لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-01-22, 09:32 PM   المشاركة رقم: 1671
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,164
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

ما أن وصل ثلاثتهم باب غرفة الطبيب حتى توقفت خطوات

تيما فجأة فوقفا لوقوفها ونظرت لهما العينان الدامعة

المجهدة وقالت بحزن

" كيف علمتما بما حدث ؟ "


أخفض الكاسر نظره في لحظة صمت قصيرة سيطرت على

كلاهما لبعض الوقت مما جعل نظراتها تتبدل للتوجس تنقلها

بينهما فاستلم رعد مهمة الجواب على سؤالها بينما كان

صوته متجهماً بوضوح

" ومن لم يعلم والخبر انتشر بسرعة الريح "


اتسعت عيناها بما يشبه الذعر أكثر من كونه صدمة أو

اندهاش وتشتت نظرها بينهما مجدداً في عجز تام عن

إصدار أي رد فعل آخر مما جعل قبضتاه تشتدان بقوة

وقال وكأنه يحاول تخفيف الأمر عنها قبل أن تصل

لحقيقة بشاعته

" التقط هواة التشهير رأس الخيط وبدأت الأخبار الكاذبة
بالتداول وكل من له موهبة التأليف يكتب قصة مختلفة
فالأمور هكذا في بدايتها دائماً الأكاذيب أكثر من الحقيقة "




وكما توقع ارتسمت التعاسة على ملامحها أكثر وهي تحاول



كتم انفجارها باكيه وقالت ببحة وصوت ضعيف

" لكن من فعل ذلك ؟ "


خرج الكاسر من صمته الغاضب حينها هامساً من بين

أسنانه بحقد

" أصحاب الكارثة ذاتهم بالتأكيد "


أظلمت عيناها بزرقة غامقة وارتجف قلبها وصولاً لأطرافها

ما أن تذكرت وجوههم وما حدث وقيل بعد اقتحامهم القاعة

حتى ظهر ذاك بوضوح على ملامحها فقال رعد سريعاً ينظر

لعينيها بقوة وكأنه يحاول مدها بها

" تيما سأقول مجدداً وأعيد والدك أقوى من ذلك بكثير "


غمر الحزن عينيها أكثر وحركت رأسها تنفي أفكاره في صمت بينما اختنق صوتها بشكل طفيف ما أن خرج من بين شفتيها تعيساً منخفضاً
" أعلم بأنه لم ولن يسعى يوماً لحكم البلاد ولا إكتساب أصوات الناخبين لكن لهذا أضرار مرجوة بالتأكيد "



وختمت كلماتها تنظر لعينيه برجاء حزين وكأنها تستجديه

أن ينفي ظنونها لكن نظرته لم تنم عن ذلك أبداً وتأكد لها

شكها ما أن تنهد بقوة وقال بصوت أجوف متجهم

" لا يمكن نكران ذلك ومؤكد سيستغل أعدائه الأمر
لصالحهم وإن بزيادة عدد المتمردين عليه لتتسع
الرقعة للحالك "


" يا إلهي "


همست بها بصوت مرتجف وامتلأت عيناها بالدموع

فارتفعت يده لكتفها وشد عليه بقوة وقال بجدية

" والدك رجل حروب يا تيما وأنتِ لا تعرفين معنى أن يكون
الرجل محارباً إنه لا يستسلم لا ينكسر ولا يمكن هزيمته "



كانت نظراته القوية لعينيها تؤكد ثقته التامة من كل كلمة

قالها ، وهي تعرفه أيضاً وتثق به لكن قلبها يصعب عليه

استيعاب ذلك وتبديد مخاوفها بسهولة فكيف إن اجتمعت

معه قضية الثأر وذاك الميثاق القديم ، همست بصوت خافت

لازالت تنظر لعينيه بحزن

" وأين هو الآن ؟ "


كانت نظراتها تلك كسهام أصابت قلبه وآلمته بشدة ولم

يستطع إمساك تنهده الطويل الذي خرج من أعماقه وكأنه

يمهد لنفسه جواب سؤالها الذي بالفعل خرج بصوت لا يعلم

تفسيره وقال

" عاد للمحكمة "


" ماذا ؟! "


اتسعت عيناها مصدومة وهي تهمس بتلك الكلمة وما أن

سمعت ما قال وشعرت بقلبها ينقبض بشدة حتى تأثرت

أنفاسها بسبب رد فعله ذاك وهو ما جعله يقول سريعاً

وبجدية وثقة تامة

" لن يكون مطر شاهين إن لم يفعلها فهو لا يهرب ولا
يختبئ ، صحيح أن والده وجده من كانا وراء ذاك العهد
والتنازل وإخفاء حقيقة موت جدك أيضاً لكنه سيتحمل
مسئولية هذا بالتأكيد ودون تنصل أو تخاذل "



وتابع من فوره وبنبرة قوية واثقة

" ثم رجاله حوله فلا تخشي عليه من شيء فلم أرى يوماً
من يحمون قائدهم ويفدونه بأرواحهم هكذا مثلهم "



ملأت الدموع عينيها دون شعور منها ونظرت ناحية الكاسر

الذي خرج عن صمته مجدداً قائلاً بضيق

" لأن من لديه عقل يفكر به يعلم جيداً معنى أن
تفقده البلاد "



لم تزد كلماته تلك حالها إلا سوءاً وارتفعت يدها لصدرها

هامسة بصوت متقطع حزين

" يا رب احفظه لنا "


رفعت يدها لوجهها ومسحت الدموع المتكدسة في رموشها

بحركة سريعة ما أن انفتح الباب أمامهم فجأة وخرج منه

الذي نظر لهم مستغرباً قبل أن تبتسم عيناه من تحت

نظارته الطبية وقال ينظر لرعد تحديداً

" المعذرة لتأخري كنت سألحق بكما لولا أني تلقيت
اتصالاً هاتفها "


كان التعليق من الكاسر الذي قال يرمق الواقفة بجانبه

بطرف عينيه

" لا تتعب نفسك لقد أحضرنا لك المريضة الحقيقية
إلى هنا "



كان رد فعلها أن زمت شفتيها بحنق تنظر له وضحك

الطبيب بصوت واضح بينما كانت ضحكته هو ورعد

منخفضة ، ورقّت عيناها بحزن ما أن أبعد نظره عنها فهي

ترى بوضوح محاولاته المستميتة لتكون ضحكته طبيعية

وتعلم بأن كل ما يحاول فعله هو تغيير مزاجها قليلاً وإن

بمضايقتها فذاك طبعه الذي تعشق فعلاً فهو يحاول دائماً

التخفيف عمّن يحب وحتى عن نفسه بطرق قد يراها البعض

سخيفة ومجرد سخرية من مشاعرهم لكنها حقيقة

شخصيته الرائعة ومن يفهمها جيداً يدرك بأن تصرفه

نابع عن الحب الحقيقي .


قال رعد بابتسامة محرجة موجهاً حديثه لمن هم هنا

من أجله

" نعلم بأننا سنتعبك لكن عليك إعادة ما قلته لنا لابنتها
لتطمئن وتصدقنا "


ابتسم الطبيب وهو ينقل نظره لها وعاد نحو الداخل قائلاً

" بالطبع هذا من حقكم "


دخلوا ثلاثتهم خلفه وجلسوا حيث الصالون الجلدي أمام

مكتبه لأنه ليس طبيباً فقط في ذاك المستشفى بل والشخص

المكلف بإدارته ، نظر لتيماً تحديداً حين قال

" والدتك بخير هي تحت تأثير المنوم حالياً لنضمن أن
تكون بوضع مستقر لأطول قدر ممكن "


لمعت عيناها بحزن وشعرت بالألم في حلقها وكأنها تحاربه

باستماته لإخراج الحروف وقالت أخيراً

" لكن .. ماذا عن ... "


وتلعثمت منهزمة أمام أحرفها نهاية الأمر لكن الجالس خلف

طاولة مكتبه استطاع قراءة تلك الحروف بسهولة فقال

مجيباً السؤال الذي لم يسمعه

" وجنينها أيضاً بخير .. لقد تجاوزت الفترة التي قد تسبب
الصدمات النفسية ضرراً مميتاً له فهي الآن أقل ضرراً عليه
من الحوادث العرضية مثلاً "


وتابع وهو ينقل نظره بينهم

" يبدو أنها تهمل غذائها مؤخراً كما يبدو بأنها لم تأكل
شيئاً اليوم ممّا أدى لانخفاض السكر لديها وهذا ما جعلنا
نشك بادئ الأمر بسبب توقف حركة الجنين لكن بالكشف
عن نبضه علمنا بأنه بخير "



تنهدت حينها بارتياح وظهر طيف ابتسامة على شفتيها

وملامحها التعيسة وقالت بحزن

" هي نائمة فقط إذاً وهما بخير ؟ "


نظر لها وقال


" أجل نوعاً ما "


اختفت شبه الابتسامة تلك من وجهها فجأة وتعالت ضربات

قلبها مع نظرة القلق والتوجس التي اكتست عيناها فقال

مباشرة موضحاً

" تخطي الصدمات النفسية بعد الانهيار العصبي الحاد ليس

بالأمر الهين فستكون جسدياً بخير لكن الجانب النفسي له

دور أساسي في ذلك لذلك سيكون الدور الأكبر للمحيطين

بها لتجتاز هذا بسهولة "


وعاد لنقل نظراته بينهم وكأنه يوجه تنبيهاته لهم جميعهم

ما أن تابع قائلاً

" أي لا ضغوط نفسية في الفترة القادمة لبضعة أسابيع
على الأقل كما أنها الآن بحاجة للراحة التامة "


كان جواب الجميع الصمت بينما نقلت تيما نظراتها بينهما

بحزن وكل واحد منهم يقرأ ويفهم صمت الآخر واشتدت

قبضتاها بقوة وهي تتذكر مجدداً ما حدث اليوم وجميع ردود

أفعالها عليه وعلمت بأنها حرب شديدة الخسارة فيها أقرب

للنصر فكيف يمكن أن يجنبوها الضغوط النفسية كما قال

وما ينتظرهم الله وحده يعلمه وجميع المؤشرات تنبئ

بالسوء حتى الآن ، أغمضت عينيها تسحب نفساً عميقاً

لصدرها وامتلأت عيناها بالدموع ما أن عادت وفتحتهما

ونظرت لهما هامسة

" ألمهم أنها بخير ... حمداً لله "


أومأ رعد برأسه مبتسماً وكأنه يشجعها على التفكير من

هذا المنظور في الوقت الحالي على الأقل ونقل الجميع

نظرهم نحو الطبيب حين وقف وقال موجهاً نظره كما

حديثه لرعد تحديداً

" إن لم يكن ثمة ما تأمرني به فعليا المغادرة لأمر
اضطراري لوقت قصير وسأكلف إحدى الطبيبات بالمرور
عليها حالياً وممرضة لمراقبتها "



وقف رعد وتبعاه هما فورا بينما قال

"بالطبع يمكنك فعل ذلك وأعتذر على تأخيرك عن موعدك "


ابتسم وقال وهو يخرج من خلف طاولة مكتبه

" أبداً سيدي نحن في الخدمة دائماً "


وتابع بكلمات مستعجلة وهو يجتازهم نحو الباب

" حمداً لله على سلامتها "


وغادر ونظراتهم تتبعه لكنه توقف فجأة قبل أن تمتد يده

لمقبضه ويفتحه ونظر نحوهم وقال

" سأطلب من أحد العاملين فتح جناح المرافقين لأجلكم "


قالت تيما سريعاً

" هل هو قريب من غرفتها ؟ "


اومأ برأسه وقال

" أجل هو في ذات الممر ومخصص لتلك الغرفة تحديداً "


قالت مباشرة

" هذا أفضل "


نظر لها رعد وقال

" لا ليس أفضل لأنه عليك المغادرة الآن "


غادر الطبيب الغرفة حينها بينما نظرت هي نحو رعد نظرة

فهمها جيداً فسبقها قائلاً بحزم قبل أن تعترض

" تيما أنتِ متعبة كما أنك بثياب المدرسة حتى الآن إن
لم تكوني تري هذا "


اشتدت قبضتاها بجانب جسدها وقالت مندفعة

" لا يهم .. أريد أن أكون بجانب والدتي لا يمكنني
الابتعاد عنها "


قال بأمر حازم

" سأكون أنا هنا معها ولن أتركها وسيعيدك الكاسر لاحقاً
فلا تعاندي أكثر "


نظر لها الكاسر وقال

" تيما عمي رعد معه حق وها قد تأكدتِ بأنها بخير
ووجودك الآن لن يغير شيئاً فهي لا تراك ولا تسمعك "


نفضت يدها قائلة بألم

" أنا أراها وهذا يكفيني "


قال الكاسر مجدداً وبضيق

" تيما لا تكوني طفلة "


قالت بمرارة بينما اكتسح الألم عينيها

" إن كان الأمر متعلقاً بهذا فنعم طفلة "



تنهد بضيق وكان سيتحدث لكنه توقف بإشارة من رعد دون

أن تنتبه هي لهما ونظر لها بعدها وقال بهدوء

" تيما إن كان لي رأي لديك وتعتبرينني شقيقاً لوالدتك
فافعلي ما أقول "


ملأت الدموع عينيها وعجزت تماماً عن قول أي شيء فهو

بالفعل كذلك بالنسبة لها بل وأكثر من ذلك بكثير بينما تابع

هو ما أن فهم ذلك في نظراتها

"أنتِ بحاجة للراحة والطعام لا نريد أن تصبحا اثنتين هنا "



همست مستسلمة وهي تتحرك نحو الباب

" حسناً "


" تيما "

توقفت فجأة ما أن وصلها صوته من خلفها واستدارت نحوه

فقال ينظر بترقب لعينيها

" ألم يعلم قاسم بالأمر بعد ؟ "


حركت رأسها بحركة بطيئة متمتمة

" لا يبدو ذلك "


تنهد بعمق هامساً

" هذا مؤكد "


وهو ما كان موقن منه بالفعل لكنه احتاج لسؤالها ليتأكد فما

كان ليكون بهذا الهدوء الذي وجده عليه لو أنه علم .

كانت أفكاره تدور حول كيفية مواجهته بالأمر بينما نظراته

تتبع اللذان غادرا مكتب مدير المستشفى واللذان ما أن

أصبحا في الخارج سلكا الممر الساكن المتصل بذاك المكتب

في صمت تام وكأن كل واحد منهما يعزل نفسه عن الآخر

كي لا تؤذيه معرفة أفكاره ، وما أن وصلا للحرس

الموجودين عند بابه قالت تيما

" خذوني لمنزلنا "


نظر لها الكاسر وقال

" ومنزلنا منزلك وستكونين بوضع أفضل بعيداً عن هناك
في الوقت الحالي على الأقل "


حركت رأسها معترضة وقالت

" لن أشعر بالراحة بعيداً عنهم أبداً يا كاسر "


وتبدلت نبرتها للحزن والأسى متابعة

" أريد أن أكون هناك فقد يأتي والدي كما عليّا أن أكون
بقرب جدي فهو وحيد الآن "



تنهد في صمت واستسلام وكان عليه توقع هذا فستفكر فيهم

جميعاً قبل نفسها ، أمسك بيدها وسحبها معه قائلاً

" سأكون معك إذاً "


أخذها معه واجتازا صالة استقبال المستشفى المكتظة

بالناس ونظرات الكاسر تتنقل بينهم باستغراب فثمة ما

يحدث هنا لا يفهمه استشعره من حركتهم ونظراتهم !

نظر ناحية التي كانت تسير بجانبه يشبك أصابعه بأصابعها

وكانت نظراتها الشاردة الحزينة لا تفارق الأرضية تحت

خطواتها وكأنها منفصلة عن العالم تماماً فتنهد بقلة حيلة

ونظر ناحية الباب الرئيسي الذي ما أن اقتربا منه بدأ

يحاول تكهن الأمر الذي كان سبباً لكل ذاك التوتر في الداخل

فرجال الأمن منتشرون خارجه بكثرة وهذا يبدو سبّب توتر

حركة الناس هنا وتسائل هل هم هنا بأمر من مطر شاهين ؟

لكنهم لم يكونوا بهذا العدد الغير طبيعي وقت وصوله

وعمه رعد قبل قليل !


.ما أن وصلا له ظهرت له الحقيقة الكاملة وما جعله يقف

مصدوماً وهو ذاته حال السائرة بجانبه ما أن ظهر لهم

العدد الكبير من رجال الصحافة المتجمعين أمامه ومن كانت

قوات الأمن الحاجز بينهم وبين الدخول للداخل وقد بدأت

تلك الأجساد تحاول التحرك والمقاومة ما أن تبينوا هويتهما

فهمس الكاسر شاتماً بحنق ونظر نحو التي نظرت له أيضاً

واشتدت أصابعه حول كفها وهمس وهو يشدها نحوه

" لا تتركي يدي أبداً "



ونظر للحرس الذين طوقوهم وبالرغم من أن عددهم كان

أربعة فقط إلا أنهم كانوا السد المنيع الذي ساعدهم لشق

صف رجال الصحافة الذين تهافتوا عليهم كالأسماك الجائعة

وكل واحد منهم يحاول طرح السؤال بطريقته وتلقي

الجواب بأي طريقة كانت بينما كان هدفهما هما حينها

التخلص منهم فقط فلا شيء يُقال يمكنه معالجة الوضع في

الوقت الحالي .


*
*
*

كان صوت الباب القوي وهو يضربه على اتساعه مغادراً

هو نهاية تلك الزوبعة التي أحدثها في المكان من الوقت

الذي وضع فيه أصبعه على جرس الباب حتى اللحظة وترك

الأعين الغاضبة تحدق بمكان خروجه وحتى عيني التي

كانت السبب في وجوده هنا وتعلمه سلفاً فما أن ألقت عليه

اسم ذاك الرجل كالقذيفة التي أصابت الجميع وليس هو

وحده ثنى مرفقه مبعداً يده والمسدس فيها جانباً ينظر

لعينيها بغضب مكشرا عن أسنانه كنمر ينوي افتراسها

وتعلم جيداً غرضه حينها وهو ضرب وجهها بقطعة الحديد

الثقيلة في يده فكانت يد والدها الأسبق له وهي تشتد على

ساعده واقفاً بينهما وقال بحدة ناظراً لعينيه

" لقد قالت ما تريد ولن أسمح لك بهذا "


فتجاهله وكأنه لا يراه أمامه وقال من بين أسنانه ولازال

ينظر لها

" لو كنتِ رجلاً لعلمت كيف أجعلك تندمين على هذا لكن
حسابنا لم ينتهي بعد "


ونفض يده بقوة مبعداً يد الحارثة عنه قبل أن يهمس بحقد

ولازال ينظر لعينيها

" سكيلآ "
ليختم كلامه بتلك الكلمة اليونانية التي رماها بها قبل أن

يغادر وموقنة بأنها ستكون مسبة قذرة لو علم والدها

بمعناها لأغمي عليه .


كانت تعلم بأن الأمر لم ينتهي عند ذلك ولن ينتهي بخروجه

ومغادرته ، وكالمتوقع تماماً فقد وجدت نفسها في مواجهة


والدها هذه المرة والذي وقف ينظر لعينيها نظرة غاضبة

زادها اقتراب حاجبيه الأسودين وكانت تنتظر سيل التوبيخ

الغاضب منه لكن ما أتاها كان أمر مختلف تماماً لم تتوقعه

واحمر جفناها بسبب حبس الدموع مع استدارة وجهها

جانباً بقوة وعلو صوت الصفعة القوية حتى شعرت بالخدر

في نصف وجهها كاملاً وبطعم الدماء في فمها ، وما أن

عادت ونظرت له حتى امتلأت عيناها بالدموع ونظرت

لعينيه وقد صرخ بغضب انتفضت معه أوردة وجهه

" أي تصرف أحمق وغير مسؤول هذا الذي فعلته
ودون إعلامنا ؟ "



ارتفعت يدها تمسك وجنتها التي لازالت تشعر بها قطعة

حديد ساخنة بل حارقة ولازالت عيناها الدامعة تنظر لعينيه

الغاضبة وخرج صوتها بارداً كالجليد حين قالت بصوت

منخفض

" أنت كنت تريد تسليمها لوالد زوجها .. إذاً كنت ستخرجها
من هنا على أية حال "



وكان ذاك ما زاد اشتعاله وما أن ارتفعت يده مجدداً

أمسكتها يد زوجته هذه المرة والتي قالت بضيق

تنظر لعينيه

" يكفي يا حارثة فالأمر حدث ولا يمكن تغييره "



نفض يده منها ونظراته الغاضبة لم تفارق الواقفة أمامه

والتي انسابت دمعة وحيدة من عينها اليسرى ، العين التي

امتد ألم صفعته لها أيضاً وتكسر صوتها بأسى حزين

ما أن قالت

" أريد أن أسألك أمراً واحداً أبي .. إن كنت أنا التي جئت
لمنزلك بتلك الحالة وبسبب زوجي أكنت ترضاها لي
وفي حقك ؟ "



لاذ بالصمت لا شيء يصدر عنه سوى أنفاسه الغاضبة

واحمرار وجهه ونظراته المشتعلة التي لازال يرسلها

لعينيها فارتجف صوتها وإن قالت بثبات

" أجل لا يمكنك قول شيء ، لكن الصمت أقسى من الكلام
أبي خاصة إن كان الرد لديكم هو الصفع "


وتابعت من فورها وببحة وقد امتلأت عيناها بالدموع مجدداً

" حين صفعتني والدتي كسرت الصورة التي كنت أراها
لنفسي في المرآة وأنت الآن كسرت ابنتك من داخلها
ومستقبلاً لن ألجأ لأي أحد لينصفني "




وما أن ختمت عبارتها تلك وبنبرة شبه باكية غادرت

راكضة في اتجاه ممر غرفتها مخلفة ورائها صمتاً موحشاً

وما أن كان سيتحرك نحوها أوقفته يد التي قالت

تمسك بذراعه


" توقف يا حارثة لا تقل أو تفعل شيئاً تندم عليه
فيما بعد "


نظر ناحيتها والغضب لم يفارق عينيه بعد وقال

" قالت بأنك صفعتها سابقاً ؟ "



تركت ذراعه وقالت بجمود وكأنها تلوم نفسها

" واكتشفتُ لاحقاً بأنه الأسلوب الخاطئ مع تربيتك لها
فلا تفعلها أيضاً ومؤكد ماريه تعلم وموافقة وإلا
رفضت الذهاب "


قال بضيق متجاهلاً ملاحظتها عن أسلوب التربية

" ألم تفكر أي موقف هذا الذي وضعت فيه والدها أمامهم
الآن والفتاة قد لجأت لمنزلي ؟ "



ونفض يده بقوة يشير للبعيد وصرخ بغضب

" ما الذي سيخرجها من هناك الآن ؟ فلن يستطيع ولا
الشيطان فعلها "


واستغفر الله بهمس غاضب بسبب ما قال وهو يغادر أيضاً

لكن في اتجاه الباب الذي ضربه وهو يغلقه خلفه وترك التي

حركت رأسها بأسى وغادرت باتجاه المطبخ لأنها تحتاج

لأن تشرب إبريق ماء كامل بعد الأحداث المتلفة للأعصاب

التي شهدتها .

*
*
*


فتحت عينيها وجلست بحركة واحدة تشعر بضربات قلبها

ترتفع ودون شعور منها ما أن استدار مقبض الباب وكأنها

نائمة وعيناها مفتوحتان !

نظرت ناحيته بترقب مريب فهي هنا منذ ساعات قليلة فقط

وتخشى فعلياً من كل ما يجلبه لها هذا الباب ، رتبت

خصلات شعرها بحركة متوترة تنظر للمرأة التي كشف

وجودها اتساعه البطيء نحو الداخل وقد ابتسمت لها

ابتسامة جميلة أشعرتها بالراحة فيبدو أنها تحتاج لبعض

الوقت لتتأقلم مع فكرة أنها باتت جزء من هذا المكان وبأنه

عليها أن لا تخاف من أمور لا وجود لها .


كانت امرأة في الخمسين من عمرها تقريباً قد تَبدل لون

شعرها المرفوع في كعكة أعلى رأسها للّون الرمادي

لاختلاط خصلاته السوداء بالكثير من الشيب وكان لها جسد

ممتلئ بعض الشيء ترتدي تنورة سوداء طويلة وقميص

أبيض ناصع تحمل بين يديها طاولة خشبية مخصصة للأكل

فوق الأسرّة موضوع عليها طبق زجاجي له عنق طويل

يحوي فواكه طازجة مقطعة وصحن موجود به ثلاث قطع

خبز فرنسي وآخر به القليل من مربى الفراولة وقطعة زبد

صغيرة وبجواره كوب كبير من عصير البرتقال ، وضعتها

عند طرف السرير وقالت مبتسمة تنظر لعيني الجالسة

مكانها تنظر لها

" أعتذر آنستي فقد طرقت الباب لكن لم يصلني أي رد
وكان عليا الدخول "



ابتسمت محرجة وقد اكتشفت حينها بأنها لم تدخل مباشرة

كما اعتقدت وبأنها شعرت بها بل ما أخرجها من نومها

العميق ذاك طرقها المتكرر للباب ، قالت التي لم تنتظر منها

تعليقاً كما يبدو

" هذا فقط لأن السيد غاستوني يستيقظ باكراً وطلب رؤيتك
فالمعذرة منك آنستي "



همست تبتسم لها

" لا بأس لا عليك "



وراقبتها وهي تتوجه نحو الستائر الضخمة وقد سحبتها

بعيداً عن باب الشرفة الزجاجي الكبير وملأ النور الطبيعي

الغرفة وقالت بصوت باسم وهي تفتح بابها لتجديد

الهواء فيها

" إسمي أوليفيا وأنا و إيريكا من نقوم بالأعمال هنا ويمكنك
طلب أي شيء تريدينه منا "



وتابعت ما أن استدارت نحوها وبذات صوتها الباسم

" يبدو كانت ليلتك سيئة وأنتِ تنامين بهذا الفستان ؟ "


ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها وهمست

" ليس كثيراً "


أومأت لها برأسها مبتسمة وقالت

" سيصل مبعوث السيد فاليريو في أي وقت وهو قال بأ.. "



وبترت كلماتها بسبب اليد الرجولية التي امتدت من الخارج

للباب المفتوح تطرق عليه وقالت مبتسمة تنظر نحوه

" ها هم أصبحوا هنا "


وتوجهت نحو الباب نظراتها المستغربة تتبعها وقد خرجت

منه فغادرت السرير مسرعة ورفعت سترتها تحاول


ارتدائها في أسرع وقت ممكن تتحمل ألم كتفها فالفستان

كان بدون أكمام ولم يغب عن بالها رغبة الذي منعها سابقاً

من هذا وأن ترتدي فستاناً بذراعين مكشوفتان وإن كان

خاصاً بالحفلات .


وما هي إلا لحظات ودخلت التي كان يتبعها شابين هذه

المرة كل واحد منهما يحمل أكياساً كبيرة في يديه طُبعت

عليها شعارات الأماكن التي جاءت منها وأشارت لهما نحو

غرفة الملابس قائلة

" يمكنكما وضعها هناك ... شكراً لكما "


بينما نقلت ماريه نظرها من المكان الذي غادراه سريعاً

نحوها ما أن قالت

" لقد أرسلها السيد فاليريو من أجلك لاستعمالها مؤقتاً
ويمكنك الذهاب للمدينة في أي وقت عند نهاية الأسبوع
وشراء ما تريدين وسيقوم سانتو بنقلك حيث تشائين "




وتابعت من فورها تضم يديها لبعضهما

" سيكون عليك ارتداء الفساتين فقط عند مقابلة السيد
الكبير فهو يفضل هذا "



حدقت فيها باستغراب بينما تابعت هي توضيح الأمر

" لن تكوني مجبرة على ارتدائها طوال الوقت ولا وقت
الخروج فالسيد غستوني لديه نظام معين ليومه وأماكن
تواجده "


وما كان لديها سوى الإيماء منصاعة دون أن تكلف نفسها

عناء المناقشة أو حتى السؤال بينما قالت التي لم ينتهي ما

لديها بعد كما يبدو

" هو موجود الآن في غرفة الشاي يشرب قهوة الصباح
وينتظرك هناك "


أومأت لها مجدداً تخفي توترها بابتسامة لطيفة

فابتسمت قائلة

" سآتي بعد نزولك لتنظيف الغرفة وأخذ الأطباق فلا تتعبي
نفسك بفعل أي شيء هنا "



همست مباشرة

" شكراً لك "


أحنت رأسها قليلاً باحترام مبتسمة وغادرت مغلقة الباب

خلفها فأطلقت نفساً طويلاً وغرست أصابعها في شعرها

تمررها للخلف خلال غرتها المقصوصة حتى قفا عنقها

وتحررت الخصلات البنية الناعمة تداعب طرفي جبينها

وغادرت نحو حمام الغرفة توضأت أولاً لتصلي فهي لم

تتوقع أن تنام أبداً ولا هاتف لديها لتضبط منبهه على

وقت الصلاة .


وما أن غادرته وقفت مكانها تفكر كيف يمكنها الحصول

على شيء ساتر تصلي به !

دخلت غرفة تبديل الملابس وفتشت في الأكياس الموضوعة

هناك فكانت جميعها لا تفي بالغرض حيث كانت ثلاث

فساتين الطويل منها بدون أكمام وضيق .. بنطلون

وقميصان قصيران وسترة خفيفة وبيجامة نوم وحذاء أنيق

وقطع ملابس داخلية ، أغلقت الكيس الأخير الذي جعل

وجنتيها تشتعلان فهذه الأمور لدى الرجال هنا تُعد عادية

لا حرج فيها والاعتراض عليها يُعد أمراً غريباً بل

ووقاحة غالباً .


نظرت ناحية الأرفف الخشبية المخصصة لترتيب الثياب

التي لا تحتاج للتعليق والأحذية وسحبت اللحاف الخفيف

الموجود فيها وغادرت المكان وتوجهت نحو باب الغرفة

أولاً وأغلقته بإدارة مقبضه الدائري مرتين كي لا يدخل

عليها أحد وفردت اللحاف ووضعت طرفه على رأسها

وعقدته تحت ذقنها فغطى شعرها والجزء العلوي من

جسدها كاملا ووصولاً لقدميها في الخلف ووقفت باتجاه

الشمس المقابلة للشرفة ورفعت يديها مكبرة وصلت ما

فاتها أولاً وقبل كل شيء .


وما أن انتهت أعادت اللحاف مكانه والذي سيكون لباس

الصلاة خاصتها من الآن فصاعداً على ما يبدو واستحمت

بسرعة حماماً لم يأخذ من الوقت أكثر من دقائق قليلة

ولبست أحد الفساتين التي تم جلبها إليها ، كان بلون أزرق

زاهي طبعت عليه أزهار نرجس صفراء كبيرة وكان طوله

تجاوز ركبتيها لنصف الساقين وله أكمام تجاوزت المرفقين

بقليل بقصة ضيقة وياقة تأخذ شكل نصف سداسي مرتفع

وثلاث أزرار تزينها نزولاً ، ونظرت لنفسها في المرآة

وهي تجفف شعرها بحركة سريعة فيبدو أن الابن يراعي

جيداً ذوق والده ! .


مشطت شعرها سريعاً وقامت برش القليل من العطر الذي

وجدته في أحد الأكياس أيضاً لتغطي رائحة الصابون في

جسدها وغادرت الغرفة تاركة خلفها الطعام الذي لم تلمسه

ولا رغبة لها في تناول شيء منه ونزلت السلالم بخطوات

بطيئة مترددة تتجول نظراتها في المكان الذي بدأ يظهر لها

تباعاً وقد تخلله ضوء النهار في كل جانب وزاوية فحتى

باب المنزل كان مفتوحاً على اتساعه وسرق نظرها وهي

تنزل آخر العتبات تنظر لشخصين بلباس رسمي أسود

اللون يقفان بعيداً واضح عليهما أنهما حراس شخصيين

للمكان أو لمالكه .


" مرحباً بك بيننا آنستي "


أجفلت تنظر للمرأة الواقفة خلفها وابتسمت مرتبكة فقد

أفزعتها فعلاً لأنها كانت شاردة الذهن نحو الخارج ، كانت

امرأة ثلاثينيه لها شعر بني قصير نحيفة الجسد وجهها

طويل وعظام فكيه بارزة وثمة نمش كثير يغطي أنفها

ووجنتيها بينما تمتلك ابتسامة جذابة ورائعة وعلمت سلفاً

بأنها ستكون إيريكا التي تحدثت أوليفيا عنها ،

قالت مبتسمة

" وأنا كذلك إيريكا ... شكراً لك "


وتابعت من فورها تنظر حولها

" كيف يمكنني الوصول لغرفة الشاي ؟ "


تحركت تلك من مكانها قائلة

" تفضلي معي سأوصلك لها "


فسارت خلفها حيث ردهة أخرى كانت تفصل بهو القصر

كما يبدو فقد كان لها مدخنة مستقلة تحفها نقوش ذهبية

حولتها لقطعة رائعة الجمال تعلوها مرآة ضخمة كمساحتها

تحمل ذات الزخارف والتي زينت أيضاً الجدران الفاصلة بين

النوافذ الطويلة للمكان والمغطاة بستائر من الحرير أزرق

وذهبي اللون وكراسي كلاسيكية ذهبية لها خطوط زرقاء

واضحة في قماشها وزعت في المكان بأكمله ، وكان يوجد

بها بابين تفصلهما تلك المدخنة ومغلقان وكانا أيضاً من

خشب أبيض لامع تزينه زخارف ذهبية مماثلة للجدران وقد

وقفت مرافقتها أمام أحدهما وطرقته بمفصلها طرقتين

متتاليتين والتفتت نحوها وقالت بصوت منخفض باسم

" السيد غستوني يقضي ساعتين هنا كل صباح ويقرأ
الصحف "



أومأت لها برأسها مبتسمة وها قد علمت أحد طقوس سيد

المكان اليومية ، نقلت نظرها للباب الذي فتحته الخادمة

ودخلت أولاً وسمعت صوتها تقول باحترام

" الآنسة ماري هنا سيدي "


فتنفست بعمق نفساً طويلاً انحبس وسط أضلعها ما أن

سمعت الصوت الرجولي الخشن العميق وكأنه لقائد أسطول

فعلاً كان ولازال

" حسناً لتدخل "


فحاولت رسم ابتسامة تتغلب فيها على توترها وهي تنظر

للخادمة التي خرجت حينها وقد ابتسمت لها مومئة برأسها

وهي تجتازها فتنفست بعمق وتحركت خطواتها نحو الداخل

فلا تراجع بعد الآن وليس من أجلها فقط .


ما أن دخلت الغرفة الواسعة والتي لا تقل جمالاً وروعة عن

باقي المكان بأثاثها الجميل وإطلالة زجاجية كاملة للجزء

الجانبي من الحديقة الرائعة والمنسقة ولها باب زجاجي

أيضاً وكان مفتوحاً حيث شرفة منخفضة وقد ملأت المكان

رائحة الأزهار المنبعثة منه مختلطة برائحة الماء المتناثر

فوق العشب الذي كان يغطي الأرض بأكملها وقع نظرها

على من هي هنا من أجله والجالس على كرسيه بكل شموخ

قرب تلك الإطلالة الخلابة يلبس بذلة رسمية فاخرة يظهر

فخامة قماشها واضحاً واستغربت أيلبسها استعداداً لمقابلتها

فقط ! أم أنه أحد طباعه الدائمة ؟ أو ينوي الخروج بعد

الوقت الذي سيقضيه معها ؟


اقتربت خطواتها منه ببطء وكان ينظر لها نظرة شاملة

متفحصة من وجها لقدميها بينما جمود ملامحه ونظراته لم

يعطها الفرصة لفهم انطباعه الأول عنها وتوقفت على

مقربة منه بعض الشيء وقالت بأدب

" سعيدة بلقائك عمي "


وشعرت بارتياح غامر ما أن أومأ برأسه وابتسامة حقيقية

ترتسم على شفتيه وملامحه الأرستقراطية المنحوتة رغم

تقدمه في السن ورفع يده نحوها يميل أصابعه نحو الأسفل

ففهمت وعلى الفور أنه يهديها رضائه عنها أو بركته

فتوجهت نحوه وأمسكت يده وقبلت ظاهر كفها قبل أن

تُلامس جبينها بها فسمعت صوته حينها يقول بهدوء

تخلل نبرته الجادة

" يمكنك الجلوس يا ماري "


فتوجهت لأقرب كرسي له وجلست عليه وكان ثمة طاولة

مقابلة له موضوع عليها صينية ذهبية بنقوش جميلة

واذرع سفلية ذهبية قصيرة موضوع عليها فنجان قهوة

خزفي مع الصحن المخصص له وكان قطعة فنية لوحده

بينما بالكاد كان يحوي بقايا قهوة في قعره فعلمت بأنها

تأخرت فعلاً في القدوم وأن هذا الرجل يستيقظ في وقت باكر

فاق توقعاتها ! كما كان بجواره طبق زجاجي مليء بأنواع

البسكوت التي يبدو لم يأخذ منها شيئاً ! .


نظرت له ما أن قال بجدية

" كنت منزعجاً لعدم زيارتك ولا اهتمامك "



شعرت بالهواء يختفي من رئتيها حتى داهمتها رغبة شديدة

في السعال تحكمت بها بصعوبة وقالت ما أن وجدت

صوتها مبررة

" لم أكن أعلم بانتقالكم للعيش هنا إلا من أيام قليلة جداً "


وكانت تقول الحقيقة وإن لم تكن تفكر أساساً بزيارته فهي

لم تعرف إلا من المدعو مطر شاهين تلاه تلك الحمراء فتيم

لم يهتم مطلقاً لإخبارها قبل ذلك ، وكان وكأنما يقرأ أفكارها

فقد تبدلت ملامحه للضيق وقال

" كنت أعلم بأن ذاك اليوناني لا يهتم بإعلامك أو جلبك
إلى هنا "



ابتلعت ريقها تخفي صدمتها وقالت مبررة

" هو كان مسافراً وأنا علمت من ابنة الأميرال وكان ذلك
يوم عودته "



تنهد بضيق وكأنه يمنع نفسه من قول ما يكره التفوه به

لكنه قال أيضاً وبلهجة حازمة

" ما شفع لك هو طلبك الانتقال للعيش هنا مع عائلتك
الحقيقية والأساسية وهذا ما كان سيحدث وإن لم تطلبيه "



قال آخر كلماته كأمر لا نقاش فيه مما جعلها تشد يديها بقوة

بينما تابع ما لم يكن يخطط لكتمانه كما يبدو وبنبرة مستاءة


" أنا لم أكن راضٍ عن بقائك مع تلك العائلة بعد موت ابن
شقيقي ولا زواجه من تلك المرأة ولا أن تحملي اسم عائلة
والدته تلك وعليك أن تكوني ماري ميديتشي بعد اليوم "



عادت لابتلاع ريقها في صمت بينما تابع هو من فوره

" أنتِ حفيدة شقيقي الأكبر والوحيد وأريدك وفاليريو أن
ترثا كل ثروتي الضخمة من بعدي "



اتسعت عيناها وتوقفت أنفاسها وشعرت بجسدها يتعرق

بشدة وكل ما أخبرها به عقلها حينها بأنه يفكر في تزويجها

من ابنه وقد يكون يخطط لذلك فعلاً وهنا ستكون نهايتها

المحتمة والتي لم يتوقعها الجميع وسترضى بقتلها وموتها

على أن تفعل ما يخدم مصالحهم جميعهم منصاعة دون

نقاش كما حدث مع زوجها الذي كانوا يريدون تسليمه

لامرأة أخرى تحت مسمى المهام .


شعرت بقدر من الماء البارد انسكب فوق رأسها حتى

شعرت بالبرودة في عروقها ما أن قال بلهجة جادة

" فاليريو هو إبني الوحيد وأنتِ الآن قريبتنا الوحيدة
وستتشاركان ثروثي قانونياً "



لو كان بإمكانها الآن لسقطت على الأرض تضحك بهستيرية

فكيف أنساها غباؤها بأن تفكير هؤلاء الناس مختلف تماماً

عن العرب وأنهم يورثون من يشاؤون ويحرمون حتى من

يكون الوريث الوحيد لهم إن أرادو ذلك عكسهم هم

المسلمون تحكمهم نصوص قرآنية من ناحية الميراث

ولتكون ممن يستنفعون بثروته عليها أن تكون زوجة

لوريثه أما هنا فكل ما يحتاجه الأمر وصية مكتوبة عن

طريق محاميه تحوي أسماء من يختارهم لوراثته ومن

يحرمهم منها يوقع عليها وانتهى الأمر .


في ظروف أخرى كانت لترفض وإن كان يظن بأنها حفيدة

شقيقه وبعيداً عن حقيقتها وكانت لتذكر له ابنة شقيقه أيضاً

وعمة ماري وابنيها لكنها تعلم عن العداء والقطيعة بينهم

وإن لم تسأل سابقاً عن التفاصيل أو تهتم لها وعليها فعلياً

أن تبتعد عن التدخل في خصوصيات العائلة التي ليست

سوى سارقة لهوية ابنتها المتوفاة والتي باتت تشعر في كل

ساعة تمر بأنها تستسلم لها ومتورطة في هذا التزوير

فعلياً فهذا الرجل كان ينوي إشعال حرب حقيقية لضمها

لعائلته ويمكنها تخيل رد فعل تيم حينها ورفضه وما ستصل

له الأمور بينهما وقد فعلها قدرها ومهما كان الأمر قاسياً

وقد خسرت حياتها معه فها هم تجنبوا تبعات عناد هذا

العجوز الذي يبدو واضحاً بأنه يملك نفوذاً واسعا ويكفي أن

يقف ذاك الأميرال والد تلك الحمراء في صفه ما أن تعلم

ابنته بأنه يسعى لنقلها لديه وإلغاء تلك الوصاية كما لقبها

معه حسب مخططه الذي أعلن عنه للتو ، كانت ستكون

الخاسرة في كلا الأمرين لكنها الآن تلقت عقابه وغضبه

وحيدة بدلاً من أن تنشب حرب بينه وبين هذا الرجل لا يعلم

أو يأمن أحد تبعاتها .


وقفت ما أن وقف يمسك بيده رأس عصاه الفضي وقد رفع

بيده الأخرى القبعة التي كان يضعها على الطاولة بجانب

كرسيه وقال

" سأغادر لـ شلتنهام وبعد الظهيرة علي ان ألبي
دعوة صديق لي على الغذاء في ﻛﻮﺗﺴﻮﻭﻟﺪ "


وتابع وهو يضع قبعته فوق رأسه

" سأكون هنا وقت العشاء وأراك حينها عند طاولة الطعام
لنتناوله معاً وسيكون فاليريو موجوداً حسب كلامه "



ابتسمت وأومأت برأسها قائلة

" سأكون سعيدة بهذا "


ارتسم شبح ابتسامة على شفتيه الحازمة وقال مغادراً

" لن أقول بأنه عليك التصرف وكأنه منزلك فهو كذلك
بالفعل وأنتِ سيدته الآن "




وغادر من باب الشرفة المفتوح حيث توجه أحد الحراس

هناك نحوه بخطوات راكضة يفتح له باب السيارة المتوقفة

يميناً وتركها واقفة مكانها وقد شردت نظراتها في الفراغ

بحزن وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها تفكر في آخر

كلماته فهي كانت سيدة مالها الذي جعلها عمها تكرهه

ولوقت قصير سُرق منها سريعاً ثم سيدة منزل زوجها

لوقت أقصر منه وقد انتهى بأبشع الطرق وأكثرها قسوة

ولن يختلف هذا الأمر هنا أيضاً وتتمنى فقط أن تغادره بأقل

خسائر لأن قلبها لم يعد يحتمل المزيد .


تحركت من هناك نحو الباب الذي دخلت منه وصعدت

السلالم من فورها وعادت لغرفتها التي وجدتها مرتبة تماماً

وكأنها تدخلها الآن الفارق الوحيد هو باقة الأزهار الجميلة

التي كانت تزين الطاولة فتوجهت نحو السرير وارتمت عليه

تحضن يديها تحت خدها وهام نظرها للسماء المطلة من

باب الشرفة الزجاجي المغلق وأغمضت عينيها ببطء تحاول

أن لا تفكر في شيء .. لا شيء أبداً فماضيها ذهب وانتهى

ومستقبلها الله وحده يعلمه والمتصرف فيه أما حاضرها

فلم يكن ابداً باختيارها ومنذ البداية ولن تلوم نفسها عليه .


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 28-01-22, 09:34 PM   المشاركة رقم: 1672
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,164
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

ابتسمت عيناه ابتسامة حزينة وهو يراقبها تلاعب الطفلة

التي لم تتركها منذ اكتشفت بأنها معه .. تلاعبها وتقبلها

وتضحك نيابة عن كليهما كما أن تلك الرضيعة يبدو لم

تنساها لأنها لا تأنس الغرباء بل ومزعجة بسبب بكائها

طوال الوقت لذلك جلبها معه فلن يستحمل بكائها المتواصل

أحد غيره ، بينما اكتفى الآن بمراقبتهما فهي لم تجب ولا

على سؤاله الذي أعاده دون أن يتلقى أي جواب منها لا

يعلم سمعته وتجاهلته أم لم تسمعه أبداً ! لذلك قرر انتظارها

لأن هذا ما كان عليه أن يفعله بحكم معرفته الجيدة بها .


رفع كوب القهوة وانحرف نظره نحو الزقاق الذي بدأ يعج

بحركة المارة شيئاً فشيئاً وهو يرتشف السائل الأسود

الذي بات يفقد دفئه تدريجياً .


" مؤكد تركت لأزير مهمة العناية بالبقية ؟ "


أعاده صوتها الباسم للنظر لملامحها المسترخية الباسمة

مجدداً قبل أن يتبع به الكوب وهو يضعه مكانه قائلاً

" لا خيار آخر أمامي غيره وهو أكبرهم وإن كان ما يزال

طفلاً أيضاً "


تمتمت وهي تنظر للطفلة مبتسمة

" لكن يمكن الاعتماد عليه "


وتابعت بضحكة وهي ترفع نظرها له

" سيكون عليك العودة لتسجيل آلات المراقبة كلما شعرت
بالضيق وستضحك كثيراً على شكله ووضعه "


لم يستطع إمساك ضحكة صغيرة تغلبت على شفتيه وقال

يحرك رأسه

" إنه فتى صعب المراس "

قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها

" أراه لا يألف سوى والده "


" والده !! "


همس بها مبتسماً بسخرية بينما قالت التي خبت

ابتسامتها تدريجياً

" ألا زال يزوره ؟ "



حرك كتفيه قائلاً

" في الآونة الأخيرة لم يفعلها ويبدو لي هذا سبب
انزعاجه الدائم "


وتابع من فوره ونظره يبتعد عنها لحركة المارة من خلف

زجاج المقهى بينما كانت كلماته هادئة منخفضة وشاردة

" أزير لا يجيد التعبير عن مشاعره ..هو كتوم جداً كطفل "



ابتسمت وهي تراقب ملامحه الواجمة ونظراته الشاردة

للخارج فهو يهتم بهم ويشغلون تفكيره حتى في تقلبات

مشاعرهم ونوعها ، قالت بصوت باسم

" أراه يشبهه كثيراً "


نظر لها سريعاً وخرجت كلماته مندفعة ومتضايقة حين قال

" بل هو من يصنع منه نسخة عنه "


اختفت ابتسامتها تماماً وقالت تنظر لعينيه

" تغير رأيك به منذ علمت أين كان يأخذه في رحلاتهما "


تنهد بضيق ولاذ بالصمت لبرهة وقبل أن يقول

وبذات ضيقه

"الفتى لازال طفلاً ومن الخطأ إخضاعه لتدريبات الرجال "



أبعدت يد الطفلة التي كانت ستبعد قبعة السترة عن رأسها

بسبب لعبها بها وقالت

" لكن بإمكانه أن يصرع رجلاً قوياً لا تنسى ذلك "


وكان لكلماتها مفعول عكسي تماماً فقد علا صوته وهو

يقول بضيق بينما يده تشير جانباً

" لكننا ومنذ البداية تعاهدنا معاً أن لا نترك أحداً يستغل
الأطفال الزُهريين يا دانيا "


تنهدت نفساً عميقاً وقالت بكلمات حاولت أن تكون هادئة

قدر الإمكان لاحتواء الموقف

" نعم لم أنسى لكن أزير ... "


ولاذت بالصمت تشد شفتيها حين قاطعها بنبرة حادة

هذه المرة

" وإن كان موافقاً ويريد هذا أو كان ذاك الرجل يخصه أكثر
منا ولم يفعل ما نخشى منه لكنه يبقى استغلالا "



تنهدت بقلة حيلة وقالت

" أترك هذه المسألة الآن يا زين فهذا ليس وقتها "


كانت تريد إنهاء الجدل العقيم في الأمر الذي لا حكم لكليهما

فيه لكن ذلك يبدو لم يعجب الذي قال ونبرته الحادة لم تتغير

" وقت الحديث والبحث عن والدتك أليس كذلك ؟ كلا
الأمران متشابهان "



زمت شفتيها بقوة قبل أن تحررهما وكأنها تمنع نفسها عن

الانفعال مثله وقالت ببرود لم تستطع إخفائه في صوتها

" لن يجدي مهما قلت وأعدت "



وكما توقعت لم تزد كلماتها غضبه إلا اشتعالاً وقال بنبرة

حادة لم تتغير

" أنا من لازلت أعيد وأكرر بأن تركها لك سابقاً لا يعني
نجاتك منها دائماً أو أنها لن تفعلها مجدداً "


شعرت بكلماته جرحت قلبها وانحرف نظرها جانباً وكأنها

تهرب من نظراته تلك وتمتمت ببرود

" لا نفع مني الآن فلم أعد طفلة "


قال مباشرة وبنبرة قوية جادة

" لكن يمكنك إنجاب طفل زُهري لا تنسي ذلك "


نظرت له حينها وقد تابع من فوره ونظره انحسر في

عينيها تحديداً بينما كان صوته بدأ ينحرف للغضب

" حين قامت بتزويجك بوالدي وأنتِ شبه طفلة مؤكد لم يكن
غرضها إسعادك ولا تأمين مستقبلك "


" زين !! "


قالتها مستنكرة وكأنها لا تعرفه هكذا من قبل بينما لم يهتم

هو بكل ذلك وقد تابع هجومه الحاد الغاضب

" أتعلمين ما كان سيحدث لو لم أكن هناك تلك الليلة ؟
لقد تسببتُ بموت والدي لإنقاذك فهل تستهينين بكل ذلك
بسبب عاطفتك الغبية نحوها الآن ؟ "



أخفضت رأسها ونظرها للطفلة التي هدئت في حضنها ولم

تستطع قول أي شيء .. بل لم تستطع إخفاء الحزن ولا

المرارة اللتان لمعتا في عينيها فهو عطب جرحها المفتوح

وهي التي عانت كطفلة زُهرية وكامرأة أيضاً فدماؤها كانت

تُشترى بالملايين من الأوراق النقدية ومن أجل كل ذلك

وجميع أشباهها وبسبب كل ما عانته وبمساعدة مطر

شاهين تم تأسيس ذاك المكان الذي تم اتخاذه كملجأ لهم

بعيداً عن بلادهم وعن الثنانيين والعرب معاً وحاربوا جميع

مهربي الآثار الذين كانوا يسعون باستماته للحصول عليهم

وأنقذوهم منهم ، هي لم ولن تنسى أبداً كل ما مرت به

خاصة ما فعلته بها والدتها تلك وهي تبيعها مقابل المال إن

كان قبل هروبها منها كطفلة أو بعد إمساكها بها وهي ابنة

الثالثة عشر وذلك يشمل ما لا يعرفه سواها وهو انقاذها لها

من الموت مرة فإن كانت تريدها ميتة حقاً لمَ فعلت ذلك؟

أغمضت عينيها ما أن وصلها صوته الحانق مقاطعاً

أفكارها

" سواء إن كانت تعلم بوجودك هنا الآن وتتجاهلك فقط أو
إن كانت لا تعلم أين تكونين فأنتِ ستقدمين عنقك لها
وبمحض إرادتك هذه المرة "




كانت تعلم بأنه يقول الحقيقة لكن لا يمكنها تجاهل الصوت

الصارخ في قلبها والذي ظهر جلياً في عينيها ما أن رفعت

رأسها ونظرت له قائلة بحزن

" إنه أمر يستحق المجازفة فعن طريقها يمكننا الوصول
لكبار أولئك المجرمين سافكي الدماء ، إن نجحت سيتحقق
هدفي وسيسهم ذلك في تقديمهم للعدالة وإنقاذ الجميع
وإن فشلت وقتلوني سنكون وصلنا للنتيجة ذاتها "


اتسعت عيناه قبل أن يقول بضيق وبعد أن ضرب بطرف

أصابعه على جبينه

" يا إلهي دانيا هم لن يقتلوك أبداً وأنتِ تعلمين ذلك جيداً
ولن يحدث ذلك قبل أن تقدمي لهم طفلاً زُهريا "



اكتسى عينيها الأسى وخيبة الأمل وتمتمت ببرود

" فهمت .. أنت لن تساعدني مجدداً "


كانت تعلم بأن لها أسلحة مجدية معه دائماً لكنها وللمرة

الأولى تفشل وهو ما لم تتوقعه فقد قال سريعاً وبنبرة

قوية حادة

" فعلت كل ما فعلت من أجلك ونزولاً عند رغبتك فقط وإن
لم أكن مقتنعاً ، وحتى تسليمك لابن كنعان ذاك والذي
يفترض بأنه موجود لحمايتك وهو لم يتساءل عن هويتك
أو مكانك يوماً "


قاومت بصعوبة التواء شفتيها بسبب ما قال وها قد فهمت

الآن فهو لازال غاضباً لذات المسألة ، قالت وهي تهرب

بنظرها منه للطفلة في حضنها

" أنا أثق في قرارات الزعيم مطر كما أنك تعلم جيداً لما أنا
في منزله الآن "


وارتفع نظرها باستغراب معه ما أن وقف على طوله وكما

توقعت تماماً لم تزده كلماتها إلا غضباً وقد صاح فيها بعنف

" وما الذي فعله الزعيم مطر غير أنه يحاول وبكل جهد أن
يدمج العرب والثنانيين متناسياً تماماً مصير أشباهكم ؟
ثم وسبب انتقالك لمنزل ذاك الرجل هو الدخول لقصر عائلة
ضرار السلطان فهل لك أن تخبريني كم مرة دخلته حتى
الآن ؟ "



وقفت أيضاً وقالت بهدوء تحاول التخفيف من حدة غضبه

كما تجاهلت النصف الأول من كلماته الغاضبة لأنها مسألة

تخص الثنانيين كما ترى

" لم تكن الظروف مناسبة أبداً لقد حدثت أمور كثيرة "



أبعد الكرسي بحركة غاضبة وقال بضيق وهو يتحرك

حول الطاولة

" لقد كرست نفسي لحمايتك يا دانيا لكن الآن توقف دوري
وباختيار منك وبالرغم من ذلك لا أريد أن أقول مستقبلاً
بأنني لست الملام على ما حدث معك "




وقال آخر كلماته وهو يقف مواجهاً لها فقالت تنظر لعينيه

الحانقة برجاء حزين

" لم أكن أريد أن نصل لهذا الخلاف ولم يكن هذا
رأيك سابقاً ! "




ابتسمت شفتاه بسخرية سريعاً وقال

" أنتِ اخترتِ المدعو شاهر كنعان لمتابعة ما بدأناه لذلك
انتهى دوري "



اتسعت عيناها بذهول هامسة

" زين !! "



لكنه لم يهتم بل ورفض النظر لعينيها وما أن مد يديه

للطفلة حتى سقطت في حضنه وتعلقت به وعاد ودسها

تحت معطفه كما كانت وقت قدومه متمتماً ببرود

" لا يمكنني إخفاء عينيها لذلك لا يمكننا البقاء في الخارج
أكثر من ذلك "




قالت تحاول النظر لعينيه التي لازالت تتجنبها بشكل متعمد

"لن أعتبر كلامك الذي قلت جدياً ولا بأنه قرارك النهائي "



أدار ظهره لها وتحرك قائلاً ببرود

" يمكنك التفكير كما تريدين "


صرخت ضاربة الأرض بقدمها

" زين يا أحمق !! "



لكنه لم يهتم ولم يتوقف وجسده الطويل يقترب من باب

المقهى فتحركت خطواتها نحوه وخرجت خلفه وكان حينها

قد عبر ممر ضيق بين بنائين كبيرين وكانت ستلحق به

لكنها تذكرت المكان الذي كان عليها الذهاب له وهو

المنزل الذي ستقابل فيه ماريه وذاك ما جعلها تقف مكانها

متأففة وغيّرت مسار خطواتها الغاضبة معلّقة آمالها على

طباعه الماضية فهو سرعان ما ينسى كل ما قاله في وقت

الغضب ولا يتحدث عنه مطلقاً كما أن مسألة والدتها كانت

نقطة خلاف بينهما دائماً ، لكنه الآن أضاف شاهر كنعان

للائحة أيضاً وترى بأن غضبه مختلف عن السابق !.


وقفت عند طرف الرصيف وكانت سترفع يدها لتوقف سيارة

أجرة لولا منعها صوت رنين الرسالة الذي خرج من جيب

سترتها الطويلة فدست يدها وأخرجته منها وكل تفكيرها

بأنها من زين لكنها تفاجأت بأنها من شاهر الذي كتب فيها

( لا داعي لذهابك لها هي ليست هناك )
تنهدت بأسى بل وقلة حيلة وهي تعيد الهاتف لجيبها وتعود

أدراجها فهو لا يعلم بأنها غادرت المنزل أساساً بل وها

هي أضاعت فرصة اللحاق بذاك الأحمق الغاضب من أجل

زيارة تم إلغاؤها .

*
*
*

مر أكثر من ساعتين وهي مكانها لم تغادر السرير كما لم

تترك عيناها الشاردة الفراغ الذي كانت تهيم فيه تتكئ

برأسها على ساعدها الذي تدسه تحته فبسبب تلك الحبوب

باتت تنام طوال الليل دون أن تشعر بنفسها ولا أي شيء

حولها ولذلك عاد ذات الشعور الذي كانت تشعر به في

جسدها كما أعصابها ونشاطها الذهني بسبب هذه الأنواع

من الأدوية والتي كان تقرير طبيبها النفسي بأنها لن تتخلى

عنها أبداً بينما استطاعت تركها والنوم من دونها طوال

الفترة الماضية وتخلصت من جميع أعراضها المتلفة

للأعصاب قبل الجسد وها هي تعود خطوة للوراء بدلاً من

المضي قُدماً ، بل وعدة خطوات حتى أصبحت في المكان

الذي انطلقت منه .


لمعت عيناها الشاردتان بحزن وألم وهي تتذكر وجه شقيقها

توأمها ومؤنسها حتى في غيابه بل وهدفها الوحيد للبقاء

ومن كانت تحلم بمستقبله الذي أراد هو لنفسه وها هي

تراه أيضاً يفقد كل شيء وأوله أحلامه تلك .



ابتسمت بمرارة والذكريات تعود بها لذاك الزمان البعيد ..

للطفلين في العاشرة جسديهما النحيلان لا يتطابقان مع

سنهما أبداً يجلسان تحت شجرة التوت الكبيرة في مزرعتهم

وكل واحد منهما يحضن ركبتيه بيديه ينظران للأرض

مبتسمان بينما تراقب أحداقهم الزرقاء حركة النمل الصغير

بين الأوراق اليابسة المتناثرة على الأرض وقال الفتى

مبتسماً

" أتعلمين ما هو حلمي للمستقبل يا زيزفون ؟ "


نظرت نحوه حينها وكان لازال ينظر لحركة النمل العشوائية

وتابع وذات الابتسامة المشرقة المتفائلة تزين شفتيه

" أريد أن أقود طائرة عسكرية وأن أكون طياراً حربياً "


لاحت ابتسامة صادقة على شفتيها تبدلت لسعادة مماثلة

ما أن نظر لها وقال بحماس وعيناه تبرق كمياه البحر تحت

أشعة الشمس

" ظننت بأنه حلم لا يمكن تحقيقه وأنا أعيش مع تلك العائلة
كخادم لهم لكني الآن أراه سيتحقق وقد أصبح لديا عائلة
ولم أعد اللقيط الوحيد "



وتابع من فوره مبتسماً ينظر لعينيها بفضول

" وأنتِ يا زيزفون ما هو حلمك ؟ "



ماتت ابتسامتها ونظرت للأرض تحت قدميها وجمود غريب

اكتسى نظراتها وكأنها لم تسمعه فقال مجدداً

" ألا حلم لديك ! "


نظرت له وابتسمت تخفي كل تلك المشاعر قائلة

" بلى بات لديا حلم الآن وهو أن أراك طياراً "



تبدلت نظراته للاستغراب وقال

" وماذا عنك أنتِ لنفسك ؟ "


" لا شيء "


همست بتلك الكلمة ونظراتها الجامدة تعود للأرض تحتها ..

نظرة تبدلت للحزن والأسى ما أن وصلها صوته الحزين

" كيف يكون لا شيء ؟! ألم تفكري يوماً في المستقبل وما
تريدين أن تحققي فيه ! "


اشتدت أصابعها الرقيقة على قماش فستانها الذي يغطي

ركبتيها وخرجت الكلمات من عمق مأساتها وحقدها

قبل حنجرتها

" بلى أريد أن أرى من ترك والدي وجدتي للموت وتركني
هنا يتعذب مثلنا "



حدقت فيها عيناه بحزن وقال

" تقصدين جدنا ؟ "



نظرت له وقالت بحدة

" لا تقل جدنا هو ضرار السلطان فقط وبسببه حدث كل
هذا لك ولي "



لاذ كلاهما بالصمت وكانت نظراته الحائرة تنتقل بين عينيها

المدججة بالغضب والحقد والألم حتى ظهر على أنفاسها

التي باتت تخرج قوية متعاقبة وقال باستغراب

" لما تكرهين هذا المكان ومنزلنا يا زيزفون ؟ والدتي
تحبنا كثيراً "


لم تجب ولم تتحدث ولم ينتظر هو ذلك وقد همس بحزن

يبعد نظره عنها للفراغ أمامه

" أنتِ لم تعرفي معنى أن لا يكون لك عائلة "


أبعدت نظرها عنه أيضاً لكن للأرض تحتها وامتلأت عيناها

بدموع القهر وازداد اشتداد قبضتيها حول ركبتيها تخفي

انفعالها وارتجافهما ولم تتحدث لأنه لا يمكنها قول الحقيقة

كانت أسئلة منطقية تمنت لو لم يعرف أجوبتها يوماً ولم

يعرفها أبداً لتدمر طفولته ومستقبله مثلها فهي كانت تشعر

بعذابه طوال السنوات الماضية كما كانت تشعر بتعذيبه

لنفسه ليلاً .
أغمضت عينيها وسالت دمعة وحيدة من طرف إحداها

مروراً بالأخرى تشعر بها تحرق حاضرها ومستقبلها

متسللة من ماضيها الأسود فلم تشعر يوماً بالراحة

والسكينة لأنه لم يشعر بها وتعلم جيداً بأنه عليهما أن

يسعدا كليهما معاً أو لن يحدث ذلك أبداً وأحدهما

يتألم ويتعذب .


جلست تجمع شعرها عند جانب واحد من كتفيها ومسحت

عينيها بحركة قوية سريعة وغادرت السرير بل والغرفة

بأكملها تمسك دفترها في يدها فتذكر تلك الأمور لن ينفعهما

في شيء ، تؤمن بذلك بل وتطبقه دائماً فهي لم تخسر

شقيقها بعد بل وموقنة من أن محاولة قتله تحمل سراً كبيراً

وهذا ما كانت تشعر بأنه يحاول إيصاله لها أي أنه لم يفقد

صلته بما حوله بعد ولم يمت دماغياً وثمة أمل .


توجهت نحو الستائر التي كانت تغطي الواجهة الزجاجية

الكبيرة كنافذة محمية لا قفل لها ولا مقبض وسحبته بيدها

بقوة وعمّ النور القوي المكان يتسلل له عبر خيوط أشعة

الشمس الدافئة وما أن استدارت مولية ظهرها له وتقدمت

خطواتها قليلاً وقفت مكانها تنظر تحت قدميها الحافيتان

حين شعرت بشيء غريب على بشرتهما وتراجعت للخلف

خطوة تنظر بعينين متسعتين للتراب الرمادي اللون الذي

كان يغطي الأرضية البيضاء اللامعة بطبقة رقيقة فوقها

وارتجفت يداها وسقط الدفتر منها للأرض ويدها الأخرى

ترتفع لا شعورياً لعنقها ولآثار الخدوش فيه وأغمضت

عينيها وتقطعت أنفاسها مع ارتجاف جسدها تشعر بما

حدث وكأنه الآن .


انتفض جسدها والتصقت بالجدار خلفها مفزوعة تنظر لباب

الجناح وسبب الصوت الذي أرعبها فوق ذعرها لتوقعها

إياه في مكان آخر وكان وقاص الذي وقف مكانه دون أن

يتحرك نحو الداخل ينظر لعينيها باستغراب ولنظرة الخوف

فيهما .. نظرة لم يراها أو يعرفها فيهما سابقاً ولا ليلة

مقتل نجيب وحين طلبت منه نقلها إلى هنا ! بل لم يتوقع أن

يراها في تلك العينين ولا الملامح أبداً فلم يعرفها إلا قوية

لا مبالية باردة وساخرة !!


تقدمت خطواته نحو الداخل ونظراته لم تفارقها تتنقل بين

عينيها ويدها الممسكة بجانب عنقها وما أن وقف على بعد

خطوات فقط منها همست وأنفاسها لم تنتظم بعد كما لم

تزل يدها عن عنقها

" لم تنم هنا البارحة ؟ "


اضطربت ضربات قلبه لا شعورياً بسبب وضعها ذاك

ومشاعره التي فقد السيطرة عليها تماماً وقال بتوجس

" لا .. جئت للتو ! "



وكان جوابه ذاك ما جعل الخوف والتوتر يتحكمان

بإنفعالاتها أكثر وإن أخفت كل ذلك بانحنائها لرفع دفترها

من الأرض لكن ذلك لم يقنع الذي قال ما أن استوت واقفة

" ماذا حدث يا زيزفون ؟ ما بك ! "


" لا شيء "


همست بتلك الكلمة وهي تتوجه ناحية غرفتها لكنها توقفت

عند بابها لبرهة قبل أن تستدير نحو الواقف مكانه ونظراته

تتبعها وقد نظر لعينيها التي لازال يعجز عن فهم تلك

النظرة فيهما وكأنها تقاوم ذعرها من شيء ما ! وما يقتله

وموقن منه بأنها إن رفضت التحدث فلن يجبرها على ذلك

ومهما حاول ، كان يتوقع بل وينتظر أن تدخل وتغلق بابها

في وجهه ككل مرة لتصفع قلبه وواقعهما به لكنها خانت

جميع توقعاته تلك حين تحركت شفتاها ورحمته أخيراً وإن

بكلمات مترددة منخفضة

" أنا ... أنا لا أريد البقاء هنا "

حدق فيها باستغراب فهي من طلبت هذا سابقاً وأصرت

عليه تغير رأيها فجأة ! اقتربت خطواته منها وقال

والاستغراب لم يغادر ملامحه بعد

" لا تريدين البقاء في جناحك هنا ؟! "


وما أن وقف أمامها مباشرة نظراته المستفهمة لم تترك

عيناها قالت ونظراتها تراقب عينيه بترقب وكأنها تبحث

عن الرفض فيهما

" بل في القصر بأكمله "



وكان رد فعله المبدئي أن حدق فيها بذهول وتجمدت

ملامحه وكأنه تحول للوحة زيتية معلقة على الجدار وقال

ما أن استفاق من صدمته هامساً

" من القصر !! "



وتذكر فجأة الحالة التي وجدها عليها وقت دخوله وذاك ما

جعله يتقمص دور التمثال الحجري فعلياً وكأنه يحاول

البحث والتفتيش عن جميع تلك الأسئلة في عينيها ، وكانت

المفاجأة الأكبر له أن استدارت ناحية غرفتها مجدداً وكأنها

فهمت رفضه دون أن يتحدث أو هكذا فهم هو فتحركت

أطرافه حينها قبل حواسه وأوقفها ممسكاً يدها وأدارها

نحوه قائلاً

" زيزفون ماذا حدث ؟! "




لم يحصل على جواب ما أراد منها بل قالت بكلمات جادة

منخفضة تنظر لعينيه


" أنت وعدتني عند شاطئ البحر بأن تحقق لي طلبي
ومهما كان وكان هذا طلبي حينها وأنت وافقت إن
كنت تذكر "




يذكر بالتأكيد وكيف ينسى تلك الليلة وتلك اللحظات ؟ بل هو

لم ينسى شيئاً ولا كلمة قالاها منذ عرفها كما يذكر بأنه

استغرب حينها أن كان طلبها بأن يُخرجها من هنا حين

تطلب هذا وهو وافق ووعدها لكنه اعتقد بأنه نوع من

التعجيز منها لعلمها بأن جده يمنع عنهم شراء العقارات

والسكن في غير هذا القصر ولا بشكل مؤقت وهو انصاع

لأوامره طوال السنوات الماضية بالرغم من تنقله بين لندن

ومكتبه هنا وعودته متأخراً أغلب الأوقات لكن أن تكون

كلماتها تلك نابعة عن حقيقة وستطالبه بها يوماً فهذا ما لم

يتوقعه ! قال بجدية ينظر لعينيها

" بلى أذكر جيداً "


قالت من فورها

" حقق لي هذا الآن ... "



ولاذت بالصمت لبرهة وكأنها تقاطع نفسها وتعالت ضربات

قلبه ما أن تابعت بتأني

" فوحدك من يرضى بمساعدتي "


لو كان الأمر بيده ولولا حظه السيء والذي لم يبتسم له

يوماً لكان حضنها الآن بل وحلق بها عالياً يصرخ بسعادة

بدلاً من محاربة نفسه ومقاومتها فحتى السعادة التي داعبت

روحه لسماع هذا منها ولأول مرة لم يستطع أن يظهرها

وإن كان موقناً بأنه لم تخفيها عينيه اللتان لمعتا بالسعادة

التي غمرت قلبه وأخفاها لسانه ، سعادة سرعان ما انطفأت

وتلاشت كأحلامه جميعها وهو يتذكر حديث جده البارحة

وما جعله يقضي الليل خارجاً في سيارته كعادته كلما ضاق

الخناق عليه وقرر الهرب من كل ما يُذكّره بواقعه وتذكر

العقبة الجديدة والتي وضعها ذاك الجد في طريقه لتحول

بينه وبين كل هذا ، وذاك ما لم تخفيه عيناه أيضاً ويبدو

أنها قرأته جيداً كما يعلم حدة ذكائها وبأنها ستفهم الأمر

سريعاً كما حدث في المرة الماضية حين لجأت إليه .

وكان ذاك ما جعلها تخطو للخلف خطوة واحدة حينها وما

كان يراه في عينيها ويفهمه جيداً وهو الشعور بالخذلان

فأمسكت يداه بذراعيها قبل أن تفكر في الابتعاد عنه

بل وفي تأكيد أفكارها تلك وقال بجدية

" سأفعل كل ما تريدين يا زيزفون "


وتابع من فوره وهو يرى نظرة التفكير في عينيها

" سأفعلها وإن لم تطلبيها سابقاً ولم أعدك بها ..
سأفعل كل شيء لأجلك "




سمع كثيراً عن أن القلب يرقص فرحاً لكنه لم يعرف ذلك إلا

لحظتها وما أن ابتسمت له ابتسامة لم يعرفها في شفتيها

سابقاً وتخصه بها ! ابتسامة سرعان ما سرقتها منه وهي

تستدير نحو غرفتها لتتركه يتلاطم في مشاعره فتمنحه

الحياة في لحظة ثم تعود وتسلبها منه مبتعدة لتأخذ

روحه معها .


" لا تغادر من هنا "



كان ذاك فقط ما قالته وهي تغلق باب الغرفة مسرعة

وتركته واقفاً أمامه ومواجهاً لنظراته المستغربة فهي رمته

في دوامة طويلة من التساؤلات والأسئلة التي لا يجد لها

أي أجوبة لتضاعف من صعوبة مهمته !

غرس أصابعه في شعره يشده للخلف وتنفس نفساً عميقاً

يرفع رأسه للأعلى وتمتم بأسى

" ساعدني يا رب لأساعدها فأنا وحيد في هذه المعركة "


*
*
*
ما أن غادر مكتب الطبيب كانت وجهته المكان الذي جاء

منه قبل قليل وكان صوت خطوات حذائه على الأرضية

الرخامية يشبه نقر الأفكار في رأسه وكأنه مسمار طويل يتم

ضربه في قطعة خشب قاسية وتمنى أن كان يملك شيئاً

يفعله غير ذلك لكنه عاجز حاله حال أي شخص غيره فما

الذي قد يفعله يوقف كل هذا ؟



حين وصل ممر غرفتها ظهر له الواقف مكانه حتى الآن

ووحيداً هناك وقد نظر له بدوره فتباطأت خطواته كما توقف

عن الشعور بها في رأسه لأن أفكاره كما يبدو اتبعت منحى

آخر وإن كانت تصب في الأمر ذاته .



توقف أمامه مباشرة ونظراته بحثت حوله في حركة لا

شعورية وقال

" أين هي المرأة التي كانت هنا ومن تكون ؟ "


وكان ذاك بمثابة زر التشغيل للذي أشاح بوجهه جانباً

وقال بضيق

" لا تسألني عنها فلن أتحمل مسئولية مختلة مثلها
وليغضب مطر كيف يشاء "



نظر له رعد باستغراب ولم يفهم ما علاقة مطر ولما هي

هنا وما الرابط بينها وبين مبنى المحكمة الذي جاؤوا

منه ! لكنه لم يجد الفرصة المناسبة للسؤال أكثر لأن

الواقف أمامه تملص من ذلك بما معناه لا تسأل مجدداً

وقد قال ما أن عاد بنظره له

" هل غادرت تيما ؟ "


أومأ برأسه وهمس ونظره ينتقل نحو النائمة خلف

الجدار الزجاجي

" أجل مع الكاسر "


كانت نظراته تراقبها في صمت بالرغم من أن داخله لا

يشبه ذلك البتة وذاك ما جعله يهرب بنظره بعيداً عنها وعاد

ونظر للواقف أمامه ما أن طال صمته وقال ببعض التردد

" لم تسأل ما الذي حدث في المحاكمة ! "


كان رد فعله المبدئي ابتسامة ساخرة وقبل أن يتمتم ببرود

" ومن سأسأل ؟ "



تنهد نفساً عميقاً وقال

" تبدو لي مستاءً ؟! "


كان رعد يستشعر سابقاً بروداً في علاقته معه لم يفهمه

بالرغم من أنه لم يبدر منه أي تصرف سيء حياله لكنه

يشعر بأنه ثمة فجوة بينهما وبأنه يضع مسافة تعيق اتجاه

علاقتهما نحو المصاهرة وإن لم تكن برابط دم ولطالما

احترم ذلك ولم يبدي نحوه أي نوع من العداء أو الاستياء

لكنه يرى الآن أن الأمر مختلفاً تماماً وتأكد من ذلك ما أن

أبعد نظره عنه متأففاً وقال بضيق

" رأسي سينفجر بسبب تلك المعلولة نفسياً "




وكان ذاك بمثابة لغز جديد جعله يحدق فيه بتساؤل وإن كان

لا ينظر له وقرر عدم السؤال هذه المرة فالأمر فيه امرأة

لا تربطه بها صله وعليه احترام ذلك فاتجه للسبب الثاني

لوجوده هنا وقال وهو يطيل النظر له

" القضية سقطت يا قاسم "



جعلته كلماته تلك ينظر لعينيه لكن نظرته كانت تتسم

بالجمود التام ولم يستطع قراءة أي شيء فيها ، وأتاه

تفسير ذلك ما أن تمتم بجمود

" توقعت هذا "



أومأ برأسه في صمت متنهداً فهو كان يتوقع ذلك بالفعل أو

واثق منه ويحار فعلياً في نوع العلاقة التي تربط مطر


شاهين برجاله ! وكل يوم يتضح له أمور كان يجهلها

واليوم تحديداً علم بأنها علاقة فريدة من نوعها ومميزة

عن أي نوع مشابه وتأكد بأنهم رجال ينظرون لقائدهم نظرة

القلب للعقل ، اشتدت أصابع يمناه في حركة لا شعورية

ولازال يحدق في عينيه التي شردت ناحية النائمة في

الداخل وكأنه يربط المعلومة بالواقع أمامه وقال بترقب

" لكن ليس هذا هو الأسوأ وما جعل حالتها تصل لهذا "


نظر ناحيته بحركة سريعة حينها وقال مباشرة

وبتوجس كبير

" ماذا حدث ؟ "


حاول أن يهرب من عينيه لكنه لم يفلح وازداد شد أصابع

قبضته أكثر وكأنه يعتصر قلبه بينها بل تمنى خنقهم بها

وقد قال أخيراً ورحم نفسه قبله

" وصلت أوراق القضية لأبناء غيلوان وعلموا بأنهما
ابنة وحفيدة دجى الحالك "




كل شيء توقعه منه حينها إلا هجومه الجسدي نحوه وهو

يشد ياقة سترته صارخاً

" ما هذا الذي تقوله يا ابن شراع ؟ "


أمسك بقبضته تلك ونزعها عنه بالقوة قائلاً بضيق

" أنا أتفهم تفاجأك بالأمر لكن لا أقبل أن تهينني "


كان رد فعله الصمت التام بينما كانت أوردة نحره نافرة

وعضلات فكيه تنبض وكأنه يكتم إعصاراً قوياً بداخله ولن

يستغرب هذا وأن يكون تأثير الصدمة عليه قوياً هكذا ،

بينما كانت نظراته معاكسة لذلك تماماً فكانت عيناه

كالضائع المشتت والمفجوع في ذات الوقت ولم يكن يعلم

بأنها تترجم أفكار عقله حينها وهو يستجلب تصرف تيما

الأخير معه ويربطه بما علم منه الآن وما حدث وتحركت

شفتاه أخيراً وإن خرجت الكلمات منها ميتة تائهة

" لم يخبرني بالأمر ؟! "


كان تعليق رعد المبدئي الصمت وقبل أن يقول بشيء

من الهدوء

" لو فعلها حينها ما كنتَ لتأتي إلى هنا وتكون معهن .. هو
يعلم ذلك جيداً "



أبعد نظره عنه وبدأت نظراته تتشتت في المكان حوله وكأنه

وجد نفسه في صحراء خالية وحيداً يحاول فهم واستيعاب

أين يكون بينما كان وكأن كل وريد في جسده سينفجر

بالدماء فجأة فقال رعد الذي كان يفهم جيداً ما يعانيه حينها

وبذات نبرته الهادئة

" يمكنك المغادرة سأبقى هنا بقربها "



نظر لعينيه بصمت وكأنه لم يغادر تنويم الصدمة له حتى

الآن فتابع مؤكداً ومشجعاً لأنه يعلم بأن عقله الباطن

سيرفض تلقائياً مخالفة أوامر زعيمه

" جميع رجاله لحقوا به لأنه عاد للمحكمة ومن الأفضل
أن تكون معهم أيضاً "



وكما توقع كان ذاك ما جعله يتحرر من جميع القيود التي

كانت تكبل عقله قبل ساقيه وغادر بخطوات مسرعة بل

وشبه راكضة يُخرج هاتفه من جيبه ونظراته تراقبه حتى

احتفى واطلق حينها تنهيدة خافتة تحاكي قلة حيلتة وتوجه

لباب الغرفة أمسك مقبضه وأداره ببطء وهو يفتحه وكأنه

يخشى إزعاج التي لا تعلم عمّا يحدث حولها شيئاً وإن

أسقط الباب بركلاته القوية .



أغلقه خلفه وتوجه نحوها وجلس على الكرسي قرب

سريرها وعيناه ملتصقتان بملامحها الفاتنة المتعبة ..

شفتاها جافة ووجنتاها المتوهجتان تنام عليها رموشها

الطويلة دون حراك واعتصر الألم قلبه فهذه هي وصية

والده والاسم الذي لم يتوقف عن ذكره قبل أن يموت ..

ليس أحد أبنائه ولا شقيقته الوحيدة ولا حتى حفيده الوحيد

وابن ابنه المتوفى بل هي فقط من أوصاه عليها مراراً

وتكراراً وكل ما يخشاه هو الوقوف أمامه يوم الحساب وقد

خان أمانته وتخاذل ناحيتها .



اشتدت قبضتاه فوق ركبتيه بقوة وشعر بالغضب من نفسه

والعجز ذات الوقت فهو أمّنه على ما لا يمكن تأمينه لأنه

كان دائماً في المرتبة الثالثة بعد زوجها ووالدها الحقيقي ،

بل وجميعهم كانوا خلف استقلاليتها فهي لم ترضى يوماً

بأن يكون ثمة شخص وصي عليها تأتمر بأمره بعد

والدها شراع .




انتقلت نظراته الحزينة ليدها المستقرة بجانب جسدها

ولأصابعها البيضاء الشاحبة المرتخية ومد يده نحوها بتردد

فهم ومنذ أن عرفوا حقيقة أنها ليست شقيقتهم كان ثمة

حاجز ديني قوي بينهم لطالما حافظت هي عليه واحترمه

هو بالرغم من أنه لم ولن يراها إلا شقيقته ، لامست

أصابعه نعومة يدها واشتدت عليها وعيناه تعود لملامحها

وقال بصوت حزين كئيب

" سامحيني يا غسق وليسامحني والدي فلم أكن يوماً الكفؤ
لتحمل الأمانة "



تركت يده يدها بحركة سريعة ووقف على طوله ما أن انفتح

باب الغرفة ووقفت الممرضة التي ابتسمت له من فورها

وعلم بأنها ستكون من تحدث عنها مدير المستشفى

لتلازمها ، نظر للنائمة مكانها لا تعلم عن شيء مما يحدث

حولها قبل أن ينظر لها مجدداً وقال

" أزيلي الأجهزة والمغذي عنها "


ماتت ابتسامة الشابة الجميلة فجأة وظهر التوتر واضحاً

على ملامحها كما صوتها حين قالت


" لا يمكنني فعل ذلك لأن ... "



قاطعها سريعاً وبحزم

" لن يعترض أحد افعلي فقط ما أطلبه منك "


شدت يديها ببعضهما وظهر الخوف واضحاً على

ملامحها وقالت

" أعذرني سيدي لا يمكنني تحمل مسئولية هذا "



تنهد بنفاذ صبر وقال

" لن يُحملك أحد المسئولية "


قالت سريعاً وبرجاء

" بلى ذاك ما سيحدث وسأخسر عملي سيدي أرجوك
لا يمكنني هذا "



قال من فوره وبجدية

" ثقي بي وإن حدث هذا فسأوفر لك عملاً آخر
وأفضل منه "


تبدل التوتر والخوف في ملامحها للتردد لكن ولعلمها من

يكون وما يستطيع فعله انصاعت نهاية الأمر وتوجهت

نحوها وفعلت ما أمرها به كما أعادت لف حجابها بإحكام

وما أن انتهت ابتعدت عن السرير خطوة واحدة فانحنى

نحوها ودس يديه تحت جسدها ببطء ورفعها برفق وخفة

وسار بها نحو باب الغرفة يخفي وجهها وملامحها في كتفه

وصدره وما أن اجتازه نحو الخارج أشار برأسه للحرس

الواقفين بعيداً والذين اقتربوا منه سريعاً واستدار نحو

المرضة التي خرجت من خلفه وقال

" أوصليني لباب الطوارئ "


*
*
*

مرت دقائق قليلة لم يشعر بها أبداً قبل أن ينفتح الباب

مجدداً وخرجت التي باتت ترتدي بلوزة بيضاء ناصعة

مطرزة عند ذراعها وكتفها بأزهار حمراء وأوراق خضراء

متداخلة ولها أزرار شفافة لامعة وبنطلون أسود من قماش

فاخر يتخلله حزام عريض وقد جمعت شعرها للخلف في

جديلة منخفضة تمسكه بمشبك مطاطي خلف عنقها ، نظر

لعينيها ورفع يديه جانباً وقال مبتسماً

" مؤكد حالتي يرثى لها لذلك عليا أن أستحم وأبدل ثيابي "



" سأكون معك "


قالتها مباشرة وبجمود بل وثقة مما جعل عيناه تتسع وهو

يحدق بها فتمتمت ببرود

" لما تنظر إليا هكذا ؟ "


لم يستطع إمساك ضحكته التي ملأت المكان يرفع رأسه

عالياً وذاك ما جعل مزاجها يتبدل للضيق وقالت

" ما المضحك في الأمر ؟ "

نظر لها وقد قطع ضحكه يجاهد نفسه بالقوة وقال

" أخشى إن أخبرتك يتغير رأيك في الرحيل من هنا "

لم يغادر الاستياء ملامحها الجميلة كما صوتها حين قالت

" هذا ليس وقت المزاح يا وقاص وأنا لن أغير رأيي"


فرد يديه وقال مبتسماً

" لم تتركي لي خياراً غير المزاح "



وتابع من فوره وابتسامة جانبية تزين شفتيه

" أنتِ لا تعلمين تبعات ما سنفعله يا زيزفون لذلك ... "



قاطعته وكأنها لا تهتم لما يقول أو تعلمه سلفاً قائلة ببرود

تكتف ذراعيها لصدرها

" لا أظنك تهتم لو فقدت هذا المكان أم أنك تخشى فقدان
شيء آخر "



حدق فيها باستغراب وقال

" شيء آخر مثل ماذا ؟ "



أشاحت بوجهها جانباً ولازالت تكتف ذراعيها لصدرها

وتمتمت ببرود

" أخشى إن تحدثت تغير أنت رأيك "



أمسكت أصابعه بذقنها وأدار وجهها ناحيته حتى نظرت

لعينيه وتركه حينها قائلاً بجدية

" أعلم بأنك أبعد الناس عن المزاح يا زيزفون لكنك لا
تعرفينني أيضاً وإن قلت أمراً لن أتراجع عنه "




لاذت بالصمت لبرهة تنظر لعينيه قبل أن تتحرك شفتاها

قائلة بجمود

" أنا مغادرة في جميع الأحوال وإن قفزت من سياج
سور القصر "

كان رد فعله المبدئي أن حرك رأسه مبتسماً ينفي اقتناعه

بالفكرة وقبل أن يقول

" أعلم بأنك أذكى من أن تفكري في فعلها وأنتِ لا تملكين
نقوداً ولا هاتفاً ولا أحد تذهبين إليه "



وما أن كانت ستتحدث سبقها قائلاً بجدية ويداه

تمسك بذراعيها

" زيزفون أنا قلت بأني على استعداد لمساعدتك وسأفعل
هذا لآخر يوم لي في هذه الحياة ولن أتركك أبداً "


كان ينظر لعينيها بتصميم تؤكد عيناه كل كلمة يقولها وذاك

ما كان يريد إيصاله لها وما فهمته تماماً فقالت بتأني

تنظر لعينيه

" أريد أن أبتعد عن هنا فقط وحيث لا يعلم أحد "



تنهد نفساً عميقاً يبعد يديه عنها وحرك رأسه بأسى قائلاً

" لو أنك تنطقين فقط يا ابنة عمي الوحيد "



قابلت كلماته تلك بالبرود وقالت وهي تبعد نظرها عنه

" هيا اذهب وأقنع زوجتك بسبب تركك للمكان سأنتظرك
في الأسفل لن أبقى هنا "


حدق فيها بصمت لبرهة بل وضيّق عينيه وإن كانت لا تراه

إن كان لا يعرفها جيداً لفهم الأمر بشكل آخر لن يحلم به

مع هذه المرأة .. لكن لما تفعلها ! هل تستفزه مثلاً ؟

أمال شفتيه بطريقة رجولية أنيقة تشبه شخصيته وهو يقول

" ومن قال بأني سأترك القصر ؟ "



نظرت له حينها وقالت والبرود لم يغادر صوتها بعد

" لأني أعرفك جيداً كما أعرف جدك "



ابتسم بسخرية وأولاها ظهره وهو يبتعد قائلاً

" لا يعنيني ما سيقول فالقضية في يدي والقبض عليك
لن يكون إلا بقرار مني "


وتوقف فجأة بعد عدة خطوات واستدار نحوها يدس يده في

جيبه وأخرج شيئاً رماه نحوها قائلاً

" خذي مفتاح السيارة إن كنتِ تريدين انتظاري فيها "



التقطته بسهولة لوصوله عندها تماماً بينما راقبته عيناها

وهو يبتعد متمتماً

" سأنزل سريعاً "


واختفى خلف باب الجناح المفتوح فنظرت له في يدها وكان

مفتاح واحد لا شيء معه سوى جهاز الإنذار الخاص

بالسيارة ، حدقت فيه بصمت لبرهة قبل أن ترفع نظرها

ناحية الجدار المقابل لها بعيداً وارتجف جسدها لا شعورياً

وانقبضت أصابعها على حديده البارد وضمتها لصدرها

الذي بدأت أنفاسه تتوتر وأبعدت نظرها سريعاً عنه

وتوجهت خطواتها نحو باب الجناح ترفض البقاء هنا لدقيقة

أخرى فعليها الخروج من هذا المكان ولا سبيل آخر أمامها .



ما أن نزلت السلالم الخاص بالطابق الذي تسكنه توجهت

للسلالم المؤدي للأسفل حتى كانت في البهو الواسع ووقفت

في الجهة الأقرب للباب تراقب نظراتها المكان حولها كمن

لا شيء أمامه يفعله غيره قبل أن تنتبه للباب الضخم الذي

فُتح جانباً قرب السلالم وتبدلت نظراتها للجمود القاتل تنظر

لعيني الذي خرج من مكتبه ووقف ينظر لها ، كان كل

واحد منهما وكأنه ينظر لعينيه في المرآة لقوة تشابه تلك

النظرة وكأن كلاهما يرسل رسالته في صمت وعناد .



نظرة لم يقطعها سوى انحراف الأحداق الزرقاء ناحية

السلالم بسبب الذي ظهر فجأة ينزل عتباتها بحركة سريعة

وكان وقاص الذي تبدلت ثيابه بأخرى مشابهة لها في اللون

وإن اختلفت في التفاصيل كما برق شعره الرطب المصفف

تحت أنوار الثريا الضخمة المعلقة أعلاه بينما كان نظره

كما تركيزه على الأوراق التي كان يقلبها بين يديه وكأنه

يتأكد منها في أقصر وقت ممكن حتى كان أسفل السلالم

وتباطأت خطواته حينها وما أن وقع نظره على جده والذي

بات ينظر له أيضاً وعاقداً حاجبيه فعلم بأنه ربط الأمور

سريعاً بوقوفها هناك ونزوله ، وكل ما فعله حينها أن تابع

طريقه وبعد أن تمتم ببرود

" صباح الخير "


وتركه وراءه فلم ينسى بعد ليلة البارحة كما لم تسمح له

نفسه بتجاهله دون أن يلقي عليه التحية ، ويعلم جيداً أي

غضب أسود ينتظره منه ما أن يعلم بما ينوي فعله لكنه لن

يتراجع ولن يفعلها مجدداً ويخسر ثقتها به كما فعل سابقاً

وللسبب ذاته وهو إطاعة جده وإن من أجلها وكانت

النتيجة أن فقد فرصته الوحيدة التي منحته إياها في اللحظة

الوحيدة التي شعرت فيها بالوحدة والضعف ولجأت إليه

وهو خذلها لذلك لن تتكرر تلك الأخطاء وتحت أي سببٍ

كان خاصة بعد حديثهم البارحة ونيتهم نحوها فقرار

ابتعادها بات مسلماً به وكان سيفعلها وإن لم تطلب منه

ذلك فلن يسمح بإرجاعها للمصح وها هي اختصرت عليه

الطريق وإجبارها على الذهاب معه .


ما أن وقف أمامها وكان سيتحدث قاطعه الصوت الجاد

العميق من خلفه

" أين تذهب بها ؟ "


نظر لعينيها أولاً وللنظرة التي لم تحمل أي تعبير فيهما

سوى النظر لعينيه وبصمت وهو من توقع أن ترميه بنظرة

تحدي كعادتها في المواقف المشابهة ! فهل تخشى أن يغير

رأيه ويخضع له ؟!


أمال جانب وجهه ليصير مقابلاً له خلفه وقال بجمود

" لمبنى النيابة العامة "


كان ذاك فقط ما قاله ويده تلامس ظهرها وخرج بها من

هناك لم يفكر ولا في النظر خلفه وأراحه أنه لم يسمع أي

اعتراض منه وإن لم يكن يعلم مدى رضاه عن الأمر

وتقبله له ومؤكد سيفهم بأنه يأخذها إلى هناك من أجل

القضية وسيرجعها ، وهذا أفضل بالنسبة له فليس هذا

الوقت المناسب للمواجهة خاصة في وجودها .


ما أن وصلا السيارة مدت مفتاحها له فأخذه منها ونظر

لعينيها ما أن قالت

" لما أخبرته بأننا ذاهبان إلى هناك ؟ "


حرك جهاز الإنذار بين أصابعه وعلا صوته المتكرر مرتين

متتابعتين مع إضاءة أنوارها الخلفية الحمراء وتحرك

مجتازاً إياها ليفتح الباب لها متمتماً

" لأنها الحقيقة "


ووقف هناك ومقبض الباب المفتوح لازال في يده ينظر لها

حتى تحركت نحوه ووقفت أمامه تنظر لعينيه وكأنها تنتظر

شرحه وتبريره فقال

" لا يمكننا الذهاب لأي مكان غيره الآن فثمة أعمال
تنتظرني وعليك تحمل هذا قليلاً فقط "


اومأت برأسها في صمت وركبت السيارة فأغلق الباب

وتحرك حولها بخطوات مسرعة وركبها وغادرا فلا يمكنه

التأخر أكثر من ذلك وسيجد حلاً لكل هذا فيما بعد .


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 28-01-22, 09:37 PM   المشاركة رقم: 1673
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,164
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

اقتربت من زجاج باب الشرفة اللامع ووقفت ملتصقة به

تحضن نفسها بيديها واتكأت بجبينها عليه تنظر للمرجة

الخضراء الممتدة على طول النظر بشرود حزين وهذا حالها

منذ صعدت بعد مقابلة سيد المكان تدور في الغرفة المغلقة

كدوران أفكارها في رأسها لعلها تجبره على التشبع بواقعها

الجديد والاقتناع به ، وهذا ما عليها فعله بالتأكيد مثلما

عليها أن تنزع ثوب تعلقها بالأحلام القديمة كما ماضيها

وذكرياتها .


لمعت عيناها بحزن ودموع دافئة تلسعهما وهي تتذكر بلدة

حجور .. المكان الذي تعلق قلبها به دائماً فكيف لها أن

تنسى وتنزعها منه ؟ كيف تقنعه بنسيان ما عاشت سنوات

عمرها بأكملها على أمل العودة إليه تواسي نفسها

بذكرياتها فيها وبلقائه مجدداً وبأن ذاك الفتى لازال موجوداً

وإن هجرها منذ أعوام طويلة ؟ عاشت على الأمل على

الذكريات وعلى رباط يجمعهما ليس سوى حبر على أوراق


قديمة تتجدد كل أربعة أعوام لتعلم من خلالها بأنه موجود

ولم ينسى وجودها بعد .. حلم لم تكن تعلم بأنه ليس لها ولم

تتخيل يوماً أن يُنتزع منها ما أن تحصل عليه لأنه وبكل

بساطة ملك للوطن وليس ملكها .


تدحرجت دمعتها من طرف رموشها ما أن وصلت لتلك

الفكرة بل الحقيقة القاسية والأكيدة مهما تناستها وتهربت

منها فعند تلك النقطة تختفي ماريه وتنتهي وليس لها الحق

في أن تعترض فكم هي قاسية ومؤلمة حياة نساء

رجال الوطن .



ابتعدت عن الزجاج البارد تمسح عيناها بحركة سريعة ما


أن وصلها صوت الطرق على الباب خلفها تلاه حركة

مقبضه الدائري واستدارت نحوه ما أن انفتح ببطء وظهر

لها وجه إيريكا الباسم والتي تقدمت نحو الداخل خطوتين

قائلة

" الغداء جاهز سيدتي .. إن أردتِ جلبته إلى هنا "


حاولت رسم ابتسامة صادقة وهي تقول

" شكرا لك إيريكا لا أشعر بالجوع "


اختفت ابتسامتها وقالت باستغراب

" كيف يكون هذا فأنتِ لم تتناولي طعام الفطور ! "

ولم تنتظر تعليقها وهي تتابع وابتسامتها الجميلة تداعب

شفتيها مجدداً

" سأجهز المائدة وما أن تستنشقي رائحة الطعام اللذيذ
وتريه لن تقاوميه "


وجمعت كفيها وهي تتابع بحماس باسم

" أنتِ لم تتذوقي الطعام الذي يكون مزيجاً بين الإيطالي
والمكسيكي والإنجليزي ستقعين في حبه سريعاً "




ابتسمت مندهشة وقالت

" يبدو الأمر يستحق التجربة "


قالت تلك من فورها

" بالتأكيد فالسيد غاستوني .. أوه "


تأوهت ضاحكة وانقطعت كلماتها بسبب القطة التي مرت من

بين قدميها متجهة نحو ماريه مباشرة والتي جلست على

الأرض مبتسمة لاستقبالها وقد صعدت لحضنها من فورها

ورفعت رأسها تنظر لها بعينيها الكبيرة المستديرة ، كانت

من نوع نادر من القطط الاسكتلندية لها أذنان مطوية نحو

الأسفل وجه مستدير وعينان كبيرة جميلة وفراء أبيض

كثيف جعلت مشاعرها تتشبع بالسعادة ويدها تمسح عليها

وتغوص أصابعها في فرائها الناعم النظيف وهمست بحب

مبتسمة تنظر لها

" كم هي جميلة "


قالت التي تقدمت نحوهما مبتسمة وقد مدت يديها لها

" أجل وتنسجم مع الغرباء سريعاً .. هيا تعالي يا ﻟﻮﺑﻴﺘﺎ
لن نزعج الآنسة ماري الآن "


لكن القطة الجميلة كان لها رأي آخر كما يبدو وهي تتكور

في حضنها فمسحت يدها عليها وقالت مبتسمة

" اسمها جميل وغريب ! "



أبعدت الخادمة يديها واستوت واقفة وقالت بضحكة

" أجل هو اسم مكسيكي يُطلق على النساء وليس القطط "


رفعت نظرها لها مستغربة وقد تابعت مبتسمة

" إنها قطة السيد فاليريو وقد أحضرها معه ويحبها كثيراً
كما أنها متعلقة به "


لم تعلق بل نظرت لها مجدداً وهي تقف وقد ابتعدت عنها

وتوجهت ناحية الطاولة قرب السرير ورفعت قدميها

الأماميتان لتقف على الخلفيتان فقط فقالت إيريكا تنظر

ناحيتها مبتسمة

" تفعل هذا عندما ترى شيء تحبه أو يعجبها "



وما أن أنهت كلماتها حتى قفزت القطة أعلى الطاولة وحيث

البيجامة النسائية المطوية والموضوعة مكانها منذ البارحة

ودارت حولها بحركة سريعة قبل أن تدس رأسها فيها مما

جعل ماريه تقفز واقفة وتوجهت نحوها قائلة بفزع

" توقفي هذه ليست لي "


وما أن وصلت عندها كانت القطة قد نامت فوقها متكورة

تخفي وجهها بين قدميها وقماشها الناعم فوقفت مكانها

عاجزة عن التصرف فهي لم تحتك بالقطط سابقاً ولا تعرف

كيف تتصرف هذه الأنواع منها ؟! نظرت ناحية الخادمة

التي اقتربت من القطة تمد يديها لها قائلة

" هيا سأعطيك الطعام الذي تحبينه إنه وقت المغادرة "


وما أن حاولت رفعها حتى برزت مخالبها وأصدرت صوتاً

غاضباً فقالت ماريه مسرعة توقفها

" أتركيها رجاءً سوف تفسد القماش بمخالبها وهي
أمانة لدي "


أبعدت يديها عنها منصاعة وإن كانت نظراتها لها متضايقة

لكنها تركتها وتوجهت نحو الباب قائلة

" إنها مدللة كثيراً .. سأضع لك الطعام سيدتي واتركي
الباب مفتوحاً لتخرج من هنا ما أن تتعب من هذا "



وغادرت المكان نظرات ماريه تتبعها قبل أن تنظر للقطة

الجميلة التي عادت للتكور كما كانت وجلست قربها على

حافة السرير وشعرت بقلبها ينفطر ما أن رأت عينا القطة

التي شردت بحزن وهي تنام برأسها على القماش الفاخر

فهل تعرف هذه القطة صاحبة البيجامة كما تفتقدها !

ملأت الدموع عينيها وهي تراقبها بحزن وتأكدت الآن من

أن صاحبتها متوفاة فكم هو مؤلم التعلق بالأموات حتى على

الحيوانات فكيف بالبشر ؟



امتدت يدها نحوها ومسحت على فرائها الناعم تنظر لها من

بين دموعها وهمست ببحة بكاء خفي

" هل تشتاقين لها ؟ "


كم تمنت لحظتها أن كانت مالكتها على قيد الحياة ولم تصب

ظنونها فهي تعلم الفرق بينهما جيداً وعاشته الآن واقعاً

فشعور الفقد قاسي .. قاسٍ ومؤلم وفكرة أنك لن ترى

أحدهم مجدداً ومهما طالت بك الأعوام لا يمكن ولا مجرد

التفكير فيها فقرار الابتعاد يكون أقل قسوة حين تقف بينه

وبين خيار الفقد الأبدي .


*
*
*

توقفت الضحكات والأحاديث الرجولية المتداخلة ما أن انفتح

باب المكتب على اتساعه وبحركة قوية ملفتة للنظر كاشفاً

عن صاحب الجسد الطويل الذي ملأه يقف منتصب الجسد

يداه في جيبي بنطاله الأسود وتحركت خطواته نحو الداخل

في سكون يجتاح المكان بضجيج خفي رغم صمته وبروده

التام ووصلت كلماته للجميع رغم انخفاض صوته كما

بروده المميت حين قال

" أتركونا لوحدنا "


فتبادل الشبّان نظرات صامتة قبل أن يغادروا الواحد يتبع

الآخر وترك آخرهم الباب مفتوحاً وكأنه يحتج على ذاك

القرار باجتيازه خارجاً منه وقد انغلق بضربة واحدة من

الحذاء الأسود الثقيل مصدراً صوتاً مرتفعاً وتوجه نحو

الذي وقف على طوله حينها فقط ليصبحا متواجهين تماماً

وهمس بنبرة قوية

" صحيح أن ماريا موجودة لديكم ؟ "



كانت نظرات فاليريو ثابتة ساكنة وإن لم تتصف بالعداء إلا

أنه واجه العينان الغاضبة بمشاعر طفت للسطح رغم برود

صاحبها بأخرى مماثلة لها في العزيمة والعناد وخرجت

كلماته بثقة وحزم قائلاً

" أجل ماري في منزل عائلتها ومكانها الصحيح "



كان يتعمد التلفظ باسم ماري وببطء كما آخر كلمة قالها

ليوصل للواقف أمامه رسالة فهمها جيداً بل ووصله معناها

درجة أن تخطى توقعاته ويده تمتد لياقة قميص بذلته

المخصصة بالبحرية الملكية وشده منها بحركة قوية

وأصبح وجهيهما متواجهان وبشكل أكبر الآن حتى كان

يرى صورته في الأحداق السوداء المشتعلة وبالرغم من كل

ذلك لم يفقد ثباته ولا سكونه المشابه لشخصيته المتوازنة

في أغلب انفعالاتها ورغم همس الذي شدت أصابعه على

قماش ياقته أكثر وقد خرجت الكلمات من بين أسنانه

" ليس أنت من يقرر مكانها الصحيح "



كان يشعر بأنفاسه الغاضبة تلفح ملامح وجهه رغم كتمانه

لمشاعره التي هو متأكد بأنه لم يظهرها بأكملها لكان أشعل

المكان ومن فيه لأنه رجل ويفهم نظرات الرجال كما مشاعر

الغضب المكبوت فكيف من شخص مثله ؟.


ارتفعت يده وقبض بأصابعها على قبضته وبقوة يرفض

الإهانة بفعلته تلك كما يتجنب لكمه في معدته والدخول معه

في عراك يعلم بأنه لن يأتي بأي نتيجة غير تفاقم الوضع

بينهما وفي هذا المكان تحديداً بينما خرجت كلماته قوية

جادة وهو يحدق في عينيه بعناد واضح

" بالتأكيد فالقرار كان لماري نفسها "



ما لم يتوقعه حينها هي الابتسامة الساخرة التي ارتسمت

على شفتيه القاسية والتي يشك بأنها تجيد الابتسام بغير

ذلك ولم يفهم سخر منه أم من كلماته تلك حتى أتاه جواب

ذلك وفي كلمات مختصرة واثقة

" حينما أكون أجهلها مثلك الآن سأصدق هذا "



شد على أسنانه ونزع يده عنه بحركة قوية ويعلم بأنه

أطاعه بإرادته لما استطاع فعلها بسهولة هكذا ، سمع عنه

من قبلِ أن يلتقيه وحين تقابلا في منزل الأميرال علم سريعاً

ومن صمته وبروده وحدة ذكاء نظراته أن ما قيل وسمع

عنه ليس سوى القليل لكنه اكتشف اليوم جانب آخر من

شخصيته تلك ويبدو لا يعرفها الكثيرين ورغم ذلك لا يمكنه

استخدامها كنقطة ضعف ضده لأن رد فعله سيكون متهوراً

وهذا ما بات يعلمه جيداً عنه فكان سلاحه الوحيد للانتقام

منه هي ابتسامة ساخرة مماثلة وقال محدقاً في عينيه

" بلى صدّق ذلك وخروجها من هناك لن يكون إلا بطلب
منها أو قرار من عمها الذي يكون والدي "


قال آخر كلماته يشد على كل حرف فيها يذكره بأنه القريب

الوحيد لوالد ماري والمسؤول الأول عنها ، وكان ذاك ما

جعل تمثال الجليد القوي يتحطم كاشفاً عن غضب رجولي

أسود وما أن صرخ في وجهه وسبابته تشير لعينيه بتحدٍ

" بل ستخرج ورغماً عنك وعن الجميع "



انتقلت عدوى الغضب الذكوري في لمح البصر كالعادة

وجعله ذلك يبادله الصراخ الند بالند مغادراً هدوءه أيضاً

ونافضاً يده بحركة غاضبة

" ومن تكون أنت لتقرر هذا ؟ إن كان أمر الوصاية ما تعنيه
وتتبجح به فهي بلغت الثامنة عشرة ومنذ وقت إن نسيت "




ولاذ بالصمت لبرهة يتلقف أنفاسه الغاضبة قبل أن يتابع

بحدة ودون أن يترك له مجالاً ليعلق على ما قال بينما كانت

سبابته هو من توجهت نحوه باتهام هذه المرة

" ولم تنسى بالتأكيد المنظر البشع الذي أخرجتها به
للشارع وإن كانت تنكر أنك السبب لكني لست بتلك السذاجة
وإن علم والدي فلن تتخيل ردة فعله "




صرخ فيه بعنف متجاهلاً كل ما قال وكأنه لم يسمعه

" قلت بأن منزلكم ليس مكانها وستغادره والبلاد أيضاً "


حدق فيه بذهول لبرهة وقبل أن يقول محتجاً بضيق

" تغادر إلى أين ؟ لم تخبرني ماري عن نيتها بهذا
ولن تقرر عنها ... عليك أن تؤمن بهذا أو تجبر عقلك
على تقبله "




جعلته كلماته تلك يعود لإمساك ياقته وهو يدنيه منه بحركة

غاضبة وهمس من بين أسنانه المطبقة بقوة

" لا تجبرني أنت على ما لن يكون في صالحك "



لم تتبدل نظرات فاليريو القوية وإن خرجت كلماته بتأني

وتعقل لازال يكبح جماح غضبه كما لازال يتجنب الشجار

الفعلي معه

" بل لن يكون في صالحك أنت وكلانا ضابط بحرية الآن
ولن أذكرك بمغبة التعدي على ابن غستوني مديتشي "


ترك ياقته بنفسه هذه المرة وبحركة قوية قائلاً بحدة

" لست أخافك ولا والدك معك "



عدّل ياقته بحركة قوية حانقة بينما خرجت كلماته

حادة متضايقة

" أعلم من تكون جيداً وإن كنت تتعمد تجاهل معرفتي
ونتيجة التعدي عليّا وعلى اسم عائلة مديتشي لكني
لازلت أذكرك بالتعقل من أجل مركز والد خطيبتك
ومكانتك ورتبتك "



كان ذاك ما جعله يشتعل أكثر بدلاً من تهدئته وتذكيره

بواقعه فوجه سبابته نحو وجهه بحركة عنيفة صارخاً

" فكر أنت في نفسك أنا لا يعنيني كل ذلك وما قلته هو ما
سيحدث فأمر ماريا وحدي من يقرره "




اشتد فكاه وخرجت كلماته صارخة أيضاً وهو يشير

للأرض بسبابته

" بل لن يحدث إلا ما تقرره ماري فإن أرادت هي الذهاب
معك أو السفر فلها ذلك وغيره مرفوض "




كانت نظرات العناد والتحدي تتقاذفها الأحداق السوداء

بالتبادل كما كان كل واحد منهما يتحدث عن واقعها بالنسبة

له ويراها أمر يخصه والإصرار كما العناد رسالة تتبادلها

العينان الرجولية في الصمت قبل الحديث وكلاهما يرى

موقفه الأقوى لانتمائها له مَن عَلم عن هويتها الحقيقية

ومن جهلها لذلك كان ختام الحديث لمن همس من بين

أسنانه بحقد

" سنرى يا ابن غستوني مديتشي "




وما أن ختم حديثه المتوعد ذاك مستنقصاً له ولاسم عائلته

كما يقول توجه نحو الباب الذي ضربه بكل قوته وهو يفتحه

مخلفاً إعصاراً يشبه الآخر الذي دخل به وترك خلفه عينان

غاضبة تراقبه حتى اختفى قبل أن يشتم هامساً وتمتم بحنق

وهو يرتمي بجسده جالساً بحركة غاضبة

" ما أبشع غضب هذا الرجل وطباعه "


*
*
*

ما أن توقفت سيارة الحرس التي أقلتهما فتحت الباب

ونزلت وتوجهت بخطوات راكضة نحو باب المنزل المفتوح

وتبعها الكاسر من فوره حتى أصبحت في الداخل ونظرت

حولها للمكان الخالي تماماً وشعرت بالتوجس وضربات

قلبها تتعالى ما أن بدأت الأفكار السوداء تتزاحم في رأسها

لأنها تعلم بأنه يملك تلفازاً ويتابع الإنترنت وكل ما يحدث

فيه بسبب وقت فراغه الطويل وسيكون علم بما حدث

بالتأكيد ، كانت في حرب ضروس مع ساقيها لتحريكهما

حين ظهرت إحدى الخادمات فجأة وكانت كطوق نجاة لها

فقالت سريعاً

" أين جدي ؟ "



ارتسمت على ملامح الواقفة أمامها نظره تفكير وقالت

" لم يغادر غرفته "


تنهدت حينها بارتياح خرج في نفس طويل وكأنها كانت

تسجنه منذ أعوام فقالت التي لم يغادر الاستغراب

ملامحها بعد

" ما الذي يحدث سيدتي فالحرس أخذوا جميع هواتفنا ! "




اتسعت عيناها بذهول وبدأت ضربات قلبها تتعالى بشكل

جنوني ، مؤكد والدها من أمر بهذا فهل قرر إخفاء حقيقة

وجود جدها أم بأنه لازال على قيد الحياة أساساً !

وبالرغم من أنه يُمنع عنهن التواصل إلا مع والداتهن في


بلادهم ومع المراقبة المشددة إلا أن تصرفه هذا ليس له إلا

تخمين واحد وهو إخفاء حقيقة الموجود هنا عن الجميع

وإخفاء ما يحدث عليهن .


تركتها وتحركت بخطوات مسرعة ناحية ممر غرفته وما أن

وصلت الباب وأمسكت مقبضه بيدها توقفت بسبب يد

الكاسر التي أمسكت بها فنظرت له وقال من فوره

وبصوت منخفض

" لن نتكهن بأنه علم بالأمر فعليك الحذر "


اومأت برأسها هامسة

" بالتأكيد "


بادلها الإيماء وفي صمت وأبعد يده ففتحت الباب بحركة

بطيئة لا إرادية وكان رد فعلها الفوري شهقة قوية

مصدومة ما أن ظهر لها الذي كان يمسك مسدساً في يده

ويحشوه بالرصاص وارتجفت ساقاها وبالكاد خرجت

الحروف منها حين قالت

" جججدي ماذا تفعل ؟ "



رفع رأسه حينها ونظر لها وانقبض قلبها بشدة فقد كانت

نظراته كما عيناه لشخص آخر لا تعرفه !!

ليس جدها الذي اشتاقت طفلة لكل زيارة يزورها فيها

وانتظرت التالية تحصي الأيام والليالي لتراه مجدداً !

هذه ليست عينا جدها المليئتان بالحنان والرقة والابتسامة

الدائمة ! بل كانت وكأن سوادها غطى على البياض فيها

وتحول لظلمة موحشة أرجفت قلبها !!.



امتلأت عيناها المفجوعتان بالدموع وهي تتخيل ما كان

يريد فعله وما أخبرها به عقلها حينها ، وبدفعة من يد

الكاسر الواقف خلفها تحررت ساقاها وتحرك جسدها نحو

الأمام خطوة ليدخل وما أن وقف بجانبها تحول لتمثال

حجري آخر عيناه المتسعتان قد تجمدتا على السلاح ذو

الفوهة الطويلة والأخمص المزخرف في يده والذي ما أن

تراه للوهلة الأولى يخيل لك بأنه للزينة ولا يمكن تحويله

لأداة قاتلة هكذا !!



" جدي أرجوك لا تفعلها "




كان ذاك صوت تيما المرتجف ترجوه بخوف بينما لازالت

قدماها عالقة مكانها وهو ما جعل حاجباه يقتربان من

بعضهما ما أن فهم ما تفكر فيه وقال باستياء

" صحيح أنني لا أهتم لحياتي لكن هذا لا يعني أن تسول
لي نفسي الانتحار "



غرقت نظراتها في تفكير عميق لم تصل معه لأي أجوبة

وهمست بتوجس

" ماذا تفعل به إذاً ؟! "




وقف على طوله وقال بجمود

" لأن حرس والدك لن يسمحوا لي بالخروج وأنا قاتل كل
من يعترض طريقي "




اتسعت عيناها بذهول وسحبت أنفاسها في شهقة صامتة

وحال الواقف بجانبها لم يكن أفضل منها وقالت ما أن

وجدت صوتها

" أين ستذهب ؟ جدي أنت لن ... "


وتوقفت كلماتها فجأة مع امتلاء عينيها الوجلة بالدموع

فقال هو ما عجزت عن تحريره من حلقها وبصوت منخفض

حزين يشبه نظراته لها

" أجل يا تيما أنا من عليه إنهاء كل هذا بل وكان عليّا
فعلها منذ وقت طويل "



وقال آخر كلماته يشد على كل واحدة فيها بغضب مكبوت

فحركت رأسها برفض حركة قوية وقالت بأسى

" هذا ليس حلاً "


اشتدت قبضته على السلاح فيها وقال بجدية

" بل هو ما سأفعله ولن يمنعني أحد "



رمت يدها جانباً وقالت بحرقة

" وفيما سيجدي هذا سوى موتك على يديهم أو على
خشبة حبل المشنقة "



كانت تكابد دموعها بل والانهيار باكية وهو ما زاد وضعه

سوءاً وارتسمت المرارة في عينيه وإن بدت كلماته جامدة

تماماً حين قال

" هو القصاص العادل نحوي فما كان يمسكني هو أنتِ
ووالدتك لكنت فعلتها منذ زمن طويل وحررت نفسي من
الوجود ميتاً وسط الأحياء "


اشتدت قبضتاها بجانب جسدها لازالت تمسك عيناها بشق

الأنفس عن ذرف الدموع بينما كان رأسها يتحرك ببطء

معبراً عن رفض عقلها لكل ما سمعته منه وقالت ببحة

" أنت فعلت ذلك لتنقذ أحدهم من الموت على يديهم ومن
إهدار شرف ابنته أمام عينيه قبل أن يموت ، أنت لم تقتل
للتسلية بل قتلت دفاعاً عن العرض والنفس "



نظر لعينيها بحزن عميق وكأنه يودعهما وقد آلمته تلك

النظرة فيهما أكثر من كلماتها وابتسمت شفتاه بسخرية هي

أقرب للمرارة وقال

" لا القانون ولا العقول يمكنها تقبل ما لا دليل عليه "


ذبحت كلماته روحها وقلبها وكان ذاك ما جعل صمودها

الهش ينهار وبدأت الدموع بمحاولة التمرد على عينيها

مجدداً ورغم ذلك نفضت يدها صائحة بأسى

" لكنك لن تنقذنا جدي .. لن تفعل شيئاً سوى أن نخسرك "



كانت يده تؤلمه من كثرة ما كان يفرغ انفعاله في أخمص

المسدس فيها ولمعت عيناه ببريق اشتياق خفي وهو ينظر

لعينيها المحببة لديه ولمن جمعت ملامح زوجته الحبيبة

الغائبة عنه وعينا والدته التي عاش محروماً منها وما كان

يقتله في كل مرة يراها فيها أمامه ، ابتلع غصته مع ريقه

وتكسر صوته بحزن رجولي عميق ما أن قال

" سأكون أنا المقابل لكما فكل ما يريده أولئك الرجال
هو عنقي "

تناثرت الدموع من عينيها حين جلب عقلها تلك الفكرة

وهيئها لها أمام عينيها فحركت رأسها بالرفض مجدداً

وقالت ببكاء

" لن يجدي .. لقد سمعت بأذني أحدهم يتحدث عن طلاق
والدتي وبطلان زواجي من قاسم أي أنهم يريدون الجميع "



لم يخفى عنها تغير حجم حدقتاه والنظرة المصدومة في

عينيه ولا تعلم هل بسبب علمه بنيتهم أم بطبيعة زواجها ؟

وتجاوزت التفكير في كل ذلك وقالت برجاء حزين

" جدي أترك الأمر لوالدي هو من سيجد حلاً للأمر ، أنا
أثق به وعلينا جميعاً أن نكون كذلك "




اشتد فكاه بقوة وقال بحزم

" أنتِ لا تعرفين والدك يا تيما ... "



توقفت أنفاسها وارتسمت الحيرة في عيناها الدامعة كما

ملامحها وذاك ما قرأه بوضوح فتابع موضحاً وبنبرة جادة

" منذ كان زعيماً للحالك كان مشهوداً له بالوفاء بالعهد
وباحترام أحكام القبيلة لأنه عن طريقها كان يفض
النزاعات بين كبرى القبائل وذاك ما زاد ثقتهم به وما جعل
الشطر الذي تسكنه الحالك يعمه الكثير من السلام
وقت حكمه "



ابتلعت غصتها مع ريقها الجاف وهمست بتعاسة

" لكن ... "



قاطعها وتابع نيابةً عنها وبكلمات حانقة متأسية

" لكنهم الآن دمروه سياسياً ووضعوه في مواجهة مع
الأحكام القبلية التي كان يحكم ويفصل بها وبعدل .. هذه
حقيقة لا يمكن نكرانها "



عادت الدموع للتسرب من عينيها التي ارتسم الألم فيها

واضحاً ولم تستطع النطق بأي كلمة تصارع أنفاسها

عبراتها السجينة وسط أضلعها بينما تابع هو بمرارة

" أنا السبب في كل هذا وليس والدك لأني من قتل ووالدي
وشقيقي هم من سلموهم عنقي وسلالتي وليس مطر لذلك
عليّا أن أنهي كل هذا وأنقذ والدك لتبرئته أمام شعبه على
الأقل وإن لم أستطع إنقاذكما "



تحررت أول عبرة مكتومة انتفض معها صدرها بقوة وقالت

بصوت باكي

" ومن قال بأنه التصرف السليم ؟ قد يفعل والدي شيئاً
وأنت ستعيقه بهذا "



ارتسم الحزن عميقاً في عينيه وتألم قلبه لرؤية دموعها

وبكائها وهو ما جعله عاجزاً حتى اللحظة عن الركض

نحوها واحتواء دموعها وعبراتها في حضنه خشية أن

يضعف ويتبدل رأيه والحل الذي لا خيار آخر له لذلك اختار

التمزق بعيداً عنها .. حفيدته الحبيبة التي طالما تمنى أن

يعيش معها ومع ابنته حياة تعوضه عن كل ما فقده لكنه

نسي بأن واقعه مختلف تماماً وماضيه لن يتركه ما عاش ،

شعر بالمرارة في حلقه وكأن قلبه بات يوزعها على جسده

بأكمله وذاك ما ظهر واضحاً في صوته حين قال

" لا شيء أمام والدك يفعله أنا أعلم بتفكيره ونزاهته أكثر
منك يا تيما فكيف أن يصبح الأمر على مرأى من الشعب
بأكمله "



ولمعت عيناه بدموع حبيسة تغلبت على صموده الرجولي

وقال بحزن وبحة خفيفة تغلبت على صوته

" أنا من فعل ذلك بغض النظر عن الأسباب وقد سئمت .."



وضرب بيده على صدره والدموع تظهر بوضوح بين جفنيه

الحمروان متابعاً بحرقة

" سئمت من العيش وحيداً سجيناً وهارباً من كل شيء
وحتى من نفسي وهويتي "



كان مشهداً دمعت له عينان الواقفان أمامه دون أن ينطق

أيّا منهما بشيء عجزاً عن قول أي شيء يطفئ مرارة تلك

اللحظات بينما رفع هو يده أمام وجهه وفرد أصابعه وقال

ببحة أوضح وانكسار

" أضعت خمساً وثلاثين عاماً من عمري أهرب ممّا
لا مفر منه .. "



وقبض أصابعه تلك وتمردت أول دمعة على حصونه المنيعة

وضرب بقبضته تلك على صدره متابعاً

" قسماً لو علمت بذاك الاتفاق والوثيقة ما كنت تزوجت
ولا فكرت في ذلك لكني علمت بعد أن حملت جدتك وكان
الأوان قد فات حينها وأخرجوني من البلاد وابتعدت عنها
مكرهاً وسلمتها وابنتي لغيري لأحميهما مني "





ارتفعت يدها لشفتيها وغطتهما تخفي فيها عبراتها الموجعة

والدموع تنزل دون توقف تنظر من خلفها لمن ارتمى جسده

على الكرسي الذي كان يجلس عليه وأنزل رأسه للأسفل

وشد قبصتاه بقوة فوق ركبتيه وهمس بغصة وألم

" كنت أموت في كل يوم وليلة وحيداً ومنفياً على أمل أن
أجتمع بكما يوماً وحرموني حتى من ذاك الحلم "

وتقاطرت الدموع من عينيه نحو الأرض مباشرة فركضت

نحوه وارتمت أمام قدميه وحضنت ساقه باكية وقالت

بنحيب موجع

" لا أريد أن تموت ولا أن أخسرك جدي أرجوك ... أرجوك
لا تخرج من هنا "



أغمض عينيه بقوة واهتز كتفاه من شدة مقاومته للانهيار

باكياً كالنساء لعله يطفئ النار المشتعلة بداخله لكنه عاجز

حتى عن فعل ذلك ، نزل من كرسيه للأرض وحضنها

وانهارت حصونه المنيعة نهاية الأمر وها قد خرج ما تحجر

في داخله ثلاثة عقود كاملة ، وبالرغم من أنها كانت عِبارة

عن عَبرات رجولية مكتومة إلا أنها كانت كفيلة بإذابة

الحجر جعلت الواقف مكانه عند الباب يشاركهما البكاء في

صمت قبل أن تحرره قدماه وركض نحوهما وجلس على

الأرض أيضاً وحضنهما معاً لا شيء أعلى من صوت بكائه

سوى نحيب التي بدأت ترى باقي أحلامها وعائلتها الصغيرة

تنهار وتخسرهم جميعاً وتباعاً في مشهد مؤلم يصور حقيقة

من لا يملكون شيئاً يفعلونه سوى ذلك .


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 28-01-22, 09:39 PM   المشاركة رقم: 1674
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,164
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

كانت مطرقة عقبة لا تتوقف عن الضرب كما أوامره

الصارخة بأن يهدأ الجميع بينما لم يجدي ذلك مع من باتو

محاصرين هناك دون أن يعلم أحد السبب وراء إغلاق جميع

الأبواب عليهم ووقوف رجال مسلحين من القوات الخاصة

أمام كل واحد منها وقد تم سجنهم داخل القاعة بشكل فعلي

وهو ما جعل الأصوات تتعالى وتتداخل بين متسائل

ومستنكر ورافض فلا هي تتوقف ولا تخضع لأمر القاضي

الذي اكتشف بأن دوره انتهى وبشكل فعلي حين أصبح

صوته وأصواتهم سواء لا أحد ينصاع له وكانت الدقائق

تمضي الواحدة تلو الأخرى وكلما مضى الوقت أكثر كلما

ازداد وضع المحتجزين هناك سوءاً خاصة مع عبارات

عيسى الحانقة المتفرقة وصمت شعيب عنه وكأنه يخدم

مآربه بذلك لأنها كانت فرصتهم المواتية لإيصال الصورة

التي أرادوها لزعماء القبائل عن زعيمهم وبطلهم

الأسطوري كما كان دائماً فها هو غادر وتركهم وترك

مسألة قبلية مهمة تتعلق به هذه المرة وتخاذل فيها عكس

ما عُرف عنه سابقاً حين كان يقتلع الحق من جذوره ليعيده

لأصحابه ويَرضى الجميع بحُكمه حينها لثقتهم التامة في

عدله واحتراما له إن كرهت أنفسهم ذلك .



ارتفعت يد شعيب فجأة وغادر صمته الطويل صائحاً

" عائلة الشاهين يا من تغنت بكم القبائل والأجيال لأنكم من
تعيدون الحق لأصحابه أهذا ما تفعلونه حين تكونون
جزئاً منه ؟ "


كان يخاطب من لا وجود لهم هناك لأن غرضه الأساسي

ليس أن يصلهم صوته بل أن يصل من حوله والدليل على

ذلك ابتسامة الانتصار التي ارتسمت على شفتيه ما أن



علت بعض الأصوات من خلفه وحوله وتوالت



التعليقات الرجولية



" أجل هذا حقيقي .. "



" معه حق فيما قال "



" من المفترض أن العهد عهد "



ونظر لشقيقيه حينها واللذان بادلاه ابتسامات النصر قبل

أن تتوجه الأنظار جميعها نحو عقبة الذي وقف هذه المرة

وضرب بمطرقته بقوة وارتفع صوته في المكان بأكمله

بسبب وجود مكبرات الصوت قائلاً بحزم

" ليصمت الجميع هنا ويلتزم الهدوء "



لكنه وككل مرة حاول فيها منذ باتو محتجزين هنا وهو

معهم باءت محاولته بالفشل الذريع لأن الوضع تبدل لما

يشبه زنزانة السجن الجميع فيها سواء وقد فقد مكانته

كقاضٍ أمامهم بل وكوزير للعدل !




وحين أعلن يأسه التام وبدأ عقله يقنعه بفكرة أن يتوجه

ناحية محتجزيهم هنا كل هذا الوقت ويفهم الأمر منهم أو

يحاول أمرهم بإخلاء المكان توقف كل ذاك الضجيج فجأة

وكأن المكان أصبح خالياً منهم وتوجهت الأنظار جميعها

وهو أولهم ناحية الباب الداخلي للقاعة والذي انفتح فجأة

مع ابتعاد الحارس الموجود أمامه ودخل منه مطر وحيداً

لا أحد معه ولا حرسه الشخصي ليوصل رسالته لجميع

الموجودين في ذاك المكان عن السبب وراء ذلك وبأن ابن

عائلة الشاهين لا يهرب ولا يخاف أحداً غير خالقه ولا

يستخدم سلطته للتملص من واجباته كأي فرد من قبيلته

وكأي شخص من البلاد كاملة .



كانت طريقة وقوفه ونظرته الشامخة تتحدث بكل ذلك نيابة

عنه وهو يقف مواجهاً لهم ولثلاثتهم تحديداً وإن فصلت

بينهم مسافة لابأس بها وقد قلصها شعيب حين خطت قدماه

للأمام ببطء وتبعه شقيقاه سريعاً ثم الواقفين من خلفهم

تباعاً وعادت الكلمات الهامسة للتقاذف بينهم وكأنهم جيش

منساق يجهل أرض المعركة كما أساليبها عكس الذي اختار

القتال فيها وحيداً لازال يقف عند طرف المنصة نظرات

القوة في عينيه لا تترك عينا خصمه المحدقتان فيه بتحدي

والذي كان يرى فقط بأن الهدف الذي سعى له لأعوام

طويلة بدأ يدنو منه ومن تحقيقه وما تم التلاعب به قبل

أكثر من أربعين عاماً آن الأوان لأن يتغير ولن يترك هذه

الفرصة مطلقاً .



توقفت خطواتهم فجأة ورجال القبائل من خلفهم حين انفتح

باب القاعة مجدداً وسلب جميع الأنظار مشهد الداخلين منه

بأجسادهم الرجولية الطويلة وشخصياتهم القوية الواثقة

التي لم تعطيها شاشات التلفاز سابقاً حقها وبذلاتهم

السوداء الفاخرة تحكي قصصاً أخرى عن الرجولة حين

تصل أعلى مراتب الفخامة وقد بدأوا بالتحلق حول زعيمهم

بالتتابع وكأن كل واحد منهم يقول أنا خصمكم وغريمكم كما

كانوا دائماً وعُرف عنهم كقلب رجل واحد مستعد للموت

وخسارة نبضاته من أجل من كانوا ولازالوا يفدونه

بأرواحهم ومهما كانت الأسباب .




مشهد تغيرت له جميع الملامح وشعيب تحديداً وبشكل

مختلف والذي كان يعلم جيداً تأثير هذا على الواقفين خلفه

فهذا يُذكرهم بأمر واحد وهو أن لا ينسوا بأن هؤلاء من

جعلوهم أسياد البلاد ومن جعلوا الحرب تدور لصالحهم يوماً

ومن بسواعدهم وعقولهم وقوة قلوبهم قبل إرادتهم وصلت

البلاد لما هي عليه اليوم وبأنهم مستعدون لخوض أي حرب

ومهما كان نوعها من أجل الواقف بينهم الآن كالأسد

الشامخ الواثق ، وذاك ما جعله ينظر حوله وتتشتت أفكاره

كما ثقته لثواني قليلة قبل أن يخرج عن صمته ورفع رأسه

وهو يقول بصوت جهوري مرتفع بينما لم يترك نظره عينا

من أصبح وكأنه خصمه وغريمه بشكل منفصل الآن

" نحن هنا للمطالبة بحقنا كمعتدى عليهم فقط وطالب الحق
يفترض أن تنصفه الناس قبل القانون "



عادت الثقة والقوة لنظراته سريعاً وما أن قال ما يعلم بدهاء

بأنه الدرع الحامي لكل ما يفعله وكأنه يتحدى أن يقول أحد

منهم ما يُسقط به كلامه أو يرده عليه ، لكن الأمر لم يكن

كما يتخيل ولا نية لأحد منهم لقول شيء ليس فقط لأنهم لا

يتحدثون دون أمر وإذن من زعيمهم بل وبسبب الباب الذي

فُتح من خلفهم حينها وهو الباب الثالث والمخصص لقضاة

الجلسات وكانت المفاجأة الجديدة في انتظارهم وهي دخول

أبان منه وقد قال مبتسماً بثقة وهو يسير نحو الجميع

بخطوات واسعة واثقة

" ها هي الجلسة الحقيقية بدأت "



وتوقفت خطواته في مكان اختاره بعناية تامة يربط منصة

القضاة بخاله ورجاله وبين الواقفين في الأسفل جميعهم

والذين تفاوتت نظراتهم بين الاستغراب والفضول والترقب

فرفع يده وقال بابتسامة جانبية

" أنا محامٍ وبشكل رسمي هنا فلا أعتقد بأنه ثمة أحد
لديه أي اعتراض "



ونظر عند نهاية كلماته ناحية قاضي الجلسة الذي لازال

يعيش مالم يراه ويعرفه يوماً وقد لاذ بالصمت فهو بالفعل

محامي للجلسة ودخوله وتدخله سيكون قانوني لأن ما

فعله شعيب وأشقائه إتمام للجلسة ذاتها كما قال عند دخوله

فلم يكن لديه سوى الصمت وهو ينظر له وقد توجه نحو

منصة الشهود دون أن ينتظر تعليق أو اعتراض من أي

أحد غير القاضي الذي لم يعترض وإن لم يقل شيئاً وبدأ

بجمع الأوراق المتناثرة على أرضيتها الخشبية .. الأوراق

التي حفظها عن ظهر قلب وحُرم من الترافع بها في آخر

لحظة ولم يتخيل بأنه سيكون ثمة وقت كهذا مناسب

ليعرضها لقضاء شعب بلاد بأكمله وليس قاضي وحيد

وكلمات تُقرأ وسط جدران صماء لتموت في سجن

الصمت مجدداً .


صعد عتبات المنصة التي وقفت تيما عليها قبله وقرأت تلك

الأسطر فيهم بدموع قلبها قبل عينيها ولم تجد عدالة في

الأرض تقتص بحقها مما موجود فيهم تنتظر عدالة رب

السماء فقط ، اعتلى منصة الادعاء ووضعهم على الطاولة

أمامه ووضع يده عليهم بينما نظره كان موجهاً نحو

شخص واحد وهو صاحب النظرة الصقرية الحادة الواثقة

والمحدقة في عينيه وشعر فجأة بضربات قلبه تضطرب

ويحار فعلياً في تكوين شخصية الرجل الذي يفترض بأنه

خاله وهو ابن شقيقته الوحيدة ! لأنه يشعر بذات الرهبة

والهيبة ما أن يراه وينظر إليه وفي كل مرة يراه فيها فلم

يعتد بعد فكرة أن هذا الرجل العظيم ذو العنفوان الرجولي

الفريد من نوعه جزء منه وفرد من عائلته .



تحررت أنفاسه وشعر بكم هائل من الراحة والثقة ما أن

تحركت الشفاه الجادة الحازمة في أول رد فعل للواقف بين

رجاله هناك وأهداه ابتسامة جانبية لم تزد ملامحه إلا قوة

وثبات فابتسم بدوره ودون شعور منه وأومأ برأسه وكأنه

يقول له فهمت ما تصبوا إليه وهو مرادي الوحيد أيضاً .



رفع يده مع تغير اتجاه نظره للباب الذي دخل منه والحرس

الواقفين عنده وحرك أصابعه في إشارة فهمها الواقف

هناك من فوره وفتح الباب على اتساعه ودخل منه أربعة

شبان مع آلة تصوير ومعداتها تامة فتعلقت الأنظار

المستغربة بهم وفهم الجميع حينها بأن القادم سيكون

في بث مباشر وأمام الملأ .


*
*
*

" لا يمكننا استلام القضية الأدلة جميعها ضده أنا أعتذر"

قال ذلك الذي رفع يديه خلف رأسه يتكئ بظهره على

الكرسي الجلدي للخلف وكأنه يوثق كلامه بالأفعال فقال

ﻟﻴﻮﻧﺎﺭﺩ والذي أراح وجنته على كفه بينما كانت يده الأخرى

تلعب بالقلم فيها يضعها فوق الأوراق المتناثرة تحتها

" ابنته واثقة من أنه ليس الفاعل .. هل يقتل رجل طفليه
وهو لا يشتكي من أي اضطرابات نفسية ولا يتعاطى أي
نوع من الممنوعات ولم يكن مخموراً وقتها ! "

قال آنسون ينظر له

" لكن هو الفاعل وهو يرفض قول غير أنه لم يقصد

فعل ذلك ! "



وافقه الجالس أمامه وقد أومأ برأسه

" يمكننا تخفيف الحكم عنه على الأقل "



نظر حينها ناحية الذي كان ينظر للبعيد بشرود وكأنه في

بعد فلكي آخر وقال

" أعرفك لا تقبل قضايا يكون فيها المتهم هو الفاعل فهل
ستكتفي بالتحقيق كلجنة ادعاء أم ترى أنه عليك قبولها
كمحامٍ يا وقاص ؟ "


رفع نظره له ما أن سمع اسمه وقال

" فيما ! "



لم يستطع آنسون إمساك ضحكته قائلاً

" لا يبدو أنك كنتَ منتبهاً لما كنا نقول "


ارتسم الإحراج على ملامحه كما الابتسامة التي زينت

شفتيه ومرر أصابعه في شعره قفا عنقه متمتماً

" أجل لقد شرد ذهني قليلاً "



وقف كيفن وقال يجمع الأوراق أمامه

" يبدو أنه علينا أخذ قسط من الراحة ونلتقي بعد استراحة الغذاء "


تبعه ﻟﻴﻮﻧﺎﺭﺩ وغادر كرسيه قائلاً

" أنا عليا الذهاب لإكسفورد لا أستطيع أن أكون معكم
اليوم ... وداعاً "




وغادر أيضاً يتبعه رفيقه وكان آنسون الشخص الأخير

المتبقي معه والذي وقف قائلاً

" سأغادر للندن ما هي خططك أنت ؟ "



وقال آخر كلمة وقد أشار بحاجب مرفوع خلف كتفه وحيث

الجالسة هناك ففهم مقصده سريعاً وقال بصوت منخفض

وهو يقف

" أريد شقة واليوم تحديداً سأترك الأمر لك "



تأوه الواقف أمامه هامساً بابتسامة

" أووه ما هذا التطور اللافت "



تبدلت نظراته للضيق وقال

" لا تلصق أفكارك القذرة بي .. أنت تعرفني جيداً "




ضحك بصمت وقال

" بالتأكيد ولهذا تفاجأت "

وضربت يده على كتفه وقال وهو يتجه نحو الباب المفتوح

" اعتبرها مزحة أعتذر عنها وسأفعل ما تريد كن مطمئناً "


وما أن أصبح خارج الباب الذي تركه خلفه مفتوحاً توقف

بسبب نداء الذي لحق به وما أن استدار نحوه أصبح يقف

أمامه تماماً وقال

" انتبه آنسون أريدها في مكان جيد وليس غرفة حانة "



وقال آخر كلماته ببرود ونظرة يفهمها جيداً فضحك وقال

" أعرف ذوقك جيداً كما مستواك المادي ، يلزمني بعض
الوقت فقط لأني لن أستأجرها لك عن طريق الإنترنت
فقط وينصدم كلينا "



اومأ له برأسه موافقاً قبل أن يشير به لباب المكتب خلفه

قائلاً بهدوء

" لا تتكاسل يا آنسون إنها جالسة هنا منذ الصباح "



فرد يديه وقال متعجباً

" أعلم أنك ترفض التدخل في خصوصياتك لكني أستغرب
هذا وعائلتك تمتلك واحداً من أهم الفنادق في لندن ! "



تمتم وقاص يرمقه ببرود

" لا يبدو لي أنك تحترمها فعلياً ! "



ضحك كثيراً وقال مغادراً يشير له بيده

" أراك لاحقاً "


وغادر وتركه فعاد ناحية مكتبه واتجهت عيناه وفور دخوله

ناحية التي لم يفارقها نظره أساساً ومنذ أصبحا هنا فإما

نظره عليها وإمّا عقله معها ونظره مع غيرها وهي على

حالتها تلك تحضن ساقيها جالسة فوق السرير الفردي

الموجود في زاوية المكتب عند النوافذ الكبيرة المضللة

ونظرها على الشارع في الخارج حيث الزحام وحركة

السيارات ولا يعلم جذبها كل ذلك لمشاهدته أم شاردة الذهن

لا تهتم له أبداً ؟

ما يعلمه جيداً وبات موقن منه تماماً أنه ما أن يجتمعا في

مكان واحد يفقد كل شيء له السلطة عليه في جسده ونفسه

وحواسه ..! حقيقة لا نفع من نكرانها ومهما حاول .


حرك رأسه مستغفراً الله بهمس مكتئب يائس وتوجه

ناحيتها ووقف قربها ودس يداه في جيبيه ينظر حيث كانت

ولازالت تنظر ونظر لها ما أن رفعت رأسها ونظرت لعينيه

فابتسمت شفتاه ودون استئذان منه وقال

" ثمة مطعم صغير قريب من هنا أرتاده دائماً يقدم طعاماً
فرنسياً رائعاً ما رأيك في أن نتناول طعام الغذاء فيه قبل
مغادرتنا ؟ "



توقع بل وانتظر رفضها القاطع وجملتها المعتادة بأنها لا

تريد تناول أي شيء لكنها فاجأته وهي تُنزل ساقيها

وقدميها تلامسان الأرض ووقفت وانحنت لحذائها تلبسه

دون أن تعترض أو تمانع وإن لم تقل شيئاً آخر فابتسم

برضا وهذا يكفي ليجعله سعيداً فهو لا يتوقع الكثير منها .


ما أن استوت واقفة حتى تحرك من هناك وهي تسير بجانبه

وفي صمتها المعتاد مغادران أروقة مبنى المحكمة حتى كانا

خارجه ، كان المطعم قريباً منه ووصلاه سيراً على الأقدام

وكان بالفعل متوسط الحجم كما كان بواجهة زجاجية مدعمة

بالخشب المطلي باللون الأسود وكان الهدوء رائعاً في

الداخل عكس الأجواء الصاخبة خارجه سوى من موسيقى

فرنسية هادئة تُسمع متساوية في كل جانب فيه كما رواده

القليلون مقارنة بغيره لأنه مختص بالطعام الفرنسي تحديداً

وزبائنه أغلبهم من الفرنسيين المقيمين في البلاد فلا طعام

غيره يُقدم هنا .



كان اختياره لطاولة معينة عند الزاوية الأبعد عن الجالسين

هناك وسحب الكرسي لها أولاً وجلس مقابلاً لها ونظر

للشاب الذي توجه نحوه من فوره يرتدي بذلة سوداء أنيقة

والذي كان ابن صاحب المطعم والمشرف عليه وقال

بالفرنسية مبتسماً

" مرحباً سيد وقاص "


ابتسم وهو يجيبه بذات اللغة

" مرحباً داميان كيف حالك ؟ "


أجاب وذات الإبتسامة المرحة تزين شفتيه

" بخير ... لم أرك منذ فترة "


ضحك وقاص وقال

" إنه أسبوع واحد فقط ! "


ضحكا معاً وقال الشاب يجمع كفيه

" لا أظنك ستترك الخيار لنا كالمعتاد "


نظر له باستغراب وقال

" وما تغير الآن ! "


قال مبتسماً ينقل نظره بينهما

" لم تكن برفقة امرأة وحدكما من قبل دون شخص ثالث
وقد يكون لديها اختيار مختلف "



نظر للتي كانت تمسك لائحة الطعام تنظر لها بصمت نظرة

من يبدو لا يهتم بالمكتوب فيها أو لا يفهمه وخمٌن بأنها

كانت تبحث عن صور له أو تتوقعها مكتوبة بالإنجليزية

ونظر له وقال مبتسماً

" قد لا تعرف الطعام الفرنسي وأنا أثق في ذوقك "



ضحك الشاب بخفة وقال يومئ برأسه

" أتمنى ذلك وأن لا تنهي علاقتها بك بسببي الليلة "



لم يستطع وقاص إمساك ضحكته بينما سرق نظره ناحيتها

وكانت تضع اللائحة من يدها وتبدو كالأخرس الذي لا يسمع

ما يُقال وقال ينظر لملامحها بابتسامة شاردة حزينة

" أتظن هذا ! "


كان يقصد ظنونه الخاطئة لعلاقتهما وهو الأمر الذي فهمه

ذاك الشاب بشكل خاطئ فقال بمزاح ضاحك

" وستكون ممتناً لي إن انتهى الأمر بالزواج "



وغمز له بعينه ما أن نظر له مندهشاً بسبب ما قال فتابع

من فوره مبتسماً بينما عاد وغمز له بعينه مجدداً

" إنكما مثاليان معاً وأرجوا حدوث ذلك سريعاً "



ضحك وقاص وقال

" سأقدم لك عجلاً فرنسياً حياً هدية حينها "


اتسعت شفتا الشاب بدهشة وقال بحماس باسم

" عليا أن أصلي لحدوث ذلك إذاً "



ضحكا معاً قبل أن تنقطع ضحكاتهما بسبب التي تحدثت

بفرنسية طلقة سليمة وهي تنطر لعيني الجالس أمامها

وببرود قاتل

" أريد طبق كونفيت وطبق ﺭﺍﺗﺎﺗﻮﻱ وأريده مع صلصة
حمراء لا أريده جافاً "



وكان ذاك ما جعل عينا الشاب الفرنسي تتسع وهو ينقل

نظره من شعرها البني المائل للشقار المقابل له لوقوفه

خلفها لوجه وقاص والذي كان عكس ما كان يظن ويتوقع

بأنه سيجده مصدوماً مثله وقد فاجأه بارتفاع رأسه ضاحكاً

قبل أن ينظر له وقال مبتسماً وكأنه يقاوم نفسه كي لا

يضحك مجدداً

" لا تقلق يا داميان أنت لم تفسد شيئاً "


ضحك وقال معتذراً بحركة من يده

" ألمهم لا تنسى العجل الفرنسي "

وغادر من فوره ونظرات وقاص الباسمة تتبعه قبل أن ينظر

للتي فتحت المنديل المطوي الناعم ووضعته على فخذيها

وقال بابتسامة مائلة ما أن رفعت نظرها له

" كم لغة أيضاً تتقنينها ! "



اتكأت بظهرها للخلف وكتفت ذراعيها لصدرها قائلة ببرود

" الإيطالية والإسبانية فلا تتحدث عني بهما أمامي
مستقبلاً "



قال بضحكة صغيرة

" أنا لا أتقنهما أساساً "


وكالمعتاد لم تهتم لتعلق أو تستمر في الحديث عن الأمر وقد

شغلت نظرها بحركة سبابتها على مقبض الشوكة اللامعة

الموضوعة يسارها ورغم ذلك قال ونظره لا يترك ملامحها

" لقد تلقيتِ تعليماً جيداً وخلال فترة قصيرة !! "



توقفت حركة يدها بينما لم تبعد نظرها عنها وخالفت

توقعاته حين علقت على الأمر قائلة بشرود

" عمي عكرمة علمني الكثير فور إجرائي العملية الأولى
وبالرغم من أني كنت طفلة "



لا ينكر مفاجأته بالأمر وليس بسبب اسم ذاك الرجل فهو

علم عنه سابقاً بل لأنه أولاً لم يكن يعلم بأنها أجرت أكثر

من عملية جراحية بخصوص الأكياس المائية في دماغها

وثانياً والأهم هو الحزن الذي اكتسى عيناها ونظراتها

الشاردة فقلما رأى هذا في عينيها وعبّرت عن المشاعر

المشابهة له ! بل وتتحدث عن أمر يخص طفولتها !!

همس بحزن وعيناه لازالت تراقبها

" رحمه الله "


لم يستطع قول شيء غير ذلك وما عساه يقول أمام تلك

الحقيقة المؤسفة ؟

ولم ينتهي الأمر عند ذلك كما كان يظن فقد جمعت كفيها

على الطاولة تحتها وعيناها على الكأس اللامع وارتسمت

ابتسامة لا يعلم ساخرة أم متألمة على الشفتان الجميلتان

ما أن قالت

"كنت معرضة للإصابة بورم في الدماغ إن أُهملت حالتي "



شعر بقلبه ينقبض بشدة بسبب الفكرة فقط فكيف أن تكون

حقيقة ؟ حتى أنه عجز عن التعليق على ما قالت ويبدو أنها

لم تنتظر ذلك وهي تتابع مشيحة بوجهها جانباً وكأنها تخفي

مشاعرها عنه

" لقد فعل شيئاً عظيماً من أجلي بالرغم من أني لا
أقرب له "



ابتسم بمرارة ولمعت عيناه المحدقتان بها بحزن بينما

خرجت كلماته بنبرة متضايقة مستاءة ونظره لم يفارق

جانب وجهها المقابل له

" عائلتك الحقيقية سيئة للغاية .. أنا أكرههم ولا أتمنى
مقابلة أي أحد منهم "



لم يستغرب النظرة التي وجهتها نحوه حينها وكأنه مجنون

يتحدث أمامها فقال بابتسامة متأسية

" مؤكد هذا ما كان سيقوله أي شخص غيري يجلس
مكاني الآن لكنك ترافقين الشخص الخاطئ "




تنهدت بضيق وقالت

" أعلم بأنك لست مغفلاً وغبياً لتقول هذا "





اومأ برأسه وقال بهدوء

" وأنا أعلم جيداً بأنك لستِ في حاجة للتحدث مع أحد
للتخفيف عنك وبأنه ليس مقصدك وليس مقصدي أيضاً
فأنا أكرههم ونفسي معهم بالفعل "




وقال آخر كلماته بما يشبه الغضب المكبوت فارتسم الضيق

في ملامحها أكثر وقالت

" هذا بسبب شعورك بالشفقة ... أنا أكره هذا "




قال سريعاً وبجدية

" لا ليس كذلك بل لأني أعترف بذنبنا في حقكم يا زيزفون ،
جدتك ووالدك ووالدتك وأنتِ وشقيقك .. جميعكم علينا تحمل
إثم ما حدث لكم وأخجل من نفسي كلما فكرت في هذا "





كان الضيق هو المسيطر على مشاعره عند نهاية كلماته

تلك ومن نفسه قبل الجميع بينما لاذ كلاهما بالصمت ما أن

بدأت النادلة الشابة بوضع الطعام على الطاولة أمامهما

بحركة أنيقة متقنة وسريعة ، وما أن غادرت نظر للتي

رفعت شوكتها ونظرها على الطبق تحتها وقال متابعاً حديثه

عن الأمر ذاته يرفض عقله قبل قلبه التوقف عند ذاك الحد

" كنت أجهل كل ذلك وسألت جدي عنك حين كنت صغيراً
وقال بأن جدتك طالبت بتركك لديها لأنك مريضة وحين
علمت بعد أعوام عن وجودك سعيت بكل جهدي لأصل لك
أو لأي معلومات توصل إليك وسألت مطر شاهين مراراً
عنك لكنه قال بأن ما هو داخل البلاد خارج سيطرته
وألححت على جدي كثيراً ليجلبك للعيش معنا وليتني
لم أفعل "



قال آخر كلماته بمرارة وندم واضح وكان ذاك ما شد نظرها

له فتابع من فوره ينظر للزرقة الصافية في عينيها


"حين زوّجك جدي بنجيب فعلت المستحيل لمنع ذاك الزواج
أو إبطاله لكني لم أفلح وكانت تلك المرة الأولى في حياتي
التي أتشاجر فيها مع جدي ويرتفع صوتي في وجوده
وسافرت خارج البلاد لأسابيع لأني لم أعد أريد رؤية
ولا سماع أياً منهم حينها "



" أنت تعلم رأيي في الأمر سلفاً "


قالت ذلك شبه هامسة ولم تفارق نظراتها عينيه مما جعل

مشاعره تطفوا للسطح دون أي رادع ولو كان الأمر بيده

لما كان يعلم ما فعل حينها غير تقبيل عينيها لكن لا شيء

لديه سوى التحسر في صمت فقال من فوره وبذات نبرته

السابقة وضميره يؤلم قلبه أكثر


" أعلم بأنك لا تكرهينني وأصدق هذا لكن ذلك لا يعفيني من
حقيقة جرمنا حيالك فأنا عجزت عن مساعدتك في أول
مشكلة واجهتك فترة وجودك بيننا وكان سفري حينها مجرد
هروب أحمق من فشلي "



أبعدت نظرها عنه وتبدلت تلك الزرقة في عينيها لأمواج

زرقاء غامقة ما أن خرجت الكلمات الحاقدة من بين

شفتيها بتأني

" المذنب الوحيد والأساسي هو جدك "



تنهد بأسى ولم يعلق وحدق فيها بتفكير وشرود بينما كانت

نظراتها الجامدة تحدق في كل شيء عداه ، لقد كان حديثها

سابقاً يشمل الجميع دون تمييز وإن كان الجزء الأكبر منه

موجه لجده فهل احتكاكها بهم غيّر من نظرتها للأمر ؟ هل

استطاع هو ووالده ورواح ووالدته تغيير مفهومها ذاك ؟!

حتى نجيب أخرجته من دائرة اتهامها !

لم يستطع إبعاد نظره عنها يراقبها حتى أنه نسي الطعام

أمامه بينما عادت هي للانشغال بتناول قطعة لحم البط

الطري حتى فاجأته بأن قالت وهي تضع شوكتها مكانها

" لما تمسك قضيتي وأنت ترفض المشابهات لها ؟ "


حدق في عينيها التي ارتفعت له مجدداً بنظرة حاول جاهداً

أن لا تُظهر تفاجئه بما قالت فها هي كانت منتبهة لحديثهم

في مكتبه ! بل ويبدو كان دليله القاطع لصدقه سابقاً حين

سألته عن قبول المال لأجل أي قضية في خروجهما الوحيد

معاً ، قال بعد صمت برهة

" أنتِ لستِ الفاعلة يا زيزفون "



وتابع من فوره ونبرته تتبدل للجدية

" لم تقتلي نجيب ولا والدتك ولا زوجها "



قالت سريعاً وبنبرة مشابهة

" لكنّ إسحاق فعل .. قتل زوج والدتي ومُتهم بقتلها أيضاً
أتترافع عنه في كلا القضيتين إن لزم الأمر ؟ "



" أجل "


قالها مباشرة ودون تردد مما جعلها تغرق في صمت لحظي

وكأنها لم تتوقع أن يكون جوابه سريعاً وواثقاً هكذا ، وظهر

ذلك جلياً في صوتها كما ملامحها حين قالت بتشكيك

وابتسامة ساخرة ترتسم على طرف شفتيها وإن لم تتخلى

ملامحها عن الجدية

" لكنه مخالف لمبادئك ؟! "



قال من فوره

" أنا لا أدافع عن القاتل دون دليل ملموس يثبت براءته يا
زيزفون فإزهاق الأرواح أمر خاطئ والقانون هو من يأخذ
الحق المنتهك وديننا يأمر بذلك "



قالت ونبرتها تتبدل للاستياء فجأة

" لما تقبل إذاً ..؟ هل السبب شعورك بالذنب ؟ "


حرك رأسه رافضاً لأفكارها وقال بجدية

" إن كان المقياس هو الشعور بالذنب فأنا على استعداد
لأن آخذ الحكم نيابة عنه وأُسجن أو أُعدم ، وإن كان يُقاس
بصلة الدم لكنت أجرمتك في حق شقيقي ورفعت قضية
ضدك وليس أن أترافع عنك لكني مع الحق فقط
وأينما كان "



وتوقفت كلماته ينظر لعينيها وكأنه يحاورها في الصمت

الذي تعشق التصاقها الدائم به قبل أن يتابع وبذات

نبرته الجادة

" لا يمكنني الحكم على قضية قتل شقيقك لذاك الرجل وأنا
لم أعرف السبب ، ليس ثمة طفل في العاشرة يقتل رجلاً
دون سبب يدفعه لذلك ففي ديننا يموت الرجل دون ماله
ودون دمه ودون عرضه .. أي يقاتل من أجلها في حال
الاعتداء عليه بسببها وإن مات فهو شهيد "




وما أن أنهى كلماته تلك عاد للصمت مجدداً يبحث عن

الأجوبة في عينيها لعلمه بأنه لن يجود بها لسانها أبداً وكما

توقع فقد أشاحت بوجهها جانباً وكأنها تتهرب منه بل

تهرب بالمعنى الأصح ويعلم بأنها ترفض قول ذاك السبب أو

الحديث عنه وهي الشاهد الوحيد عمّا حدث تلك الليلة وما

لم يتم ذكره في ملف قضيتها ذاك حتى اليوم واللحظة !!

كان يرى فيهما فقط السواد المغيم الشرود الغاضب والحقد

الأسود وما جعله يضيع بين كل ذلك حتى تجاوزت كل تلك

المشاعر كما يبدو ونظرت له وقالت باستياء واضح

" لكن كلامك يخالف القانون الذي درسته وتعمل به فهو
يقف مع المضطربين نفسياً في جرائمهم لكن لا يبرر لمن
ذكرتهم في ذاك الحديث النبوي ، القانون لا يعترف بالدين
ولا في بلاد المسلمين "



قال من فوره وبرفض

" مفهومك خاطئ فكم من شخص قتل رجلاً تعدى على
حرمات منزله وبرأه القانون ، وعن الدول العربية أتحدث "



قالت سريعاً ونظراتها القوية تحدق في عينيه مباشرة

" هل تترافع ضد جدك وتقدمه للقصاص لو أني رفعت
دعوى ضده ؟ "



كان سؤالاً مفاجئاً ولم يتوقعه ولا يستطيع نكران ذلك مما

جعله يحدق فيها بصمت لبرهة وقبل أن يقول بريبة

" ما غرضك من هذا السؤال يا زيزفون ؟ "


" غرضي أن تجيب "


قالتها مباشرة وبنبرة قوية فواجهها بالقوة ذاتها قائلاً

" لا ليس كذلك فأنتِ تعلمين جيداً بأن القضاء لن
يقبل الدعوة "



وكان ذاك ما جعلها تشتعل فعلياً وقالت بضيق

" ها أنت تعترف بأنه قضاء فاشل لا يعترف بالمسببات بل
النتائج لكان جدك الأولى بتحمل القضايا عن شقيقي بل
وجميع ما عانته عائلتي "



حاول جاهداً كبت انفعاله لأنه يعلم جيداً تأثير الأمر عليها

وقال بنبرة متزنة

" هل سيرضيك الحكم بالتعويض المادي وسجنه حينها
يا زيزفون ؟ "


ولم يستغرب الكلمات التي خرجت من عمق حقدها

حينها هامسة

" إن رأيته يتعذب سيرضيني "

قال بجدية
" لا لن يحدث ذلك أبداً يا زيزفون ولن تشعري بهذا وإن
سلبته كامل ثروته وقتلتنا أمام عينيه جميعنا فلن تشعري
بالسعادة ولا الراحة "



وازدادت نبرته قوة وهو يتابع ينظر لعمق عينيها

" لن تجديها إن لم تتصالحي مع نفسك وتنسي أحقادك صدقيني "



صوت ضربها لكف يدها على الطاولة تحتها تبعه رنين

الأواني الخزفية المهتزة أمامها جعل الأنظار جميعها تلتفت

نحوهما وقد تلاه صوتها المرتفع ما أن صرخت فيه بعنف

" يالها من عبارات سخيفة قام بتأليفها من لم يعرف معنى
ما يقول وأصبح الأغبياء يصدقونها لكن من عاش وعرف
معنى الألم الحقيقي الذي منبعه القلب بسبب أحدهم
فسيبصق في وجهه ما أن يراه بسبب الخرافات التي
يروجها للناس "



كان يحدق فيها بوجوم قبل أن ينظر حوله وللأعين التي

باتت تنظر لهما بفضول فلم يتوقع رد فعلها هذا وهو يعلم

شخصيتها جيداً !

قال بصوت منخفض ما أن نظر لها مجدداً ورأى الغضب

لازال يتقاذف كالشرر من عينيها

" زيزفون اهدئي "



لكن ذلك لم يزدها إلا اشتعالا وعلا صوتها الغاضب مجدداً

وقد ضربت بقبضتها الطاولة هذه المرة

" لن أهدأ ولن أصمت فهل تتسامح أنت مع من كان
السبب في موت جميع من تحب أمام عينيك وتركك
تعاني طوال حياتك ؟ "



قال بضيق وقد تجاهل الموجودين حولهما أيضاً لأن الوضع

لم يعد يسمح بذلك

" أنا لم أقل سامحيه بل تتسامحي مع نفسك "



وكما توقع لم تفلح كلماته تلك في إقناعها بوجهة نظره وقد

رمت سبابتها صارخة بحدة

" كلاهما تأخذك للنتيجة ذاتها فأنا لست حمقاء وعاشرت
أطباء نفسيين لسنوات يروجون للحماقات ذاتها التي
تقولها ولم يعش أيّا منهم مثيلاً لها من قبل ليحكم "


وبحركة غاضبة قوية رفعت المنديل عنها ووضعته بحركة

أقوى على الطاولة ووقفت قائلة بحدة تنظر لعينيه

" شكراً على وجبة الغذاء وتعاطفك معي يا ابن جدك "


وما أن أنهت كلماتها تلك غادرت بخطوات واسعة غاضبة

ووجهتها باب المطعم فوقف مسرعاً وتبعها وتوقف فجأة
قرب الباب بسبب الذي قابله وقد قال بابتسامة كئيبة

" يبدوا لا أمل لي في العجل "


فابتسم وأخرج محفظته بحركة سريعة ومد له نقودا منها

وركض مستعجلاً ونظراته المستغربة لمزاجه المعاكس

لشجارهما تتبعه وقد قال

" إن كان الحساب ناقصاً أخبرني فيما بعد "


وغادر باب المطعم بخطوات راكضة ووقف خارجه ونظر

يميناً وتحركت خطواته المسرعة ناحية مقصده والتي كانت

تبتعد دون وجهة ولا دليل لها هنا وما أن وصل إليها أمسك

بذراعها وأدارها نحوه وقال بأنفاس لاهثة ونبرة حانقة

" زيزفون انتظري أين تنوين الذهاب ؟! "



سحبت ذراعها منه قائلة بضيق

" لا شأن لك بي ..أو قم بإمضاء قراراً باعتقالي فيما بعد "


قالت آخر عبارتها بتملق وأدارت ظهرها له فعاد وأوقفها

قائلاً بجدية يشير بيده حيث سيارته المتوقفة في

الجانب الآخر

" لنغادر من هنا وننسى كل ما قيل "



" افعلها وحدك "



همست بها في وجهه من بين أسنانها وتركته وتابعت

سيرها ولا يعلم النسيان أم المغادرة كانت تعني لكن المؤكد

أنها تقصدهما معاً ، ترك كل تلك الأفكار مكانها ولحق بها

ولأنه يعلم عنادها جيداً كما نوع غضبها الذي يكون جدهما

محوراً أساسياً فيه عاد لإيقافها من ذراعها مجدداً فلا يمكنه

تركها غاضباً أيضاً ليعاني من رحلة البحث عنها فيما بعد

بل ولن يطاوعه قلبه لفعلها من أساسه لذلك قال بحزم ما

أن نظر لعينيها الحانقة

" زيزفون أقسمت عليك بالله أن تتوقفي عن هذا "



كان مزاجها المشتعل على حاله لم يتغير وذاك ما كانت

تظهره عيناها المدججة بالغضب وما أن كانت ستتحدث

قاطعها صوت الطفلة التي وقفت بينهما تحمل سلة أزهار

في يديها وقد رفعت عيناها الزرقاء الواسعة لهما تتطاير

خصلات غرتها السوداء الناعمة فوقهما وقالت بابتسامة

جميلة تنظر لوقاص تحديداً

" سيدي اشتري لها زهرة ستسامحك حبيبتك حينها "



لم يستطع إمساك ابتسامته وهو ينقل نظره منها للتي كانت

وكما توقع تنظر للطفلة مصدومة قبل أن تتبدل تلك النظرة


بأخرى مستاءة وهي تنظر لعينيه ، وما أن حاولت

اجتيازهما مغادرة أمسكها من يدها والتفت أصابعه حول

معصمها موقفاً إياها مكانها بينما مد يده الأخرى للطفلة

قائلاً بابتسامة

" هات واحدة "


أشرق وجه الطفلة الجميلة وهي تخرج له زهرة من سلتها

المليئة ورفعتها نحوه فأخذها منها ومدها لها بالفعل

وبالرغم من النظرة الغاضبة في عينيها كما شفتيها

المزمومتان بحنق لم يتراجع كما لم تترك الابتسامة شفتيه

وقد كبّلها عن فعل أي شيء صوت الطفلة التي قالت تنظر

لها برجاء طفولي

" اقبليها سيدتي أرجوك ليشتريها ولا تغضبي منه "



كانت نظرتها تلك كفيلة بإذابة الجليد فكيف بقلب بشري مما

جعلها تستسلم بسهولة فاستلمتها من يده بحركة عنيفة كما

سحبت معصمها منه وغادرت باتجاه المكان المركونة

سيارته فيه هذه المرة فابتسم بانتصار وأخرج ورقة نقدية

أعطاها للطفلة وغادر ولم يكن يعلم كم الرقم الموجود فيها

ولم يهتم لذلك ويراها تستحقها للمساعدة التي قدمتها له

وفي وقتها تماماً ، تباطأت خطواته وأدار رأسه نحوها ما

أن صرخت من خلفه بسعادة ودهشة تلوح بها في

يدها عاليا

" شكراً لك سيدي ... كم أتمنى من الله أن تكونا
حبيبين دائماً "



ابتسم وأشار لها بيده قبل أن يتابع سيره يحرك رأسه

مبتسماً بسبب أفكار الطفلة الحالمة فهم علموهم هذا

لاصطياد من ينفع كزبون يشتري منهم والمصيدة هي قلوب

النساء لأنهن يعشقن هذه الأمور وتعني لهن الكثير لكنها لا

تعلم بأن تلك الفاتنة مختلفة تماماً ولولا أنها حركت مشاعر

الطفلة داخلها ما كانت لتقبلها ، وأتاه دليل كل ذلك سريعاً

فما أن وصل السيارة التي أصبحت تجلس بداخلها منذ وقت

وفتح بابه حتى ابتسم وهو يرى الزهرة المرمية على

كرسيه فرفعها وجلس وأغلق الباب يتجنب النظر ناحيتها

وما أن تحرك بالسيارة من هناك غرسها في واحدة من

فتحات التكييف الموجودة في مقدمة السيارة بينهما ونظر

ناحيتها حينها فكانت تكتف ذراعيها وتنظر أمامها بضيق

ونفاذ صبر فقال مبتسماً وهو يعيد يده للمقود ونظره

للطريق الذي دخله للتو

" ستبقى هنا لتتجمد وتصبح زهرة جميلة باردة تشبهك
تماماً "



وما أن أنهى كلماته نظر نحوها وكانت تنظر له نظرة


حانقة وحاجباها الرقيقان معقودان بضيق وعكس ما


توقع تمتمت ببرود

" وماذا عنك أنت ؟ "
ضحك ودون شعور منه ونظر للطريق المزدحم أمامه وقال
"لا أعلم فلا أحد يمكنه الحكم على نفسه فما تقولين أنتِ "



ورمقها بطرف عينيه مبتسماً فأشاحت بوجهها عنه ناحية

النافذة متمتمه

" سيء للغاية "


لم يستطع منع عينيه من التحديق فيها حينها وترك الطريق

وما سيحدث فيه وإن كانت لا تنظر له وابتسامة رقيقة

تزين شفتيه وقال ولازال يتعمد مداعبتها وتلطيف الأجواء

بينهما إن كان سيأتي بأي نتائج أم لا

" تقصدينني أنا أم حظي أم مستقبلي ؟ "


وضحك ما أن نظرت له والاستياء لم يفارق عينيها بعد

ومدت يدها نحو الزهرة وسحبتها من مكانها بحركة غاضبة

وفتحت النافذة ورمتها منها فضحك وقال ونظره على

الطريق أمامه ويداه تدير المقود لينعطف

" أثمة من يقال عنها بأنها زهرة جميلة وتغضب ! "



نظرت ناحيته وقالت بضيق

" لما لا تصمت وتهتم بقيادتك "


ابتسم وقال وسيارتهما تدخل الطريق المفتوح مسرعة

" أمرك سيدتي "


وعلا رنين هاتفه فجأة فأخرجه من جيبه وأجاب قائلاً

" اجل يا آنسون "



وصله صوته سريعاً

" وجدت طلبك "

ابتسم وقال

" بهذه السرعة !! "



قال ذاك من فوره وبعد ضحكة صغيرة

" وما الصعب في وقتنا هذا ؟ زوج شقيقتي لديه صديق
يملك مكتباً للخدمات العامة والشقة في مبنى سكني مرموق
وأخبرته بأن الزبون لا يهتم للسعر "


وختم كلماته بضحكة عالية فضحك أيضاً وقال

" جيداً فعلت أرسل لي الموقع وسأكون هناك خلال
ساعة تقريباً "

*
*
*

همس نوح وعيناه المتسعة لم تفارق أبان

" ما هذا الذي يحدث هناك ؟ "



ونظر لشعيب الذي لم يبدي أي رد فعل أو ينظر له بينما

تولى عيسى المهمة عنه هامساً أيضاً وبكلمات مشدودة

" يخططون لشيء ما بالتأكيد "


خرج حينها شعيب عن صمته وقال بجمود

" الأمر بالنسبة لهم يختلف عنّا ، نحن لا علاقة
لنا بالسياسة "


حدق فيه نوح ببلاهة واستغراب بينما أومأ عيسى برأسه

مبتسماً وقد وصله معنى ما أشار له شقيقه فنقل نظره

ناحية أبان مجدداً وقرر الاستمتاع بالسماع فقط لأن شقيقه

ذاك قد أصاب عين الحقيقية وهو سبب تواجد أبان الرئيسي

وإن لم يكن الوحيد لأنه بدأ بهم أولاً كطبق مقبلات فقط قبل

البدئ في الوجبة الرئيسية لذلك وجه نظره لهم قبل أن يقول

" نحن هنا من أجل أمر لا أراه أهم مما يوجد بين يداي الآن
لكني سأوليه بعضاً من وقتك ووقت أشراف الجنوب "



وقال آخر كلماته وهو ينقل نظره بين عقبة وجمع المشايخ

الواقفين في الأسفل متجاهلاً شعيب وأشقائه بشكل متعمد

ورفع أحد الأوراق بيده موجهاً إياها نحوهم وقال بصوت

واضح ملأ المكان

" ما يعلمه الجميع هنا بأن ورقة الميثاق هذه عمرها خمسة
وثلاثون عاماً وكان الزعيم مطر حينها لم يبلغ الخامسة
عشر من عمره بعد والموقعون عليها هم والده وعمه
بينما الزواج والإنجاب حدث في صنوان وعلمه بالشيء
فيما بعد ما كان ليغير في الواقع شيئاً "


وأنزل يده بينما تابع بصوت واثق قوي

" والأهم من ذلك أننا هنا في قضاء أي إن احتكم الخصمان
له فكل ما سيفعله هو فتح ملف قضية للتحقيق في وجود
دجى الحالك على قيد الحياة أم لا ومن ثم تقديمه للمحاكمة
والحكم عليه أما قواعد وقوانين القبائل ليست من
اختصاصه وسيسقطها جميعها "



سكت عند آخر كلمة قالها ونظره موجه لشعيب تحديداً

والذي كان ينظر له بدوره وكأن هدفه تحول نحوه بينما

بدأت التمتمات من خلفه تعلو بين موافق ومتسائل وعلا

صوت أبان مجدداً وبعد أن ضرب بيده ضربات خفيفة

على طاولته

" الهدوء رجاءً حتى ينتهي ما لدي "


وكان لكلماته مفعول السحر وقد هدأ الجميع منصاعين فنظر

نحو عقبة الذي رفع كتفيه مبتسماً وكأنه يقول له أنا

أصبحت واحداً منهم هنا فبادله الابتسام قبل أن يقول وقد

عاد بنظره نحو شعيب وشقيقاه

" وفي حال تم إثبات أنه على قيد الحياة كل هذه الأعوام
التي لم يظهر فيها فلكم الحق في توكيل محامٍ والسير في
القضية بشكل قانوني ثم يدرس القضاء تهمة وحيدة موجهة
للزعيم مطر وهي التستر على مذنب هذا في حال تم إثبات
تستره عليه ومن هذا المنطلق سيكون لنا حق البحث في
السبب وراء جريمة القتل وسيقف دجى الحالك هنا أمام
القضاء حال وجوده حياً ليروي لنا تفاصيل الحادثة ولكل
طرف الحق في البحث عن الشهود والأدلة لجريمة قتل
عمرها تجاوز الثلاثين عاماً "




وعلت ابتسامة انتصار شفتيه وهو ينظر لهم من علياء

وكأنه يتحداهم لردها عليه ، وكان شعيب كما توقع وكما

علم عنه من الدقائق القليلة التي عرفه فيها يلتزم الصمت

كما الهدوء الغريب ولن يستغرب هذا منه فهو علم سريعاً

بأنه لا يشبه شقيقاه بل ولا يشبه أحداً منهم جميعهم فهو

يفكر أولاً ويخطط في صمت وبدهاء ويعلم من أين وكيف

يصيب هدفه وأتاه دليل ذلك حين حاول شقيقه أن يتحدث

معترضاً فأسكته بحركة من يده بينما لم تترك نظراته عيني

أبان وكأنها إشارة له ليتابع حديثه وكان ذاك ما زاد

دهشته وإن لم تظهر على ملامحه فهو توقع بالفعل أن

يحتج أغباهم ويكشف خبايا تلك الحادثة كدليل بيّن ضدهم

ولذلك قام بمنعه لأنه علم بأن لسان شقيقه ذاك سيزل دون

شعور ، وأقر في قرارة نفسه بأنه إن لم يكن رجلاً يُشهد

له بالشر والإجرام لكان بطلاً عظيماً يستحق لقب سيد

الجنوب ولهذا هو يراه ليس بالخصم الهين لمطر شاهين

وعليه اللعب معه بدهاء مماثل بل ويجب أن يتفوق عليه في

ذلك ليخرج من هذه الحرب رابحاً ولهذا يرى بأن مهمته

شديدة الصعوبة بالرغم من ثقته التامة في خاله ذاك وبأنه

أيضاً رجل يعرف كيف يضع عقله في المسار الصحيح لهذا

عليه فقط أن يستمر في الثقة به وأن يقوم بواجبه هنا فقط

ويترك الباقي له فلن يقدر عليها بشري غيره ، قال وهو

يشير برأسه ليد شعيب

" أما ما يخص الورقة في يديك وشيوخنا وأشرافنا مكانكم
في مجلس عائلة الشاهين ومناقشة هذا بما اقتضت به
الأعراف فما جعل الموقعين عليها يفعلون ذلك إلا نزاهتهم
وعدلهم ولن يظلمكم ابنهم وزعيمكم فيما هو حق لكم .. "



ورفع يده يفرد سبابته وخنصره وهو يتابع

" ولهذا أنتم أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا الاحتكام للقضاء
بما ينص به وله علاقة تامة به أو مجلس شيوخ وفض
نزاع بما يرضيكم ويرضي الجميع "




وما أن انهى كلماته تلك أنزل يده مقبوضة ووضعها فوق

الأوراق على الطاولة أمامه ولم يترك له نوح المجال ليأخذ

نفساً وهو يصرخ بغضب محتج

" نحن نريد ما هو مو.. "


" أصمتتت "


كانت تلك صرخة شعيب وكلماته المسموعة الأولى منذ أن

اعتلى أبان المنصة فوجد الهواء السبيل لرئتيه المتشنجتان

واستطاع ان يهنئ نفسه أخيراً فما أراده وصل إليه ورد

فعل شعيب كان الدليل القاطع على أنه حوصر في مسار

ضيق واعتراف ضمني بأنه هزمهم أمام من حشدوهم

ليكونوا هنا بل وأمام الشعب عامة وقد أعاد القضية

لمسارها الصحيح فإمّا أن يمزق الورقة الموجودة بين يديه

ويترك القضاء ليحكم في الحادثة التي يعلمونها ويجهلها

غيرهم أو أن يتجه لمجلس الشيوخ والحكماء للوصول لحل

يرضيهم كطرف متضرر ومعتدى عليه ، قال ضارباً بيده

على الأوراق تحتها

" ننتقل الآن لما هو أهم وموجود هنا "



ونظر ناحية مطر ما أن أنهى كلماته تلك والذي كان ينظر له

أيضاً بالرغم من أنه لم يستطع قراءة أي شيء في تلك

العينان السوداء الحادة لكنه يفهم أمراً واحداً بأن هذه

المهزلة يجب أن تنتهي وليعلم الجميع ما كان خافياً عنهم

كل هذه الأعوام ، يعلم جيداً بأن كشف ما فيها سيضره

خارجياً لكنه سيعالج الأمر داخلياً وهو الأهم وبما أن شراع

صنوان توفي فقد سقط الشرط وتتالت الشروط بعده تباعاً

وبما أنه وكما يعرفه جيداً لا يسعى لحكم البلاد ولا خوض

الانتخابات فهو لن يهتم لما سيكون عليه رأي قادة الدول

العظمى ويفهم جيداً بأنه يهتم فقط لوضع البلاد وعدم

انزلاقها في حرب أهلية جديدة ولهذا على المحاكمة

الحقيقية أن تبدأ الآن .


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
قديم 28-01-22, 09:42 PM   المشاركة رقم: 1675
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
متدفقة العطاء


البيانات
التسجيل: Jun 2008
العضوية: 80576
المشاركات: 3,164
الجنس أنثى
معدل التقييم: فيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسيفيتامين سي عضو ماسي
نقاط التقييم: 7195

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
فيتامين سي غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : فيتامين سي المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: جنون المطر (الجزء الثاني) للكاتبة الرائعة / برد المشاعر

 




*
*
*

حين وصلت سيارته للمكان نظر برضا للمبنى السكني الضخم

والمؤلف من عدة طوابق واجهته زجاجية بالكامل ويأخذ

شكلاً مستطيلاً وتوقف بالسيارة أمام بابه الرئيسي وما أن

فتح بابه ونزل كان ثمة موظف أسرع لفتح باب زيزفون

قبل أن يتوجه نحوه فمد له مفتاح سيارته وقال

" إسمي هو وقاص سلطان "


ابتسم الشاب وبدأ يحاول تكرار الاسم ليحفظه فضحك وقال

" أتركه لدى قسم الاستعلامات سآخذه فيما بعد "


أومأ له مبتسماً وتوجه نحو السيارة من فوره بينما نظر

وقاص للواقفة قربه والتي كانت تنظر للباب الزجاجي الذي

انفتح آليا لخروج سيدة بثياب أنيقة منه تتحدث في هاتفها

فتحركت خطواته نحوه وتبعته هي من فورها ودخلا لصالة

استقبال واسعة بأرضية رخامية سوداء لامعة عند طرفها

الأيمن وضعت طاولة نصف دائرية تجلس خلفها ثلاث

فتيات في أماكن متفرقة وكل واحدة يوجد أمامها حاسوب

فتوجه نحو التي كانت متفرغة عكس رفيقتيها اللتان كانت

إحداهما تدون بيانات رجل ترافقه إمراه وطفلان والأخرى

تتحدث ضاحكة مع شاب يقف أمامها ، ما أن وصل إليها

نظر خلفه أولاً وحيث التي لم تتبعه نظراتها تنتقل في

المكان الذي لا يخلو من زائريه بعدم اهتمام وكأنها تفعل

ذلك لتمضية الوقت ليس إلا قبل أن يعود بنظره للتي كانت

تنتظره مبتسمة فأخرج لها بطاقته الشخصية ومدها

لها قائلاً

" يوجد حجز لشقة بإسمي هنا "


أخذتها منه ونظرت لاسمه فيها قبل أن تنظر لشاشة

حاسوبها وقالت وهي تعيدها له

" أجل سيدي عليك فقط التوقيع واستلام بطاقة الباب "



وناولته ورقة وقلم حبر فوقع أسفلها بعد نظرة سريعة

لأسطرها وناولها إياها وأخرج بطاقة وأعطاها إياها أيضاً

لأنه من شروط العقد دفع ثلاث أشهر مقدماً وهذا ما يضمن

به هؤلاء التجار حقهم لأنه ينظر بعين الحسرة لكل زبون

يصل ولا يجد شقة شاغرة لذلك عليك الإلتزام بالدفع إن

أتممت مدة السكن أم لم تفعل .


أعادت له بطاقته كما ناولته بطاقة أخرى معها

وقالت مبتسمة

" أتمنى لكم إقامة سعيدة لدينا وأي مشكلة تواجهك يمكنك
التواصل معنا من خلال الهاتف المخصص وسنرسل من
يقوم بحلها سريعاً "


شكرها وهو يأخذهما منها وقال وهو يدس بطاقته

المصرفية في جيب سترته الداخلي

" كم بطاقة لباب الشقة ؟ "


قالت من فورها والابتسامة اللبقة لا تغادر شفتيها

" اثنتان فقط سيدي واحدة معك الآن ويُمنع عنك الخروج
بها من هنا وتتركها لدينا وتستلمها كلما صعدت لشقتك ،
وفي حال أردت تركها لشخص يشاركك السكن مثلاً تترك
اسمه لدينا أما الثانية لا يتم تسليمها لأي أحد تستخدم
للحالات الطارئة فقط وبوجود رجال الأمن كنشوب حريق
في الشقة على سبيل المثال أو بطلب رسمي من الشرطة
فقط لغرض اقتحامها "



أخرج لها البطاقة الخاصة بعمله ومدها لها قائلاً

" أريد الأخرى أيضاً "


اخذتها منه ونظرت لها مطولاً وقبل أن تغادر كرسيها قائلة

" انتظر لحظة من فضلك "



وغادرت من هناك باتجاه الممر الوحيد في المكان وبدأت

الدقائق تمضي ونظره يراقب كل حين التي لازالت واقفة

مكانها حتى عادت التي ما أن جلست على كرسيها ناولته

بطاقته وبطاقة الباب الأخرى قائلة

" كان عليّا أخذ موافقة السيد كيران أولاً كما عليّا تدوين
اسم مستخدمها كي لا نسلمها لغيره ولا نستلمها إلا منه "




قال مباشرة

" سيكونان معي كلاهما "



ارتفع حاجباها باستغراب قبل أن تقول

" حسناً كما تشاء ونتمنى لك إقامة ممتعة "



شكرها وهو يدسهما في جيب سترته لأنه يعلم ما ستكون

ردة فعل جده ما أن يعلم كما القاتل الذي لازال يجهل هويته

حتى الآن ولن يطمئن وثمة بطاقة أخرى يمكن فتحه بها

وإن أغروهم ببعض المال لأخذها منهم .



كانت الشقة كما طلب تماماً وأراد أثاثها عصري له ألوان

مميزة ومتناسقة وإطلالة زجاجية على نهر التايمز والمباني

الجميلة المحيطة به حيث كانت تحتل الطابق الخامس .



انتقل نظره ناحية التي صعدت السلالم القصير الموجود

هناك يفصل الغرف عن الردهة الواسعة وراقبها حتى

اختفت عن ناظريه ويعلم بأنها تقصد الغرفة التي لن

تغادرها أبداً ، عاد بنظره الشارد حيث كان يمسك خصره

بيديه من تحت سترته المفتوحة وتفكيره منحسر حول

نقطة واحدة

( ما هي خطوته القادمة ؟ )



استسلم لمتاهات تلك الفكرة لوقت وقبل أن يخرج هاتفه من

جيب سترته وتوقف لثواني أمام الاسم الموجود في شاشته

حتى اتخذ قراره النهائي وضغط أيقونة الاتصال وما هي إلا

لحظات ووصله الصوت الرجولي الهادئ

" مرحباً يا وقاص "


قال مباشرة

" مرحباً أبي ... "



وتردد قليلاً قبل أن يتغلب على كل ذلك قائلاً

" ثمة ما عليّا إخبارك به وما عليك معرفته "


*
*
*

كان أول ما شعرت به يضايق نومها وهي تغادره التصلب

في عنقها الذي كان متيبساً بسبب سقوط رأسها جانباً لوقت

طويل في رحلة نوم عميق تمسك به جسدها المنهك درجة

أن لم يزعجها شيء فيه ! وما أن فتحت عيناها مضت

ثواني قصيرة كانت منفصلة فيها عن واقعها تماماً

لتستوعب أين هي الآن ولما تنام هكذا حتى جلب عقلها

اللحظات الأخيرة قبل نومها تباعاً واستوت في جلوسها

ونظرت باستغراب لباقة الزهور التي وضعتها سابقاً على

الكرسي المجاور وأصبحت الآن في حضنها !

نظرت سريعاً وبذهول للكرسي المجاور لها وللجسد الجالس

عليه والذي كان خالٍ تماماً وقت نومها وانطلاق طائرتهم

وانتقلت نظراتها المتسعة لوجهه وملامحه المسترخية

مغمض العينين يتكئ بكرسيه للخلف وتساءلت لما ترك

كرسي القيادة وينام بجوارها هنا !

أبعدت نظرها عن ملامحه محمرة الوجنتين توبخ نفسها

ورفعت شعرها وغرتها عن وجهها وتثاءبت مطولاً قبل أن

تنظر مصدومة للشاشة أمام كرسيه والتي كانت تُظهر خط

سير رحلتهم والطائرة التي بدأت تقترب من بلادهم فهل

نامت لكل هذا الوقت !!

عبست ملامحها ما أن أخبرها عقلها بأنه قد يكون موجوداً

هنا منذ انطلاق الطائرة ومؤكد طاقم القيادة أصروا على أن

يترك القيادة لمساعده ويكون بجوارها وهي كانت كالجثة

الميتة لا تعلم عمّا حولها شيئاً .



" متى كانت آخر مرة نمتِ فيها ؟ "


أجفلت مصدومة ونظرت نحو صاحب الكلمات المسترخية

الكسولة والذي لازال على وضعه السابق واكتشفت الآن

بأنه لم يكن نائماً بينما أضاعت هي الرحلة نائمة كالباندا !!

ومعه حق يسأل سؤالاً كهذا وما لا يعلمه بأنها لازالت
تشعر بالنعاس !



ما أن ارتفع جفناه أبعدت نظرها عنه لباقة الأزهار البيضاء

بين يديها واشتدت أصابعها عليها وابتسمت بصدق وهي

تقول بكلمات هادئة رقيقة

" شكراً على الحفل وعلى كل شيء كان رائعاً اليوم "


ابتسمت شفتاه ابتسامة أخفاها سريعاً بينما نظر لها بطرف

عينيه وتمتم ببرود

" كان عليك شكر أصدقائك "


ماتت ابتسامتها حينها ورمقته بطرف عينيها أيضاً تزم

شفتيها بحنق فهو لا يتركها تسعد بأي شيء في وجوده أو

يخصهما لكنها لن تصمت وتختبئ خلف غضبها الصامت

كالسابق فوالداها أصبحا خارج المعادلة الآن لذلك هاجمته

بالطريقة والنبرة ذاتها قائلة ببرود تنتظر أمامها

" لا أحد من أصدقائي يمكنه شراء فستان مماثل "


ارتسمت التسلية على ملامحه كما ابتسامته المائلة وكأن
ذاك ما ينتظره منها وقال ينظر لما يظهر له من ملامحها

" قد يكون هدية من مديرك "


اتسعت عيناها وكما توقعت لن يعترف أبداً بأي أمر إيجابي

يفعله من أجلها ، استدار رأسها نحوه هذه المرة

وقالت متملقة

" ولا هو يفعلها ولا لابنته نفسها "


فاجأها بأن علت ضحكته في المكان الذي لا يحوي سواهما

يرفع رأسه على مسند الكرسي خلفه حتى شردت عيناها في

ملامحه الضاحكة تبتسم ببلاهة ونظر لها ما أن انتهى من

ضحكه وقال

" قد يفعلها احتفالا بالتخلص منك "


كان دورها حينها ولم تستطع إمساك ضحكتها التي علت

رقيقة تشبهها في المكان وعادت لجلوسها السابق واتكأت

برأسها للأعلى أيضاً وارتسمت ابتسامة جميلة على

شفتيها وقالت

" منذ كنت طفلة وحلمي حفل زفاف رائع يتحدث
عنه الجميع "



كانت نظراته ملتصقة بملامحها وكأنه ينسخ صوراً لها في

عقله قبل قلبه وتسللت الابتسامة لملامحه ودون شعور ولا

استئذان ما أن اتسعت ابتسامتها الجميلة أكثر وقالت بينما

لازالت تنظر نحو الأعلى وكأنها انفصلت عن الحاضر تماماً

" كنت ألتصق بالتلفاز كلما رأيت حفل زفاف في أحد
المسلسلات حتى أنني قلت لأمي مرة بأنني أريد أن أكون
راهب في الكنيسة لأحضر جميع حفلات الزفاف "



واختفت ابتسامتها تدريجياً مع انتهاء كلماتها تلك وشردت


عيناها بشيء يشبه الحزن بسبب تناقض مستقبلها مع


أحلام طفولتها تلك .


" خالي مطر هو من رفض فكرة إقامة حفل كبير في لندن "

جعلتها كلماته الهادئة الرزينة تلك والتي خرجت دون تردد

ولا تفكير منه تتجمد مكانها للحظات وكأنها تحاول فهمها

واستيعابها كلٌ على حدى واستوت جالسة ما أن حدث ذلك

ونظرت ناحيته وهمست مصدومة


" لكن لماذا ؟! "


كتف ذراعيه لصدره ونظر للخارطة على الشاشة أمامه

وقال بشرود ونبرة غامضة

" بسبب الماضي وابن راكان "


كانت نظراتها المصدومة تزداد اتساعا وقالت ما أن

استطاعت فعل ذلك

" لكن .. ! ذلك الأمر مر عليه وقت طويل ومؤكد مات
ذاك الرجل منذ زمن "



نظر نحوها ولعينيها تحديداً وقال بجدية

" هذا تفكيري وتفكيرك أنتِ لكن مطر شاهين لا ، ولأنه لا
يغدر ولو كان عدوه وبما أنه لم يقتله بيديه فهو لم
ولن ينساه "


شعرت بالانقباض في قلبها وأخافها مجرد التفكير في الأمر

فذاك الرجل كان يرى بأن عائلة كنعان هم من باعوه لمطر

شاهين لذلك قتلهم كبيراً وصغيراً ومؤكد يعتقد بأنهم السبب

أيضاً في خسارته للحرب معه ولن ينسى هذا لهم إن كان

لازال على قيد الحياة ، لكن أيكون حياً بالفعل بعد كل هذه

الأعوام ؟!

أيعقل هذا أم هي مخاوف رجل الحروب فقط والذي لا يترك

شيئاً للصدف والتكهنات ؟


لم تستطع إبعاد نظراتها المتسائلة الحائرة عنه وإن كان لا

ينظر لها فهل وافق على هذا رغم اعتراض خاله

ومخاوفه ؟!

ولما يرفض الاعتراف بذلك وكأنه لا علم له به مثلها


تماماً ؟ هل يصعب عليه تجاوز جرح كرامته وما حدث

بينهما سابقاً لهذا الحد ؟

نظرت لعينيه وما أن رمقها بطرفهما وتمتم ببرود

" والآن سيتصدر حفل زفاف مطار مواقع التواصل جميعها
وسأتلقى توبيخاً معتبراً منه بسبب أحلام طفولتك السخيفة "

عادت ضحكتها لملأ المكان كما عادت نظراته للتحديق بها

وقالت ضاحكة

" لا أصدق بأنك لم تحسب حساباً لذلك "


ارتسمت الابتسامة على شفتيه وهو يعود بنظره للشاشة

أمامه وسبابته تتحرك عليها بينما كانت نظراتها هي

الملتصقة به حينها وشعرت بضربات قلبها تتعالى بتناغم

منتظم وهي تنظر لملامحه الرجولية بالغة الوسامة

والممتزجة بالجدية والاتزان وتمنت أن عبّرت عن شكرها

الحقيقيّ وامتنانها له وبأن حضنت ذراعه واتكأت برأسها

عليها وهي تخبره عن كل ذلك لكن الهوة العميقة بينهما

سبقت خجلها الفطري لمنعها عن فعل ذلك وتبعتها

ابتسامتها المحبة وهي تختفي تدريجياً ما أن تذكرت

حديثه السابق عن الفتاة التي يحبها وأراد الارتباط بها .


كان صوت المضيفة الذي اخترق صمت المكان حينها معلنة

عن نهاية رحلتهم واقتراب طائرتهم من مهبط مطار

العاصمة حوران ما أنقذها من الغوص أكثر في تلك الأفكار

ومن الألم الذي سيحطم قلبها وهي تتصوره يتخيلها

مكانها الآن ويقارن مشاعره في الحالتين لتكون الخاسر


بكل تأكيد .


ارتفعت نظراتها معه وهو يقف ويرفع قبعته ويضعها فوق

رأسه بينما غادر كرسيه قائلاً

" ستكون والدتي سعيدة بهذا فهي لا تعلم عن قدومك "


وكانت تلك هي الصاعقة التي اصطدمت بحاجز مشاعرها


وحولته لأشلاء وهي تراقبه من خلف الدموع التي أحرقت

زجاج عينيها فها هي تسقط عائدة لأرض الواقع ليتحطم

قلبها قبل أحلامها فهي ليست سوى واحدة من أمنيات

والدته وأمر يفعله من أجلها فقط .


*
*
*

أدار مقبض الباب ببطء وفتحه وابتسم بحزن ما أن وقع نظره

على الجالسة فوق سريرها تُقلب يدها ألبوم الصور الكبير

الموجود في حجرها والذي امتلأ بصور مراحل طفولتها

جميعها بينما كانت ملامحها أبعد ما يكون عن الاستمتاع

بتلك الذكريات الجميلة ولن يستغرب هذا بعدما حدث فهي

كانت المرة الأولى التي يتعامل فيها معها بتلك القسوة كما

هي الأولى التي تسجن فيها نفسها في غرفتها ليوم كامل

فهي كانت دائماً أقوى من أن يجعلها أي شيء تفعل ذلك ،

وإن حدث ووصلت لمرحلة الاستياء بسبب أحدهم تخرج

فقط .. تتنزه وتتسوق وترجع عند نهاية الرحلة

بمزاجها السابق .


لا ينكر بأنه من ساهم في تكوين شخصيتها لتكون هكذا

ورغم انتقادات زوجته الدائمة إلا أنه أصر على أن يربيها

لتكون سيدة نفسها صاحبة قراراتها والأهم أن لا تحتاجه

وتبكي تناديه إن تعرضت لأي أذى وهي طفلة فهو سافر

ودخل هذه البلاد مهاجراً وفاراً من بلاد الحرب وأول

شخص التقى به هنا حينها وكان عربي الأصل قدّم له

نصيحة واحدة

( تزوج بإنجليزية قبل أن يضيع مالك )

لكنه اتخذ قراراً مغايراً وعمل بدوام كامل حتى أصبح لديه

ثمن سكن مستقل ثم تزوج لكن ليس بامرأة تعطيه المال بل

بمن تحتاج له ولم يندم على قراره ذاك يوماً وهو الزواج

بمن كان لقاؤه الأول بها قرب محطة القطار تحمل بين يديها

طفلها الذي كان لا يتوقف عن البكاء بسبب الجوع واقتربت

منه حينها وطلبت منه أن يعطيها المال ثمن لرحلتها لتعود

لموطنها الأصلي وتعيده له بعد ذلك وحين سألها لما

اختارته هو من بين جميع الموجودين في المحطة الممتلئة

بالناس قالت عبارة لم ينساها أبداً

( رأيت في ملامحك رجلاً شريفاً لن يستغلني من أجل
ذلك المال )


وعلم حينها بأنها امرأة شريفة أيضاً وإن لم تكن مسلمة ،

امرأة ترفض بيع جسدها من أجل المال ومهما كانت تحتاجه

ولم تتخلى عن طفلها بالرغم من كل الصعوبات التي عانتها

في وجوده معها ، وكان أول ما فعله حينها أن أنفق كل ما

يملكه على طعام وحفاضات وملابس لطفلها وعلى استئجار

غرفة مؤقتة لهما لأنها لم تكن تملك رقماً لعائلتها هناك كما

كانت على خلاف مع والدتها بسبب زواجها من والد طفلها

الإنجليزي فوجد فيها الشخص الذي يشبهه ويكمله أيضاً ..

إمراه لم تنظر لعيوبه ولا ما ينقصه وأدهشه أن أعلنت

إسلامها فقط لرؤيتها لتعامله معها وذاك ما جعله يقرر

الارتباط بها ورزق منها بابنته الوحيدة .. الابنة التي كان

يريدها أن تقف دون أن تحتاج لمن تستند عليه لأنه رزق

بها في سن متأخرة ولا يعلم متى قد يحين أجله ويتركها

وحيدة في هذا العالم ، ليس لعدم ثقته في الخالق لكن الحياة

في هذه البلاد لا ترحم الرجال فكيف بامرأة ؟

وحتى إن عادت لموطنها هناك يتوقع جيداً ما سيواجهها

فيها وما مقدار تقبل عائلته هناك لها ، ولا ينكر بأنه واجه

صعوبات كثيرة معها مستقبلاً بسبب عنادها واستقلاليتها

لكنه لم يندم أيضاً لأنه أوصلها لما يريد لها أن تكون ولن

يخاف من تركها وحيدة في هذا العالم من دونه لأنها تعرف

جيداً كيف تقف في أوج سقوطها وتفعل ما تريد وما تراه

صواباً ومهما كانت المخاطر وتقتص ممن يظلم غيرها قبل

من يظلمها ، تعمل وتدرس وتمارس هواياتها المحببة في

ذات اليوم دون أي خلل يفسد إحداها وكانت ومنذ مراهقتها

تعلم الصواب من الخطأ وتتخذ قرارها فيه دون أن ترجع

لأحد لهذا تغاضى دائماً عن عيوب شخصيتها هذه ..

الشخصية التي محاولة تغييرها الآن معناه التحول لأخرى

أسوأ منها .


اقترب منها وجلس على طرف السرير مقابلاً لها ونظر

للصور التي كانت متوقفة عندها تنظر لها دون أن ترفع

رأسها ولا نظرها له رغم علمها بوجوده وكانت فيها في

سن السابعة ترتدي الملابس المخصصة لرياضة الكاراتيه

يزينها الحزام الأسود حول خصرها النحيل وشعرها الأشقر

مرفوع للأعلى في جديلة طويلة ينساب على ظهرها

بنعومة ونظرتها تنطق قوة وابتسامتها تحمل كل معاني

الثقة بالنفس حيث كانت تهزم جميع منافسيها من الفئة

العمرية المماثلة والأكبر بمرحلتين أيضاً .


امتدت يده له ورفعه من حجرها وقد أفلتته أصابعها دون

رفض أو مقاومة وإن لم يتغير وضعها ولم تنظر له وأغلقه

ووضعه جانباً وقال بهدوء ما أن عاد بنظره لها

" أعلم بأني مخطئ يا ساندرين وفعلت ما لم أفعله سابقاً
وما كنت أرفض مجرد التفكير في فعله لكن هذا لا يمنع
فكرة أنك تصرفتِ بشكل خاطئ ، وليس ما فعلتِه أعني بل
عدم إعلام أحد بذلك وفي أمر لا يخصك "



أنهى كلماته التي تبدلت للجدية عند آخرها وهي على حالها

لم تتحدث كما لم ترفع رأسها فتنهد نفساً عميقاً وقال

" ثمة سؤال واحد أريد جواباً له وأعرفك جيداً لا تكذبين "


وتبدلت لهجته للجدية وهو يتابع ونظره لم يفارق ما يظهر

له من ملامحها

" هل كانت ماريه تعلم وموافقة على هذا ؟ "


والنتيجة كانت ذاتها الصمت التام وكأنها تمثال امرأة جالسة
تتنفس فقال ببعض الضيق

" ما توقعته صحيح إذاً ؟ "


ارتفع رأسها حينها ونظرت لعينيه وقالت بضيق

" أكانت ستمانع بعدما فعله بها ! "


قال بضيق أشد ينظر لعينيها بقوة

" هل سألتها عن رأيها لتعلمي ممانعتها من عدمها ؟
وهل أخبرتك بما حدث وما السبب ؟ "


وكان ذاك ما زاد اشتعالها بل وما يُغضبها سماعه في كل

مرة فنفضت يدها قائلة باحتجاج غاضب

" هل يحتاج الأمر ذلك أبي ؟ أليس ما رأته عيناك يكفي ؟
أكنتَ .... "



قاطعها من قبل أن تقول ما يعرفه جيداً بل ويرفض أفكارها

الخاطئة عنه قائلاً بحزم

" ما كنت لأرضاها في حقك يا ساندرين وما كنت

لأصمت إن كنتِ مكانها "




وكما توقع كان رد فعلها أتساع عينيها المصدومة بغضب

فتابع من فوره وبجدية موضحاً

" وذلك لا يعني أنني أتخاذل ناحيتها لكن الأمر مختلف
ساندي وزوجها ووالده أقرب لها مني وإن كنت
عم والديها "




أشعلتها كلماته مجدداً وقالت برفض محتج

" وكيف يكون ذلك ؟! دماؤك التي تسري في عروقها
وتحمل ذات اسمك وليس العكس ! "

قال بجدية أقرب للحدة

" أجل لكن الزواج رباط مختلف وجعل الله له
ضوابط وحقوق "



شخرت بسخرية قبل أن تقول بضيق تشير بيدها للبعيد

" ومن ضمن تلك الضوابط والحقوق أن يتحكم بها
ويضربها متى شاء ويطردها للشارع منتصف الليل
بمنشفة الحمام ! "



قال محتجاً

" أنا لم أقل بأنه لم يخطئ لكننا لم نعلم ما حدث يا
ساندرين وما يجعل والده يقف في صفه ولا يتخذ
موقفاً منه "




قالت بعينين ذاهلة ولهجة رفض غاضب

" أتريد القول بأنها المخطئة وهو على حق ! "



قال بحدة ونفاذ صبر

" قلت لم نعلم بعد وثمة فرق بينهما لكن ما فعلتِه الآن
سيتسبب بمشاكل أكبر من المشكلة ذاتها وتعلمين جيداً
حساسية وضعهما كليهما يا ساندرين "



وكما توقع كان رد فعلها الصمت التام بينما كانت ملامحها

كما نظراتها واشتداد فكيها يدل على أمر واحد فقط

فقال بضيق

" أيمكنك إدراك خطئك والاعتراف به ؟ "


" أنا لم اخطئ .. "


قالتها مباشرة وبثقة كاملة وكلمات قوية وتابعت بجدية

وعناد على رأيها

" أليس من حق ماريه أن تكون امرأة مستقلة تمتلك
قراراتها ؟ "


علا صوته أكثر بينما يده تشير جانباً

" هكذا ساندي ! بهذه الطريقة ؟ "


وكان جوابها أيضاً سريعاً غاضباً ومحتجاً تحرك يدها

بعشوائية قائلة

" ماريه عاشت وتربت لم تعرف أحداً سواه وحتى حين
هاجر وتركها سجنت نفسها في مربع ضيق تنتظر قدومه
ليخرجها منه وهو يستغل ذلك ويصنع منها امرأة ضعيفة لا
يمكنها العيش من دونه أو مخالفة أوامره "




صرخ مجدداً وكأنه يبارزها في ذلك

" نحن لم نعش معهما لنحكم بهذا "



وكان مفعول صراخه الغاضب كالسابق أن صاحت

محتجة بضيق

" أيحتاج الأمر أبي ؟ كل ما حدث ولا نعلم ! "


قال مباشرة وبحزم

" أجل لا نعلم شيئاً فنحن رأينا النتائج فقط لكننا لم نصل
للأسباب بعد "


لاذ كلاهما بالصمت أخيراً وكأن كل واحد منهما يعطي نفسه

الفرصة لاستجماع أنفاسه الغاضبة وتهدئتها قليلاً قبل أن

تتحدث التي لم تسمح لعقلها بإطالة ذلك ليصل لمرحلة

تناسيه وسألته بلهجة جادة تنظر لعينيه وكأنها تنتظر

الجواب منهما قبل لسانه

" إن دخلت منزلك يوماً ما مطرودة ومهانة وأصابع ذاك
الرجل محفورة على وجهي أكنت ستنتظر لتعلم الأسباب
وإن كنت مخطئة في نظره أم لا ! "




قال مباشرة وواثقاً من كلمة يقولها

" وإن كنتِ أنتِ مكانها كنت سأنظر للأسباب أولاً كما
لن أسمح بأن يظلمك أبداً "



وما أن كانت ستتحدث ويتوقع جيداً ما ستقول سبقها

قائلاً بجدية

" ساندرين أسالتِ نفسك يوماً إن كانت ماريه معترضة
على نفسها وتريد أن تتغير ؟ "



وكالمتوقع أيضاً حدقت فيه بذهول وكأنها لم تتوقع سؤاله

ذاك أو لم تفكر فيه وتفاجأت به فتابع من فوره وبذات

نبرته الجادة

" ما تريدينه أنتِ أمر وما تريده هي أمر آخر فها أنتِ
ترفضين أن تكون لك شخصية مختلفة عن شخصيتك
وماريه لها الحق في هذا أيضاً "



تحرر لسانها أخيراً وقالت برفض محتج

" أنا لم أنتقد شخصيتها أبي لا تخلط الأمور "


قال سريعاً وباتهام حاد

" وما معنى ما تتحدثين عنه ؟ "


بررت بانفعال واضح تتهم غريمها أكثر من كونها تدافع

عن نفسها

" أنا قلت بأنه يحاول بلورتها كما يريد لأنها شخصية
مرنة لم تتعلم أبداً أن تكون غير ذلك "



قال بانفعال مشابه وسبابته تشير لها

" وهو ما فعلته أنتِ معها أيضاً فلما تلقين باللوم عليه ؟ "


" أنا ! "

همست بها مصدومة فقال بحزم ينظر بقوة لعينيها

" أجل أنتِ .. فهل سألتِ نفسك كم مرة حاولتِ فيها
إجبارها على ما تريدين وما ترينه الصواب وبأنه في
مصلحتها ودون أن تستمعي لرأيها ؟ "



قالت مدافعة عن رأيها بقوة

" لأنه كذلك بالفعل "
قال بحدة يواجهها بالحقيقة المُغيبة عن عقلها

" هو كذلك في نظرك أنتِ وفي تركيب شخصيتك لكنك لم
تسألي نفسك يوماً إن كانت هي راضية عن نفسها أم لا "



كانت ستتحدث وستحتج كما يعرفها ويفهمها جيداً فسبقها

قائلاً بجدية

" ساندرين نحن كبشر لم يخلقنا الله متساوون وإن أراد كل
شخص أن يجعل الجميع مثله لاختل توازن الطبيعة ، ماريه
لم تذكر أمامك يوماً بأنها تكره ما هي عليه أليس كذلك ؟
كما لن تحب نعتها بالضعيفة "



قالت سريعاً وبانفعال محتج تلوح بسبابتها جانباً

" هي ليست ضعيفة وأنا لم أقل هذا بل واجهت مواقف عدة
بقوة خفية أدهشتني بها لكن ما يفعله ذاك الرجل هو دفعها
لذلك وهي لا يمكنها فرض ما تريد ولا التعبير عن رأيها
وقول كلمة أنا أريد هذا فقط "



تنهد بضيق ونفاذ صبر فهي لم تتغير أبداً ولم تُعلمها الحياة

بعد معنى أن تترك مساحة لتقلباتها لتفرض عليها أحياناً

مالا تريده ولا يمكنها تقبل ذلك قبل الاعتراف به كما وتُعامل

غيرها قبل نفسها من ذات المنظور خاصة بعد انضمامها

السنوات الأخيرة لقسم الإغاثة التابع لمنظمة حقوقية ، قال

بكل ما يستطيع من هدوء مزج معه الجدية في كلماته

" ساندرين عليك أن تفهمي أمراً وجيداً أيضاً بأن المرأة
جزء من الرجل ليس أنا ولا أنتِ ولا أي بشر يمكنه فهم
وفك تعقيدات هذا الأمر ونحن لم نكن معهما في منزل واحد
لنحكم من هو المسيطر المتحكم ومن المُقاد فيهما وهل
لفتاة أخرى بغير شخصية ماريه الآن أن تنسجم مع تيم
كرجل أم لا "



لاذ بالصمت لبرهة يحاول أن يعطيها مساحة كافية

لتستوعب ما قال وما أن كانت ستتحدث رفع سبابته أمامها

في إشارة آمرة لتصمت بينما تابع بما يعلم جيداً بأنها

ستقوله الآن

" صحيح أننا شهدنا مواقف سيئة وقد جلبها إلى هنا سابقاً
وآثار صفعته واضحة على وجهها وأمرها أن تجمع ثيابها
وتغادر معه ولم يعترض أحد ثم المرة الأخيرة التي جاءت
فيها إلى هنا لكننا لم نعرف أبداً الأسباب ولما تغفر له
ماريه نفسها ! "



وكالمتوقع كانت كلماته تذهب أدراج الرياح وفهم ذلك

سريعاً من اتساع عينيها وقد قالت بذهول غاضب وسبابتها

تشير بعيداً

" أتصدق أبي أن فتاة كماريه يمكنها إيذاء أحدهم أو ارتكاب

الأخطاء في حق الغير ؟! لا وفي من تحب أكثر من
نفسها !! "




قال من فوره وبنبرة قوية حادة

" وإن يكن لن نحكم ونحن لا نعلم يا ساندرين "


وما أن كانت ستهاجمه بغضب اشتعل في عينيها قبل

كلماتها سبقها قائلاً بضيق

" ساندرين أنا أفهم جيداً ما تقصدين وما تريدين لماريه
وترين بأنه في صالحها لكن هذا تصرف خاطئ وهو يهدم
شخصيتها وليس يقومها "



وأنهى أي محاولة لها للعناد والدفاع عن رأيها أكثر من ذلك

قائلاً بحدة

" وانتهى الحديث في الأمر الآن لأن ما حدث لا يمكن
تغييره ولندعو الله فقط أن لا يكون في الأمر هلاكهما كلاهما
لأنك وضعتها في مصير مجهول بيديك وستكونين الملام
الوحيد ومن نفسك قبل الجميع حينها "



وكما توقع قفزت مجتازة عتبة لومها لنفسها أو اعترافها
بخطئها قائلة بضيق

" هذا كان سيحدث على أية حال لأنك سمعت جيداً ما كان
السيد غستوني يقول .. "



ومجدداً هاجمت من كانت تراه سبب كل ذلك متابعة بغضب

" وكنت أعلم بأن ذاك الكنعاني سيخرجها من البلاد إن علم
بذلك ويخفيها عنهم بأي طريقة كانت ليستمر في طمس
شخصيتها واستغلال مشاعرها "



وكانت هي من قاطعته هذه المرة ما أن كان سيتحدث قائلة

بجدية تنظر لعينيه

" أعلم بأن ماريه مختلفة عني وقد تكون فعلاً راضية عمّا
هي عليه وكل ما فعلتُه الآن أني أوصلتها حيث المكان الذي
تقرر فيه دون ضغوط ولا تحكم من أحد وإن أرادت العودة
له فلتفعل ذلك لكن ليس بأمر منه واستغلال لعاطفتها نحوه
بل بقرار منها "


وأنهت كلماتها تلك تزم شفتيها بقوة وكأن مجرد ذكر تلك

التفاصيل يشعرها بالغضب وأكد ذلك أنفاسها القوية الغاضبة

فوقف وغادر السرير وقال بحدة وتهديد يحرك سبابته

في وجهها

" عليك أنتِ أيضاً إذاً الالتزام بذلك وابتعدي عن حياتها
وقراراتها ساندرين وما حدث إن تكرر فلا أنتِ ابنتي
ولا أعرفك "


وغادر من فوره باب الغرفة الذي أغلقه بقوة خلفه وبعد أن

وجه تهديده الصريح نحوها لأن النقاش لا طائل منه معها

كما بات يُجزم وكانت النتيجة مجرد جدال عقيم وكأن كل

واحد منهما يدافع عن رأيه أكثر من كونه يحاول إقناع

الآخر به وترك نظراتها الحانقة ملتصقة بالباب المغلق قبل

أن تتحرر كلماتها الغاضبة وقالت بضيق وكأنها تراه بدل

الخشب المصقول أمامها

" ثمة يوم بالتأكيد لن تحتاج فيه لأحد ليقرر عنها وستقول كلمة لا لكم جميعاً "


*
*
*

" أنتِ ماريه هارون أم ماري دفسنت أم ماري مديتشي ؟ "


ابتسمت بمرارة بينما لمعت عيناها بالدموع ما أن همست

بتلك الكلمات تسأل صورتها في المرآة أمامها يزين جسدها

قماش الفستان الأحمر الطويل وتغطي خصلات شعرها البني

الناعم كتفاها بعد أن أصبحت مستعدة للعشاء الأول لها هنا

وفي العالم الجديد والغريب عنها والذي وجدت نفسها فجأة

مجبرة على التعايش والتأقلم معه .


نظرت لعينيها الحزينتين وتكرر السؤال ذاته والذي باتت

تشعر رويداً رويداً بأنها تفقد الجواب الأكيد له وبدأت تشعر

بالضياع وكأن هويتها الحقيقية تُسلب منها في محاولات

بائسة للتأقلم مع واقع لا يمت لماضيها بأي صلة وحارت

كيف يفعل الأخرون ذلك ؟ كيف عاش تيم ولأعوام طويلة

على أنه الفتى اليوناني تيموثي ! وكذلك والده وعم والدها

وحتى مطر شاهين نفسه ؟! كيف لهؤلاء أن يعيشوا

ويتأقلموا مع شخصيتان متناقضتان تماماً !


ارتفعت يدها المقبوضة لصدرها واشتدت أصابعها بقوة

تنظر للمعان الدموع في عينيها .. هي لا تستطيع فعل ذلك

مثلهم وتلك هي الحقيقة المخيفة القاسية وتشعر بالعجز

والحيرة والتشتت ..! عاجزة عن فعل أي شيء في عالم

الخطأ فيه معناه هلاك الكثيرين وهي أولهم كما أن تجنب

الخطأ معناه الوقوع في أخطاء أكبر منه حتى باتت تبحث

عن الصواب ولا تعلم أين تجده ! لأول مرة في حياتها

تواجه قراراً مصيرياً كهذا ويكون عليها مواجهته والاختيار

فيه وحيدة دون أن يتخذه غيرها نيابة عنها أو أن يقنعها

أحدهم بما يريد لتتبعه منصاعة فباتت كالعالق في الوحل لا

يمكنه الخروج ولا العودة وعليه أن يجد طريقة ما لتخليص

نفسه منه .


مسحت عيناها في حركة سريعة ونظرت ناحية الباب الذي

تكرر الطرق عليه لمرتين متتاليتين قبل أن يتحرك مقبضه

وينفتح فاشتدت يداها ببعضهما وقاومت باستماتة توترها

الذي باتت تراه مَرضياً مزعجاً وهي تنظر لوجه فاليريو

الباسم والذي تقدم نحو الداخل خطوة واحدة قائلاً

" آسف لم أسمع صوتك تأذنين فدخلت بفضاضة هكذا "



وأتبع كلماته بضحكة خفيفة فحاولت جاهدة رسم ابتسامة

صغيرة على شفتيها وقالت محرجة

" أنا من عليها الاعتذار فيبدو أنني تأخرت "



غابت الابتسامة من وجهه قبل أن يقول بهدوء ولباقة

" والدي لم ينزل لغرفة الطعام بعد أنا من أردت التحدث
معك لأني لن أكون هنا في وقت قريب "



رطبت شفتيها بلسانها في حركة لا إرادية وتعالت ضربات

قلبها وكأنها توقعت سلفاً عمّا يريد التحدث وذكرى لقائها به

ليلة البارحة تراودها مجدداً لكنه قال ما لم تتوقعه هكذا أبداً

خاصة مع نبرته المتضايقة

" تقابلت وتيم اليوم .. أو بالأحرى هو من فعل ذلك ولم

يكن اللقاء ودياً البتة "



وكانت كلماته تلك وما سمعته ما زاد وضع ضربات قلبها

سوءاً وقد تعالت معه أنفاسها تنظر لعينيه ممّا جعل يده

ترتفع لذراعها وأمسكها قائلاً بوجل

" مما أنتِ خائفة ماري فلا يمكنه إيذاؤك بعد الآن "



أبعدت نظرها عنه وهي تتراجع للخلف خطوة وقد تحررت

ذراعها من قبضته وقالت تنظر للفراغ بتشتت

" أنا لست خائفة وهو لم يؤذني "



وأغمضت عينيها تُنزل رأسها للأسفل ما أن قال

وبكلمات جادة

" متأكد من أنك تخفين الكثير ولأنه أمر يخصك لن أتحدث

عنه لكن كوني أكيدة بأن ماري دفسنت انتهت والموجودة

الآن هي ماري مديتشي فقط "



ابتسمت بمرارة عند نهاية كلماته تلك تكابد دموعها كي لا

تندفع ودون توقف فالتي انتهت هي ماريه هارون فقط ..

انتهت وللأبد كما يبدو ولا تملك شيئاً سوى النظر لها

بحسرة وهي تتلاشى وتموت ، ارتفع رأسها ونظرت له ما

أن وصلتها كلماته الجادة

" ثمة ما كنت أريد سؤالك عنه ماري "



شعرت بتوترها يزداد كما صوت ضربات قلبها التي باتت

تضرب في أذنيها وشعرت بالثواني القصيرة كأعوام حتى

قال أخيراً ورحمها

" هل اتفقتما سابقاً على خروجك من بريطانيا ؟ "



" ماذا ! "


همست بها مصدومة تنظر له بعينين متسعة حتى عجزت
عن قول المزيد من شدة ذهولها بينما قال هو متابعاً ما أن

فهم من رد فعلها جهلها بهذا

" هذا ما قاله وبأن مكانك خارج البلاد .. "


وقاطع نفسه فجأة وقال بضيق عائداً للنقطة السابقة

" يا إلهي كم هو شاب حاد الطباع ! أيظنك شيء من
ممتلكاته الخاصة ؟ "



كان يُعبر عن استيائه بعشوائية وضيق واضح بينما كانت

نظراتها المصدومة موجهة نحو الفراغ وكأنها تحاول إقناع

عقلها بذلك أو تصديقه فإلى أين ينوي إبعادها ؟!

يبدو أن عقابه لها لم ينتهي بعد وبالتأكيد لم يحدث ذلك

وعليها أن تبكي دماً لتدفع ثمن فعلتها تلك لكن أولاً يجب

أن تختفي من أمامه لأنه كما يبدو يرفض أن تجمعهما بلاد

واحدة معاً ، تعالت أنفاسها وامتلأت عيناها بالدموع حين

فقدت أي قدرة لها على منع ذلك وإن لم تسمح لها بمفارقة

رموشها بينما قال الذي عقد حاجبيه متسائلاً

" أكان يخطط لإعادتك لإيطاليا ؟ "



شعرت بكلماته كسكين حاد يخترق قلبها وحركت رأسها

بضياع ودون أن تنظر له هامسة ببحة

" لا أعلم "


كانت لا تعلم بالفعل فهو لا يمكنه إرسالها لعائلة ماري

بالتأكيد ولا إعادتها لموطنها لأنه أمر مستحيل حالياً بعد أن

أصبحت هنا وتواجدت معه ومع عائلة عم والدها كفتاة

إيطالية وقريبة لهما فما هو مخططه المستقبلي لها إذاً

والذي يفترض بأن لا تخالفه ولا تعترض عليه ؟

ارتفعت عيناها الدامعة ونظرت له ما أن قال ما لم يعد

يمكنه الصمت عنه أكثر

"لا أريد التدخل فعلياً ماري لكني أستغرب سبب كل هذا ! "



كانت نظراته المتضايقة كما حاجباه المعقودان وتغير مزاجه

الدائم الابتسام كما يبدو عليه دليل واضح على نيته التدخل

في الأمر وتعلم جيداً ما ستكون تبعات ذلك لذلك قالت وإن

بتوتر واضح

" أنا ... لقد ارتكبت خطئاً ما أغضبه بشدة "


وتبدلت نظراتها للحزن فجأة تشعر بمرارة قاسية في حلقها

فهي قالت الحقيقة وإن كانت ناقصة ومغايرة للواقع وهذا

أكثر ما يؤلمها ويمزق قلبها ، لكن ذلك لم يجعل مزاجه

يتغير وقد قال معلقاً باستياء

" جميعنا نخطئ ومن يعترف بخطئه كأنه لم يفعل شيئاً
فهل يبرر له هذا معاقبتك على طريقته ؟ "



هربت من نظراته تشد شفتيها بقوة وكأنها تمنعها من

الارتجاف باكية فهي لا يمكنها قول الحقيقة ولا الدفاع عنه

أو حتى عن نفسها ، ارتفعت نظراتها له ما أن أمسكت يداه

بكتفيها وقال بحزم ونظرات جادة

" اسمعي ماري أنتِ هنا لا أحد يقرر ما تريدين نيابة عنك
وعلى ذاك الفتى اليوناني معرفة هذا والاقتناع به وبما أنك
من قرر تركه والعيش معنا فلا يحق له فعل كل ما يفعل "



وتابع من فوره وباستياء واضح يبعد يديه عنها

" سمعت عنه الكثير سابقاً ومن قبل أن ألتقي به في منزل
الأميرال ولم أتوقع أبداً أن يكون عكس ما يُقال عنه ! "



ملأت الدموع عيناها المحدقة في الأرض بحزن بينما تابع

الذي لم يرحمها أبداً قائلاً بضيق وكأنه يحدث نفسه

" كيف لرجل الرصاصة الواحدة أن يكون ممن يفقدون

التحكم في انفعالاتهم هكذا ! ظننته كما قيل عنه جبل

جليدي لا يمكن لأحد صهره لكن ما رأيته اليوم لا ينطبق

على رجل الكولينيل جايروا الأول أبداً !! "



" المعذرة سيدي العشاء أصبح جاهزاً والسيد غستوني في
غرفة الطعام الآن "



كان ذاك صوت المرأة التي ظهرت عند الباب فجأة وأنهت

سيل كلماته المستاءة ورحمت التي تنفست الصعداء متمنية

أن حضنتها تعبيراً عن شكرها لإنهاء كل هذا بينما تولى

فاليريوا الأمر عنها قائلاً


" حسناً إيريكا .. شكراً لك "



فغادرت من فورها وبعد إنحنائه صغيرة من رأسها ونظره

يتبعها حتى اختفت ونظر حينها للتي كانت تنظر لكل شيء

حولها عداه بينما تكاد تُمزق بشرة يديها من كثرة شدها

لهما وقال ببعض الهدوء الممزوج بالجدية

" لازلت لا أريد لوالدي أن يعلم بكل هذا لأني أعرف
رد فعله جيداً "


رفعت نظرها لعينيه حينها وقالت بابتسامة ممتنة

" ولا أنا أريد ذلك "



ابتسمت ملامحه قبل شفتيه حينها وامتدت يده ليدها وأمسك

بأطراف أصابعها ورفعها لشفتيه وقبّلها قبل أن يقول

مبتسماً وهو ينظر لعينيها

" أنتِ فتاة مهذبة ورائعة ماري وبدأت أصدق الآن كل ما
كنتِ تكتبينه في رسائلك لوالدي "



وأنهى كلماته ويده تلامس ظهرها يسير بها خارج الغرفة

ولم ينتبه أو يرى الدهشة التي ارتسمت على ملامحها

وصدمتها بما قال وسمعت ! وبالكاد استطاعت رؤية عتبات

السلالم وهي تنزل معه بسبب ذهولها وتشتت أفكارها

وتذكرت فجأة حديث ساندرين عن ابنة خالتها ماري وبأنها

سبب الخلاف بين العائلتين فهل لهذا علاقة بالرسائل التي

تحدث عنها ؟ وما هو هذا الذي كتبته وكان يصعب عليه

تصديقه !



عندما وصلا غرفة الطعام كانت قد توصلت مع عقلها

المشتت الضائع لحقيقة واحدة أن تلك الفتاة ماري تحمل

الغازاً كثيرة لم يكشفها موتها ولا عودتها للحياة مجدداً

والله وحده يعلم متى سيحدث ذلك وما تبعاته عليها هي

قبل الجميع .


*
*
*

 
 

 

عرض البوم صور فيتامين سي   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
(الجزء, المشاعر, المطر, الثاني)،للكاتبة, الرااااائعة/, جنون
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t204626.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 27-06-17 09:03 PM


الساعة الآن 03:15 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية