لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 10-05-24, 04:54 AM   المشاركة رقم: 35
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,178
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*
انفتح الباب الضخم على مصراعيه أمام السيارات السوداء التي
اجتازته بالتتابع تحاكي فخامتها ولونها اللامع تحت أشعة الشمس
مكانة من دخلت هنا من أجله ومن كان في استقباله ما لا يقل عن
عشرة رجال واقفين في انتظاره على الرغم من كبر سن أغلبهم
وعلو مكانتهم في تلك القبائل لأنه بالنسبة لهم كان ولازال
وسيبقى القائد الأول والوحيد ومصدر فخرهم لانتمائه لهم من
بين قبائل البلاد بأكملها .

وما أن فتح باب سيارته ونزل منها حتى تحلقوا حوله بدلاً من
انتظاره قرب باب المجلس الزجاجي الكبير كما كان مخططاً
لاستقباله وبدأت الأيدي تصافحه تتركه الواحدة لتمسكه الأخرى
والبعض من كبار السن اختار حتى احتضانه وتقبيل كتفه وعلى
الرغم من كرهه لكل هذا لكنّه كان مراعيّا لهم وكأن كل واحد
منهم والد له وجب عليه احترامه .

ما أن انتهى حفل الاستقبال الطويل ذاك ابتسم صاحب المنزل وهو
أحد كبار قبائل الجنوب وقال فارداً ذراعه له ولعمه مبتسماً

" تشرف منزلي ومجلسي بزيارتكم وما أسعده من يوم هذا الذي
دخله فيه الزعيم ابن شاهين "

كان رد مطر الوحيد عليه أن ربت على كتفه مبتسماً بينما تحركت
خطواته نحو باب المجلس والجميع في إثره عدا عن حرسه
الذين انتشروا حول المكان بحركة سريعة.

وما أن تجاوزت خطواته الباب حتى استقرت نظراته الصقرية
على الموجودين في الجانب الأيسر بل وتحديداً شعيب غيلوان
وأشقائه والذي كانت نظراته القوية موجهة لعينيه تحديداً لازال
يتحداه بها وكأنه الند له وليس رئيساً لبلاده ! وهذا ما يحدث
للأسف حين يكون حكم القبيلة هو الأعلى والحاكم عادلاً .

وما أن هَمَّ الجالسون هناك بالوقوف بالتتابع حتى ارتفعت يد مطر
في إشارة واضحة وصامتة للجميع يمنعهم من الوقوف تبجيلاً له
وتقديراً لمكانته وهو ما جعل كل واحد من ذاك الجمع يلزم مكانه
حيث كراسي المجلس الفخمة المشابه للمكان حوله .

وما أن أصبح الجميع جالساً داخل المجلس الواسع ملقياً السلام
بصوت جهوري رخيم وتفاوتت الأصوات وهي تجيب تحيته تلك
أعينهم معلقة به تحاكي لهفة كل واحد منهم للتوجه نحوه
والسلام عليه والترحيب به بما يعبر عن مكانته في قلوبهم .

وما أن جلس وكالمعتاد في مثل هذه المواقف ولأنه رفض أن تقام
أي مأدبة طعام من أجله بالرغم من أن الطاولات الموجودة في
المنتصف قد امتلأت بما لذ وطاب كواجب ضيافة كان سيتحدث
أحد كبار القبائل محاولين إيجاد حلول مناسبة ترضي أصحاب الدم
والثأر توقف بسبب يد مطر التي ارتفعت له بكل احترام ما أن
خرجت منه أول كلمتين بينما انتقلت نظراته بينهم قائلاً بجدية
وحزم يشبه نظراته كما كلماته تلك

" أنا هنا فقط لأقول ما لديّ وبشهادة الموجودين جميعاً ولن يزيد
أحد على ما سأقول "


وهو ما جعل الأعين جميعها تحدق به منتظرين وبترقب وفضول
ما يبدو بأنه سيختصر جمعهم هذا وفي لحظات فقط !!
*
*
*
ما أن فتحت الباب حتى أدمعت عيناها دون شعور منها وهي ترى
أمامها صاحبة الفستان الأبيض التي وقفت على طولها تبتسم لها
بحب ، ومن شدة انبهارها بجمالها ومشاعرها تلك اللحظة لم
تستطع التحكم في نفسها أكثر وغطت وجهها بكفاها وبكت وقلبها
يحمل مشاعراً لم تعرفها حياتها وهي التي كانت تجزم بأن لحظة
ولادتها ورؤيتها بين يديها شعور لن يضاهيه شعور لتكتشف الآن
أنه ثمة لحظات أقوى منها بكثير .

أبعدت يديها تمسح الدموع عن عينيها مبتسمة ما أن قالت الواقفة
بعيداً عنها بعبوس طفولي وابتسامة شابها الكثير من الحزن

" أمي لا تتسببي في بكائي الآن لأتحول لمهرج "

توجهت نحوها قائلة بضحكة صغيرة تغلبت على حزن فراقها

" لن ترى أعينهم عروساً في جمالك وفي جميع الأحوال "

وتشاركتا حضناً قوياً كل واحدة منهما تغمض عينيها مبتسمة
بسعادة تريد أن تعيش جمال تلك اللحظة بجميع تفاصيلها فهي لم
تراها منذ غادرت لصالون التجميل صباحاً بينما انشغلت بترتيبات
صالة الاحتفال ، تعلم بأن ابنتها جميلة ومنذ طفولتها لكنّها لم
تتخيل أبداً أن تكون بكل هذا الجمال وهي ترتدي فستان الزفاف
وتتزين كعروس لأنها لم تكن تستخدم مساحيق التجميل سابقاً .

ابتعدت عنها وأمسكت وجهها بيديها وقالت بسعادة تنطق بها
عيناها قبل شفتيها

" ما أجملك وما أسعدني برؤيتك عروساً "


وتبدلت ملامحها للحزن ما أن أبعدت زهور يدها تقبلها وقالت

" رحم الله والدك ليته كان موجوداً ليراك الآن "

غطى الحزن على ملامحه وعيني زهور أيضاً وقالت حينها

" كم افتقدته اليوم على الرغم من أن والدي عبد الرحمن كان
كوالد لي ولم أشعر يوماً بخلو مكان الأب في حياتي "

همست شفتا والدتها بحزن

" رحمه الله وجعله من أهل جنته "

وكان ذاك ما زاد تعاسة المقابلة لها والتي قالت ولازالت تحاول
جاهدة أن لا تفارق الدموع عيناها السابحة فيها

" حتى أعمامي لا أحد منهم هنا وإن من أجله ومن أجلي في يوم
كهذا ! بل وعماتي أيضاً ولا واحدة منهم فكرت في تلبية دعوتنا "


تنهدت والدتها بحزن وقالت

" نحن فعلنا ما يوجبه علينا واجبنا نحوهم كعائلة لك وأفعالهم
هم محاسبون عليها أمام الله "

اقترب حاجباها الرقيقان حينها وهمست بأسى

" لا أفهم سبب كرههم ألا منطقي لنا ! "

قالت التي شغلت نفسها بترتيب فستان الزفاف الطويل تحتها
وبكلمات لا مبالية

" هم لم يحبوني يوماً ، بل وموت والدك الذي كان بقدر من أقدار
الله يشعرون بأنني السبب فيه "

تقوست شفتا زهور بحزن ويداها تشتدان بقوة على باقة الأزهار
البيضاء الممسكة بها وكأنها تفرغ انفعالها بها بينما قالت بترقب
تنظر لها وهي تستوي واقفة

" ووالدة أويس لم تأتي ؟ "

قالت والدتها وقد عادت للنظر لعينيها

" لا فهو سبق وقال بأن صحتها لا تعجبه مؤخراً ويخشى عليها
من التعب بسبب الطريق الطويل ذهاباً وإياباً "

تمتمت حينها شفتاها بحزن

" شفاها الله وعافاها "

وتابعت من فورها ونظراتها تشرد في الفراغ بحزن وشوق

" حتى مارية ليست هنا بجانبي ، كم تمنيت هذا "

تنهدت الواقفة أمامها بحزن وقالت ويدها تلامس ساعدها
المخصب بالحناء

" ليسعدها الله أينما كانت وعلينا شكره لأنها تخلصت من تلك
العائلة الكريهة التي كانت تعيش معها "

وتابعت من فورها تحاول رفع الفستان

" هيّا فوالدك في انتظارك لتدخلي فالقاعة ممتلئة جميعها
وصديقاتك متلهفات لرؤيتك "

لكنّها لم تتحرك من مكانها وقالت تنظر لها

" أويس لم يصل بعد ؟؟ "

نظرت حينها لها وقالت

" لا .. لقد اتصل به والدك قبل قليل وقال بأنه يحتاج لنصف
ساعة تقريباً ليصل حوران "

عبست ملامحها وقالت

" أخشى أن يعود أويس الذي عرفته سابقاً في الجامعة ويفعلها
بي ولا يأتي ويجعل مني سخرية للجميع "

قالت التي اتسعت عيناها مستنكرة

" اعوذ بالله .. هل ثمة رجل عاقل يفعلها ! "

وتابعت من فورها تنفي الفكرة

" لا لن يفعل هذا ، لا بك ولا بوالدك ولا بنا جميعاً وهو يعلم بأنه
ثمة حفل بل ومأدبة رجال كبيرة ينتظرونه "

*
*
*
غطت جسديهما باللحاف وانحنت نحو جبين كل واحد منهما تقبّله
بمحبة وحنان فما باتت تحمله في قلبها نحو هذان التوءمان فاق
توقعاتها بكثير ، ولا تتخيل أن يمضي يومها دون أن تراهما فيه
وتسمع أصواتهما وضحكاتهما وتهتم بأدق تفاصيلهما .

ابتعدت عنهما وابتسمت وهي تلعب لعبتها المفضلة حين يكونان
نائمان أو يوليانها ظهرهما ، خاصة أنهما يملكان ذات الثياب
ويرفضان ارتداء ملابس مخالفة لبعضهما فتحاول معرفة كل واحد
منهما وتختبر صدق توقعها .

مدت يدها نحو النائم قريباً منها وحاولت برفق إبعاد جفن عينه
للأعلى وضحكت بصمت وهي تبعد يدها ما أن تحرك متضايقاً وها
هي فشلت مجدداً ومن ضنت بأنه جاد ظهر أنه عَنان فسبحان من
صورهما نسختان هكذا ! .

وقفت بعدها وغادرت الغرفة ، وعلى الرغم من أن الوقت قارب
المساء لكن لم يرجع يمان بعد وهو ما بات يفعله مؤخراً ولا تفهم
لما ولم تسأله فبعد تلك الليلة ولقاء ذاك الفتى الزهري لم يتبادلان
الحديث مطلقاً ، ولأنه أصبح ثمة غرفة أخرى هنا ازداد وضعهما
سوءاً وابتعاداً فلا تراه سوى في الوقت الذي تضع فيه صينية
الطعام في غرفته ، وحتى الصغيران يقضيان أغلب وقتهما معها
وبصعوبة تقنعهما ليناما ليلاً مع شقيقهما كي لا يشعر بأنه وحيد
هنا ، بينما ما يجذبهما للنوم معها هو قصص ما قبل النوم فقط
كما ترى ، أو هو الحنين لوالدتهما وتعودهما على النوم في
حضنها وخاصة جاد أمّا عَنان فتراه أكثر استقلالية من شقيقه .

وصلت باب المطبخ وتوقفت هناك تنظر للباب الجديد المفتوح
بينهم والذي لم تجرؤ على الاقتراب منه طيلة أيام الأسبوع
الماضي بسبب وصايا بل أوامر أويس أولاً ويمان ثانياً وبأنه على
الوباء المسمى مايرين أن لا تقترب من والدته حتى بات النظر له
يشعرها بالألم في كل مرة ليذكرها أيضاً بحقيقتها في هذه الحياة
والتي لم تنساها أساساً ، لكن هذا ظلم وإجحاف في حقها فهي
ممنوع عنها حتى إعداد الطعام لها أو حتى غسل ثيابها فترة
غياب ابنها ذاك ، ومسموح فقط للصغيرين بهذا وهو فقط ما
تفعله بأن تذكرهما دائماً بالذهاب لها ورؤيتها خشية أن يرتفع
السكري لديها فجأة وتمرض ولا أحد يعلم عنها ، ولم يكن الأمر
يحتاج هذا غالباً فهما وبسبب الحلوى التي يحصلان عليها منها
دائماً يزورانها باستمرار وهو الأمر الذي يعجز راتب شقيقهما
الضئيل على توفيره لهما .

تحركت جيناتها قبل خطواتها في تمردها الأول على أوامرهم تلك
وهي تتوجه نحو الباب المفتوح فهي تبقى ابنة غيلوان ماذا تفعل
مع نفسها ؟ إنه شيء يبدو يسري في دمائهم لا تعرفه تهور أم
تمرد أو شجاعة تقود بصاحبها لهلاكه المحتم ؟! ولا يعنيها
تفسير هذا فهي لا تستطيع سوى إطاعة عقلها حين يقرر نيابة
عنها ومهما كانت النتائج وما تحصده من بعدها ففي آخر مرة
فعلتها وخرجت بحثاً عنه ها هي عُوقبت بسجنها وإغلاق الباب
عليها من الخارج وضاعت منها فرصة الخروج والتأكد من
حديث ذاك الزهري عمّا حدث لبئر أراضي غيلوان ذاك .

حين تخطت قدماها الباب الحديدي سارت خطواتها وهي تنظر
حولها وابتسمت وهي ترى مصدر تلك الرائحة التي كانت تصلها
من قبل أن يُفتح الباب بينهم وعلمت الآن بأنها مزيج من رائحة
أوراق الحبق والنعناع وشجرة العطر فيبدو بأنه اختار كل ما
يمكن لوالدته أن تستمتع بوجوده وإن كانت لا تراه .


حين وصلت باب المنزل الخلفي المفتوح على تلك الجُنينة ازداد
توترها وكاد ترددها أن يتغلب عليها وترجع أدراجها لكنّ
الخطوات التي سمعتها تقترب منها منعتها من فعلها وملأت
الدموع عينيها وهي تنظر للتي اقتربت تستدل بيدها طريقها على
جدار الممر الصغير الذي يلي الباب الخشبي وهي ترى الآن
ولأول مرة المرأة التي حرموها من الاقتراب منها ، وبالرغم من
أنها كانت قد قاربت الستون عاماً لكن الغرة الكثيفة الناعمة التي
كانت تحف حاجباها لازالت تحتفظ بسوادها تقريباً وقد زيّنت
عينان فاقاها سواداً وبالرغم من أنها فقدت نورهما إلا أنهما من
أجمل ما رأت ! فهي في المرة السابقة التي طرقت باب منزلها
بحثاً عن يمان حدثتها من الخارج دون أن تراها .

كتمت أنفاسها دون شعور منها حين قالت التي لازالت تقترب
بخطوات بطيئة حذرة

" جاد أم عَنان أنت ؟ "

ارتجفت شفتا مايرين تمنع نفسها بالقوة عن الانفجار باكية بينما
تابعت التي مدت يدها نحوها مبتسمة

" تعالى هيّا لما تقف هناك ؟ "

وهو ما جعلها تتسمر مكانها وعجزت خطواتها على إطاعتها حتى
وصلت عندها وتوقف قلبها ما أن رفعت يدها ومدتها للأمام
ولامست أطراف أصابعها وجهها لتتصلب يداها هناك قبل أن تعود
بها تمسكها بيدها الأخرى ، وتمنت مايرين حينها لو لم تدخل إلى
هنا ولم تفكر في فعلها لكن ما حدث بعدها خالف جميع توقعاتها
حين ابتسمت تلك الشفاه البارزة وقالت صاحبتها

" هذه أنتِ يا مايرين ؟ وأخيراً قررتِ زيارتي "

لم تستطع تدارك مشاعرها حينها وحضنتها دون شعور منها
وقالت باكية

" سامحيني يا خالة أرجوك ، سامحيني على كل ما أصابك بسبب
وجودي في هذه الحياة "

وازداد بكائها أكثر ما أن لامست يدها ظهرها قائلة بحزن

" لا تقولي هذا يا ابنتي فلا ذنب لك فيما حدث "

وتابعت والدموع تلمع في العينان السوداء الواسعة المحدقة
في الفراغ

" أنتِ واجهتِ من الظلم ما لم يراه أحد منّا جميعنا يا مايرين ، لا
أنا ولا أويس ولا حتى عمك عبد الجليل رحمة الله عليه عانينا ما
عانيته أنتِ "

ابتعدت عنها حينها وقالت باكية تنظر لعينيها وإن كانت لا تراها

" بلى فبسبب وجودي عانيتم ما عانيتموه ، أنا من كان وجودها
السبب وليس العكس "

وتابعت بحرقة بعد شهقة بكاء موجعة " ليتني لم أولد ولم أرى
النور يوماً "

امتدت يدها نحوها حينها حتى لامست وجهها وقالت بحزن

" أعوذ بالله يا ابنتي ، لا تُغضبي الله منك فهو ما أوجد شيئاً إلا
لحكمة ما ولا يخلق عبثاً "

وأنزلت يداها لكتفها وقالت تدفعها نحو الداخل وابتسامة صادقة
تزين شفتيها

" هيّا تعالي ادخلي ألقي نظرة على المنزل قبل أن تصل العروس
فثمة أمور لا يمكنني فعلها "

تبدلت ملامح مايرين للاستغراب حينها وقالت وهي تتحرك معها

" عروس من ! "

قالت التي كانت تنظر أمامها مبتسمة بسعادة

" عروس أويس فهو تزوج وسيحضرها من حوران اليوم "

أشرق وجه مايرين حينها وقالت بابتسامة متسعة تنظر لها

" أويس تزوج ! "

كانتا قد وصلتا بهو المنزل الواسع حينها وقالت والدته مبتسمة

" أجل وأخيراً منّ الله عليّا برؤية عروسه وأسأل الله أن أحمل
أبنائه قريباً "

" آمين يا رب "

كان ذاك فقط ما همست به شفتا مايرين الحزينة تشعر بالسعادة
من أجله على الرغم من كرهه الأسود القاتل لها لأنها تعذره بل
وحزينة على حالهم وعدم زواجه حتى الآن وكأنها لعنة واحدة
شملتهم من رفض الزواج طواعية ومن لم يفعل .

كانت تنظر للمكان حولها حين قالت الواقفة قريباً منها
وببعض الضيق

" هو رفض وضع أي قطعة أثاث هنا رغم محاولاتي لإقناعه لأنه
يريد أن أتنقل في المنزل بسهولة ولا أتأذى ، لكنها تبقى عروس
وستعيش فيه كمنزل لها "

وكان بالفعل كما قالت وتراه أمامها وبالرغم من أنه منزل طيني
قديم أو هكذا يخيل لها فقد تمت إعادة هيكلته جذرياً سقفه
وجدرانه وكأنه منزل جديد مبني حديثاً ! وحتى البساط الذي
يغطي أرضيته كاملة كان من أجود الأنواع ويبدو جديداً بينما لا
وجود لصالون هنا ولا طاولة تلفاز ولا أي قطع أثاث أخرى فعلاً ،
ورقّت ملامحها بحزن فكم يُحب هذا الشاب والدته فهو أطاع حتى
رغبتها بأن يعيشا هنا في هذا المنزل ومزرعة والده على الرغم
من أنه يمكنه العيش في أي مدينة من مدن البلاد الكبيرة وفي
منزل فخم جديد !
نظرت نحوها وقالت مبتسمة بحزن

" إن لم تستطع تقدير وضعك وظروفه فهي لا تستحقه "

وكانت وكأنها قرأت كل ذلك في داخلها وقد لامست يدها ذراعها
وقالت بحنان

" كم أسعدني أنك لا تحملين نحوه أي ضغينة "

امتلأت عينا مايرين بالدموع وقالت بحزن

" لم ولن يحدث هذا وأعلم بأنه رجل شهم والجميع هنا يحبه
لكنّه قدري وعليّا تقبله "

ورفعت يدها لعينيها تمسح الدموع عنها بينما قالت التي عادت
للمسح على ذراعها بحنان

" أسعدك الله يا بنيتي فكم سعدت حين علمت بخبر زواجك
فأويس يحب زوجك كثيراً ويمدحه دائماً وها هو الله عوضك
عن كل ما قاسيته أخيراً "

عادت دموعها لمحاولة كسر حاجز عينيها مجدداً وأرادت أن
تقول بأن نحسها ولعنتها لم تغادرها أبداً وأنها عادت لتعيش
التعاسة ذاتها وهي معه وفي وجوده لكنّها لم تستطع فعلها ليس
لرفضها قول ذلك فقط بل ولأن عيناها تسمرت مكانها كما باقي
أطرافها وهي تنظر للباب المقابل والذي يفصل بهو المنزل عن
بابه الرئيسي ما أن تحرك ببطء شديد مع استدارة الواقفة أمامها
نحوه وشعرت بالذعر فلن يدخل هذا المكان دون طرق سوى
شخص واحد من المفترض أنه في حوران الآن ! أم ترك عروسه
تنتظر وعاد وحيداً !! والأسوأ من كل ذلك ما سيجده هنا في
انتظاره .

*
*
*

توقفت سيارته على مبعدة منه فها قد جد ضالته أخيراً ومن جاب
الشوارع لساعات وساعات بحثاً عنه وقد شقت أنوارها جسور
المدينة منذ ساعات الفجر الأولى حتى أظلمت من جديد بل ولوقت
متأخر وهو يبحث ودون يأس .

لمع الحزن في عينيه واشتدت قبضتاه على المقود بقوة وهو
ينظر للواقف عند سياج الجسر يتكئ بمرفقيه عليه بينما كان
يصوب نظره نحو الأمام ونحو البعيد وكأنه موجود في بعد آخر
خاص به وحده ، واستطاع أن يدرك بقلبه قبل عقله أي أفكار
تتصارع داخله الآن وأي أحداث تلك التي لم تغادر مخيلته حتى
اللحظة ، فزيارته لشقته المحترقة كانت كفيلة بأن يعلم عن كل
هذا فأي إعصار هذا الذي اشتعل داخله جعله يحرق كل شيء !
لقد وجهوا له ضربة قاصمة لا ينكر هو نفسه أنها فاقت
توقعاته !! بل ورد فعله كان ما فاق كل ذلك ! وكيف له أن
يستغرب هذا فأي رجل شرقي غيور كان ليجن جنونه فكيف إن
كان الواقف هناك والذي لطالما كان عنفوانه وكبريائه وغيريته
مختلفة عن جميع الرجال .

تنهد بعمق وحزن مغمض عينيه وعادت تلك المكالمة لمهاجمة
تفكيره مجدداً رغم مرور ساعات طويلة عليها

" ما هذا القرار المجنون يا مطر ! "

كان ذاك ما صرخ به ما أن أجاب أخيراً من أمضى وقتاً طويلاً
يحاول التواصل معه ولا يجيب ولم يترك أي طريقة لفعل ذلك ولم
يتم تحويل المكالمة له إلا بعد عناء ، بينما لم يكن رد محدثه
حينها بأقل حدة حين قال

" إنه رد الفعل الطبيعي على جنون ابنك "

اشتدت قبضتاه على المقود واتكأ بجبينه عليه وذكرى تلك
المكالمة تهاجمه مجدداً وهو يعقب على ما قاله بضيق

" لا أصدق هذا ومنك أنت تحديداً يا مطر ! من كان في مرتبة
الابن بالنسبة له ! "

قال حينها مطر مؤكداً بحزم

" بلى وأحبه أكثر منك أنت والده ، لكنَّ سلامة البقية أهم بالنسبة
لي ولن تتغير تلك القرارات قبل أن يعود لصوابه "

أغمض عينيه بقوة كما اشتدت أصابعه على المقود أكثر حتى بات
يشعر بالألم فيها و لا يفهم ما سبب كل هذا ولم يتخيل أن يكون
رد فعله هكذا ! وإن كان يظن بأنها خانته فعلياً مع رجل فممن
ينتقم بكل ما يفعله ؟! وكان هذا سبب السؤال الذي وجهه له
حينها بتساؤل مريب

" هل تظنه علم بمخططنا ذاك ! "

وكان جواب مطر قاطعاً وحازماً حينها

" لا أعلم ولست أجزم بذلك لكان أخرجها من هناك وما تركها
لديهم وإن أحرق منزلهم ومن فيه "

وهو ما فكر فيه هو أيضاً فما الذي يريده بتمرده هذا إذاً ! هو
سبق وأقسم بأن يترك المهمة بأكملها إن تم إبعادها عنه وهذا ما
يفعله الآن تقريباً ، لكن لكان قطع علاقته بذاك الأميرال وابنته
أيضاً لأنه الجزء الذي كان يرفضه ويكرهه في تلك المهمة
بأكملها !

كم يشعر بالندم وبأنهم تسرعوا بفعل ذلك ويخشى من أن يتسبب
بأذية نفسه فهو لا يريد أن يخسره وإن كان يرفضه ولا يعترف
به والداً له ، لكن هو من لم يترك لهم خيارات أخرى فلما سيلقي
باللوم على نفسه أو على مطر ! بلى هو من صنع منه هذا وقام
بترويضه كنمر بري وحين انكسر القيد تمرد حتى على مدربه
فمن سيخضعه لسيطرته الآن ! لا أحد بالتأكيد ولن يسمع سوى
قرارات نفسه وعقله ورغماً عنهم جميعهم .

ارتفع رأسه عن المقود وإن كانت لازالت أصابعه تشتد حوله بقوة
وعادت نظراته المتأسية الحزينة لمراقبته وكلمات مطر الآمرة
المهددة تلك تعود لمهاجمته مجدداً

" شاهر ابتعد عنه ولا تفكر في فعلها ومحاولة التحدث معه حتى
نعلم ما يريد بكل هذا ومتى سينتهي جنونه ويعود لرشده "


صرخ فيه حينها بأسى

" لكنّه إبني ، كيف تريد مني أن أقف وأتفرج عليه وهو يقود
نفسه نحو الهلاك ! إن شعر رؤساء تلك المنظمة مجرد الشعور
بالريبة اتجاهه بسبب ما يفعل سيقومون بقتله بالسم الذي يحمله
في جسده ودون أدنى رحمة "

وصله صوت مطر حينها آمراً لم يتغير أي شيء فيه

" لذلك قلت ابتعد عنه لا نريده أن يتهور بأي شيء يا شاهر "

" وماذا عن زوجته ؟ "

همس بتلك الكلمة بحزن لم يستطع إخفاءه وهو ما كان له تأثير
على صوت محدثه أيضاً وإن قال بضيق

" تلك كارثة أخرى لا شيء بيدنا نفعله حيالها سوى تمني أن
تكون أعقل من أن تُهلك نفسها والجميع معها "

قال حينها وبحنق شديد

" ولما لا تخرجها من هناك ؟ لن تعجز عن فعلها "

قال مطر من فوره وبصوت حاد

" هذا جنون ، هل تتخيل تبعات ذلك ؟ "


لتعجزه كلماته تلك عن الرد فهو يفهم ويعلم جيداً ما ستكون
النتائج المترتبة عن تطبيق فكرته تلك وهو مواجهة غستوني
مديتشي الذي لن يقف صامتاً وسيبحث عنها بكل تأكيد ويكتشف
بذلك كل شيء ، كان صمته ذاك مدججاً بالألم وبالغضب من نفسه
لقلة حيلته وعجزه حتى عن حمايتها هي المرأة الضعيفة ومن
تكون جزء من عائلته ، بينما أضاف محدثه دون اهتمام لصمته
ذاك يذكرّه مجدداً وبنبرة تحذير واضحة

" كلامي واضح يا شاهر ليبتعد الجميع عنهما حتى تصلكم أوامر
أخرى مني "

لم يستطع أيضاً مناقشته ولا معارضته ولكن أيضاً لم يستطع منع
نفسه من أن يقول وبكلمات قوية حازمة

" ذنب إبني وزوجته في عنقك يا مطر إن أصابهما مكروه .. لا
تنسى هذا "

وأنهى الاتصال معه عند ذلك وهو يحمّله كامل مسؤولية ما
سيحدث لهما مستقبلاً بالرغم من يقينه بأنه يحمل إثم ذلك معه
أيضاً وهو من وافق عليه وكان مقتنع به تماماً أيضاً ، ويعلم
أيضاً بأن مطر كان مكرهاً على فعلها من أجل سلامتهما قبل
البقية لكنه أب وهذا الابن هو ما تبقى له في هذه الحياة وما
تركته زوجته تلك له وما يربطه بها وإن كانت غائبة عنهم ، ولا
يستطيع لوم أحد غيره على هذا لأنها طبيعة البشر كي لا يقتله
الندم وهو يوجه ذاك اللوم نحو نفسه .

مسح وجهه بكف يده مستغفراً الله بهمس كئيب وهو يحاول
إخراج نفسه من كل تلك الأفكار للواقع الأقسى منها وعيناه لا
تفارق الواقف مكانه هناك وشعر بالعجز وهو من أمضى طوال
تلك الساعات يبحث عنه متجاهلاً كل الألم والتعب بسبب جلوسه
الطويل وتحريكه للمقود يشعر الآن بأنه مقيد وعاجز عن فعل ما
كان عازماً عليه ! فلما بحث عنه ؟! هل ليطمئن عليه فقط كما
كان يقنع نفسه ؟ الأوامر كانت واضحة وعلى الجميع أن يبتعدوا
عنه لكنه لم يستطع فعلها ولا يريد لقلبه أن يتآكل أكثر من ذلك
ولا للندم أن يقتله حينما سيفقده وزوجته تلك معه .

فتح باب السيارة يحارب أي تردد قد يجعله يتراجع عن فعلها
وتوجهت خطواته نحوه حتى ظهرت له ملامح نصف وجهه
المقابل له بوضوح بسبب النور الخافت للأعمدة الممتدة على
طول الجسر وخصلات من شعره الناعم كانت تتراقص فوق
جبينه بينما نُحتت ملامحه وكأنها صورة تنبض بالحياة .
توقفت خطواته حينما لم يعد يفصله عنه سوى خطوتين فقط
تقريباً وإن كان على وضعه السابق لم يتغير لكنه يعلم بأنه شعر
بوجود أحدهم وإن لم يقده فضوله ولا لمعرفة من يكون .
سحب نفساً عميقاً لصدره وكأنه يشجع نفسه بذلك وقال
وهو يزفره

" تيم هل لنا أن نتحدث وإن كغريبين لا يعرف أحد منّا الآخر "

كانت كلماته ونبرته تلك تحمل في طياتها رجاءً كسيراً بينما كان
رد فعله التجاهل التام له وكأنه لم يسمعه لكنه على الأقل لم يغادر
ويتركه أو يقوم بمهاجمته كالسابق لذلك قال مجدداً ودون يأس
وبنبرة جادة هذه المرة

" تيم علينا التحدث قليلاً وفيما هو أهم من جميع خلافاتنا "

وحدث ما توقعه واستغرب تأخره حتى اللحظة وهو يستوي في
وقوفه قبل أن يوليه ظهره وغادر متجاهلاً له بل ومعرفة ما يريد
قوله وهو يخبره بأنه أمر مهم ، فصرخ يشد يديه بجانب
جسده بقوة

" والدتك كانت مصابة بسرطان الرئة ولم يكن هناك أي علاج
لها ولا أمل من شفائها "

جعلت كلماته تلك خطواته تتوقف وإن لم يستدر نحوه ، لا ينكر
بأنه لم يكن ينوي قول ذلك وكل ما جاء للتحدث معه فيه هو
مارية وكل ما حدث وفعلوه لكنّه تعب من الصمت ، متعب من كتم
كل ذلك في نفسه وتحمُل أذيته المتواصلة له وتحميله إثم كل ما
حدث معهما ، سحب نفساً عميقاً لصدره وكأنه يفقد تلك الأنفاس
ويموت وقال ينظر لقفاه بحزن

" حتى هي كانت تعلم بذلك وأرادت إخفاء الأمر عنك كي تعيش
على الأمل ولا تحزن "

ولمعت الدموع في عينيه تكسر صموده الرجولي فذكراها وذكرها
لازال يفعل الكثير بقلبه ولم يساعده هذا الابن لتخطي كل ذلك
بالرغم من مرور كل تلك الأعوام ، وهذا ما حدث مجدداً وهو يدير
نصف وجهه فقط نحوه قبل أن تخرج كلماته الغاضبة الكارهة
كرصاصة قاتلة يوجهها نحوه في كل مرة

" حتى معرفتي بهذا لن يشفع لك ما حدث لي ولها أبداً "

وما أن أدار وجهه عنه مجدداً وتحركت خطواته ليبتعد عاد لشد
قبضتيه بقوة يفرغ فيهما كل ما يكبته وصرخ مجدداً وإن كان
الألم يقطر مع كل كلمة

" كانت من اختار هذا ورفضت أن أخرج بكما من هناك كي لا
اقتل بسبب ابن راكان وكي يعيش أحدنا من أجلك ، كم مرة سأعيد
هذا ؟ "


توقفت خطواته مجدداً واستدار نحوه هذه المرة بكامل جسده
وصرخ بالمثل لكن بغضب متفجر يرمي بيده جانباً

" موتك أشرف لك مئة مرة ممّا قاسيناه ومن تبريرك السخيف
هذا ولن أغفر ما حييت لأي شخص منكم آل كنعان وآل هارون
تخلى عنّا وعنها ليعيش رغد الحياة بينما تركها تتألم وتموت من
الإهمال قبل المرض وتركني أعيش طفولة يعجز عن تحملها
الرجال "

ولم يكتفي بذلك فقط لقتله بل وجه سبابته نحوه صارخاً بتهديد

" ويمكنك اعتباري ميتاً من الآن وتوقف عن البحث عني وعن
ملاحقتي أو قتلتك "

اتسعت عيناه وهو يسمع ذلك منه فما عناه باعتباره ميتاً من
الآن ! هل بات متيقناً بأن مصيره الموت وهو ما يصبوا له !!
شعر بالهواء يختفي من رئتيه وعيناه لازالت شاخصة على
اتساعها ينظر للذي يبدو لم يهتم لكل ذلك وهو يوليه ظهره مجدداً
فقال بصعوبة

" ومارية ؟! "


كانت هي من فكر فيها حينها فإن كان سيرمي بنفسه للموت دون
أن يهتم له هو فماذا عنها ! لم يكن يجزم بأن ذاك الصوت
المختنق المنخفض قد وصله حتى أثبت له عكس ذلك وإن كان
يدير ظهره له وقد دس يديه في جيبي سترته الجلدية قائلاً بجمود

" لا شأن لي بها "

تحرك رأس حينها برفض وله أن يتوقع هذا بعدما فعلوه
وقال غاضباً

" لكنها زوجتك وليست مُدربة ولا أحد يعلم ما ستواجه
هناك وحيدة ! "

قابل الواقف على بعد خطوات منه كل ذلك بصراخه الغاضب وهو
يتحرك مجدداً

" قلت لا شأن لي بها ولا أعرف واحدة اسمها مارية "


فصرخ فيه بالمثل وخطواته تبتعد عنه أكثر

" هل جننت ! إنها زوجتك عرضك وشرفك يا تيم بل ووصية
والدتك الوحيدة لك "

لكنه ابتعد بخطوات واسعة دون أن يهتم لما قال ولا حتى للرد
عليه ونظراته المتأسية تتبعه وجسده يبتعد ويبتعد حتى اختفى
عنه .

*
*
*


*
*
*

حين وصلت المكان الذي خرجت قاصدة إياه تحديداً من بريستول
حتى لندن وقفت مترددة أمام باب المطعم الفخم الواسع وكانت
ستعود أدراجها ، وهذه ليست المرة الأولى التي تقرر فيها هذا بل
وفي كل دقيقة مرت منذ وقت خروجها بالرغم من تشجيعها
لنفسها مراراً ومنذ استيقظت صباحاً كي لا تفر كالجبانة كما فعلت
في المرة الماضية بعد لقائها بوقاص فهي كانت على اتفاق معهن
لتجتمعن معاً هنا لكنها عادت أدراجها لبريستول وتحججت بأنها
علمت فجأة بأن والدها مريض وذهبت لزيارته ، وكادت تموت
ندماً فيما بعد ووبخت نفسها كثيراً على ما فعلته وهروبها بجبن
وكأنها ستدخل ساحة حرب وليس باب مطعم ! لكن هذه المرة
ستفعلها ومهما تأخرت في الوصول إلى هنا بسبب حروبها
الضارية مع ترددها .

شجعت نفسها وهي تعبر الشارع متوجهة نحو بابه الواسع وما
أن دفعته ودخلت أصبحت أمام الأمر الواقع وتخلصت من فرص
هروبها أخيراً خاصة وأنها رأت بوضوح الطاولة التي كانت
تجلس حولها قرابة العشرة نسوة وهن المجموعة التي تعرفت
عليهم عن طريق برنامج تطوير الذات الذي انضمت له مؤخراً
عبر الانترنت والذي عثرت عليه مصادفة وهي تتصفحه وظهر
لها إعلان مدفوع الأجر خاص به وقررت وعلى غير العادة فعلها
والانضمام له وأقنعتها الفكرة المطروحة عنه ووجدت بأنها
تحتاج فعلياً لأن تتغير من الداخل وليس الخارج فقط لأنه كان
أشبه بقشور لن تستطيع إقناع الناس بها ما لم تُقنع نفسها أولاً ،
وفهمت حينها ما كان يردده وقاص دائماً عن أن ما تحتاجه هو
تغيير داخلها وليس مظهرها الخارجي ، وقاص الذي لم تراه ولم
يزر قصر العائلة طيلة أيام الأسبوع الماضي وبعد لقائهما ذاك
الذي كانت تظن بأنه سيكون السبب في تغيير حياتهما وبشكل
جذري لكنها غبية ومغفلة كما تنعتها شقيقتها جيهان دائماً وما
كان ليصدقها ويكذب تلك ، وحتى زوجة والده أسماء لم تعد
تعتبرها حليفة لها بعد أن اتهمتها بالغباء أيضاً وهي تهاجمها
وفهمت بأن وقاص تحدث معها ليتأكد من صدق ما قالته ، وكم
أحزنها حين اكتشفت بأنها كانت تستغلها لتخبر جده بما فعل بعد
أن استغلتها لتقتل هي تلك القاتلة فتورطها في الجريمة وتنجو
هي منها ولولا ظهور ذاك الشبح من العدم لكانت الآن في
الزنزانة تنتظر الحكم .

رمت كل تلك الأفكار من رأسها وتنفست بعمق تشجع نفسها
وخطواتها تتحرك نحوهن ببطء فهي لم تتخذ صديقات في حياتها
مطلقاً ولا حتى حين كانت طفلة وكان عقلها مشبعاً بفكرة أنه غير
مرغوب بها وبأنها ستكون عرضة لسخرية الجميع إن هي
تحدثت معهم أو اقتربت منهم ، وما أن كبرت وأصبحت شابة
ازداد الوضع سوءاً وانعدمت ثقتها بنفسها وبشكل نهائي .

ما أن وصلت لهن توقفت الأحاديث والضحكات فجأة وتوجهت
الأنظار جميعها نحوها وشعرت بتوتر لم تعرفه حياتها وكادت
تنهار باكية كالأطفال وطار أدراج الرياح كل ما تعلمته ! واكتشفت
الآن أن التطبيق أصعب بكثير من الاستماع وهو ما زاد وضعها
سوءاً .

وقفن بالتتابع ما أن قالت إحداهن وهي تقف مبتسمة

" أنتِ بالتأكيد جمانة "

جاهدت نفسها بشق الأنفس لترسم ابتسامة وإن متوترة على
شفتيها وهي تمد يدها نحوها قائلة

" نعم وسررت بلقائكن "

وتبادلت السلام بالأيدي مع الجميع وكل واحدة منهن تعرفها
باسمها وكان بينهن ثلاث عربيات غيرها بينما كُن من مدن
مختلفة في جنوب انجلترا لهذا احتاج الأمر لأسبوع لتجتمعن معاً
هنا مجدداً .

حين جلست في مكانها كان انتباهها كما نظراتها موجه نحو امرأة
واحدة بينهن والتي كانت بجسد يشبه جسدها سابقاً حتى أنها
كانت متوسطة الجمال أيضاً لكنها كانت مهتمة بأناقتها بالرغم
من كل ذلك وكانت ترفع خصلات شعرها القصير الناعم بنظارة
شمسية للأعلى وتضع القليل فقط من الزينة على وجهها ، لكن
طريقة تحدثها وثقتها وإدارتها للحديث كان ما جعلها تُصاب
بالذهول وكيف أنّها باتت تراها أجمل بكثير من حقيقتها ! وتألمت
بشدة حين أدركت بأن سلوكنا له الدور الأكبر في إظهار صورة
ما عنّا وإيصالها للغير ! ولها أن تتخيل الآن كيف كان يراها
الجميع وأولهم وقاص ، يا إلهي إنها تشعر بالألم في قلبها وكم
شعرت بأنها طفلة وحمقاء وستحتاج لعشرات السنين لتصل لما
وصلت له الجالسة هناك وكأنها سيدة المكان وليست مجرد
سمينة بشعة كما كانت تسمع هي سواء إن كانت حقيقة أم أوهام
صورها لها عقلها .

انتبهت فجأة للتي قالت مبتسمة تنظر لها

" يبدو بأنها لم تنتبه لما كنتِ تقولينه يا جوان "

ابتسمت حينها محرجة ونظرت للجالسة قريباً منها وقالت معتذرة

" آسفة يبدو أني شردت قليلاً "

قالت تلك مبتسمة

" كنت أسألك ما هو الذي دفعك للانضمام للمركز بما أنك العضوة
الجديدة معنا ؟ "


ارتجف فكها وكأنها تقاوم البكاء كالأطفال وقالت والدموع
تلمع في عينيها

" أريد أن أستعيد زوجي "

تأوهت تلك قائلة بابتسامة

" أوه مشوارك سيكون طويلاً ومراحله عديدة هكذا "

ابتلعت غصتها مع ريقها وتمتمت بحزن

" سأصبر وأحاول "

تحدثت الجالسة على يسارها وقالت تنظر لها

" بما أنك ذكرتِ كلمة استعادة فثمة امرأة أخرى إذاً ؟ "

شعرت برغبتها في البكاء تتعاضم وجاهدت نفسها بالقوة فعلى
جمانة السابقة أن تموت وأولها دموعها التي كانت تذرفها في كل
وقت وموقف ومكان ، استجمعت المتبقي من قواها وقالت
بعزيمة

" أجل وأنا الأحق به منها ، إنه زوجي وهي من دمرت كل ما
بيننا ، دمرت زواجي وحياتي وأخذته مني "

ما أن أنهت كلماتها تلك كانت عيناها تلمع بالدموع السجينة فيها
تحاربها باستماته كي لا تنزل لتنهار حصونها وهو ما لا تريده
بينما استدار رأسها نحو التي قالت

" لكن عزيزتي عليك أن تعلمي بأنه ثمة أمور كثيرة سيكون
عليك اكتسابها قبل أن تنتقلي لمرحلة استرجاعه لك "

كان من تحدثت حينها هي ذاتها السيدة ممتلئة الجسد التي سرقت
انتباهها سابقاً من بين الجميع فتنهدت بأسى وقالت

" أجل بالتأكيد "

تابعت تلك من فورها

" وعليك أيضاً أن تضيفي احتمال عدم عودته لخياراتك "

" ماذا !؟ "

اتسعت عيناها مصدومة وهمست فقط بتلك الكلمة وهي تسمع ذلك
منها بينما تابعت سريعاً

" أجل فقد لا يحدث هذا لذلك عليك توسيع نطاق أهدافك كي لا
تفقدي شغفك لتغيير نفسك حينها أو لا يصيبك الإحباط ومن ثم
التقهقر والعودة للوراء لأن هدفك كان واحداً ولم تصلي له "

حركت رأسها برفض وارتفع صوتها بحدة قائلة

" لا بل هو زوجي وعليه أن يعود لي ويكون لي وحدي "

قالت حينها الجالسة بجانبها وهي جوان ومن سرقت نظرها
واهتمامها

" جمانة يبدو لي أنك بحاجة لشيء آخر قبل أن تكوني ضمن
مجموعة تطوير الذات "

اقترب حاجباها باستغراب وقالت

"ما معنى هذا !! "

حركت كتفها قائلة ببساطة

" أقصد هل قمتِ بزيارة معالج نفسي من قبل ؟ "

اتسعت عيناها وقالت بضيق

" ولما ..! أنا لست مجنونة "

انطلقت ضحكات متفرقة منهن جعلتها تشعر بالتقوقع على نفسها
مجدداً بينما قالت إحداهن مبتسمة

" المجانين لا يأخذونهم للمعالجين النفسيين "

وقالت أخرى سريعاً وهي تشير بيدها لهن

" هل تريننا أمامك ؟ جميعنا ذهبنا لهم يوماً ومنّا من لازالت
تفعلها "

تهربت بنظراتها منهم للطاولة أمامها فلازالت شخصيتها الضعيفة
المهزوزة تمنعها من مواجهة الأعين وهي تتحدث بينما خرجت
كلماتها من عمق حقدها وكراهيتها قائلة

" أنا لا أريد كل هذا بل أريد استعادة زوجي من تلك الوضيعة
المنحلة وأن تختفي من حياتنا فقط "

وشعرت بكراهيتها لها تتعاظم حينها وهي تتذكر ما قالته سابقاً
وبأنها الأحق منها به وبأنه زوجها لأنها هي من وافق على هذا !
واشتدت قبضتاها حتى كانت تشعر بألم انغراس أظافرها الطويلة
في كفها وإن كانت لا تفهم تماماً ما كانت تقصده لكنّه تهديد
واضح لها بأنها إن أرادته لنفسها ستأخذه منها وبكل سهولة .
ارتفع نظرها للتي قالت حينها وكانت السيدة ممتلئة الجسد ذاتها

" لن نتحدث عن هذا الآن وستفهمين ما أقوله يوماً إن لم يكن
مصير كل ما تفعلينه الآن الفشل "

أبعدت نظرها عنها بل وعنهن جميعهن وأحنت رأسها تنظر ليديها
اللتان لازالت تشدهما في حجرها بقوة وكأنها تفرغ غضبها
المكبوت فيهم ولم تعلق على ما قالت فهي بالفعل تفعل كل هذا
من أجله ولتستعيده ولتكون المرأة التي يستحقها ويراها كذلك
وستفعل كل شيء وإن اضطرت للاستعانة بوالدها وإخباره بما
يحدث وتخفيه عنه ليخلصها من وجود تلك المرأة وبأي طريقة
كانت .

وقفت بعد قليل معتذرة بلباقة منهن لأنها فعلياً لم تعد تستطيع
البقاء فهي لم تفعلها حياتها خاصة إن تحدثت ونظر الجميع لها
ولم تتخيل أن تفعلها وتتحدث أساساً !.

حين أصبحت في الخارج وقفت تنتظر سيارة أجرى وشعرت
بخطوات ما خلفها تماماً وهو ما جعلها تستدير بحركة سريعة
متوجسة وشعرت بالتوتر وهي تحاول الابتسام للتي أصبحت تقف
أمامها وكانت السيدة الممتلئة ذاتها وقد قالت مبتسمة حينها

" أعرفك بنفسي أنا الطبيبة جورجينا وصاحبة مركز تطوير
الذات الذي قمتِ بالانضمام له مؤخراً "

اتسعت عينا جمانة مع انفراج شفتيها في شهقة صامتة وحركة لا
إرادية بينما عجزت عن قول أي شيء ، ويبدو أن الواقفة أمامها
لم تنتظر ذلك وقد قالت مبتسمة بلباقة تشبهها

" أنا أفعل هذا مع الجميع لأتعرف عليهن في اللقاء الأول دون
معرفة من أكون "

تقوست شفتا جمانة حينها وقالت بأسى من نفسها

" يمكنني تصور الفكرة التي أخذتها عني إذاً "

كان رد فعل جورجينا الأول ضحكة صغيرة قالت بعدها مبتسمة

" أنتِ بحاجة للكثير فعلاً والمشوار أمامك طويل لكنه ليس صعباً
وهو المهم فالبعيد يمكن الوصول له لكن الصعب لا "

وتحول نظرها لحقيبتها الصغيرة التي فتحتها وأخرجت منها
بطاقة ما مدتها نحوها قائلة

" هذا عنوان عيادتي أتمنى أن تقومي بزيارتي قريباً ويمكنك
حجز موعد عن طريق الرقم المدون فيها "


أخذتها منها بعد تردد لحظي ونظرت للمكتوب فيها قبل أن تعود
وتنظر لعينيها وقالت

" أنتِ معالجة نفسية إذاً ؟! "

ابتسمت وأومأت برأسها وقالت

" أجل "

وتابعت من فورها وبابتسامة أكثر عمقاً تجعدت لها أطراف
عينيها قليلاً

" وما أن تشرفينا بزيارتك لنا ستري بنفسك أنه ليس المجانين
من يدخلون العيادة "

شعرت جمانة بالخجل من نفسها أكثر بسبب حديثها ذاك وقالت
بابتسامة محرجة

" أنا آسفة حقاً على ذلك "

بينما أهدتها الواقفة أمامها ابتسامة متفهمة وقالت موضحة

" لا تعتذري فهي أفكار الأغلب لكننا مجرد أطباء كغيرنا ، كما أن
الاضطرابات النفسية مرض كأي مرض عضوي ، بل ووضعنا
الصحي بأكمله مرتبط بصحتنا النفسية "

حركت رأسها حينها مقتنعة تماماً بما قالت بينما قالت جورجينا
مبتسمة وهي تمد يدها مصافحة

" سنلتقي ونتحدث أكثر ، أنا أنتظر أن تفعليها وتأتي "

مدت يدها سريعاً وصافحتها قائلة

" بالتأكيد وفي أقرب وقت "

لكنّها لم تغادر مكانها بعد توديعها لها كما توقعت بل قالت وهي
تنظر لأول الشارع بعيداً

" سأعلمك الآن الطريقة التي تجعلين بها سائق سيارة الأجرة
يقف من أجلك "

ووقفت بجانبها وهي تنظر لذات المكان ما أن أنهت كلماتها تلك
ونظرات جمانة المستغربة تتبعها وهي تقف عند حافة الرصيف
تقريباً ، وما أن اقتربت سيارة مسرعة من بين باقي السيارة
العمومية أشارت نحوها بيدها بالرغم من أنه ما يزال بعيداً
وأنزلتها سريعاً وأخرجت بها هاتفها من حقيبتها ووضعته على
أذنها دون أن تتحدث مع أحد ونظرت نحو الجانب الآخر وكأنها
تنتظر وصول أحدهم أو تخبره عن مكانها وهو ما جعل تلك
السيارة تبطء من سرعتها تدريجياً حتى توقفت أمامها وهو ما
جعل نظرات جمانة تتسع وهي تنقل نظرها بينهما حتى قالت تلك
الطبيبة مبتسمة

" بالتأكيد أخبرك عقلك الآن بأنك إن كنتِ مكان ذاك السائق
لتابعتِ طريقك لأنني وجدت من سيقلني ولن أحتاج لسيارتك وإن
توقفتِ من أجلي "

همست جمانة من وسط ذهولها

" أجل حدث !! "

اتسعت ابتسامتها وقالت

" هذا تفكيرنا نحن النساء لكن تركيبة الرجال تختلف تماماً ،
إنهم يتعلقون بالفرص الضائعة أكثر من المتاحة "

وتركتها في دوامة أفكارها تلك وفتحت لها باب السيارة الخلفي
وقالت بابتسامة أكثر اتساعاً

" كما أنهم يكرهون الانتظار طويلاً ، أتمنى أن نلتقي قريباً "

جلست حينها في السيارة ليس مشوشة العقل فقط بل واللسان
الذي عجز عن قول أي شيء ، وبينما انطلق صاحب سيارة
الأجرة كانت نظراتها هي ما تزال تراقب التي ودعتها بيدها قبل
أن تستدير عائدة ناحية باب المطعم ولم تصدق ما تراه أمامها
وكأنها تعيش في حلم أو كوكب آخر !!

نظرت أمامها ولمعت عيناها وهي تهمس بانبهار

" يا إلهي أيمكنني أن أكون مثلها هكذا يوماً ؟! "

نظرت لحقيبتها في حجرها ما أن علا صوت رنين هاتفها ، وما
أن أخرجته منها نظرت لاسم شقيقتها جيهان على شاشته فقلبته
فوق الحقيبة دون أن تجيب بينما نظرت ناحية النافذة بامتعاض
وهذا وضعها طيلة الفترة الماضية غالباً تتجاهل اتصالاتها وإن
أجابت لا تقول سوى كلمات مختصرة ولا تشعر بعد تلك المكالمة
سوى بالسوء فلازالت شقيقتها تلك تستنقص من قدرها وتخبرها
في كل مرة بشكوكها حول أنها تخطط لشيء تخفيه عنها وبأن
نهايتها ستكون أبشع ممّا تتخيل ، ولما ستخبرها ؟ هي لم تجد
الحلول لديها يوماً بل كانت تستنقص من قيمتها في كل مرة
وتضع اللوم عليها وتشعرها بالدونية والغباء حتى باتت لا ترى
غير ذلك في شخصيتها لذلك هي عازمة الآن على تقرير
مصيرها وما تريد فعله وحيدة ومهما تخبطت ووقعت ستفعل هذا
وحدها ودون مساعدة ولا تحطيم من أحد .

" هل يمكنك إيجاد حل لرنينه سيدتي "

سرق نظرها سائق السيارة وصاحب تلك الكلمات المتضايقة قبل
أن تنظر لهاتفها فهي بالفعل سافرت مع افكارها تلك وتركت
صوته يصدح في السيارة المغلقة بينما لم تتوقف شقيقتها تلك
عن محاولة الاتصال بها .

قامت بقطع الاتصال وبحركة سريعة أرسلت لها

" أنا مشغولة الآن بدرس القيادة سنتحدث لاحقاً .. وداعاً "

وما أن أرسلتها انحنت نحوه قليلاً قائلة

" يمكنك التوقف هناك عند بوابة مدرسة ويمبلدون "


*
*
*

كان يستمع بكامل انتباهه لمحدثه عبر الشاشة المسطحة أمامه
يضم يديه أمام شفتيه مرفقيه مثبتان على الطاولة تحته بينما
كان يقول أويس بكل اهتمام

" إذاً فنقلك للقضية هنا معناه تبرأتها من التهمة لأنه سيؤخذ
بعين الاعتبار جميع الأدلة التي تثبت تورط شخص ثالث في
القضية وإن أنكرت هي ذلك لأنه كما يدان المتهم وإن أنكر
ضلوعه في الجريمة يُبرأ المدان حال ثبوت العكس وإن اعترف
بجريمته وهذا ما بات ينص عليه القانون في المادة الجديدة
خمس مئة وسبعة لهذا العام "

حرك وقاص رأسه برفض وقال من خلف قبضتيه التي لازال يتكئ
بشفتيه عليها مشبكاً أصابعه

" لن يكون حلاً أبداً فالجريمتان السابقتان جميع الادلة فيها
ضدها وباعترافها أيضاً فنحن سنغلق باب قضية بهذا لنفتح
الأخرى والأكثر تعقيداً ولن يصمت أهل المقتولان كما قاموا بفتح
القضية ونقلها إلى هنا سابقاً فكيف إن أصبحت لديهم هناك ؟ "

وأغمض عينيه لبرهة متنهداً بعمق قبل أن ينظر له مجدداً وتابع
بصوت أجوف كئيب

" هذا إن لم يكن قاتل نجيب هو الذي فعل كل هذا ليورطها
ويعجزنا أمام إنقاذها هذه المرة وحاصرنا تماماً "

واشتدت أصابعه على قبضتيه بقوة يكتم كل ما يشعر به حينها
خلف أسنانه التي تكاد تتحطم بسبب ضغطه القوي عليها بينما
رفع أويس كفاه لحدود كتفيه قائلاً بيأس وقلة حيلة

" أنا عجزت أمام كل هذا ، إنها أغرب قضية رأيتها وسمعت
عنها !! "

أبعد حينها وقاص يديه واعتدل في جلوسه وقال ونظره منشغل
بحركة سبابته على شاشة هاتفه الموضوع جانباً

" عليّا أن أكون هناك في أقرب وقت فثمة أمور سأطلع عليها
بنفسي ، لن تُحل خيوط القضية ما لم أزر مكان حدوثها وأتحدث
مع الشهود أيضاً "

كان تعليق أويس الصمت إلى أن نظر ناحيته مجدداً فقال بهدوء

" بل مفتاح كل ذلك لديك هناك وهو زيزفون نفسها "

تحرك رأس وقاص بعجز وشعر بكلماته تلك صدمت حاجز الواقع
وتلاشت من خلفه كالسراب ورفع يده لعينيه ومسح بسبابته
وإبهامه عليهما وهو يغمضهما وتنفس بعمق وقال ببؤس هامساً
ولازال مغمضاً عينيه

" لم تتحدث طيلة الأعوام الماضية لتتحدث الآن ! بل ولم تفلح
لجنة محلفين كاملة في إرغامها لأفعلها بمفردي !! "

وصله صوت أويس وهو لازال يعيش الظلام القاتم وهو يغمض
عينيه بقوة ولم يبعد يده عن وجهه

" لأنها لم تثق بهم جميعهم ، إن شعرت بأنها تثق بك ستفعلها "

ابتسامة ساخرة متألمة زينت شفتيه وأراح يده على الطاولة بينما
عاد ونظر له خلال الشاشة المصغرة أمامه وقال

" حديثك هذا يشبه ما قاله الزعيم تماماً "

قال أويس باستغراب

" مطر شاهين تقصد ! هل تحدثت معه ؟ "

أومأ برأسه بحركة خفيفة وقال بهدوء

" أجل بالأمس فأنا كنت أتركه الخيار الأخير لأنه أنكر تماماً أي
صلة له بها بعد دخولها منزل والدتها وخروجها من البلاد بعد
موتها "

" وماذا قال ! "

كان سؤال أويس سريعاً ونظراته الفضولية تكاد تخترق الشاشة
بينهما ينظر بترقب للذي قال يشرح تفاصيل ما حدث

" قال بأنْ لا أعتمد عليه في هذا ومفتاح اللغز بأكمله لدي
وهي زيزفون "

وأشاح بوجهه جانباً ونظراته تعبس بقوة وكأنه غاضب من كل ما
قال بينما تابع ونظره لازال شارداً للبعيد وكأنه يحدث نفسه

" قال بأنها لا يمكنها الوثوق في أنفاسها التي تعبر رئتيها
وستدافع عن شقيقها لآخر دقيقة لها في هذه الحياة ولن تسلم
سرها وقضيتها تلك إلا لمن تخطت ثقتها به كل ذلك "

واشتدت أصابعه في قبضة واحدة على الطاولة أمامه بينما احتاج
أويس لتفسير فعلي لما قال وعلّق باستغراب

" ومن سيكون هذا الذي ستسلمه عنق أحب شخص لديها وتثق
به !! إن كانت حتى القضية اغلقت منذ أعوام بطلب منها كي لا
تسلمه لحبل المشنقة ! "

نظر وقاص للأسفل وحرك رأسه في يأس متمتماً بنبرة متألمة

" هي لا تهتم لأن تموت أكثر من اهتمامها بأن يعيش هو وينسى
الماضي ! إنه تعلق قوي ، حب ورابطة دم وأخرى جينية معقدة
فهي تشعر به حتى حين يتألم وإن كان بعيداً عنها "

قال أويس سريعاً

" قرارك هو السليم إذاً يا وقاص وعليك المجيء إلى وطن
الجريمة ، ومن حديثك يبدو أن زعيمك لم يرفض ذلك "

أومأ برأسه دون أن يرفعه وقال بشبه همس

" لكنه ليس العقبة الوحيدة في هذا "

قال أويس مستغرباً

" من تقصد ! جدك ؟ "


رفع نظره له وحرك كتفيه وقال ببرود

" نوعاً ما فهو يبحث عن زيزفون "

وتابع من فوره ونبرته تتحول للغضب المكبوت

" والأشد من كل ذلك هو القاتل المجهول الذي أراها ولأول
مرة تخاف أحداً مثله ! "

ورفع رأسه عالياً مع ارتفاع يديه له يمرر أصابعه خلال خصلات
شعره الناعم وقال بنبرة شابها الحزن وهو ينظر للأعلى مسنداً
رأسه بيديه

" ولأني أجهل عدوها ذاك يصعب عليّا تركها هنا والسفر كما
تسليمها لجدي لأنه ينوي فعلياً إرجاعها للمصح النفسي كي
ينقذها من تبعات الجرائم التي ظهرت جميعها للعلن الآن "


قال أويس بعد تردد لحظي

" قد لا يعجبك ما سأقول لكني أراه الحل الوحيد والأنسب وإن
مؤقتاً فقط "


كلماته تلك جعلته ينظر له بحركة سريعة وخرجت كلماته
كالسيل الغاضب

" لا هو ليس كذلك فهذا الحل لم يخدم قضيتها في شيء سابقاً ،
الجميع يفكر في تخليصها قضائياً لكن لا أحد فكر في تبعات ذلك
على نفسيتها يا أويس "

وتنفس بعمق يحاول تهدئة نفسه من ذاك الغضب الغير مبرر كما
يراه وارتفعت يده لزر قميصه وفتحه بحركة قوية متأففاً ومنه
بات يخنقه بينما حاول جاهداً أن يقول بكلمات أقل غضباً وإن لم
تخلو من الحدة والضيق وهو يشير بيده جانباً

" أتعلم ما قاله طبيبها في أوراقه تلك التي تركها ؟ "

وتابع من فوره وقبضته تضرب على الطاولة تحته وكأنه يؤكد كل
نقطة فيها

" قال إن تعرضت لنوبة شديدة مشابهة للماضي فلن تنجو
منها هذه المرة ولن ينقدها ولا أمهر الأطباء من الجنون
التام والأبدي "

قال أويس والحيرة تملأ ملامحه

" ولما سيحدث هذا ! لقد تخطت جريمة مقتل شقيقك التي حدثت
أمام عينيها وهي المتهم بها ! أي أن الماضي تكرر أمامها بكل
تفاصيله واستطاعت الخروج من تلك الليلة سليمة العقل فما
الذي سيفعله بها المصح النفسي وهي حفيدة ضرار السلطان ولن
تُعامل كأي نزيلة لديهم بالتأكيد "

قال وقاص سريعاً والضيق لم يغادر صوته كما ملامحه وقد عاد
للتلويح بيده بعيداً

" هل كنت هنا لتحكم أي ليلة تلك التي عاشتها ؟ لا يمكنك قول
هذا وأنت لم تراها ولم ترى كل مرة وصلت فيها لحالات مشابهة
وغابت تماماً عن الواقع ترى وتسمع أشياء لا يراها أحد غيرها
، فهل سيحتوي أولئك البشر نوباتها تلك بالطريقة التي لن تجعلها
تصل لما حذر منه طبيبها سابقاً ؟ كل ما سيفعلونه هو حقنها
بالمهدئات التي لا تقودها سوى للنوم الذي يسيطر على عقلها
الباطن ليجعلها تعيش كل ما حدث في كابوس بشع لن تفيق منه
بسهولة لأنها تحت تأثير ذاك السم القاتل "

وتوقف فجأة وقد عاد لمحاولة ترتيب أنفاسه الغاضبة المتلاحقة
وكأن محدثه ذاك جده وليس شخص آخر لا يد له في كل ما
يحدث ! وتابع سريعاً بعناد وكلمات خرجت من بين أسنانه

" لن أسلمها للمصح النفسي وإن سجنت بدلاً عنها "

كان الصمت هو تعليق أويس حتى كان وكأن الانترنت توقف فجأة
تاركاً صورته معلقة في الشاشة ! والتي احتاجت للحظات كي
تعود وتنبض بالحياة مجدداً وقد قال بكلمات متأنية مستغرباً
" ما تقوله الآن تخطى ما يفعله المحامي ورابطة الدم يا
صديقي !! "

" أجل أحبها "

ملأت صرخته الغاضبة تلك الغرفة حوله وانفجرت مشاعر الرجل
المكبوتة أخيراً ورحمته من احتراقه بكتمانها داخله ، ولم يكتفي
بذلك فقط بل ضرب براحة يده متابعاً بصوت مرتفع وكأنه ينظر
لنفسه في مرآة

" بل وأعشقها كما لم يفعل أي رجل من قبل وأعلم يقيناً بأنها لم
ولن تكون لي لا بقلبها ولا مشاعرها ولا حتى جسدها لكنها
الحقيقة ولن أسلمها للموت ولا الجنون وإن دفعت حياتي ثمناً
لذلك "

كانت ابتسامة رقيقة ما زين الملامح الرجولية في الشاشة أمامه
قبل أن يقول صاحبها مبتسماً

" دافع إذاً وبكل ما لديك من قوة كي لا تندم مستقبلاً فالندم
مقبرة الرجال "

ولأنه يعلم بأنها لن تتعدى كونها لحظة ضعف من رجل كبت
الكثير في داخله واجتمعت عليه الهموم من كل جانب ، وما أكده
صمته التام وهو يبعد نظره عنه بينما بدأت أصابعه الطويلة
بتدليك قفا عنقه ابتعد عن الحديث في الأمر بأكمله قائلاً

" ما خياراتك إذاً ؟ "

تحرك حينها رأسه في حيرة وقال بشرود

" لا خيارات لدي لقد اغلقت جميعها "

وعاد ونظر له وقال متابعاً

" لم أقم بزيارة الشقة طيلة الأسبوع الماضي خوفاً من أن يجدها
جدي أو غيره من خلالي "

حدق فيه أويس بذهول وقال

" وكيف هذا يا وقاص تتركها وحيدة وثمة قاتل مجهول
يطاردها !! "

قال من فوره

" لن أفعل هذا بكل تأكيد فعيني تراقبها ومن يحرسانها أيضاً ولن
أغفل عنها وإن كنت بعيداً "

وشد على شفتيه بقوة وحنق وتمتم وهو يشرد بنظره

" كان تيم الخيار المناسب لكنه أصبح أمراً مستحيلاً "

" تيم ! "

همس بها أويس مستغرباً ولاذ بالصمت ينتظر الذي نظر له مجدداً
وقد قال بخيبة أمل

" نعم فهو من يمكنني استئمانه عليها حتى وقت عودتي خاصة
أنه يملك ما لا يستطيع أحد الوصول له وإن علم بوجوده لكن
أوامر الزعيم الأخيرة بددت كل ذلك "

عاد أويس للتحديق فيه باستغراب رافعاً حاجبيه وقال

" أوامر ماذا ! "

تنهد بضيق وقال

"لقد أصبح الجميع ممنوع من التواصل مع تيم أو الاقتراب منه"

تبدلت نظرة أويس للصدمة وقال بكلمات متفاجئة

" ماذا ...! ولكن لما ؟! "

حرك وقاص رأسه متنهداً في حيرة وقال

" لا أعلم ويبدو أنه هناك أمور تحدث ولا نعلم عنها فهو
وزوجته ثمة أوامر صارمة نحوهما وأخشى بأنه لأنهما باتا
يشكلان خطراً على الجميع "


حرك أويس رأسه بعدم تصديق وتمتم

" يا إلهي .. يالا الهول "

لم يستغرب منه ذلك فصدمتهم بالأمر كانت هكذا وأكثر وهو ما
جعله يتابع قائلاً بتفكير وكأنه يحدث نفسه

" مارية أصبحت وبطريقة ما لا أفهمها تعيش مع أقارب الفتاة
الإيطالية من والدها ومؤكد هو السبب لكن تيم !! لا أفهم ما الذي
يحدث معه وما سبب تخلي الزعيم عنه وتركه في أرض أعدائه
الحقيقيين وحيداً ! "

غطى التوجس على ملامح أويس المتفاجئة وقال وكأنه يستجدي
الكلمات لتخرج مكذبة ظنونه تلك

" ولما تعتبر هذا تخلياً منه ! قد يكون مجرد حماية لكم بما أنه
بات داخل مبنى البحرية الملكية خصيصاً ؟ "

وترقب بفضول الذي زفر أنفاسه بقوة مغمض عينيه قبل أن ينظر
له مجدداً وقال بصوت بدا أجوفاً وكئيباً

" قد تراه أنت كذلك لكن نحن من عرفنا الزعيم مطر وصلته بتيم
تحديداً لن نعتبر هذا إجراء أمني ، لا لحمايتنا ولا لحمايته "

وتنهد بعمق قبل أن يتابع

" أتمنى أن لا يصاب أي منهما بأذى فلا أحد منهما يستحق أن
يعيش يرثي موت الآخر بل أن يُمضيا حياتهما معاً وبالأخص تيم
لأنه عاش وحيداً يعزل نفسه عن الجميع "

أومأ أويس في حزن وتمتم

" معك حق ولا شيء بأيدينا إذاً سوى الدعاء والثقة بهما "

كان رد فعل وقاص أن أومأ برأسه موافقاً لحديثه ذاك وقال

" ثمة أمور أريدك أن تتأكد منها "

حرك أويس يده قائلا بابتسامة جانبية

" وما نفع كل هذا وأنت لا تريد مني الاقتراب الفعلي من كل ما
يخص تلك الجريمة ! "

قال مباشرة

" قد تحصل على أي معلومة تفيدنا حتى أجد حلاً لمغادرتي
من هنا "

وعند هنا تحوّل أويس لطرف مستمع فقط لا تصدر عنه سوى
إيماءات صغيرة من رأسه يؤكد لمحدثه بأنه مستعد لفعل كل ما
يطلب منه لعلّه يساعده وإن بالقليل في مهمته الصعبة المستحيلة
تلك كما يراها .

الضوء الأحمر الذي أضاء فجأة في الطرف الأعلى من ذاك الجهاز
هو ما جعل وقاص يصمت فجأة فهذه علامة على أن وقت تلك قد
المكالمة انتهى لأنها ستصبح من الآن عرضة للمراقبة إن من
الشركة المصنعة له أو المصممة لهذا البرنامج فأنهاها بضغطة
زر واحدة دون حتى أن يودع الذي اختفى خلف ظلام الشاشة
الالكترونية وكلاهما يعلم لما بالتأكيد .

لكنه ورغم ذلك لم يغادر مكانه بل قام بتشغيل جهاز آخر وهو
حاسوبه الشخصي والذي انقسمت شاشته على الفور لثمانية
أقسام يظهر في كل قسم فيها صورة لمكان ما مرتبطة بشبكة
مراقبة ، وتغضن جبينه باستغراب وهو يبحث عنها في تلك
الأمكنة ولا يجدها !! وتعالت ضربات قلبه بشدة فهو يراقبها
بشكل شبه تام طيلة الأسبوع الماضي ولم تختفي عنه هكذا
وباب الحمام مفتوح !

قام بتشغيل كاميرا المكان الوحيد الذي لم يراقبه سابقاً وهو حمام
غرفتها بما أنه مفتوح فقد تكون في الداخل وإن لم تفعلها في
السابق ، ووقف على طوله حين وجده فارغاً تماماً وشعر بشلل
تام في جميع أطرافه وكأن الزمن توقف من حوله قبل أن يومض
شيء ما في دماغه يأمره بأن يرجع بالتوقيت للوراء ليعلم ما
حدث ، وتحركت حينها أطرافه مستجيبة على الفور وانحنى نحوه
يسند يده على الطاولة بينما ضغطت سبابة يده الأخرى على
الأزرار بحركة سريعة حتى ظهرت له جالسة مكانها المعتاد فوق
الأريكة الطويلة تراقب عيناها السماء من باب الشرفة المغلق
قربها ، المشهد الذي لم يمل هو من رؤيته طيلة الأيام الماضية
كما لم تمل هي من فعل ذلك ولساعات طويلة وليس كأي مخلوق
بشري طبيعي كان ليفعل أي شيء يعبر عن ملله ورفضه وإن
بالدوران في نفس المكان أو حتى التنقل في تلك الشقة
الواسعة ! فهي لم تقم ولا بتشغيل التلفاز الموجود هناك ولم
تلمس يدها أي واحد من الكتب الموجودة في الرفوف المعلقة في
غرفة الجلوس بالرغم من أنها تتقن أكثر من لغة ! ويحار ما
الذي يفعله عقلها كل تلك الساعات أم أنه متوقف أيضاً !! حتى
دفاتر الرسم التي أرسلها مع العدة الخاصة به لازالت مكانها وها
هي توقفت عن ممارسة هوايتها المفضلة ومتنفسها الوحيد
أيضاً .

تقدم بالوقت بحركة بطيئة وهو يراقب أماكن تواجدها ، تناولت
الإفطار وعادت نحو غرفتها جلست لوقت مكانها المعتاد ثم دخلت
الحمام الذي غادرته بعد وقت قصير وتوجهت بعدها نحو طاولة
السرير .

توقفت انفاسه مع اتساع نظراته ما أن توقفت كاميرا الغرفة فجأة
لتتحول الصورة لشاشة بيضاء وبدأت سبابته تضغط الزر بقوة
وتتابع ولم يتغير شيء بمرور الدقائق حتى عادت للعمل مجدداً
ولم يجدها حينها في الغرفة ولا المنزل بأكمله واختفت تماماً من
المكان !.

أغلق حاسوبه بحركة واحدة شاتماً من بين أسنانه وسحب سترته
من ظهر الكرسي ووجهته باب الغرفة مباشرة وغادر الجناح
بأكمله بل والفندق أيضاً ولم يفكر ولا بالاتصال بالحارسين
الموكلان بحراستها ولا يراه يحتاج ذلك بعد اختفائها .
كان يشعر بالمسافة تبتعد عنه حتى كانت تكاد خطواته تتحول
للركض وهو يجتاز الشارع والذي يليه فقد اختار مكاناً يكون
الأقرب لذاك المبنى السكني تحسباً لأي طارئ ولكي يبعد الشبهة
حال كان مراقباً من رجال جده ، لكنه الآن فقد كل ما تعنيه كلمة
تعقل ولم يعد يهمه معرفتهم لمكانها وإن كان مراقب أم لا فقد
يكون وصل لها وأخذها من هناك وهذا هو المؤكد كما يبدو .


حينما غادر باب المصعد الكهربائي توقف مكانه مستغرباً وهو
يرى الحارسين واقفين مكانهما عند باب الشقة ! وتوجه نحوهما
مسرعاً والأفكار في رأسه وكأنها مطارق تضرب جميع جوانبه
وأنهى كل ذلك وهو يقف أمامهما وقال بأنفاس متقطعة لاهثة

" أين هي زيزفون ؟ "

تبادلا نظرة مستغربة قبل أن ينظرا له مجدداً وقال أحدهما

" في الداخل بالطبع "

حرك رأسه بطريقة غاضبة وصرخ

" لا ليست هناك "

اتسعت عيناهما وكأنهما صورتين لرجل واحد وقال الآخر

" لم نتحرك من هنا ولم يدخل أحد !! "
مد يده لهما في صمت ولم يستطع تصديق ما يقولانه فكيف
ستختفي إن لم تغادر من هنا أو لم يخرجها أحدهم !

أخد منه بطاقة الباب لأنه لم يجلب الموجودة لديه فهو كان يتوقع
بل ويجزم بأنه سيجده مفتوحاً ولن يجدهما هنا أساساً .
فتح الباب ودخل من فوره وبدأ بتفتيش وفتح جميع الأبواب التي
صادفته في الردهة قبل أن يصعد العتبات القليلة التي كانت تفصل
غرف النوم عن المكان وتوجه من فوره نحو غرفتها فتح بابها
ودخل الحمام وكأنه لم يراه ويتأكد منه حين كان هناك ! وما أن
خرج من بابه قرر الذهاب لغرفته هنا سابقاً وملاذه الأخير وعقله
يكاد يقفز من مكانه فأين ذهبت وكيف اختفت والشقة في طابق
مرتفع ! أم أن الحارسان يكذبان عليه باتفاق مع جده ؟!
ما أن وصل باب الغرفة مغادراً توقف مكانه بسبب صوت باب
ما خلفه انفتح حينها ببطء واستدار بكامل جسده نحو الخزانة
واتسعت عيناه بصدمة وشعر بقدر من الماء البارد ينسكب على
جسده المشتعل وهو ينظر للتي خرجت من بابها المفتوح حينها
ووقفت تنظر له بضيق مكتفة ذراعيها لصدرها ، وانحرفت
نظراته دون شعور نحو جهاز التكييف قرب سريرها والذي
يحوي كاميرا المراقبة ونزلت نظراته للأسفل وللحاف الأبيض
المرمي تحته وفهم حينها ما حدث هنا فهي اكتشفت بأنها مراقبة
وفعلت هذا ليضن بأنه تم إخراجها من هنا ويأتي وهذا ما حدث
بالفعل وقد وقع في فخ ذكائها والغباء الذي سببه مشاعره
نحوها !
أم أنه الكيد الذي يسري في عروق النساء جميعهن ؟!
وهل يمكن مقارنة هذه بباقي النساء !!
نظر نحوها مجدداً وحرك رأسه بيأس منها وابتسمت
شفتاه وهمس

" ما هذا الذي فعلته بي يا خماصية ؟ "

كانت ضربات قلبه المتسارعة ترفض أن تهدأ رغم اطمئنانه على
سلامتها بسبب خوفه المرعب عليها بينما قابلت هي كل ذلك
بالبرود وقد قالت ولازالت تكتف ذراعيها لصدرها

" اعتقدت بأنني ابنة الهازان حفيدة ضرار السلطان كما
تصر دائماً "

حرك رأسه مبتسماً فهذه الصفة بالفعل كانوا أفراد عائلته
يستخدمونها لاستنقاصها ، وحار في نفسه كم من مشاعر
سيحملها اتجاه هذه الفاتنة التي تقف أمامه الآن وكأنه لا يراها
ويراقبها طوال الوقت تقريباً فكل ما شعر به وهو يراها أمامه
الآن تحادثه ويسمع صوتها هو الشوق المميت !

قال والابتسامة لم تغادر شفتيه بعد

" تعلمين جيداً بأنني لم أقصد الإهانة بهذا كما يفعل البقية بالرغم
من يقيني بأنك تفضلين ذلك على مناداتك بحفيدة ضرار "

وظهر بعض الاستغراب في صوته وملامحه عند آخر كلمات قالها
فهي تناقض نفسها فعلياً بذلك !
لكنها لم تهتم ولا لتوضيح ذلك وقد غزا الضيق ملامحها وفكت
يديها وأنزلتها تشد قبضتيها بجانب جسدها بقوة وقالت بضيق

" لما تسجنني هنا وأين كنت ؟ "

قال بهدوء ينظر لعينيها الغاضبة

" أنتِ بمأمن هنا يا زيزفون لأني سأكون سبب عثورهم
على مكانك "

بدت غير مقتنعة ولا راضية عمّا قال وهو ما أظهرته ملامحها
ونظراتها الحانقة وكانت ستتحدث وكان سيقاطعها لكن الكلمات
توقفت على أطراف شفاه كليهما بسبب صوت الضجيج
والأصوات المتداخلة في الخارج وهو ما جعله يغادر الغرفة من
فوره وهي في إثره حتى كان في منتصف ردهة المنزل وتوقف
بسبب أحد رجلا الأمن الذي دخل حينها فقال وقاص من قبل أن
يتحدث ذاك

" ما الذي يحدث هنا ! "

قال الذي نظر للخلف لبرهة قبل أن يعود ينظر له

" رجال الشرطة هنا "

اتسعت عيناه هامساً

" رجال ماذا ! "

ولم يرحمه الواقف أمامه وهو يوضح ما قال

" إنهم رجال الشرطة القضائية "

وهو ما جعل عينا وقاص تتسع أكثر ونقل نظره للتي وقفت
بجانبه حينها وبادلته نظرة صامتة كل ما قرأه فيها أنها لا تعلم
شيئاً عمّا قال لكن ما الذي جاء بهم وقرار المحكمة التي يعمل
مدعيّاً عاماً فيها يمنع كل هذا !
وجاءه جواب كل ذلك ما أن دخل الرجال بلباس الشركة القضائية
بالفعل وقال أحدهما وهو يمد ورقة بيضاء نحوه

" المعذرة سيدي ثمة أوامر لدينا بالقبض على المدعوة زيزفون
ضرار السلطان "

كانت نظراته المتسعة تنظر فقط لعيني الواقف أمامه ولم يهتم ولا
ليده الممدودة بالورقة أمامه وشعر بالدماء تسري في عروقه
كدبيب النمل صعوداً حتى دماغه وأصابت غشاوة لحظية عيناه
وجفاف مريع في حلقه وكأن المياه جفت من جسده تماماً حتى
كان يجزم بأنه سيفقد وعيه ولا يفهم ما نوع ذاك الشعور !
هل سببه الخوف عليها ومن فقدانها ؟!
هل وصل فعلاً لهذه المرحلة !!

سحب أنفاسه بقوة وصعوبة وكأنه يكاد يفقدها وخرجت كلماته
جوفاء منخفضة يشعر بقواه خارت بالفعل وكأنه يراها تُعدم
أمامه الآن

" أوامر ممن وأنا من وقّع قرار الإخلاء عن سبيلها حتى وقت
المحاكمة ؟! "
أمسك الشرطي ذو الشعر الأشقر حزام بذلته العريض بإبهاميه
وقال بجمود يشبه شخصيته وإن تخلله الكثير من الاحترام بسبب
هوية ومنصب الواقف أمامه

" من محكمة العدل العليا بلندن "

تحرك رأس وقاص بعدم تصديق وامتدت يده له قائلاً بحزم عاد
للسيطرة على صوته مجدداً
" محكمة العدل مختصة بالقضايا المدنية وليس الجنائية
فأرني هذا "

مد له الورقة حينها بحركة سريعة قائلاً

" نحن لا علاقة لنا بهذا وننفذ أوامر المحكمة فقط فقد يتم نقل
القضية والمتهمة لمكان آخر من خلالها "

سحبها منه دون أن يهتم أو يفكر فيما قال والذي يفهم معناه جيداً
وهو بلاغ ما مُقدم لمحكمة العدل يتم إصدار أمر قبض من خلاله
وطعن في قراره الصادر من محكمة أولد بيلي ، وفي حال تم
قبول الدعوة سيتم بالفعل نقل قضيتها حيث قد يفقد فعلياً ورقته
الرابحة وهي إخلاء سبيلها حتى وقت المحاكمة وصدور الحكم .

رفع نظره للذي قال حينها وهو ذاته صاحب العينان الزرقاء
والشعر الأشقر المسرح للخلف بعناية بينما يلتزم مرافقاه
الصمت التام

" بعد أن تأكد لك صدق ما نقول عليك تركنا نقوم بعملنا سيدي
كي لا نضطر لاستخدام العنف لتنفيذ أوامر المحكمة "

وما أن تحرك الواقفان معه أو فكرا في فعل ذلك رفع ذراعه
بطولها بينهم وبينها صارخاً بعناد

" ليتوقف كل واحد منكم مكانه كي لا يُعاقب فلن تتحرك زيزفون
من هنا "

تحدث هذه المرة أحد مرافقيه وقد قال بكلمات هادئة

" يمكنك مراجعة مكتب مدعي عام المحكمة سيدي لا تعرضنا
ونفسك للمساءلة "

شعر بالدماء تغلي في عروقه حتى كانت ستنفجر أوردة عيناه
التي احمرت بشدة وسط بياضها وصرخ نافضاً رأسها كما يده
التي لازالت كحاجز بينهم وبينهما

" أريد أن أعلم من وراء كل هذا والقرار والقضية لدى محكمة
أولد بيلي ووقعته بنفسي ! "

لم يعلق الواقفين أمامه ليس فقط لأنهم لا يملكون جواباً لذلك بل
وبسبب الصوت الرجولي القوي المرتفع الذي وصلهم قبل أن
يظهر صاحبه من خلف ممر باب الشقة

" أنا وراء كل هذا وعليك التنفيذ فوراً "

*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 07:49 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية