لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 12-02-16, 09:55 AM   المشاركة رقم: 36
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أحياناً الخوف يدفع المرء ليكتسب نوعاً خاصاً من الشجاعة
وأحياناً أرى أن الشجاعة أصلها خوف من نوع ما
خوف على الحياة.. أو على شخص عزيز
الخوف من العار.. أو الخوف من عواقب حدث ما
وجمان التي عاشت منعمة لا تعرف طعماً للخوف
قد فوجئت بهذه المشاعر القاسية وسط ظروف أقسى
ومصير أي امرأة تساق للأسر عند التتار أو غيرهم معروفة تماماً
وهذا ما أكسبها نوعاً من الشجاعة للهرب من هذا المصير
وربما أثمر فيها تشجيع سلمة لها بنبذ الخوف والقلق والتصرف بإيجابية
سنرى مصير الاثنين في الفصل القادم بإذن الله

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 12-02-16, 10:00 AM   المشاركة رقم: 37
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

~ الفصل الثامن ~


عندما طلعت الشمس على تلك القرية الساكنة سكون الموتى، كانت جمان تنطوي على نفسها في زاوية بيت احترق بشكل شبه كامل.. بعد أن تأكدت من رحيل التتار من القرية تماماً في الليلة الماضية، غادرت موقعها بين الجثث وسط الساحة والتجأت لأحد البيوت بعد أن انطفأت النيران التي شبّت فيه.. كانت تخشى من عودة التتار، وهي لا تعلم السبب الذي غادروا لأجله، لكنها لم تستطع البقاء وسط الجثث لمدة أطول.. ففضّلت الاختباء خلف بعض الأثاث المتفحم في ذلك البيت بانتظار أن تجد طريقة للرحيل..
ومع طلوع الشمس، تجرأت جمان على مغادرة موقعها والخروج من البيت ملقية نظرة حذرة على الخارج.. ورغم الهدوء في القرية، إلا أن هذا لم يمنحها هدوءاً نفسياً البتة وهي تتلفت حولها بقلق خشية أن يباغتها شخص من الخلف.. دارت دورة كاملة حول القرية الصغيرة بحثاً عن سبيل للهروب، لكن من هاجم القرية حرص على الاستيلاء على كل ما قد ينفعها فيها.. والآن هي حبيسة هذه القرية وسط السهول الشاسعة، فما الذي ستفعله؟..
بعد أن يئست من العثور على شيء، ذهبت لأعلى بيت في القرية سقفه مبني من الطين، وصعدت على سطحه عبر سلم داخلي، وفي الأعلى دارت ببصرها في القرية والسهول المحيطة بها لعلها تعثر على موقع مأهول بالسكان على مقربة.. لكن السهول المنبسطة كانت مخيّبة لآمالها بشكل كبير، ومع ازدياد العطش والجوع الذي تشعر به، لم يكن الوضع مبشراً بأي خير.. فدمدمت لنفسها وهي تهبط "على الأقل، لست تحت رحمة أولئك المتوحشين.. الهلاك جوعاً خير لي من أن يقتادوني لمعسكرهم ولاشك"
تنهدت وهي تبحث عن البئر الذي يتوسط القرية والذي يعيش عليه سكانها في حياتهم، قبل أن يغدر بهم التتر، فعثرت عليه وسط الساحة وقد أحاطت به الجثث من كل جانب.. غالبت جمان ضيقها من الموت المحلـّق فوق الساحة وهي تقترب من البئر بحثاً عن وسيلة لاستخراج الماء منه.. لكن نظرة لقاعه المليء بالماء والذي خضّبته الدماء بلونها القاني جعلتها تتراجع بضيق وهي تدرك أنها ستهلك جوعاً ولاشك.. لا تعلم حال النسوة الأخريات، لكن تمنّت أن يكنّ بحال أفضل منها.. فغمغمت جمان "أتمنى أن يكنّ بخير ويتمكنّ من النجاة.. وليشمل الله برحمته من لم تتمكن من الهرب.."
حاولت جمان استعادة ثوبها السابق والتخلص من الرداء الذي ترتديه، لكن نظرة لثوبها الذي تلطخ بالدماء وغدت رائحته تبدو لها كرائحة الموت جعلتها ترميه جانباً مفضلة البقاء بردائها هذا.. عادت لمخبئها وانزوت في زاوية البيت منصتة لأي صوت قد تسمعه، وهي تمسك بيدها خنجراً صغيراً عثرت عليه بين الجثث فاستولت عليه أملاً في أن تتمكن من الدفاع عن نفسها لو عاد ملاحقوها.. تنهدت وهي تتأمل الخنجر الصغير الذي يبدو لعينيها مهيناً مقارنة بالأسلحة التي كان أولئك التتر يحملونها.. ثم عادت تدفن وجهها بين ذراعيها محاولة إلهاء نفسها عن وضعها بالتفكير في سلمة.. هل هو بخير؟ هل نجا من هجوم التتار؟.. تأمل ذلك حقاً.. وتأمل أن تتمكن من العودة إليه سريعاً، فما عادت تشعر بالأمان إلا جواره.. لكن، هل يبحث عنها الآن؟.. أم أنه رحل مقتنعاً أنه لن يتمكن من العثور عليها أبداً؟.. ربما شعر بأنها عبء عليه وقد زال.. أهو يشعر بالراحة لذلك؟.. زادتها تلك الأفكار بؤساً ومرارة، فتنهدت وهي تغمغم بأسى "رباه.. متى ينتهي كل هذا؟.."

***********************

بعد طلوع النهار، وسلمة لا يزال يبحث عن جمان في كل موقع، قاده الحصان لجزء من السهول بدت له فيها مضارب إحدى القبائل العربية التي تسكن المنطقة.. شعر سلمة بالأمل لدى رؤيتها، فربما وجدوا جمان أو لجأت إليهم هرباً من التتر.. أو على الأقل، ربما رأى أحد رجال القبيلة فرقة التتر تلك ورأى الطريق الذي سلكته وما جرى لمن اختطفوهن من النساء..
عندما اقترب سلمة بحصانه من المضارب رأى بضع رجال يخرجون ليروا القادم، بالإضافة لصبية ونسوة وقفن جانباً بفضول تام.. جذب سلمة لجام حصانه ليوقفه وترجل منه عندما وصل قرب الرجال قبل أن يجذبه خلفه متقدماً ممن أمامه قائلاً "السلام عليكم.."
رد عليه الرجال السلام وهم ينظرون له بتساؤل.. فقال سلمة "أنا سلمة من قلعة سنداد.. كنت في قافلة مرت قريباً من هنا، لكن تعرضنا لهجوم من التتار واختطفوا عدداً من نسائنا.. هل رأى أحد منكم أولئك التتر أو عرف الوجهة التي ذهبوا إليها؟"
نظر الرجال لبعضهم بصمت، ثم تقدم أحدهم منه قائلاً "لم نرَ أولئك التتر ولم نعرف ما الذي جرى لهم....."
بدت الخيبة جليّة على وجه سلمة وهو يقبض على سيفه بقوة ويقول "إحدى النساء ممن اختطفها التتر كنتُ مؤتمناً عليها حتى تصل لأبيها.. لو رأيتم تلك الفرقة من التتر فستعينونني على إنقاذها من براثنهم وإعادتها لأبيها.."
فسمع سلمة الرجل يقول "لم نرَ تلك الفرقة صدقاً.. لكن......."
نظر له سلمة بتساؤل، فأشار الرجل خلفه قائلاً "لقد فوجئنا البارحة بامرأة تصل إلينا على ظهر حصان وهي منهكة.. قالت إن التتر قد اختطفوها مع نسوة آخرين، وأنها قد استطاعت الهرب من بين أيديهم بواسطة حصان أحدهم حتى وصلت إلينا.. قد تكون هي من تبحث عنه.."
نظر له سلمة بلهفة وقال "هل أستطيع أن أراها؟.."
قاده الرجل بين المضارب بعد أن ربط سلمة حصانه في نخلة قريبة.. وسار خلف الرجل وقلبه يدق بشدة وهو يدعو الله أن تكون هي.. يدعو الله أن تكون جمان قد نجت من براثن التتر وتمكنت من الوصول لهذه المضارب الآمنة.. سمع الرجل يحدث أحد الصبية ويطلب منه استدعاء المرأة الغريبة، فوقف سلمة قربه بتوتر ينظر نحو الخيمة القريبة بأمل، ولم يلبث أن رأي امرأة تخرج من الخيمة والانهاك واضح على وجهها مع كدمة في جبينها.. خاب أمله على الفور وهو يدرك أنها إحدى النسوة التي كانت في القافلة ممن خطفهن التتر..
سأله الرجل "أهي هي؟"
هز سلمة رأسه نفياً قبل أن يتقدم من المرأة ويسألها بشيء من القلق "ألا تعلمين ما الذي حلّ بجمان التي اختطفها التتر معكن؟.."
تعرفته المرأة وهي تقول "أنت كنت مع تلك الفتاة.. أليس كذلك؟.. اسمها جمان؟"
سألها سلمة بإلحاح "ما الذي حلّ بها؟ وكيف تمكنتِ من الهرب من التتر بهذه السهولة؟"
أجابت المرأة "لقد تمكنا من الهرب بفضل الله تعالى دون أن أتوقع ذلك حقاً.. وذلك بخطة بسيطة من تلك الفتاة جمان.."
رفع سلمة حاجبيه بدهشة والمرأة تخبره بما جرى بينهن وبين التتر حتى تمكنت من دفع الحصان الذي تركبه للركض مبتعدة عن التتر.. وأنهت حديثها قائلة "لقد رأيت الفتاة تهرب على ظهر حصان آخر، لكننا افترقنا بعدها بمسافة ولم أتمكن من السيطرة على الحصان الذي أركبه حتى عثر عليّ أحد رجال هذه المضارب وساعدني على إيقافه.. ثم أخذني لهذه القبيلة التي آوتني عندها.."
خفض سلمة بصره بضيق وقلق عارم، رغم الراحة العميقة التي شعر فيها في البدء عندما علم أنها تمكنت من الهرب.. سمع المرأة تسأله بلهفة في تلك اللحظة "ما الذي جرى لمن بقي في القافلة؟ هل نجحوا في الهرب من التتار؟"
أخبرها سلمة بما جرى لهم بعد رحيل التتار، وبالعشرة الذين نجوا من ذلك الهجوم.. فبدا القلق على وجه المرأة بدورها وهي تفكر في مصير من تركتهم خلفها.. بينما شكر سلمة مَن حوله وسارع نحو حصانه القريب فيما الرجل يهتف به "ابق واسترح قليلاً من وعثاء الطريق.. تبدو شاحب الوجه.. لابد أن الحصان منهك أيضاً.."
رفض سلمة رغم التعب والألم الذي يشعر به من جرحه الذي لم يعالجه بشكل جيد، وقال "لا أملك الوقت لذلك.. يجب أن أرحل الآن.. شكراً لكم على كل شيء.."
وامتطى الحصان بعد أن فكّ الرباط الذي يربطه للنخلة القريبة.. ثم لكزه ليدفعه لمغادرة المضارب بسرعة وهو يقطب هامساً لنفسه "أين أنت يا جمان؟ كوني بخير أرجوك.."

***********************

كانت جمان قد غفت قليلاً في جلستها تلك بعد أن هدّها التعب والقلق الذي عاشت فيه الساعات الماضية.. لم يوقضها الجوع الذي قرص أمعاءها ولم تنتبه رغم برودة الجو في البيت الذي أوت إليه والذي لم تفلح الشمس في تبديده.. لكنها انتبهت فجأة عندما سمعت صوتاً خافتاً خارج موقعها.. اعتدلت جالسة وهي تنظر حولها بعينين متسعتين، ثم أنصتت وقلقها يتزايد.. عندها استطاعت أن تنتبه لتلك الخطوات الخافتة خارج البيت والأصوات التي تتحدث بصوت بدا لها خافتاً.. انتاب جمان ذعر شديد خشية أن يكون التتر قد عادوا لهذا الموقع وقد يعثرون عليها ويأسرونها من جديد، فنهضت وركضت محاولة عدم إصدار صوت أو الارتطام بما تمر به من أثاث في البيت حتى وصلت للسلم الذي يؤدي لسطح البيت.. فارتقته بسرعة وخفة حتى وصلت للسطح، عندها اختبأت في زاوية منه وهي تطلّ بحذر لتراقب ما يجري في الأسفل..
بعد لحظة انتظار، تمكنت من رؤية جماعة لا تقل عن سبع رجال يتقدمون من بين البيوت نحو وسط الساحة.. لم يكونوا من التتر، فهم يرتدون ملابس عربية عادية المظهر، ومع ذلك فقد توجست جمان خيفة من مرآهم.. هل من الأسلم لها الاختباء عنهم؟ أم أنها تضيّع فرصة أن تجد من ينقذها من هذا المكان ويساعدها للعودة لسلمة؟..
سمعت في تلك اللحظة أحد الرجال يصيح برفاقه "ابحثوا عما يمكن أن نفيد منه في هذه القرية.. ولنسرع قبل قدوم آخرين أو قبل عودة التتار.."
اتسعت عينا جمان وهي تسمع قوله هذا وترى الرجال يتفرقون في أنحاء القرية.. التمعت في ذهنها عدة عبارات سمعتها من أصحاب تلك القافلة التي كانت وسلمة معها.. وهذا زاد رعبها أكثر ويدها ترتجف وهي تمسك بالخنجر بقوة..
"يهجمون على القرى التي وَهَنَت بعد لقائهم بالتتار فيستولون على ما أبقاه التتار خلفهم من طعام ودواب.."
ازدادت ارتجافتها أكثر وهي ترى الرجال يدخلون البيوت القريبة ويبدؤون بتفتيشها..
" هم من المجرمين الهاربين من المدن في المنطقة.. ولا هم لهم سوى الإثراء مستغلين محنة القرى والمدن بالتتار"
أغمضت عينها بقوة وهي تتنفس بعمق لتهدئة نفسها..
"يختطفون النسوة لبيعهن كجواري في أسواق النخاسة، ويستبقون من يشاؤون معهم في مخابئهم التي لا نعرف مواقعها.."
أصابتها رعدة في جسدها وهي تخفض رأسها أكثر وتراقب الرجال وهم ينتقلون من بيت لآخر ويفتشون أنحاء القرية بتدقيق.. ورأت بعضهم لا يمانع في تفتيش جثث الموتى رغم الرائحة الكريهة بحثاً عن أي شيء يمكن الإفادة منه.. ماذا لو فكر أحدهم بالبحث في سطح هذا البيت بالذات؟ هل سيختطفونها؟ ما الذي سيفعلونه بها؟.. همست لنفسها وهي تراقبهم بذعر "رباه.. ألن ينتهي هذا أبداً؟"
ظلت جمان تراقبهم من موضعها وقلقها يتصاعد مع مرأى تفتيشهم العميق لكل البيوت.. ولم تنتبه إلا عندما سمعت خلفها صيحة جعلتها تجفل واقفة بهلع لتجد أحد الرجال قد وصل للسطح ورآها في مخبئها.. تقدم الرجل منها شيئاً ما وهو يقول مقطباً "من أنت أيها الفتى؟.. أأنتَ الناجي الوحيد من هذا الهجوم؟"
لاحظت جمان أنه لم يدرك كونها فتاة، مع ملابس الفتية التي ترتديها والدماء التي تخفي ملامحها وشعرها المخفيّ تحت العمامة.. لكن هذا لا يجعل موقفها أفضل.. قد يقتلها للتخلص منها، أو قد يأسرها ثم يكتشف أنها فتاة.. بكل الأحوال مصيرها سييء لو تمكن هذا الرجل من القبض عليها.. نظرت جمان خلفها وهي تفكر في القفز من فوق البيت، لكنها ستكسر ساقها مع هذا الارتفاع.. اقترب الرجل منها وهو يقول يحدة "أتتجاهلني أيها الفتى؟"
دققت جمان النظر من فوق البيت بشيء من الاهتمام وهي تشعر بخطوات الرجل تقترب منها أكثر فأكثر.. وقبل أن يصل إليها بالفعل، استندت جمان بيدها على حافة جدار البيت، وقفزت من فوقه بسرعة.. ركض الرجل نحو الحافة بعد اختفائها من أمام ناظريه وهو يقول بسخط "أي حُمْقٍ هذا؟.."
توقع أنها قد قفزت نحو الأرض وحطمت رأسها أو ساقها على الأقل، لكنه رآها قد هبطت على جزء بارز من نافذة البيت بإطار رفيع بالكاد يكفي لتقف عليه.. ثم تمسكت بذلك الإطار ودلـّت جسدها منه لتهبط أرضاً بعنف أقل مما لو قفزت من السطح مباشرة..
نظرت جمان للأعلى فرأت الرجل يراقبها بحنق، ثم تلفتت حولها بقلق قبل أن تركض نحو أقرب الخيول وهي تنوي سرقة إحداها والهرب قبل عودة الآخرين.. سمعت في تلك اللحظة صياح الرجل الذي يراقبها وهو ينادي رفاقه بحدة، وعلى الفور رأت رجلان يخرجان من بيت قريب فتصدمهما رؤيتها.. حاولت جمان امتطاء أقرب الخيول إليها بسرعة، لكن الحصان رفس وهو يصهل باعتراض، بينما وجدت أحد الرجال ممن لحق بها يجذبها من ذراعها بقوة حتى سقطت أرضاً بعنف.. ومع سقطتها تلك كانت العمامة قد سقطت بدورها لينسدل شعرها الطويل على ظهرها، فالتفتت بعينين متسعتين للرجلين الذي أطلق أحدهما ضحكة والآخر يقول "لقد خدعتِنا يا فتاة.. ظنناك مجرد فتىً مع هذا الرداء الذي ترتدينه.."
نهضت جمان واقفة وحاولت الهرب منهما، لكن أحدهما قفز نحوها وأمسك بذراعها ليوقفها.. ثم أمسك وجهها بيده بقوة وهي تدفعه وتركله بقدمها دون أن يعبأ بها قائلاً لرفيقه "انظر إليها.. ألا تظن أنها ستعود علينا بمال كثير؟.. رغم هذه القذارة فهي ببعض العناية ستجلب لنا الكثير من المشترين.."
حاولت جمان أن تبعد يده عنها وهي تخدشه بأظفارها دون أن يفلتها بقبضته القوية.. عندما سمعوا صوتاً مذعوراً لأحد الرجال وهو يصرخ "التتـــار..."
انتفض الجمع من حولها وانتفضت جمان بدورها وهي تنظر للرجل الذي جاء من بين البيوت يصرخ مذعوراً "عدد منهم قادمون لهذه القرية.. اهربوا....."
رغم أنهم قطاع طرق، إلا أنهم بدوا لجمان فزعين مذعورين من التتار بشكل لا يصدق.. وقد تراكضوا نحو خيولهم وامتطوها بسرعة تاركين جمان خلفهم دون أن يعبأ أحدهم بها.. دارت جمان حول نفسها وهي مذعورة ومترددة أشد التردد.. أتناديهم ليأخذوها معهم هرباً من التتار؟.. أم أن الخير لها بقاؤها هنا بعد أن جاءتها النجدة بمعجزة؟.. لكن هل هي معجزة أم مأساة حقاً؟..
رأت الرجال يلكزون الخيول وهم يدفعونها للركض في الجانب المعاكس للذي جاء منه الرجل، فأسرعت جمان تدور حول كومة الجثث التي أصدرت رائحة كريهة في الموقع.. فاختبأت خلف الجثث راجية من الله تعالى ألا يراها التتر من جديد.. فهم في وضح النهار الآن، وقد لا تنطلي عليهم الخدعة ذاتها مثلما حدث في ظلمة الليل..
رأت في تلك اللحظة ثلاثاً من الخيول وراكبيها من التتر وهم يشقـّون القرية حتى وصلوا للساحة.. ولذعر جمان، وجدتهم يقفون وسط الساحة يتلفتون حولهم، ثم سمعت ضحكة عالية بصوت امرأة قبل أن تقول بلغة عربية واضحة "أولئك الجبناء.. لقد هربوا حقاً لمجرد رؤيتنا.."
نظرت جمان بقلق من موقعها متفحصة الثلاثة الذين داروا بخيولهم في الموقع.. فلاحظت أن ملامحهم تختلف عن التتر تماماً، رغم ملابسهم.. وأحدهم كانت المرأة التي سمعت صوتها بوضوح.. رغم تعجبها من ذلك إلا أنها لم تجرؤ على الظهور أمامهم وهي لا تعرف هويتهم حقاً.. وهي في وضع أصبحت تخشى الجميع فيه..
سمعت رجلاً يقول "لكن هذه القرية قد دمرت تماماً.. لم يبق فيها ما يرتجى منه.."
أضاف آخر "لابد أن أولئك الجبناء قد فتشوها جيداً.. لنذهب.. لا داعي لتضييع وقتنا هنا"
أدركت جمان من قولهم أنهم قطاع طرق أيضاً.. فارتجفت وهي تراقبهم خفية وتتساءل عن عدد الذين لجأوا لقطع الطريق في هذه الأنحاء.. ما الذي يدفعهم لذلك؟ ألا يكفي ما ابتُلي به المسلمون من شر التتار؟.. أغمضت جمان عينيها وانطوت على نفسها وهي تدمدم هامسة "رباه.. رباه لا تدع لهم إلىّ سبيلاً.."
ظلت على وضعها ذلك وهي تسمع حديثهم وتسمع ضربات أقدام الخيل المتمللة على الأرض عندما شعرت بحركة خافتة قربها، ولما نظرت قريباً لاحظت تلك الحركة السلسة قرب بعض الصخور.. ولما دققت النظر أكثر، استطاعت أن ترى ثعباناً متوسط الحجم لونه بلون الصخور تحته وهو يزحف عليها بجسده بسلاسة تامة.. ذعرت جمان لقرب الثعبان منها وشهقت وهي تتراجع بسرعة، قبل أن تدرك أن شهقتها تلك قد جذبت لها الأنظار.. وقبل أن تتصرف، وجدت أن المرأة قد ترجلت عن ظهر الحصان واقتربت من موقعها وهي تهتف "انظروا إلى هذا.. هناك ناجٍ في أرض الخراب هذه.."
أسرعت جمان إلى عمامتها التي كانت قريبة فوضعتها على رأسها مخفية شعرها وهي تتراجع وتنظر بتوتر وخوف شديدين للمرأة والرجلين اللذين ترجلا بدورهما.. لكنها وجدت المرأة تبتسم لها بشيء من اللطف وهي تقول "ما بالك خائفة يا عزيزتي؟.. نحن لن نؤذيك"
قالت جمان بصوت مرتجف "أنتم قطاع طرق.. فكيف تريدين مني تصديق ذلك؟"
ارتفع حاجبا المرأة وهي تقول "ومن أخبرك أننا قطاع للطرق؟"
غمغمت جمان وهي تتراجع خطوة أخرى "لقد سمعت حديثكم قبل قليل.. كنتم تنتوون تفتيش هذه القرية ونهبها، أليس كذلك؟"
فاجأتها المرأة بضحكة قصيرة قبل أن تقول "ما الذي هيأ لك ذلك؟ لقد كنا ننوي البحث عن أي ناجٍ في هذه القرية لمساعدته، فقد دأبنا على فعل ذلك في كل موقع غزاه التتار، وبالفعل نجحنا في إنقاذ البعض وأخذهم للكوفة أو أي مدينة قريبة.."
دهشت جمان لقولها وهي تقلب بصرها بين الثلاثة، ثم قالت بتردد "ولم ترتدون هذا الزيّ؟"
قال أحد الرجلين "لكي نكون بمأمن من قطاع الطرق لئلا يعترضوننا.. لقد عثرنا على بعض التتر قتلى في أثناء بحثنا، فاستولينا على ملابسهم لهذا الغرض.. بهذا الزي نحن نثير ذعر قطاع الطرق منا ونتمكن من نقل الناجين للمدن دون جهد كبير.."
قطبت جمان شيئاً ما وهي تسأل "ولم تفعلون هذا حقاً؟.."
تنهدت المرأة وهي تنظر لرفيقيها، فقال أحدهما وهو ينظر للساحة الدامية من حوله "كل شخص منا قد مر بمأساة خاصة به.. من العصيّ علينا الحديث عنها، لكننا اجتمعنا لهذا العمل دون طمع في جزاء له.. كل همّنا أن نساعد من قد يمرّ بمأساة كالتي مررنا بها.."
رغم الارتياب الظاهر على جمان، إلا أنها كانت تتوق لتصديق حديثهم.. تتوق للخروج من هذه القرية والعودة للكوفة أو الذهاب للحِلـّة.. وبعدها يمكنها أن تبحث عن سلمة وهي بأمان من التتار ومن قطاع الطرق..
سمعت المرأة تسألها بلطف "إذن.. أترغبين بالرحيل معنا؟"
تساءلت جمان بشيء من التردد "أين تنتوون أخذي؟"
اتسعت ابتسامة المرأة وهي تقول "سنذهب للكوفة بعد أن نمرّ على موقع آخر قريب سمعنا أنه تعرض لهجوم التتار.. ألا يوجد ناجٍ غيرك في هذه القرية؟"
هزت جمان رأسها نفياً، فعاد الثلاثة لخيولهم الواقفة بصمت وامتطى كل منهم حصانه، ثم مدت المرأة يدها لجمان وهي تقول "إذن فلنغادر قبل أن يدركنا المغيب.. أمامنا طريق طويل.. إلا إن كنت تنتوين البقاء في هذه القرية وحيدة"
غالبت جمان ترددها وهي تقترب من المرأة التي عاونتها على امتطاء الحصان بدورها، وتمسكت بالمرأة التي لكزت بطن الحصان وتبعت رفيقيها وهم يخرجون من القرية.. وفور أن غادروا القرية لاحظت جمان أن أحد الرجلين قد انفصل عنهم وهو يصيح بهم "سأعود قبل مغيب الشمس.."
لم يعلق الرجل الآخر والمرأة على ذلك وهم مستمرون بسيرهم، بينما صمتت جمان وهي تنظر خلفها وتتأمل المنازل المحترقة للقرية البسيطة التي غدت خراباً، ثم نظرت أمامها والأمل يزداد في صدرها.. بقي عليها أن تعثر على سلمة، وتدعو الله أن يكون بخير، وأن تعثر عليه في الكوفة في أقرب فرصة..

***********************

دام سير الاثنان، وجمان معهما، وقتاً رأته طويلاً وهم يقطعون السهول دون إبطاء وبصمت تام.. ومع المغيب، تمكنت جمان من رؤية بعض الجبال القريبة التي كونت سلسلة قصيرة وسط السهول.. تعجبت جمان من توجههم لتلك الجبال، لكنها عزفت عن السؤال ظناً منها بوجود قرية في هذا الموقع تعرض لها التتار بهجوم..
لكن كلما اقتربوا من أحد الجبال، لاحظت جمان أن الموقع خالٍ تماماً من أي أثر لبيوت أو مزارع أو ما قد يدل على وجود بشر.. تلفتت حولها بشيء من الحيرة وهي تلاحظ الصمت التام بين رفيقيها.. فقالت للمرأة "أأنتم واثقون من وجود بشر في هذا الموقع؟"
ضحكت المرأة وقالت "طبعاً واثقون من ذلك.. لم أنت عديمة الصبر هكذا؟"
صمتت جمان بتعجب دون أن يساورها أي قلق.. ما المهم فيما يجدونه هنا؟ المهم أن يأخذوها إلى الكوفة بعد ذلك لتطمئن أنها بمأمن..
بعد لحظات، وجدت أنهم قد وقفوا عند سفح ذلك الجبل، فتلفتت حولها تتطلع للسهل الخالي من أي أثر إلا بضع شجيرات متفرقة، واستطاعت رؤية بئر قرب إحداها مما بدا لها أن القوافل قد تستخدمه أثناء مرورها في هذا المكان الخالي.. ولم تكن تلك البئر أكثر من فتحة ضيقة طولية في الأرض وقد رصف جوانبها بالحجارة..
رأت جمان الاثنان يترجلان عن الخيل، فتساءلت "ما الذي سنفعله هنا؟"
وجدت المرأة تجذبها بشيء من الشدة وهي تقول "ماذا ظننت يا فتاة؟ هذا مأوانا طبعاً"
كادت جمان تسقط من على ظهر الحصان مع جذبتها القوية، لكن المرأة لم تترفق بها وهي تجبرها على الهبوط مضيفة "انتهى وقت المرح أيتها الغرة الساذجة"
تطلعت لها جمان بصدمة ونقلت بصرها بين المرأة وبين الرجل الذي قال "للأسف، هذا اليوم لم نوفق إلا بهذه.. لا أدري ما الذي سيقوله الزعيم عنا"
قالت المرأة وهي تجذب الحصان بيد وتجذب جمان باليد الأخرى "لن يعترض بشيء.. فهذه الفتاة ستعود علينا بخير كثير.."
جذبت جمان ذراعها وهي تصيح "هل كذبتم عليّ؟ أنتم قطاع طرق.. ألستم كذلك؟"
قالت المرأة بابتسامة "هذا ذنبك لأنك ساذجة وتحسنين الظن بالآخرين.. كان عليك أن تستولي على إحدى الخيول وتفري هاربة لو أردت النجاة.. لكن فات الوقت على ذلك"
حاولت جمان تحرير نفسها من قبضة المرأة القوية وهم يتقدمون من الجبل، ثم وجدت الرجل يتقدم منها و يحملها على كتفه رغماً عنها ويصعد بها والمرأة خلفه.. فقاومت جمان وهي تصرخ "أطلقوني.. ما الذي ستفعلونه بي؟.."
لكزتها المرأة بقسوة وهي تقول وقد غابت ابتسامتها "كفي عن المقاومة إن أردت السلامة.. صياحك هذا لن ينقذك البتة"
عضت جمان شفتها السفلى وهي تراهما يتقدمان عبر طريق تم تمهيده في الجبل بشكل بسيط بحيث يسّر لهما السير فيه دون مشقة، ولم يكن الطريق واضحاً للأعين من بعيد.. وبعد سير قصير سمعوا صيحة من الأعلى ورجل يقول "ما الذي أخرك يا عبيدة؟ لقد انقضى النهار.."
قال الرجل "لقد جُبنا المناطق التي حددتها لنا دون فائدة.. كل ما عثرنا عليه هو بقايا قافلة لم يترك منها التتار أثراً يذكر.. وعثرنا على هذه الفتاة في قرية خربة"
وصلوا لكهف يمتد بشيء من العمق في الجبل مفسحاً مساحة مناسبة لإيواء قطاع الطرق ومدخله مخفيّ بجانب مرتفع من الجبل.. وهناك، أنزل الرجل جمان لتقف على قدميها دون أن يفلت ذراعها.. فوقفت جمان قلقة تتلفت حولها في الكهف الخالي إلا من الاثنان اللذان أتيا معها ورجل آخر وبضع صناديق وضعت جانباً.. وقد وقف أحد الرجلين قريباً منها يتأملها بإمعان.. كان الرجل في الأربعينات من عمره بملامح قاسية وعين ضيقة وشفتين رفيعتين تحيطها لحية كثيفة.. على شيء من الضخامة وببشرة شديدة السمرة مقارنة بالآخرين.. بدا لها بوضوع أنه زعيمهم لتهيبهم في وجوده، وهو يسألهم "أين شريد؟ لا أراه معكم.."
قال الرجل قربها "لقد غادر قبل قليل في شأن لم يفصح عنه.. لكنه وعد أنه لن يتأخر عن العودة.."
اقترب زعيمهم من جمان وأمسك وجهها يتأمله بصمت.. فحاولت جمان جذب نفسها بعيداً عن قبضته القاسية، ولاحظت في الآن ذاته النظرات الحارقة التي رشقتها بها المرأة والزعيم يبدي اهتمامه بها.. ولما طال تفحصه لملامحها قالت المرأة وهي تقترب منه "يبدو أننا عثرنا على ما طلبه التاجر حمدان.. أليس كذلك؟"
تراجع الرجل دون أن يعترض وهو يقول للرجل الممسك بها "قيدها جيداً وحاذر أن تهرب منك.."
أطاعه الرجل وهو يجذب جمان الذاهلة معه لمؤخرة الكهف ويتناول حبلاً غليظاً.. فقاومت جمان وهي تصيح "ما الذي ستفعلونه بي؟"
بدا الإثنان متجاهلان لها تماماً، بينما بدأ الرجل تقييدها بإحكام وهو يقول "أنت تطرحين أسئلة لا معنى لها.. ما الذي تعتقدين أن قطاع الطرق يفعلونه بمن يختطفونه؟"
لم يكن جواب هذا السؤال غائباً عنها، فقالت بحنق "ما الذي يبيح لكم التصرف بهذه الطريقة؟ أنا حرة، ولا يحق لأحد بيعي أو لمسي أبداً"
قال الرجل بابتسامة "ما إن يتم اختطافك فإنك تفقدين حريتك.. كفي عن المقاومة فالزعيم لا يرحم من يحاول الهرب بتاتاً.."
قطبت جمان وهي ترى الزعيم ذاك يتحدث مع المرأة التي كانت تبتسم له متلطفة، فتساءلت جمان وهي تشعر بالرجل يشدّ وثاق يديها بقوة خلف ظهرها "ومن هي هذه المرأة؟ لم أسمع بوجود نساء بين قطاع الطرق من قبل"
قال الرجل بعد أن فرغ من تقييدها "هي إحدى النسوة اللواتي اختطفناها من قافلة منذ مدة، ويبدو أنها بالأصل كانت جارية.. لقد استلطفها زعيمنا واتخذها محظية له، ويبدو أنها استمرأت حياتنا هذه عوضاً عن حياة الجواري في المدينة، لذلك فضلت البقاء معنا وتوسلت للزعيم ألا يبيعها قط.."
تعجبت جمان من هذا وهي ترى المرأة تنزع ملابس التتار مكتفية بملابس بسيطة وتنزع الخوذة تاركة شعرها ذو اللون العسلي طليقاً.. كانت رغم خشونة مظهرها تبدو ذات جمال ملفت، وابتسامتها اللطيفة عادة تظهرها على غير حقيقتها القاسية..
زفرت جمان وهي تتأمل الكهف حولها بعد أن تركها الرجل، وتبحث عن طريقة للهرب قبل أن يأخذوها لبيعها كما سمعت منهم.. لاحظت أن عددهم قليل، ولم تر إلا الرجال الثلاثة مع المرأة.. أهؤلاء من يشكلون هذه الجماعة من قطاع الطرق؟.. قد يكون عددهم القليل ذاك أسهل عليها في الهرب.. لكن، كيف ستفك قيودها هذه دون أن تجذب الانتباه؟..

***********************

دام بحث سلمة نهاراً كاملاً والليلة التي تليه دون كثير راحة إلا بقدر ما يحتاجه الحصان.. ولو كان الحصان قادراً على الركض بلا انقطاع لما توقف سلمة عن البحث أبداً حتى يعثر على جمان.. وكلما مرّ بمضارب أو قرية أو نبع ماء تجمع حوله المسافرون اقترب منهم وسألهم بإلحاح عن فرقة التتر تلك، لكن في كل مرة كان يجابه سؤاله بالنفي والإنكار.. لكنه لم يدع لليأس سبيلاً إليه وهو يرحل على حصانه دون إبطاء في كل مرة يجوب السهول تلك دون حظ كبير.. وعندما لمح سلمة تلك القرية على مبعدة مع بدء نهار اليوم التالي، توجه إليها دون أمل كبير.. وكلما اقترب منها ولاحظ بيوتها المحترقة وأشجارها المتفحمة ازداد اقتناعه أن جمان لا يمكن أن تكون هناك.. لكن لم يرد إغفال أي موقع قد يقوده لها حتى لو كان خراباً..
وعندما وصل سلمة لساحة القرية ورأى ما حل بسكانها، غالب صدمته بصعوبة وهو ينظر لهذا المنظر المؤسي.. زفر بمرارة وهو يترجل عن الحصان ويدور في الموقع بصمت والاستنكار الذي علاه منذ تلك الليلة التي هوجم فيها قصر مولاه قد عاد إليه بقوة.. أليس أولئك التتر بشراً؟ ألا يملكون أقارب وأحباب؟ ألا يخشون على حياتهم وعلى حياة أحبابهم؟.. كيف لا يعبؤون بحياة أحد وهم يرتكبون مثل هذه الجرائم البشعة؟..
لفت نظره شيء جعله يقف في موقعه مدهوشاً.. ثم اندفع لتلك الكومة من الجثث في وسط الساحة فجذب منها ثوباً أزرق بسيط المنظر بدا لعينيه واضحاً رغم الدماء التي تغمره.. بدأت عيناه تتسعان بذعر وهو يتعرف ثوب جمان الذي اشتراه لها بنفسه في الكوفة.. رباه.. ما الذي جرى لها؟.. ما الذي أصابها؟..
أخذ يتفحص الثوب بتدقيق بحثاً عن أثر لتمزيق من ضربة سيف أو حربة، لكن الثوب كان سليماً عدا تلك الدماء التي لطخته.. ففكر وهو مقطب ينظر له.. أتكون تلك الدماء ليست لها؟ لكن ما الذي أجبرها على نزع هذا الثوب؟.. من فعل بها ذلك؟.. وماذا لو كان الجرح الذي أصابها في رأسها؟ أهذا يعني أنها قد قتلت؟..
شعر بنفضة في جسده لذلك الخاطر، فترك الثوب وانطلق بين بيوت القرية وأزقتها يبحث عن جمان وهو يناديها بأعلى صوته.. قضى وقتاً غير قصير يبحث عنها دون أن يعثر لها على أثر.. عندها عاد واجماً للحصان فامتطاه قبل أن ينظر حوله للساحة وللثوب الملقى جانباً.. ترى، ما الذي جابهته جمان في هذه القرية؟.. أي ذعر شهدته؟ وعلام انتهى حالها بعد ذلك إن كانت حية حقاً؟ بل إنه يكاد يجزم أنها حية، فلماذا يبذل شخص جهده لنقلها معه لو كانت قتيلة؟..
زفر وهو يجذب لجام الحصان ولكزه ليغادر القرية بسرعة الريح وهو يهمس لنفسه "يا إلهي.. احفظ جمان لي.."

***********************


~ بعيدا عن الخيال (٨) ~
فظائع التتار في المدن


قال ابن الأثير (حُكي لي عن رجل أنه قال: أخفيت منهم ببيت فيه تبن فلم يظفروا بي، وكنت أراهم من نافذة في البيت، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان فيقول: لا بالله لا تقتلني. فيقتلونه، فلما فرغوا من القرية، ونهبوا ما فيها، وسبوا الحريم، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل ويضحكون ويغنون بقول (لا بالله لا بالله).

((الكامل في التاريخ)) ابن الأثير

***********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 13-02-16, 01:21 AM   المشاركة رقم: 38
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قاريء مميز


البيانات
التسجيل: Dec 2014
العضوية: 285617
المشاركات: 759
الجنس أنثى
معدل التقييم: مملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييممملكة الغيوم عضو جوهرة التقييم
نقاط التقييم: 1593

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
مملكة الغيوم غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

السلام عليكم ورحمة الله
جمان وكاءنها تسعى بقدميها للهلاك فهى من يد الى يد اخبث منها ينطبق عليها المثل القائل تطلع من نقره تقع فى بير يتداول عليها قطاع الطرق وكلمل نجت من فرقه تلقفتها التانيه
وسلمه يركد فى خطاها ممزق الفؤاد ولعل عثوره على الثوب الازرق جدد عنده الامل فى وجودها حيه ولكن بائ حال لايدرى
قطاع الطرق كما البعوض يتعايشون على مص دماء البشر ولا يقلون خطوره عن التتار
سلمت يداكى خيال قصه مشوقه كلما قراءت صفحه اشتقت للمزيد متعك الله بالخيال الثرى دمتى بود ولكى منى كل الحب

 
 

 

عرض البوم صور مملكة الغيوم   رد مع اقتباس
قديم 13-02-16, 02:45 PM   المشاركة رقم: 39
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

لا يمكننا لوم جمان، فهي قد تربت في بيئة معزولة وحول خدم مخلصين لها ولأبيها
من الصعب عليها فهم اللؤم والخداع ولا هدفهما
لذا تحتاج لدروس أكبر لتحصل على خبرة تحميها من هؤلاء
أمتعك الله بالرواية حتى النهاية رغم مآسيها
سأضع الفصل الجديد حالاً بإذن الله

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 13-02-16, 02:50 PM   المشاركة رقم: 40
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: رحلة ضياع

 

~ الفصل التاسع ~


مع مطلع شمس اليوم التالي، نهضت جمان بتعب وعسر جالسة رغم قيودها التي لم يحاول أحدهم فكها طوال الليل، مما اضطرها للنوم بوضعية مؤلمة وعلى الأرض الصخرية رغم الفراش الهزيل الذي فرش لها.. عندما بدأت أشعة الشمس تتسلل للموقع منيرة الكهف تمكنت جمان من رؤية ما حولها بشكل أفضل، لكن ظل عقلها عاجزاً عن العثور على وسيلة للهرب مع وجود المرأة والرجل في هذا الكهف.. بينما اختفى الزعيم في كهف آخر كما يبدو إذ لاحظت أن المرأة والرجل يغيبان بين فترة وأخرى في أول الليل قبل أن يعودا بعدها بفترة قصيرة.. وإن شعرت جمان بالراحة لبقاء المرأة في هذا الكهف طوال الليل مما أشعرها أن ذاك الرجل لن يمسّها بسوء بوجودها..
حاولت جمان فك قيودها بشتى الطرق دون نجاح كبير، عندما وجدت المرأة تقترب منها حاملة بعض الطعام والماء ووضعته قريباً قائلة "سأفك قيودك.. لكن لو حاولت الهرب فلن أتوانى عن ضربك.. أفهمت؟"
قالت جمان بغضب "ما الذي تنتوينه بتظاهرك بالطيبة؟"
ابتسمت المرأة وهي تقول بلطف "طبعاً لا يسرّني أن أتركك بجوعك طويلاً.. لا أظن أحداً قد يرغب بشراء فتاة عجفاء قد هدّها الجوع وأذهب جمالها.."
قطبت جمان بغضب شديد، عندما وجدت المرأة تسألها باهتمام "أنت بكرٌ.. ألست كذلك؟"
نظرت لها جمان بصدمة وقد احمرّ وجهها للسؤال، ثم صاحت بغضب "وما شأنك أنت؟"
قال الرجل القريب بابتسامة "ردها هذا يؤكد ذلك..”
ولذعرها وجدته يقترب فيمد يده نحوها مضيفاً "وهي من قرب تبدو مليحة جداً، لولا هذه القذارة التي تغطيها.. لكن يمكن التغاضي عن هذا حالياً.."
لكن المرأة سارعت للطم يده وهي تبعده عن جمان قائلة بتقطيبة "لا تأمل بذلك أبداً.. لقد أخبرني أحد تجار البصرة أنني لو أحضرت له فتاة بكراً بهذا الجمال فسيدفع ثمنها بدنانير ذهبية.. لاسيما إن كانت عربية الأصل فهو يفضلهنّ على غيرهن.. لذلك إياك ولمسها.."
بدت لها المرأة ذات نفوذ في هؤلاء القوم، فلم يعترض الرجل رغم أنه أشد قوة منها بل اكتفى بالتذمر وهو يغادر.. بينما ابتسمت المرأة لجمان المذعورة وهي تقول "اهدئي يا فتاة.. لن يمسّك أحد بسوء هنا إن أطعتني.. لذلك لا أنصحك بفعل ما يغضبني.."
وغادرت بعد أن فكت قيد يديها تاركة قيود قدميها التي تعيقها عن الهرب، فلم تعلق جمان وهي واجمة تنظر للطعام رغم جوعها ولا تكاد تمسّه.. لم تغادر المرأة هذا الموقع وهي تجلس جانباً تتناول بعض الطعام بدورها وتراقب جمان عن كثب لمنعها من الهرب.. لكن جمان لم تكن لتستسلم لحالها هذا.. عليها الهرب، وعليها بذل ما تستطيعه في سبيل ذلك.. فهل هربت من أيدي التتار لتقع في أيدي قطاع الطرق بهذه السهولة؟.. ثنت قدميها تحتها وحاولت بيد واحدة فك قيد قدميها دون أن تلفت لها الأنظار، وباليد الأخرى تتظاهر بتناول الطعام رغم عدم شهيتها له..
رأت في تلك اللحظة زعيمهم يدخل الكهف فيقترب من المرأة يحدثها.. أنصتت جمان محاولة استخلاص شيء من حديثهما لعلها تستطيع به أن تجد طريقة للهرب.. فسمعت الزعيم يقول وهو يجلس جانباً "لم يعد شريد بعد.. ولا أعلم ما الذي دهاه.."
قالت المرأة وهي تكمل طعامها "لا تقلق عليه.. لا يمكن لأحد أن يقبض عليه أو يؤذيه.. وحتى لو حدث له ذلك فلن يخْـلص منه بشيء.. أنا أثق منه بذلك"
لم يعلق الزعيم وهو يتناول بعض الطعام بدوره، فسألته المرأة "متى يعود البقية من الموصل؟.. لقد تأخروا كثيراً"
قال الزعيم "ربما خلال يوم أو يومين.. لم أنت بلهفة لعودتهم؟"
أشارت المرأة لجمان قائلة "حتى يتسنى لي أخذها للبصرة للتاجر حمدان.. لا أريد أن يطول بقاؤها عندنا فتهزل أكثر، فقد امتنعت من تناول الطعام منذ البارحة.."
علق الزعيم "ستتناول الطعام ما إن يقرصها الجوع بحق.. لا تقلقي.. يمكنني إرسالك مع شريد وعبيدة للبصرة"
غمغمت المرأة "إن فعلنا ذلك ستبقى وحيداً في المخبأ.. ماذا لو هجم عليك جنود والي الكوفة؟.."
قال الزعيم بثقة "لا تقلقي.. لن يقدروا عليّ مهما جنّدوا من الجنود.."
ظلت جمان تستمع لما يقولانه وهي تفكر بشكل محموم.. عليها الهرب هذه الليلة إن كانت تريد النجاة بنفسها من هذا المصير.. ربما يغدو الهرب بالنسبة لها أكثر صعوبة بعد بدء رحلتهم نحو البصرة.. لذلك، فالليلة هي فرصتها الوحيدة وعليها استغلالها قبل فوات الأوان..
بعد أن أنهوا طعامهم، غادر الزعيم والمرأة تتبعه نحو كهف آخر، بينما بقي المدعو عبيدة معها في ذلك الكهف.. لم تكن تعلم متى ستعود المرأة أو الزعيم أو متى سيعود بقية الرجال.. ففكرت أن تستغل هذه الفرصة وتغافل الرجل لتهرب، وهي قد رأتهم يربطون الخيول خلف صخرة في سفح الجبل، فلو حالفها الحظ بالهرب يمكنها أن تسرق إحدى تلك الخيول وتهرب بها..
كانت قد تمكنت من حلّ رباط قدميها، لكنها ربضت في موقعها تراقب الرجل من طرف خفي محاولة عدم جذب الانتباه إليها.. ثم لاحظت أنه انكبّ على سلاح له معتنياً بشحذه وصقله باهتمام مولياً ظهره لها وهو مطمئن لكونها مقيدة.. فتلفتت جمان حولها بحثاً عن شيء تستفيد منه في التغلب على الرجل، لتجد قربها حجراً متوسطاً.. تناولته بخفة ونهضت بهدوء محاولة ألا تصدر صوتاً، ثم اقتربت من الرجل بحذر إنما بشيء من السرعة وهي تنوي مباغتته بضربة تفقده وعيه ليتسنى لها الهرب.. لم يبدُ لها الرجل منتبهاً لها وهو يتأمل نصل سيفه فيما رفعت الحجر وهي تقترب منه وهوت به بقوة نحو رأسه.. لكنها فوجئت بالضربة تهوي في الفراغ عندما مال الرجل برأسه جانباً والتفت إليها قائلاً "أيتها الخبيثة..."
وجدته يجذب ذراعها ويلقيها أرضاً وهو يلوي يدها خلف ظهرها ويجذب الحجر منها.. فتأوهت جمان بألم وهو يضغط برأسها على الأرض الصخرية قائلاً "كيف تمكنت من التخلص من قيودك؟ ظننتك موثقة بإحكام"
قالت جمان مقطبة "كيف عرفت أنني خلفك؟"
ابتسم الرجل وهو يُنهضها "لحسن حظي أنني لمحت طيفاً خاطفاً في نصل السيف.. ورغم أني لم أعرف ما هو، إلا أنني تفاديت الضربة بشكل غريزي.."
وقادها عائداً لعمق الكهف وهو يقول "عليّ تقييدك بشكل أقوى هذه المرة.. لا أدري ما الذي ستفعله بي تلك الشرسة لو تمكنتِ من الهرب"
ظلت جمان مقطبة بشيء من الحنق وهي تجده يقيد ذراعيها لجسدها بإحكام بالحبل، وقيد قدماها بدورهما بشدة حتى آلمها.. ولما ابتعد زفرت جمان وهي مستاءة لفشلها في الهرب.. كيف لها وهي الضعيفة بقلة حيلتها أن تهرب من بين أيدي آسريها؟ ربما لو حاولت ذلك أثناء ترحالهم نحو البصرة لوجدت فرصة أفضل في الهرب.. لكن هل تستسلم لهم حتى يحين ذلك؟..

***********************

مضى أغلب النهار وسلمة يجول في تلك السهول بلا فائدة، فيعود حيناً لتلك القرية بحثاً عن جمان، وينطلق لما جاورها من بقاع لعله يجد لها أثراً أو يدله أحد على ما جرى لها.. كان الإنهاك قد بلغ منه مبلغه وهو لم يكد ينل قسطاً من الراحة منذ اختطفت جمان، وجرحه قد بدأ يؤلمه أكثر بعد أن عجز عن علاجه بشكل صحيح مكتفياً بإبدال الضماد عليه بين فترة وأخرى..
وبعد أن كاد ييأس حقاً من العثور عليها، لمح على مبعدة حصاناً وحيداً ينهب الأرض نهباً متجهاً لجانب بعيد منه.. فلم يملك أن يلكز حصانه ويلحق بذلك الحصان بدوره قبل أن يبتعد.. ربما كان ذلك الرجل هو سبيله للعثور على جمان.. لكن لو لم يعثر عليها، لو أكد له صاحب ذلك الحصان أنه لم يسمع بما حدث لها، فما الذي عليه فعله؟ أيستسلم؟ أيرحل للحِلـّة متناسياً أمر جمان؟..
ضغط سلمة على أسنانه بقوة وهو يلكز الحصان المنهك المرة تلو الأخرى.. لا.. إنه يرفض التفكير بذلك.. ما الذي سيفعله بعد أن تغيب جمان من حياته؟.. أيحق له نسيانها وتجاهل ما جرى لها؟.. ألن يشعر بالندم طوال عمره أن فرط بها وهي في حمايته؟.. طبعاً لن يطيق أياً من ذلك..
لما اقترب سلمة من الحصان، رأى صاحبه يلكزه ويستحثه على الهرب منه، كما لاحظ ثيابه الدالة على كونه تترياً.. التمعت عينا سلمة بلهفة وهو يرى التتري أمامه وحيداً وبدا أنه عازم على الهرب منه.. وجوده وحيداً يعني أن سلمة لن يجد جهداً في القبض عليه، وربما تمكن من سؤاله عن رفاقه الذين اختطفوا جمان مع بقية النسوة..
لم يكن سلمة ينوي ترك تلك الفرصة تفوته، فركض بالحصان قدر ما يستطيع محاولاً القبض على التتري حياً لاستجوابه.. شعر بالحصان يلهث بقوة رغم سرعة ركضه مما جعله يخشى أن يكبو في أي لحظة فيفقد فرصته الأخيرة للإمساك بالتتري وهو خيطه الوحيد الذي سيدله على جمان.. أعمل سلمة فكره بحثاً عن وسيلة لإجبار التتري على التوقف، أو إسقاطه من فوق الحصان دون أن يؤدي لمقتله.. وبعد أن اقترب من ذلك الحصان، وشعر في الآن ذاته أن حصانه قد بلغ أقصى جهده، لم يجد سلمة بداً من التصرف بسرعة.. فتأكد من ثبات سيفه، ثم رفع نفسه على ظهر الحصان قليلاً قبل أن يقفز بسرعة على التتري القريب منه، فتسببت قفزته تلك في الإطاحة بالتتري وسلمة معه أرضاً في سقطة مؤلمة وجسداهما يتدحرجان لوقت قصير..
حاول التتري النهوض، لكن سلمة لوى ذراعه ودفعه أرضاً مثبتاً إياه في موقعه.. عندما هتف الرجل "مهلاً.. ما الذي تريده مني؟"
تجمد سلمة وهو يسمع قول الرجل بلغة عربية لا شائبة فيها، ثم انتبه لملامحه التي لا تشبه ملامح التتر أبداً.. فقال متعجباً وهو يتراجع قليلاً عن الرجل "من أنت؟"
وقف الرجل بشيء من الحذر قائلاً "أنا عابر سبيل.. ما الذي تبغيه مني؟ ولم اعترضت طريقي؟"
أجاب سلمة وهو يتفحص ملامح الرجل الحذرة "أبحث عن فرقة من التتار سَطَت على قافلة قريبة وعبرت هذه السهول منذ يومين.. ألم ترها؟"
قال الرجل "تلك القافلة؟ لقد رأيت آثارها في طريقي وتعجبت من ذلك.. لكني لم أرَ أي تتري هنا"
فقال سلمة مقطباً "إذن لم ترتدي ثياب التتر وأنت عربي؟"
قال الرجل محتداً شيئاً ما "وما الذي يمنع ذلك؟ إنما فعلت ذلك لأحمي نفسي من شر التتار وأنا أرتحل وحيداً في هذه البقاع غير الآمنة"
لم يقنع هذا القول سلمة.. لا يمكن أن يكون هذا الخيط الوحيد لجمان وهماً.. لابد من سبيل لها وهو لن يستسلم بسهولة.. ونظرات الرجل الحذرة المتوترة تدله أنه ليس مجرد عابر سبيل.. عاد يقول للرجل دون أن يتخلى عن سيفه "أخبرني.. ألم ترَ فتاة في هذه الأنحاء؟ لقد هربت من فرقة من التتار بعد أن اختطفوها من القافلة، لكني لم أعثر لها على أثر.."
قال الرجل مقطباً "وما أدراني؟.. السهول واسعة ولا يمكن أن أعرف من عَبَرَها أو أراه في طريقي.."
ولوح بيده مضيفاً "وطريقي لا يمر بتلك القرية المدمرة بتاتاً.."
سمع الرجل سلمة يقول "ما أدراك أنها لجأت للقرية المدمرة؟"
انتبه الرجل لزلته، ففوجئ بسلمة يقترب منه بسرعة ممسكاً بتلابيبه بقوة وهو يقول بغضب ظاهر "أين هي؟ ما الذي فعلته بها؟"
قال الرجل بسرعة "أنا لا أعرفها ولم أرها.. لقد رأيت القرية المدمرة سابقاً، فلما ذكرت لي الفتاة شككت أنها قد تلجأ إليها هرباً من التتار"
قال سلمة بغضب "أتظنني أحمقاً؟.. من يلجأ لقرية مدمرة؟!.. قل الحقيقة وإلا ما تركتك.."
دفعه الرجل بعيداً وهو يقول "بل أنت أحمق بالفعل.. تتهمني دون دليل.. ارحل بعيداً قبل أن تلقى ما لا يعجبك"
قطب سلمة وهو يقول بحدة "لماذا ترفض إجابتي؟.. هل رأيت ما حدث لها؟.. أريد استعادة الفتاة مهما كان الأمر.."
قال الرجل ضاحكاً بسخرية "كف عن التفاؤل يا رجل.. غادر قبل أن أفقد صبري"
أدرك سلمة من قول الرجل الأخير أنه يعلم خبر جمان بالتأكيد، لا كما ينفي دائماً.. وبينما استدار الرجل ليمتطي ظهر حصانه متجاهلاً سلمة بما بدا كثقة مبالغ فيها، فوجئ بضربة قوية قاسية على مؤخرة رأسه أسقطته أرضاً بدوار شديد، لكن سلمة عاجله بضربة أخرى بمقبض سيفه أسقطت الرجل فاقد الوعي بصمت.. عندها جذب سلمة الجسد بعيداً نحو صخرة قريبة.. وهو يقول "يبدو أنك وقعت في يدي لحكمة يا هذا.. ولن أضيع هذه الفرصة بتاتاً.."
عاد لحصان الرجل فجذبه وربطه في شجيرة قريبة، قبل أن يفتش جرابه بحثاً عن حبل يقيد به الرجل.. بينما استطالت الظلال وبهتت وهي تمتزج بالظلمة التي هيمنت على الموقع رويداً رويداً..

***********************

بعد بعض الوقت، استيقظ الرجل ملاحظاً أن الظلام قد حلّ عدا عن نور القمر الخفيف، وضوء نار قريبة تضفي شيئاً من الدفء على تلك الليلة الباردة.. حاول الاعتدال جالساً وهو يجد يداه مقيدتان خلف ظهره بحبل غليظ، بالإضافة لقيد حول قدميه عند الكاحل.. نظر الرجل حوله ليجد سلمة قد وقف قرب نار قريبة أشعلها تلك الليلة، فتقدم سلمة منه والرجل يقول "ما الذي تريده مني يا هذا؟.. كيف تجرؤ على تقييدي؟"
قال له سلمة ببرود وهو يقف قريباً منه "أتظن لك الحق بما تقوله؟.. أخبرني.. أين الفتاة؟ من أخذها؟.."
ضحك الرجل شيئاً ما وقال "ألازلت ترجو أن تعثر عليها؟.. استسلم يا هذا.. لابد أنها الآن تساق لأقرب سوق للنخاسة"
بدا الغضب ظاهراً على سلمة وهو يصيح بالرجل "من فعل ذلك؟.. من عاونك على هذا؟.."
نظر له الرجل بصمت للحظات قبل أن يقول بهزء "تباً لك.."
جذبه سلمة بقوة ليقف وقال له بصرامة "أخبرني ولا تثر غضبي.."
قال الرجل بابتسامة ساخرة "ومن تكون أنت لأخشى غضبك؟"
لم ينتظر سلمة برهة وهو يلكمه على وجهه بقوة ألقته أرضاً، ثم ركله بقوة في بطنه وهو يقول بحدة "أتظنني سأرجوك لتجيب عن سؤالي؟ تكلم يا هذا.."
لم يظهر الرجل ألماً ولم تزايل ابتسامته شفتيه، فازداد غضب سلمة وهو يضربه بقوة مراراً على وجهه حتى أسال الدم من أنفه وفمه.. لكن جن جنونه لما رأى الرجل غير عابئ به وضحكته لا تخفت وهو يقول "أهذا كل ما عندك؟"
عندها استل سلمة سيفه ودفعه دون تردد في كتف الرجل بقوة.. أطلق الرجل صيحة ألم وهو غير قادر على الحركة لئلا يزداد ألمه مع بقاء النصل في كتفه، بينما قال سلمة بحنق "لست أدري لم تتكتم على ما تعرفه وحياتك بين يديّ.."
لهث الرجل بألم وقال "لأنني عرفت من وجهك أنك لست من النوع الذي يستلب أرواح البشر بسهولة.. فلا تدّعِ غير ذلك"
دفع سلمة السيف أكثر في كتف الرجل مثيراً آلامه وهو يصرخ بشدة فيما قال سلمة "لكنني لن أتوانى عن تعذيبك حتى تجيبني.. لن أتهاون أبداً في البحث عن الفتاة، ولست أملك الصبر الكافي لانتظارك.."
وجذب السيف بغير رفق تاركاً الرجل يتلوى من الألم.. وقبل أن يهدأ صراخه كان سلمة يدفع السيف من جديد في فخذ رجله وهو يراقب ملامحه بهدوء تام.. عليه العثور على جمان، مهما تطلب منه ذلك.. هذا كل ما كان يدور في ذهنه في تلك اللحظة وهو لا يكاد يرى العذاب على وجه الرجل ولا يكاد يسمع صراخه..
بعد مضيّ ساعة، كان الرجل يلهث بقوة وهو يرى سلمة يقف قريباً ينظر له بهدوء وصمت، فقال الرجل "أنت لا تنوي الاستسلام، أليس كذلك؟ ألا تعرف من نحن؟ ألم تسمع بجماعة أبو الذياب؟ ألا تعلم ما الذي سيفعله زعيمنا لو رأى ما فعلته؟"
قال سلمة "لا يهمني.. لو أخبرتني بما أريده منذ البدء لما نالك ما نالك"
بصق الرجل الدماء المتجمعة في فمه دون أن يجيب.. فرأى سلمة يتقدم من فخذه الجريح، ووجده يقبض على الجرح النازف بأصابعه بقوة ويضغط عليه مثيراً آلاماً جمّة جعلت الرجل يصرخ عالياً وهو يتلوى ألماً.. بينما قال سلمة "لا تضطرني لإيلامك أكثر.. إن أصررت على الصمت، لن أتوانى عن بتر أطرافك حتى تخضع لي.. فما الذي ستفيدك به عصابتك تلك عندما تفقد أطرافك؟ بل أجزم أنهم سيرمونك للسباع لأنك ستغدو بلا فائدة"
وضغط على الجرح بقوة أكبر، فصاح الرجل متألماً "كفى.. سأخبرك.. توقف أرجوك"
نظر له سلمة بصمت دون أن يخفف ضغطه على الجرح، فقال الرجل والعرق يتفصد من جبينه "لقد أخذوا الفتاة لمخبئنا في الجبال التي تبدو في الشرق.. هناك.."
وأشار بوجهه لجهة من الجهات، فتتبعه سلمة ببصره ملاحظاً الجبال التي بدت على مبعدة بشكل خفيف من سواد تلك الليلة، ثم تساءل "ما الذي سيفعلونه بها؟"
لهث الرجل وقال "أغلب الظن أنهم سيبيعونها في إحدى المدن البعيدة من هذه المنطقة.. ربما الموصل أو البصرة أو دمشق.. لا أعلم بالتحديد"
تخلى سلمة عن الجرح والرجل يغمغم من بين أسنانه متألماً "أيها الوغد.."
نهض سلمة واقفاً وهو يقول "يحسن بك أن تكون صادقاً.."
لم يعلق الرجل وهو يبصق المزيد من الدماء، عندما فوجئ بسلمة يضربه على رأسه بقوة بمقبض سيفه ضربة أفقدته وعيه على الفور.. فتنهد سلمة وهو يمسح يده المخضبة بالدماء متطلعاً للرجل الذي غاب عن وعيه وهو ينزف دماً في أكثر من موضع، ثم نظر شرقاً حيث تقع الجبال التي أشار إليها الرجل.. قبل أن يعود للجسد الملقى أرضاً ويشرع في تضميد جراحه بصمت.. رغم أنه لم يتوانَ عن استخدام القسوة في استجواب الرجل، لكنه كما حدس ذلك الرجل لم يكن من النوع الذي يقتل دون سبب.. والآن بعد أن حصل على ما يبتغيه من خبر جمان، فهو لا يستطيع قتل الرجل ولا يستطيع تركه ليقضي نحبه نزفاً في هذا الموقع المقفر.. وبعد أن انتهى من تضميد جراحه جيداً، فك وثاقه وترك حصانه مربوطاً في شجيرة قريبة قبل أن يطفئ النار التي قد تجذب لها الأنظار.. ثم امتطى حصانه ميمّماً وجهه شطر الجبال الشرقية بصمت..

***********************

أمضت جمان ليلتها الثانية بأسوأ حال.. ولما بدأ النور يزداد ويبدد الظلمة في جوانب الكهف، أسندت جمان رأسها للجدار الصخري بضيق وألم من قيدها المحكم.. تشعر أن قدماها تخدرتا وأنها فقدت الإحساس بأصابع يديها لقوة ضغط الحبل وعدم تحركها لساعات.. فصاحت متذمرة "أطلقوني.. لقد آلمني جسدي لطول جلوسي.."
قالت المرأة بصرامة "صمتاً.. أتظنين أن لك الخيار بذلك؟"
قالت جمان محتدة "هل سأبقى جالسة حتى نذهب للبصرة؟ لقد تعبت"
لم تعرها المرأة أي اهتمام، فعادت جمان تقول بحنق "أطلقيني.. ألا يمكنني الاغتسال والحصول على رداء نظيف على الأقل؟"
وجدت المرأة تنظر لها مفكرة للحظة، ثم نهضت قائلة "لا بأس.. ربما من الخير فعل ذلك.. فأنت بهذا الشكل ستنفرين كل من يراك ولن يشتريك أحد ولو بدرهم.."
رأتها جمان تتناول من صندوق قريب ملابس قطنية بلون سكري، واقتربت منها قائلة "لنأمل أنها مناسبة لك.."
حلّت قيد قدميها وأنهضتها ثم ساقتها معها خارجتين من الكهف ونزلتا من الجبل.. كانت السماء قد اصطبغت بحمرة ندية وأشرقت الشمس كقرص دامٍ في الأفق.. تلفتت جمان حولها بحثاً عن سبيل للهرب، ورأت الخيول المربوطة في جانب الجبل، بينما جذبتها المرأة معها وهما تقتربان من البئر الذي لم يكن بعيداً عن سفح الجبل.. رأت جمان البئر الذي لا يرتفع عن سطح الأرض، والذي كان ضيق الفتحة شيئاً ما إنما يسمح بمرور شخص متوسط الحجم.. اقتربت المرأة من جمان ففكت وثاق يدها وهي تقول "اخلعي ملابسك ولا تفكري بالهرب.."
نظرت جمان حولها وهي ترى المرأة تراقبها بدقة، فقالت مترددة "لا يمكن أن أخلع ملابسي هنا.. ألا يمكنني الذهاب لموقع أكثر ستراً؟.."
ضحكت المرأة وقالت "أتمزحين؟ لا داعي لاصطناع الحياء هذا.. هيا أسرعي وإلا دفعتك في هذا البئر.."
التمعت عينا جمان لما سمعته، بينما سارت المرأة نحو البئر فجذبت دلواً مربوطاً بحبل ودلّته من الفتحة الضيقة لاستجلاب بعض الماء.. توترت جمان وهي ترى الفرصة سانحة أمامها فلم تتردد ثانية، واندفعت نحو المرأة ودفعتها بأقوى ما تملك نحو الفتحة القريبة، فزلت قدم المرأة وهي تنزلق في الفتحة قبل أن تتشبث بالصخور القريبة وهي تصرخ "أيتها الوضيعة.. سأريك ما سينالك مني.."
لكن جمان غالبت ترددها وهي تقترب فتركل يد المرأة بشيء من القوة مما جعلها تنزلق أكثر في البئر وهي تصرخ بغضب وألم.. نظرت جمان عبر فتحة البئر بشيء من القلق، خوفاً من عودة المرأة بأسرع مما تتمنى وخوفاً من أن تتسبب بموتها فلم يكن هذا هدفها.. لكن رأت المرأة قد علقت وسط البئر وهي تتشبث بالصخور التي تكوّن جوانبه، ورفعت وجهها المحمر غضباً وهي تصيح بشدة "قفي مكانك أيتها الخبيثة.. إن حاولت الهرب فلن أتوانى عن قتلك.."
لكن ذلك التهديد لم يُثِر خوف جمان التي استدارت وركضت عائدة للجبل القريب حيث تقف الخيول وجلّ خوفها أن يسمع البقية صياح المرأة المتعالي.. اقتربت من موقع الخيول فنظرت للأعلى بتوتر خشية أن يراها الآخران، ولما لم تجد أثراً لأي منهما تقدمت من أحد الخيول وهي تهمس له "لا تخافي يا جميلة.. لن أؤذيك"
وأمسكت بلجامه فلم تجد منه ممانعة، بينما تعالى صياح المرأة أكثر وهي تنادي المدعو عبيدة.. ورغم آلام جسدها، فإن جمان قفزت على ظهر الحصان بعد أن فكت رباطه من الصخرة القريبة، عندما فوجئت بمن يقبض اللجام ويحاول جذبه.. نظرت جمان مخطوفة الأنفاس، فرأت عبيدة قد اقترب دون أن تلاحظه وهو يقول بحنق "إلى أين أيتها البلهاء؟"
وجدت جمان نفسها تلقائياً ترفع قدمها وتركله بأقوى ما عندها على وجهه.. ورغم أنه أقوى منها بمراحل، إلا أن الركلة قد دفعته لإفلات اللجام لوهلة، فلكزت جمان الحصان وركضت به مبتعدة بأسرع ما تستطيع وقلبها يدق بشدة.. رأت في طريقها المرأة قد غادرت البئر وهي تلوح بيدها غاضبة، لكن جمان لم تعبأ بها وكل همها أن تبتعد عن هذا الموقع.. حاولت تهدئة نفسها لتهدأ ضربات قلبها.. لقد ظنت لوهلة أن خطتها فشلت، وأنهم لن يتورعوا عن عقابها لما فعلته.. لكن الآن، فهي قد تمكنت من الهرب وعليها استغلال ذلك لئلا تسمح لهم بإعادتها لذلك المصير..
انتبهت لصوت خلفها، فالتفتت لترى المدعو عبيدة قد امتطى حصاناً آخر وبدأ اللحاق بها.. فاعتراها قلق حقيقي وهي تراه يقترب منها بسرعة.. لكزت جمان الحصان مرة تلو الأخرى وهي تهمس "لا تخذلني الآن يا حصاني العزيز.."
رغم ما بذلته، وجدت جمان أن الحصان الآخر يقترب منها حثيثاً بشكل روّعها وهي تلكز حصانها بقوة.. كان السهل الفسيح أمامها ولا مخبأ يمكنها اللجوء إليه.. فأين المهرب؟..
فوجئت جمان بالرجل، بعد أن عجز عن اللحاق بها وإيقافها لفترة، يستخرج من جراب الحصان حبلاً مربوطاً بحجرين مما يستخدمه قطاع الطرق عادة في عرقلة الخيول.. فلوح بالحبل للحظات قبل أن يرميه بدقة نحو قدمي الحصان الذي تركبه جمان، ولم يلبث الحبل أن أحاط قدمي الحصان وعرقل سيره ليكبو على وجهه بقوة وهو يطلق صهيلاً عالياً.. فسقطت جمان بقوة بدورها لتوقف الحصان المفاجئ وتدحرجت بشكل مؤلم، والرجل قد أوقف حصانه بدوره وترجل منه بينما فزع الحصان الآخر وفرّ فور أن نهض من كبوته وتخلص من الحبل الذي عرقل سيره.. اقترب الرجل من جمان بسحنة غاضبة وجذبها من ذراعها بقوة لإيقافها قائلاً بحنق "أكان يجب أن تفعلي ما فعلته؟.. لقد فقدنا الحصان بسببك والزعيم سيغضب لذلك.. كيف تريدين مني معاقبتك على ما فعلته؟"
صاحت جمان وهي تدفعه عنها "اتركني.. لا يحق لك استعبادي وبيعي.."
جذبها خلفه عنوة نحو الحصان وهو يقول "قولي هذا لمن سيشتريك.."
حاولت جمان تحرير يدها ودفعه عنها بشتى الطرق دون فائدة.. لا يمكن أن تفشل بهذه السرعة.. لا يمكن أن يكون هذا هو آخر المطاف.. لكن، كيف السبيل للهرب الآن؟..
في تلك الأثناء، كان سلمة يتقدم من الموضع الذي أشار إليه الرجل سابقاً وقد بدت له الجبال من هذا القرب مكونة من سلسلة من الجبال المتصلة.. فتساءل بقلق إن كانت جمان في الجبل الأقرب إليه أم أنها في موضع آخر من تلك السلسلة.. كيف سيهتدي إليها؟.. ربما كان عليه إحضار الرجل معه حتى لا يضيّع المزيد من الوقت..
رأى في تلك اللحظة حصاناً يركض أمامه على مبعدة بحيث لم يلحظه راكبه، وعلى ظهره ما بدا له كفتىً بملابس عادية، ويلحقه رجل على حصان آخر بشكل حثيث.. قطب سلمة وهو يراقب ما يجري متسائلاً في نفسه إن كان عليه الإمساك بأحدهما لاستجوابه.. ربما كان ذلك الفتى هارباً من قطاع الطرق كذلك..
تأكد لسلمة هذا الظن وهو يرى الرجل يستخدم الحبل بالحجرين لإيقاف الحصان وإسقاط من عليه.. ولم يلبث أن وقف قريباً منه وترجل نحو الفتى فجذبه من سقطته بقوة.. لكن لما رأى العمامة تسقط والشعر الطويل ينسدل على ظهر الفتى، خفق قلب سلمة بقوة وقد أدرك أن ذلك الذي ظنه فتىً ما هو إلا جمان.. لابد أن تكون هي.. فلكز حصانه بسرعة متجهاً إليهما وهو يرى مقاومة جمان الشديدة رغم ضعفها وهي تصيح بالرجل "اتركني.."
وصل لموقعهما بسرعة فقفز من حصانه وهو يستلّ سيفه ويصيح بغضب "اتركها.."
التفتت جمان للصوت برجفة في جسدها.. ثم اتسعت عيناها وهي تنظر للقادم دون أن تصدق ما تراه.. حدقت به للحظات محاولة التأكد أن هذا ليس هذياناً منها بعد طول تمني ورجاء.. لكن رغم إنهاكه ورغم أنه بدا بأسوأ حال، إلا أنه لم يكن إلا سلمة.. فدمعت عيناها لمرآه وهي تصيح "سـلـمــــــة.."
بينما جذبها الرجل إليه وهو يقول بحدة "من أنت؟ وما الذي تريده؟"
تقدم سلمة منه وهو يقبض على سيفه بقوة قائلاً بغضب "قلت لك اترك الفتاة.. ألا تفهم؟"
قطب الرجل وهو يمسك مقبض سيفه بدوره وقال "ارحل يا هذا.. لا شأن لك بما يجري هنا.."
لكن جمان عضّت يده بقوة شديدة فصرخ متألماً، بينما انفلتت جمان من يده وتراجعت مبتعدة عنه.. فاستغل سلمة الفرصة وقفز نحو الرجل مسدداً له ضربة بمقبض سيفه.. فلم يكد الرجل يرفع رأسه وقد فوجئ بالضربة القوية التي أصابته في جانب رأسه وأسقطته أرضاً فاقد الوعي.. زفر سلمة وهو يرى الرجل يسقط بلا حراك، ثم أعاد سيفه لغمده وهو يلتفت إلى جمان التي وقفت جانباً وهي تقبض على يديها بشدة وتنظر له بعينين متسعتين.. فشعر براحة عميقة وهو يراها بخير، رغم أنه لا يعلم ما الذي جرى لها خلال اليومين الماضيين.. لكن عثوره عليها أسعده بشدة بحيث لم يملك اللهفة التي بدت في ملامحه وهو يقترب منها..
أما جمان فقد التمعت الدموع في عينيها رغماً عنها وهي تنظر له.. رغم أنها عزمت على ألا تظهر ضعفها أمامه أبداً، رغم أنها تمنـّت أن يراها قوية كيلا يشمئز منها، إلا أن مشاعرها قد تغلبت عليها وهي تراه أخيراً بعد أوقات بدت لها كدهر كامل.. فصاحت بشيء من الغضب، من نفسها ومن دموعها بالأحرى "أين كنت؟ كيف تترك التتار يختطفوني بهذه السهولة؟.."
اقترب منها سلمة قائلاً "أنا آسف لذلك.."
خفضت وجهها والدموع تنحدر على خديها وهي تقول بحدة "لقد انتظرتك ساعات وساعات.. لكنك لم تأت.. ظننتك حقاً قد تخليت عني وهربت.. لقد..... لقد......."
لم تستطع قول المزيد وهي تبكي بحرقة.. فهبّ إليها سلمة وهو يسألها بقلق عارم "أأنت بخير يا جمان؟ هل آذوك؟"
تشبثت جمان بملابسه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها، وأسندت رأسها لصدره وهي تنشج باكية وقد فقدت السيطرة على ما كبتته من مشاعر طوال الأيام الماضية.. الذعر غير المتعقل.. الألم واليأس.. الخوف الذي ينهش قلبها بقوة.. لم تكن تعتقد أن مرأى سلمة سيُظهر كل ما حاولت السيطرة عليه وقد ظنت نفسها قد أضحت أقوى من السابق.. لكن قوتها المزعومة قد تهاوت فور أن رأته، وأدركت كم هي ضعيفة نفسٍ وبحاجة لوجوده بقوة.. بحاجة لحمايته، وللشعور بالأمان الذي يغمر أعماقها كلما كان قريباً.. ولم تكن تدرك أنها ضائعة تماماً بدونه..
ومع مرأى بكائها وتشبثها به، ازداد قلق سلمه وهو يقول بإلحاح "ما الذي جرى يا جمان؟ ما الذي فعلوه بك؟"
لم تجبه وهي تتشبث به أكثر وتقول باكية "لا تتركني مرة أخرى.. لا ترحل يا سلمة أرجوك.."
رغم أن قولها هذا قد أشعل قلقه أكثر، إلا أنه لم يلحّ بأسئلته وهو يمسك كتفيها ويقول بانفعال حاول كتمه "لا تخافي يا جمان.. لا أنوي مفارقتك أبداً بعد الآن.. الحمدلله أنني تمكنت من العثور عليك وقد كدت أقضي نحبي لشدة قلقي عليك.."
ظلت جمان تبكي بحزن مرير محاولة تناسي كل ما رأته وشهدته من رعب في وقت قصير نسبياً، وإن كان يبدو لعينيها زماناً أبدياً لم تشهد مثله في سنواتها السابقة.. بينما غالب سلمة شوقه إليها ولهفته لاحتضانها بقوة وهو يكتفي بالضغط على كتفيها ويهمس "حمداً لله على عودتك لي يا فتاتي.. حمداً لله.."
***********************

~ بعيدا عن الخيال (٩) ~
قطاع الطرق

من الجرائم التي ارتكبت ضد القوافل ما حدث لقافلة حجاج خراسانيين قبل وصولهم إلى بغداد أنهم لما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قصدوا طبرستان سنة ٥٥٢هـ، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفراً منهم وسلم الباقون، وساروا من موضعهم، فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيليون، فقاتلهم الحجاج قتالاً عظيماً وصبروا صبراً عظيماً؛ فقتل أميرهم، فانخذلوا وألقوا بأيديهم، واستسلموا وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيليون، وقتلوهم، ولم يبق منهم إلا شرذمة يسيرة، وقتل منهم الأئمة والعلماء والزهاد والصالحون وجمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام وخصت خراسان، ولم يبق بلد إلا وفيه مأتم. فلما كان من الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون يا حجاج، ذهب الملاحدة وأنا رجل مسلم، فمن أراد الماء سقيته. فمن كلمه قتله، وأجهز عليه، فهلكوا جميعاً إلا من سلم، وولى هارباً، وقليل ما هم.


((أمن حركة الحج من المشرق الإسلامي خلال العصور العباسية المتأخرة))
عبدالرحمن بن علي السنيدي


***********************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
رحلت, ضياع
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 06:05 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية