منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   ما وراء الطبيعة (https://www.liilas.com/vb3/f152/)
-   -   (رواية) (21) - اسطورة عدو الشمس (كتابة) (https://www.liilas.com/vb3/t83396.html)

محبة القراءة دائما 04-07-08 08:46 PM

(21) - اسطورة عدو الشمس (كتابة)
 
السلام عليكم انا عضوةجديدة سأقوم ان شاء الله بكتابة اسطورة عدو الشمس


مقدمة
انها من نوع الامسيات التى افضل (عبد الوهاب) يترنم فى المذياع باحدى قصائده الفصحى القديمه تعرفون بالتاكيد تلك الاغانى التى يهمهم فيها مع الموسيقا بين مقاطع الكلام ما اروعها! و امامى ديوان شعر ل(تاغور) الشاعر الهندى

Eman 04-07-08 09:02 PM

شكرا الك عزيزتي...
سأتابعها معك...
وان شاء الله سأقوم بتصويرها أيضا...
ويعطيكي ألف عافية على تعبك مقدما...

محبة القراءة دائما 04-07-08 09:59 PM

شكرا لك eman على ردك الجميل
التكملة
الشاعر الهندى العظيم الديوان مترجم الى العربية لكن الترجمة لم تفسد شيئا من حرارة الكلمات و وهج العاطفة المنبعثة من قلب عرف معنى التسامح مع الكون.. أنا أيضا تعلمت أخيرا كيف أفهم الكون و أحبه، بعد ما ضاع شبابى فى محاولات خرقاء لتغييره أو تهذيبه. اليوم فقط فهمت أن هذا هو(أفضل العوالم الممكنة) و أننا حقا لمحظوظون.. هل حان وقت الكلام؟ اذن فلتسترح قليلا يا(عبد الوهاب) أيها الملهم و لتغف قليلا يا ( تاغور) العبقرى.. و لا تغضبا منى ..أنا لست ملهما" و لا عبقريا" مثلكما.. لكننى أملك بعض حكايات (مسلية) للغاية ، كما كان (دوماس)يصف رواياته فى آخر حياته..للأسف لا توجد لدى فرصة للاختيار اليوم ..فأنا ملزم بأن أحكى لكم قصة (عدو الشمس)التى وعدتكم بها بعد لقائى مع د.لوسيفر فى (نيويورك)مع حكايات (التاروت) .. لست فى حل من أن أؤجل ذلك ، لأن غضبكم على تأجيلى قصة الكاهن الأخير لم يهدأ بعد. و أنا لا أكرر أخطائى مرتين الا حين لا يكون أمامى سبيل آخر..دعونا اذن نصغى الى قصة عدو الشمس... و هى خالية من الرعب تقريبا.. و هذاـ حتما ـ يناسب الآنسات الصغيرات الجالسات هاهنا.. لكنها طريفة و مشوقة و هذا ـ حتما ـ يناسب الجميع... تعالوا معى عبر أحداث هذه القصة التى أعتقد أنها ستكون أدق ما كتبت ..لأنها عبارة عن مذكرات كتبتها فى ذات وقت حدوثها.. و بالتالى لم يتدخل وهن الذاكرة فى حرف منها.. و سأقدم لك هذه المذكرات كما هى دون تعليق...
*******************

محبة القراءة دائما 05-07-08 03:47 PM

[COLOR="DeepSkyBlue"]1_ حكاية صورة[/
COLOR]

الثلاثاء 8 يوليو :
عادة غريبة هى أن يجلس المرء الى مكتبه ليكتب مذكراته ..خاصة اذا ما كان المرء انسانا عاديا من الذين تزخر بهم الطرقات و طوابير المجمعات الاستهلاكية..، فى رأيى أن من يجرؤ على هذا لابد أن يكون من عينة (العقاد) أو (سعد زغلول) أو (روميل) حيث تشكل الحوادث الصغيرة فى حياته ( تاريخاً) حقيقيا تسترشد به البشرية من بعده.. أما بالنسبة لفرد تقليدى مثلى فلابد أن المذكرات لن تزيد على : صحوت من النوم ـ أفطرت ـ ذهبت للعمل ـ عدت من العمل ـ نمت ـ صحوت ـ خرجت ـ نمت .. اذن لماذا قررت أنا أن أمارس هذه الجريمة؟! المشكلة هى أن الايام تتراكم فى مخزن ذكرياتى.. زكائب من الوجوه و أكداس من العلاقات و سلال كاملة من الوعود التى لم أف بها بعد... شعرت اليوم بأننى بحاجة الى تنسيق كل هذا و الا فالويل لى .. و بما أننى ـ أصلا ـ من النوع نافد الصبر الذى لا يواظب على التنفس إلا لأنه يتم رغما عنه ، فاننى لا أتوقع أن تستمر هذه العادة الذميمة طويلاً ... أتوقع أن أواظب على الكتابة بضعة أيام .. شهراً أو أكثر .. ثم أسى الامر برمته و (تعود ريمة لعادتها القديمة) .. لا تخشوا شيئاً اذن..
*************
الأربعاء9 يوليو :
أشعر بخمول غير عادى بعد عودتى من(نيويورك)، و تلك الحكاية الغريبة التى كانت لى مع المدعو( لوسيفر) .. لعله الحر .. لعله الارهاق .. لعله الشعور بالوحدة..لكننى أشعر بكلمات الاديب البرازيلى ( ماشاو دوأوسيس) : لا أدرى من أين أبدأ الحياة! .. لا أجد فى روحى الرغبة فى عمل أى شىء سوى الجلوس فى الدار أقرأ كتباً عن السحر ،و أقاوم رغبة التدخين التى تمزقنى .. أشعر بالحاجة الى اخراج هذا السم من حياتى باى ثمن .. أتحرق شوقاً كى أذهب الى المعمل لأرى تلك الصور التى كنت التقطها قبل سفرى الى (نيويورك) .. و هى تلك الصور التى بنى د . (لوسيفر) عليها قصته المرعبة الخاصة بى.. القصة تتعلق بطالبين ـ فتى و فتاة ـ أحدهما من النوع المسمى (عدو الشمس) أو (ألبينو) .. عرفت من طلبتى أنهما زوجان .. و أنهما حديثا الظهور فى كليتنا .. و أنهما انعزاليان تماماً و ميالان الى الانطواء... أثارت ريبتى ـ فى رحلة القناطر اياها ـ محاولتهما الدءوب من أجل الفرار من عدسة الكاميرا ، حتى ظننت بهما الظنون .. الا أننى نجحت فى التقاط صورة لهما خلسة على سبيل العناد ، و أرسلت الفيلم الى المعمل و نسيت كل شىء عنه.. الى أن ذكرنى د . ( لوسيفر) بالأمر حين قرأ لى أوراق ( التاروت ) ، أما رؤيته الخاصة لما سيحدث فهى أننى لن أجد أثراً للزوجين فى الصور عند عودتى الى مصر .. التفسير: تفسير غريب و مضحك هو أن الزوجين قادمان من عالم آخر ،و يتضح لى أنهما مخلوقان بشعان لزجان يهمهما بأى ثمن أن يستردا هذه الصورة. و النتيجة : يتسللان الى شقتى ليلاً ليستردا الصور ، و تنتهى القصة بوفاتى ـ عليهما اللعنة ـ و بأبشع الطرق . ملحوظة : الى حد ما تذكرنى هذه الحبكة بحبكة فيلم ( تكبير) ل (أنطونيونى) الذى عرض فى نادى سينما القاهرة العام الماضى ـ 1967ـ و هو يناقش الصورة التى تبدو فيها الجثة .. و يكون على المصور أن يواجه مطاردة لحوحاً من فتاة تريد هذه الصورة.. و طبعاً لم يكن ( أنطونيونى) يتحدث عن الموضوع من حيث كونه مرعباً .. بل ليوحى بعبثية و هراء ما نكافح من أجله .. ما علينا ..غداً سأستجمع عزيمتى و أرتدى ثيابى و أحلق ذقنى ثم أبحث عن الحذاء ( ليتنى أذكر أين رميت هذا الأحمق ) .. و أذهب الى معمل التصوير لأبحث عن هذا الفيلم
***************
الخميس10 يوليو :
لقد فعلتها ...! أى و الله! .. نجحت فى الانتصار على حالة الجمود التى كنت أمر بها ،و خرجت الى المستشفى ثم عرجت على معمل التحميض اياه لأذكرهم بالفيلم.. لكن الفتاة التى تعمل هناك ( و هى بالمناسبة معتوهة نوعاً) قالت لى و هى تتأمل الايصال و تشهق : ـ لكن هذا منذ شهر تقريباً.
ضغطت على أعصابى .. و قلت :
ـ لا أعتقد أن الأمر يتعلق بقطعة من الثريد لو لم أسارع اليها لنفد الثريد منها ... هذا الفيلم ثابت .. و لو أننى تركته عامين فالمفترض أن أجده هاهنا.
ـ أعرف .. لكن .. المشكلة هى أن ..
و عكفت ـ مع فتاتين أخريين ـ تفحص عشرات الأكياس الورقية التى تحوى أفلاماً أخرى .. ثم هزت رأسها فى تعاسة: ـ هلا جئت غداً .. ربما كان...
تصاعد الدم الى رأسى : ـ اذن فنظام هذا المعمل لا يزيد على نظام سوق الأغنام ..
فى حرج قالت و هى تنصرف قاصدة زبوناً آخر : ـ المشكلة هى أن حادث سطو قد وقع هنا منذ أسبوع و من لحظتها اختلط كل شىء .. ثم جاءت الشرطة لتزيد الأمر سوءاً .. هيه ! .. أفندم! ..متى أحضرت الفيلم؟ تركتها و ركبت سيارتى و أنا أشعر بأننى عوملت باهمال لا أستحقه .. و فى الطريق الى دارى خطرت لى بعض أفكار أعتقد أنها لا تخفى على ذكاء أحد ..... يجب أن أتأكد أدرت قرص الهاتف فى شقتى طالباً (عبد المجيد) صديقى المحاسب الذى يقطن فى شقة تطل شرفتها على معمل التصوير.. و سمعت صوته الغليظ يتساءل عمن هناك.. فقلت فى غيظ : ـ انه أنا يا أحمق .. من سواى؟
ـ لكنك لم تقل حرفاً .. فكيف تتوقع منى أن..؟
ـ لا عليك .. قل لى .. متى و كيف سرق معمل التصوير الذى أمام دارك؟
ـ اهتمام غير عادى .. على كل حال هو سرق منذ أسبوع تقريباً .. و سرقته لغز .. لأن السارق لم يمس شيئاً ذا أهمية سوى ... مجموعة من الصور الفوتوغرافية و الأفلام التى لم يتم تحميضها !
ـ هل أنت موقن بهذا ؟..
ـ حتماً .. ان ( سليمان) صديقى و ... قل لى .. كيف حالك أولاً ؟ و متى عدت من ( أمريكا ) ؟ .. ان أسفارك هذه..
كان رأسى يهدر كمحرك توربينى عملاق .. أجبته بعبارات قصيرة ، ثم جلست أفكر فى مغزى هذا.. ظاهرياً يبدو الأمر كله مجرد صدفة .. لكننى ـ وقد سمعت ما قاله د . ( لوسيفر) ـ أشعر بهاجس معين. لماذا لا تكون سرقة محل التصوير جزءاً من حماس هذين الزوجين لاسترداد صورتهما ؟! يبدو لى الأمر كذلك ... و لكن كيف عرفا أننى اخترت هذا المعمل بالذات ؟ .. للمرة الأولى أشعر بالذعر يغمرنى .. لا يمكن أن يتنبأ (لوسيفر) بالمستقبل .. أنا أعترف له بقدرته على رؤية الماضى ـ ربما عن طريق قراءة الأفكار ـ لكن نبؤاته بصدد الغد أثبتت فشلها جميعاً .. اذن الأمر لا يعدو أن يكون صدفة.. غداً ـ الجمعةـ أعود الى العمل ، و أحاول أن أجد صورى المأفونة هذه ...
* * *
الجمعة 11 يوليو :
بعد صلاة الجمعة قصدت المعمل اياه.. فى هذه المرة لم أجد هناك سوى تلك الفتاة البلهاء ، حيث أن الجميع انصرف لتناول الغداء .. فما ان رأتنى حتى أشرق وجهها ، و مدت يدها تخرج لى كيساً ورقياً .. و تقول : ـ د . (رفعت اسماعيل ) ! .. لقد وجدنا صورك !
سألتها و أنا أدس الكيس فى جيبى و أناولها الايصال :
ـ مرحى ! .. أين وجدتموها !
ـ كان الفيلم السلبى معلقاً فى غرفة التحميض .. فلم يفطن اليه أحد . . شكرتها .. و غادرت المعمل .
الآن يمكننى أن أعرف الحقيقة ... سأصاب بانهيار عصبى لو وجدت مكاناً خاوياً فى هذه الصور .. لكنى كذلك سأصاب بخيبة أمل لو لم هذا المكان... سأنتظر حتى أصل الى البيت .. و حين أخلو بنفسى هناك يمكننى فهم الموضوع برمته..

* * *

محبة القراءة دائما 05-07-08 10:40 PM

2_لا مجال للهلع
________________

الجمعة 11 يوليو (تابع) :
بيد ملهوفة رحت أتصفح الصور.. يا للسخف ! .. كلها تظهر وجوهاً ضاحكة بلهاء تتراص فى صفين .. الصف الأمامى جالس و الصف الخلفى واقف ، يحاول أفراده بأصابعهم أن يصنعوا آذاناً لأفراد الصف الأمامى .. كنت أعرف هذا ، و سمحت لنفسى به للأسف .. و لعمرى تلك هى مشكلة فن التصوير فى مصر .. ما ان تصوب الكاميرا الى مشهد طبيعى بارع الجمال حتى تجد من يحشر نفسه حشراً فى الكادر ليرى كم هو جميل .. و بعد ثانية يحتشد عشرات المتطفلين حوله ، ليغدو موضوع الصورة أبعد ما يكون عما كنت تزمع ! .. دعونا من هذه الملاحظات ... آه ! ..ها هى ذى الصورة ....فى لهفة أدرسها ..أقربها من عينى ..حسن.. لا داعى لمزيد من القلق .. أنا أرى الفتى ( الألبينو) و زوجته الحسناء بوضوح تام من خلف كتف الطالب اياه ..و أرى تلك النظرة فى عين الفتى اذ أدرك أننى ألتقط الصورة ... لقد كان د . (لوسيفر) يهرف بما لا يعلم اذن هما مجرد زوجين طبيعيين يكرهان الفضوليين من أمثالى .. و أنا الذى كدت أجن كى أرى هذه الصورة ! .. لا داعى لمزيد من الهلع اذن ...
* * *
السبت 12 يوليو :
لا مفر من أن أقع فى شرك ( التقليدية) من جديد .. صحوت من النوم .. تناولت افطاراً دسماً ( أحاول أن أزيد من وزنى بضعة كيلوجرامات بعد الاقلاع عن التدخين ) .. ذهبت الى المستشفى ..عدت للبيت .. طهوت لنفسى غداءً دسماً لنفس الأسباب السابقة.. نمت .. صحوت .. خرجت .. عدت .. سأنام بعد انتهاء هذه السطور اذن..( لا أدرى من أين يجىء أصحاب المذكرات بكل الكلام الذى يكتبونه الى حد أنهم يملئون مجلدات كاملة ) .
* * *
الأحد 13 يوليو :
ناديت ( مدحت) ـ أحد الطلبة عندى ـ و قدمت له مجموعة الصور السخيفة التى التقطها مع الفيلم.. ، و طلبت منه أن يرفع عن عاتقى مهمة اعطاء كل صاحب صورة صورته .. كان ( مدحت) شاباً نحيلاً عصبياً سريع الانفعال و الصراخ ، ممن يستعملون أذرعهم فى التعبير أكثر من اللازم .. و هو كثير الحركة الى حد أنك تجد قميصه دوماً و ٌٌٌقد أبى أن يبقى داخل سرواله..... وتشعر كأنما هو خارج من مشاجرة دامية طيلة الوٌقت .....
انه يذكرنى بشبابى الى حد كبير , ولعل هذا هو السبب فى أننى أستريح اليه .... وأثق به أكثر من غيره .....
قال لى (مدحت) وهو يحاول ألا يرفع صوته :
_ هل يسمح وقتك ببضع دقائق يا د . (رفعت) ؟
_ فى الواقع يا (مدحت) .... أنا مشغول ..... حك رأسه فى توتر .... ثم بلل شفته السفلى بلسانه وغمغم :
_ ثمة شىء ما يضايقنى ... و ........
_ اذن .... تعال لمكتبى غداً ..
و فارقته وأنا أعرف ـ بالتأكيد ـ نوعية ما يضايقه ..ان ( مدحت) هو نموذج لذلك الشاب الطموح المندفع صاحب شهوة ( اصلاح الكون).. اذن من الطبيعى أن يكون هناك دوماً شىء يضايقه.. لقد اعتدت منه ـ

محبة القراءة دائما 06-07-08 09:30 AM

لقد اعتدت منه ـ مثلاً ـ أن يجىء مكتبى ليقول لى فى هستريا :
ـ سئمت الفقر و المرض !
كأنما ـ الأحمق ـ يتوقع أن عندى على مكتبى زرين .. زر خاص بمنع الفقر .. و زر خاص بمنع المرض و أن شكواه لى ستدفعنى دفعاً الى ضغط الزرين فيزول الفقر و المرض .. !
أحياناً أخرى يقتحم المكتب هاتفاً :
ـ تباً للحروب !
فأمد يدى باحثاً عن زر ( وقف الحروب) على مكتبى ، لكنى لا أجد واحداً .. للأسف ..
ان موهبتى البارعة فى الانصات قد جلبت على الوبال .. و أعرف عشرات يحسبون مهمتى فى الحياة هى الاصغاء لآلامهم و هواجسهم .. لا أكثر ..
اذن لى أن أتوقع أن ( مدحت) يريدنى لشىء من هذا القبيل على غرار ( يسقط الاستعمار) أو (فلتحى الارادة الفيتنامية) أو أى شىء قد يتفتق عنه ذهنه . . .
فى المساء :
بالمصادفة البحتة قابلت د . (محمد شاهين ) .. أستاذ ( الأنثروبولوجى) العتيد البرىء كالأطفال .. ، ان علاقتى ب د . (محمد ) تعود الى ذلك اللقاء العاصف فى شقتى يوم كان يحسبنى آكل بشر .. ، بعدها التقينا مرات محدودة جداً كان آخرها ذلك اللقاء فى فيللا د . (سامى) ليلة راح كل منا يحكى خبراته مع الرعب .. ماذا كانت قصته هو ؟ .. لا أذكر بالضبط ..أعتقد أنه تحدث عن قط خائف بلا سبب .. و صديقه الشبيه بالشيطان .. ربما كان ذلك .... المهم ......
كان كلانا يشعر بالخواء و الحاجة الى رفيق .. ، فأنا أعزب قليل الأصدقاء ، و هو أرمل فى الآونة الاخيرة ، و قد أدركت من نحوله و شحوبه أن أموره ليست على ما يرام .. و لا غرابة فى هذا .. فهو رجل يحتاج الى زوجة عاقلة تمنعه من ايذاء نفسه أو ارتكاب حماقات تجلبها براءته القاتلة ..
جلسنا فى مقهى ( الفيشاوى) .. العبق الساحر الذى لا يزول لحى ( الحسين) .. و ذلك الحزن المرهف لليالى الصيف .. استنشقت هواء المساء .. و تسربت قشعريرة الى جلدى .. ، أريد أن أبكى و لا أعرف سبباً لهذا لقد أعاد لى هذا الرجل ذكرى حاولت أن أتجاهلها طيلة الوقت حتى حسبتنى نسيت .....
لقد كانت (هويدا) موجودة فى كل لحظة قابلته فيها ! كلا .. لم يكن حباً .. بالتأكيد لم يكن كذلك .. لكنه شعور دام يؤلمنى .. سمه الألفة .. سمه الاشتياق .. سمه أى شىء .. و من يدرى ؟ . لربما كان الأمر كله حنيناً الى ( رفعت اسماعيل) تلك الأيام التى لن تعود .
حول كوبين من الشاى الجيد جلسنا نثرثر .. قرقرة الماء فى ( الشيشة) التى يدخنها باحتراف حقيقى ..و صراخ النادل .. و ارتطام أحجار ( الدمينو) .. قال لى د . (محمد) وهو يضع المزيد من قطع الفحم بالماسك :
ـ ما هى آخر أخبارك ؟
ـ خواء .. لا أكثر ..
ـ أنت اخترت هذا لنفسك .. لماذا لم تتزوج حين كان سنك مناسباً؟ ثم استدرك .. و قال فى حرج :
ـ لازالت سنك مناسبة .. أعنى أنها كانت مناسبة أكثر !
قلت و أنا أذيب مزيداً من السكر فى الشاى :
ـ اننى ( هاملت ) المصرى.. البطل بلا بطولة .. أتكلم و أتكلم لكنى أخشى أن أفعل .. لم أزل أعتبر من يقدمون على الزواج شجعاناً الى حد غير عادى .. ثم من هى البطلة التى تتحمل انساناً يقضى نصف يومه فى القراءة .. ونصفه فى النوم .. و نصفه الثالث ـ ان كان له نصف ثالث ـ فى الاكتئاب ؟
ـ .. و النصف الرابع فى مواجهة الاشباح .. !
ثم انه قال لى و هو يجرع جرعته الاولى من الشاى :
ـ عندى لك عروس مناسبة .. فقط اذا كنت جاداً ..
تثاءبت .. و قلت فى تعاسة :
ـ أنا متحمس .. لكن لا تبدو الحماسة على ملامحى .
ـ اذن نلتقى هنا غداً لنرتب اللقاء ..
* * *
الاثنين 14 يوليو :
عندى اليوم موعدان يثيران فضولى الى حد ما :
الموعد الأول : مع ( مدحت ) الطالب المتحمس اياه .
الموعد الثانى : مع د . (محمد شاهين ) ليلاً للحديث عن زيجتى القادمة . و اليك ما حدث ...
فى العاشرة صباحاً كنت جالساً فى مكتبى منهمكاً فى كتابة احدى الأوراق العلمية ، حين سمعت من يقرع الباب مستئذناً للدخول ..
رفعت عينى فوجدت ( مدحت) على الباب .. و على كتفه تتدلى حقبة يد صغيرة ..
أشرت له أن أدخل ففعل .. أشرت له أن اجلس فجلس..
أشرت له أن تكلم سريعاً .. فتكلم .. و كان ما قاله مثيراًً للاهتمام :
ـ أنت تعرف يا د . (رفعت ) أننى من هواة التصوير ..ثمة شىء غير عادى لاحظته فى تلك الرحلة التى قمنا
بها معك الى القناطر قبل سفرك .. سقط القلم من يدى و نظرت له بامعان.. فأردف :
ـ كنت أشك فى الأمر حتى رأيت صورك و صور صديق آخر كان يحمل كاميرا هو الآخر ... هل تأملت الصور بعناية ؟!
و مد لى يده حاملاً مجموعة من الصور أخرجها من الحقيبة .. فتناولتها منه دون أن أبعد عينى عن عينيه ..
هل سيقول هذا الفتى شيئاًمما يجول بذهنى ؟ ..
رحت أتصفح الصور دون كلمة .. لم أرى ما يثير كل هذا الوجل لديه .. كلها مماثلة لصورى أنا .. ذات الوجوه الضاحكة فى بلاهة ..
قلت له محاولاً أن يبدو صوتى هادئاً :
ـ ماذا تراه هنا و يثير ريبتك ؟ ..
اتسعت عيناه و تناول صورة منها ليشير الى شخص يقف فيها :
ـ هذا هو ( شريف السعدنى ) .. و هو يتحدث الى شخص ما ..، و هذه الصورة .. يبدو فيها ( ماهر) و هو
يضع يده على كتف شخص ما .. ، أذكر هذه الصور جيداً لأننى لم ألتقطها بنفسى .. هناك صديق التقطها لنا ليظهرنى ضمن المجموعة ..
ـ ان هذا ليس مبرراً كافياً للذعر فيما أرى ..
ـ كلا .. أنت لا تفهمنى ..
و فى لهجة أثارت الرعب فى قلبى غمغم :
ـ أين أنت؟ .. لا أجدك فى أية صورة برغم أن ( شريف) كان يحدثك .. و ( ماهر ) كان يضع يده على كتفك أنت .. ! !
...................... !
* * *

محبة القراءة دائما 08-07-08 06:06 PM

3 ـ أين أنا
__________

الاثنين 14 يوليو :
شعرت ـ كما هو متوقع ـ بالذهول ..
كان هذا آخر شىء أتوقع أن يقوله لى الفتى . .
اذن ف د . ( لوسيفر ) لم يكن مخطئاً على طول الخط . . ثمة شىء من الصواب فيما قال . . لكنه أخطأ بصدد الشخص . . !
كنت شارداً فى كل هذا بينما الفتى يضيف :
ـ . . و حين رأيت صورك أدركت أنه من المستحيل أن أكون واهماً . . لأن صورتى و أنا أحمل الكاميرا و أصوبها تجاهك واضحة فى عشر لقطات على الأقل . . بمعنى أنه كان من المفترض أن أجد بدورى عشر لقطات تبدو أنت فيها حاملاً الكاميرا . . !
و ابتلع ريقه :
ـ من المعتاد ـ عند وجود مصورين لذات الحدث ـ أن يظهر كل منهما مراراً على فيلم الآخر . . .
بللت شفتى بلسانى .. و تأملت الصور :
ـ هذا حق .. و لكن لابد من تفسير ما . . .
اذن كنت واهماً بصدد الزوجين . .
واحد فقط كان يستحق أن أبحث عنه فى الصور بشك . . و هذا الواحد هو أنا . . . ! . . .
تساءل ( مدحت ) فى قلق :
ـ هل تملك تفسيراً لهذا يا د . ( رفعت ) ؟
ـ بالطبع لا أملك . . كل ما أعرفه هو أننى لست شبحاً !
قال و ينهض و يجمع صوره:
ـ أنا أعرف أن لديك خبرة بهذه الأمور . . لهذا . . .
ـ أية أمور ؟!
شعر بأنه محرج . . و ارتجفت يداه و هو يقول :
ـ هذه الأمور . . أعنى . . كان واجباً أن أنبهك . . لربما هو داءعضال فى بدايته . . . أو . . .
قلت له فى جدية :
ـ اسمع . . أريد أن تبقى هذه الصور معى . . أريد كذلك أن يظل هذا الموضوع سراً بيننا . .
ـ أنت تعرف أنك تستطيع الاعتماد على يا د . ( رفعت ) .
و كانت هذه هى بداية اليوم . . . ! . .
و يالها من بداية غير عادية ! . . .
كان أول شىء فعلته بالطبع هو أن ذهبت لأتأكد من أن وجهى موجود فى المرآة المعلقة فى الحمام . .
كل شىء كما هو . . ذات القبح و النحول و الصلع و الحمد لله . .
ثم اننى تركت العمل مبكراً ، و هرعت الى أحد استديوهات التصوير حيث طلبت أن يصورنى من أجل جواز السفر بضع صور . . .
كنت متأنقاً فى هذا اليوم بشدة و هذا من حسن حظ الصورة . . لكن المصور وقف خلف الكاميرا ، و دارى رأسه بمنفاخها بعض الوقت . . توطئة لأن يبرز رأسه من جديد ليقول فى كياسة :
ـ هل ترى أن نؤجل هذه الصورة بعض الوقت حتى يكون مظهرك ملائماً ؟ !
عليك اللعنة ! .. اننى لفى أفضل حالاتى اليوم . .
ـ انه ملائم بالفعل !
و هكذا التقط لى الرجل الصورة غير مقتنع . . و دعانى أن أزوره غداً لأتسلمها …
ـ و هل من طريقة لتسلمها الآن ؟ . .
ـ للاسف . . هذا مستحيل (*)
هذا عن منتصف اليوم . .
ـــــــــــــــ
(*) لا تنسوا أن الاحداث في نهاية الستينيات . . حين كانت الصور الفورية نوعاً من قصص الخيال العلمى. .


اما عن نهايته . . فقد ذهبت الى ( الفيشاوى ) فى المساء باحثاً عن د . (محمد شاهين ) . .
كان جالساً على ذات المائدة يدخن الشيشة واضعاً ساقاً على ساق . . و قد استرخى كرشه أمامه . . و صلعته تلتمع بالعرق . .
فما ان رأنى حتى هش و بش .. و طلب لى فنجاناً من القهوة . .
قلت له فى كياسة رأيى عن تدخين أستاذ جامعى للشيشة . . فخلع منظاره السميك كاشفاً عن عينيه الضيقتين المنهكتين و قال :
التدخين نفسه عادة همجية . . نوع من العربدة الذاتية . . فإذا أنت رأيت رجلاً يحرق نفسه بموقد الكيروسين بدلاً من موقد الغاز ، فلا تلمه إلا على إحراق نفسه . . .
ـ منطق لا بأس به . .
و أحضر النادل صينية عليها فنجان القهوة . . فجرعت جرعة ماء حتى لا أصاب بالقرحة ( فأنا لم أذق طعاماً من ليلة أمس لأننى لم أجد عندى رغبة فى طهى افطار و لا غداء . . ) . .
شرعت احكى له بعض الأكاذيب مستمتعاً بأنه يصدق كل حرف مما أقول . . لولا البلهاء ـ كما قال ( مارك توين ) ـ لما حقق الآخرون فى هذا العالم أى نجاح . . .
و بعد نصف ساعة طلبت منه أن يحكى لى عن هذه العروس . . قال لى :
ـ هى تدرس الفلسفة فى كليتنا ، و قد فاتها قطار الزواج لأنها انهمكت فى عملها إلى حد أنها لم تسمع صفارته إذ يرحل . .
صحت فى حنق :
ـ يا سلام ! . . و لماذا أتزوج واحدة فاتها قطار الزو . . ؟
رأيت عينيه المرهقتين تحدقان فى عينى .. و سمعته يقول :
لأنك شخت حقاً يا ( رفعت ) . . ألم تفهم هذا بعد ؟
يا للألم ! . . أبداً لن يفارقنى االشعور بأننى مازلت طفلاً . . أصغر من كل هذه الكلمات الكبيرة . . و فى لحظة احتضارى لن أشعر سوى بأننى طفل يموت . . لقد شخت حقاً . .
قلت منهمكاً مستسلماً:
ـ بلى .. أفهم . . حسن . . هل هى جميلة ؟
توقعت أن يقول : فاتنة . . و كان هذا سيثير قلقى . . فأنا لا أثق بذوقه البتة . . فهذا الغرير لا يعرف حتماً معنى كلمة ( جميل ) . . لكنه أراحنى إذ مط شفته السفلى . . و هز كتفه بمعنى أن . . .
ـ بين . . بين
لا بأس . . إذن هناك أمل . . مادامت لم ترق له . .
ـ و ماذا عن شخصيتها . . ؟
ـ بين .. بين
ـ و عائلتها ؟
ـ بين .. بين . .
ـ و هل هى على شىء من الرجولة ؟
ـ بين بين . . . ماذا ؟ .. هل تمزح ؟
قلت و أنا أرشف القهوة :
ـ ظننت عتهاً أصابك فجعلك لا تردد إلا ( بين بين )
ثم وضعت الفنجان متسائلاً :
ـ متى و كيف أراها ؟
ـ تعال إلى غداً فى تمام العاشرة صباحاً . . و سنجد طريقة ..
و هكذا .. جلست أرمق الجالسين فى فضول . . و أدس بذور اللب بين أسنانى .. غريب أننى نسيت تماماً ما حدث صباح اليوم . . بالتأكيد هو مجرد كابوس أو خطأ معين . . سيتضح كل شىء لى غداً أما الآن فلنحاول تسلية د . ( محمد ) . . سألته فى إغراء :
ـ هل تلعب الطاولة ؟
ـ بالتأكيد . . .
ـ أنا لا ألعبها . . . !
لا أدرى لماذا أشعر بأننى أستفز هذا الرجل . . !

dali2000 08-07-08 06:56 PM

الله يعطيكي العافية وتسلمي على المجهود يا عضوتنا الجديدة

محبة القراءة دائما 09-07-08 06:15 PM

شكراً عزيزتى لحظة زمن على تفاعلك



الثلاثاء 15 يوليو :
عرجت على استديو التصوير فوجدته مازال مغلقاً . . إذن سنرى شأن هذه الصورة حينما نعود إلى الدار . .
و هرعت إلى كلية الآداب ، فوجدت د . ( محمد شاهين) جالساً مع اثنين من طلبة الدراسات العليا ، يحدثهما عن تصوره لما ينبغى أن تكونه ال ., . المهم . . دعونا من هذا . . .
بعد أن انصرفا سألنى عن سبب شحوبى . . هل هو الحياء ؟ . .
ـ الواقع أن هناك ما يثير توترى هذه الأيام . .
ثم سألته مباشرة و بلا تمهيد :
ـ متى لا يظهر الإنسان فى الصور الفوتوغرافية ؟ !
ـ سؤال غريب حقاً !
و تأمل الأوراق التى بين يديه . . ثم قال :
ـ قالوا لنا : أن الأشباح لا تظهر . . و كذلك لا يظهر مصاًو الدماء . .
ـ ألا يوجد تفسير آخر ؟
ـ لو كان هناك واحد فأنا لا أعرفه . . و لكن لماذا تسأل ؟
قلت و أنا أنهض و أشير إليه أن يحذو حذوى :
ـ إن من لا يظهر فى الصور الفوتوغرافية لهو إنسان فى مأزق . . إذ كيف يستطيع هذا البائس أن يظهر فى صورة العرس ؟!

بدا الذهول على وجهه . . و ظننت أنه يحاول أن يربط الكلمات بعضها بالبعض . . لكنه قال فى سذاجة:
ـ لا داعى لصورة العرس . . أنا لم آخذ صورة عرس عندما تزوجت !
لن يفهمنى هذا الرجل أبداً . .
لن يعرف أبداً لحظات مزاحى من جدى . .
و ذهبنا إلى قسم الفلسفة . . فياله من مكان محبط ! . . كنت أتوقع أن أرى الفلاسفة الرواقيين جالسين على درجات السلم . . و أن أجد من يمشى حاملاً فانوساً . . أو أن أرى من يعيش فى برميل . . لكنه كان مكاناً عادياً جداً . . مكاتب . . و سكرتيرة تطبع شيئاً ما على الآلة الكاتبة . . و بعض طلبة يسألون عن ميعاد امتحان التخلف . . و . .
ـ دكتورة ( كاميليا ) ؟
كانت هناك . . تدير ظهرها لنا و تلتقط كتاباً ما من فوق أحد الرفوف . .
و لمحت شعراً كستنائياً قصيراً . . و تايوراً رمادى اللون . . و يداً معروقة عصبية تتحرك هنا و هناك بحثاً عن صيد فلسفى جديد . .
شعرت بالهلع . . إنه كابوسى القديم . . سوف تستدير هذه المرأة لأكتشف أنها مسخ ذو أنياب . . أو أن لها رأس ذئب . . أو . .
لكن ـ لشدة الغرابة ـ رأيت وجهاً رقيقاً
كانت ترتدى منظاراً أنيقاً يرتفع فوقه حاجبان متحديان . . و كانت تضع كمية هائلة من مساحيق التجميل . . لا أدرى السبب فى وجود علاقة طردية بين قوة شخصية المرأة و بين حبها لتلطيخ سحنتها بهذه الأًصباغ ، لتبدو كهندى أحمر من ( الشيين ) ذاهب لإحراق معسكر . .
و على الفور راح ( الكمبيوتر ) فى رأسى الأصلع يصنف و يفند .. و يضع هذه المرأة فى ملف من ملفات البشر التى أحتفظ بها ..
و كان الملف الذى دخلته د . ( كاميليا ) هو ملف( المثقفة الهستيرية التى لا تهمد ، و المدافعة أبداً عن حرية المرأة ) . . و هو ملف مناسب إلى أن أعرفها أكثر
كانت( هويدا ) موضوعة فى ملف ( أنثى بلهاء تبحث عن عريس ، و لا تقرأ سوى حظها فى الصحف ) .
و كانت( ماجى ) موضوعة فى ملف ( الصديق الذكى اللطيف ) . . و أنا نفسى موضوع فى ملف ( المتشاءم المكتئب الذى زاده الخوف من الكون نحولاً )
و رأيت ( كاميليا ) تتقدم نحونا و على فمها ابتسامة متحفظة . . و هنا عرفت حقيقة مروعة . .
عندما تنوى أن تبدأ مشروع زواج لا تصطحب معك أحداً . . و بمعنى أفضل . . لا تصطحب د . ( محمد شاهين ) بالذات . . إن هذا الرجل لفضيحة تمشى على قدمين . . لقد راح يعرفنى بالدكتورة ( كاميليا ) و على وجهه ابتسامة خبيثة .. و راح يقول كلاماً واضح المغزى . . و يغمز بكلتا عينيه . . و . . و . . حتى إننى تمنيت لو تحولت يدى إلى قذيفة نووية أدسها فى فمه ليخرس إلى الأبد . . .
قالت لى بصوت رجولى قليلاً :
ـ فهمت أن سيادتك من المهتمين بالفلسفة . .
و قبل أن أرد صاح د . ( محمد ) فى حماس ، و اللعاب يتطاير من شدقه :
ـ جداً . . جداً . . إن د . ( رفعت ) فيلسوف عالى المستوى . . إنه يتفلسف فى كل مكان . . فى الشارع . . فى العمل. . فى الفراش . . فى دورة المياه . . إن هذا الرجل هو ـ ما شاء الله ـ ( أرسطو ) مصر !
قالت فى رزانة :
ـ عظيم ! . .سيكون من دواعى سرورى أن أتبادل الحديث معك . و لكن ليكن ذلك فى وقت آخر . . حيث إن ظروفى . . .
و نظرت إلى ساعتها . . ، فهززت رأسى بمعنى أننى أقدر و أتفهم . . ووليت الأدبار مع د . ( محمد ) . . .
سألنى و نحن عائدان عما يجول بخاطرى . . .
ـ لا أدرى ـ قلت له ـ لا أعتقد أنها تناسبنى أو أننى أناسبها. .
ـ هو مجرد انطباع . . تعال غداً بدونى و جاذبها أطراف الحديث . .
و هكذا . . . تم تأجيل الحكم فى قضية زواجى . .
الآن جاء وقت العودة لدارى . .
عرجت على استديو التصوير لأخذ صورى . . ، قال لى المدير فى حيرة : إنه آسف على الخطأ غير المقصود الذى حدث . .
ـ أى خطأ ؟!
ـ صورتك يا سيدى . . لم تلتقط . . وجدنا ( النيجاتيف ) خالياً من وجهك الكريم . . و برغم هذا كان المنظر الخلفى موجوداً بكل تفاصيله . . لابد أن خطأ ما قد حدث . . و لكن يخيل لى أنك ترتجف يا سيدى . . ترتجف ! . . فما هو السبب فى هذا ؟! ........................................................
* * *

عزي إيماني 13-07-08 02:41 AM

تسلم إيدك أختي..
ممكن - لا هنت - تنزلين الباقي ؟
مع جزيل الشكر ..

محبة القراءة دائما 14-07-08 03:40 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عزي إيماني (المشاركة 1537659)
تسلم إيدك أختي..
ممكن - لا هنت - تنزلين الباقي ؟
مع جزيل الشكر ..

حاضر عزيزتى و آسفة على التأخير



4ـ البحث عن سبب . .
ــــــــــــــ
الثلاثاء 16 يوليو :
انقطعت علاقتى بالعالم الخارجى . . .
كان الذعر الذى عصف بعالمى يفوق الوصف . . .
إذن فالموضوع حق لا مزاح فيه و لا مبالغة و لا سوء تفاهم . .
إن شيئاً ما شريراً يحدث لى . .
هرعت إلى المستشفى باحثاًُ عن د . ( رأفت) زميلى . . و هو رجل صموت كالقبر . . أثق بكفاءته تماماً . . حكيت له ما كان بصدد الصورة . . فبدا غير مصدق .
ـ لا توجد سابقة علمية تحكى عن شىء كهذا . .
ـ إذن فما هو التفسير . . ؟
ـ خطأ بسيط . . ظن ذلك الطالب أنه التقط صورتك و لم يكن هذا صحيحاً . . أما المصور فكان شارد الذهن حين التقط صورة لم تكن أنت قد جلست أمامه فيها .
ـ يبدو لى هذا مبالغاً فى الاستنباط . .
ـ لكنه الحل الوحيد . .
ووضع يده على كتفى فى رفق . . و قال :
ـ أنا أسمع الكثير عن هوايتك للأمور الخوارقية و الأشباح و البيوت المسكونة . . أسمع الكثير فأصدق ما أصدق و أكذب ما أكذب . . لكنى أعرف شيئاً واحداً . . إن هذه الهواية ستدمر السور الفاصل ما بين الحقيقة و الوهم فى عقلك الباطن . .
ـ هل تعنى ؟ . . .
ـ نعم . . كف عن لعب دور ( صائد الأشباح) قليلاً . . و فكر كطبيب . .
نظرت إلى عينيه مناشداً :
ـ هلا أجريت كل الفحوص لممكنة لى ؟ . . أريد التيقن من أن شيئاً ما لم يصبنى . .
ـ و ما هى التحاليل الخاصة بمرض ( التلاشى الفوتوغرافى ) هذا
ـ لا أدرى . .
تنهدفى صبر . . و غمغم :
ـ سنقوم بتجربة كل شىء إذن . . .
* * *
و هكذا تحول ( رفعت إسماعيل ) لى فأر تجارب . . أخذوا منى دماً يوازى ما سال فى معركة ( حطين ) من دماء .. رسم قلب . . رسم مخ . . فحص لقاع العين . . عينات من كل سوائل جسمى .. و النتيجة : لا شىء .
إذا ما تغاضينا عن تصلب الشرايين المبكر ، و انسداد الشريان التاجى الرئيسى ، و تحلل شبكية العين ، و الربو و التهاب البروستاتا. . يمكن القول إننى بصحة ممتازة . . و إن جسدى يعمل كما كان دائماً .. إلا أن الجزء الردىء من القصة بدأ حين وقفت لالتقاط صورة بأشعة ( رونتجن ) لصدرى . . . و كانت النتيجة هى أن الفنى عاد بوجه ممتقع ليصارحنى :
ـ ثمة شىء ما . . الفيلم لا يظهر شيئاً على الاطلاق !
ـ تعنى أن رئتى سليمتان ؟
ـ بل أعنى أنه لا توجد رئة على الإطلاق ! . . لا يوجد شىء !
هذه هى الضربة القاصمة إذن . . .
الخطأ لا يتكرر ثلاث مرات من أشخاص مختلفين . . .
ماذا قد حدث لى ؟ . . .
لا أفهم . . و لن أفهم قبل أن أهدأ قليلاً . .
* * *
الأربعاء 17 يوليو :
لم يحدث لى شىء غير عادى . . و هذا فى حد ذاته أمر مثير يستحق أن أكتبه فى مذكراتى . . .


الخميس 18 يوليو :
عشرة أيام على بدء كتابة مذكراتى . . يبدو أننى سأواظب على هذا العمل الأحمق فترة أكثر مما توقعت .
نتائج الفحوص التى أجريتها تتوالى ، و كلها طبيعية . . لا يمكن القول إننى أعانى مرضاً عضالاً معيناً . .
سألت ( رأفت ) عن رأيه فى كل هذا . . فحك رأسه و قال :
ـ الحق أننى لا أدرى . .
ثم ابتسم و نظر لى نظرة لا أفهم معناها :
ـ ما هى المشكلة فى كون صورتك لا تظهر على الأفلام ؟ . . ألا ترى معى أن هذا فى صالح القيم الجمالية على كل حال ؟!
صعد الدم إلى رأسى :
ـ يا سلام ! . . تريد أن تطمئن إلى ظاهرة مغايرة لكل قوانين الطبيعة . . و الكارثة هى أننى محور هذه الظاهرة . . !
ـ لكنك بصحة طيبة عموماً . .
ثم تنهد . . و قال فى ملل :
ـ حسن . . هل تري أن نستشير أحد المختصين بعلم البصريات ؟
ـ أفضل أن يظل الأمر فيما بيننا حتى أجد تفسيراً . . و حين عدت لدارى ، رحت اضع تصوراً لما حدث لى. .
أمسكت بورقة و قلم و دونت أفكارى :
أولاً : يوجد سبب ما يمنع انعكاس صورتى على الأفلام .
ثانياً : هذا السبب قد يكون فيزيائياً أو ميتافيزيقياً
ثالثاً : الأسباب الفيزيائية هى : تغير معامل انكسار خلاياى . . أو امتصاص جسدى لأشعة الضوء
رابعاً : هذا التغير الفيزيائى غير المسبوق ، قد ينجم فرضاً عن تعرضى لإشعاعات معينة
خامساً : السبب الميتافيزيقى لا يمكن التكهن به . .
و لكن . . ما هو سياق حياتى فى الفترة الماضية ؟
هل تعرضت لإشعاعات أو مؤثرات غير عادية ؟
يمكن القول إن آخر صورة رأيت فيها نفسى التقطت فى ( سويسرا ) حين حلمت بذلك الحلم الكابوسى عن
الغرباء . .
بعد هذا واجهت جلسة تحضير أرواح فى دار ( سام كولبى ) النصاب اليهودى ، و ضعت فى عوالم ( إدجار آلان بو ) و بعدها حضرت جلسة( التاروت )مع د . ( لوسيفر ) إذن فلو كنت تعرضت لمؤثر ما . . فهذا لم يحدث إلا مع( كولبى) أو ( لوسيفر ) . . .
طبعاً لا داعى أن أضيف أننى لا أحلم فى هذه اللحظات . . و إلا كان تفسيراً مريحاً جاهزاً . . .
إن رأسى يوشك على الانفجار . . .
* * *
الجمعة 19 يوليو :
كوابيس شنيعة تطاردنى طيلة ليلة أمس . . .
تارة أجدنى فى كهف مظلم وسط حشد من الشياطين ، يقومون بتنصيبى رئيساً لهم . . و هو شرف لا أرحب به على الإطلاق .
و تارة أخرى أنا كائن شفاف كف عن أن يكون مادياً . . و أبدأ فى التساؤل بقلق : هل هذا هو الموت ؟ !!
و أنا يا رفاق أخشى الموت كثيراً . . و لست من هؤلاء المدعين الذين يرددون فى فخر طفولى : نحن لا نهاب الموت . . كيف لا أهاب الموت و أنا غير مستعد لمواجهة خالقى ؟! . .إن من لا يخشى الموت هو أحمق أو واهن الإيمان . . و كفانى أن ( عمر بن الخطاب ) ـ رضى الله عنه ـ أعلن أنه يخشى الوت كثيراً . . فأين نحن منه ؟ . .
لهذا يمكنكم تصور شعورى و أنا أحلم بأننى توفيت حقاً ! . .
أصحو من النوم غارقاً فى العرق البارد ، فأدخل الحمام . . و أتأمل وجهى المنتفخ المرهق فى المرآة . . . و هنا أتذكر شيئاً نسيته تماماً . . لماذا لم أعد لمقابلة د . ( كاميليا) ؟ . .
كان النسيان قد حاصرنى فى ركنه الضيق المظلم منذ أيام . . . فلم يعد عندى متسع للتفكير فيها . . .
و قبل أن أتخذ قراراً دق جرس الهاتف . .
هرعت لأرد و أنا ـ كالعادة ـ أتوقع مصيبة . .
سمعت صوت امرأة خشناً كالرجال يسألنى :
ـ د . ( رفعت ) ؟
ـ . . . . . . . .
ـ هذه أنا . . ( كاميليا ) . . !
ـ ( كاميليا) من ؟
ـ هل نسيت ؟ . . قسم الفلسفة . . يوم الثلاثاء الماضى
يالها من مصادفة ! . . و كيف عرفت هذه السيدة ـ أعنى الآنسة ـ رقم هاتفى ؟ . . و كيف جرؤت على . .
ـ مرحباً يا دكتورة . . أنا . . أنا . . .
ـ لم نرك ثانية لاستكمال حديثنا الذى لم يبدأ . . رأيت أن أتخذ أنا الخطوة الأولى . .
ـ و . . و رقم هاتفى ؟
ـ أعطانيه د . ( محمد شاهين ) . . كنت أعرف أننى واجدة إياك صباح الجمعة حتماً . .
ـ ب . . ب . . برافو !
ـ سألتنى فى لهجة عملية :
ـ ما هو برنامجك اليوم ؟
ـ ب . . برنامجى ؟ . . سأطهو طعام الغداء و أصلى الجمعة ثم أعود لآكله . . و بعد ذلك . . .
ـ حسن . . نلتقى فى السابعة مساء عند . . .
و ذكرت اسم إحدى الكافتيريات . . ثم ودعتنى دون أن تترك لى فرصة الاعتراض ، و أنهت المكالمة . .
شعرت أن اللترات الخمسة من الدم الموجودة فى عروقى ، قد احتشدت كلها فى رأسى . . و احتشد لتران منها فى أذنى . . .
هل حقاً ما سمعته ؟ . .
لقد عرفت كثيرات بدءاً بفلاحات قريتى و انتهاءً ببنات الأسر العريقة المتحذلقات فى ( انجلترا ) . . لكنى لم أر قط هذه الجرأة الوقحة . . التى أثارت حفيظة فلاح ( الشرقية ) الرابض فى أعماقى . .
و قلت لنفسى : إن هذه العانس تحاول أن تطبق قيودها حول الأحمق الذى جاءها يسعى طالباً الزواج منها . . هذه هو التفسير الوحيد . .
إلا أننى ـ فى تمام السادسة مساء ـ وجدت نفسى أرتدى البدلة الكحلية التى تجعلنى فاتناً ( و هذا رأيى الخاص طبعاً ) . . و رباط العنق الذى اشتريته من( نيويورك ) . . و قمت بتمشيط الشعر الأشيب على جانبى رأسى بعناية . . لماذا أفعل ذلك ؟ . . ياله من سؤال !
و فى تمام السابعة دخلت إلى الكافتيريا أبحث عنها . . ، و كانت جالسة فى ركن القاعة إلى إحدى الموائد . . تتابع الموسيقا القادمة من مكان ما بحركات انسيابية من يدها . . .
الذى أثار هلعى أكثر من غيره هو أنها تمسك بين أناملها لفافة تبغ ! . . أبداً لن أبتلع فكرة الأنثى المدخنة مهما اتسعت نظرتى لتحوى الكون ذاته . .
يجب أن أفر . . يجب . .
لكنى لم أفعل . . .
مشيت نحوها و حييتها بهزة من رأسى و جلست . . . قالت بالانجليزية : إننى دقيق فى مواعيدى ، ثم قدمت لى علبة سجائرها . . فهززت رأسى أن لا . . .
ـ غريب هذا . . !. . قالوا : إنك تدخن كمحرقة الجثث
ـ كنت . . احاول أن أموت بسبب آخر غير هذا . . و على كل حال . . من هم الذين قالوا لك ؟
ـ كثيرون . . إننى أعرف عنك أشياء عديدة . .
جاء النادل يرمقنا بشك و على ثغره ابتسامة خبيثة . . فطلبت قدحاً من الليمون ثم تذكرت أننى يجب أن أكون سخياً هذه الليلة . . فطلبت قدحين . .
و بدأت ( كاميليا ) تتكلم . .
و لم يكن كلامها غبياً أو مملاً بحال . . فهى تعرف ما تتكلم عنه . .
تحدثت عن الفلسفة و عن دورها فى الحياة ، وعن ثقافة المرأة و نظرة المجتمع إلى استقلاليتها . . ، و عن تخلف الفكر الذى يرفض مشاركتها الرجل فى كل شىء . . ثم سألتنى :
ـ هل تحب الفلسفة ؟
درت بعينى أتأمل الموائد حولنا . . ثم قلت بحذر :
ـ أعتقد أنها ( فن إضاعة الحياة ) . . الحديث عن القيثارة بدلاً من العزف عليها . .
ـ إن ما تقوله لهو نوع من الفلسفة . .
ـ ربما . . لكنى لست فخوراً بذلك . .
برغم كل شىء كنت أشعر بعدم راحة لجلوسى معها . . لم أمل طيلة حياتى لهذا النمط من النساء المتحديات المستفزات اللواتى يملكن نوعاً من الرجولة لا تخطئه العين . .
قالت لى و هى تشعل لفافة أخرى :
ـ أردت أن أقول لك : إنك لم تعتد التعامل مع عقل امرأة . . و أنا سأكون عقلاً صديقاً لك . . أعرف أنك تتعامل مع الخوارق بكثرة . . و لسوف تحتاج إلى من يفكر معك و يحلل معك و يفند معك . . دع هذا الدور لى
ـ هل تهتمين بهذه الأمور حقاً ؟
ـ حتماً . . و لهذا حرصت على الظفر بصداقتك . .
هل هى جادة ؟ . . إذن فالأمر لا يتعلق بالزواج . . إنها تلعب معى دور الصديق الذكر الذى سيعيننى فى حل مشاكلى . .
و كأنما عرفت مايدور فى ذهنى ، قالت محذرة :
ـ لكنى أنذرك . . إن لقاءنا لقاء عقلين . . فإذا حاولت أن تلعب دور فاتن النساءئ معى ، فإن هذه ستكون نهاية صداقتنا . . .
صديق ؟ . . ياله من عرض مغر . . ! . . أنا أحتاج الآن إلى صديق أكثر مما أحتاج إلى زوجة . . لماذا لا أجرب هذا العقل الآن و أصارحها بمشكلتى التى تبدو بلا حل ! . .
رشفت جرعة من الليمون و رحت أحكى لها قصتى مع الصور الفوتوغرافية . . بينما هى تصغى لى . . عينلها الرماديتان لا تطرفان إذ تحدقان فى عينى بثبات خلف زجاج منظارها . .
ـ و هكذا ترين أننى لا أملك أى تفسير لهذا . .
ساد الصمت برهة . . و كادت تفتح فاها لولا أن سبقتها قائلاً :
ـ . . و لا تقولى إننى ( وهم ) كعادة الفلاسفة . . فأنا لن أفهم هذا السخف ما حييت . . .
ابتسمت بثقة . . و غمغمت :
ـ قصة غريبة حقاً . . لكن دعنا نتحدث بصيغة فلسفية . . أنت ترانى بمواصفات معينة . . غيرك يرانى بمواصفات أخرى . . ، من هو المحق و من المخطىء ؟ . . . من أنا حقاً ؟ . . هل تفهم ما أريد قوله ؟
ـ لا . . .
ـ أعنى أن ما رأته الكاميرا هو حقيقتك . .
ـ تعنين أننى شفاف دون أن أبدو كذلك ؟
قالت و هى تدفن لفافة التبغ فى المطفأة :
ـ أعنى أنك تتحول تدريجياً إلى شبح يا د . ( رفعت ) .
...............
* * *

عاشقة رغد ووليد 21-07-08 02:43 PM

رااااااائع كملي عزيزتي ربي يوفقك
نحن بالإنتظار

محبة القراءة دائما 26-07-08 11:01 PM

معلش على التأخير يا أحلى أعضاء بس ده كان بسبب ظروف قوية و دلوقتى هنزل الرواية كلها





5 _ عدو الشمس . .
ــــــــــــــــــ

السبت 20 يوليو :
صحوت من نومى ، فنهت لأفتح خصاص النافذة .
و بدلاً من أن ينسكب ضوء شمس الصيف البهيج ليفترش الغرفة ، شعرت أن دلواً من حمض ( الكبريتيك ) قد انسكب فوق جسدى كله ـ ملايين الإبر الدقيقة تنغرس فى لحمى . ..
ماذا أصاب الشمس ؟ . . ماذا حدث ؟ . .
أغلقت النافذة بإحكام ، و هرعت إلى الداخل . .
و أمام المرآة تأملت وجهى . .
لا مجال للشك ! . . إن حروقاً صغيرة من الدرجة الأولى تنتشر على جلدى ، و تحيط العينين و ركنى الفم . .
ماذا دهانى و أنا نائم ؟
هل أصبت بحساسية مفرطة تجاه الشمس ؟ . . أم أصبت بالبورفريا؟
أم . . ماذا أقول ؟ . . .
كدت أحاول ثانية لكننى أشفقت على وجهى من مزيد من الألم . . طفقت أدهن وجهى بالجلسرين . . ثم هرعت إلى الهاتف و طلبت د . ( رأفت ) فى داره . .
ـ هذا أنا . . (رفعت ) . .
ـ أرجو أن تكون فى مصيبة تبرر إيقاظى قبل موعدى بساعة
ـ بالفعل . . لقد أصبت بحساسية مفرطة تجاه ضوء الشمس . . و لن يكون باستطاعتى الخروج للعمل . . إننى . . . .
و ارتجف صوتى على الرغم منى :
ـ ( رأفت ) . . ماذا يحدث لى ؟ . . أنا خائف !
قال فى توتر :
ـ يا للهول ! سأكون عندك حالاً يا ( رفعت ) . . فلا تخش شيئاً . . ووضع السماعة . .
بعد نصف ساعة كان فى دارى . .
شرع يتفحص الحروق فى وجهى باهتمام بالغ . . و ازدادت تجاعيد وجهه عمقاً و جدية . . .
ثم إنه قال و يجلس على الأريكة :
ـ هذا غريب !
فى حنق صحت :
ـ هل هذا هو كل ما تستطيع تقديمه لى ؟
وضع ساقاً فوق ساق ، و غمغم و هو يعقد ذراعيه على صدره :
ـ دعنا نتعقل قليلاً . . أريد أن تحكى لى كل شىء من جديد . .
ـ ......................
ـ . . وهذا هو كل شىء . .
قال و هو ينقل ساقيه :
ـ لاحظت أنك تجاهلت الطالبين ـ الزوج و الزوجة ـ تماماً . . و نسيت كل شىء عنهما . . أرى أن نعيد البحث عن حقيقتهما من جديد ، فلربما كانت لهما علاقة بالموضوع . .
ـ يمكن أن يساعدك ( مدحت ) فى ذلك . . هل تعرفه ؟ ذلك الطلب المعتوه بالفرقة الرابعة . . إنهما زميلاه . . أما فيما يتعلق بى . . فما هو رأيك بالضبط . . ؟
نهض متثاقلاً . . و غمغم :
ـ الأمر يتلخص فى حساسية ضوء شديدة . . لقد رأيت أسوأ منها
ـ فى ليلة واحدة ؟!
ـ ما أكثر ما يجهله الأطباء . .
ثم تمنى لى حظاً سعيداً ، ووعد بأن يفعل ما يراه صواباً . . و تركنى و انصرف . . يا للهول . . لا أريد أن أكون وحيداً . . يحرقنى الإحساس المرير بأن هذه مشكلتى أنا فقط . . أتعذب وحدى . . أجن وحدى . . بينما يعود كل واحد إلى داره مسروراً ، يحمد الله على أنه ليس أنا . . .أريد آخرين بأى ثمن . . . !

* * *
أمام المرآة عدت أتأمل وجهى . . .
هو نفس الوجه الذى اعتدت أن اراه أربعين عاماً . .
و لكن ما سر التغير الذى طرأ لخلاياه ؟ . .
ما سر هذا التبدل فى خواص ذاتى ؟ . .
* * *
عدت أطالع قصة ( الرجل الخفى ) تحفة ( ولز ) الخالدة . . ، أعرف أننى لست خفياً . . لكنى كذلك بالنسبة للعدسات . . يالها من قصة ملهمة . . !
فى هذه القصة تمكن ذلك الطبيب البارع من تبديل معامل انكسار خلايا جسده ، لتصير مماُُثلة للهواء . . بالتالى صار شفافاً مثله مثل قضيب الزجاج المغمور فى الماء . . و الحقيقة هى أن هذا الرجل الخفى ـ الذى كاد يحكم العالم فى القصة ـ كان أعمى . . ! .. نعم أعمى . . لأنه لا يملك خلايا سوداء فى شبكية عينه ، و لقد ارتكب ( ولز) هذا الخطأ الجسيم فى غمار انبهاره بطرافة المحتوى الأدبى للقصة . .
مشكلتى انا تختلف . . .
إن الكل يروننى . . لكن أفلام التصوير لا تستطيع . .
فلو كان معامل انكسارى قد تغير ـ مثل بطل ( ولز ) ـ لصرت خفياً تماماً حتى و لو صرت أعمى . . و لما رآنى أحد
إذن معامل انكسارى كما هو . .
وجودى هو الذى تغير . .
أنا وهم يحسب الآخرون أنهم يرونه . .
أنا شبح يخدع الجميع و لكنه لا يخدع الكاميرا . .
فإذا أضفنا إلى هذا كله ما طرأ من حساسيتى لضوء الشمس ، لقلت : إننى أتحول إلى مسخ حقيقى . . شىء قريب من مصاصى الدماء أو ما هو أسوأ . .
لماذا يحدث لى هذا أنا بالذات ؟ . .
* * *
بعد الظهر تلقيت مكالمة هاتفية من( صديقى ) الجديد. .
ـ هاللو !. . ( رفعت ) ؟ . . أنا ( كاميليا ) . .
ـ ليس صعباً أن تعرفى أننى ( رفعت ) . . فلا أحدسواى يعيش هنا . . و ليس عسيراً أن أعرف أنك ( كاميليا) . . فأنا لا أتلقى مكالمات أنثوية بتاتاً . .
ـ يسرنى أنك لا تحاول لعب دور ( دون جوان ) . .
ـ ( دون جوان ) ؟ . . بمظهرى و حالتى الصحية ؟ . . أنا لا أملك مزاجاً يسمح بالمزاح . .
ـ حسن . . ما هو برنامجك لهذه الليلة ؟
ـ لا برنامج . .
ضربت لى موعداً للقاء ، و كالعادة أغلقت السماعة قبل أن أتنصل أو أنتحل أعذاراً . . .
لم لا أذهب للموعد ؟ . . أريد أن أرى الشارع و أسمع صوت الناس يتشاجرون و يصخبون . . سيكون الموعد ليلاً و لن تضايقنى أشعة الشمس بالتأكيد . . .
و هكذا . . .
تجدوننى جالساً معها فى كافتريا أخرى ، أرشف القهوة و أحكى لها عن الذى أصابنى اليوم . .
لم أعد بحاجة إلى الخيال كى أعرف مشاعر مصاص الدماء ن الذى لا يخرج إلا مع انسدال الظلام ، و لا يعود لداره إلا حين ينذر الفجر بالبزوغ . .
قلت لها :
ـ قلت بالأمس : إننى أتحول إلى شبح . . ما هو فى رأيك سبب هذا ؟
ـ ربما لأنك فقدت علة وجودك . .
اللعنة على كل هذا الهراء ! . . لا أمقت شيئاً قدر أن أجد نفسى وسط متاهات لفظية لا تنتهى . . ، على الأقل أنا واثق من أننى لم أمت بعد . . روحى تهيم . . تهيم ؟!
سألتها فى قلق :
ـ سمعت أن المتوفين يظلون فترة لا بأس بها يمارسون حياتهم العادية ، غير مصدقين أنهم ماتوا ، و أن الآخرين لا يرونهم
نفثت دخان لفافة التبغ فى وجهى و قالت :
ـ تعنى أنك كذلك ؟
ـ ربما . . .
ـ هذا هراء . . لا تصدق أى حرف عن الموت مما يقوله العامة . . ، مادام أحد لم يعد من هناك ليحكى ما رآه ، فكل هذه تكهنات . . ، كل ما أعرفه أنا هو أنك تنبض بالحياة أمامى . . أراك . . و أسمع صوت لهاثك . . ، صدقنى فى أن هناك تفسيراً أكثر منطقية . .
ـ و ما هو ؟
ـ لا أدرى . . لكننى سأعرفه فيما بعد . . .
* * *
الأحد 21 يوليو :
كانت ليلة أسود من كل الليالى السوداء فى حياتى محتشدة . . لم أعد بحاجة لرؤية الكوابيس فى أثناء نومى ، لأن حياتى ذاتها صارت كابوساً متصلاً . .
إلا أننى ـ فليحى التفاؤل ـ نهضت لأفتح النافذة ، آملاً فى أن يكون ما حدث أمس وهماً أو حالة عارضة ! . .
أ ى ى ى ! . . إنه لعذاب لا يوصف ! . . فى هذه المرة شعرت أن جسدى كله يغوص فى فوهة بركان امتلأت بالحمم . . ألقى بى الألم فوق الفراش .. ثم تحاملت على نفسى فتدثرت بالبطانية ، و نهضت لأغلق بوابة الجحيم هذه . .
تررررررررررررن ! . .
الهاتف من جديد . . إن تلقى ثلاث مكالمات فى أسبوع لشىء يفوق طاقتى على الاحتمال . . يوشك هذا البيت أن يتحول إلى ( سنترال ) مركزى . ذهبت لأرد و أنا أعالج بيدى اليسرى كل تلك القشور التى انتشرت فوق وجهى ، و على ساعدى الأيمن. .
صوت د . ( رأفت ) الوقور :
ـ ( رفعت ) ؟ . . أهذا أنت ؟
ـ لو كان سواى فالبيت مسكون . . و . . .
ـدعك من السخرية . . و قل لى . . بخصوص هذين الطالبين المتزوجين اللذين تحدثت عنهما . . قلت لى فى أية فرقة ؟
ـ الثالثة على ما أظن . .
ـ حسن . . ( مدحت ) لا يعرفهما . . لا أحد يعرفهما فى الكلية بأسرها . . بل يؤكد الجميع أن شخصين بهذه المواصفات لم يكونا فى رحلة القناطر . . لابد أن هناك خطأ ما . . .
و لكن . . خطأ . . مستحيل !
هل فقد الجميع عقولهم ؟
ربما أننى قد جننت أو فى طريقى إلى ذلك . .
و الدكتور ( رأفت ) لم يزل يتكلم ...........
* * *




6 _ هو . .

الأحد 21 يوليو [ بقية ] :
لن أطيل وصف حالة انعدام الوزن التى شعرت بها بعد هذه المكالمة اللعينة . . أنت تفهم ما أريد قوله دون أن أتعب نفسى . .
لقد رأيت هذين الزوجين بعينى . .
سألت عنهما . . سألت كثيرين ـ و ( مدحت ) من بينهم ـ فقيل لى : إنهما زوجان حديثا الظهور فى الكلية . . بل و التقطت لهما صورة . .
كيف ينكر الجميع الآن وجود هذين ؟ . . هناك مؤامرة عامة لجعلى أفقد عقلى ، أو ربما أنا فقدته بالفعل . . ؟!.
و لكن . . . الصورة ! . .
هذا حق . . الصورة التى التقطها عندى ، و فيها يبدو وجهاهما كأوضح ما يكون . . .
هذه الصورة دليل لا يدحض على صدق ما رأته عيناى و سمعته أذناى . . .
هرعت إلى الخزانة ، و شرعت أبحث فيها حتىوجدت مجموعة الصور . . شرعت أفتش بلهفة حتى وجدت الصورة . .
حمداً لله ! . . الآن أرى وجهيهما . . كنت سأنتحر حتماً ـ بعد أن أفقد عقلى ـ لو لم أجدهما فيها أو لم أجد الصورة أساساً . .
إذن أنا محاط بمجموعة من الكاذبين . .
إلا أن شيئاً من القلق ظل يخامرنى . . ذلك النوع من القلق الذى يدفع المرء دفعاً إلى أن يخرج من شقته ( لحسن الحظ مدخل الشقة معتم خالٍ من الضوء ) . . يتجه بخطى ثابتة إلى شقة جاره ( عزت ) . . يقرع الجرس . .
ينفتح الباب عن وجه ( عزت ) الكئيب الشبيه بمرضى الفشل الكلوى المتقدم . . ، مازال كما هو فيما عدا خصلة صغيرة من الشعر نابتة فى أسفل ذقنه . . يحاول بها أن يبدو عبقرياً شاذاً . .
كان بعد نائماً كما هو واضح ، و أدركت أنه مازال وطواطاً آدمياً . . بومة بشرية تصحو ليلاً و تغفو نهاراً
ـ ( رفعت ) . . ألا تنام أبداً ؟
ـ و أنت ألا تصحو أبدأ . . أريد أن أسألك عن شىء . .
ودسست الصورة تحت أنفه . . و قلت :
ـ صف لى ما تراه هنا . . .
قرب الصورة من عينيه . . و تثاءب . . و غمغم :
ـ أرى كتفاً . . ثم . . هآ آ آ آ ه ! ثم حديقة . . هل هذه الصورة ملتقطة فى الإسكندرية ؟ ربما ( أنطونيادس) ؟ . . و لكن . . لا . . على كل حال ما أهمية الكتف الذى يوقظنى فجراً بهذا الشكل ؟
تساءلت فى إلحاح :
ـ فقط ترى كتفاً ؟ . . أين الفتى و الفتاة فى هذه الصورة ؟
أعاد التأمل ثم غمغم :
ـ هل هى أحجية ؟ . . لا يوجد فتى و فتاة هنا . . !
انتزعت منه الصورة دون كلمة أخرى . . و استدرت عائداً إلى شقتى . . متجاهلاً صوته الذى وصل لمسمعى يردد :
ـ هذا الرجل ليس على ما يرام . .
نعم . . أنا هو هذا الرجل . .
فما إن أغلقت الباب على نفسى ، حتى رحت أردد أننى لا ينبغى أن أجن . . لا يجب أن أفقد صوابى . .
أولاً : اختفيت أنا تماماً من الصور بشهادة الجميع .
ثانياً : اختفى الزوجان تماماً من الصور عن الجميع عداى ، و لا أحد يزعم أنه رآهما أساساً
* * *
رب قبح عند ( زيد )
هو حسن عند ( بكر )
فهما ضدان فيه . .
و هو وهم عند ( عمرو )
فمن الصادق فيما يدعيه ؟ . . ليست شعرى . .
و لماذا ليس للحس قياس ؟ . .
. . . لست أدرى . . .
( إيليا أبو ماضى ـ الطلاسم )
* * *
صدقت يا صاحب( الطلاسم ) . .
أنا أفهم الآن هذه الحيرة الملتاعة . . عدم الفهم لما هو صواب و ما هو خطأ . . هل أنا أهذى أم الآخرون يهذون ؟ لعلهم يكذبون . . و لكن ما مصلحتهم فى الكذب ؟ و لماذا يجمعون عليه ؟ . . لا داعى لإضاعة وقتى فى سؤال آخرين عن هذه الصورة . . فأنا أدرك فى أعماق أعماقى أنهم سيقولون الشىء ذاته : لا نرى أحداً فى الصورة .
و لكن لماذا أرهق نفسى بحثاً عن تفسير ؟ . .
ما الضرر ـ حقاً ـ من أرى الزوجين أو لا أراهما ؟
و ما الضرر فى ألا تظهر صورتى على الأفلام ؟ . .
الضرر واضح . . إذ كيف أعيش بقية حياتى ـ إن كان لها بقية ـ عاجزاً عن رؤية النهار ؟!..
* * *
الاثنين 22 يوليو :
اليوم زارنى ( مدحت ) حاملاً علبة من ... الشيكولاتة !..
يا لك من أحمق يا ( مدحت ) ! .. أنا لست مريضاً حتى تعاملنى بهذا الأسلوب المعقد ... لكنه قال فى مودة :
ـ نفتقدك كثيراً يا د . ( رفعت ) . . إن عدداً من الطلبة كان يبغى زيارتك ، لكنى عرضت عليهم أن أقوم بذلك وحدى ، حاملاً تحياتهم و علبة من الشيكولاتة . . أعرف مدى كراهيتك للزحام . .
ـ و كيف عرفت عنوانى ؟
ـ د . ( رأفت ) . . هو من أبلغنى بمرضك . .
ثم ابتسم فى ذكاء ، و قال :
ـ ألم أنذرك ؟ . . لابد أنه مرض نادر يفقد المريض قدرته على الظهور فى الصور !
ـ لا أعرف مرضاً مماثلاً سوى الموت . . !
و جلبت له بعض المياه الغازية . . ثم جلست أرمقه و هو يجرعها محاولاً أن أسبر غوره ..
ـ ( مدحت )
ـ نعم يا د . ( رفعت ) ؟
ـ لماذا كذبت ؟!
تقلص وجهه استبشاعاً للتهمة . . و نظر لى غير مصدق . . فقلت ضاغطاً على مقاطع الكلام :
ـ أنت كذبت . . ، و الآن لا يوجد سوانا و لن يسمعك أحد .. أريد منك أن تفسر لى سر انكارك رؤية هذين الزوجين فى رحلة القناطر .. أنت رأيتهما .. و أجبت عن سؤالى عنهما .. و قلت : إنك تعرفهما منذ فترة .. فكيف تقول الآن : أن هذا لم يكن ؟
بدت الحيرة على ملامحه ووضع الكأس جانباً ليقول :
ـ أنا لا أفهم يا د . ( رفعت ) .. لو كان شىء من هذا قد حدث فأنا لا أذكره .. لا أعرف طالبين متزوجين فى هذه السن المبكرة كما لا أذكر أننا تبادلنا كلمات كثيرة فى أثناء الرحلة ..
ـ مرة أخرى تكذب !
بدا عليه الارتباك فهو لا يعرف ما يقول .. و بعد هنيهة غمغم :
ـ لا أدرى لماذا تهتم بهذين يا سيدى .. إن المشكلة الحالية بالنسبة إليك هى مشكلة ( التلاشى الفوتوغرافى )
..و كنت ...
ـ أنا من يحدد مشكلته لا أنت!
ـ أعنى أننى لم أعر الموضوع اهتماماً .. و ...
نهضت فى عصبية ، فرفعت الصينية التى كانت أمامه بما عليها من بقية زجاجة المياه الغازية ..و اتجهت للمطبخ
قال فى ارتباك :
ـ لكنى لم أفرغ بعد من ...
صحت و أنا أعود ، و أجذبه من ذراعه لينهض :
ـ لا أراك مستحقاً لشربها .. و الآن دعنا نتفق على أنك شخص غير مرغوب فيه هنا ، و لئن استطعت الإمساك بكذبك فلسوف أنسفك نسفاً ..!
و بحركة مسرحية أشرت للباب :
ـ اخرج ! .. اخرج !
كاد الإنفعال يدفعنى أن أقول له : اخرج يا عدو الله ! كما كانوا يفعلون فى مسرحيات( يوسف وهبى ) القديمة ، لكننى تمالكت نفسى فإكتفيت بالمقطع الأول
ـ و لا تنس هذه !
ووضعت علبة الشيكولاتة تحت إبطه ، و قدته إلى الباب ..بينما هو يردد عبارات مختلطة بلا معنى ربما هى اعتذار .. أو محاولة لفهم الموقف .. المهم أنه خرج خروجاً مهيناً .. للأسف لم أجرؤ على ركله فإن هذا كان سيريحنى كثيراً ...
إن الذى يكذب عليك فى وجهك عالماً أنك تعرف كذبه لهو إنسان فذ .. إنسان جدير بحطب جهنم ..
* * *
الثلاثاء 23 يوليو :
فى ساعة مبكرة من النهار اتصلت بى د . ( كاميليا ) تسألنى عن حالى ، نسيت أن أقول هنا إنها تعانى من فراغ مثلى لأنها تعيش وحدها .. والداها متوفيان .. و اخواتها متزوجات .. و أنا واثق بأنها هشة تماماً تحت قناعها المتسلط الواثق من نفسه .. و أنها بحاجة لإنسان .. أى إنسان ..
ـ لم تذهبى للعمل اليوم إذن ؟!
ـ اليوم إجازة .. عيد الثورة .. أم لعلك نسيت ؟
ـ لقد فقدت اتزانى حقاً .. لم أعد أذكر من أنا ..
ضحكت تلك الضحكة العالية الرنانة المميزة لهاته النسوة الهستيريات .. و قالت :
ـ ما هى أخبار التحول الشبحى ؟!
و لفظت كلمة ( تحول ) باللاتينية ( ميتامورفوزس ) كعادتها ، و أنا أجد فى هذا الأسلوب استعراض ثقافة لا أكثر .. ما هو عيب لفظة ( تحول ) و ما الصعوبة فى نطقها ؟! ..
قلت لها ..
ـ المزيد من تساقط الجلد .. و أنباء محيرة للغاية ..
ـ عن هذين الطالبين ؟
ـ و كيف عرفت ؟
ـ ربما منك ..
و دار الحديث لفترة لا بأس بها .. لا أذكر حقاً عم تحدثنا ، لكنها كانت تسلية معقولة ..
بعد انتهاء المكالمة ، دق جرس الهاتف ثانية .. لم يعد هذا البيت ( سنترالاً ) مركزياً .. بل هو أقرب إلى مركز اسعاف .. فلنر من هذا المتطفل :
ـ صباح الخير يا ( رفعت ) .. هذا أنا ( رأفت )
ـ أخيراً ..؟ حسبتهم أخذوا الهاتف من دارك ..
ـ ما هذا الذى فعلته مع ( مدحت) ؟ لقد حكى القصة فى كل مكان ، و الكلية كلها تتساءل عن حالتك العقلية .. يقولون : أن ولعك بالخوارق قد بدأ يؤثر فى مخك ..
ـ لقد استحق هذا
تنهد فى صبر .. و قال :
ـ لم يحدث فى التاريخ أن طرد أستاذ تلميذه الذى جاء يحمل له أمنيات زملائه بالشفاء .. حتى لو كان هذا الأستاذ هو د . ( فرانكنشتاين ) نفسه ..
لم أرد .. فقال و هو يحاول أن يهدىء من لهجته :
ـ على كل .. لقد حاولت أن أحسن الوضع بقولى : ان مرضك قد جعلك عصبياً ..
ـ لا بأس إنها لحقيقة ..
و فى هذه الثانية دق جرس الباب ، فاعتذرت من ( رأفت ) طالباً أن يمهلنى ريثما أرى من هناك ...
و أزحت الرتاج و نظرت إلى خارج الباب المفتوح .. رأيت شاباً أبيض الشعر ، أحمر الجلد من ذلك الطراز الذى يسمونه ( ألبينو ) .. أو عدو الشمس ... و فى الحظة التالية أدركت أنه هو ..
هو ...
الذى بدأت به هذه المأساة ...!
* * *


مذكرات ( آشتا)

هذا الجزء غير مكتوب على ورق ، ولم يستخدم الحبر فى كتابته .. بل هو نوع من الرؤى ، أو الإيحاءات التى هى إلى الهواجس أقرب ..







1 ـ غير المدعوين ..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
18 ( آشتا ) عام 321569 :
ربما أنا أول مواطن من ( أرض الأطياف ) يجلس ليكتب مذكراته ..و هى لعمرى عادة غريبة يمارسها ( الماديون ) أحياناً كأن حياتهم ملحمة تستحق التدوين ..
متى جئت إلى هذا العالم ؟ .. لابد أن هذا حدث من زمن سحيق إلى حد أننى نسيت كل شىء عنه ..
إن تاريخ شعبنا قديم للغاية .. ربما منذ اللحظات الأولى لوجود هذا الكون نفسه..، و نحن الآن ـ فى عام الوميض321569 ـ ما زلنا لا نعرف الكثير عن نشأتنا ...
كل ما نعرفه أننا كنا هنا دائماً ...
نحن نعيش مع ( الماديين ) ، جوارهم .. أمامهم .. خلفهم .. فى كل مكان يذهبون إليه .. لكنهم لا يروننا .. ربما لأن هناك عيباً شنيعاً فى عيونهم أو فى قدرتهم على التخيل ..
أعرف أنهم يؤمنون بوجود الجان و لكن أحدهم ـ مهما بلغ من قوة تخيل ـ لعاجز عن تخيل وجود كائنات أخرى غير مادية فى كل موضع ...
إننا نحيا فى ديارهم .. لماذا نبنى بيوتاً خاصة بنا مادام هناك من فعل ذلك لنا ؟ ..
لكم سيدهشون ! .. هذا الأعزب الذى يعيش وحيداً كذئب متفرد ماذا سيقول ..و ماذا سيفعل .. لو تصور لحظة واحدة أن هناك أسرة من عشرة أفراد تشاركه السكن تحت سقف داره ؟!..
حتى مواصلاتهم نركبها ، ولو أن المواصلات لا تمثل مشكلة بالنسبة لشعب الاطياف .. لأننا نوجد حيث نريد متى نريد ..
لا مشكلة هنالك بالنسبة لشعب ينتقل عبر الأثير ، مخالفاً كل القواعد الطبيعية و قوانين المادة .. ، لقد اقترب بعض( الماديين ) من الحقيقة .. منهم ( آينشتاين ) الذى قال : إن الكتلة تتلاشى إذا وصلت لسرعة الضوء ، و ( ستيف هوكنز ) العالم القعيد الذى تحدث عن الثقوب السوداء .. كلاهما اقترب من الحقيقة .. لكنه لم يلمسها حقاً .. و من الواضح طبعاً ان أحداً من ( الماديين ) لم يفهم عم تحدث هذان العالمان الملهمان ، و ماذا أرادا قوله بالضبط .
نحن نعيش حول ( المايين ) فى كل مكان تقريباً تعدادنا يفوق البلايين .. نعرف و نلاحظ كل شىء دون أن يتخيل أحد مجرد وجودنا ..
قد يبدو هذا إلى حد ما شبيهاً بما يقوله البشر عن ( القرين ) .. لكن الموضوع يختلف تماماً ، و لعمرى هذا هو ديدن ( الماديين ) الدائم .. إنهم يضعون السحر و الأشباح و الجان و الشياطين و الأرواح و التجسدات .. كلها فى سلة واحدة .. و يخافونها كثيراً !! .. بينما نحن نختلف بشدة عن هؤلاء .. و أبسط اختلاف هنا هو أن أحداً لم يسمع عنا قط ...
* * *
19 ( آشتا ) عام 321569 :
اسمى هو ( آشتا ) .. أبى يدعى ( آشتا ) و أمى تدعى ( آشتا ) .. ( آشتا ) هو الاسم الذى يطلق على كل شىء و كل فرد فى عالمنا .. ( آشتا ) هو اسم الشهور كلها .. و ( آشتا) هو اسم فصول السنة كلها .. و ( آشتا) هو اسم حاكمنا .. و رئيس وزرائنا .. و كل سفرائنا ..
تسألنى ـ بعقلك المادى المتحجر ـ عن الفوارق بين كينونة و أخرى فى عالمنا .. أقول لك : إننا نعرف ما نتكلم عنه .. لأن الكلام ليس من عيوبنا .. إن وجودنا هو وجود الأفكار ذاتها .. ( التخاطر ) ـ كما تسمونه ـ هو لغتنا الوحيدة .. و حين أفكر فى حبيبتى ( آشتا ) يكون الجميع على علم بمن أعنيه ب ( آشتا ) لان الجميع يرون صورتها فى أذهانهم .. و الآن دعنى أقص عليك تفاصيل يوم فى حياة رجل من ( أرض الأطياف )
أعيش هذه الأيام فى دار مستشار متقاعد .. عجوز لطيف المعشر رقيق الحاشية .. يقضى سنوات ما بعد المعاش فى مشاهدة التلفزيون بعد ما تزوج أطفاله و نسوا أمره تماماً .. و توفيت زوجته .. و هو الآن ينتظر النهاية فى صبر ...
لكن هذا الرجل الذى لا يخشى الموت ، سيموت هلعاً لو عرف أن هناك من يشاركه المسكن .. بل و الفراش ليلاً .. ! ..
نعم .. أين تتوقع منى أن أنام مادام بالبيت فراش واحد ؟! صحيح أن الرجل يغط فى نومه كضفدع .. و صحيح أنه يدخن كثيراً لكنى أتحمل كل هذا ...
أصحو فى الصباح لأقرأ الصحف معه ـ من فوق كتفه ـ و أنا سعيد لبطء قراءته .. ثم يجلس إلى مائدة الإفطار فأجلس معه .. و هنا الفارق الهائل بين ( الماديين ) و الأطياف .. ( الماديون ) يلتهمون الفول و الطعمية و الجبن بينما نحن الأطياف نلتهم الأفكار المنسية و الذكريات .. هذا هو الركام الذى ينساه ( الماديون ) فى أركان عقولهم هو طعامنا ..
لهذا نحن مولعون بالأشخاص ضعاف الذاكرة فهم يقدمون لنا طعاماً روحياً لا ينفد .. أحياناً تكون الأفكار فاسدة أو مسمومة من ثم نصاب بنزلة معوية حادة ..
( كدت ألقى حتفى ذات مرة حين أكلت أفكار أحد الصحفيين المشاهير ) ..
و حين ينهض مضيفى من المائدة .. أكون قد امتلأت حتى التخمة .. و يكون هو قد نسى شيئاً جديداً ...
و يفكر الرجل فى الخروج لرؤية الشمس بالخارج .. هنا أكف عن ملاحقته ..
فالشمس هى عدونا الأزلى و هى قدس الأقداس بالنسبة لنا .. لقد خاف المصريون القدماء التمساح .. و ربما لهذا عبدوه و جعلوه ينتظر الخطاة ليلتهمهم فى العالم الآخر ..
يبدو أن شعب الأطياف فعل ذات الشىء .. كنا نخاف الشمس لأنها تبددنا و تحرقنا .. من ثم حرمناها على أنفسنا .. لكننا بجلناها و احترمناها .. و فى عقيدتنا أن من يتكلم عن الشمس ينفى إلى عالم الضوء ( سو ) إلى أبد الآبدين ..
لهذا يعيش شعب الأطياف حياته كلها فى الغرف المغلقة المظلمة .. أو فى ضوء ( النيون ) المعقم البارد ...
لكننى كنت أشعر بعدم الراحة ..
كنت بحاجة إلى أن أعرف أكثر ...
يقول ( الماديون ) فى أساطيرهم : إن ( برومثيوس) البطل الإغريقى كان متشوقاً إلى معرفة سر النار .. النار المقدسة التى تشتعل فى جبال ( الأوليمب).. لهذا سرق قبساً منها و علم البشر جميعاً كيف يصنعون النار .. ( و النار هنا طبعاً رمز للمعرفة ) .. من ثم انتقم منه سادة ( الأوليمب ) بأن أرسلوا إليه ( بندورا ) .. المرأة الفاتنة .. المرأة الفضولية التى جلبت الوبال على الجميع ..
أعرف هذه الأسطورة لأننى قرأتها فى كتاب نسيه مضيفى مفتوحاً على مكتبه ..
كنت أنا ـ مثل ( بروميثوس) ـ ظامئاً إلى المعرفة.. ظامئاً إلى سر النار المقدسة : الشمس ...
و كانت لدى ( بندورا) أنا الآخر .. هى ( آشتا) ... هل أصفها لك ؟ .. تريد ذلك ؟ .. هأنتذا تنسى يا صديقى أننا غير ماديين .. و انه من المستحيل أن أقول لك : إن شعرها كان لونه كذا .. و عينيها كان لونهما كذا ..و...و...
كانت طيفاً .. طيفاً رقيقاً .. أفكارها رطيبة منعشة كالنعناع ( هل يقرب هذا الصورة من ذهنك ؟ .. كل ( الماديين ) يحبون النعناع ) .. و كانت لى وحدى .. لى منذ الأزل ..
كل شىء كان يؤكد أننى و( آشتا ) سنمتزج الامتزاج المقدس النهائى الذى تنبعث منه أضواء وليدة تغدو أطيافاً أخرى .. الكل كان يبارك امتزاجنا .. (آشتا ) و ( آشتا) و ( آشتا) و ( آشتا ) و ( آشتا) .. حتى ( آشتا) وافق بعد تردد على امتزاجنا ..
الليلة ألقاها فى حديقة الحيوان .. و أبثها عواطفى .
* * *
الظلام يسود حديقة الحيوان .. إنه منتصف الليل .. زئير النمور يتعالى فى أقفاصها .. هذا طبيعى .. فالحيوانات تران بوضوح تام .. إن القطط تموء حين ترانا و تنظر لأعلى .. و الكلاب تتوتر و تصدر زئيراً مكتوماً ..
لا أحد من البشر هنا ..، و حبيبتى ( آشتا ) قادمة تنساب فوق الأعشاب .. نحوى .. أشعر سروراً فى روحها .. و ألقاها بمثله :
ـ ................ !
ـ ................ !
آه! .. معذرة ! .. نسيت أننى أحدث الأميين الذين لا يجيدون قراءة الأفكار .. ليكن .. سأحاول أن أترجم الحوار لكم :
ـ حبيبى ( آشتا)! ..
ـ حبيبتى ( آشتا) ! ..
ـ متى يكون الامتزاج النهائى؟ .. إلى متى نعيش فى دارين متباعدتين ؟
ـ حينما يقرر ( آشتا) الاكبر ذلك ..
تقول وهى تفكر فى أشياء مبهجة للغاية :
ـ سئمت الحياة مع هذه ( المادية) الكريهة التى أقطن دارها .. إنها لا تكف عن قراءة مجلات الموضة ، ووضع المساحيق على وجهها أمام المرآة .. لماذا تعتقد أن جسدها يستحق كل هذه العناية لمجرد أنه ذو كتلة مادية ؟! .. ثم هى تكذب .. و ما إن تخلو بنفسها حتى تتحول إلى شيطان ..
ـ آه يا ملاكى ! ..إن فى حوذتنا من أسرار البشر مايكفى ـ لو أعلن ـ لانتحارهم جميعاً ثلاث مرات ..
قالت و هى تفكر فى الجمال المطلق :
ـ حين نمتزج سنذهب لنعيش فى فندق من ذوى النجوم الخمسة .. لابد أن هناك حجرة خالية من الأطياف .. فى أحد الفنادق ..
ـ للأسف إن هذا العالم مزدحم بالجان و الأرواح و الشياطين ـ إلى جانب البشر طبعاً ـ إلى درجة أنه لا يوجد موطىء لقدم .. كيف لو عرفت ( المادية ) التى تعيشين عندها أن غرفة نومها يغفو بها عشرة آلاف مخلوق غير مرئى ؟! ..
ـ آه ! .. ستموت هلعاً بالطبع .. و لن يضايقنى هذا كثيراً ..
ـ قلت لها و أنا ألمس كيانها فينبعث ذلك الضوء الأخضر الغامض الذى حير العلماء .. فتارة سموه ( ضوء سانت إلموس ) فى المناطق القطبية .. و تارة حسبوه ضوء حشرات مضيئة و لم يعرفوا أنه ضوء الحب .. قلت لها :
ـ إننى أعتزم القيام بمشروع غير عادى ..
ـ و ما هو ؟
ـ أريد أن أعرف المزيد عن الشمس ! .. أن أن أراها !
ـ لا يمكن أن أعيش حياتى دون أن أفهم ما هى ..
ـ ستحرقك بنيرانها .. ستتلاشى ..
ـ و من أدراك أن هذا سيحدث ؟ .. علمونا هذا منذ الصغر .. و لكن أحداً لم يجرؤ على المحاولة ..
ـ لقد فقدت صوابك !
ـ أريد ان أفعل مالم يفعله السابقون .. لأكون جديراً بك و موضعاً لفخرك الدائم ..
ـ لن أفخر بك و أنت تخالف قانوننا الأزلى ..
قلت لها وأنا اتأهب للرحيل :
ـ غداً فى الصباح الباكر أخرج إلى الضوء .. لأرى الشمس و أنعم بها .. فلئن هلكت فعزائى أننى هلكت و أنا أعرف ..
و ابتعدت عن مجال أفكارها ...
* * *
20 ( آشتا ) 321569 :
اليوم قد يكون آخرأيام حياتى و قد يكون أهمها ..
اليوم أعرف إلى الأبد ما تعنيه لفظة ( شمس ) ..
اليوم أتسلل عبر خصاص النافذة المغلقة إلى الخارج و مثلما فعل ( برومثيوس) .. أضحى بحياتى من أجل المعرفة ..
( برومثيوس) قضى بقية حياته معلقاً بين جبلين يلتهم الرخ كبده فى كل يوم .. و فى الليل ينبت له كبد جديد .. لتتكرر المأساة .. فماذا سيحدث لى أنا ... ؟
* * *
2ـ المارق
ــــــــــــــــــــــــــ
20 ( آشتا) عام 321569 [ بقية] :
( سو) ! .. ( سو) ! ..
الضوء الساطع الذى جعلونا نخافه و نحتقره .. ( سو) !
القرص الذهبى المشتعل يسكب حنانه و دفأه فوق الأرض الثكلى ..
لم أحترق .. لم أتلاش .. فقط عرفت السر .. فهمت حقيقة هذا الكون .. الإحكام المطلق فى كل شىء .. الخالق الأعظم سخر هذا القرص كى يهب الأرض الحياة .. إن هذا ...
و فى لحظة تالية تلاشى كل شىء ..
وجدت نفسى أقف فى قاعة شاسعة ملأى بالبشر الذين يتناقشون فى قضية ما ..، ووجدت حولى عشرات الأطياف تحيطنى .. و فى أذهانهم سمعت لفظة واحدة : العقاب ! ..
و عرفت أين أنا ..أنا فى قاعة بمبنى الأمم المتحدة يتخذها شعب الأطياف للمحاكمات الكبرى .. و كان البشر غارقين فى جدل شديد حول حرب ( فيتنام) و إلزام الحكومة الأمريكية بالانسحاب .. فى نفس وقت محاكمتى ..
أما نحن الأطياف فكان حوارنا الفكرى مختصراً :
ـ أنت يا ( آشتا) خرقت قانون الأطياف .. و تحدثت مع ( آشتا )عن الشمس .. بل و حاولت رؤيتها .. !
ـ كنت أريد أن أعرف .. و عرفت .. و هأنذا لم يصبنى ضرر..
ـ لقد هدمت قدس الأقداس عندنا ..
و هنا صاح أحد البشر فى هستريا :
ـ إن حكومة ( سايجون) تحاول تبرير إمبرياليتها !
ـ أنت يا ( آشتا) قد خرقت القانون عمداً .. و جريمتك لا يمكن الدفاع عنها أو تفنيدها ..
البشرى مازال يصيح فى البشر الجالسين حوله :
ـ نعم.. جريمة لا يمكن تفنيدها .. !
ـ لهذا يا ( آشتا) .. عقوبتك هى النفى مع ( آشتا) التى شاركتك التآمر .. النفى إلى عالم الضوء ( سو) بلا رجعة ..
ـ هذه الصور تثبت تورط السوفييت فى مهاجمة القوات الامريكية !
ـ ستكتسب أنت و ( آشتا) مظهراً مادياً هشاً .. و تعودان إلى العالم المادى لتعيشا هناك .. أنتما لن تعودا طيفين ستفقدا ( لاماديتكما ) إلى الأبد ...
ـ الرحمة يا ( آشتا) الأكبر ! .. ليس هذا !
و لكن ( آشتا) الأكبر كان صارماً ...
و لمحت ( آشتا) العزيزة .. أفكارها ملأى بالهلع و التوسل .. كانت تتألم .. و عرفنا أننا سنصير بشراً .. و أن أحداً لن يرحمنا ...
* * *
الأحد 5 يونيو :
تم التجسد فى إحدى الحدائق العامة .. و كان الوقت ليلاً ..
الجسدان اللذان اختيرا لنا يمثلان شاباً و فتاة على قدر لا بأس به من الوسامة .. لكن ـ للأسف ـ حدث خلط فى أصباغ الفتى من ثم جاء شاحب البشرة.. من النوع الذى يسميه ( الماديون) عدو الشمس .. أما ( آشتا) فكان تجسدها موفقاً ..
ووقفنا نرمق جسدينا فى حيرة .. للمرة الأولى أرى ( آشتا ) الفكرة المجردة و قد صارت فتاة جميلة .. كيف عرفت أنها جميلة ؟ .. لا أدرى .. يبدو أننى فقدت ( لاماديتى) للأبد حقاً ...
كانت تبكى وتولول .. لم لا ؟ ..
لقد كانت الأحداث عاصفة .. منذ ثانية كنا فى اليوم العشرين من ( آشتا) عام 321569 .. و اليوم نحن فى الخامس من يونيو عام لا أدرى بالضبط ..
أنا من جلب لها هذا الوبال ... البائسة ! ..
على أننا كنا بحال طيبة .. المشكلة الوحيدة هى أننا نعرف حدود هذين الجسدين اللذين يغلفاننا ..
أولاً : لا تترك هذه الأجساد ظلاً ..
ثانياً : لا تظهر هذه الأجساد فى الصور الفوتوغرافية
[حالياً يحاول العالم العظيم ( آشتا) أن يحل هذه المشكلة بتطوير نوع الأنسجة التى تحيط بالطيف .. لكن أحداً لن يستفيد من هذا الاختراع ! ]
ثالثاً : لا تحتمل هذه الأجساد الشمس بصورة مطلقة .. إن الشمس الساطعة تجعل جلدنا يحترق .
رابعاً : تحتاج هذه الأجساد على طعام و لا يمكنها التنقل بحرية كما كان متاحاً لها ..
خامساً : يمكن جعل هذه الأجساد غير مرئية لبرهة محددة .. و هذا يفيد فى وقت النوم أو الراحة فلن نكون بحاجة إلى مسكن .. إن أى مكان يناسبنا ..
* * *
الثلاثاء 7 يونيو :
نحن فى القاهرة .. المكان الذى كنا نعيش به ونحن طيفان .. لكن من أين نبدأ الحياة إذن ؟ ...
نحن نعرف الكثير عن البشر .. فنحن نراقبهم طيلة حياتنا .. إن سننا و مظهرنا لا يصلحان إلا للتصنيف تحت قائمة واحدة : طلبة الجامعة .. لهذا .. و لنتمكن من ممارسة حياة طبيعية فى هذا العالم المروع لابد أن نلتحق بجامعة ما .. و نزعم أننا زوجان .. هذه هى الطريقة الوحيدة كى نبرر عزلتنا الدائمة .. كون ( آشتا) متزوجة سيحميها من ملاحقات كل الأوغاد الذين يظنون أنهم ذوو فتنة .. و كونى متزوجاً سيفسر عدم رغبتى فى مصادقة أحد ...
و هكذا ...
قمت بتزييف أوراق تقول : إننا طالبان فى كلية طب ( ..) إن كل شىء هين بالنسبة لمن يستطيع أن يكون غير مرئى ..
و بدأنا نحاول الاندماج فى الحياة الجامعية ..
حاولنا أن نقنع أنفسنا بأننا سعيدان بكوننا ( ماديين) .
و لكن يا لفضول هؤلاء القوم .. !
فى كل مكان تذهب إليه تجد عشرات العيون الفضولية ترمقك فى غير ود .. فأكاد أصرخ : ماذا تريدون منا أيها الأوغاد ؟!
تدخل إلى مكان ما فيرمقونك فى ذهول و لسان حالهم يقول :
تباً ! .. إنه يدخل ! ..
ثم تجلس فترى العيون تكاد تثب من محاجرها و لسان حالهم يقول : يا للهول ! .. إنه يجلس أيضاً ! .. أية جرأة ! أما تناولك لمشروب غازى فإنه يجعلهم يموتون من الذهول و هم لا يصدقون أنك قد بلغت هذا المدى البعيد !
لماذا لا تتركوننا و شأننا أيها الحمقى ؟!
* * *
الخميس 9 يونيو :
الفضول يغمر الجميع فى الكلية بشأننا .. أحد الطلبة المولعين بالتدخل فيما لا يعنيهم جاءنا يعرض خدماته لكنه فى الواقع يحاول معرفة ( كنهنا) بالضبط .. عرفت أن اسمه ( مدحت) ...
قال لنا : إن هناك رحلة تقوم بها الكلية إلى القناطر الخيرية يوم السبت القادم و أصر أن نشترك معهم لأننا ـ كما قال ـ نبدو أميل للانطوائية و الانطوائية ـ كما قال ـ هى فطر سام يذبل فى النور و الهواء ...
سألت ( آشتا) بالتخاطر الذى لم نفقده بعد :
ـ ما رأيك؟
ـ لم لا ؟ .. يجب أن نندمج فى هذا العالم بأى ثمن .. نحن لم نعد من شعب الأطياف .. لابد لنا من مكان ما .
ووافقنا على الرحلة .. كنا نستشعر الوحدة .. فقد حرمنا من رؤية الأطياف الأخرى للأبد برغم أننا نعرف أنهم يروننا .. و يحيطون بنا طيلة الوقت ..
ترى ماذا يقولون عنا الآن .. ؟
* * *
السبت 11 يوليو :
كانت تجربة مريرة الجلوس فى حافلة يملؤها الصخب و ضجيج البلهاء .. عرفت و ( آشتا) أننا لن نتأقلم مع هذا العالم أبداً .. إلا أننا شعرنا بالارتياح لمشرف الرحلة .. و هو أستاذ جامعى يدعى ( رفعت إسماعيل) .. رجل نحيل كالأفاعى .. كئيب متعكر المزاج كخرتيت .. يدخن بإفراط كبركان ...
كان جالساً وحيداً يرمق كل هذا فى اشمئزاز ..
و شعرنا أننا ـ على الأقل ـ وجدنا واحداً يشاركنا مشاعر الغربة ..
لكن خاب ظننا حين وصلنا إلى مقصدنا ..
فقد تكشف هذا الرجل عن فضول غير عادى
لا يكف عن مطاردتنا بنظراته كلما ذهبنا هنا أو هناك ..
و ازداد الأمر سوءاً حين أخرج كاميرا فوتوغرافية و شرع يحوم حولنا كقط حذر ..
و أدركت مقصده على الفور .. إنه يحاول أن يلتقط صورة لنا لغرض فى نفسه ! .. يجب منعه بأى ثمن .. و إلا سيفتضح أمرنا تماماً .. محاولات عديدة بذلها .. و محاولات عديدة فررنا بها لكن فرارنا لم يزده إلا اصراراً ..
و جاءت اللحظة التعسة حين نجح فى اقتناص صورة لنا من وراء كتف طالب كان يخفيه عنا .. يا للكارثة !
قالت ( آ شتا) فى هلع :
ـ انتهى الأمر .. .. لن يجدنا فى الصورة و لسوف تتراكم علامات الاستفهام حولنا .. لم تعدنا حياتنا ممكنة هنا .. فلنرحل ..
ـ اصمتى يا ( آشتا) .. إن هذا الرجل سيدفع ثمن فضوله غالياً ..
و خطرت لى فكرة ..
إن جسدينا يتكونان ـ تحت الجلد ـ من طاقة .. طاقة ذات إشعاع يمكنه أن يؤثر فى الفيلم .. إن صورتنا ستنطبع على الفيلم .. لكن بشرياً لن يراها .. لن يراها سوى كيان طيفى .. سوى كتلة من الطاقة ..
لو أن ( رفعت) هذا بدأ يتحول إلى طيف فإنه سيبصر صورتنا على الفيلم دون جهد .. و فى ذات الوقت ستبدأ تغيرات غير مفهومة تصيبه .. ربما يجن .. ربما يفقد صوابه .. لا يهم .. لقد كان هو البادىء بالعدوان .. فلنبدأ انتقامنا .. الآن يا ( آشتا)
و فى رحلة العودة بالحافلة ظللت و ( آشتا) نواصل ما بدأناه تشابكت كفانا و شرعنا نوحد طاقتنا كى نزعزع كتلة خلايا هذا الرجل .. ببطء يتخلى عن ماديته و يغدو مثلنا .. مجرد صورة لا أكثر .. لكنه لا يشعر بهذا ..
و عرفنا أنه حين يطبع الصور سيجد صورتنا واضحة أشد ما يكون الوضوح لكن أحداً سواه لن يراها .. لا بأس .. لن يدفعه هذا إلى الشك فينا .. بل سيشك فى قواه هو العقلية ..
* * *
الاثنين 13 يوليو :
لم تنته المفاجآت الأليمة ...
اقترفت ( آشتا) خطأ جسيماً فى إحدى المحاضرات الختامية للعام حين سألت المحاضر عن معنى لفظة ( رئة) الانجليزية ..
وللحظة ظنها الرجل تمزح .. ثم أصابه الذهول .. و راح يردد :
ـ طالبة فى السنة الثالثة بكلية الطب .. و لا تعرف أن ( لانج) معناها رئة ! إن هذا ليس جهلاً .. بل هو يدخل فى نطاق الجريمة .. من أين أتيت يا دكتورة ؟ .. من المريخ ؟ .. هل أنت واثقة من أنك معنا هنا ؟
بدا لى الرجل موشكاً على الاصابة بنوبة قلبية ..
لكن المشاكل لم تنته ..
فبعد المحاضرة فوجئنا بالطلبة يحتشدون حولنا ليمنعونا من مغادرة القاعة .. و رأيت المدعو ( مدحت) يتقدم منا و فى عينيه نظرة عداء واضحة .. و سمعته يهتف :
ـ هذا حق .. من أنتما ؟
تعالى صوت طالب منهم :
ـ أمس سألته عن رأيه فى مبارة ( الأهلى و الترسانة) .. كل مخلوق فى مصر تابعها أو سمع عنها .. أما هو فلم يعرف أصلاً أن هناك مبارة .. أكاد أقسم إنه لم يسمع عن لفظة ( أهلى) من قبل !
كان يتحدث عنى .. و تعالى صوت رفيع لطالبة تقول :
ـ أما هى .. فلا تعرف شيئاً على الاطلاق .. لم تفهم معنى ( ساتان ) و لا ( أورجانزا ) ولا ( بيديكير) .. حتى حين سألتها عن ( الكوافير) الذى تتعامل معه تساءلت فى حيرة : هل تعنين حاكم الاقليم ؟ !
قال ( مدحت) و هو يكشر عن أنيابه :
ـ هذا هو السؤال .. من أنتما ؟ هل أنتما جاسوسان إسرائليان ؟
تعالى صوت آخر :
ـ ربما هما من المريخ كما قال د . ( محمود) !
ـ أو طالبان مزيفان من هواة الطب ..
كان الموقف يزداد سوءاً .. من الواضح ـ كما تنبأت ( آِشتا) ـ أنه لا وجود لنا و لا مكان فى هذه الكلية ...
ـ ( آشتا) يجب أن نرحل ..
ـ أنا معك
تبادلنا هاتين العبارتين عبر سيل أفكارنا الذى لم يسمعه هؤلاء ..
ـ لكن يجب أن نمحو كل أثر لنا فى عقولهم ..
ـ تعنى أن نلتهم كل هذا الكم من الأفكار ؟ ... سنصاب بالتخمة ..
ـ هذا هو الحل الوحيد
و شرعنا نستخدم موهبتنا الطيفية ..
شرعنا نبتلع كل الذكريات بخصوصنا من عقول حشد الطلبة المحيط بنا .. و حين انتهت مهمتنا كان كل واحد منهم يرمق الآخرين بنظرات زائغة .. و قد نسى كل شىء عن السبب الذى احتشدوا من أجله ..
انتهزنا الفرصة لنختفى عن عيونهم قبل أن يرونا .. فيتذكرون ..
* * *
الثلاثاء 14 يوليو :
قر قرارنا على الاستقرار فى احدى الجامعات الاقليمية و فى كلية أخرى غير كلية الطب .. فنحن لم نكن يوماً ممن يجيدون الانجليزية أو اللاتينية .. على أننا شعرنا أن هناك شيئاً يتحتم علينا عمله قبل أن نرحل .. فمادام أمرنا قد افتضح و انهارت خططنا فى هذا المكان فلم يعد هناك داع لكى نترك د . ( رفعت إسماعيل ) فى طور اللامادية الذى يمر به .. لسوف يتعذب المسكين كثيراً .. خاصة حين يفقد تحمله للشمس ( سو) و يحترق جلده .. و يغدو عدو للشمس مثلنا ..
و هذا أمر متوقع خلال شهر أو أقل ...
إذن علينا أن ننتزع منه ما منحناه غياه من طاقة ..
عرفنا عندئذ أن الرجل قد سافر إلى ( الولايات المتحدة) .. و أنه سيبقى هناك شهراً أو أقل قليلاً ...
سيكون علينا أن ننتظره حتى يعود كى نحرره ....
* * *
الثلاثاء 8 يوليو :
لقد عاد د . ( رفعت إسماعيل) اليوم .. هذا حسن .. لقد مرت رحلة ( الولايات المتحدة) بسلام إذن و لم يلتقط له أحد صوراً .. المترض منا الآن أن نحرره دون أن يشعر هو بذلك .. لابد من عدد من القاءات الدانية معه تتيح لنا انتزاع طاقته .. و لكن كيف ؟ ...
و كانت ( آشتا) تملك الجواب ...
الفتاة التى كانت ( آشتا) تعيش معها عندما كنا فى عالم الاطياف هى أستاذة فلسفة عانس تدعى ( كاميليا) ..
و كانت( آشتا) قد درستها تماماً .. عرفت كيف تتكلم .. كيف تلبس .. كيف تضع ( الماكياج) .. بل عرفت حتى طريقة تفكيرها و أسلوب حياتها ...
و خطرت لنا الفكرة المجنونة .. ( آشتا ) تتنكر لتبدو كالاستاذة.. ( و هذا هين مع كل المساحيق التى تدعها هذه ) و تذهب لتتعرف الدكتور ( رفعت) ..
و عن طريق لقاءات متعددة تتمكن من استخلاص طاقته .. و لكن متى و كيف ؟ .. هذا هو السؤال ...
* * *
الاثنين 14 يوليو :
الامور تسير على ما يرام ..
كنت قد قابلت بالصدفة ـ منذ أيام ـ رجلاً يدعى د . ( محمد شاهين) يزور د . ( كاميليا) فى مكتبها و عرفت بالصدفة أن هذا الرجل هو صديق قديم ل ( رفعت إسماعيل) ...
هذا رائع ! .. سيكون هذا الرجل هو حلقة الوصل التى أريدها ..
زرته فى مكتبه و قلت له : إننى صديق قديم و قريب ل ( رفعت) .. و أن الجميع قلق لأن قطار الزواج سيفوت هذا المخبول .. ثم قلت له : إنني أرشح د . ( كاميليا) لتكون مدام ( إسماعيل) ..
تحمس الرجل للفكرة و أدركت أنه طيب القلب إلى درجة البلاهة .. فطلبت منه أن يبقى الامر سراً بيننا على أن يفاتح د . ( رفعت) بالامر كأنه عارض .. و من بنات أفكار د . ( محمد ) وحده ..
فى نفس الوقت كانت د . ( كاميليا) قد سافرت إلى ( الإسكندرية) فى رحلة قصيرة و صارت دارها الخاوية ملكاً لى و ( آشتا) .. وهكذا صار لنا بيت و فراش و ثلاجة و حمام ..
و فى هذا البيت شرعت ( آشتا) تستعد لكى تلعب دور د . ( كاميليا ) حين يأتى ( رفعت ) ليراها غداً ..
كان الماكياج متقناً و مع المساحيق و الجمة كستنائية اللون و المنظار الانيق و التايور الرمادى المميز ل ( كاميليا) صار الشبه تاماً خاصة و ( رفعت ) لم يرها من قبل .. و ( محمد شاهين) لا يرى أبعد من مترين .. أما بالنسبة للباقين فى القسم فمن قال إن هذه د . ( كاميليا) ؟! .. إنها دارسة نهمة للفلسفة لا أكثر ...


* * *
الثلاثاء 15 يوليو :
تم اللقاء الاول ...
* * *
الجمعة 19 يوليو :
تم اللقاء الثانى فى ( كافتريا) .. و حاولت ( آشتا) أن تكون ( كاميليا) تماماً فى كل شىء .. لم يشك ( رفعت ) فى أمرها .. لكن المهمة كانت أعقد مما تصورت .. يحتاج الامر إلى كثير من التركيز لإنهاء اللعنة التى تطارد ( رفعت) ..
المشكلة أنها لن تستطيع ممارسة هذا التركيز دون أن تثير ريبته ..
* * *
الثلاثاء 23 يوليو :
لن تطول المهزلة أكثر من ذلك ..
عرفت أن ( رفعت) ملأ الدنيا صراخاً و قد بدأ الناس يتحدثون عن خباله ،وتبدل طباعه..... وأنه طرد الطالب الذى زاره حاملاً هدية الطلبة من أجل مرضه.....

يجب أن عذاب هذا البائس حالاً ، خاصة أنه عذاب بدون جدوى...
وفى اللصباح توجهت الى داره ...
وقرعت جرس الباب فى تصميم...

* * *

[عودة الى مذكرات د.رفعت ]

6_أطياف !
_____________________
الثلاثاء 23 يوليو [بقية] :
انتهى الفتى من سرد قصته ، وراح يرتقب الانفعالات التى سآتى بها...
لكننى ظللت ارمقه فى تراخ.. عاجزاً عن قول شىء .
قال لى وعلى شفتيه تتلاعب ابتسامة خافتة..
_الن تلومنى ؟.. الن تقول لى كم انت محنق؟!
فتحت فمى وبصعوبة خرجت الكلمات:
_ و د. (لوسيفر)...؟.. لقد كانت قصته أقرب إلى الصواب من كل شىء .. هل هذا الرجل ... ؟!
و صمت .. لكن الفتى أدرك ما أردت قوله ..
قال فى هدوء :
ـ إن د . ( لوسيفر) ـ كما تسمونه ـ يعرف حقيقة وجودنا و قادر على الاتصال بنا .. و أعتقد أن القصة كلها وصلته بشكل ما ..
ثم أردف و هو ينظر فى عينى :
ـ إن ما قاله لك ( لوسيفر) لم يكن رجماً بالغيب .. بل كان يتحدث عن حقائق يعرفها .. و بالمناسبة : نحن نسميه ( هو) و هناك من يسمونه ( خريولسن) ..
ـ إن ما تقوله لغريب .. غريب حقاً .. حتى إنه يتجاوز قدرتى على الحكم الأخلاقى على الأمور .. لا أدرى ما إذا كان كل هذا يدعو للحنق أم لا .. لكننى غير قادر على الغضب ..
ضحك الفتى ـ الذى لا أعرف كيف أناديه ـ و قال :
ـ هل لديك أسئلة أخرى ؟
قلت و أنا أقذف بعض حبات النعناع إلى فمى :
ـ الواقع أن هناك احتمالاً لا بأس به فى كونك تخدعنى
ـ و كيف لى أن أعرف كل شىء عن مشكلتك .. و عن د . ( كاميليا) .. و عن د . ( لوسيفر) ؟ .. و على كل حال .. الأمر هين ..
و مد يده نحو مفتاح النور .. فأضاءه .. و على الفور غمر الضوء الحجرة .. و سار بتؤدة ليلامس الجدار ..
قال وهو يجذبنى لأقف جواره :
ـ انظر إلى ظلى .. و ظلك ..
نظرت إلى الجدار .. فوجدت ظلى الأصلع النحيل ينظر مشدوهاً إلى .. إلى لا شىء ...
إن الفتى لا يترك أى ظل على الجدار .. !
ـ هل رأيت ؟ .. إن الضوء يمر عبر قناعى المزيف دون جهد .. و لهذا لا تنعكس صورتى على الأفلام ..
ـ و ل .. لماذا أرى أنا ظلى مادمت مثلك ؟
رفع كفه فى كبرياء :
ـ لحظة من فضلك .. لست مثلى ..بل أنت فى الطريق لذلك .. و لو أننى تركتك و شأنك لصحوت بعد شهر من النوم لتجد أنك لا تترك ظلاً ..
ثم إنه قادنى عائداً بى إلى الأريكة .. و جلس و جلست .. و قال وهو يخلع حذاءه و يتربع جالساً :
ـ و الآن ـ وقد زالت شكوك جميعاً ـ أرى أن تمنحنى تفكيرك و كيانك كله يا د .( رفعت) .. سأعمل الآن على شفائك من وصمة( التلاشى الفوتوغرافى ) هذه ...
ـ أكون شاكراً لو أسرعت ...
أمسك بيدى و أغمض عينيه ...
* * *
أنا أحلق فوق المحيط بأجنحة من شمع مثل ( إيكاروس) .. الشمس .. لا أريدها ! .. إنها ستذيب اجنحتى .. إنها ستجعلنى أهوى من عل ...
( إيكاروس) مات لأنه دنا كثيراً من الشمس .. من الحقيقة .. و أنا مثله أقترب .. و أقترب دون أن أستطيع المقاومة ..
أطياف فى كل مكان .. أطياف تتأملنى و تضحك .. برغم هذا أنا عاجز عن رؤية ملامحها ..
زجاجة العصير انسكبت .. لكن النمر لم يلحق بالغزلان .. ، ( آشتا) .. ( آشتا) .. تناديك من الثقب الأسود .. القزم الأخضر لن يلبث طويلاً حتى يتحول إلى ثقب .. ثقب أسود كبير .. لماذا لم يجروا لى جراحة اللوزتين ؟ .. ربما لأن( قابيل ) قتل أخاه .. لو لم ير الغراب لما عرف كيف يوارى سوأة اخيه ..
السماء تتحول إلى خنجر عملاق يهوى فوق صدرى .. و أنا ممدد على الكلأ مقيداً بلا حيلة ..
سيخرج هذا الخنجر كل الدماء الفاسدة .. كل الأوهام .. ربما يستأصل لى اللوزتين أيضاً .. ( بو) كان يعرف كيف يفزعنى .. و الآن مات ( بو) .. فمن سيفزعنى بعد هذا ؟ ..
و ( كاميليا ) لها صوت رجل .. ترى هل هى تملك احلاماً أنثوية؟ .. هل تحب الزهور و الربيع ؟ .. السير ( ماكيلوب) يرفع البوق إلى شفتيه .. و عما قريب يخرج وحش ( لوخ نس) من البحيرة ..
لا ! .. ليس ( ماجى ) .. ! .. النبات المشئوم يمد سيقانه ليمتص دمائى .. إن ( براكسا) تريد جسدى لتعيش فيه .. الاستحواذ .. ( أينشتاين) كان عبقرياً .. و ...
هو ذا الثقب الأسود .. ليس ثقباً و ليس أسود .. إنه مجرد باب يقود إلى بعد آخر .. و على جانبه يقف ( آشتا) ملوحاً بذراعه اليمنى لى .. لا أرى ملامحه .. فقط ظله .
ـ هل انتهيت يا ( آشتا) ؟ ..
ـ نعم يا د . ( رفعت ) .. أنت الآن حر .. لقد استرددت ماديتك .. و ما أغربه من ارتباط ! .. من المعتاد أن الحرية تعنى الخلاص من المادية ..
ـ و هل .. هل سأظهر فى الصور ؟ ..
ـ بالتأكيد .. و سترى الشمس دون وجل ...
ـ وهل ستلتهم ذكرياتى عنكما .. و عن شعب الأطياف ؟
ـ كان هذا منطقياً يا د . ( رفعت) . . لكننا لن نفعله .. لقد وجدنا فى رأسك عقلاً يمكنه استيعاب الفكرة .. عقلاً يمكن أن يحتفظ بالأسرار .. عقلاً شريفاً ..
و لا نطلب منك سوى وعد بأن تحفظ سرنا ..
ـ و لكن .. أليس من الأوفق و الأسلم أن تزيلوا ذكراكم من عقلى ؟
ـ بالعكس .. نحن بحاجة إلى ( الماديين) .. يجب أن نتعلم منهم أكثر حتى لا تحدث أخطاء جديدة ..، ستكون أنت صديقنا الوحيد من بينهم .. ، و لك ان تتوقع زيارات أخرى منا ..
ـ إذن أنا حلقة الوصل ما بين العالم المادى و أرض الأطياف ؟ ..
ـ نعم لو افترضنا أننى و ( آشتا) مازلنا طيفين .. و الآن .. لا تضعف يا د .( رفعت) .. لقد تركت فى عقلك الباطن نسخة من مذكراتى .. و حين تصحو ستجد الأحداث هنالك .. لكن لا تضعف .. اريد أن تقسم ان هذا سر بيننا ...
ـ أ .. أقسم أن ...
ـ هيا يا د .( رفعت) .. إننى أنتظر ..
ـ أ..أقسم أن أحفظ السر .. !
ـ حسن يا د . ( رفعت) .. أعرف أنه بإمكانى أن أثق بك .. و الآن يمكنك أن تترك نفسك لأمواج النعاس اللذيذ التى تتقاذفك .. فكر فى جزيرة بالمحيط بها كوخ .. ، الكوخ مصنوع من ( البامبو ) .. ، داخل الكوخ يوجد بحار عجوز .. و ببغاء .. و قيثار .. و ...
* * *
كم الساعة الآن ؟ ..
لقد جاء الليل .. غريب هذا ! إن رأسى يعج بالخواطر و الأفكار .. لهذا جلست لأكتبها قبل أن تذوب كالآيس كريم .. أفكار هى أشبه بكيس ملىء بالبيض الطازج .. لو لم أخرجها فوراً فلسوف يهشم بعضها البعض ...
و قد انتهيت الآن فقط من كتابة مذكرات اليوم الثالث و العشرين من يوليو أهم يوم فى حياة مصر .. و أغرب يوم فى حياتى الخاصة ..
* * *
الاربعاء 24 يوليو :
ظللت حبيس الفراش طيلة اليوم لا أجرؤ على الخروج إلى ضوء الشمس .. لا أدرى ما هو صواب و ما هو وهم ...
* * *
السبت 27 يوليو :
للأسف.. الشمس غائمة اليوم .. لن أعرف الحقيقة أبداً .. مدفوعاً بفضول لا يهمد اتجهت إلى كلية ( الآداب) .. و سألت فى قسم الفلسفة عن الدكتورة ( كاميليا) .. قالت السكرتيرة فى لامبالاة .. وهى مستمرة فى الطباعة على الآلة الكاتبة :
ـ حظ حسن .. لقد عادت اليوم فقط من الإسكندرية !
سرت متوتراً نحو الغرفة التى علقت على بابها لافتة خشبية تقول ( أ . د كاميليا منصور) .. و قرعت الباب بحذر :
ـ ادخل !
دعانى الصوت الرجولى الخشن فدخلت .. كانت هى .. هى بعينها .. لكنى لاحظت أنها لم تبد سعيدة أو متحمسة للقائى .. قلت لها و أنا أجلس :
ـ لم تتصلى بى منذ أربعة أيام ..
ـ أفندم ؟!
ـ منذ جلسنا فى الكافتريا نتحدث عن التلاشى .. لم ..
رأيتها تنهض و قد رفعت كتفيها .. و على وجهها أعتى علامات الغضب .. و عندئذ عرفت أنها حقاً ليست هى .. لون العينين مختلف .. الذقن مدبب و مشقوق .. التجاعيد اكثر .. المساحيق أقل .. ليست هى .. و الآن يجب أن أفر ..
ـ هل جننت أيها المخبول ؟ .. انا أجلس معك فى كافتيريا و أتصل بك فى دارك ؟ .. عم تتكلم بالضبط يا أستاذ ؟ .. أنا لم أرك فى حياتى .. يا لها من وقاحة و قلة حياء ! .. يا ( شعبان) ! .. يا ( شعبان) !
لقد فتحت بوابة الجحيم على نفسى و حين تبدأ هاته السيدات قويات الشخصية القياديات فى الصراخ فلن يسكتهن سوى الديناميت .. و هاهو ذا شعبان الساعى يهرع إلى الغرفة ليعرف سبب هذا الصراخ ...
ـ خذ هذه الحثالة و ألق بها إلى الخارج !
ثم تنهدت فى إعياء .. و أردفت :
ـ إنه يتهجم على ... !
* * *
خاتمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى هنا تنتهى الفترة التى اقتبستهامن مذكراتى و لربما أعود لهذه المذكرات مرة أخرى حين أجد ما يستحق .. فهى ـ قطعاً ـ ملأى بكلام لا طائل من ورائه .. و خواطر سخيفة .. و مشاريع لم تتم قط ...
انتهت القصة إذن بهذا الموقف المحرج ووجدتنى أرمى على الخارج رمياً .. لكننى على الأقل تأكدت تماماً من أن كل ما حدث لى لم يكن وهماً ...
قابلت د .( محمد شاهين) بعدها فى ( الفيشاوى) و سألنى عما حققت من نجاح فى موضوع الزواج فقلت له ـ بخبث ـ إننى لا اعرف سبب تبدل طباع ( كاميليا) و طلبت منه ان يتوسط لى عندها فوافق متحمساً .. !
و قد كان .. ! ...
صحيح أنها لم تطرده و لم تلق به فى الشارع لأنها تعرفه جيداً لكنها ظنت بحالته العقلية الظنون حين راح يحكى لها عن تفاصيل لقائى معها .. بينما هى لم تكن فى القاهرة أصلاً ! ..
هذا عن ( كاميليا) ..
أما عنى أنا .. فلا داعى لأن أقول : إننى هرعت إلى استديو التصوير و طلبت التقاط صورة لى .. و فى اليوم التالى وجدت صورتى المفزعة فبدت لى أجمل ما رأيت فى حياتى ..
و من نافلة القول أن أقول إننى عدت اتحمل الشمس و صارت أشعتها الذهبية الفاتنة صديقتى الدائمة ...
* * *
أما عن آخر ذيول القصة ـ علاقتى بطلبتى ـ فقد تكفل بها ( مدحت) نفسه .. الذى شرحت له مدى توترى و تدهور صحتى فى تلك الأيام الكئيبة ...
يذكر القارىء أننى تحدثت عن ( أشخاص) ما .. فى مقدمة قصتى مع حارس الكهف ( العدد السابع ) ..
قلت لك : إنهم انصرفوا .. و أبيت أن أذكر أية تفاصيل عنهم ..
الواقع أن الوقت قد حان لأعلن هذه الحقيقة التى كنت أحاول إرجاءها بعض الوقت ..
إن ( آشتا) و ( آشتا) و ( آشتا) ـ الثالث له ظروف مماثلة ـ مازالوا يزوروننى من حين لآخر ..
أحياناً يقرعون الباب ..
و أحياناً أجدهم فجأة أمامى داخل الشقة ..
طبعاً هذا الكلام لا أجرؤ أن أخبر به أحداً سواك لأنه يشبه ـ إلى حد كبير ـ ما يقوله المجانين ..
هؤلاء الضيوف غير المدعوين يجيئون إلى من حين لاخر ليحكوا لى المزيد عن عالمهم ..
طبعاً لم تنجب ( آشتا) لأن جسدها مجرد قشرة بلا رحم و لا مبايض و لا أى شىء .. لكنهما سعيدان معاً و هما ـ بعد ربع قرن أو أقل قليلاً ـ ينتقلان من بلد لبلد .. و يعيشان فى إطار جديد فى كل مرة ..
و السبب ـ حتماً ـ هو شبابهما الدائم الذى سيثير الأقاويل حولهما إذا ما استقرا فى مكان واحد .. اليوم هما زوجان يعملان فى محطة بنزين فى ( فلوريدا ) .. غداً هما طالبان فى كلية الهندسة بـ ( موسكو) .. بعد غد هما يبيعان الشاى فى ( غرزة) على طريق ( سمنود) .. المهم أنهما معاً .. و أنهما يفران من عدسات الكاميرا و من الشمس الساطعة ...
* * *
و الآن
اسمع عواء ـ أو خرير ـ وحش أسطورى مرعب يتحرك فى أقبية الأساطير الإغريقية قادماً نحوى ليضيف ذكرى مروعة إلى ذكرياتى ....
إن ( المينوتور ) قادم .. و معنى هذا أن ندعو الله الا نكون نحن ضحيته القادمة .. سأحكى لكم التفاصيل كلها .. و لمكن هذه قصة أخرى .
د . رفعت إسماعيل
القاهرة
[ تمت بحمد الله ]

عزي إيماني 31-10-08 06:45 AM

مشكورة أختي الغالية ..

سلمت يداك على هذا المجهود ..

سدد الله خطاك..

Eman 19-11-08 02:30 AM

للرفــــــــــــع..

mizofunny 07-09-12 11:05 PM

مجهود رائع
 
تحية للمجهود وبجد عمل رائع :55:


الساعة الآن 08:08 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية