وهي تسأله عن العم مصطفى... :"كيف حال أبي أحمد اليوم ..؟"
أخذ أبو علي نفسا ولم يلبث إلا وأخرجه مصحوبا بكلماته:" ليس بخير .. ليس بخير ... لقد أخبرته بأمر الجنازة... وأني سأرتب كل شيء ... ليتك رأيت وجهه ... كان واضحا أنه يتألم... والآن المسكين يتصل بأخته يخبرها بوفاة ابنتها .. بالتأكيد لن يكون الأمر سهلاً عليه ..."
وخرج أبي دون أن يسمع كلمة أخرى منا...
في حين أن أمي أخذت المقلاة وأخرجت البيض منها لتقسمه على الصحون... كان الحزن يكسونا جميعاً... رغم أن بتول لم تصاحبنا كثيراً كما هي مع ريم وغدير... لكن الوضع يؤلم...
_:"سيخبر أخته!.. لا أعتقد بأنها ستهتم للأمر كما خالتي..."
كانت كوثر هي من قالت هذه الجملة... نظرت إليها والدتي وقالت...:"ربما الدمعة لن تخرج من مقلتيها... لكنها ستتألم مهما كان قلبها من حجر... لأن بتول روحٌ خرجت من روحها..."
حملت صينية الأطباق... قبل أن أقول:"هه... لا أظن فدوماً أسمع ريم وغدير يقولون أن الحجر ألين من قلبها..."
وأكملت كوثر...:"والجبل ينحني وهي لا..."
أسكتتنا أمي بكلمة لا ندركها...:"مهما كانت فهي أم ولدتها..."
|+* +* +*|


كنت جالسة على الدرج الخارجي للمنزل .. متكئه على مقبض الدرج ... مصوبة عينيّ ناحية باب السور ... مترقبة كل حدث في الطريق...
أخيرا وقعت عينيّ عليه بعد طول انتظار ... كان هندامه قد اتسخ ببقع من الوحل ... وكذلك لم يخلو وجهه منه...
أخذت أتمعن في تعابير وجهه بحثا عن جواب شافي... لكن وجهه لم يأتنِ بشيء .. كان يخلو من أي تعبير ... قمت من مكاني متلهفة...
وهو أخذ يقترب نحوي... طال صمته مما زاد من خوفي ... خطا أول درجة... ومن ثم الثانية ... ليبقى درجة واحدة تفصل بيننا.... قلبي يدق بكل حركة تصدر منه... أشعر وكأنه يتلذذ وهو يرقبني محتارة في أمره... رفع قدمه ووضعها على آخر درجة... فلم يعد يفصل بيننا سوى شبر واحد... وعينيّ معلتقة في وجهه... أريد أن أجد فيه جواباً يشفي جراحي....
|+* +* +*|

نظرت إلى وجهها .. أمعن فيه... لعلّي أعرف ما في داخلها من مشاعر... لم أجد إلا الترقب مع مزيج الحزن.. وآثر الدموع الجافة التي شوهت وجنتيها... كانت تنظر إلى كل زاوية من وجهي... تريد أن تعرف ماذا أخبئ لها من جواب...
رفعت كفي مغلقاً... عينيها تركت وجهي لتتجه إلى كفي... فتحته أمام ناظريها... ليظهر من وراءه الخاتم... لم أبعد عينيّ عن وجهها... لم أريد أن يفوتني ذرة من ردة فعلها...
وجدت الفرحة التي تمنيت أن أراها في عينيها قد وجدت طريقها إليهما ... رفعت كلتا يديها وأمسكت بالخاتم ... وهي لم تبعد عينيها عن الخاتم مذ وقعت عليه.... أحسست بأن الأرض لا تسعها من الفرح...
قلت وابتسامة فرح قد سكنت شفتيّ وروحي...:" لقد وعدتك أني لن أعود إلا به..."
نظرت ناحيتي ... وابتسمت ... أنا الآخر لم تكن الأرض تسعني من الفرح لما رأيت ابتسامتها التي تسحرني قد عادت إليها ... أعادت عينيها ناحية الخاتم ... لترحل تلك الابتسامة عن شفتيها ... رفعت الخاتم ناحية شفتيها... وطبعت عليه قبلة وهي مغمضة عينيها... لتفتحهما .. وتسمح لدموعها أن تهطل...
لتقتل الفرحة التي عشتها لثواني معدودة... ويقبع الحزن على روحي.... تقدمت إلى الأمام .. لأصبح في مستواها... مجاورا لها... أحاول أن أقترب أكثر لتشعر بالذي يؤلمني منذ زمن... وبنبرة صوت تعكس الحزن الذي في داخلي... :"لمَ الدموع يا غدير... ها هو الخاتم في حوزتك ... لقد عاد لك..."
شدت من قبضتها على الخاتم... وقالت بعد أن أبعدت الخاتم عن شفتيها... بصوت لا يخلو من شهقات البكاء...:"الخاتم عاد... لكنهم لم يعودوا لي..."
وتحركت مبتعدة عني ناحية باب المنزل...
حاولت بأن أناديها .. لعلّي أخفف عنها ...:"غديــ...."
لكن لساني خانني... وشل عن الحركة... لأنني أعجز عن تخفيف حزنها... وكم يؤلمني هذا... يؤلمني أن أرى الفتاة التي أحبها بل أعشقها حزينة متألمة... ولا أقدر على فعل شيء ليفرحها ...أو على الأقل ليخفف آلامها....
|+* +* +*|


منزل يعيش أصحابه حياة أخرى... لا يشاركون الآخرين مآسيهم... لكن الوضع كما قلنا سيختلف ويتغير... ولكن ليس بالكثير الكثير...

البارحة لم أستطع النوم ... فقد كنت أفكر بالذي جرى لأمي ... وما سببه ... كانت الأفكار تأتي بي .. وتذهب بي .. حتى بدأ رأسي يؤلمني ... لهذا قررت أن أسأل أمي في الصباح الباكر...
لأعرف ما الذي جعلها بتلك الحالة في الأمس... حتى عندما عدنا للمنزل في البارحة... لم تنطق بحرف .... ولم تكلم أحدا... بقيت شاردة الذهن طوال الوقت .. كان لا بد أن أسألها... والآن أتت الفرصة المناسبة... نحن لوحدنا الآن .. وهي تبدو أفضل من البارحة.... هيا فالأكلمها .... وأريح رأسي من التفكير العقيم ....
أخذت نفسا عميقا وأنا أهيء نفسي للقادم ... كانت تحتسي الشاي .. حين قلت لها :" أمي هل يمكنني أن أسألك شيئا ...؟ "
نظرت إليّ لوهلة ... قبل أن تقول:"لا ..." ورشفت رشفة أخرى من كوب الشاي...
لم أيأس .. أردت أن أعرف وبشدة .. فحالها لم يكن طبيعيا طوال الأمس ... لهذا عدت لأقول لها :"يبدو بأنك تعلمين عن ماذا أريد سؤالك.."
لترد عليّ :" نعم أعلم .. لهذا لا تتعب نفسك بالسؤال يا وسام ... "
_:" لكن أمي يجب أن أعرف ... فالبارحة لم تكونِ طبيعية بتاتاً؟.. ما الذي جرى؟.. ماالذي رأيته وقلب حالك؟.."
وضعت كوب الشاي على الطاولة القابعة أمامها.. وقالت وقد تغيرت تعابير وجهها السكانة .. إلى غضب:" لم يحصل شيء ... كنت فقط متعبة لا غير ..."
_:" كلا يا أمي لم تكونِ متعبة .. أنا لست أطفلاً لكي ينطلي عليّ هذا الكلام ... "

قطعتُ كلامي عندما رأيتها تقوم من على الكنبة... وقد زادت حدة غضبها... وأخرجته في جملتها...:" هذا يكفي ياوسام .... قلت لك لم يحدث شيء وأنا بخير... وإياك أن تفتح هذا الموضوع مرة أخرى ... أفهمت؟..." و أشارت لي بأصبعها متوعدة....
أما أنا فقد كنت حقا متفاجئ من ردة فعلها... وبنفس الوقت ردة فعلها هذه أكدت لي شكوكي ... لهذا قمت أنا الآخر .. وفي نيتي أن أكشف سر الذي جرى... لكن صوت هاتفها المحمول رن ومنعني من الحديث...
أخذتْ هاتفها الذي كان على الطاولة المجاورة للكنبة... وتعينت الرقم قبل أن تقول...:" ياالله.. ماذا يريد هذا الآخر..."
واستقبلت المكالمة مباشرة... وردت على المتصل...:" ألو .... أهلا يا مصطفى ..."
استمعت للطرف الآخر قليلاً... ثم قالت..:"أنا بخير .. وأنت ؟..."
في ثانية واحدة ... تغيرت قسمات وجهها .... التي بدأت ترسم معالم الصدمة ... تعجبتُ مما حل بها ... ومن ثم انهارت أمي بجسدها على الكنبة ... وهي لا تزال تضع الهاتف على أذنها ... عم الصمت المصحوب بسكون جسدها لعدة ثواني... هنا شعرت بالقلق ... لهذا اقتربت من أمي.. جلست بجوارها ... وسألتها فوراً...:" أمي ما الذي جرى؟.. ما الذي حصل لك ... ؟؟"
التفتت ناحيتي ... بنظرة لا أعلم كيف أصفها ... كأنها لم تكن تراني... كانت تغارقة بالحيرة... وعلامات الصدمة لم تفارق ملامح وجهها...
تحول القلق إلى خوف عندما رأيت حالها...:" أمي أرجوك أجبيني ... أمي ..."
لكنها لم ترد عليّ .. كأنها لم تكن تسمعني.... كانت في عالم آخر...
فلم أجد حلا سوى أن أخذ الهاتف منها .... وضعته على أذني... لأسمع صوت خالي المذعور وهو ينادي أمي ...
أجبته...:" ألو خالي ... هذا أنا وسام ... ما الذي يجري ... ؟"
وليتني لم أسأل... ليردني جواباً لم أكن أتمنى سماعه أبداً...
|+* +* +*|

|| بقلم : شمعة ||
|| التدقيق اللغوي والنحوي : معلم لغة عربية ||[/FONT]

 
 

 

عرض البوم صور HOPE LIGHT  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
ملحمة عشق مبتورة, بتول واحمد, تفرعت جدورها من بين انامل الرقيقة هوب لايت, والعذبة شجرة الكرز
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 11:09 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية