منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   217 - سيد الصقر - جينيفر تايلور ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t82248.html)

arewa 22-06-08 08:55 PM

217 - سيد الصقر - جينيفر تايلور ( كاملة )
 
سيد الصقر


كـ xt & كـ وورد هنـا


ملخص الرواية
كان الدكتور" نيال غيلسبي "رئيس القسم الذي تعمل فيه " سارا هاريس " جبلا من جليد , لكن سارا ادركت متأخرة انه يخفي تحت ذلك الثلج نارا لاهبة ! وصاح بها عقلها محذرا ... الخطر ... الخطر.
- هل انت قادمة يا سارا !
كانت الشمس تسطع بقوة فمنعتها من رؤية تعابير وجهه ولكن هذا لم يعد يهمها . انها تعي مارأته وسمعته .
وأخافها هذا لأنها تجهل كيف عليها ان تتصرف .
فهل عليها ان تضع حدا وتسير مبتعدة دون ان تنظر الى الوراء , اتدير ظهرها للخطر , اليسهذا الطريق الصواب , نعم انه هو . لكن من المؤسف ألا تستطيع ان تسلك هذا الطريق , وألا تجد حلا آخر سوى القفز الى النار ... وتخاطر بالاحتراق منتديات ليلاس

arewa 22-06-08 08:57 PM

- قلب في النار
-
وهذا يجعل المجموع مئة وتسة وعشرون !
أعلنت الممرضة سارا هاريس ذلك وهي تدخل الى غرفة الممرضين , وتتوجه مباشرة الى لوحة الملاحظات حيث سجلت المجموع الجديد أمام رسمها وعلى فمها ابتسامة عريضة وأضافت : " السيدة( بيترز ) توأم " .
أجابت ايرني برينتس , القابلة الأكبر سنا في قسم التوليد , وهي تبتسم :
- هذه عادتك ! كان يجب أن اعلم انها ستلد اثنين . ما الذي تفعلينه لمريضاتك , يا سارا ؟ ترشينهن ! لقد فزت السنة الماضية في مباراة توليد اكبر عدد من الأطفال , ويبدو انك ستفوزين بها هذه السنة ايضا !
فقالت سارا ضاحكة وهي تضع الإبريق على النار لتحضر لنفسها فنجانا من الشاي :
- انت بالذات لا يحق لك ان تتكلمي بعد ان انجبت احدى مريضاتك ثلاثة توائم الأسبوع الماضي واذا بك الآن تضنين علي بهذه
المنحة الصغيرة !
والقت بنفسها على كرسي وهي تخلع حذاءها , متنهدة بارتياح , ثم اضافت :
- آه , ما احسن هذا ! لا اظن ان السيدة" بيترز " مرهقة بقدري أنا . كانت رائعة ونفذت كل ما طلبناه منها . لكن زوجها المسكين كان مذعورا جدا حتى ظننته سيموت ولهذا دفعناه الى تنشق بعض الأوكسجين والهواء لتهدئة اعصابه .
ضحكت إيرني وهي تنهض واقفة :
- يتصرف الكثير من الآباء بهذا الشكل . انتظري حتى تري ما رأيته أنا من آباء ممددين على ارض غرفة الولادة .
وابتسمت متذكرة الأيام الخوالي , وتابعت تقول وهي تغسل فنجانها:
- حين بدأت عملي كقابلة , لم يكن مسموحا للأب بحضور عملية ولادة زوجته . وأتذكر رئيسة الممرضات , في أول مستشفى عملت فيه , وهي تتذمر بحدة , لأن رجلا مسكينا تجرأ وسأل إن كان بإمكانه ان يحضر ولادة زوجته . لقد تغيرت الأمور كثيرا منذ ذلك الحين والحمد لله .
فقالت سارا :
هذا صحيح . فقد اصبح من النادر الا يحضر الزوج الولادة . اما زلت تفكرين في التقاعد , يا إيرني اواثقة انت من انك لن تندمي على ذلك ؟ أما أنا فلا أتصور أن بإمكاني ترك كل هذا , فأنا احب عملي جدا .
- اعرف , وهذا سبب تفوقك فيه . على القابلة الماهرة ان تكون صبورا وحازمة , وأنت تملكين هاتين الصفتين . وكل الأمهات لديك يشهدن بذلك , وبأنهن لا يعرفن كيف كن ليتصرفن بدونك .
ابتسمت وهي تجفف يديها ثم أضافت :
- كان شعوري نحو العمل مماثلا لشعورك , يا سارا . لكنني الآن بحاجة الى مزيد من اوقات الفراغ , فقد تقاعد " جاك " , وبات بإمكاننا تنفيذ كل ما وعدنا انفسنا به .
تنهدت سارا :
- افهم ذلك طبعا . ولكن من المؤسف ان تتركينا مباشرة بعد تقاعد الدكتور "هندرسون " . وهكذا , ستتغير الأمور هنا عما كانت عليه.
- هذا صحيح . لقد سمعت ان " نيال جيلسبي " الذي سيستلم القسم , رجل رائع . ولكن لا شك ان لديه اراءه الخاصة عن كيفية سير الأمور . وبما ان مصلحة الصحة قررت إغلاق قسم التوليد في "رويال " وجعل مستشفى " دالفرستون العام " المركز الوحيد لتعليم التوليد , فستتغير الأمور حتما .
- اعلم هذا , واظن انه من الرائع الحصول اخيرا على كل المعدات التي نحن بأشد الحاجة إليها . أثير الكثير من اللغط حول موضوع إغلاق هذا القسم , لكن بما انه لايفصل بين المستشفيين سوى عشرة اميال , كان بالإمكان الاستفادة من المعدات نسبيا .
- اشعر بأنك متحفظة حيال هذا الموضوع , على عكس ما تقولينه الآن .
- حسنا نعم , نوعا ما . كل ما في الأمر انني اريد ان يحصل لهذا المكان ما حصل لكثير من أقسام الولادة الكبرى الأخرى . تتميز كلها بتقنية عالية ولكنها تفتقر للروح , فالولادة يجب ان تكون حدثا رائعا بالنسبة الى المرأة التي يجب ألا ترغم على نوع من الولادة لا تريده لأنه يلائم الممرضات أكثر .
سألتها إيرني مقطبة :
- ما الذي يجعلك ان هذا سيحدث هنا ؟
- آه , لعله مجرد غباء مني !
ونهضت سارا لتغسل فنجانها , وهي تقول :
- لقد احببت كل دقيقة امضيتها هنا , ولهذا لا احتمل فكرة ان تتغير الأمور . كل ما ارجوه هو الا يحاول هذا القادم الجديد فرض سلطته على المكان .. سمعت انه يرفض ان تسير الأمور إلا حسب مشيئته . فلنأمل , إذن ان تنسجم آراؤه مع آرائنا .
ضحكت وهي تستدير , ولكن الابتسامة جمدت على شفتيها حين اشتبكت عيناها بعينين باردتين خضراوين كانتا تراقبانها عند الباب.
تساءلت وقد انقطعت انفاسها فجاة , عما اذا كان السبب اكتشافها بأن هناك من استمع الى حديثهما .
شعرت ايرني بوجود خطب ما , فاستدارت بدورها وتملكتها الدهشة لرؤية القادم الجديد . لكن , فبل ان تنطق احداهما بأي كلمة فتح الباب على مصراعيه ودخلت " إيلين روبرتس " مديرة المستشفى , الى الغرفة .
- الأخت برينتس , انا مسرورة لرؤيتك . فأنا اجول مع الدكتور جيلسبي في المستشفى لأعرفه الى اكبر عدد ممكن من الموظفين .
وابتسمت ايلين للرجل الذي تبعها الى دخل الغرفة , أضافت " الأخت برينتس " هي اقدم ممرضاتنا في قسم الولادة , " نيال " . كم سنة امضيت هنا , ايرني , عشرين ؟
اجابت ايرني وهي تمد يدها لمصافحته :
- اثنان وعشرون , في الواقع . يشرفني التعرف اليك , يا دكتور جيلسبي .
وانت ايضا , أخت برينتس . لقد سجلت لرقما قياسيا , فقلائل هم الذين يمضون هذا الوقت كله في الوظيفة .
كان صوته عميقا , وقد زادت نبرته الاسكوتلندية الخفيفة لهجته الناعمة فتنة . شعرت سارا بقشعريرة تسري في كيانها حين سمعته للمرة الأولى , فأخذت نفسا عميقا وهي تتساءل عن سبب تسارع خفقات قلبها المفاجىء هذا . لا بأس , لعل السبب هو الدهشة التي تملكتها حين رأته واقفا هناك . ولكن هل هذا هو فعلا سبب شعورها الغريب هذا ؟
- ومنذ متى تعملين هنا , ايتها الأخت ؟
اجفلت وهي تسمعه يخاطبها , وشعرت بالاحمرار يزحف إلى وجهها , ولما رفعت عينيها وجدت عينيه الباردتين مسمرتين عليها.
وعندما حاولت أن تجيب عن هذا السؤال البسيط , شعرت بأن لسانها لا يطيعها , فقالت متلعثمة :
- ثلاث ... ثلا .. ثلاث سنوات تقريبا .
- حسنا ... وهل انت مسرورة بالعمل هنا ؟
عقد ذراعيه وهو يتأملها , وهذا ما جعلها تشعر بأن معنى آخر خفيا يختبىء خلف هذا السؤال البريء ظاهرا .
سحبت نفسا عميقا آخر وهي تحاول استجماع أفكارها , ولكنها وجدت صعوبة في ذلك . ما الذي جعلها تضطرب هكذا ؟
ونظرت اليه بسرعة تجد فيه ما يفسر ذلك . كان طويل القامة , ذا جسد متناسق في بذلته الرمادية الأنيقة وقميصه الناصع البياض , وقد سرح شعره البني القاتم الى الخلف , بأناقة , مما ابرز ملامح وجهه القوية , بوجنتيه العاليتين وذقنه المربع , وانفه الذي شابه تقوس خفيف للغاية .
منتديات ليلاس
قطبت سارا جبينها حين لم تر فيه سببا لردة فعلها الغريبة هذه . كان وجهه في الواقع انيق القسمات , وهو وجه يعتبره البعض وسيما , انما يعلوه نوع من الشحوب وكأن صاحبه لا يمضي في الهواء الطلق وقتا كافيا .
كانت عيناه اجمل ما في ملامحه , فهما بخضرة البحر , وتبدوان شفافتين للوهلة الأولى . لكنها ما لبثت أن ادركت , وهي تراهما عن كثب أنه يستحيل قراءة افكاره من خلالهما .
وأخذت تفكر في أنه رجل يجيد اخفاء مشاعره , رجل يبدو وكأنه ينظر الى العالم بانفتاح لكنه لا يكشف عما في نفسه , فتساءلت عما يخاف ان يكشفه الناس . وأدركت فجأة انه لا زال ينتظر جوابها حين رات حاجبيه يرتفعان , فتمتمت وقد اربكها تصرفها هذا :
آه ! نعم , مسرورة جدا , شكرا يا دكتور جيلسبي . العمل في مستشفى " دالفرستون العام " يعجبني كثيرا .
- دعينا نأمل إذن ألا تجدي صعوبة في التكيف مع أي تغيير أراه ضروريا .
وألقت عيناه الباردتان عليها نظرة أخيرة , ثم التفت الى " ايلين روبرتس " قائلا : " أظنك ذكرت شيئا عن قسم ( الولادات قبل أوانها ) " .
- آه , نعم !
واستطاعت ايلين ان تبتسم رغم ما بدا عليها من عدم تركيز إلا ان حالتها لايمكن ان تقارن بحال سارا .
قلت سارا بغيظ , بعد خروج الزائرين :
- أظنه اوقفني عند حدي , اليس كذلك ؟
قالت ايرني مكشرة :
- على ما يبدو . أرجوا ألا تكون هذه اشارة الى كيفية سير الأمور هنا في المستقبل . وإذا صح ذلك , فأنا مسرورة لرحيلي .
- أنا لا ألومك .
وتنهدت ثم اضافت :
- يبدو أ، علي ان اتنبه لكلامي من الآن فصاعدا . اليس كذلك ؟
انفجرت ايرني ضاحكة ,وقالت :
- هذا رائع ! متى فكرت مرتين قبل ان تفصحي عن آرائك يا سارا هاريس ؟
فسألتها سارا ضاحكة بالرغم من انزعاجها من تعنيف الدكتور جيلسبي لها , بذلك الأسلوب الجاف :
- هل تعنين انني ثرثارة او ماشابه ؟
هل أثر فيها لأنه كلمها من دون ان يبدو على وجهه أي شعور ؟ لم تكن واثقة من ذلك .
ردت ايرني وهي تتوجه نحو الباب :
- او ما شابه هو التعبير الملائم . سأذهب لأطمئن على السيدة وولترز . أراك في ما بعد , أظنك ستحضرين حفلة تقاعد الدكتور هندرسون الليلة . اليس كذلك ظ
- هذا صحيح . أراك هناك .
واخذت سارا تتأمل ايرني وهي خارجة .
انها سعيدة منذ انتقلت الى هذه المدينة الصغيرة في منطقة يوركشاير , وربما عليها ان تلجم لسانها بما ان رئيس القسم الجديد أوضح أنه لا يرحب بأي معارضة . والأمر لا يستحق عناء أن تغامر بوظيفتها ...
انتصبت فجأة في وقفتها وتأملت نفسها في المرآة . ثم نفضت شعرها الحريري الأشقر الى الخلف ... غير ان ملامحها الجميلة الجريئة بدت عابسة على غير عادتها , ولمع بريق في عينيها العسليتين .
قد لايفيدها ذلك , لكن إذا ما رأت أي خطأ لن تسكت .. فإن راحة مريضاتها تأتي في المقام الأول عندها .. وما عدا ذلك , ومن بينهم الدكتور الثلجي جيلسبي ... يحل في المرتبة الثانية أو ما دون !

***
- هذا حسن جدا , يا كارين . عنق الرحم متمدد , ولن يطول الأمر الآن .
مسحت سارا العرق عن وجه المرأة الشابة ثم ابتسمت لها مشجعة .
- لا اظن أبدا أن هذا الطفل سيأتي ...
عضت كارين على شفتيها عندما انتابها طلق آخر . انحنت سارا التي غمرتها موجة من السرور عندما ظهر رأس المولود .. أخذت تتفحص برفق ما اذا كان حبل السرة على عنق الطفل , ثم قالت بهدوء تخاطب " هيلين كورت " القابلة المتدربة التي كانت تساعدها:
- كل شيء جيد . رأس الطفل ينطلق من المهبل , ولهذا تحول وجهه الى الأسفل . عندما يبدو الرأس انتبهي الى ان حبل السرة ليس في الطريق , وهذا اهم شيء .
أومأت هيلين برأسها وهي تتلمس برفق عنق الطفل كما فعلت سارا.
- فهمت , ولكن ماذا سيحصل بعد ذلك ؟
ابتسمت سارا وهي تنظر الى كارين . انتظري حتى تشعري بالطلق قبل ان تدفعي . فبهذه الطريقة لا ترهقين نفسك .
أومأت كارين المتعبة , ثم ألقت نظرة على زوجها وحاولت ان تطمئنه :
- لن يطول الأمر , يا دايفيد .
- انك تبلين حسنا !! لا أصدق ذلك ...
وأجفل دايفيد عندما تشبثت كارين بيده مع بدء طلق آخر .
انحنت سارا لتساعد الطفل وهو يقطع المرحلة النهائية من رحلته , شارحة لهيلين سير الأمور :
- انظري كيف ادارالطفل رأسه مجددا وذلك انسجاما مع كتفيه .
سأميل الرأس قليلا نحو الأسفل مع الكتفين , مما يجعل أقرب كتف تخرج أولا ... آه , ها هوذا قادم .
رفعت بمهارة الجسد الصغير الذي انزلق الى الخارج وضحكت حين صرخ الطفل على الفور باكيا , وقد تغضن وجهه انزعاجا من دفعه الى العالم الخارجي بهذه السرعة .
مددت الطفل برفق على بطن الأم , وابتسمت وهي ترى الفرح يرتسم على وجه الزوجين الشابين :
- انها بنت . تهاني لكليكما .
- بنت ؟ لكنني ظننت انه سيكون ولدا !
وتملكت الأب الرهبة , وابتلع ريقه وهو ينظر الى تلك الكتلة البشرية التي ستغير حياته كليا .
ضحكت كارين من بين دموعها واخذت تمرر يدها بحنان على رأس الطفلة اللزج المبتل .
- طلبت منك ألا تستبق الأحداث وتشتري حذاء الفوتبول ذاك .
ضحك الجميع . ثم اكملت سارا مهمتها ففحصت الأم بعناية .
ثم جذبت بهدوء هيلين جانبا لتمنح الوالدين الجديدين فرصة تمضية بعض الوقت مع وليدتهما وحدهما , قائلة لها :
- سننجز ما تبقى من العمل , خلال لحظات . فعلينا أن نزن الطفل ونرى طوله .. ثم سنفحص ما اذا كان وركاه في غير موضعهما . تعرفين اختبار" ابغار " اليس كذلك ؟
أومأت هيلين وقالت :
- نعم . إنه فحص لتقويم حالة جسد الطفل . أليس كذلك ؟
- هذا صحيح . ويتم ذلك عبر مراقبة تنفس الطفل , ولون الجلد , وحركة العضلات والحيوية عموما , ثم نضع نقاطا لكل هذا وأعلى نقطة هي العشرة . لكن إذا ما فاق المعدل السبعة تكون النتيجة جيدة . ونقوم بهذا الفحص فور ولادة الطفل .
التفتت عندما فتح الباب فجأة , ودهشت لرؤية الدكتور جيلسبي يدخل غرفة التوليد . كان يرتدي ثوبا أخضر معقما فيما تدلت السماعة من عنقه . أومأ الى الزوجين محييا , ثم تقدم نحوها , قائلا:
- هل كل شيء على ما يرام , يا أخت هاريس ؟
- بأحسن حال , شكرا يا دكتور .
وحاولت سارا أن تقلد لهجته , وإن لم يكن سهلا أن تحقن صوتها بالبرودة نفسها كما يفعل " نيال جيلسبي " !
دنت القابلة المتمرنة هيلين من رئيس قسم التوليد الجديد , وهي تشعر بانزعاج غريب , شرحت سارا بهدوء للطالبة كيف تعد البطاقة التي تدون عليها هوية الطفل . انتظر الدكتور جيلسبي حتى انهت سارا هذه الإجراءات كلها , وقد بدا الجمود البالغ على وجهه , وهو يستمع الى ما تقوله وربما ينتقده , لكنها حاولت ألا تظهر ارتباكها هذا .
وبعد ان تأكدت من ادراك هيلين أهمية تلك البطاقة , عادت والتفتت الى الدكتور جيلسبي , متسائلة عما يريده ! وسألته بأدب :
- اما زلت تحاول التعود على القسم , يا دكتور ؟
- آه , أظن أنه أصبح لدي فكرة جيدة عن بعض الأمور , شكرا .
وابتسم لها ابتسامة باهتة قبل ان يلتفت الى الزوجين اللذين كانا غافلين عن كل شيء ما عدا طفلتهما :
- هل اجريت للمولود الفحوص اللازمة كلها ؟
لم يكن لسؤاله أي معنى , لأنه يرى بوضوح أن الفحص لم ينجز بعد . وسرعان ما اتخذت سارا موقفا دفاعيا رغم أنها لم تكن تدرك سبب ذلك إذ لم تخطىء بشيء .
قالت :
- لم نجرها بعد . فأنا أحب أن أعطي الوالدين لحظات يمضيانها وحدهما مع الطفل قبل أن أحمله بعيدا .
- وهل هذا هو الاجراء المعتاد ؟
كانت لهجته محايدة تماما , لهذا لم يكن هناك مبرر للغيظ المفاجىء الذي تملكها . نظرت اليه مباشرة , فشعرت برعشة تسري في جسمها عندما التقت عيناها بتلك العينين الباردتين الخضراوين الغامضتين .
- انه اجراء اعتمده دوما عندما تكون الولادة سهلة , دكتور . فأنا أجد أن الوالدين يقدران أهمية هذه اللحظات أكثر من غيرها . وهي فرصة ليعتادا على أن طفلهما قد أصبح حقيقة واقعة أخيرا .
- انها لمسة حنان , يا أخت . على أي حال , أنا اعتبر المجازفة بصحة الأم والطفل عمل أحمق وغير ضروري . تأكدي , في المستقبل , من تنفيذ كل شيء بدقة , ومن فحص الأم والطفل معا لتلافي أي تعقيدات قد تطرأ .
وارتد على عقبيه مغادرا لكن غضب سارا دفعها لتمنعه من الخروج وهي تقول :
- أؤكد لك أنه لم يكن هناك مجازفة بصحة الأم أو الطفل .
- ربما ليس هناك شيء ظاهر .
وابتسم لها ابتسامة جليدية فيما التفت بنظرة تحمل معنى خفيا مشيرا الى أنها تقف في طريقه .
ابتعدت بارتباك وقد احمر وجهها بعد أن أدركت ما فعلت , وازداد احمرار وجهها تأثرا وخجلا , لأنها لم تستطع تجنب ذلك . فقد كان شعورها بالغضب أو الإثارة ينعكس على وجهها دوما , مما يشكل لعنة حياتها , وزادت الأمور سوءا حين ادركت أن هذا فضح شعورها نحو " نيال جيلسبي " .
تنفست بسرعة , وحاولت أن تستعيد هدوء صوتها وملامحها لأنها لم تشأ أن يلاحظ الاستياء الذي سببه لها :
- أتصور أنني ولدت عددا من الأمهات يجعلني قادرة على معرفة ما إذا كانت الأم أو الطفل في خطر يا دكتور .
- ربما , يا أخت . لكنني , في المستقبل أفضل أن أراك تتبعين الإجراءات حرفيا .
وانخفض صوته , فبدت نبرته وكأنها مشبعة بالألم حين أضاف :
- هناك دوما أشياء لا نتوقعها . وهذا ما يجب أن ننتبه له وإلا وقعنا في أخطاء نحن في غنى عنها .
واستدار ليخرج إلا أنه توقف والتفت إليها : " بالمناسبة , ما نوعه؟" .
- ما نوعه ... ؟
لم تفهم ما عناه . وبدا نيال جيلسبي جامدا وشاردا كما لم يبد من قبل.
- أعني الطفل . هل هو ذكر أم أنثى ؟
- آه , إنها أنثى .
والقت نظرة على اللوح الأبيض حيث كتبت الأسماء التي اختارها الأبوان ثم أضافت :
- أظنها ستحمل اسم " هولي لويز " .
- أبلغي الأبوين تهاني .
ولم يضف أي كلمة
وهو يغلق خلفه باب غرفة الولادة بهدوء .
أخذت سارا تحدق في الباب للحظات قبل أن تناديها كارين , فتوجهت الى السرير وأخذت تجيب عن أسئلة الأم . وفيما راحت تشرح بعض لها الأمور , كان ذهنها يركز جزئيا على ماكانت تقوله.
أتراها تخيلت ذلك ؟ أخذت تتساءل وهي تحمل الطفلة لتزنها , إن كانت فعلا قد سمعت نبرة الألم تلك في صوت نيال جيلسبي منذ لحظات ؟
لم تستطع أن تتأكد وكانت تلك مشكلتها . لو تمكنت من نبذ هذه الفكرة واعتبرتها مجرد تخيلات , لانتهى الأمر . وأدركت أن فضولها قد أثير كليا . إنما تشك في أن يرضى الدكتور جيلسبي باهتمامها هذا ..

arewa 22-06-08 09:00 PM

2- وهم أم خيال ؟

سارا .. تعالي الى هنا . لقد حجزنا لك مقعدا .
- شكرا . ظننت أنني لن أصل أبدا ! فاتني الباص , لهذا اضطررت للعودة الى بيتي والاتصال بسيارة أجرى .
اندست سارا قرب إيرين ثم ابتسمت للآخرين . كانت مجموعة كبيرة من الموظفين قد تجمعت في المقهى بجانب المستشفى لاحتساء العصير قبل التوجه الى حفلة الدكتور هندرسون التي تقام في فندق قريب .
ورأت هناك ممرضات من مختلف الأقسام ومن قسم الولادة أيضا .
- آه , لم أكد أعرفكن . أنتن رائعات من دون ثياب التمريض .
ضحك الجميع , ثم رفعت هيلين كأسها , وقالت :
- ماذا لو شربنا نخب أول ولادة أحضرها , نخب الطفلة هولي لويز .
- هولي .. لويز !
أخذ الجميع يردد هذا الاسم . والتفتت سارا حولها عندما دس شخص ما كوبا من العصير في يدها .
هاك .. خذي هذا لتبللي شعر الطفلة .
- شكرا يا مايك .
وابتسمت سارا لمايك داوسن الذي عين حديثا كطبيب متمرن في قسم الجراحة . أخذت جرعة من شرابها ثم رفعت صوتها ليعلو الضجة , وسألته :
- ظننتك في العمل الليلة ؟
- قررت أن أحضر الى هنا أثناء فترة استراحتي , لأرى ما استقر عليه رأيك بالنسبة الى مساء الغد . أتودين مشاهدة الفيلم الجديد الذي يعرض في سينما ريتز ؟
- بكل تأكيد .
ولم تفتها لهفة مايك وهو يرتب الأمور ليصطحبها في مساء اليوم التالي . وكان عليه أن يغادر بعد ذلك , وراح يضحك حين رأى الموظفين يغيضونه ويمازحونه لاضطراره الى العمل فيما هم يستمتعون بوقتهم .
لوحت له بيدها عندما وصل الى الباب , وهي تتنهد في داخلها متسائلة
عما إذا كانت علاقته بها قد تخطت الحد نوعا ما .
همست ايرين , وهي ترمقها بنظرة تحمل معنى مبطنا :
- كأنني أرى دلائل الحب . أتراها أجراس الزفاف التي أسمعها من بعيد ؟
فضحكت سارا , وأجابت :
- أشك في ذلك . مشكلتك , يا إيرين برينتس , أنك شاعرية لا أمل في شفائك . هل يعود السبب الى انك أمضيت ثلاثين عاما في نعيم الزواج , حتى بت تودين رؤية الجميع يسير على الطريق نفسه .
هزت إيرين كتفيها من دون أن تهتم بتعليق سارا , وقالت :
- لا يمكنني إنكار ذلك . ومايك فتى جيد , يا سارا , ومن الواضح أنه يميل إليك .
- هممم ... ربما . على أي حال , رقصة التانغو يلزمها شخصان , كما يقولون .
فتنهدت إيرين بأسف , وسألتها :
- أتعنين أنك لا تهتمين لأمره بالطريقة ذاتها ؟ من المؤسف يا سارا أنك صعبة الإرضاء , وفي هذه الحالة , لن تعثري أبدا
على الرجل الكامل والمناسب .
- إذن , سيكون علي أن أبقى عزباء , أليس كذلك ؟
وضحكت رغم أنها تعلم أن في كلام إيرين شيئا من الحقيقة .
فهي صعبة الإرضاء .. نعم لقد خرجت مع عدد من الشبان , بمن فيهم مايك , لكنها لم تجد بينهم من رغبت في قضاء بقية حياتها معه. ولم يكن هذا الأمر ليقلقها لأنها كانت واثقة من أنها ستجد يوما ما ذلك الشخص الذي يملأ حياتها .
جرعت من شرابها ثم حاولت أن تتصوره . هل سيكون أسمر أم أشقر ؟ طويلا أم قصيرا ؟
وأخذتالصورة المبهمة , التي كانت تتشكل في خيالها , تتضح , فسعلت لأنها غصت بشرابها , فجأة .. لم تعد ترى سوى عينين خضراوين , عينين بخضرة البحر ... تحت حاجبين سوداوين , تحدقان فيها .
- هل أنت مستعدة ؟
نبهتها إيرين الى أنهم مستعدون للانتقال الى مكان الحفلة , فأسدلت سارا ستارا على الصورة التي شغلت ذهنها , ووضعت كوبها جانبا . لا بد من وجود سبب جعل صورة نيال جيلسبي تتراءى لها في هذه اللحظة بالذات , ولا بد أن اللوم يقع على إرهاقها الذي جعل الطبيب البارد كالثلج يبدو في زي الرجل الكامل .
- أريد أن أشكركم جميعا من كل قلبي على هذه الهدية الرائعة .
وابتسم الدكتور هندرسون وهو يرفع بيده عدة صيد السمك التي أهداه إياها الموظفون , ثم أضاف :
- وكلما استعملتها سأتذكركم .
صفق الجميع عندما ساعد بعضهم الطبيب المسن على النزول عن الكرسي الذي إتخذه منبرا . ونظر الى سارا بأسف وهو يتناول كأس مياه معدنية , ويقول :
- لم أدرك من قبل صعوبة اتباع نصائح الطبيب . لكن ميغ ستشنقني إذا ما خالفتها وأكثرت من الأكل .
فضحكت سارا , واجابت :
- هذا لأنها تفكر في مصلحتك , يا دكتور .
فتنهد , وقال :
- أعرف , أعرف . وسأكون عاقلا , يا سارا . تلك النوبة القلبية التي أصابتني كانت تحذيرا بأن علي أن أحترس من الآن فصاعدا .
قطبت سارا جبينها عندما استعمل الرجل المسن التعابير التي استخدمها نيال جيلسبي عصر هذا اليوم . ونظرت حولها فإذا بها تراه في الناحية الأخرى من القاعة . واستغربت مثل هذا التوارد في الأفكار , فكلما فكرت فيه أثناء السهرة , كانت تراه على مرمى نظرها .
نظر حوله فجأة ثم قطب جبينه عندما لاحظ أنها تحدق فيه . وشعرت هي بالاحمرار يزحف الى وجهها , فأشاحته وهي تشعر بالارتباك لأنه تنبه الى أنها تحدق فيه بهذا الشكل . وأرغمت نفسها على التركيز على حديث الكتور هندرسون عن خططه لقضاء عطلته في صيد السمك في اسكوتلندا , ومع ذلك كانت تشعر بنظرات تخترق ظهرها بشكل غريب ...
- يمكنني أن أنصحك بأماكن جيدة عدة لتجرب فيها عدة الصيد تلك يا ريتشارد .
أجفلت متوترة حين ميزت ذلك الصوت العميق الذي سمعته خلفها . واهتزت يدها فأراقت الشراب على يدها , ثم عاد الاحمرار ليغزو وجهها وهي ترى نيال جيلسبي ينظر اليها . التفتت حولها بحثا عن طاولة تضع فيها كوبها عليها , ثم قفزت مجفلة مرة اخرى عندما أخذته يد ضخمة من قبضتها .
- اسمحي لي أيتها الممرضة هاريس .
وابتسم نيال جيلسبي ببرودة وهي تتمتم شاكرة . فتحت حقيبتها بسرعة لتبحث فيها عن منديل ورقي , شاعرة بنظراته تراقبها وبتلك الابتسامة الباردة نفسها ترتسم على وجهه .
تملكها ارتباك بالغ وهي ترى نفسها هدفا لعينيه الثاقبتين , وهذا جعلها تنثر نصف محتويات حقيبتها على الأرض وهي تنبشها بأصابع عصبية ... قلما أحمر , قرطان وحفنة م النقود المعدنية تبعثرت على الأرض وانتهت تحت منضدة قريبة .
التهب وجه سارا خجلا وهي تجلس القرفصاء لتجمع أغراضها .
واجفلت فجأة , عندما بدا وجهه قبالتها , وشعرت بقلبها يخفق بجنون ويمنعها من التفكير في ما قد تقوله , وتركت نيال جيلسبي ينقذ الموقف فقام بذلك على طريقته الخاصة وبلهجته الجافة الجامدة:
- أظن أن أحد قلمي أحمر الشفاه تدحرج حتى ذلك الكرسي هناك ... آه , أنا أراه الآن .
استعاد أحمر الشفاه ثم وقف . أغمضت سارا عينيها وراحت تعد حتى العشرة , آملة أن تستعيد اتزانها , وإن لم يكن بشكل كامل ! وفجأة لم تعد ترى سوى تينيك العينين الخضراوين اللتين تحدقان فيها من الجانب الآخر للمنضدة . وذكرها هذا الموقف بما سبق وحدث لها في المقهى . وكيف صور لعا التعب نيال جيلسبي كرجل أحلامها ...
كبحت ضحكة عصبية وهي تنهض واقفة لتحافظ على ما أمكن من كبريائها في مثل هذه الظروف . يجب أن تستريح , فلا أحد يعلم أي تخيلات أخرى قد يصورها لها ذهنها .
- ها هو ذا .
مد نيال جيلسبي إليها يده التي تحمل أحمر الشفاه . فأخذته سارا منه وهي تتمتم بالشكر , وحاولت أن تتجاهل الرعشة التي سرت في كيانها .
ألقت أحمر الشفاه في حقيبتها , ثم رسمت ابتسامة على شفتيها وجاهدت في سبيل تجاهله . لكن الأمر كان أشبه بمن يحاول تجاهل الشمس المشرقة .
كانت تشعر بحرارة جسمه من خلال قماش ثوبها الرقيق . فاقشعر جسمها , وكبتت بصعوبة شهقة كادت تفلت منها حين ادركت تأثيره على أحاسيسها . أذهلها اكتشافها وصدمها وافزعها . ماذا جرى لها؟
ولم تضطرب بهذا الشكل حين يقترب هذا الرجل منها ؟ اندفعت بالكلام , حتى لاتمنح نفسها فرصة للتفكير في الأمر , وقالت :
- هل تمارس هواية صيد السمك , يا دكتور جيلسبي ؟
- كنت امارسها .
وابتسم ابتسامة أخرى باردة , لكن خيل اليها أنها ليست بالبرودة التي اعتادت أن تراها .. بدا وكأن شيئا من التوتر يحيط بفمه , ويسيطر على وقفته إذ تركزت نظراته على بقعة فوق رأسها . ولكم شعرت بالراحة ندما استلم الدكتور هندرسون دفة الحديث :
- من الصعب أن نجد وقتا للهوايات , اليس كذلك يا نيال ؟ فمهمتنا تتطلب الكثير من الوقت . بحيث يصبح كل شيء آخر ثانويا .
وتنهد الدكتور هندرسون بأسى ثم أكمل :
- اتمنى الآن لو أقدر على جعل حياتي أكثر توازنا , فلا يصبح التقاعد بنظري مثبطا للهمة بهذا الشكل . إذ لا فائدة من البكاء على الماضي , بل علي أن أتطلع الى المستقبل . وإذا لم أعد الى البيت حالا , فستأتي ماغ للبحث عني .
والتفت الى سارا باسما , وهو يقول :
- أعتقد أنك واجهت صعوبة في وصولك الى هنا الليلة , فهل تشاركينني سيارة الأجرة ؟ يمكنني أن أقلك في طريقي إلى بيتي .
- آه , نعم ! أرجوك , إذا لم يكن في ذلك إزعاج لك .
هبت واقفة , لأن هذا الأمر عذر جيد لمغادرة الحفلة , ولأنه سيوفر عليها أجرة سيارة الأجرة وتابعت تقول :
- سأعلم الآخرين بأنني مغادرة , ثم أقابلك عند الباب يا دكتور هندرسون .ولعل ذلك يفسر
وهرعت الى حيث إيرين لتخبرها بذلك , فحاول بعضهم اقناعها بالبقاء لكنها تذرعت بالتعب . واخذت تفكر , وهي تغادر القاعة في أن ما قالته ليس عذرا مختلقا , على أي حال فقد كان يومها متعبا في المستشفى , فعدا عن ولادة التوأم وهولي لويز , ساعدت في ثلاث ولادات أخرى .
ولعل ذلك يفسر الأشياء الغريبة الأخرى التي حدثت معها هذه الليلة . وراحت تفكر بردة فعلها عندما اقترب نيال منها منذ دقائق مثلا .. لقد كان جهازها العصبي متعبا لذا ليس من المستغرب أن تظهر مزاح دلائل ذلك في تصرفاتها ؟
سارت نحو ردهة الفندق وقد سرها هذا التفسير الذي بررت به مشاعرها تجاه نيال . كنها لم تجد أثرا للدكتور هندرسون . توجهت نحو المدخل الأمامي , متسائلة عما إذا كان عليها أن توقف سيارة أجرى إذا ما رأت واحدة . لكن لم يكن في المدينة سيارات كثيرة , خصوصا في مثل هذا الساعة من الليل . لهذا من الحماقة أن تترك السيارة تمر لتنتظر أخرى قد لا تأتي إلا بعد وقت طويل .
نزلت الى الشارع فارتجفت قليلا عندما لفح هواء الليل ذراعيها العاريتين . حين خرجت , كان الطقس دافئا فلم تشأ أن تزعج نفسها بحمل معطفها , لكنها تمنت ذلك , وهي تشعر ببرودة الهواء , لو أحضرت معها سترة .
- ستموتين بردا إذا ما وقفت هناك بهذا الشكل . تعالي معي .
التفتت بسرعة واتسعت عيناها دهشة حين رأت نيال جيلسبي خلفها . ابتسم ابتسامة باردة وأشار الى سيارة مركونة في الجهة المقابلة من الشارع وأضاف :
- لقد قلت لريتشارد إني سأقلكما معي , فلا داعي للوقوف هنا بانتظار سيارة أجرة ..
- آه , لكن لا يمكنني ... أعني أ، هذا ليس ضروريا ...
كبتت نفسا عميقا لتسيطر على خفقات قلبها المتسارعة , وأكملت :
- ما أريد أن أقوله هو أنك لست مضطرا لتقلني , يا دكتور جيلسبي . سأستقل سيارة أجرة .
استدارت سارا لتبتعد ثم توقفت عندما سمعته يقول برقة :
- سارا أنا لا أعض الناس , لكنك على ما يبدو تظنين العكس .
- ماذا ؟
وحملقت مذهولة , متسائلة عما إذا تخيلت ذلك الهزل الجاف في صوته . مزاح , ونيال جيلسبي ؟ أبدا , فهذان أمران متناقضان .
وضحك أرق ضحكة يمكن تصورها .. ضحكة جعلت سارا تغرق في مشاعر الدفء والحنان .
- قلت إنني لا أعض . فهل ستثقين بكلمتي بهذا الشأن ؟ أم علي أن أقدم شهادة خطية بذلك ؟
- أنا ...
وضحكت ضحكة مخنوقة , وتحركت فيها روح الفكاهة بشكل مفاجىء , فأضافت , وهي تنظر الى السماء :
- آه , لا أقبل بأقل من شهادة خطية ! أعني لايمكن لفتاة أن تمنح الثقة الكاملة لأحد , خاصة في ليلة كهذه .
تبع نيال نظراتها ثم ضحك , وقال :
- هممم ... فهمت ما تعنينه . القمر بدر هذه الليلة , أليس كذلك ؟ ومع ذلك , أنا واثق من أنك مستعدة لأي طارىء , أيتها الممرضة هاريس . وأتصور , مع كل ما استطعت حشره في حقيبة يدك , أنك تحملين معك الرصاصة الفضية التي تستخدم للقضاء على الإنسان الذئب , اليس كذلك ؟ علي أن أعترف بان معلوماتي في هذا المجال محدودة .
- آه , نسيت أن أحضرها معي الليلة !
وراحت تتساءل عما إذا كانا فعلا يتبادلان مثل هذا الحديث . فلو قال لها أحد , منذ نصف ساعة خلت , أن مثل هذا الحوار سيدور بينهما لسخرت منه .
قرصت نفسها لتتأكد من أنها لا تحلم . لكن نيال جيلسبي ما زال واقفا هناك وعلى فمه الجميل ابتسامة باهتة .
سحبت نفسا عميقا وهي تتساءل متى أدركت بالظبط أن فمه جميل , ثم قررت على عجل أنها لا تريد جوابا عن هذا السؤال ! ولكم شعرت بالراحة عندما خرج الدكتور هندرسون , محاطا بمعظم العاملين في قسم التوليد الذين تجمعوا لوداعه . نزل الدرجات نحوهما ثم ابتسم لسارا .
- هل قال لك نيال إنه عرض علينا أن يقلك معه يا عزيزتي ؟
لم ينتظر جوابيها , واستدار ليلوح بيده للمرة الأخيرة لمودعيه الذين هتفوا باسمه محيين . صعدت سارا الى مقعد السيارة الخلفي بعد أن فتح نيال الأبواب , وحاولت أن تتجاهل النظرات التي لاحقتها , لم تكن بحاجة الى النظر اليهم لتعلم أنها ستضطر غدا لتقديم الكثير من الايضاحات .
***
- إذن دعوته الى منزلك لتناول القهوة , يا سارا ؟ زكم من الوقت بقي عندك ؟
- أنا لم أدعه للدخول . هل هذا يجيب هذا عن سؤالك ؟
تنهدت سارا وهي تتجه نحو الباب ثم أضافت :
- أنا في غرفة الاستقبال إذا أرادني أحد .
- آه , لا تقلقي ! إذا جاء نيال بحثا عنك , فسنخبره أين يجدك .
وانفجرت " سالي غرين " , إحدى زميلات سارا , بالضحك , فتجاهلتها هذه الأخيرة وتركت غرفة الممرضات . لم تعد تحتمل .. فمنذ جاءت الى العمل هذا الصباح وهن يمازحنها بشأن هذا الموضوع .
كان خبر توصيل نيال جيلسبي لها الى بيتها قد انتشر بسرعة في القسم وفي كل أنحاء المستشفى على الأرجح . وأراد الجميع أن يعرف ما حدث .
ومع ذلك , عندما حاولت أن تخبرهم , لم يصدقوها . وتعرف أنها مهما كررت لهم الأمر لما صدقوها .
ابتسمت سارا بجفاء وهي تفكر في الليلة الماضية . لقد استغرق ركنه للسيارة ونزوله ليفتح لها الباب , ستين ثانية كاملة . وقد دهشت نوعا ما لهذا التصرف المهذب الذي يتجاهله معظم الرجال في هذه الأيام . لكن نيال خرج من السيارة وفتح لها الباب .
وارتجفت حين تذكرت دفء ابتسامته ولطفه . وكانت تشعر بتأثيره عليها طوال فترة استعدادها للنوم .
ضحكت لحماقتها وهي تندس في فراشها وتطفىء النور . ولم تكن هذه التصرفات سوى دلالة أخرى على الإرهاق الذي كانت تشعر به بالأمس .
نامت وهي تحتضن هذه الأفكار , سعيدة بأنها عثرت على هذا التفسير البسيط لكل ما حدث . ولكن حين وصلت الى مكتب الاستقبال ورأت نيال جيلسبي واقفا هناك , لم تستطع إنكار الرعشة التي تملكتها , هازئة من كل تفسيراتها .
ومهما كان تحليلها وتفسيرها للوضع , فلا يمكنها أن تنكر أن نيال يمتلك قدرة غريبة على بعث الاضطراب في نفسها .
- آه , أيتها الممرضة ! تعالي معي أرجوك . أريد منك أن تساعديني هذا الصباح , إذا سمحت .
كان صوته أقرب الى الجفاء حين رآها فضبطت سارا اساريرها راجية من الله الا يدرك مدى اضطرابها لكلامه هذا .
فأجابته بهدوء لم تكن تشعر به :
- الأخت برينتس هي التي تساعد الدكتور هندرسون عادة في عيادة ما قبل الولادة .
- هذا ما اعتقده .
وقطب جبينه وهو يلتقط الملفات ويتقدم منها مضيفا :
- بما أن الأخت برينتس ستتقاعد قريبا فكرت في طريقة ما لتسيير العمل .. فلا فائدة من تدريب الأخت برينتس على طريقتي في العمل .. منذ الآن فصاعدا ستساعد الممرضة " برادشو " الدكتورة "بيتيل" وانت ستساعدينني .
- طبعا يا دكتور .
أجابت سارا بذلك بهدوء , ثم سحبت نفسا عميقا وتبعته الى غرفة الفحص . كان تعليله منطقيا , طبعا , لأنها تعلم أن المرأة تطمئن بالا إن رأت الطبيب والممرضة نفسيهما كلما جاءت للفحص . فهذا ينشىء بينها وبين الممرضات علاقة تعاطف تسهل عليها الافضاء إليهن بما يقلقها .
كانت سارا تؤمن بالرعاية المستمرة , إلا أن رأي الدكتور هندرسون كان مخالفا , إذ كان يختار المريضة التي ينبغي عليها أن تزوره في العيادة الخارجية . كانت توافق نيال جيلسبي الرأي ومع ذلك بعثت فيها فكرة العمل والقرب منه بهذا الشكل أثناء الأسابيع التالية الاضطراب الشديد . وكيلا يكتشف ذلك ركزت اهتمامها على عملها بعد أن راجعا معا قائمة الأمهات اللاتي سيحضرن هذا الصباح لمراجعة الطبيب المختص . كان هناك ثلاث أمهات جديدات , وكل واحدة منهن متوترة الأعصاب لاتعرف ماذا يحدث معها ولماذا .. والحقيقة أن نيال جيلسبي تعامل بشكل رائع معهن , إذ كان هادئا صبورا وهو يشرح لهن ضرورة رعاية الأم قبل الولادة وفائدته للأم والجنين .
قال نيال باسما , لهانا جارفيس , وهو يجلس على حافة سرير الفحص :
- لابد أنك تساءلت عن السبب الذي جعل الممرضة تأخذ منك عينة دم للفحص لدى وصولك .
وكانت هانا احدى المريضات الجديدات وقد بدت متوترة للغاية , فراح يشرح لها :
- هناك أشياء عديدة نريد أن نجري لها فحصا , ولهذا سنأخذ منك عينة كلما أتيت الى هنا , لنطمئن الى أنك لن تصابي بفقر الدم وغير ذلك . أما ما نحتاج الى معرفته قبل أي شيء فهو نوع دمك وما إذا كان إيجابيا أم سلبيا .
- وما معنى هذا يا دكتور ؟ هل هو مرض ؟
طرحت "هانا" هذا السؤال مقطبة جبينها , لكن سارا لاحظت أنها أصبحت أكثر إطمئنانا واسترخاء بعد حديثها مع الطبيب .
- لا , ليس مرضا . إن معظم الناس إيجابي , إنما هناك أشخاص دمهم سلبي وهؤلاء عددهم قليل . وهذا لا يسبب لهم , عادة , أي مشاكل . على أي حال , إذا كان دمك سلبيا , فمن الضروري أن نعرف ذلك لأنه قد يسبب مشاكل للجنين .
- كيف ذلك ؟
- إذا كان دم الطفل سلبيا , مثل أمه , فما من مشكلة . ولكن إذا كان إيجابيا , فقد يسبب له فقر دم شديد وسيكون علينا مراقبته بعناية بالغة . إذا تسربت أي خلية من خلايا دم الجنين الى دمك أنت أثناء الولادة , فسينتج جسمك مضادات تقاوم العناصر التي تحملها خلايا ذلك الدم . ويكمن الخطر إذن في أنه أثناء الحمل , قد تمر هذه المضادات عبر المشيمة وتهاجم أي دم إيجابي لجنين آخر قد تحملين به في المستقبل . وإن حدث ذلك أصيب الجنين بأمرض عدة كاليرقان وفقر الدم الحاد أو بتلف دماغ الجنين حتى .
- يا إلهي ! اليس لهذا علاج ؟ وهل تعني أن المرأة ذات الدم السلبي يجب ألا تخاطر بإنجاب طفل آخر ؟
- أبدا . الأمر ببساطة هو أننا نعطي الأم إبرة تمنع تشكل المضادات بعد كل ولادة . عند ذلك , لا يتعرض الطفل الثاني الذي ستنجبينه لأي خطر , ولكن يجب أن يوضع أي حمل آخر تحت المراقبة , طبعا .
- عملكم رائع , يا دكتور . فأنا لم أكن أعرف سبب أخذ الدم مني للفحص . وأنا أخاف من وخز الإبر , لكنني لم أعد أخافها بعد أن عرفت السبب . وسلامة الجنين تستحق ذلك , أليس كذلك ؟
أضاءت ابتسامة مشرقة وجه نيال وهو ينهض ويربت على يد الأم قائلا :
- هذا صحيح . وهو ثمن قليل لطفل صحيح الجسم . ستساعدك الممرضة هاريس على الاستعداد لكي أفحصك . إذا كان هناك ما تريدين معرفته , يا سيدة جارفيس , فاسأليني . فكلما توفرت لديك معلومات , كلما أصبح الأمر أسهل بالنسبة لك .. سأعود بعد لحظات ...
غادر غرفة الفحص , تاركا سارا تعد الأم الشابة للفحص كما تفعل مع كل امرأة تقصد العيادة للمرة الأولى .
لقد أدهشها الوقت الذي أمضاه في الشرح , فقد توقعت منه , أن يتصرف بشيء من الفظاظة مع المريضات ولكنه أظهر نحوهن تعاطفا بالغا ومداراة لمشاعرهن .
عادت لتعلمه بأن "هانا " جاهزة , وعندما رأته قطبت جبينها للحظة . كان يبدو غامضا , فتملكها عندها شعور بأنه رجل بارد للغاية يجيد السيطرة على نفسه , لكن بعد ساعات من العمل معه , وجدت نفسها تغير رأيها .
فوراء ذلك المظهر الجليدي , لاحظت الصبر والعطف والروح المرحة . وهذا ما جعلها تتساءل عن شخصية نيال الحقيقية . هل هو حقا ذلك الشخص العملي البارد الذي يصر على أن تجري الأمور كما يريد , أم أن شخصيته الحقيقية هي تلك التي يظهرها لمريضاته بحيث يريح أعصابهن بمهارة يفتقر اليها معظم الأطباء ؟ أم أنه ذلك الرجل الذي لمحته الليلة الماضية ؟ الرجل الساخر حتى من نفسه ؟
تنهدت وهي تتمنى لو تكتشف الجواب فيمكنها , حينذاك , أن تعالج مشاعرها المتضاربة . هل يمكنها أن تعرض نيال جيلسبي على إحدى الآلات , كما هو الحال عند شراء السكاكر أو الشوكولا أو غير ذلك , فتعطيها الآلة الجواب الذي يجعلها تفهم ردة فعلها نحوه؟
أوشكت أن تقنع نفسها بهذا الجواب , لكنها أدركت , عندما جاء , أن الأمر لن يكون أبدا بهذه السهولة . فنيال جيلسبي ليس ذلك الرجل الذي يسهل فهمه , فهو لا يسمح لأحد بالاقتراب منه عاطفيا بحيث يتمكن من معرفته جيدا .

sasa sasa 23-06-08 12:10 AM

تبدو جميله حبيبتى
شكرا لمجهودك
فى انتظار البقيه

love big 23-06-08 01:20 PM

ننتظر التكمله ولاتطووولين لاهنتي

saleee 23-06-08 03:58 PM

ألف شكر على مجهودك الرائع وفي انتظار التكملة

ما اطولي علينا

arewa 23-06-08 05:46 PM

3- في الذاكرة... دائما
-لم يبق سوى السيدة ديننغ .
ناولت سارا الملف لنيال جيلسبي ثم ابتسكت للمرأة المستلقية على سرير الفحص .
- كيف حالك يا جويس ؟ تبدين في أحسن حال !
- في قمة الازدهار .
وابتسمت جويس ديننغ وهي تحاول أن تستريح على السرير قدر إمكانها , نظرا لوصولها الى المرحلة الأخيرة من حملها . ضغطت بيديها على بطنها المنتفخة ثم قالت مكشرة :
- آه , كما ترين أخذ " سام " يرفس عندما استلقت أمه على السرير.
- " سام " ؟
ورفع الطبيب نظره بابتسامة , مقطبا جبينه عند سماعه ما قالته المرأة , وأدركت سارا لم يقرأ سوى سطور معدودة من ملف المرأة , وتساءلت عما إذا كان عليها أن تخبره بكل البيانات مسبقا . لكن , قبل أن تنطق بأي كلمة , أجابت المريضة على سؤاله وقد اعلت وجهها ابتسامة باهتة .
- نعم . نعرف أنه ذكر , يا دكتور جيلسبي . لقد أخبرونا بذلك عندما ظهرت نتيجة فحص السائل الأمنيوسي . وأظن أن ذلك ساعدنا على اتخاذ القرار المناسب , لا سيما بعد أن رتبت لنا سارا أمر الاجتماع بروبي .
قطب نيال جيلسبي جبينه مجددا وهو يعود الى تقليب الأوراق بسرعة . ورأته سارا يتوقف عندما وصل الى نتائج الاختبار الأمنيوسي الذي تخضع له الأمهات اللآتي تجاوزن الخامسة والثلاثين من العمر . ولهذا الاختبار أهمية قصوى , إذ يكشف التشوهات التي قد تصيب الجنين ومنها اصابة العمود الفقري . ولسوء الحظ , أظهر هذا الاختبار أن طفل جويس دننغ لن يولد طبيعيا .
وضع نيال أوراق المختبر جانبا ثم عقد ذراعيه وهو ينظر الى المريضة بهدوء .
ضحكت المرأة برقة رغم الحزن الذي بدا في عينيها , ثم قالت :
- كان الأمر بمثابة صدمة لنا . فلا أحد يود أن يعرف أَنَ طفله سيولد معاقا , اليس كذلك ؟ لقد حاولنا أنا ورالف , لسنوات أن ننجب طفلا , حتى لم يعد لدينا أمل في ذلك . وإذ بي فجأة اكتشف , وأنا في سن ارابعة والأربعين , انني حامل !
أمسكت سارا بيد جويس تشد عليها . لقد كانت حاضرة حين علم آل دننغ بالخبر , ولكم صدمت هي أيضا . وقد تركت شجاعتهما فيها أثرا عميقا .
وتابعت المرأة حديثها قائلة :
- لقد اصبنا بصدمة وذهول بالغين حين علمنا أن سام معاق ورحنا , نحن الاثنان , نبكي لمدة اسبوع بعد ان وصلتنا نتيجة الفحص كان حزني وذهولي بالغين حينذاك الى حد لم أعبأ فيه بمعرفة جنس الطفل وعدنا الى العيادة , فأخبرتنا سارا أن الطفل ذكر , فانقلبت كافة الموازين .
- وكيف ذلك ؟
كان نيال يصغي باهتمام الى ما تقوله المريضة . ورأته سارا يقطب جبينه محاولا فهمها قبل أن يبتسم فجأة ويقول :
- فهمت . لم يعد الطفل مجرد جنين بل أصبح طفلكما الذكر , اليس هذا ما تعنينه ؟
- نعم . اصبحنا بعد ذلك , نراه طفلا صغيرا ...
ومسحت جويس دمعة ثم ابتسمت وهي تنظر الى سارا :
- ثم رتبت لنا سارا موعدا للتعرف الى " روبي " ووالديه .
- ومن هو روبي ؟
طرح نيال هذا السؤال , وهو ينظر الى سارا التي احمر وجهها حين شعرت بنظراته الباردة تستقر عليها . تجنبت النظر اليه , وقالت :
- "روبي " هو ابن قابلة كانت تعمل هنا . واعاقته هي نفس اعاقة سام . وقد ولد بعد استلامي العمل بعدة أشهر . فلم يكن ثمة سبب يدفعها الى إجراء الاختبار . كانت في الثامنة والعشرين من عمرها , ولهذا لم تكن مصنفة من النساء المعرضات لذلك . لقد كادا , هي وزوجها " أيان " , ينهاران في البداية لكنهما ما لبثا أن تمالكا نفسيهما واعتادا الأمر .
وابتسمت سارا وهي تتابع : اتمنى لو ترى "روبي " .. عندها يمكنك أن تفهم . لأنه فتى بالغ الحيوية , وذكي جدا بالرغم من إعاقته . أنا لا أحاول الادعاء بأن الأمور طبيعية , وبأنهم لن يواجهوا مشاكل في المستقبل , لكنني أعرف أن لورا وزوجها لن يستطيعا العيش بدونه .
قال نيال ببطء :
- إنها سارا إذن التي عرفتكما بروبي ووالديه , مما خفف من هول المصاب عليكما ؟
حاولت سارا أن تفهم المعنى الذي حمله صوته , لكن استحال عليها ذلك . اتراه كان مدهوشا ؟ أم غاضبا ؟ هل يظن أنه ما كان عليها أن تتدخل ؟ لم تكن واثقة , لكنها لم تكن صماء , وقد سجل عقلها المعنى المبطن المبهم في صوته .
أبعدت هذه الأفكار عن ذهنها عندما أجابت جويس موجهة الحديث إليها :
- نعم . هذا ما فعلته يا سارا . لا شك لدي في ذلك ! فقد جعلتنا نرى أن المستقبل لا يكتنفه السواد فقط , وأدركنا أن بإمكاننا أن نواجه الآتي. إن رؤيتنا لروبي والبهجة التي يضفيها على حياة والديه , جعلت من السهل علينا التفكير في إبننا . وبدلا من أن نخجل بسام أمام الناس , أصبحنا نعتبره هدية غير عادية من الله بعد انتظار دام لسنوات .
منتديات ليلاس
- أظن أن رأيك هذا رائع , يا سيدة دننغ . إنني واثق من أنك وزوجك ستسعدان بهذا الطفل . ولآن دعيني أفحصك رغم أن طريقة رفس الطفل في بطنك تنبىء بأن لا داعي للقلق .
ضحكوا جميعا , وفحص نيال المرأة واستمع إلى دقات قلب الطفل وتحسس وضعه . ثم تراجع الى الوراء , بينما غطتها سارا بالملاءة وسألها :
- أنت .. في الأسبوع السابع والثلاثون الآن أليس كذلك ؟
وعندما أومأت جويس إيجابا , تابع يقول , وهو يدون ملاحظاته:
- حسنا أصبح رأس سام الآن في الوضعية المناسبة للخروج الى هذا العالم . ولعلك لاحظت تغييرا ما , منذ يوم أو نحوه .
- هذا صحيح . ظننتني أتخيل ذلك . لكن الرفس بدا وكأنه أخف من ذي قبل .
- لا لم تتخيلي ذلك . وستلاحظين تغييرات أخرى لاحقا , لكن لا تخافي , فقد لايعود سام الى الحركة كما كان يفعل وهذا لايعني أن هناك خطبا ما . كل مافي الأمر أنه لم يعد يستطيع تحريك جسمه بعد أن ثبت رأسه في وضعية الخروج . سيتمكن من تحريك ساقيه وذراعية ولكن ليس كمن يلعب كلرة القدم في داخلك ! وقد تشعرين ببعض الضيق أثناء جلوسك , لكن ذلك طبيعي في هذه المرحلة , انما اعلمي أن موعد خروجه اقترب .
وضحك وهو يغلق ماف جويس ويقول :
- سجلي موعدا لزيارتك التالية الأسبوع القادم , لكن لدي شعور أنك لن تحتاجيه .
غادر غرفة الفحص فيما بقيت سارا لتساعد جويس على النزول عن السرير . ولم تكن بالمهمة السهلة نظرا لحجم بطنها المنتفخ . تنهدت جيسون .
- حسنا إذن يا جيسون . سأعود وأطمئنك حالما أتمكن من ذلك .
وأسرعت سارا مبتعدة , وتركت الفتى يجلس على كرسي والتعاسة على وجهه . استقلت المصعد وهي تدعو الله ألا يكون الأوان قد فات بالنسبة للأم والطفل معا .
***
- ضغط الدم مئة وأربعين على خمسة وتسعين يا دكتور .
- حسنا , يجب أن نخفضه , وأن نعطيها دواء يمنع التشنجات .
أعطى نيال توجيهاته متجهما بعد أن انتهى من فحص المريضة , ثم سأل :
- متى بدأت هذه العوارض بحسب قول صديقها ؟
أجابت سارا بهدوء : " أمس بعد الظهر ".
- تبا لهم ! ولم يفكروا في نقلها الى هنا حتى الآن !
لم يحاول إخفاء غضبه وهو يستدير ليحملق فيها وكأنه يحملها مسؤولية حالة أرييل .
قابلت نظراته باتزان , متفهمة القنوط البلغ الذي سببته له هذه الحالة , فهذه الأمور ينبغي ألا تحدث في عصرنا هذا .
قالت له برقة :
- أشك أن أيا منهما يدرك مدى خطورة الأمر .
- أعلم هذا . آسف , فقد تملكني القنوط .
تنهد وهو يبتسم لها بأسى , ثم عاد الى إيرين التي كانت تراقب حالة أرييل . وابتعدت سارا لتعد الحقنة اللازمة , محاولة أن تهدىء دقات قلبها المتسارعة العنيفة . لقد أثرت فيها إبتسامة نيال تأثيرا بالغا , فانشغل بالها بها .
قالت إيرين وهي تفحص ضغط الجنين :
- لست راضية عما أرى , يا دكتور . يبدو أن نبضات قلب الجنين تتباطأ .
- دعيني أرى .
وأخذ نيال يفحصه بسرعة , ثم أضاف :
- هذا صحيح . الحالة غير مطمئنة على الإطلاق . أظننا بحاجة الى...
وسكت فجأة عندما صدرت عن أرييل شهقة , تصلبت على أثرها .
- هيا , إنها تتشنج . هيا الى العمل , علينا أن تعطيها أملاح
" الثيونبتون " لوقف التشنجات ثم نجري بعدها عملية قيصرية لإنقاذ الطفل .
وشرع الجميع بالعمل على الفور لإنقاذ حياة الأم والطفل .
حقنتها بالدواء وقلبها يعتصر على تلك الفتاة المستلقية غافلة عما يحدث لها . وبعد لحظات , استرخت أرييل وتباطأت أنفاسها وهي تغيب عن الوعي . وراحت أرييل تصلي كي ينجح الدواء في منع نوبة تشنج أخرى , ولكن لم يكن هناك أي ضمانات في هذه المرحلة.
- علينا أن نتجنب العدوى .
وقطب نيال حاجبيه وهو يرى مدى قذارة ساقي أرييل ثم تابع يقول:
- الله أعلم كيف وصلت الى هذه الحالة .
قالت ساترا وهي تنظف بطن الفتاة بحذر بمحلول مطهر :
- هناك مجموعة من رحالة " الجيل الجديد " تخيم في ضاحية المدينة , وهي معهم .
- هذا ليس عذرا . لقد عملت في بلاد كان الماء فيها أغلى من الذهب ومع ذلك كان الناس يحرصون على نظافة أجسادهم .
كانت لهجة نيال قاطعة وقد ظهر عليه الغضب من جديد .
ألقت عليه نظرة سريعة , متسائلة عن السبب الحقيقي لاستيائه .
بدا وكأنه ناشىء عن شعور أبعد من مجرد الاهتمام بحالة أرييل وكأن الخطر المحدق بالمريضة وطفلها يؤثر فيه شخصيا .
قطبت سارا جبينها , وتابعت عملها في تعقيم موضع العملية .
لقد ظنت من قبل أن نيال رجل غامض , والآن أصبح ظنها يقينا .
ما الذي جعل نيال جيلسبي ما هو عليه الآن ؟ وتمنت لو تكتشف الحقيقة , رغم أنها لم تستطع أن تفهم لما احتل هذا الرجل هذه الأهمية عندها

arewa 23-06-08 05:52 PM

الأحزان والأشجان .
***
- لكن لماذا لا أستطيع أن أراها ؟ أريد أن أطمئن على حالتها .
تنهدت سارا حين لاحظت أن الموجودين في غرفة الانتظار يتبادلون نظرات الضيق , فأشارت الى جيسون بأن يتبعها الى الممر , بعيدا عن مسامع الآخرين .
- ما زالت أرييل مريضة للغاية . وهي حاليا تحت تأثير المخدر ولن تعرفك . لقد تعرضت , لسوء الحظ , الى تشنج , ولا نريد أن يتكرر ذلك مرة ثانية , ولهذا منع عنها الدكتور جيلسبي الزيارات حاليا .
فردد قولها مذهولا :
- تشنج ؟ ... اتعنين نوعا من ... النوبة ؟
- نعم , وهذا نتيجة مرضها . عندما تستيقظ , يجب أن تتابع العلاج لفترة كي لا يصيبها المزيد من التشنج . ويمكن لأي إثارة أن تسبب لها نكسة وهذا ما نحاول تجنبه .
- فهمت . لكن ماذا عن المولود ؟ هل ... هل هو بخير ؟
وابتلع ريقه بجهد وقد بدا التكدر عليه . شعرت سارا بالعطف نحوه , لكن راحة الأم والطفلة كانت في أولوية اهتماماتها .
- انها في قسم العناية الفائقة , لقد اضطر الدكتور جيلسبي الى اجراء عملية قيصرية وإلا ماتت . انها صغيرة جدا لا تكاد تزن كيلو غراما ونصفا , كما تجد صعوبة في التنفس وهذا شيء عادي لدى الأطفال الذين يولدون قبل الأوان . الساعات القادمة ستكون حاسمة بالنسبة لها هي أيضا .
- هي ؟ هل هي أنثى ؟
وانهمرت دموعه دون خجل , على وجههوهو يضيف :
- كانت أرييل تقول أنها بنت صغيرة . أرادت أن تسميها " ستار " .
تمنت سارا لو تستطيع أن تطمئنه أكثر . لكنها لم تشأ أن يبني آمال خاطئة على محاولتها التخفيف عنه , فقالت له :
- انه اسم رائع . وسأجعل الممرضة تضعه على سريرها .
- شكرا أتظنين أن بإمكاني رؤيتها ؟
ومسح جيسون أنفه بكمه وحاول أن يبتسم . فأدركت سارا أن وراء هذه القذارة فم جميل الشكل وأضاف :
- آه , أعلم أنه لا يمكنني حملها , ولكن إذا ما رأيتها , فسأتمكن من وصفها لأرييل . فلا بد أنها تريد أن تعرف شكلها حالما تستيقظ .
- حسنا ...
تنهدت سارا وهي تنظر الى ثيابه ثم قالت له :
- اسمع يا جيسون . لا يمكنك أن تقترب من قسم العناية الفائقة وأنت بهذه الحالة . فالأطفال هناك ضعفاء جدا ولا يستطيعون مقاومة العدوى , ولعلك تحمل كافة أنواع الجراثيم .
احمر وجهه وهو يتأمل مظهره .
- آه , ولكن .. ماذا لو اغتسلت ولبست ثيابا نظيفة . فهل يمكنني رؤيتها ؟
أجابت مشجعة :
- طبعا يمكنك ذلك . هل لديك مكان يمكنك أن تغتسل فيه وأن تغير ملابسك ؟
- حسنا , لا .
وهز رأسه وقد انعكست على وجهه خيبة أمله , لكنه أضاف :
- هناك جدول ماء قرب معسكرنا . اما بالنسبة الى الملابس , فهذه التي أرتديها هي كل ما أملكه .
عضت سارا على شفتيها متسائلة عما إذا كان هناك أي حل . فبالرغم من مظهره الرث , كان واضحا أنه يحب أرييل والطفلة كثيرا . وقطبت حاجبيها حين خطرت لها فكرة , وتساءلت عن رأيه فيها , لكنها جازفت وطرحتها :
- هناك شخص قد يقبل بمساعدتك . إنكم تخيمون قرب الكنيسة , أليس كذلك ؟ ما رأيك لو اتصلت بالكاهن لأرى إن كان بإمكانه أن يساعدك ؟ إنه رجل طيب ويسعده أن يقدم العون .
فقال بمرارة :
- لا أدري ... لا أظنه يحب مساعدة أمثالي . فمعظم الناس يرفضون ذلك حين يروننا .
- ربما يمنعهم من ذلك مظهركم هذا .
ورمقته بنظرة ذات مغزى , وتأملت خصلات شعره المتشابكة المتدلية على جبهته .
كان مظهر جيسون كفيلا ببعث الحذر في نفس من يراه , وشكت للحظة بصوابية وفائدة ما اقترحت .ولكن حين أومأ موافقا , لم تجد أمامها خيارا آخر سوى تنفيذ وعدها .
توجهت الى المكتب واتصلت بالكاهن , الذي أطلعته بتردد على سبب إتصالها به . وكانت قد قابلته أكثر من مرة حين كان يحضر الى قسم الولادة زوجة الأسقف , ولاحظت أنه رجل متواضع جدا .
في أثناء المكالمة ابتسمت ذلك أنه عرض عليها خدماته على الفور ,
متجاهلا ما ذكرته حول مظهر جيسون .
أخبرها باختصار , أنه كان في الماضي كاهنا في مدينة داخل البلاد قبل أن ينتقل الى "دلفرستون " , وقد عمل مع المتشردين . لهذا , تعلم منذ مدة طويلة ألا يمنعه المظهر من خدمة الإنسان .
وعندما عادت الى جيسون لتخبره بما جرى , أخذ يشكرها بشكل مؤثر , ثم أسرع متوجها الى مقر الكاهن . راحت سارا تنظر اليه , والابتسامة تعلو وجهها فقد أدركت أن الكاهن كان محقا . فالمظهر لا يهم كثيرا , إنما جوهر المرء هو الأهم . وأعاد ذلك أفكارها الى نيال جيلسبي مجددا , وإن لم تكن هذه الأفكار قد ابتعدت عنه كثيرا .
***
- سأمر لاصطحابك في السابعة . اتفقنا ؟
- حسنا لا أدري ...
وكبحت سارا آهة وهي ترى تعابير وجه مايك . فرسمت ابتسامة على وجهها , محاولة تجاهل ألم قدميها وظهرها , وتابعت :
- بكل تأكيد . الى اللقاء فيما بعد , إذن .
- ممتاز .
وابتسم لها وهو ينطلق على دراجته النارية , التي أخافت مجموعة من الطيور فجعلتها تطير عن الأشجار . وتبعته سارا على مهل , متمنية لو تحلت بالشجاعة الكافية لتخبره بعدم رغبتها في مشاهدة الفيلم الليلة .
كانت تكره أن تخيب أمله , لكن عليها أن تفعل قريبا . فمن الأفضل أن تقطع علاقتها بمايك في القريب العاجل , لئلا يعتقد أن الأمور بينهما قد تتطور الى أبعد مما هي عليه .
وضاعت في أفكارها الى درجة لم تلحظ معها السيارة خلفها . ولم تلتفت إلا حين أصبحت بمحاذاتها , وإذا بقلبها يتخبط بين ضلوعها فالجلس خلف عجلة القيادة نيال جيلسبي .
توقف بجانبها ثم أنزل زجاج النافذة , وسألها :
- هل تريدين أن أوصلك ؟ أنا ذاهب في اتجاه بيتك .
- آه , أنا .. حسنا ...
أربكها عرضه هذا بحيث لم تعرف بما تجيب . وعلا بوق سيارة فنظر نيال خلفه بفروغ صبر , وقال


- هيا اصعدي . يبدو أنني تسببت بزحمة سير .
ولم يعد أمامها إلا أن تطيعه . ففتحت باب السيارة وصعدت اليها .
وانتظر حتى وضعت حزام الأمان ليخرج بالسيارة من البوابة , مخففا سرعته وهو يشق زحمة السير .
وجدت سارا نفسها مسترخية في مقعدها , وقد شعرت بالاستقرار وكأنها في أيد آمنه . لم يساورها هذا الشعور في المرات القليلة التي وافقت فيها على الركوب خلف مايك على دراجته النارية , بل كان يتملكها التوتر فتجد نفسها عاجزة عن التنفس .
- فيم تفكرين ؟
أجفلت , بارتباك حين لاحظت أنها مستغرقة في أحلام اليقظة . نظرت حولها , رافضة أن تسرد تفاصيل ما كانت تفكر فيه , وقالت:
- آسفة كنت على بعد أميال من هنا . هل أنت واثق من أنني لن أؤخرك عن مشاغلك ؟
- أبدا . فأنا أسكن قرب النهر , في منزل جاكسون القديم . هل تعرفينه ؟
سألته بعدم تصديق :
- لست واثقة ... أليس ذلك البيت الريفي القديم المتصدع ؟
- هو نفسه .
وضحك لذهولها ثم أضاف :
- أظنك تعتبرينني مجنونا لاختياري بيتا كهذا .
وسكتت لأنها لم تعرف ماذا تقول .
- حسنا ...
- أرى أن لباقتك هي فضيلة أخرى من فضائلك .
وابتسم وهو يستدير بالسيارة ليترك الطريق الرئيسي ويتوجه نحو وسط المدينة .
فسألته مستفهمة قبل أن تتمكن من ردع نفسها : " فضيلة أخرى ؟ ".
ثم احمر وجهها عندما أدركت معنى ما قالته , وأضافت على عجل:
- انس ما قلته , فأنا لا أسعى لسماع المديح .
- لست بحاجة لاجهاد نفسك في السعي , يا سارا . فقد عنيت ماقلته عصر هذا اليوم , عندما أعربت عن تقديري لمهارتك المهنية . كما أن من الواضح للجميع أنك لست ماهرة في مهنتك وحسب بل تهتمين كثيرا بمرضاك . وهذا نادر في أيامنا هذه , فالطب أصبح مهنة أكثر منه رسالة . أشاحت بوجهها خشية أن تفضح أساريرها سرورها بهذا الإطراء . لقد عنى لها هذا الرأي الكثير , لا سيما أنه صادر عنه .
قالت بسرعة :
- أنا أعشق مهنتي , وقد تمنيت أن أمارسها منذ طفولتي , وعندما للتدريب في قسم التوليد أثناء فترة تعليمي , أدركت أنني أريد أن أتخصص في هذا المجال . إذ يتملكني شعور رائع عند كل ولادة أحضرها .
ضحكت بخجل ثم أضافت :
- ما كان علي أن أخبرك بهذا كله . ما الذي جعلك تختار هذه الاختصاص دون غيره .
شد نيال قبضتيه على عجلة القيادة حتى أضحت أطراف أصابعه بيضاء :
- أسبابي تختلف عن اسبابك , يا سارا .
ولم يزد .. فكان أن ترك حامساحة صغيرة من الصمت المشحون بالأسئلة . ما الذي عناه بذلك ؟ لقد فضح صوته ... ما يشبه العذاب وهو يجيب عن سؤالها , ولم تعلم السبب .
عضت على شفتها حائرة , والشوق يدفعها الى أن تطلب منه تفسيرا . لكنها شعرت بأنه لا يريد الإفصاح عن أمر ما , فشكل هذا لغزا آخر يضاف الى سجل غموض هذا الرجل .
وهكذا عادت الى حديثهما السابق :
- ما الذي جعلك تشتري بيت جاكسون على أي حال , بينما يمكنك شراء أفضل منه ؟
- هذا صحيح . لكنني لم أجد ما أريده , كالأرض مثلا .
ورمقها بنظرة ثاقبة سريعة , فتملكها الاضطراب وهي تتساءل عما قرأه من الأفكار المتضاربة في ذهنها , بما في ذلك شعورها المشوش نحوه .. وأخذت تتشاغل بترتيب ثوبها , وسألته :
- أنت إذن تهوى البستنة ؟ فهل هذا سبب رغبتك في الأرض ؟ أم أن لديك أسرة وتريد أرضا واسعة ليلعب الأطفال ؟
- لا ز ليس لي أولاد أو زوجة .
قال ذلك بخشونة فرمقته بنظرة خاطفة لكن وجهه لم يفضح أي شعور أو تعبير .
أخذ نفسا عميقا , باذلا جهده , كما يبدو ليبعث المرح في صوته ومزاحه :
- على أي حال في حياتي أنثى ملحاحة في طلباتها , ولهذا بحثت عن مكان فسيح .
والتقت إليها باسما وهو يراها تفغر فمها دهشة ثم تابع يقول :
- أتريدين التعرف إليها يا سارا ؟ أظنكما ستنسجمان معا , وهذا إطراء حقيقي لك لأن هذه السيدة لا تنسجم أبدا مع الإناث الأخريات.
وضحك برقة مازحا ولم تدرك السبب . وتساءلت كيف يمكنها أن ترفض هذا العرض من دون أن تجعله يتساءل عن السبب . وفي الواقع , لم تجد فكرة التعرف الى تلك المرأة الهامة في حياة نيال , ممتعة لكن عندما رأت عينيه الضاحكتين , لم تشأ أن ترفض .
منتديات ليلاس
كانت تود أن تعرف شيئا عنه , لكنها أدركت أن ذلك لن يعجبها .
- هاهي واسمها " أدير " . ما رأيك فيها يا سارا ؟ هل هي جميلة كما توقعتها ؟
أدركت سارا أنه كان يمازحها , وهو يمد ذراعه بعد أن لبس القفاز ليحمي ذراعه
من مخالب ذلك الطائر الأحمر الضخم المخيف الذي جثم عليها .
قالت سارا وهي تجاهد للسيطرة على مشاعرها :
- إنها جميلة جدا ... أي نوع من الطيور هي ؟
- إنها صقر أحمر .
ومرر يده بلطف على رأس الطائر المزهو بنفسه وراح يبتسم وهو يجيبه بأصوات خفيفة , ثم قال :
- إنها عندي منذ ثلاث سنوات , ومن أجلها أردت أرضا فسيحة .
واستدار لينظر الى القفص الهائل الذي يعيش فيه الطائر , وتابع :
- تحتاج أديرالى مكان واسع , وطول هذا القفص خمسة وثلاثون قدما , أما ارتفاعه وعرضه فخمس عشرة قدما . وهذا ضروري لكي تمرن جناحيها حين لايكون لدي الوقت الكافي لأطلقها وتطير بحرية .
- لماذا اسميتها " أدير " ؟
طرحت سؤالها بصوت خفيض يماثل صوته هدوء ورقة وقد اقتربت من الطائر وصاحبه , وإذا برأس الطائر يلتفت نحوها على الفور , وترمقها عيناه بنظرة حادة ثاقبة .
- إنه لقب المحاربين من الهنود الحمر , وهذا يتناسب مع لونها وطريقة حصولي عليها .
فمدت يدها لتلمس ريشها الناعم وقالت باسمة :
- هذه قصة تثير الفضولوعليك أن تخبرني اياها , يا نيال .
فضحك بنعومة وأجاب :
- طبعا . وقع حادث لشاحنة تنقل البترول قرب المستشفى الذي كنت أعمل فيه . فاشتعلت النيران في مساحة واسعة من الأراضي المغطاة بالغابات , وحاصرت عددا من الأشخاص الذين كانوا يخيمون فيها حين ذاك . وقد تجند جميع العاملين في المستشفى لمواجهة ذلك , وطلب مني المشاركة , لا سيما أن إمرأة حامل في شهرها السابع , احتجزت تحت شجرة , وبدأت تلد طفلها بفعل الصدمة .
ارتجفت سارا وهي تتصور ما حدث , وعلقت قائلة :
- لا بد أن ذلك كان مرعبا . وهل عاش الطفل ؟
فهز نيال رأسه بحزن وأجاب :
- لا . لم أستطع أن أنقذه , فقد كان ميتا . كل ما استطعت أن أفعله هو المساعدة في إنقاذ الأم . لقد شعر الجميع بالحزن لذلك : محاربو الهنود الحمر , الفريق الطبي , الشرطة ... وفيما كنا نستعد للرحيل , لاحظت شيئا ملقى على الأرض . وكان طائرا ... فرخ طير في الواقع . كان لا يزال حيا لهذا حملته معي الى البيت , إذ لم أستطع احتمال فكرة تركه يموت .
- وذلك الفرخ كان " أدير " . وقد دعوتها بهذا الاسم لأنها نجت من نار البترول , وتيمنا بالهنود الحمر الذين يطفئون النار التي تشبفي آبار البترول في أنحاء البلاد , أليس كذلك ؟
ضحكت سارا برقة وقد تأثرت بهذه القصة . وابتسم هو وعاد ليمرر يده على رأس الطائر :
- هذا صحيح . اعتقدت في البداية أنها لن تعيش . كان علي أن أرعاها بنفسي , إذ لم أستطع أن أعيدها الى الغابة لئلا تموت . لهذا حبستها في القفص ورحت أطلقها لتطير كلما أمكنني ذلك . ويبدو أنها سعيدة هنا .
- وهي كذلك . كما أنها متملكة جدا .
وضحكت عندما ألقت " أدير " عليها نظرة جانبية , وأضافت :
- أظنها تشعر نحوك بحب التملك .
- أعلم ذلك . فهي لم تتعود أن يشاركها فيَّ أحد .
وأعاد الطائر الى مجثمه , ثم خلع القفاز لكي يتمكن من فتح باب القفص .
تبعته سارا , وانتظرت حتى أقفل الباب الداخلي قبل أن يفتح البوابة الخارجية . التفتت الى الخلف وراحت تتأمل أدير وهي تطير برشاقة في القفص لتحط بعد ذلك على غصن شجرة وضعت داخله بمهارة لتكون مجثما طبيعيا لها .
ما الذي عناه نيال بقوله إن " أدير " لم تعتد أن تشاركها أحد فيه ؟ ألم تمر في حياته امرأة منذ ثلاث سنوات ؟
بدا ذلك صعب التصديق , خاصة أن نيال جيلسبي رجل جذاب للغاية , تتهافت عليه النساء . لكن سارا أحست بانه نطق بالحقيقة , مما أذهلها . لماذا تجنب العلاقات مع النساء في السنوات الأخيرة ؟ هل لأنه اختار التركيز على عمله فقط ؟ أم أن هناك سببا آخر ؟
فيما كانت تتبعه عائدة الى السيارة قطبت جبينها محاولة أن تجد جوابا عن تساؤلاتها . بدا واضحا أن نيال مأخوذ بعمله بحيث تفهم أن الوقت لا يسمح له بإقامة علاقات اجتماعية . ومع ذلك أحسست بأن ثمة سببا آخر لاختياره هذه الحياة .
هل سبق أن كانت له علاقات عاطفية سببت له صدمة بالغة ؟ وهل هذا ما جعله يتجنب أي علاقة أخرى ويركز حياته على على عمله ؟
تملكها الأسى لهذه الفكرة . لابد أن نيال جيلسبي أحب
المرأة التي خذلته الى حد جعله يجد صعوبة في الالتزام بعلاقة أخرى , حتى بعد مرور سنوات . وبدا جليا أنه لن يخاطر في الارتباط بعلاقة غرامية أخرى .
عادت سارا الى السيارة وهي تتساءل طوال طريق العودة عن السبب الذي جعلها تشعر بالفراغ بعد أن راودتها هذه الفكرة .. حتى أنها لم تنتبه الى أن نيال كان صامتا طوال تلك المدة وحين أوقف السيارة أمام منزلها.
التفتت اليه لتشكره , لكنها فوجئت بنظراته الغريبة الموجه نحوها كانت دافئة ورقيقة. فتسمرت عيناها على نظراته وكأنها منومة مغناطيسيا وأخذ قلبها يخفق بين ضلوعها بشكل موجع . وأحست بأنه يريد أن يقول لها شيئا . فجأة انتهى السحرحين انتفض وأطلق تأوها وكأنه وعى الى ما كان سيفعله فتمالك نفسه وعاد يمسك
بعجلة القيادة وهو يقول لها :
- تصبحين على خير ياسارا .
شكرته بصوت خنقته المشاعر واسرعت بالخروج من السيارة صاعدة درجات المنزل. وأخذت تبحث عن المفتاح في الحقيبة وعندما وجدته دلفت الى المنزل مغلقة الباب خلفها مستندة بظهرها عليه وكأن وحوش العالم تلاحقها, همست :
- يا الهي ... ماذا أفعل

dora19 25-06-08 11:31 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته اااااااااااااارجوكي كمليااااااااااااا باين عليها جلوة كتبر

sasa sasa 27-06-08 05:45 AM

شكرا اروى
فى انتظار البقيه

وردة الياسمين 28-06-08 09:12 AM

حبيبتي ارجوكي تكمليها بسرعه عجبتني كتير ونريد نعرف التكمله يا عسل

arewa 29-06-08 07:50 PM

5- النبضات الهائمة



- كيف كان موعدك ؟ هل استمتعت بوقتك ؟
رددت سارا ببلادة : " موعدي ؟ " .
- الى السينما مع مايك . لا تقولي لي بأنك نسيت الأمر ؟
وضحكت إيرين وهي تلتقط مئزرا ثم أضافت :
- ربما هناك شخص آخر يشغل ذهنك ... كطبيبنا الوسيم نيال , مثلا؟
- لا طبعا . لا تكوني سخيفة . كل ما في الأمر أنني لم أفهم ما قصدته .
وعضت سارا على شفتيها وهي ترى نظرة إيرين , وتمنت لو أنها لم تتسرع بهذا الشكل لإنكار ماهو مجرد دعابة . لكنها أنكرت بعنف لأن في ما قالته إيرين شيئا من الحقيقة .
وتنهدت وهي تلتقط مئزرا آخر , واعترفت لنفسها بأسف بأنها لا تكاد تتذكر شيئا من سهرتها مع مايك داوسن , حتى أنها لا تتذكر اسم الفيلم الذي شاهداه . فقد احتل نيال جيلسبي تفكيرها كله , على مدار اليومين الماضيين , من لحظة استيقاظها صباحا , وحتى خلودها الى النوم مساءا .
لقد مضى يومان على حادثة لقائها الأخير بنيال . ولم تطلع سارا أحدا على الأمر , كما لم تكن لتفعل ذلك , خصوصا بعدما قالته إيرين لتوها .
كانت في إجازة منذ ذلك الحين , وقد أمضت وقتها في تنظيف منزلها الصغير المميز بشرفته . وشعرت , بطريقة ما , بالراحة بعد زيارتها تلك الى منزل نيال التي شوشت أفكارها . وقد توصلت في الليلة الماضية الى الى حل يقضي بأن تبتعد عنه لفترة من الزمن . وسيكون الأسبوع القادم فرصة سانحة لذلك , إذ ستستلم المناوبة ليلا لمدة خمسة أيام , ولن تصادفه غالبا , مما يمنحها بعض الوقت لتنظيم حياتها وتتوقف عن التفكير فيه طوال الوقت . لكنها أدركت الآن أن إقصاء نيال عن ذهنها لن يكون بهذه السهولة .
- حسنا , لا أظننا سنواجه أي مشاكلة حقيقية عدا عن ازعاج " تريشا " . فهي لم تتوقف عن الشكوى منذ أحضروها الى هنا .
فضحكت سارا وتبعتها الى داخل الغرفة , مصممة على أن تركز تفكيرها على عملها . نظرت المرأة الشابة المستلقية على السرير اليهما وما لبثت أن لوت شفتيها منزعجة .
- قلت لكم إنني أريد حقنة المسكن . فلماذا لم تعطوني إياها ؟
قالت إيرين :
- طلبت من الدكتورة " بيتل " أن تأتي لتفحصك , يا تريشا . وهي ستطلب من طبيب البنج أن يعطيك الحقنة إذا كنت تريدينها .
ردت تريشا بحدة وهي تحملق فيهما :
- طبعا أريدها . ولماذا أتحمل العذاب ؟
تقدمت سارا من السرير لتفحص مدى اتساع رحم المرأة . فوجدت أنه لم يصل بعد الى الثلاثة سنتيمترات , مما يعني أن المخاض ما زال في مرحلته الأولى , وأن الطلق سيكون قصيرا ومتباعدا قبل أن يتسع الرحم بما يكفي لولادة الطفل .
قالت تخفف عنها :
- كل شيء طبيعي يا تريشا . وإذا كنت تشعرين بحاجة ماسة الى مخدر , فأنا واثقة من أن الدكتورة " بيتل " سترضى بإعطائك . على أي حال , تعلمين أنه إذا ما خدر القسم الأسفل من جسدك , فلن تشعري بالطلق أليس كذلك ؟
حدقت تريشا فيها ببرودة , وأجابت :
- أعلم طبعا , فأنا لست غبية . ولهذا أريدها ! ألا يكفي أن هذا الطفل في أحشائي حتى يكون علي أن أتألم أيضا ... ؟
سكتت فجأة ثم صرخت :
- آوه ه ه ... افعلا شيئا من أجلي . أليس هذا هدف وجودكما هنا ؟
فرفعت إيرين حاجبيها قائلة لسارا :
- سأتصل مرة أخرى بمينا .
أومأت سارا تحاول أن تهدىء تريشا . ولم تكن هذه بالمهمة السهلة لأن المرأة كانت مصممة على تصعيب الأمور وتعقيدها . وتوالى الطلق , فشعرت بالراحة عندما جاءت الدكتورة مينا بيتل ووافقت على استدعاء طبيب البنج .
اتصلت سارا بالطبيب وإن كانت , على غرار إيرين , تفضل عدم اللجوء الى المخدر , الذي يراد منه ألا تشعر المرأة بالألم , ولكنه يمنعها من التجاوب مع الطلق بعد أن تفقد الإحساس بالقسم السفلي من جسمها .
على أي حال , عندما ترفض المرأة الاصغاء الى آراء الآخرين , يضطر الفريق الطبي الى النزول عند رغبتها , والعمل وفقا لرأيها .
وكان حقن هذه المرأة بالمخدر أشبه بالكابوس . فقد تعاونت إيرين وسارا معا كي تمنعا تريشا من الحركة أثناء حقنها بالإبرة بين فقرات العمود الفقري . ووجدت صعوبة في الاستلقاء على جنبها بسبب حملها , فلم تكف عن الصراخ وإطلاق الشتائم أثناء محاولتهم تقديم العون لها .
وعندما انتهى الأمر , تنهد طبيب البنج " جون ريدواي " , بارتياح , وقد ارتسمت على ملامحه الأحاسيس والأفكار التي يأبى الإفصاح عنها أمام المريضة .
وضحكت سارا عندما رأته في الممر خارج الغرفة , فراح يعبر عن تعاطفه معها لما ستواجهه مع هذه المريضة . لوحت بيدها وهو يتوجه نحو المصعد , لكن ابتسامتها ما لبثت أن بهتت عندما فتح باب المصعد ليخرج منه نيال . ومضت لحظة تلاقت فيها عيونهما , لحظة واحدة فقط , شعرت أثناءها أن حياتها كلها اختصرت فيها .
بدا وكأن عينيها تعلقتا بجاذبية خارجة عن سيطرتها . وحين حول عينيه مسرعا نحو الاتجاه المعاكس , شعرت وكأنها سقطت من السماء الى الأرض .
أخذت نفسا عميقا , وأدركت , فجأة أنها كانت قد حبست أنفاسها , وأن أعصابها توترت والحرارة سرت في كيانها . حتى إذا ما عادت الى الغرفة مضطربة , أفلت الباب من يدها فانصفق بعنف .
- هل أنت بخير يا سارا ؟
ظهر الاهتمام في صوت إيرين فجعلها تتخلص من السحر الذي أسرها . وارتسمت على شفتيها ابتسامة باهته , أدركت معها صعوبة التصرف بشكل طبيعي .
قالت وهي تلقي على تريشا نظرة تحمل معنى خفيا :
- أنا بخير , شكرا .
ضحكت إيرين , وهي تركز انتباهها على المريضة بعد أن اطمأنت الى حسن سير الأمور . ودنت منها سارا لتساعدها آملة أن تتمكن من ذلك .
هنالك خطأ ما ... أمر غير عادي يحدث لها . وقد بدأ ذلك منذ رأت نيال جيلسبي للمرة الأولى . ويزداد هذا الأمر سوءا يوما بعد يوم .
***
- انه صبي , يا تريشا . طفل جميل . هل تريدين حمله ؟
وانهت سارا ربط سرة الطفل ثم قدمته الى امه .
- آه لا ! ألا ترينه لزجا ومنتفخا ؟
وأغمضت تريشا عينيها وكأن منظر طفلها أثار اشمئزازها .
شعرت سارا برغبة مفاجئة في الإمساك بها وهزها بعنف , لكنها سيطرت على شعورها هذا . إن الولادة تؤثر في كل امرأة , ومن الخطأ أن تدين تريشا وهي في هذه الحالة من الإنهاك وتوتر الأعصاب .
لو كان معها أحد أثناء المخاض لأفادها ذلك , ولكن سارا لم تر أي شخص معها منذ أحضرتها سيارة الإسعاف . مما جعلها تتساءل عن مكان والد الطفل , وعما إذا كانا منفصلين . وهل هذا يفسر موقف تريشا من الطفل ؟
منتديات ليلاس
تنهدت لهذه الفكرة , ثم حملت الطفل الى الطاولة وأجرت له الفحوصات اللازمة , من وزن وقياس وطول ومحيط الرأس وسجلت التفاصيل في ملفه , فيما راح يتأملها برزانة المواليد الجدد , وكأنه عرف كل هذا من قبل .
ابتسمت سارا وهي تتحدث اليه برقة , ولاحظت محاولته للتركيز على وجهها . وكانت قد أعدت حوضا مليئا بماء دافىء لتحممه , فضحكت حين رأت وجهه يتغضن بعد أن غمرته بالماء برفق . وراحت تكلمه برقة :
- هيا ياحبيبي . أنت تحب ذلك , فهو أشبه برجوعك الى بطن أمك .
فقالت إيرين من خلفها :
- ربما أحسن . تخيليه مرتبطا بها لمدة تسعة أشهر .
فقالت سارا مؤنبة , وهي تكتم ضحكتها :
- هل هذه طريقة مناسبة للحديث عن الأم الجديدة ؟
فتنهدت إيرين وأجابت :
- آه , لا . لكنها الحقيقة . لقد خطر في بالي مرارا أن أصفع تلك السيدة الشابة , لا سيما عندما رأيت الطفل الرائع الذي أنجبته .
- بعض النساء يتلهفن للحصول على طفل بصحة جيدة مثله .
وأخفضت صوتها الى حد الهمس وهي تضيف :
- وضعت جويس بيننغ جنينها . وقد حضر الدكتور جيلسبي خصيصا ليكون بجانبها .
سألتها سارا بهدوء :
- هل هما بخير ؟ أعني جويس والطفل سام ؟
- بألف خير . سمعت أن المخاض لم يكن سهلا ولكنك تعرفين جويس , فقد تغلبت على ذلك . وطلبت هي وزوجها , أن ينفردا بالطفل لبعض الوقت قبل أخذه لاجراء الاختبارات اللازمة .
- وهل وافق نيا ... الدكتور جيلسبي على ذلك ؟
صححت سارا كلامها , وحاولت أن تتجاهل النظرة التي رمقتها بها إيرين .
- نعم , لماذا ؟ تبدو عليك الدهشة ؟
هزت سارا كتفيها , فقالت :
- آه , لاشيء . لكنه , في أول يوم عمل له هنا , عنفني لأنني لم ألتزم بالتعليمات حرفيا قبل أن أعطي الطفل لأمه .. أعني بالنسبة للوزن والقياس وغيره .. ويدهشني أنه سمح لجويس بذلك .
فضحكت إيرين وردت :
- استنادا الى معرفتي بك , أتصور أنك شرحت له وجهة نظرك في هذا الموضوع . ولعلك حاولت اقناعه بها .
ابتعدت إيرين عندما أخذت تريشا تنادي من سريرها بكآبة , طالبة جرعة ماء . فأنهت سارا غسل الطفل . محاولة تجاهل الزهو الذي شعرت به لاحتمال أن نيال أخذ بوجهة نظرها ..
تنهدت وهي تجفف الطفل بحذر , ثم وضعت حول معصمه وكاحله بطاقة تحدد هويته , من تراها تخدع ؟ إذا قرر نيال أن يخالف القوانين المتبعة في هذه الحالة , فالسبب يعود الى حالة جويس الخاصة , ولاعلاقة لها هي سارا هاريس , بالأمر .
***
- إنه رائع الجمال , يا جويس .
مررت جويس أُنمُلتها على خد سام . فتجاوب للمستها وأدار رأسه نحوها وقد رفع عينيه الى أعلى , يفتش بنهم عن الطعام .
- هممم ... إنه يعرف ما يريده , أليس كذلك ؟
وضحكت جويس وهي ترفعه من سريره وتقبل رأسه الأشقر . كانت أعاقته واضحة في انحراف عينيه وتسطح قسمات وجهه , لكن سارا أدركت أن أمه اعتادت هذه الفكرة أثناء حملها .
كانت جويس شديدة الاهتمام بصحة سام لأنه منغولي . فهؤلاء الأطفال يعانون من مشاكل مختلفة , في القلب وفي تكوين الأمعاء . لذا تلهفت سارا لمعرفت نتيجة الاختبارات , فسألتها , عندما فتحت قميص نومها لإرضاعه :
- كيف حاله , يا جويس ؟
- بأحسن حال . عاد الدكتور جيلسبي منذ وقت قصير ليعلمني بأن كل شيء طبيعي , من الناحية الجسدية على الأقل .
وابتسمت جويس وهي تضع سام على صدرها لإرضاعه .
- هذا حسن . لابد أن هذا الأمر قد أراحك .
- نعم . فقد كنت أنا ورالف , قلقين للغاية .
وتنهدت جويس وهي تتأمل سام الذي راح يرضع بنهم . وتابعت تقول :


- قد يظهر العيب لا حقا فلعله أصم , كمعضم الأطفال أمثاله . كما لا نعرف الى أي مستوى يمكنه أن يتعلم .
قالت سارا مشجعة :
- شهدت طرق تعليم أمثال سام من الأطفال تقدما ملحوظا .
والتفتت حين سمعت الباب يفتح , وشعرت بدم حار يتدفق في عروقها حين رأت نيال في الباب .
- هذا بالضبط ما قاله الدكتور جيلسبي .
وضحكت جويس وهي تنقل نظرها بين سارا والرجل الطويل الواقف في الباب ثم أضافت :
- اتراكما متفقين على ذلك ؟
فقال نيال باسما وهو يتقدم نحو السرير , رامقا سارا بنظرة ممازحة:
- لا أدري ماذا تعنين , يا جويس , ما الذي أقحمتني فيه يا سارا ؟
- كنت أخبر جويس بأن طرق تعليم الأطفال المنغوليين قد تطورت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة .
وارتجفت قليلا , محاولة تجاهل البهجة التي تملكتها حين يتحدث اليها بلهجتة الدافئة تلك , وتابعت تقول : " يبدو أنك قلت لها الشيء نفسه .
رد بهدوء : " هذا صحيح " .
وابتسم لها يضيف :
- فكرة واحدة في رأسين , أليس كذلك ؟
أدركت أن ما دار بينهما مجرد حديث قصير , لكن , مع ذلك , شعرت وكأنهما يتشاركان لحظة ذات دلالة عميقة .
ضحك وأضاف وهو يلتفت الى جويس قائلا :
- هناك طرق عديدة اليوم لمساعدة الأطفال المنغوليين على إكمال حياتهم بشكل طبيعي .
لم تسمع سارا جواب جويس . فقد اعتذرت بسرعة وخرجت من الغرفة باذلة جهدها للسيطرة على شعورها بخيبة الأمل الذي كاد يسحقها . ماذا جرى لها ؟ ولم هذا الشعور بالاحباط الذي تملكها لأن نيال لم يعن شيئا بتلك الملاحظة ؟ هل كان يقول الشيء نفسه لأي زميل له .
- أتراني قلت شيئا أزعجك , يا سارا ؟
استدارت بسرعة عندما سمعت صوت نيال خلفها . كان الممر معتما بعد أن خففت الأنوار بسبب الدوام الليلي , وتساءلت عما إذا
كان هذا السبب الذي جعلها عاجزة عن قراءة تعابير وجهه .
- لا . طبعا لا .
وضحكت ضحكة رنانة متوترة بحيث لم تكن مقنعة , فرأته يقطب حاجبيه .
- اسمعي يا سارا . إذا كان هناك ...
وسكت فجأة عندما توقف المصعد وخرج منه ممرض يدفع العربة التي استلقت عليها تريشا , بغية نقلها الى القسم . وتنبهت سارا لنظرة التأمل التي بدت على وجه صديقتها حين رأتها مع نيال , ولم تستطع احتمال التفكير في الأسئلة التي ستطرحها عليها لاحقا ! فقالت بسرعة :
- أنا ... علي أن أذهب . علي أن أطمئن الى أرييل قبل أن أعود الى الطابق السفلي , إذ يبدو أن الكثير من العمل ينتظرنا الليلة .
لم يحاول نيال أن يستبقيها وهي تسرع مبتعدة , ولكن لماذا يفعل ذلك ؟ طرحت على نفسها هذا السؤال ساخرة , فإنجازها لعملها بكفاءة هو كل ما يهمه .
وقفت خارج الغرفة حيث خصصت لأرييل ممرضة على مدار الأربع وعشرين ساعة . تنهت الى أن التفكير في نيال سبب لها بعض الألم وقررت التوقف عن ذلك . فقد بذلت ما يكفي من الجهد , للبحث في أعماق نفسها بما عقدت العزم عليه سابقا , أي تركيز تفكيرها على عملها .
لسوء حظها صادفت نيال الليلة , لكن كان عليها أن تدرك حقيقة الأمور ... فنيال جيلسبي زميلها في العمل فقط لا غير . ومدت يدها تدير مقبض الباب وهي تتمنى لو تقتنع بكل ذلك !
رفعهت الممرضة المخصصة للسهر على أرييل , رأسها عند دخول سارا , وهمست قائلة :
- هل جئت لفحص مريضتنا ؟
- نعم , كيف حالها ؟
أجابتها سارا همسا لئلا تزعج المريضة النائمة , ثم أمسكت بملفها ولم تتفاجأ حين رأت أنها لا تزال تعطى حقن الفاليوم في الوريد منذ يومين للحد من تأثير الإرجاج .
- هذا حسن . إنها أفضل حالا مما توقعته لها , عندما رأيتها للمرة الأولى . كانت المسكينة في حالة يرثى لها حينذاك . لكن ضغطها جيد , ولم تعد تنتابها نوبات التشنج .
فتثاءبت الممرضة ثم ضحكت , وقالت :
- في الواقع , لقد أعجبني العمل هنا . إذا احتجتم الى ممرضة خاصة مجددا , فضعوني في رأس القائمة ! لقد دهشت حين اتصلوا بي . فأنا أعرف الميزانية المحددة لهذا الغرض , وكلفة الممرضة الخاصة مرتفعة جدا والشخص الذي أقنع الإدارة بدفع أجرة ممرضة من الوكالة , شخص غير عادي دون شك .
أومأت سارا , وقد حارت في الجواب , ثم أعادت وضع الملف على حافة السرير وخرجت من الغرفة . نظرت الى الممر فلم تر أثرا لنيال . وتنهدت بعمق وهي تفكر في ما قالته الممرضة عن غير قصد . كان كلامها صحيحا , فنيال جيلسبي ليس شخص غير عادي في الواقع , وهذا جزء من مشكلتها .

***
هتفت سارا بحيرة وهي ترى الفتى السائر في الممر :
- كدت لا أعرفك .
كانت في طريقها الى غرفة الممرضات عندما رأت جيسون صديق إرييل . وقفت تطيل النظر اليه ولم تستطع منع نفسها من التعجب للتغيير البادي عليه بعدما اغتسل وارتدى ملابس نظيفة , فلم يعد ذاك الفتى الرث المظهر الذي رأته منذ بضعة أيام . كما اختفى ذلك الشعر الأشعث المتشابك الخصلات وحل محله هالة من الشعر الجعد البني الفاتح مضفية عليه مظهرا غريبا . أما الأوشام والقرطان في أذنيه فبدا وكأنه عاجز عن التخلص منها .
ومع ذلك , كان هذا تحسنا كبيرا يعكس استعداده للقيام بأي تغيير كي يتمكن من رؤية أرييل وإبنته .
سألته سارا وهي تسير الى جانبه في الممر :
- ماذا تفعل هنا في هذا الوقت الباكر ؟ لن تتمكن من رؤية أرييل الآن فهل جئت لترى " ستار " .
فقال بابتسامة عريضة ممزوجة بشيء من الخجل , وكأن تبدل مظهره يزعجه :
- نعم . لقد سمحوا لي بحملها في الأمس , لدقيقة واحدة فقط . وقالوا لي إنني إذا ما جئت باكرا فقد يسمحون لي بإطعامها .
فقالت سارا مشجعة :
- هذا حسن . إن وجودك مفيد جدا لتحسن صحة ستار . لقد اطمأننت عليها أثناء الليل , فأخبرتني الممرضات أن صحتها في تحسن مستمر .
ووقفت خارج العناية الفائقة لتتأمل من خلال الزجاج الأطفال المرضى , وكان عددهم خمسة . كانت ستار في حاضنة قرب النافذة فابتسمت سارا وهي ترى مدى تحسن مظهرها .
ففي الأيام الأولى , كانت ستار تتغذى من خلال أنابيب وضعت في أنفها , وهاهو جلدها قد فقد احمراره وأصبح لونه طبيعيا تقريبا لأنها اكتسبت بعض الوزن . كما أصبحت تتنفس الأوكسجين بانتظام عبر أنابيب دقيقة في أنفها . ولم تكن ترتدي سوى حفاض وقد لفت بمنشفة لتحفظ حرارة جسمها ووضعت على رأسها قلنسوة , رأت سارا من تحت طرفها خصلة

شعر حمراء فضحكت مسرورة , وسألت :
- ممن ورثت ابنتك الشعر الأحمر ؟
فرد باختصار : " من أمي " .
- وهل تعلم بأمر ستار ؟
- لا . فهي لن تهتم بذلك .
بدا التمرد في عينيه لكنه لم يستطع إخفاء ألمه , حين أضاف :
- لم تعد تهتم بكل ما أفعله منذ تزوجت من جديد .
وابتسم لها بتوتر ثم توجه الى الجرس يقرعه .
تنهدت سارا وهي ترى الممرضة تدخله الى الغرفة , ثم تابعت طريقها في الممر . تبا لمثل هذه الأم إذا ما صح كلام جيسون ! فهي لا تستطيع العيش بعيدا عن أسرتها بهذا الشكل , وبالرغم من أن والديها يعيشان في الطرف الآخر من البلاد , إلا أنها واثقة من أنهما سيساندانها حالما يشعران بحاجتها اليهما ...
شهقت حين اصطدمت بجسد صلب , أمسك بها على الفور بعد أن كادت تقع وقال : " هل أنت بخير؟ " .
- أظن ذلك ...
وأخذت نفسا عميقا , لكن هذا المقدار من الهواء لم يكفها , لأنها بكل بساطة تحدق في وجه نيال جيلسبي القلق . ووجدت نفسها تتساءل عما إذا كان على الأرض كلها ما يكفي من الهواء ليهدىء أعصابها وأنفاسها المتسارعة .
راح قلبها يتخبط بين ضلوعها , وهي تجاهد لتتمالك نفسها , تخلصت من يده المحيطة بخصرها وقالت :
- آسفة ... لم أرك .
- هذا ما لاحظته .
ارتجفت سارا إذ سرت القشعريرة في جسمها . وأدركت على الفور أن نيال شعر بردة فعلها إذ سألها بصوت متهدج بعث الاضطراب في نفسها .
- أظنك ستغادرين الآن بعد أن أنهيت عملك ؟
- ن ... نعم .كانت ليلة حافلة , وأنا أتطلع بشوق الى سريري في البيت .
وحاولت أن تبتسم مضيفة :
- آسفة على اصطدامي بك بهذا الشكل . يجب أن أنتبه لخطواتي في المستقبل .
فقال بفروغ صبر , وقد ظهر على وجهه تعبير غريب :
- اسمعي يا سارا , أنا ...
- سارا ! هذا رائع . لقد أدركتك .
سكت نيال فجأة حين رأى مايك متجها نحوهما بسرعة . ولا حظت سارا أن وجهه عاد ليكتسي قناعه المعتاد . وما إن وصل مايك حتى أخذ ينقل نظراته بينهما مترددا :
- عفوا , لم أقصد قطع حديثكما , لكنني كنت أتساءل عما إذا كنت تريدين أن أقلك الى بيتك , يا سارا .
- نعم , شكرا يا مايك . هذا عظيم .
استطاعت بشكل ما , أن تحافظ على هدوء صوتها , لكن نبضات قلبها تسارعت بعنف . رمقت نيال بنظرة سريعة , متسائلة عما كان سيقوله قبل هذه المقاطعة . لكن ملامحه الجامدة لم تفصح عن أي شيء وهو يعتذر منهما بهدوء ليتركهما وحيدين .
- هل أنت جاهزة ؟ إذا كانت ليلتك متعبة كليلتي , فلا بد أنك متلهفة للوصول الى بيتك .
- هذا صحيح . هيا بنا , إذن .
واتجها نحو باب الخروج , وعندما انطلقت بهما الدراجة في شوارع المدينة أغمضت عينيها وهي تتساءل مرة أخرى عما كان نيال سيقوله ... وتنهدت متعبة , وقد أدركت أنها عادت الى ما كانت عليه من قبل , فصممت على أن تتوقف عن التفكير فيه طوال الوقت .

arewa 29-06-08 07:53 PM

5- النبضات الهائمة



- كيف كان موعدك ؟ هل استمتعت بوقتك ؟
رددت سارا ببلادة : " موعدي ؟ " .
- الى السينما مع مايك . لا تقولي لي بأنك نسيت الأمر ؟
وضحكت إيرين وهي تلتقط مئزرا ثم أضافت :
- ربما هناك شخص آخر يشغل ذهنك ... كطبيبنا الوسيم نيال , مثلا؟
- لا طبعا . لا تكوني سخيفة . كل ما في الأمر أنني لم أفهم ما قصدته .
وعضت سارا على شفتيها وهي ترى نظرة إيرين , وتمنت لو أنها لم تتسرع بهذا الشكل لإنكار ماهو مجرد دعابة . لكنها أنكرت بعنف لأن في ما قالته إيرين شيئا من الحقيقة .
منتديات ليلاس
وتنهدت وهي تلتقط مئزرا آخر , واعترفت لنفسها بأسف بأنها لا تكاد تتذكر شيئا من سهرتها مع مايك داوسن , حتى أنها لا تتذكر اسم الفيلم الذي شاهداه . فقد احتل نيال جيلسبي تفكيرها كله , على مدار اليومين الماضيين , من لحظة استيقاظها صباحا , وحتى خلودها الى النوم مساءا .
لقد مضى يومان على حادثة لقائها الأخير بنيال . ولم تطلع سارا أحدا على الأمر , كما لم تكن لتفعل ذلك , خصوصا بعدما قالته إيرين لتوها .
كانت في إجازة منذ ذلك الحين , وقد أمضت وقتها في تنظيف منزلها الصغير المميز بشرفته . وشعرت , بطريقة ما , بالراحة بعد زيارتها تلك الى منزل نيال التي شوشت أفكارها . وقد توصلت في الليلة الماضية الى الى حل يقضي بأن تبتعد عنه لفترة من الزمن . وسيكون الأسبوع القادم فرصة سانحة لذلك , إذ ستستلم المناوبة ليلا لمدة خمسة أيام , ولن تصادفه غالبا , مما يمنحها بعض الوقت لتنظيم حياتها وتتوقف عن التفكير فيه طوال الوقت . لكنها أدركت الآن أن إقصاء نيال عن ذهنها لن يكون بهذه السهولة .
- حسنا , لا أظننا سنواجه أي مشاكلة حقيقية عدا عن ازعاج " تريشا " . فهي لم تتوقف عن الشكوى منذ أحضروها الى هنا .
فضحكت سارا وتبعتها الى داخل الغرفة , مصممة على أن تركز تفكيرها على عملها . نظرت المرأة الشابة المستلقية على السرير اليهما وما لبثت أن لوت شفتيها منزعجة .
- قلت لكم إنني أريد حقنة المسكن . فلماذا لم تعطوني إياها ؟
قالت إيرين :
- طلبت من الدكتورة " بيتل " أن تأتي لتفحصك , يا تريشا . وهي ستطلب من طبيب البنج أن يعطيك الحقنة إذا كنت تريدينها .
ردت تريشا بحدة وهي تحملق فيهما :
- طبعا أريدها . ولماذا أتحمل العذاب ؟
تقدمت سارا من السرير لتفحص مدى اتساع رحم المرأة . فوجدت أنه لم يصل بعد الى الثلاثة سنتيمترات , مما يعني أن المخاض ما زال في مرحلته الأولى , وأن الطلق سيكون قصيرا ومتباعدا قبل أن يتسع الرحم بما يكفي لولادة الطفل .
قالت تخفف عنها :
- كل شيء طبيعي يا تريشا . وإذا كنت تشعرين بحاجة ماسة الى مخدر , فأنا واثقة من أن الدكتورة " بيتل " سترضى بإعطائك . على أي حال , تعلمين أنه إذا ما خدر القسم الأسفل من جسدك , فلن تشعري بالطلق أليس كذلك ؟
حدقت تريشا فيها ببرودة , وأجابت :
- أعلم طبعا , فأنا لست غبية . ولهذا أريدها ! ألا يكفي أن هذا الطفل في أحشائي حتى يكون علي أن أتألم أيضا ... ؟
سكتت فجأة ثم صرخت :
- آوه ه ه ... افعلا شيئا من أجلي . أليس هذا هدف وجودكما هنا ؟
فرفعت إيرين حاجبيها قائلة لسارا :
- سأتصل مرة أخرى بمينا .
أومأت سارا تحاول أن تهدىء تريشا . ولم تكن هذه بالمهمة السهلة لأن المرأة كانت مصممة على تصعيب الأمور وتعقيدها . وتوالى الطلق , فشعرت بالراحة عندما جاءت الدكتورة مينا بيتل ووافقت على استدعاء طبيب البنج .
اتصلت سارا بالطبيب وإن كانت , على غرار إيرين , تفضل عدم اللجوء الى المخدر , الذي يراد منه ألا تشعر المرأة بالألم , ولكنه يمنعها من التجاوب مع الطلق بعد أن تفقد الإحساس بالقسم السفلي من جسمها .
على أي حال , عندما ترفض المرأة الاصغاء الى آراء الآخرين , يضطر الفريق الطبي الى النزول عند رغبتها , والعمل وفقا لرأيها .
وكان حقن هذه المرأة بالمخدر أشبه بالكابوس . فقد تعاونت إيرين وسارا معا كي تمنعا تريشا من الحركة أثناء حقنها بالإبرة بين فقرات العمود الفقري . ووجدت صعوبة في الاستلقاء على جنبها بسبب حملها , فلم تكف عن الصراخ وإطلاق الشتائم أثناء محاولتهم تقديم العون لها .
وعندما انتهى الأمر , تنهد طبيب البنج " جون ريدواي " , بارتياح , وقد ارتسمت على ملامحه الأحاسيس والأفكار التي يأبى الإفصاح عنها أمام المريضة .
وضحكت سارا عندما رأته في الممر خارج الغرفة , فراح يعبر عن تعاطفه معها لما ستواجهه مع هذه المريضة . لوحت بيدها وهو يتوجه نحو المصعد , لكن ابتسامتها ما لبثت أن بهتت عندما فتح باب المصعد ليخرج منه نيال . ومضت لحظة تلاقت فيها عيونهما , لحظة واحدة فقط , شعرت أثناءها أن حياتها كلها اختصرت فيها .
بدا وكأن عينيها تعلقتا بجاذبية خارجة عن سيطرتها . وحين حول عينيه مسرعا نحو الاتجاه المعاكس , شعرت وكأنها سقطت من السماء الى الأرض .
أخذت نفسا عميقا , وأدركت , فجأة أنها كانت قد حبست أنفاسها , وأن أعصابها توترت والحرارة سرت في كيانها . حتى إذا ما عادت الى الغرفة مضطربة , أفلت الباب من يدها فانصفق بعنف .
- هل أنت بخير يا سارا ؟
ظهر الاهتمام في صوت إيرين فجعلها تتخلص من السحر الذي أسرها . وارتسمت على شفتيها ابتسامة باهته , أدركت معها صعوبة التصرف بشكل طبيعي .
قالت وهي تلقي على تريشا نظرة تحمل معنى خفيا :
- أنا بخير , شكرا .
ضحكت إيرين , وهي تركز انتباهها على المريضة بعد أن اطمأنت الى حسن سير الأمور . ودنت منها سارا لتساعدها آملة أن تتمكن من ذلك .
هنالك خطأ ما ... أمر غير عادي يحدث لها . وقد بدأ ذلك منذ رأت نيال جيلسبي للمرة الأولى . ويزداد هذا الأمر سوءا يوما بعد يوم .
***
- انه صبي , يا تريشا . طفل جميل . هل تريدين حمله ؟
وانهت سارا ربط سرة الطفل ثم قدمته الى امه .
- آه لا ! ألا ترينه لزجا ومنتفخا ؟
وأغمضت تريشا عينيها وكأن منظر طفلها أثار اشمئزازها .
شعرت سارا برغبة مفاجئة في الإمساك بها وهزها بعنف , لكنها سيطرت على شعورها هذا . إن الولادة تؤثر في كل امرأة , ومن الخطأ أن تدين تريشا وهي في هذه الحالة من الإنهاك وتوتر الأعصاب .
لو كان معها أحد أثناء المخاض لأفادها ذلك , ولكن سارا لم تر أي شخص معها منذ أحضرتها سيارة الإسعاف . مما جعلها تتساءل عن مكان والد الطفل , وعما إذا كانا منفصلين . وهل هذا يفسر موقف تريشا من الطفل ؟
تنهدت لهذه الفكرة , ثم حملت الطفل الى الطاولة وأجرت له الفحوصات اللازمة , من وزن وقياس وطول ومحيط الرأس وسجلت التفاصيل في ملفه , فيما راح يتأملها برزانة المواليد الجدد , وكأنه عرف كل هذا من قبل .
ابتسمت سارا وهي تتحدث اليه برقة , ولاحظت محاولته للتركيز على وجهها . وكانت قد أعدت حوضا مليئا بماء دافىء لتحممه , فضحكت حين رأت وجهه يتغضن بعد أن غمرته بالماء برفق . وراحت تكلمه برقة :
- هيا ياحبيبي . أنت تحب ذلك , فهو أشبه برجوعك الى بطن أمك .
فقالت إيرين من خلفها :
- ربما أحسن . تخيليه مرتبطا بها لمدة تسعة أشهر .
فقالت سارا مؤنبة , وهي تكتم ضحكتها :
- هل هذه طريقة مناسبة للحديث عن الأم الجديدة ؟
فتنهدت إيرين وأجابت :
- آه , لا . لكنها الحقيقة . لقد خطر في بالي مرارا أن أصفع تلك السيدة الشابة , لا سيما عندما رأيت الطفل الرائع الذي أنجبته .
- بعض النساء يتلهفن للحصول على طفل بصحة جيدة مثله .
وأخفضت صوتها الى حد الهمس وهي تضيف :
- وضعت جويس بيننغ جنينها . وقد حضر الدكتور جيلسبي خصيصا ليكون بجانبها .
سألتها سارا بهدوء :
- هل هما بخير ؟ أعني جويس والطفل سام ؟
- بألف خير . سمعت أن المخاض لم يكن سهلا ولكنك تعرفين جويس , فقد تغلبت على ذلك . وطلبت هي وزوجها , أن ينفردا بالطفل لبعض الوقت قبل أخذه لاجراء الاختبارات اللازمة .
- وهل وافق نيا ... الدكتور جيلسبي على ذلك ؟
صححت سارا كلامها , وحاولت أن تتجاهل النظرة التي رمقتها بها إيرين .
- نعم , لماذا ؟ تبدو عليك الدهشة ؟
هزت سارا كتفيها , فقالت :
- آه , لاشيء . لكنه , في أول يوم عمل له هنا , عنفني لأنني لم ألتزم بالتعليمات حرفيا قبل أن أعطي الطفل لأمه .. أعني بالنسبة للوزن والقياس وغيره .. ويدهشني أنه سمح لجويس بذلك .
فضحكت إيرين وردت :
- استنادا الى معرفتي بك , أتصور أنك شرحت له وجهة نظرك في هذا الموضوع . ولعلك حاولت اقناعه بها .
ابتعدت إيرين عندما أخذت تريشا تنادي من سريرها بكآبة , طالبة جرعة ماء . فأنهت سارا غسل الطفل . محاولة تجاهل الزهو الذي شعرت به لاحتمال أن نيال أخذ بوجهة نظرها ..
تنهدت وهي تجفف الطفل بحذر , ثم وضعت حول معصمه وكاحله بطاقة تحدد هويته , من تراها تخدع ؟ إذا قرر نيال أن يخالف القوانين المتبعة في هذه الحالة , فالسبب يعود الى حالة جويس الخاصة , ولاعلاقة لها هي سارا هاريس , بالأمر .
***
- إنه رائع الجمال , يا جويس .
مررت جويس أُنمُلتها على خد سام . فتجاوب للمستها وأدار رأسه نحوها وقد رفع عينيه الى أعلى , يفتش بنهم عن الطعام .
- هممم ... إنه يعرف ما يريده , أليس كذلك ؟
وضحكت جويس وهي ترفعه من سريره وتقبل رأسه الأشقر . كانت أعاقته واضحة في انحراف عينيه وتسطح قسمات وجهه , لكن سارا أدركت أن أمه اعتادت هذه الفكرة أثناء حملها .
كانت جويس شديدة الاهتمام بصحة سام لأنه منغولي . فهؤلاء الأطفال يعانون من مشاكل مختلفة , في القلب وفي تكوين الأمعاء . لذا تلهفت سارا لمعرفت نتيجة الاختبارات , فسألتها , عندما فتحت قميص نومها لإرضاعه :
- كيف حاله , يا جويس ؟
- بأحسن حال . عاد الدكتور جيلسبي منذ وقت قصير ليعلمني بأن كل شيء طبيعي , من الناحية الجسدية على الأقل .
وابتسمت جويس وهي تضع سام على صدرها لإرضاعه .
- هذا حسن . لابد أن هذا الأمر قد أراحك .
- نعم . فقد كنت أنا ورالف , قلقين للغاية .
وتنهدت جويس وهي تتأمل سام الذي راح يرضع بنهم . وتابعت تقول :
- قد يظهر العيب لا حقا فلعله أصم , كمعضم الأطفال أمثاله . كما لا نعرف الى أي مستوى يمكنه أن يتعلم .
قالت سارا مشجعة :
- شهدت طرق تعليم أمثال سام من الأطفال تقدما ملحوظا .
والتفتت حين سمعت الباب يفتح , وشعرت بدم حار يتدفق في عروقها حين رأت نيال في الباب .
- هذا بالضبط ما قاله الدكتور جيلسبي .
وضحكت جويس وهي تنقل نظرها بين سارا والرجل الطويل الواقف في الباب ثم أضافت :
- اتراكما متفقين على ذلك ؟
فقال نيال باسما وهو يتقدم نحو السرير , رامقا سارا بنظرة ممازحة:
- لا أدري ماذا تعنين , يا جويس , ما الذي أقحمتني فيه يا سارا ؟
- كنت أخبر جويس بأن طرق تعليم الأطفال المنغوليين قد تطورت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة .
وارتجفت قليلا , محاولة تجاهل البهجة التي تملكتها حين يتحدث اليها بلهجتة الدافئة تلك , وتابعت تقول : " يبدو أنك قلت لها الشيء نفسه .
رد بهدوء : " هذا صحيح " .
وابتسم لها يضيف :
- فكرة واحدة في رأسين , أليس كذلك ؟
أدركت أن ما دار بينهما مجرد حديث قصير , لكن , مع ذلك , شعرت وكأنهما يتشاركان لحظة ذات دلالة عميقة .
ضحك وأضاف وهو يلتفت الى جويس قائلا :
- هناك طرق عديدة اليوم لمساعدة الأطفال المنغوليين على إكمال حياتهم بشكل طبيعي .
لم تسمع سارا جواب جويس . فقد اعتذرت بسرعة وخرجت من الغرفة باذلة جهدها للسيطرة على شعورها بخيبة الأمل الذي كاد يسحقها . ماذا جرى لها ؟ ولم هذا الشعور بالاحباط الذي تملكها لأن نيال لم يعن شيئا بتلك الملاحظة ؟ هل كان يقول الشيء نفسه لأي زميل له .
- أتراني قلت شيئا أزعجك , يا سارا ؟
استدارت بسرعة عندما سمعت صوت نيال خلفها . كان الممر معتما بعد أن خففت الأنوار بسبب الدوام الليلي , وتساءلت عما إذا
كان هذا السبب الذي جعلها عاجزة عن قراءة تعابير وجهه .
- لا . طبعا لا .
وضحكت ضحكة رنانة متوترة بحيث لم تكن مقنعة , فرأته يقطب حاجبيه .
- اسمعي يا سارا . إذا كان هناك ...
وسكت فجأة عندما توقف المصعد وخرج منه ممرض يدفع العربة التي استلقت عليها تريشا , بغية نقلها الى القسم . وتنبهت سارا لنظرة التأمل التي بدت على وجه صديقتها حين رأتها مع نيال , ولم تستطع احتمال التفكير في الأسئلة التي ستطرحها عليها لاحقا ! فقالت بسرعة :
- أنا ... علي أن أذهب . علي أن أطمئن الى أرييل قبل أن أعود الى الطابق السفلي , إذ يبدو أن الكثير من العمل ينتظرنا الليلة .
لم يحاول نيال أن يستبقيها وهي تسرع مبتعدة , ولكن لماذا يفعل ذلك ؟ طرحت على نفسها هذا السؤال ساخرة , فإنجازها لعملها بكفاءة هو كل ما يهمه .
وقفت خارج الغرفة حيث خصصت لأرييل ممرضة على مدار الأربع وعشرين ساعة . تنهت الى أن التفكير في نيال سبب لها بعض الألم وقررت التوقف عن ذلك . فقد بذلت ما يكفي من الجهد , للبحث في أعماق نفسها بما عقدت العزم عليه سابقا , أي تركيز تفكيرها على عملها .
لسوء حظها صادفت نيال الليلة , لكن كان عليها أن تدرك حقيقة الأمور ... فنيال جيلسبي زميلها في العمل فقط لا غير . ومدت يدها تدير مقبض الباب وهي تتمنى لو تقتنع بكل ذلك !
رفعهت الممرضة المخصصة للسهر على أرييل , رأسها عند دخول سارا , وهمست قائلة :
- هل جئت لفحص مريضتنا ؟
- نعم , كيف حالها ؟
أجابتها سارا همسا لئلا تزعج المريضة النائمة , ثم أمسكت بملفها ولم تتفاجأ حين رأت أنها لا تزال تعطى حقن الفاليوم في الوريد منذ يومين للحد من تأثير الإرجاج .
- هذا حسن . إنها أفضل حالا مما توقعته لها , عندما رأيتها للمرة الأولى . كانت المسكينة في حالة يرثى لها حينذاك . لكن ضغطها جيد , ولم تعد تنتابها نوبات التشنج .
فتثاءبت الممرضة ثم ضحكت , وقالت :
- في الواقع , لقد أعجبني العمل هنا . إذا احتجتم الى ممرضة خاصة مجددا , فضعوني في رأس القائمة ! لقد دهشت حين اتصلوا بي . فأنا أعرف الميزانية المحددة لهذا الغرض , وكلفة الممرضة الخاصة مرتفعة جدا والشخص الذي أقنع الإدارة بدفع أجرة ممرضة من الوكالة , شخص غير عادي دون شك .
أومأت سارا , وقد حارت في الجواب , ثم أعادت وضع الملف على حافة السرير وخرجت من الغرفة . نظرت الى الممر فلم تر أثرا لنيال . وتنهدت بعمق وهي تفكر في ما قالته الممرضة عن غير قصد . كان كلامها صحيحا , فنيال جيلسبي ليس شخص غير عادي في الواقع , وهذا جزء من مشكلتها .

***
هتفت سارا بحيرة وهي ترى الفتى السائر في الممر :
- كدت لا أعرفك .
كانت في طريقها الى غرفة الممرضات عندما رأت جيسون صديق إرييل . وقفت تطيل النظر اليه ولم تستطع منع نفسها من التعجب للتغيير البادي عليه بعدما اغتسل وارتدى ملابس نظيفة , فلم يعد ذاك الفتى الرث المظهر الذي رأته منذ بضعة أيام . كما اختفى ذلك الشعر الأشعث المتشابك الخصلات وحل محله هالة من الشعر الجعد البني الفاتح مضفية عليه مظهرا غريبا . أما الأوشام والقرطان في أذنيه فبدا وكأنه عاجز عن التخلص منها .
ومع ذلك , كان هذا تحسنا كبيرا يعكس استعداده للقيام بأي تغيير كي يتمكن من رؤية أرييل وإبنته .
سألته سارا وهي تسير الى جانبه في الممر :
- ماذا تفعل هنا في هذا الوقت الباكر ؟ لن تتمكن من رؤية أرييل الآن فهل جئت لترى " ستار " .
فقال بابتسامة عريضة ممزوجة بشيء من الخجل , وكأن تبدل مظهره يزعجه :
- نعم . لقد سمحوا لي بحملها في الأمس , لدقيقة واحدة فقط . وقالوا لي إنني إذا ما جئت باكرا فقد يسمحون لي بإطعامها .
فقالت سارا مشجعة :
- هذا حسن . إن وجودك مفيد جدا لتحسن صحة ستار . لقد اطمأننت عليها أثناء الليل , فأخبرتني الممرضات أن صحتها في تحسن مستمر .
ووقفت خارج العناية الفائقة لتتأمل من خلال الزجاج الأطفال المرضى , وكان عددهم خمسة . كانت ستار في حاضنة قرب النافذة فابتسمت سارا وهي ترى مدى تحسن مظهرها .
ففي الأيام الأولى , كانت ستار تتغذى من خلال أنابيب وضعت في أنفها , وهاهو جلدها قد فقد احمراره وأصبح لونه طبيعيا تقريبا لأنها اكتسبت بعض الوزن . كما أصبحت تتنفس الأوكسجين بانتظام عبر أنابيب دقيقة في أنفها . ولم تكن ترتدي سوى حفاض وقد لفت بمنشفة لتحفظ حرارة جسمها ووضعت على رأسها قلنسوة , رأت سارا من تحت طرفها خصلة شعر حمراء فضحكت مسرورة , وسألت :
- ممن ورثت ابنتك الشعر الأحمر ؟
فرد باختصار : " من أمي " .
- وهل تعلم بأمر ستار ؟
- لا . فهي لن تهتم بذلك .
بدا التمرد في عينيه لكنه لم يستطع إخفاء ألمه , حين أضاف :
- لم تعد تهتم بكل ما أفعله منذ تزوجت من جديد .
وابتسم لها بتوتر ثم توجه الى الجرس يقرعه .
تنهدت سارا وهي ترى الممرضة تدخله الى الغرفة , ثم تابعت طريقها في الممر . تبا لمثل هذه الأم إذا ما صح كلام جيسون ! فهي لا تستطيع العيش بعيدا عن أسرتها بهذا الشكل , وبالرغم من أن والديها يعيشان في الطرف الآخر من البلاد , إلا أنها واثقة من أنهما سيساندانها حالما يشعران بحاجتها اليهما ...
شهقت حين اصطدمت بجسد صلب , أمسك بها على الفور بعد أن كادت تقع وقال : " هل أنت بخير؟ " .
- أظن ذلك ...
وأخذت نفسا عميقا , لكن هذا المقدار من الهواء لم يكفها , لأنها بكل بساطة تحدق في وجه نيال جيلسبي القلق . ووجدت نفسها تتساءل عما إذا كان على الأرض كلها ما يكفي من الهواء ليهدىء أعصابها وأنفاسها المتسارعة .
راح قلبها يتخبط بين ضلوعها , وهي تجاهد لتتمالك نفسها , تخلصت من يده المحيطة بخصرها وقالت :
- آسفة ... لم أرك .
- هذا ما لاحظته .
ارتجفت سارا إذ سرت القشعريرة في جسمها . وأدركت على الفور أن نيال شعر بردة فعلها إذ سألها بصوت متهدج بعث الاضطراب في نفسها .
- أظنك ستغادرين الآن بعد أن أنهيت عملك ؟
- ن ... نعم .كانت ليلة حافلة , وأنا أتطلع بشوق الى سريري في البيت .
وحاولت أن تبتسم مضيفة :
- آسفة على اصطدامي بك بهذا الشكل . يجب أن أنتبه لخطواتي في المستقبل .
فقال بفروغ صبر , وقد ظهر على وجهه تعبير غريب :
- اسمعي يا سارا , أنا ...
- سارا ! هذا رائع . لقد أدركتك .
سكت نيال فجأة حين رأى مايك متجها نحوهما بسرعة . ولا حظت سارا أن وجهه عاد ليكتسي قناعه المعتاد . وما إن وصل مايك حتى أخذ ينقل نظراته بينهما مترددا :
- عفوا , لم أقصد قطع حديثكما , لكنني كنت أتساءل عما إذا كنت تريدين أن أقلك الى بيتك , يا سارا .
- نعم , شكرا يا مايك . هذا عظيم .
استطاعت بشكل ما , أن تحافظ على هدوء صوتها , لكن نبضات قلبها تسارعت بعنف . رمقت نيال بنظرة سريعة , متسائلة عما كان سيقوله قبل هذه المقاطعة . لكن ملامحه الجامدة لم تفصح عن أي شيء وهو يعتذر منهما بهدوء ليتركهما وحيدين .
- هل أنت جاهزة ؟ إذا كانت ليلتك متعبة كليلتي , فلا بد أنك متلهفة للوصول الى بيتك .
- هذا صحيح . هيا بنا , إذن .
واتجها نحو باب الخروج , وعندما انطلقت بهما الدراجة في شوارع المدينة أغمضت عينيها وهي تتساءل مرة أخرى عما كان نيال سيقوله ... وتنهدت متعبة , وقد أدركت أنها عادت الى ما كانت عليه من قبل , فصممت على أن تتوقف عن التفكير فيه طوال الوقت .
***

arewa 29-06-08 07:55 PM

6- عندما ينطفىء الحلم ..

لم تستطع سارا أن تنام رغم ارهاقها . استلقت في سريرها وراحت تتقلب لأكثر من ساعة , قبل أن تعود وتنهض ثانيا , إذ لم تجد فائدة من محاولة النوم وذهنها مشغول . ولعل نزهة قصيرة سيرا على الأقدام تغيرها .
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بقليل عندما خرجت لتسير في الطريق المؤدي الى النهر . توجهت نحو الحديقة العامة الصغيرة وملعب الأطفال الذيكان خاليا في تلك الساعة . جلست على أرجوحة هناك , وأخذت تتأرجح ببطء وقد اكتشفت أن هذه الحركة اراحت أعصابها . أغمضت عينيها وزادت من سرعة الأرجوحة , وابتسمت فيما الهواء يعبث بشعرها .
لعلها متوترة الأعصاب وتحتاج الى اجازة , فقد أمضت وقتا طويلا في العمل ولم تخرج للترفيه عن نفسها بأمور بسيطة كالتأرجح مثلا . عندما كانت تنتهي من عملها , كانت تملأ أوقات فراغها بمهمات جادة . ولم تعد تتذكر متى أمضت يوما كاملا من دون أن تفعل شيئا , فلا عجب أن تشعر بالإرهاق .
منتديات ليلاس
زادت من سرعة الأرجوحة وهي تفكر في ما عليها أن تفعله في الإجازة .. ربما ستتمشى أو تسبح , أو تستلقي طوال النهار لتقرأ وتشرب القهوة ..
زادت من سرعة الأرجوحة بعد أن أسعدتها هذه الأفكار . تمسكت بالسلاسل بقوة وقد شعرت وكأنها عصفور يحلق في الجو . وضحكت بصوت عال , إذ أثار هذا التفسير الذي وجدته لتصرفاتها الغريبة مؤخرا ارتياحها . إنها تحتاج الى عطلة , وهذا كل مافي الأمر .
- إن لم تنتبهي ستصلين الى الشمس , وعندها ستحترق أجنحتك .
أعادتها الى الواقع تلك اللهجة المازحة وفاجأها ذلك الصوت العميق.
فتحت عينيها ونظرت الى نيال جيلسبي مذهولة , فرأته يستند الى أحد أعمدة الأرجوحة وقد ارتسم على وجهه تعبير جعل قلبها يخفق بعنف .
أوقفت الأرجوحة وراحت تبحث جاهدة لتجد ما تقوله , أنما استحال عليها ذلك . وعجزت عن الكلام حتى تنبهت الى أنه يمسك بأدير , فسألته وقد جف حلقها :
- هل ... هل ستطيرها ؟
- نعم .
ونظر الى الطائر فخيل الى سارا أن في صوته خشونة لم تلاحظها قبل لحظات , ظهرت وهو يقول :
- لم أستطع أن أنام ففكرت في أن أتمشى قليلا في الهواء الطلق .
ونظر اليها وقد تألقت عيناه الخضراوان , وهو يضيف :
- وهل عجزت عن النوم أنت أيضا , يا سارا ؟
لـ ... لا .
تجنبت عينيه وهي تنزلق عن الأرجوحة , مطلقة ضحكة قصيرة لتخفي بها أحاسيسها , وأضافت :
- لا أدري لماذا , فقد كنت متعبة للغاية .
- أعرف ما تعنين .
وتنهد نيال تنهيدة عميقة , ثم سوى غطاء رأس الطائر الجلدي قبل أن يعود وينظر اليها . وبدا الإنهاك جليا في عينيه وهو يقول :
- أحيانا يكون المرء مرهقا للغاية ومع ذلك لا يستطيع طرد الأفكار التي تزعجه من ذهنه .
وصفت هذه الكلمات شعورها بدقة , ومع ذلك أحست بأنه يلمح لأمر آخر ألا وهو
جزهما عن النوم . شدت على اصابعها وهي تتساءل عما يعنيه , وتلهفت الى أن تسأله , لكنها خافت من ردة فعل سلبية :
- تبدو فلسفة غريبة , أليس كذلك ؟
وضحك برقة وكأنه يلطف الجو . ثم أكمل :
- كما أن هذا الصباح أجمل من أن نضيعه سدى . هل تودين مرافقتي وتجربة قدرتك على تطيير هذه السيدة الصغيرة ؟
- أنا ؟ آه , لكنني لا أستطيع ! علي حقا أن أعود ...
سكتت وقد شعرت برجفة تتملكها حين رأت الدفء يختفي فجأة من وجهه .
- المعذرة . لن أستبقيك أكثر من ذلك . لابد أن داوسن يتساءل أين عساك تكونين .
- أين عساي أكون ... ؟
وشعرت سارا بوجهها يشحب , عندما فهمت فجأة ما يعنيه , وقالت بسرعة :
- آه , لقد أقلني مايك الى بيتي وحسب . ليس ... ليس بيننا ...
وسكتت حين أدركت الورطة التي ستوقع نفسها فيها إذا ما تابعت كلامها .
- فهمت .. يبدو أن استنتاجي خاطىء .
وكان صوت نيال من الاتزان بحيث نسب القشعريرة التي تملكتها الى الإرتباك .
أتراه ظن حقا أنها ومايك حبيبان ؟ أخذت تتساءل عن هذه المسألة وهي ترتجف . ثم أدركت , بقلب منقبض , أن المظاهر قد تكون خادعة , لكنها , على أي حال , لا ترضى بتصرف كهذا , لا سيما أنها تعتبر مايك مجرد صديق لها ... وشعرت أنها عاجزة عن شرح كل هذا لنيال في تلك اللحظة .
- حسنا , يجب أن أعود الى المنزل , الكثير من العمل ...
وعضت على شفتيها وهي تراه يرفع حاجبيه , فأدركت , من دون أن تنظر الى عينيه , مدى ضعف حجتها . فلو كانت نائمة , كما يفترض بها أن تفعل , لما تمكنت من القيام بكل هذه الأعمال الهامة.
وحاولت التفكير في عذر أكثر اقناعا , فلم تجده . عندها , قالت مكرهة :
- يمكن للعمل أن ينتظر .
- هل أعتبر ذلك موافقة منك ؟ هل ستأتين ؟ تعالي يا سارا . احزمي أمرك .
وضحك حين لاحظ ترددها وقال مداعبا :
- اطمئنك الى أن سمعتك ستكون في أمان لأننا لن نكون وحيدين .
- لن نكون وحيدين ؟
رددت ببلادة وهي تنظر اليه مشوشة الذهن واضطرب قلبها حين رأت ابتسامته التي أنارت وجهه فجعلته يبدو , فجأة , أصغر سنا واكثر وسامة .
راحت نبضات قلبها تتسارع وهي تلحظ بعض الأمور الأخرى .
فقد استبدل بذلة العمل الرسمية بملابس بسيطة , كما فعلت هي , وارتدى بنطلونا من الجينز وكنزة تبنية اللون . ولم تسىء ملابسه البسيطة الى جاذبيته , وفكرت بقنوط أن مامن شيء يسيء اليها .
أدركت أنها تحدق فيه من دون أن تتمكن من تحويل عينيها عن جسمه الرياضي القوي . ثم رفعت عينيها الى كتفيه العريضتين . ولاحظت أنه لم يحلق ذقنه قبل أن يخرج فبدا مظهره مهملا , لا سيما مع تلك الخصلة المتدلية على جبينه .
وكان هذا وجها آخر لنيال جيلسبي , الذي أحاطت به هالة من الرجولة البدائية , بعد أن نزع عنه تلك البذلة الأنيقة وربطة العنق المميزة وتخلى عن مظهره المتحفظ , فأيقظ فيها مشاعر خطرة أخافتها . ولم تحول نظراتها عنه إلا بعد أن رأته يتأملها مطولا . ولم تستطع ضبط الرعشة التي سرت في جسمها وهي تسمعه يقول ممازحا :
- ستكون أدير حارستك , يا سارا . صدقيني . لن تشعري بالأمان مع أحد بقدر ما ستشعرين معها .
- لم أتصور لحظة ...
وسكتت حين رمقتها عيناه بنظرة باردة برودة النهر الجاري قربهما , ولكن ابتسامتة كانت حنونة بحيث أشاعت الدفء في كيانها .
- كنت أمازحك , يا سارا ... فهل سترافقينني ؟ أرجوك , أنا واثق من أنك ستستمتعين بذلك . وليس هناك ما هو أحب إلى قلبي من قضاء هذا الصباح معك ومع أدير .
وهل بإمكانها أن ترفض الآن ؟
- لا بأس , سأرافقك وشكرا .
وابتسمت محاولة تجاهل أحاسيسها ومتسائلة باضطراب عن سبب تأثير نيال عليها بهذا الشكل .
شعرت بالراحة عندما التفت وأشار الى النهر بمودة غير متكلفة هدأت من مخاوفها . إنه صباح رائع , وتود فعلا أن ترى أدير تطير . فلم ستفسر تلك الدعوة بأكثر مما تحمله من معنى ؟
- سنتابع سيرنا على ضفاف النهر إذا كنت لا تمانعين فهنالك موقع جيد يمكننا أن نستخدمه لتطيير أدير منه . المكان ليس بعيدا من هنا.
- حسنا هذا يناسبني .
سبقته الى النهر , وسارت في الإتجاه الذي أشار إليه . حين ضلق الطريق , وأحالت أغصان الأشجار المتدلية فوقهما أشعة الشمس الى وهج مخضوضر . لم تعد تسمع خرير النهر , فشعرت وكأنهما أصبحا فجأة في عالم صغير خاص بهما .
تابعت سارا السير , وأحاسيسها ترافق ذاك الرجل السائر في أعقابها , ولعل السبب يعود الى رهافة حسها . وبدا الشذا الحاد للطحالب والأعشاب التي تنبت بين الصخور أكثر حدة مما عهدته.
ترى ألاحظ نيال كل هذا هو أيضا ؟ أخذت تتساءل وهي ترتجف .. أتراه أصبح على غرارها يرى الأشياء بوضوح أكثر من السابق ويشمها ويسمعها ؟
- إذا استدرت نحو الشمال , بعد ذلك الدغل مباشرة تجدين دربا يؤدي الى التل , وهذه وجهتنا .
- ها قد وصلنا .
لفت انتباهها الى طريق بين الأشجار .. سحبت نفسا عميقا واستدارت نحو الدرب من دون أن ترى أمامها . وفي نهايته كشفت الأشجار عن موقع عال فسيح , فشقت سارا طريقها صعدا , متعمدة عدم رؤية يده الممدودة لمساعدتها . ثم قفزت على العشب , وأرغمت نفسها على الابتسام وهي تلتفت إليه , فخفق قلبها بسرعة لأنها قرأت التعبير المرتسم على وجهه , ورأت ذلك الشوق الغريب الذي جعل الشرر يتطاير من عينيه .
سألته بصوت أبح وقد هزها المنظر الممتد أمامها :
- هنا في الأعلى , أليس كذلك ؟
وعادت لتحدق الى أعلى التل حيث التقت خضرة العشب بزرقة سماء ايلول , وحاولت السيطرة على عاصفة المشاعر المتخبطة في داخلها . اتراه حقا نظر اليها بتلك الطريقة ... بمثل ذاك ... الشوق ؟
- نعم فتيارات الهواء في هذا الموقع أقوى لبعده عن الأشجار وبذلك ستتمكن أدير من الطيران على العلو الذي تريده .
كانت لهجته عادية . ولو كانا في ظروف أخرى لاعتبرت نفسها مخطئة في تفسير ما رأته على ملامحه .. لكن في هذه اللحظات , أنبأها حدسها أن كلماته البسيطة هي مجرد غطاء لمشاعره الحقيقية.
قد يتصرف نيال ببرودته المعتادة , لكنه يخفي تحت الثلج نارا لاهبة ! وصاح بها عقلها محذرا ... الخطر ... الخطر ..
- هل أنت قادمة , يا سارا ؟
توقف والتفت الى الوراء حين أدرك أنها لا تتبعه , فأخذت سارا نفسا عميقا . كانت الشمس تسطع بقوة ,فمنعتها من رؤية تعابير وجهه , لكن هذا لم يعد يهمها . إنها تعي ما رأته وسمعته , وأخافها هذا بعض الشيء لأنها تجهل كيف عليها أن تتصرف . فهل عليها أن تضع حدا لذلك منذ الآن , وأن تسير مبتعدة من دون النظر الى الوراء .أتدير ظهرها للخطر ؟ أليس هذا الطريق الصواب ؟
نعم إنه هو . لكن من المؤسف ألا تستطيع أن تسلك هذا الطريق , وألا تجد أحيانا حلا آخر سوى القفز الى جوف النار ... وتخاطر بالاحتراق !
- هناك أنظري فوق رؤوس تلك الأشجار ... نعم !
هتفت سارا بابتهاج عندما حلقت أدير فوق الأشجار . حبست أنفاسها وهي ترى الطائر يحوم فوق الرؤوس لينقض بعد ذلك نحو الأرض بخفة . وعندما ارتفع مجددا , شهقت سارا لأنها لاحظت في مخالب أدير , فأرة أو ما شابه حملتها الى الأجمة لتلتهمها .
قالت بصوت خافت :
- ما أغرب هذا . كيف استطاعت أن تراها من ذلك العلو .
- لا أدري . هذا ما يحيرني أنا أيضا على الدوام .
وضحك نيال لحماستها وأضاف :
- إذا ألا يستحق هذا حضورك الى هنا ؟ وهل أنت نادمة على عدم عودتك للقيام بالأمور الجوهرية من غسيل وكي وغير ذلك ؟
ضحكت للمرح الظاهر في صوته , وأجابته :
- أبدا , فقد كان رائعا . لا أتذكر صباحا استمتعت فيه بهذا القدر .
- هذا حسن .
وابتسم لها ابتسامة عريضة أخيرة قبل أن يستدير لينادي الطائر ليعود إليه .
أخذت سارا تنظر إليهما مبتسمة . فما قالته كان صحيحا , فقد أمضت ساعتين رائعتين , أحست خلالهما ببهجة عارمة , إذ لم يزعجها نيال بكلمة أو نظرة , إذا استثنت حقيقة وجوده قربها يوترها . وراحت تتساءل عما إذا بالغت في تفسير ما حدث .
نبذت الفكرة من ذهنها عندما عاد ليضع الغطاء على رأس الطائر ويستدير نحوها ، قائلا :
- حسنا , أظن أن من الأفضل أن نعود . علي أن أعاين مريضتين عصر هذا اليوم , لهذا لن أجرؤ على التغيب عن المدرسة أكثر .
ضحكت لكنها دهشت لما قاله , وسألته :
- أستعود الى العمل الآن بعد أن أمضيت هناك الليل بطوله ؟
هز كتفيه ثم سوى وقفة أدير على ذراعه وأجابها وهو ينزل عن التل .
- ليس من العدل أن نهمل المرضى .
فقالت برقة :
- لكن ليس من العدل أيضا أن تعمل ليلا نهارا . لا يمكنك أن تمضي حياتك كلها في العمل , يا نيال .
توقف قرب الدرجات , ثم وقف ومد لها يد المساعدة . كان ذهنها مشغولا بما يقول ولكن ما إن صعدت الدرجات حتى سقطت الى الأمام .
- حذار .
حذرها نيال صارخا , لكن صرخته ضاعت بسبب الزعقة التي أطلقها الطائر حين انزلق من مكانه بعد أن مد نيال يديه ليمسك بسارا . ساعدها على النزول ثم انحنى ليتأمل وجهها المرتاع وأخذ يزيح الخصلات المتبعثرة على وجهها ويسألها بلهفة :
- هل أنت بخير ؟ هل أصابك أي أذى ؟
- نعم , أنا بخير , ولم أصب بأذى .
ضحكت ضحكة مرتجفة وقد تسارعت دقات قلبها رعبا لقربه الشديد منها وهي تحس بأنفاسه الدافئة تلفح خدها .
حاولت أن تبتسم وهي تنظر اليه , لكن الابتسامة ما لبثت أن جمدت على شفتيها عندما تشابكت نظراتها مع نظرات نيال , وبدا وكأن العالم توقف عن الحركة . وسمعت صوتها ينطق باسمه من دون أن تدرك , فارتجفت تأثرا :
- نيال ... وحبست أنفاسها وهي ترى عينيه تظلمان ومن دون أن تدري التقت شفاههما في قبلة متلهفة ... فصدرت منها أنة خفيفة , وقد شعرت بدوار وحاولت أن تحلل ما يحدث لها, وبتردد تسللت يدها بنعومة لتداعب عنقه وتتخلل أصابعها شعره فقربها منه وهو يتحسس جسدها بنعومة أحست بعدها أن كل خلية من جسدها تشتعل لهفة إليه . وصدرت عنها تمتمة بالغة الرقة , ولم تدر هي نفسها إن كانت تعبر عن إحتجاج أم عن سرور . شعرت به يتوتر وقد أحس بترددها .
- آه يا سارا !
بدا وكأن اسمها ينبض بحزن حلو مر , وهو يخرج من بين شفتيه , لكن لم يتسن لها الوقت لتحلل ما يكمن وراء هذا الحزن .
بردت صرخة أدير المفاجئة السحر الذي تملكهما , وجعلت نبضات قلب سارا تتسارع . جمدت عيناها حين التقتا بعيني نيال ...
وعندما رأت العذاب في عينيه , سرت قشعريرة في جسمها , وشعرت بالألم يعتصر قلبها . هل ندم نيال على ما حدث الآن ؟ أيمكن ذلك ؟
قال لها بصوت خشن :
- آسف يا سارا . لم أقصد أن أعرضك للأذى .
بدا الندم في صوته , مما جعلها تشكك في مشاعره .
وأخذت نفسا مرتجفا لتمنع نفسها من البكاء . لا لن تفعل .
- لا تقلق يا نيال . لم أصب بسوء , والأمر لا يستحق الذكر . ألا توافقني الرأي ؟
هزت كتفيها من دون اكتراث , وتساءلت أين عثرت على هذه القدرة على الكذب فيما قلبها ينسحق ويدمى ؟
ومضت لحظة صمت , التمعت عيناه بعدها , وبدا فيهما غضب أذهلها . ثم استدار وتقدمها على الدرب من دون أن ينطق بكلمة واحدة أخرى .
تبعته سارا بصمت من دون أن تحاول فهم سبب غضبه . ما أهمية ذلك الآن ؟ لقد أدركت حقيقة شعوره نحوها وهذا جل ما كانت تحتاج الى معرفته .
لقد ندم نيال على لحظة الضعف تلك لأنه ما زال يحب المرأة التي خذلته . فأسفت لأنها لم تفكر في ذلك قبل أن تعرض نفسها لهذه المذلة الحقيقية , وتفضح مشاعرها وضعفها .
***
- ما الذي يجري هنا ؟
طرحت سارا السؤال وهي تدخل الى القسم , ونظرت حولها لتستوعب الموقف . كانت جويس ديننغ جاثمة على سريرها تبكي وتهز سام . وراح الطفل ينوح بصوت عال , وقد شعر بحزن أمه كما يفعل الأطفال غالبا .
وضعت سارا يديها على وركيها واستدارت نحو الأمهات الأخريات وقالت :
- حسنا انني أنتظر . أريد أن أعرف ما يجري .
وأجابت تريشا حين رفضت أي من المرأتين الأخريين الكلام .
- ماذا يجري برأيك ؟ لا نريد أن يصاب أطفالنا بالعدوى ! لا يحق لكم أن تضعوه هنا بين أطفالنا الطبيعين .
تريثت سارا قبل أن تجيبها .. فربما هناك عذر لمثل هذا التعصب , لكن لا يمكنها أن تتقبله أبدا . ونظرت شزرا الى كل امرأة بدورها , قبل أن تعود وتلتفت الى تريشا التي تكهنت بأنها المحرضة على هذه الثورة .
- سام طفل منغولي . وهي حالة غير معدية , ولا يشكل أي خطر على غيره من الأطفال في هذا القسم أو في غيره .
قالت تريشا :
- هذا ما تقولينه أنت . إن وضع هذا الطفل هنا جريمة . هذا ما قاله " غاري " الليلة الماضية . وقال أنه سيعالج هذه المسألة حتى وإن عارضت أنت ذلك , فهو لا يقبل بوضع طفل معاق مع ابنه .
التفتت سارا نحو جويس المسكينة فما هو شعور المرأة التي تواجه هذا النوع من التعصب ؟ وعادت تنظر الى تريشا التي بدا على ملامحها كل ما عانته من غضب وإحباط منذ الصباح :
- لا يمكنني إلا أن أكرر ما سبق أن قلته لك .. لا خطر على أي من الأطفال في هذا القسم . يعاني سام من خلل وراثي وهذا ليس ناتجا عن مرض , ولذا فهو لا يعدي . مفهوم ؟
واستدارت لتنظر الى جويس , وتقول لها :
- لم لا تأتين معي , يا جويس ؟ سأعد لك كوبا من الشاي . دعيني أحمل سام عنك .
- لا .
وتشبثت جويس بالطفل , ثم وقفت ونظرت في أنحاء الغرفة قبل أن تسير نحو الباب من دون أن تضيف أي كلمة أخرى .
تبعتها سارا , وقد سرها أن ترى الخجل باديا على وجه المرأتين الأخريين . هذا ما ينبغي أن يحصل , ولا عذر لمثل هذا التصرف في عصرنا الحالي .
- اجلسي يا جويس ريثما أضع إبريق الشاي على النار .
وقادت جويس برفق الى كرسي في غرفة الممرضات , ثم جلست بقربها تحضر الشاي .
فرحت حين رأت المرأة تتمالك نفسها , ووضعت سارا الكوب على منضدة قربها وهي تبتسم لها مشجعة , وقالت :
- لم يفهمن الأمر , جويس مع أن هذا ليس بعذر , أليس كذلك ؟
- آه , لا أدري .
وحاولت جويس أن تبتسم ثم أضافت :
- أظن أنه من الطبيعي أن يقلقن . وهذا مضحك لأنني كنت أعلم أن هذا قد يحدث , ومع ذلك تأثرت حين أخذت تريشا تتأفف من وجودي معهن .
- لقد أدركت أنها المحرضة . ولا يمكنني سوى الاعتذار . لو كان لدينا فكرة عما تخطط له , لما وضعناها معك في القسم نفسه .
- الذنب ليس ذنبك يا سارا , ولا ذنب تريشا كما أظن . لقد أثار هذه المشكلة الشاب المدعو " غاري " . لقد رأيته ينظر الى سام شزرا عندما جاء لزيارتها في الليلة الماضية . وكان واضحا , حين ذاك , أنه يخطط لشيء ما أظن أنه علي أن أعتاد على الأمر .
وتنهدت الأم وهي تمرر يدها على وجنة سام المتوهجة وأكملت :
- يطلق الناس التعليقات على الدوام علي أن أتعود على ذلك , وألا أتأثر . فسام إبننا رغم إعاقته ونحن نحبه جدا .
وقفت سارا وقالت :
- هذا هو المهم إذن . والآن , ماذا نفعل ؟ هل تريدين البقاء في ذلك القسم يا جويس ؟ أم تفضلين الانتقال الى قسم آخر ؟
- جزء مني يريد مني أن أبقى هناك إذ لا أريد أن يساورهن الظن بأنني أخجل بسام , بينما الجزء الآخر يأبى التعرض لمزيد من الاستياء .
- دعيني إذن أهتم بأمر نقلك . فهذا أفضل لك ولسام على المدى الطويل . ولست بحاجة الى الشعور بالاستياء حاليا .
تركت جويس تنهي كوب الشاي , وذهبت للبحث عن إيرين لتطلعها على ما حدث . وعندما قصت عليها ما حصل , هزت إيرين رأسها بعدم تصديق , وقالت :
- هل تصدقين أن هناك أشخاصا بهذا الجهل ؟ مسكينة جويس , أظنها على حق حين قالت إن السبب هو زوج تريشا ذاك . فإحدى العاملات في قسم الجراحة النسائية قالت الليلة إنه سيء الطباع للغاية .وهذا واضح فهو ترك تريشا عندما كانت حاملا في شهرها السادس , وراح يخرج مع فتاة أخرى , كما قيل لي . ولكن هذه العلاقة لم تدم , فقد تخلت عنه تلك المرأة بعد أن اكتشفت سوء طباعه . ولهذا عاد الى تريشا .
فتنهدت سارا , وعلقت :
- ولهذا توافق على كل ما يقول . فهي في حاجة ماسة إليه , مما يجعلها تفعل كل ما يسره .
- هذا محتمل جدا , ومع ذلك , لا يفيدنا . فأنا أحاول تأمين مكان أنقل جويس إليه . لقد استقبلنا خمس حالات جديدة عصر اليوم . وهناك امرأتان في قسم التوليد حاليا .
فضحكت سارا , وقالت :
- انها تخمة حقيقية بالأطفال . وهم يولدون دوما في أيلول .
ضحكت الاثنتان . وأخيرا , قالت إيرين :
- ماذا لو وضعنا جويس مع أرييل ؟ فقد تحسنت حالتها كثيرا وأشك في أن يحدث ذلك أي مشاكل . وهو السرير الوحيد الخالي حاليا . لا أريد وضع جويس في قسم آخر لتثار هذه القضية مجددا , وتحدث تريشا المزيد من المشاكل .
فقالت سارا : " تبدو فكرة صائبة " .
- علي أولا أن أناقش الفكرة مع الدكتور جيلسبي الذي ما يزال في مكتبه لذا سأتصل به , إلا إذا شئت أن تفعلي ذلك بنفسك .
ابتعدت عنها سارا خشية أن تفضح مشاعرها . ففكرة التحدث الى نيال , مرة أخرى , بعد كل ما حدث هذا الصباح من ارتباك بينهما فاقت قدرتها على الاحتمال .
فأجابت متصنعة المرح : " سأترك لك هذا الشرف يا إيرين . الآن سأذهب وأتحدث الى جويس وأطلعها على فكرتنا " .
تركت إيرين لتجري اتصالها , لكن فكرة العمل مع نيال في الأسابيع التالية أقلقتها . قد ينسى هو ارتباكهما ذاك , لكن هل تستطيع هي ذلك ؟ورفعت يدها تتلمس وجهها , وقد أحست بطعم الدموع على وجنتيها , فانقبض قلبها .
لن يكون من السهل عليها أن تنساه .

arewa 29-06-08 07:57 PM

7 - البداية


- هذه آخر ليلة لنا , وعندما نعود الى العمل ,ستكون تريشا جاكسون قد رحلت . فيا للروعة !
ضحك الجميع . أما سارا فأعادت فرشاتها الى حقيبتها وابتعدت عن المرآة حيث تمشط شعرها قبل توجهها الى العمل .
- لقد رأيت " آن باكستر " عند دخولي فأخبرتني أن بعض المشاكل قد حدثت في قسم تريشا عصر اليوم . يبدو أن غاري الشهير راح يصرخ ويتوعد . لم أعرف الأسباب لأن "آن" كانت مشغولة .
تنهدت إيرين وهي تعلق سترتها , وقالت :
- نعم . لقد سمعت بالأمر أنا أيضا . رفض غاري وجود رجل مولد في القسم فأخذ يصيح ويطلق الشتائم .
قالت سارا :
- ما زال هناك أشخاص لا يتقبلون فكرة وجود رجل مولد , ومع ذلك لا يهتمون مثقال ذرة عندما يعالج زوجاتهم أطباء رجالا . أظن أن التغلب على تحاملهم هذا يتطلب سنوات . وهذا شيء مؤسف حقا , لأنك لن تجدي من هو أرق وألطف من " ديف تيرنر " . والنساء اللاتي يولدهن لا يبخلن بالثناء عليه , على أي حال ماذا حصل في النهاية ؟ ومن استطاع حل الأمور ؟
فأجابت إيرين :
- نيال جيلسبي . لقد عنف غاري بشكل لا ينسى .
فقالت سالي بمكر :
- هذا المدعو غاري مزعج جدا . والحمد لله أن الدكتور جيلسبي موجود , ولكن متى لم يكن موجودا ؟ إنه لا يغادر المستشفى , صباحا , ظهرا , ليلا ... يبدو أنه بحاجة الى امرأة تحول ذهنه عن العمل بحنانها وحبها وعنايتها ... ولا تظني أنني ألمح الى أي شيء , يا سارا .
وضحكت الممرضات وما لبثن أن خرجن معا ورافقتهن سارا , لئلا تتنبه الأخريات الى الشاعر التي أثارتها فيها تلك الفكرة . لقد بين لها نيال جيلسبي بوضوح أنه لا يأبه لمشاعر الحب والحنان والرعاية التي يمكنها أن تمنحه إياها .
ولكن , لحسن الحظ , لم يكن لديها الوقت الكافي لتفكر في هذا الأمر , إذ دخلت القسم مريضتان في الوقت نفسه تقريبا . ولم تكن حالة المرأتين تبشر بالخير نظرا لصعوبة حالتهما وكانت" مينا بيتل " في العمل فالتفتت بذعر وقالت :
- لا يمكنني أن أصدق أن حالتين مماثلتين تحصلان في الوقت نفسه. مظهر هانا جارفيس لا يعجبني أبدا , فهي تنزف كثيرا . سأخضعها لفحص دم شامل لأعرف ما بها .
قالت سارا :
- لا يوجد أحد في قسم الأشعة أثناء الليل . إنه وضع غير مقبول . أعني أن الحالات الطارئة لا تحدث فقط أثناء النهار . نحن بحاجة لإجراء الفحوصات على مدى الأربع وعشرين ساعة .
فقالت مينا : " أعلم ذلك . إنها مسألة ينبغي النظر فيها . ربما يمكن لنيال أن يعالجها . إنه في مكتبة , يمكنك الاتصال به وشرح الموقف له , يا سارا . كما أريد أن تبقى هانا جارفيس هادئة على أمل أن تستقر حالتها مع أنني أشك في ذلك , أما بالنسبة الى المريضة التي أحضرتها "ديدري روبرتس " , فأظن أن لا مناص من إجراء عملية قيصرية , فوضعية الطفل غير طبيعية وقد فقدت ماء الرأس منذ مدة , إن الطلق لديها قوي ولكن يبدو أن الحالة تتقدم , ولا أريد المجازفة بالضغط على حبل الخلاص لئلا أقطع عنه الأكسيجين بعد أن جف السائل الذي يحميه " .
- طبعا .
حافظت سارا على ثبات صوتها بينما هرعت مينا مبتعدة . وتنهدت وهي تدخل المكتب لتجري الاتصال . ما كانت في ظروف أخرى لتتردد . لكنها شعرت بالاضطراب لأنها مضطرة للتحدث الى نيال.
رفع السماعة على الفور ، وشعرت بقلبها يضج ألما وهي تسمع صوته : " جيلسبي " .
فقالت بحذر لئلا يلاحظ مدى الصعوبة التي تلاقيها في الكلام :
- أنا الممرضة هاريس . طلبت مني الدكتورة بيتل أن أتصل بك . لدينا مريضة مهددة بالإجهاض , وترى الطبيبة أن علينا إجراء فحص دم شامل .
- وهل هناك مشكلة في ذلك ؟
كان صوته حياديا جدا , فتساءلت عما إذا كان يتذكر رحلتهما الى ضفة النهر منذ أيام . ولا بد أن فكره لم ينشغل بهذا الأمر مثلها , فشدت هذه الفكرة من عزيمتها , وأجابت بأدب وبرودة :
- قسم الأشعة لا يعمل ليلا يا دكتور جيلسبي .
- لا بد أن هناك تدبير احتياطيا لهذا النوع من الطوارىء .
وبدا الغضب في صوته , لأن لديه مريضة في خطر , وعمله يفرض عليه الاهتمام بمرضاه .. وهو يبذل في سبيل عمله كل ما في وسعه . ألم يقل لها إن عمله هو حياته ؟ وقد بدأت تفهم الآن ما كان يعنيه .
فقالت بهدوء : " أعتقد أن بإمكاننا استدعاء فني الأشعة عند الضرورة القصوى . مع أن هذا مرفوض من قبل الإدارة لارتفاع كلفته " .
- فلتذهب الكلفة الى الجحيم . وما فائدة المعدات إن كنا لا نستخدمها عند الحاجة .
أظهر صوته عاطفة دفينة جياشة , فأغمضت سارا عينيها . فكم تمنت لو يظهر لها بعض هذه العاطفة في حياته الخاصة . فيا ليته يهدم الحواجز , لتتمكن من اقناعه بأن الحب ليس بالضرورة تجربة مؤلمة !
- سارا .. أما زلت معي على الخط ؟
غمرت السعادة قلبها حين لاحظت الاهتمام في صوته , لكنها ما لبثت أن تذكرت أن سبب اهتمامه هذا يعود الى أنهما لم يجدا حلا بعد لهذه المسألة .
ابتلت اهدابها بالدموع , لكنها أرغمت نفسها على التركيز على ما يقوله وليس على ما تريد أن تسمعه , وقالت له :
- نعم , طبعا . ماذا تريد مني أن أفعل , يا دكتور ؟
بقي صامتا للحظة وكأنما أحس بكآبتها فحيره أمرها . ثم جاء صوته واضحا , مهنيا باردا ليثبت لها أن أمرها ثانوي مقارنة مع أمر مريضاته :
- سأحل هذا الموضوع بنفسي أيتها الممرضة . قولي للدكتورة بيتل إنني سأتخذ الترتيبات اللازمة . شكرا .
قطع الخط , فوضعت السماعة ببطء وبقلب مثقل . وبدا لها أن كل شيء قد قيل وانتهى .
***
اهدئي ... يا هانا . لا بأس عليك , كل شيء سيكون على ما يرام , يا حبيبتي .
وجلست سارا على حافة السرير , تضم المرأة بين ذراعيها . وجدت نفسها عاجزة أمام حزن هانا , فجل ما استطاعت أن تفعله هو أن تخفف عن المرأة قدر إمكانها , وكان هذا قليلا للغاية في نظرها .
أثبت فحص الأشعة أن هانا قد فقدت جنينها . لكن لسوء الحظ , بقي جزء كبير من المشيمة في الرحم بعد الإجهاض , ويجب إخراجها الآن بأسرع ما يمكن ليتم تجنب المضاعفات .
- هيا امسحي عينيك .
وناولت سارا المرأة الباكية منديلا ورقيا , والتفتت حين سمعت الباب ينفتح , ثم حولت عينيها على الفور عند رؤية نيال .
تقدم الى السرير مباشرة ووقف ينظر الى هانا بعطف بالغ , قائلا :
- أنا آسف , يا هانا , كنت أتمنى أن نفعل شيئا لمساعدتك , لكن الأوان قد فات .
أجابت المرأة والدموع لا تزال تنهمر من عينيها :
- أعرف هذا . لقد أخبروني بأن الطفل قد ... مات .
فقال برقة فائقة :
- هذا صحيح . والآن علينا تنظيف الرحم من بقايا المشيمة .
سنعطيك مخدرا ولن تشعري بشيء .
- هل حدث هذا بسبب شيء قمت به يا دكتور ؟ لقد ذهبت الى السباحة اليوم فهل هذا هو السبب ؟
وبدا على ملامحها الحزن والشعور بالذنب وهي تضيف :
- ظننت أن هذا سيفيدني ويقويني .
فأجابها نيال بهدوء :
- لا . كان هذا سوء حظ وحسب , يا هانا . أمر لا يمكننا التحكم به للأسف .
ظهر الإعياء في صوته , فألقت سارا عليه نظرة سريعة , متسائلة عن ومضة الألم التي ارتسمت للحظة على ملامحه . كانت تعرف مدى تعاطفه مع مريضاته , لكن هذا التأثير بدا شخصيا ...
تخلصت من تلك الفكرة الغريبة , وعادت بفكرها الى ما يجري مصممة على التركيز عليه . ووجه نيال الحديث اليها قائلا :
- ستتوجه هانا على الفور الى غرفة العمليات . سأقوم بالعملية بنفسي وأريد منك أن تساعديني , يا أخت هاريس , من فضلك .
- بكل تأكيد .
واحتضنت سارا هانا للمرة الأخيرة مشجعة , ثم وقفت وقالت :
- سأجهز كل شيء .
- شكرا .
وغادر نيال الغرفة تاركا إياها تعد المريضة للعملية . كانت المهمة سهلة , لكن سبب قيامها بها كان أكثر إيلاما .
وصل كريس زوج هانا , قبل دخولها الى غرفة العمليات مباشرة , وقد كان في رحلة عمل , فعاد مسرعا عندما اتصلت به هانا في فندقه . تركتهما سارا وحيدين لدقائق ليخفف أحدهما على الآخر الحزن الناجم عن فقدان الطفل . أما هي فلم تستطع الاعتياد يوما على الجانب المأساوي الحزين من عملها .
منتديات ليلاس
توجهت الى مكتبها لتحضر ملف هانا ولتمنحهما فرصة الاختلاء ببعضهما بعضا . وعندما فتحت الباب دهشت لوجود ديدري روبرتس وهي قابلة خارجية , هناك . نظرة وحيدة الى وجه ديدري جعلتها تدرك أن خطبا ما قد حدث . وتمنت ألا يكون الأمر متعلقا بالمرأة الحامل التي أحضرتها ديدري منذ بعض الوقت , تلك التي وضعية طفلها غير طبيعية .
أغلقت الباب ثم سألتها : " هل أنت بخير , يا ديدري ؟ " .
فأجابت هذه مكشرة : " هذا هو المفروض . على الأقل ما زلت كما أنا ! " .
- ماذا تعنين ؟
- إنه الدكتور جيلسبي . لقد اتهمني بعدم الكفاءة .
وحاولت ديدري أن تبتسم , لكن سارا لاحظت أنها مستاءة , ولا عجب من ذلك .
اعتمد مستشفى " دالفرستن " كغيره من المستشفيات نظاما يسمح للقابلات الخارجيات بإحضار مريضاتهن الى المستشفى للتوليد فقط.
فتمضي الأم بضع ساعات في المستشفى لتعود بعد ذلك الى بيتها . إذا ما كانت والطفل بصحة جيدة .
وكانت سارا قد قابلت ديدري مرات عدة من قبل , بحكم هذا النظام , وقد أعجبت بعملها . ولم تستطع أن تفهم سبب هذا الاتهام الذي وجهه نيال لها , فسألتها باضطراب :
- وما الذي جعله يقول ذلك , يا ديدري ؟
- " أنجيلا مواري " التي أحضرتها . كنت أعرف حالتها , لكن الدكتور جيلسبي لم يمنحني الفرصة لأشرح له وضعها بدقة . بل أخذ يتكلم بطريقته الحادة تلك . ولو كلمني بغضب لكان ذلك أفضل .
فهمت سارا ما عنته بكلامها . إذ لم يمض وقت طويل على معاملة نيال لها بمثل هذا الاستياء الجليدي ...
وتحول فكرها فجأة الى تلك اللحظات على ضفاف النهر . وقتذاك لم يكن باردا .
- ماذا حدث إذن , الليلة ؟ هل كنت تعلمين أن الطفل سيولد بعجيزته؟
- نعم . وقد شرحت لأنجيلا أن عليها أن تنتقل الى المستشفى , رغم أنها تفضل الولادة في البيت . ربما كان علي أن أصمت وأفاجئها بالخبر , عند ذالك ما كنا لنواجه هذه المشكلة .
فضحكت سارا , وقالت :
- يبدو عنيفا نوعا ما . هل أفهم من ذلك أن السيدة مواري لم تكن تريد الحضور الى المستشفى ؟
فتأوهت ديدري , وأجابت :
- هذا تلطيف للواقع . فقد أمضت وقتا مريعا في المستشفى عندما أنجبت طفلها الأول . فذاك الذي قصدته لا يقيم وزنا لرغبات الأم , بل ينفذ الأمور وفقا للنظام المفروض ودون سؤال . هذه المرة , أرادت أن تلد في البيت ولم يكن هناك مشكلة حتى أدركنا وضعية الطفل مقلوبة .
- وهل حاولتم أن تديروا الطفل ؟
- نعم , في الأسبوع الماضي , حاول الطبيب ذلك . لكن الطفل عاد تالى وضعيته السابقة بعد ذلك بساعات . عند ذلك , قلت لأنجيلا إن عليها أن تأتي الى المستشفى وإنها لن تمكث فيها سوى بضع ساعات لكنها لم تكن سعيدة بذلك , ولهذا لم تتصل بي الليلة إلا بعد أن فقدت ماء الرأس .. ربما ظنت أنه كلما اقترب موعد الولادة , كلما امكنها أن تبقى في بيتها . على أي حال , عندما رأيتها أدركت أن الطفل في محنة , لذا أحضرتها الى هنا في أسرع وقت ممكن .
- لقد فعلت ما بوسعك , يا ديدري . فأنت ما كنت لتعلمي أنها ستقدم على مثل هذه الحماقة .
- أعرف هذا ! لكن الدكتور جيلسبي لم يعطني فرصة لأشرح له ما جرى . على أي حال , كانت النهاية جيدة , فقد أنجبت أنجيلا طفلة وهما معا بخير , وأظن أن هذا هو الأهم .
- طبعا .
وافقتها سارا ,وإن اعتبرت أنه من غير الإنصاف أن يعاملها نيال بهذه القسوة من دون أن يكون الذنب ذنبها .
بعد خروج ديدري , جلست لتحضر أوراق هانا . وحين أنهتها توجهت الى غرفة المريضة لترافقها الى غرفة العمليات .
كان نيال يغسل يديه عندما دخلت مع هانا لرؤية طبيب البنج . وعندما دخلت غرفة غسل اليدين سألها بهدوء : " كيف حالها ؟ ".
- لا بأس .
وراحت تغسل يديها وساعديها وتعقمهما قبل أن ترتدي ثوب الجراحة وهي تقول :
- لقد وصل زوجها , وسيحضر عمليتها الى النهاية .
- هذا حسن . إنها بحاجة الى من يساندها حاليا . وأظن أنه علينا أن نقدم لهما النصح إذا أرادا ذلك . فقد نساعدهما على التغلب على حزنهما .
- طبعا . هناك نظام جيد وضعه الدكتور هندرسون , يقدم الدعم في حالات كهذه .
وترددت سارا وهي تتساءل عما إذا كان عليها أن تذكر له مدى انزعاج ديدري روبرتس . ويبدو أنه تكهن بأن هنالك ما يزعجها , إذ سألها :
- هل هناك ما تودين قوله ؟
وعندما لم تجب على الفور , رفع حاجبيه وأضاف :
- هيا , انطقي يا سارا . لعلك ممرضة ممتازة , لكنك لا تحسنين إخفاء شعورك .
احمر وجهها , ولم يرقها أن يقرأ أفكارها , فحولت عينيها عنه , قائلة :
- ديدري روبرتس منزعجة جدا بسبب ما قلته لها . ويبدو أنك لم تمنحها الفرصة لتشرح لك الوضع بدقة .
فرد بخشونة :
- وماذا هناك لتشرحه ؟ فما من عذر لتعريض المريض للخطر .
قالت بحدة وقد أزعجها رفضه الاستماع إليها :
- هذا ليس عدلا . كانت أنجيلا مواري تعلم أن وضعية طفلها غير صحيحة , ومع ذلك أصرت على عدم الحضور الى المستشفى ولم تتصل بديدري إلا بعد أن فقدت ماء الرأس , فلم تستطع ديدري القيام بشيء حيال هذا الأمر .
- وهذا دليل آخر على أنه لا ينبغي تشجيع الحوامل على الولادة في بيوتهن . وما الفائدة من هذه المخاطرة التي لا ضرورة لها ؟
واستدار متجهما الى غرفة العمليات فوضع بذلك حدا لهذا الحديث .
تبعته ببطء , متسائلة عما يجعله متصلب الرأي بهذا الشكل .
وتنهدت بكآبة حين استقرت نظراتها على رأسه من الخلف . كانت تشعر بأنه لن يخبرها حتى وإن سألته , فهذا يعني أنها تجتاز الحدود التي أشادها بينه وبين العالم .
- حسنا لقد فعلتها أخيرا ! وسأصبح في العشرين من أيلول , امرأة حرة .
ألقت سارا المجلة من يدها , حين دخلت إيرين غرفة الممرضات وهي تعلن ذلك . كانت ترتاح قليلا , فرفعت حاجبيها تنظر الى صديقتها وقالت :
- أعترف أن كلامك يحتاج الى بعض التفسير , تعالي وفسريه لي ..
فقالت إيرين ضاحكة :
- آه , هذا سهل . لقد قدمت استقالتي لتوي ... أو بالأحرى تركتها على الصينية أمام الرئيسة , إيلين روبرتس , لتراها في الصباح . لم آخذ إجازة هذه السنة , مما يعني أنه بإمكاني الرحيل بعد اسبوعين .
فقالت سالي غرين وهي تتمطى :
- يالك من محظوظة .
فردت إيرين : " سأمضي النهار بكسل , ولن يكون علي أن أتعامل مع أناس كتريشا ... آه , يا للبهجة ! " .
فضحكت سارا وعلقت :
- أنت تعلمين أنك تعشقين كل دقيقة تمضينها هنا يا إيرين . على أي حال , إذا كان هذا ما تريدينه , فحسنا فعلت . لكننا لن نتركك ترحلين من دون وداع , ولهذا سنقيم لك حفلة أو ما شابه .
فقالت إيرين في بانتصار:
- لقد وضعت برنامجا . ما رأيكن لو ذهبنا الى بلدة " دلفرستون " لحضور موكب المشاعل السنوية ؟ يقيمونه عادة في ثاني أو ثالث سبت من شهر أيلول . وهو توقيت مناسب , وبعد ذلك سنعود الى بيتي للاحتفال !
أجابت هيلين بلسان الجميع :
- هذا رائع . لقد سمعت عن موكب المشاعل لكنني لم أره قط .
فقالت سارا : " أنت لا تعرفين ما فاتك . لم أحضره سوى مرة واحدة , وهو رائع وستعشقينه " .
قالت إيرين مشيرة الى صديق هيلين : " نعم , وكذلك بوب " .
ثم أضافت : أحضريه معك أيضا , فالجميع مدعو ...
وسكتت فجأة ثم ابتسمت وهي تنظر الى الباب وتقول :
- مرحبا يا دكتور جيلسبي . لم ألحظ وجودك . كنا نتحدث عن حفلة تقاعدي .
- إذن فقد اتخذت قرارك يا إيرين ؟ سنفتقدك كثيرا .
سمرت سارا عينيها على بقايا الشاي في فنجانها وحاولت تجاهل الرعشة التي تملكتها لوجود نيال في الغرفة . لم ترفع بصرها حتى وهي تسمع خطواته تدنو منها . وأحست به حين وقف خلفها وإن لم يلمسها , فتسارعت نبضات قلبعا حتى آلمتها . ولكن يا لحماقة تصرفها ! فنيال لا يهتم لأمرها حقا , ولعل دعوته لها لمرافقته ذلك الصباح لم تكن سوى رغبة آنية , لم يشأ أن تفوته ... كان نوعا من الضلال المؤقت من طرفه . اما الحقيقة فهي أنه لا يكترث لأمرها شأنها في ذلك شأن كافة النساء .... ما عدا تلك المرأة التي أذته في الصميم , وتركت بصماتها على قلبه .
- ماذا قررت للاحتفال بتقاعدك ؟
كان في صوت نيال اهتمام ودود برَّد جو التحفظ الذي نشأ عن ظهوره المفاجىء .
فانبرت سالي تقول بروحها المرحة المعتادة :
- اقترحت علينا إيرين الذهاب الى " دلفرستون " لمشاهدة موكب المشاعل وبعد ذلك الذهاب الى بيتها لتقيم لنا حفلة السنة .
ضحكن جميعا وكذلك فعل نيال .
- يبدو لي مشروعا جيدا . هل الدعوة مفتوحة ؟
كان صوته هادئا , لكن سارا أحست بنبرة متوترة تختبىء وراء كلماته الرقيقة تلك . وتملكتها رغبة ملحة في النظر إليه , لكنها تمكنت من كبحها . فما الفائدة من النظر الى شيء غير موجود ؟
وأجابت إيرين على الفور :
- طبعا . وآمل أن تحضر , يا دكتور جيلسبي . إذا لم تشاهد الموكب من قبل , فأعلمك أنه يستحق فعلا الرحلة , وأهلا وسهلا بك في بيتي , فيما بعد , لحضور الحفلة .
- شكرا واقدر دعوتك هذه .
ولم يضف أي كلمة أخرى , فلم تفهم سارا ما إذا قبل الدعوة إم لم يقبلها واستقام في وقفته فشعرت ببرودة مفاجئة تنتابها .
- لن أفسد عليكم استراحتكم . على أي حال , أود أن أعلمكم أنني اعتذرت من ديدري روبرتس . وربما يعلم بعضكن أنني تسرعت قليلا في إنتقاد معالجتها لحالة أنجيلا مواري . وقد أدركت الآن أن اللوم لا يقع على ديدري , وأكدت لها أني أثق بمهارتها المهنية ثقة مطلقة .
وابتسم لهن ابتسامة رقيقة ثم غادر الغرفة بهدوء كما دخل .
عبرت سالي غرين عن دهشة الجميع بقولها :
- حسنا , هذا تغيير جدير بالتسجيل ! ماكنت لأتوقع أبدا أن يعترف الدكتور جيلسبي بخطئه .
ثم تنهدت بلهجة مسرحية وأضافت :
- أواه , إنه ساحر ومثير وهو أقرب الى الكمال , أليس كذلك ؟ إنه وسيم , يكرس نفسه لعمله وجذاب للغاية ... ما يجعلني أتمنى لو أنني لست متزوجة وسعيدة في زواجي .
ضحكن قبل أن يتابعن وضع الخطط لقضاء السهرة .
أصغت سارا الى ثرثرتهن لكنها لم تشارك فيها . كان جزء من قلبها شعاع مريح دافىء . إذا ما تمكن نيال من الاعتراف بخطئه فهذا يعني أنه غير ميؤوس منه كليا . ولعله سيفهم أنه قد يكون مخطئا أيضا في حكمه على أمور أخرى , كرفضه إقامة علاقة حميمة مع أية امرأة, مرة أخرى ...
- يبدو عليك الرضا , يا سارا هاريس . ما الذي تخططين له ؟
-لا شيء .
وضحكت سارا , متجاهلة نظرة عدم التصديقالتي رمقتها بها إيرين . لم تكذب . إذ لم تضع خطة فعلية . وذلك الشعاع الخافت الدافىء لم يصل الى هذا الحد , بعد . ولكنه أمر يستحق التفكير ... إنه البداية وليس النهاية المحتومة .

arewa 29-06-08 08:03 PM

8- وحدهما وسط الزحام


مرت الليلة بهدوء تام , باستثناء حادثة غريبة نسبيا . كانت سارا تنقل مريضة الى القسم في ساعات الصباح الأولى , بعد ولادة طبيعية .
وبعد أن أعطت تعليماتها تركت القسم وتوجهت نحو المكتب . كان أمامها نصف ساعة قبل أن ينتهي دوامها , وهو وقت كافي لكتابة التقرير الليلي والاستعداد لتسليم العمل الى الممرضات الأخريات .
اعتادت إيرين أن تقوم بهذه المهمة , لكنها منشغلة بولادة أخرى , فقررت سارا أن تتولى الأمر عنها . كانت على وشك الدخول إلى المكتب عندما انفتح الباب من الداخل وبرزت تريشا .
تملكت سارا الدهشة للحظة , قبل أن تقول :
- ما الذي يجري , يا تريشا ؟ ماذا تفعلين في المكتب ؟ تعلمين أنه لا يسمح للمرضى بذلك من دون أن ترافقهم ممرضة .
قالت تريشا بسرعة :
- آسفة .. كنت .. أريد أن أستعمل الهاتف .
وراحت تنظر الى الممر المظلم متجنبة نظرات سارا .
- في هذا الوقت المبكر ؟
لم تحاول سارا إخفاء عدم تصديقها . فدارت حول تريشا ونظرت جيدا في أنحاء الغرفة , ولكن كل شيء بدا منظما . فالأوراق على المكتب كما هي , وخزانة الأدوية مقفلة دوما كعادتها .
ألقت على المرأة نظرة فاحصة , وقد لاحظت عليها بعض الاضطراب . أتراه الشعور بالذنب لأنه ما كان عليها أن تدخل الى المكتب مهما كانت الظروف ؟ أم لأنها تكذب بالنسبة الى سبب دخولها ؟ وكان من المستحيل اكتشاف الحقيقة .
- اسمعي , أنا آسفة . ما كان علي أن أدخل . لكني أردت الاتصال بغاري وحسب .
- أرأيت ؟ لم ألمس أي شيء هنا .
فتنهدت سارا . كان غاري وراء كل هذا مرة أخرى , وإن لم يكن بشكل مباشر . ورأت أن لا فائدة من إحداث جلبة وإقلاق المريضات . فستخرج تريشا من المستشفى في اليوم التالي , وهكذا سيتخلصون منها ومن غاري .
انتظرت الى أن ذهبت تريشا الى سريرها , ثم دخلت المكتب وأخذت تتفحص الأدراج والخزائن بدقة . لكنها لم تجد شيئا مريبا . وبدا لها أن تريشا قالت الحقيقة , أما سبب حاجتها الماسة الى الاتصال في مثل هذا الوقت , فقصة أخرى . وكانت قصة لم تشأ سماعها فقد رأت منهما ما يكفيها .
كتبت التقرير , وسلمته الى الممرضات العاملات نهارا فور وصولهن ثم غادرت المستشفى متنهدة بارتياح . لم تأسف لانتهاء مناوبتها ليلا لهذا الأسبوع , وتمنت أن تكون الأمور أسهل حين عودتها بعد أيام . ولم يكن العمل ليزعجها أبدا إنما أمر آخر مختلف تماما ... إنه رجل طويل القامة داكن الشعر ذو جاذبية مثيرة , ويدعى الدكتور جيلسبي إذا ما أردنا التحديد أكثر .. !
***

وإذ قررت سارا أن تستمتع ببعض الراحة , وتخصص بعض الوقت لنفسها , قامت بأقل ما يمكنها من الأعمال المنزلية خلال أيام إجازتها الثلاثة . وأمضت وقتها في السباحة وقراءة الصحف , أو النزهات الطويلة سيرا على الأقدام .
قصدت النهر وسلكت الدرب الذي سارت فيه مع نيال ذلك الصباح . لكنها دهشت لعدم استمتاعها بذلك . أشياء كثيرة ذكرتها بما حدث بينهما هناك , وأسئلة كثيرة تزاحمت في رأسها .
عادت الى العمل وهي تشعر براحة اقل مما كانت ترجو. أما عزاؤها الوحيد فانشغال نيال با جتماعات العمل , حيث استحوذت قضية افتتاح وحدة جديدة في قسم الولادة على اهتمامه , وهكذا لم تكن معرضة للقائه حيثما توجهت , لكنها ما لبثت أن أدركت بعد ساعات أنها اشتاقت اليه .
شعرت بالراحة عندما لاحظت أن حمى العمل في القسم تتراجع مما يتيح لها الوقت للتفكير . حضرت أمهات جديدات للولادة فتم إدخالهن الى المستشفى , فيما خرجت أخريات . وغادرت تريشا وجويس ديننغ التي افتقدها الجميع , لاسيما أرييل التي كانت تتماثل للشفاء . توجهت سارا الى غرفتها قبل الغداء , فوجدتها تنظر بكآبة . سألتها وقد لاحظت انقباضها :
- كيف حالك الآن ؟
بدت أرييل كئيبة , فصممت , في ذهنها على مناقشة موضوعها مع الدكتورة مينا , فالممرضات يعرفن سهولة انزلاق الأمهات الى هاوية الكآبة . ويعود ذلك جزئيا الى التغيير المفاجىء بعد الولادة , والى تغير الهرمونات . وكانت أرييل بحاجة الى مراقبة ومتابعة , تحسبا لأي طارىء ...
- لابأس , كما أظن . سأمضي أسبوعا آخر , على الأقل , قبل أن أتمكن من الخروج . هذا ما قالته الدكتورة بيتل هذا الصباح .
وتنهدت آرييل مجددا قبل أن تعاود التحديق من النافذة وأضافت :
- أتمنى أن أحمل ستار معي , لكنها لا زالت غير قادرة على مغادرة العناية الفائقة .
قالت سارا تشجعها :
- إقامتها لن تطول , فصحتها في تحسن مستمر .
- أعلم ذلك . لم يكن لدي أدنى فكرة ...
وعضت على شفتيها عندما إنهمرت الدموع من عينيها .
- يجب أن لا تلومي نفسك . فهذا لن يفيدك .
وتقدمت نحو المرأة تحتضنها وهي تضيف :
- عليك الاعتناء بنفسك لتصبحي قادرة على العناية بستار عندما تخرج من المستشفى .
- هذا ما قاله لي الدكتور جيلسبي أمس .
وبدا أن أرييل لم تلاحظ تصلب سارا عند ذكر هذا الاسم , إذ تابعت تقول :
- قال لي إن علي أن أهتم بنفسي من أجل ستار .
- وهو على صواب طبعا .
وابتعدت سارا عن النافذة وأمسكت بلوح الملاحظات حول حالة أرييل , محاولة التركيز على ما دون عليه بدلا من الاستماع الى دقات قلبها التي تسارعت لمجرد ذكر إسم نيال جيلسبي .
كان ضغط دم آرييل طبيعيا , ولم يكن هناك ما يدل على أنها ستتعرض لمزيد من النوبات . بقيت المرأة تحت المراقبة الشديدة خوفا من إصابة كليتيها بأي تلف فأعراض الإرجاج تؤثر بشدة فيها . وقد أظهر فحص عينات البول والدم ضرورة الاهتمام وجعل من الضروري إبقاء أرييل في المستشفى لمدة أطول بغية ملاحظة تطور حالتها .
وضعت لوحة الملاحظات من يدها ثم تقدمت نحو المرأة تحيطها بذراعها وتقول :
- يجب أن تفكري بإيجابية وفي ما ستفعلينه بعد ان تغادري المستشفى . تعلمين أنه ليس من الحكمة أن تأخذي ستار الى المخيم لأنها ستحتاج الى عناية كبرى في الشهور الأولى . فهل قررت شيئا ما ؟ هل هناك من سيساعدك ؟ أسرتك مثلا ؟
- لا ليس لدي أسرة . لقد نشأت في ملجأ .
مسحت أرييل دموعها بظاهر يدها وأكملت :
- لقد تناقشت مع جيسون في الأمر الليلة الماضية , وقررنا قبول عرض جويس حتى نجد مكانا لنا . عرضت علينا أن نقيم معها عندما أخرج من المستشفى . فزوجها رالف يدير مصبغة وقد عرض على جيسون وظيفة معه . سيجرب ذلك على أي حال .
هتفت سارا , وهي تفكر في هذا الحظ الحسن :
- آه هذا رائع .
لقد أثمر نقل جويس الى غرفة أرييل أكثر مما توقعوا فقد أقامت المرأتان علاقة صداقة جيدة , وساعد على ذلك تقبل أرييل لوضع سام من دون تردد .
منتديات ليلاس
وعندما خرجت الى الممر بعد دقائق , كانت لا تزال تبتسم . كان جميلا أن ينتج عن تلك الحادثة السيئة أثر جيد . وعندما تجاوزت غرفة الممرضات نظرت الى ساعتها فتملكتها الدهشة لأنها أدركت أنه وقت الغداء . وكانت قد أحضرت معها الشطائر ففكرت أن تأكلها في الحديقة فالطقس جميل .
وما إن استقرت على المقعد الخشبي حتى سمعت وقع خطوات خلفها . نظرت فكاد قلبها يتوقف عن الخفقان وهي ترى نيال . عندما رآها , توقف , وتردد لحظة قصيرة كانت كافية لكي تشعر بأنه لم يسر لرؤيتها هناك .
أخفضت بصرها وتظاهرت بانشغالها بلفافة الشطائر , فبذلك لا يضطر الى محادثتها فقد بدا جليا أنه يكره الفكرة .
- سارا ؟
كان صوته مزيج من الاستفهام والمرح , سمرت ناظريها على اللفافة في حجرها , وركزت على نزع الورق اللاصق عنها . لم تشأ أن تلتفت الى تينك العينين الباردتين فترى ما تتوقع رؤيته ...
- انظري الي يا سارا .
جاء صوته حازما , ويده التي امتدت لترفع لفافة الشطائر عن ركبتيها جامدة كالصخرة .
ابتلعت غصة الألم في حلقها وهي تجاهد لتجد ما تقوله , فيجب أن تقول كلمة يفهم منها الدكتور نيال جيلسبي منها أنها لا تبالي بشعوره نحوها !
وكانت على وشك النطق بكلمة باردة , حين رفعت وجهها لتقابل عينيه الباردتين الخضراوين ... ولكنهما لم تكونا باردتين كما توقعت !
ساد بينهما صمت قصير شعرت معه سارا وكأن قلبها توقف عن الخفقان . وراحت تتساءل عن معنى تلك النظرة في عيني نيال . ثم تحركت يده لتلامس خدها بنعومة جعلتها ترتجف كورقة في الخريف وأخذ يمررإصبعه على شفتيها تمنت في تلك اللحظة أن تلامس خده كما فعل معها لكن الخجل جعلها لا تحرك ساكنا ثم وقبل أن تستوعب ما يجري , أشاح وأنزل يده الى جانبه , تاركا إياها تتخبط في بحر الحرمان والألم .
- يتعلق الأمر بما جرى , ذاك اليوم , قرب النهر أليس كذلك يا سارا ؟
دفع بشعره الى الخلف بصبر فارغ , ولم تتمكن من لومه على شعوره هذا . فلم لا تنفك تحمل المسألة أكثر مما ينبغي ؟
وشرعت تقول : " لا أدري ما تعنيه .. " .
فقاطعها : " إياك .. إياك أن تكذبي علي يا سارا . فهذا ما لا أحتمله وهو أهم شيء بنظري " .
أهم شيء ؟ ما الذي يعنيه ؟ حدقت ببلادة , وتأملت العذاب الذي بدا جليا على ملامحه من دون أن تفهم سببه .. ثم هبت واقفة فجأة وقالت :
- أنا أعتذر , يا نيال .
بان الازدراء في صوتها لكنه بالكاد , أخفى ألمها وهي تضيف :
- لم أدرك أنك تشعر بهذا القدر من الذنب إزاء ما حدث .
- الذنب ؟
وتقدم نحوها قليلا حتى كاد يصطدم بها . وعندما ردد ذلك السؤال , تنبهت الى ما قالته , وأدركت على الفور أنها لا تود الاستمرار في هذا الحديث .
سألها بخشونة :
- أشعر بالذنب ؟ ما معنى ذلك بحق الله ؟
- لاشيء . إنس ما قلته . أنا .. أنا لم أعن ذلك .
وسرعان ما اندفعت بعيدة عنه , وهرولت مسرعة نحو طريق الحديقة الضيق . ناداها باسمها -مرة واحدة , بصوت يكاد لا يعلو على صوت وقع خطواتها على الحصى , لكنها لم تتوقف .
ما الفائدة ؟ وماذا ستقول له ؟ أنها تشعر مثله بالأسف على تلك اللحظات عند النهر ؟
خنقت ضحكة مرة وهي تدخل المستشفى . سيكون ذلك كذبا ! لقد قال لها إنه لا يريدها أن تكذب عليه ما لن تخبره أيضا ان نظراته تلك أصبحت هاجسها الوحيد وستبقى كذلك . فلا بد أنه لا يود سماع هذه الحقيقة .
***
- حسنا , كل منكم يعرف ما عليه أن يفعله .
ونظرت إيرين الى الجمع المحتشد وأضافت :
- علينا أن نشق طريقنا في هذا الجمع . وبعد أن يمر الموكب , سيعود كل منكم الى سيرته عند ... فلنقل عند الساعة العاشرة تقريبا .
قالت هيلين ضاحكة :
- لم لانضبط ساعاتنا على وقت واحد ؟ فهكذا نصل في الوقت نفسه .
- يا لك من امرأة سليطة اللسان !
ومدت إيرين يدها لتقرص أذنها , وضحكت حين تهربت صديقتها , ثم أضافت :
- انني أحاول التأكد من أنكم ستحصلون على حصة عادلة من مقصف العشاء الذي أعددته . فأنا أعرفكم كلكم , تأخذون الأمور بالمزاح والتهكم , وبعد ذلك لا تلومون سوى أنفسكم !
ضحك الجميع , وتوجهوا نحو الطريق الذي سيمر به موكب المشاعل , والمؤدي الى وسط المدينة . دهشت سارا وهي ترى عدد المدعوين الى حفلة إيرين , ساد جو من الضحك والهزل بينهم وهم متوجهون الى مركز المدينة .
تمنت لو تستطيع أن تتفاعل معهم , لكنها لم تحضر إلا خوفا من استياء إيرين . فمنذ تلك المواجهة بينها وبين نيال , منذ أسبوعين , لم تعد تشعر بالحماسة حيال أي شيء .
- هل أنت واثقة من أنك بخير , يا عزيزتي سارا ؟ هل هناك ما أثار إشمئزازك ؟
ابتسمت وهي تلاحظ الاهتمام البادي في صوت إيرين , وأجابت :
- لا , إنني منهكة وحسب .
- هل أنت واثقة من ذلك ؟
والتفتت إيرين الى الوراء , ثم لوحت لزوجها الذي كان ينتظرها . عادت تتأمل سارا وتقطب جبينها قائلة :
- لقد لاحظت أنك هادئة جدا مؤخرا , فإن كان هناك ما يشغل بالك فأخبريني ... أنت تعلمين ذلك , أليس كذلك ؟
- نعم شكرا يا إيرين . وكما قلت لك , أظنني منهكة قليلا , قد أطلب إجازة .
- فكرة حسنة . اقضي عطلتك في منطقة حارة حيث الشمس والبحر والرمال و ...
ضحكت سارا , وقالت : " صورة جميلة " .
لم تشأ أن تجعل إيرين تتكهن بمشاعرها , فالشخص الوحيد الذي يهمها أن تكون معه لا يريد حتى أن يشعر بوجودها .
نظرت حولها , بحثا عن عذر للتهرب من مزيد من النصائح .
- آه أنظري .. هذا مايك . سأكلمه . أراك فيما بعد .
وأسرعت من دون أن تنتظر جواب إيرين , لكنها ما إن غابت عن نظر صديقتها , حتى حولت وجهتها , فآخر ما كانت تريده هو أن تمضي السهرة مع مايك لتشعر بمزيد من الذنب . وقد دعاها للخروج معه مرات عدة في الأسبوعين الأخيرين , لكنها رفضت الدعوة كل مرة . إذ لم يكن من الإنصاف أن تعطي مايك الأمل في شيء لن يكون .
وسرعان ما غابت بين الجموع المحتشدة للتفرج على الموكب والاشتراك فيه . رأت مشاعل من مختلف الأشكال والأحجام , بعضها معقد التصميم , مما جعل من الصعب على المرء أن يصدق أنها مصنوعة من الخيزران أو خشب الصفصاف أو من مناديل ورقية بيضاء .
قصد الكثير من صبية القرية ورش العمل قبل موعد الموكب بأسابيع ليصنعوا مشاعلهم . وها هم يحملونها عاليا مزهوين بها , والشموع في داخلها تلقي بوهجها نحو السماء المظلمة . ساد جو من الإثارة في كل مكان , لكن سارا شعرت بأنها بعيدة عن هذا الصخب . بدا وكأنها فقدت مؤخرا , قدرتها على الاستمتاع بحياتها . ولحسن الحظ , كان نيال مشغولا جدا فاقتصر الوقت الذي أمضاه في قسم الولادة على الاستشارات .
وكانت قد ساعدته في كل عملية قيصرية أجراها , وجاهدت كي لا تظهر له مشاعرها على الاطلاق . ولا يعني هذا أنه ألمح الى ما حدث لكنها , على أي حال , لم تمنحه الفرصة لذلك . فهي لم تشأ أن تثير موضوع ما عنته حين اتهمته بأنه يشعر بالذنب .
- سارا .. سارا !
وقفت مكانها حين سمعت أحدا يناديها . والتفتت حولها لتبتسم وهي ترى لورا و إيان يتقدمان نحوها من بين الحشود وما كادت تسلم عليهما , حتى شعرت بجسد صغير يرتمي عليها , فضحكت وهي ترفع روبي عاليا وتحتضنه , هاتفة :
مرحبا يا أشعة الشمس .
أخذت تقبله ضاحكة عندما إحتضنها بشدة . وكان روبي يحب كل من يتعرف إليه . أخذت لورا إبنها من بين ذراعي سارا وهي تضحك وتقول :
- ستخنق سارا المسكينة بهذا الشكل . تعال , يالها من تحية ! لكنها تثبت أننا لم نرك منذ فترة طويلة . فماذا فعلت في هذه الأثناء ؟
- آه , لا شيء يذكر . كيف حالك يا إيان ؟
طرحت سارا سؤالها حين تقدم من بين الجموع . كان يحمل مشعلا على طرف عصا طويلة , وعندما سألته عما يمثله , قطب حاجبيه قائلا :
- إنها سيارة . وقد صنعها روبي بنفسه .
- إنها جميلة . يالك من صبي ماهر !
وضحكت وهي تعبث بشعر روبي , ثم جمدت شفتاها حين رأت الرجل القادم نحوها , من خلف أصدقائها . حدقت في نيال فاختفى كل من لورا وإيان والحشد كله ...
أخذت نفسا عميقا , فعاد كل شيء , فجأة , كما كان . وجه روبي الضاحك , تقطيبة لورا المستفهمة التي التفتت لترى ما الذي استرعى انتباه سارا ..
قال نيال معتذرا :
- أرجو ألا أكون قد قاطعتكم . رأيت سارا صدفة , وأنا أحتاج الى التحدث اليها , إن لم يكن لديكم مانع . بالمناسبة أنا نيال جيلسبي , المستشار الجديد في المستشفى .
فقال إيان وقد مد يده مصافحا :
- تشرفنا بمعرفتك . أنا إيان غريدي وهذه زوجتي لورا وهذا الشاب هو روبي .
- سمعت الكثير عن روبي في المستشفى .
وضحك نيال عندما ألقى روبي بنفسه بين ذراعيه على الفور , وحمل الطفل , قائلا :
- مرحبا روبي , أنا نيال .
- نيا ...
وأخذ روبي يجاهد ليلفظ الاسم الغريب , وقد سره أن يجد صديقا جديدا . لم ينتبه للصمت القصير الذي ساد , لكن سارا أحست به بقوة . فالتفتت الى لورا فأدهشها النظرة المقطبة التي رمقت بها نيال . قالت لورا فجأة :
- لدي شعور غريب بأنني رأيتك من قبل .
ثم ضحكت بارتباك وأضافت :
- من حسن الحظ أنني امرأة متزوجة وسعيدة بزواجي والا لفهمت الأمر خطأ .
فأجاب نيال باسما :
- يا ليت ! لكني واثق من أنني كنت لأتذكرك لو تعارفنا من قبل , يا لورا .
جاء رده مهذبا , لكن سارا لاحظت فيه توترا مفاجئا , مما أثار فضولها على الفور . ما الذي جرى لنيال ؟ ولماذا إنزعج حين ظنت لورا أنها تعرفه ؟
ولم تجد الوقت الكافي لتحليل هذه الرموز , إذ التفت اليها وسألها :
- نسيت أن أسأل عن الوقت الذي سنجتمع فيه لنتوجه الى منزل إيرين ؟
فتمتمت وقد انقبض قلبها :
- الــ ... العاشرة .
لم تعتقد أنه سيحضر الليلة . وفكرة أن تمضي السهرة معه , جعلتها تسعى لإيجاد طريقة للهرب .
- أراك هناك إذن .
وابتسم لها ابتسامة باردة جامدة قبل أن يعيد روبي الى والديه . لكن ظهر في ابتسامته تلك لمسة خفيفة من التحدي . وراحت تتأمله وهو يشق طريقه بين الجمع , متسائلة عما إذا كان هناك طريقة تتجنب بها حضور الحفلة ...
قالت لورا متنهدة :
- أتمنى أن أتذكر أين رأيته من قبل . عندما ذكر اسمه بدا لي مألوفا , لا كنني لا أستطيع أن أتذكر وهذا ما يغيظني .
ضحك إيان وقال :
- همممم ... من حسن الحظ أنني لست رجلا غيورا , وإلا أقلقني اهتمامك بهذا الطبيب .
أجابت ببساطة تعكس سعادتهما :
- أنت تعلم أني لا أفكر في أحد سواك يا حبيبي .
ثم أضافت :
- ولكنني واثقة من أنني سأتذكر أين تعرفت الى نيال جيلسبي من قبل .
قال إيان :
- هذا ما يحدث عادة . فما إن أغمض عيني حتى توقظني بضربة من كوعها لتخبرني بما تذكرت لتوها . وبعد ذلك تنام هي قريرة العين فيما أبقى أنا مستيقظا طوال الليل .
ضحكا , وشاركتهما سارا الضحك رغم حيرتها لما حدث للتو . كان تصرف نيال غريبا عندما ذكرت لورا أنهما تقابلا من قبل ... لقد ترك الأمر يمر ببساطة لكنها شعرت بانزعاجه . ولم تجد فرصة لتعيد التفكير في ذلك لأن روبي استرعى انتباههم , وطلب أن يحمل مشعله .. عندما بدأ الاستعراض , جابوا في المدينة , فرافقتهم سارا , وقد حمل روبي مشعله مزهوا به . وبعد ذلك أقيمت الألعاب النارية في الحديقة العامة فبقيت مع لورا وإيان لمشاهدتها , مع أن عقلها لم يكن يسجل ما يجري إلا جزئيا , وراحت أفكارها تسبقها الى الحفلة التي ستقام فيما بعد .
ترى هل سيثير نيال موضوع ما قالته في الحديقة ذلك اليوم ؟ أم سيفضل تناسيه ؟ لقد أشاع الاضطراب في نفسها منذ قابلته . وتنهدت وهي تنظر الى صاروخ انطلق نحو السماء وانفجر ثريات من النجوم الحمراء والذهبية . يوما ما , ستفهم سبب تأثير نيال فيها .. وتملكها شعور بأن الجواب سيحمل معه الكثير من المشاكل .
استغرقت عودة سارا الى حيث ركنت السيارات وقتا طويلا , فقد كانت الزحمة خانقة حتى استحال على المرء في بعض الأحيان , شق طريقه فيها . وأخيرا نجحت في ذلك , وهي لا تزال تفكر في عذر تختلقه لئلا تذهب الى منزل إيرين . إن قضاء الحفلة برفقة نيال هو ما ودت تجنبه في الوقت الحالي .
هتفت هيلين حين رأتها :
- كنا على وشك أن نفقد الأمل . تقدمتنا إيرين مع معظم المدعوين لكننا قلنا إننا سنقلك معنا .
وألقت هيلين نظرة ارتياب الى مقعد السيارة القديمة الخلفي , ثم أضافت :
- ولكن المكان سيكون ضيقا . جمعنا المزيد من الناس أثناء الاستعراض .
وشرعت سارا تقول , متمسكة بالفرصة السانحة لها :
- هذا غير مهم . اسمعي يا هلين لا أظن ...
سأقل بنفسي سارا وأي شخص آخر يحتاج الى ذلك , طبعا .
استدارت بسرعة عند سماعها صوت نيال , وفتحت فمها لترفض العرض , لكن هيلين سبقتها بالقول :
- هذا عظيم ! وسيسهل الأمور كثيرا . وما من شخص آخر تقله لأننا تدبرنا أمرنا . الى اللقاء هناك .
لوحت هيلين بيدها بسرعة , وقفزت الى سيارتها ثم صفقت الباب لتنطلق بهم السيارة . وحاولت سارا أن تفكر في شيء تقوله فلم تفلح , ولم تكن تستطيع أن ترفض عرضه من دون عذر مناسب.
- جاهزة ؟
فتح نيال باب سيارته وانتظرها , ولم يكن أمامها خيار آخر , فصعدت الى جانبه . ساد الصمت بينهما في الأميال الأولى التي قطعاها قبل أن يتركا المدينة . وكان نيال يركز اهتمامه على الزحام أما سارا فكانت تحاول عدم التفكير في شيء معين . وفضلت الجلوس صامته , على أن تخاطر بقول ما لا ينبغي أن تقوله .
- اسمعي يا سارا , علينا أن نتفاهم على بعض الأمور , بدءا مما حدث ذلك اليوم .
أجفلت حين اخترق صوته الصمت فجأة , وخفق قلبها بألم عندما سمعت ما قاله .
- ليس لدي فكرة عما تعنيه ...
راحت تقول هذا , متلهفة الى تجنب حديثه , لكنه قاطعها بفروغ صبر , وقال بخشونة :
- بل تعرفين . إنني مدين لك بتفسير , وربما كان علي أن أخبرك بذلك قبل ...
وسكت فجأة ثم انحنى الى الأمام ليحدق من الزجاج قائلا :
- ما هذا بحق الله .. ؟
- ماذا ؟
وأجفلت سارا وراحت تحدق في الطريق أمامهما . كان الظلام حالكا , بعد أن خلفا المدينة وراءهما . ولم تكن الطريق مضاءة , ولم يكن يبدد الظلام سوى مصباحي سيارتهما . في البدء , لم تر شيئا , لكنها ما لبثت أن لمحت ضوءا صغيرا أصفرا يتمايل بجنون وسط الطريق .
خفف نيال من سرعته , ثم ضغط بعنف على الكابح , وهو يتمتم شاتما عندما ظهر رجل أمام نور سيارتهما . كان يحمل في يده مصباحا كهربائيا وراح يلوح به في الظلام , ثم أتجه نحو السيارة راكضا حالما أوقفها نيال , وأخذ يتكلم بسرعة , وهو يلهث بشدة .
خرجت الكلمات متقطعة من فمه وهو يقول : " اخرج ... ساعدنا .. إنها زوجتي " .
فسأله نيال وهو يفتح الباب بسرعة :
- هل تعرضتما لحادث ؟
- لا . لا .
وأخذ الرجل يعب الهواء ويحاول أن يرغم الكلمات على الخروج من فمه مترابطة :
- ليس حادثا , تمزقت عجلة السيارة , والعجلة الاحتياطية مفرغة من الهواء . وزوجتي تلد .
استدار وراح يركض عائدا نحو سيارته , وكأنه يتوقع منهما اللحاق به .
- لم يساورني الشعور بأن هذا يحصل عمدا ؟

arewa 29-06-08 08:07 PM

9- في عينيه ... ندم


- ماذا علينا أن نفعل ؟ لا يمكن أن تلد جيني هنا على جانب الطريق . ابتسم نيال ليطمئن الشاب الذي راح يدور حولهما بقلق .
- هذا الطفل آت شئنا أم أبينا . لا تقلق يا بول , لقد ولدت أطفالا كثيرين في ظروف أسوأ من هذه . والآن , إذا أردت القيام بعمل جيد إتصل بمركز الإسعاف من جديد .
أسرع بول الى السيارة ليجري الاتصال , فيما عاد نيال الى المرأة الشابة المستلقية على العشب بعد أن أصنع لها فراشا مؤقتا من بساط وسترات قديمة كانت في صندوق السيارة . وضعت سارا المصباح في موضع مناسب , لتنشغل بعد ذلك في فحص تطور حالتها .
- كيف حالها يا سارا ؟
كان صوت نيال هادئا حياديا , لا يكشف عن شعوره . وكانت تعلم حاجة جيني الى الهدوء والاسترخاء في هذا الوضع حيث لا مسكنات للألم .
- كل شيء على ما يرام يا دكتور , يمكنني أن أرى الآن رأس المولود .
أجابت سارا بهدوء مماثل , رغم أن قوله أثار فضولها , ما الذي عناه حين قال إنه ولد الكثير من الأطفال في ظروف أسوأ من هذه بكثير ؟
- هذا حسن . لن يطول الأمر إذن .
والتفت الى جيني , وقال يشجعها :
- أريدك يا جيني أن تركزي تفكيرك على كل ما تعلمته في مرحلة التدريب قبل الولادة . ويمكنك أن تدعي الأمر لي ولسارا . عندما أقول لك أن تلهثي لا أن ترفعي , ستفعلين , وإن كنت ترغبين بالقيام بعكس ذلك . هل فهمت ؟
- نعم فهمت .
واستطاعت جيني أن تبتسم رغم الرعب الذي أطل من عينيها وقالت :
- أظن أن بول عوض عن خطئه بعدم فحص العجلة قبل الانطلاق , وذلك بتوقيفكما لطلب العون!
- أتصور أن احتمال نجاحه في توقيف سيارتي كان واحدا من ملايين !
وضحك نيال ثم ركز انتباهه الكامل على جيني .
أخذت سارا تراقب بعناية , تطور الولادة , وأومأت حين نظر اليها قائلة :
- كل شيء يسير على ما يرام .
قال بول وهو يندفع نحوهم ليخبرهم بما جرى معه :
- ستصل بعد عشر دقائق أخرى . يبدو أن زحام موكب المشاعل قد أعاقها .
وركع على الأرض قرب زوجته وأمسك بيدها وهو يسأل :
- كيف حالها ؟ والطفل ؟
- بخير . كل شيء يسير ... آه ها هو الطلق مرة أخرى !
قطع كلامه عندما شهقت جيني وقد عاودها الطلق .
- والآن اصبري ... هذا حسن .. حاولي ألا ترفعي .
- ها قد بدا الرأس .شعرت سارا بقشعريرة الإثارة . وبرفق , أمسكت برأس المولود , وأدخلت خنصرها في فمه لتخرج منه المواد المخاطية , ثم ضحكت حين صرخ فجأة باكيا .
قالت :
- حسنا , هذا الصغير يسعى لإعلان وجوده على الفور . لم ينتظر حتى يخرج كليا الى هذا العالم الواسع .
وبعد دقائق انتهى كل شيء . لفته سارا بوشاح كبير كانت جيني قد وضعته في الحقيبة التي حملتها معها الى المستشفى , ثم ناولت الطفل الصارخ الى أمه قائلة :
- إنه صبي صغير ذو رئتين قويتين بحسب الصوت الصادر عنهما .
- صبي ؟
راحت جيني تضحك وتبكي في الوقت نفسه وقد نسيت خوفها وألمها حين احتضنت ابنها بين ذراعيها . انهمرت دموع بول هو أيضا , وبدا على وجهه من الذهول وهو ينظر الى ابنه .
شرع يقول :
- لا أدري كيف أشكركما ...
ثم سكت بعد أن غلبته المشاعر .
فقال له نيال وهو يربت على كتفه :
- لا داعي لشكرنا , فنحن مسروران للغاية لتمكننا من المساعدة .
والتفتت الى الطريق بعد أن سمعوا صوت سيارة الإسعاف البعيد , ثم ضحك بهدوء معلقا :
- يبدو أن سيارة الإسعاف نجحت أخيرا في الوصول . حسنا , أن تصل متأخرا خير من ألا تصل أبدا .
قامت سارا بتغطية الأم وطفلها بدثار , ثم نهضت وانتظرت بجانب الطريق حتى توقفت سيارة الإسعاف . وبعد ثوان , رفع طاقم السيارة الأم والطفل لنقلهما , وكانو على وشك إغلاق الباب , عندما نادت جيني :
- انتظروا لحظة . ما اسمك الأول يا دكتور جيلسبي ؟
فأجاب على السؤال بحيرة : " نيال "
- نيال .
أخذت جيني تردد الاسم ثم قالت :
- نعم , إنه يعجبني .
والتفتت الى زوجها ضاحكة وأضافت :
- لم نستطع أن نتفق على اسم , لكن أظننا وجدنا الاسم المناسب . هل نستطيع أن نطلق اسمك على ابننا , يادكتور ؟
فأجاب نيال برقة :
- هذا يشرفني , يا جيني . شكرا لك .
ظهرت مشاعر عميقة في صوته فتسببت بغصة في حلق سارا .
غالبت دموعها وهما يلوحان لسيارة الإسعاف , وتملكها العجب لرغبتها في البكاء بعد ما حدث الليلة .
- حسنا , كانت أمسية استثنائية , أليس كذلك ؟ ولم تنته بعد .
نظر ساخرا الى بقعتي الوحل على ركبتي بنطلونها الجينز . ثم التفتت الى بنطلونه الذي كان قذرا أيضا , وقال :
- أظن أنه علينا أن نغير ملابسنا قبل أن نتابع طريقنا الى الحفلة . وإلا سنضطر الى تقديم شرح مفصل عن سبب هذه الحالة المزرية .
شعرت سارا بوجهها يحمر خجلا وهي تسمع نبرة المزاح في صوته .
فأسرعت نحو السيارة , كي لا تفكر في التفسير الذي يعطيه الآخرون لحالة ملابسهما .
نظر نيال إليها وهو يجلس خلف المقود :
- بيتك أم بيتي ؟
- عفوا ؟
أجفلت وهي ترى الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه وهو ينطلق بالسيارة .
- هل نذهب الى بيتي أولا لأغير ملابسي , أم تريدين الذهاب الى بيتك ؟
- آه .. ذلك ... ذلك غير مهم حقا .

وتساءلت عما إذا كانت تتخيل أشياء لا وجود لها . هل سمعت حقا تلك النبرة العابثة في صوته ؟
شغلت هذه الفكرة بالها طوال الطريق ومع ذلك , وحين توقفت السيارة أمام بيته , لم تكن واثقة مما إذا كانت مخيلتها تعبث بأعصابها مرة أخرى . نظرت حولها بسرعة , متسائلة عما إذا كان عليها أن تنتظر في السيارة فيما يغير ثيابه . لكنه اتخذ القرار بدلا منها , حين دار حول السيارة ليفتح الباب لها .
منتديات ليلاس
تبعته سارا الى المنزل . وعندما أشعل الأنوار نظر اليها باسما نظرة اعتذار , بعد أن لاحظت أكوام الخشب والمعدات منثورة على أرض الردهة :
- انني أجدد المنزل
لهذا أعتذر عن هذه الفوضى . لحسن الحظ , لا آتي الى هنا إلا للنوم ولذلك لا ألاحظه . أنهيت العمل في المطبخ , فهل تريدين انتظاري هناك ؟
- نعم بالطبع .
وأخذت تنقل خطواتها في الردهة بحذر , ثم شهقت مسرورة عندما فتحت باب المطبخ , وقالت :
- آه هذا جميل جدا .
- هل أعجبك ؟
وتبعها الى المطبخ ثم أخذ ينظر حوله بابتسامة راضية وأضاف :
- لقد جاءت النتيجة كما أردتها بالضبط . عندما أشعر بالكآبة على حالة المكان , أدخل الى هنا لأذكر نفسي بأنني لم أخطىء حين اشتريت هذا المنزل .
فقالت ضاحكة , غير قادرة على إخفاء اعجابها بالمطبخ :
- لم تخطىء حتما .
ومررت إصبعها على خشب الصنوبر الذي صنعت منه الخزائن ورأت خزانة ذات رفوف للأطباق تمتد من الأرض الى السقف , وقد رتبت فيها أطباق صفراء وزرقاء تتماشى مع ستائر النوافذ .
سارت الى النافذة لتنظر منها الى الحديقة , وأجفلت عندما لمس نيال ذراعها بخفة , ليحول انتباهها الى حيث كان يشير :
- تلك هي أدير تحلق . هل ترينها ؟
- نـ ... نعم .
حاولت أن تجعل نبرة طبيعية ولكنها عجزت عن إخفاء ارتجاف كلمتها هذه . كان نيال قريبا منها للغاية فاشتمت رائحة العشب التي علقت بثيابه وامتزجت برائحة النظافة التي تفوح منه . أخذت نفسا عميقا , فساءت الأمور أكثر . وازدادت فعالية الرائحة , فجعلت رأسها يدور . وتسارعت نبضات قلبها , وأدركت انها تحبس أنفاسها .. ثم .. ابتعد نيال فجأة .
- سأبدل ثيابي ولن أتأخر . حضري لنفسك القهوة إذا شئت . ستجدين كل ما تحتاجينه في الخزائن.
- شكرا .
وانتظرت حتى ابتعد , فاستدارت تحدق في الباب ثم تنفست بعمق قبل أن تبدأ بتحضير القهوة ... أرادت أن تشغل نفسها أكثر مما أرادت أن تشرب القهوة . وفضلت ذلك على الجلوس والتفكير في طبيعة الشعور الذي أثاره نيال فيها حين وقف قربها منذ دقائق .
وضعت إبريق القهوة على الموقد الكهربائي , ثم ضغطت على الزر . فتعالى صوت دوي , انطفأت بعده الأنوار فجأة وغرق المكان كله في ظلام دامس .
ضغطت سارا على قلبها الذي تسارعت خفقاته , وتساءلت عما فعلته . ثم سمعت صوت نيال يناديها , فسارت باتجاه ما ظنته الباب لكنها ما لبثت أن أطلقت صرخة ألم حين اصطدم وركها بزاوية المنضدة .
صاح حالما سمع صوتها :
- سارا ؟ هل أنت بخير ؟
واندفع يهبط السلم ركضا , ثم أطلق شتيمة حين تعثر بكومة من الأخشاب في الردهة .
سارت نحو الباب باحتراس , حتى لا تصطدم بشيء آخر , ووركها لا يزال يؤلمها :
- أنا بخير يا نيال . لا أدري ما الذي حدث . ضغطت على زر الموقد الكهربائي فانقطعت الكهرباء . آسفة .
- هذا غير مهم . هل أنت بخير ؟
كان مجرد ظل عندما تقدم نحوها في الردهة . سادت الظلمة في المنزل , ولم يضئه سوى شعاع القمر الفضي الذي تسلل عبر نافذة المطبخ .
عندما وصل الى عتبة الباب كان في عينيه قلقا ولهفة عليها أدهشاها .
اتسعت عيناها لرؤيته بهذا الشكل , ولم تستطع تحويلهما عنه . كان جسمه متناسقا , رائعا . لاحظت ذلك وعيناها تنتقلان من كتفيه العريضتين الى وركيه الضيقين , وبدا كتمثال من العظام والعضلات القوية . ولم تلاحظ التعبير الذي بدا على وجهه إلا بعد أن رفعت عينيها ورأت نظرة الاهتمام التي رمقها بها فأيقظت حواسها كلها .
- سارا ... هل أصابك مكروه ؟
نطق باسمها برقة , كما نطقه ذلك اليوم عند النهر , فتملكها دوار عندما اختلط المشهدان في ذهنها .
- لا , لا شيء يستحق الذكر .
وفي لحظة سحرية ومن دون مقدمات أخذها من خصرها وقربها منه لتلتقي بعدها شفتيهما في قبلة دافئة زاخرة بمشاعرهما التي حاولا أن يكبتاها امتزج فيها الترقب بالخوف إذ أدركا أنهما يتعديان الحدود التي رسماها ذلك اليوم عند النهر .
- سارا .. سارا ..
نطق بإسمها مرة أخرى , وراح يكرره بشوق , فجعله من الجمال بحيث اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسند رأسها على صدره الدافىء . رفعت رأسها وأخذت تتأمل قسماته أرادت أن يعرف كم تحبه وتشتاق اليه إلى وجوده ... وقربه .. وحبه تسللت يده لتمسح الدموع من على وجنتيها وراح يقبل بنعومة أهدابها بادلته قبلاته وكأن غيمة من الشوق واللهفة كانت تلفهما معا .
- نيال ...
همست باسمه خارقة الصمت , فشعرت به يجمد مكانه وهو يتلمس العواطف الجياشة التي التي حملها صوتها . وتوقف قلبها عن الخفقان حين عما إذا كان يرفض ما تقدمه له من حب وحنان .
لكنه فاجئها حين حملها بين ذراعيه قائلا:
- تعلي نخرج الى الشرفة ونبتعد عن هذه الفوضى .
تعلقت بعنقه وخرج بها الى الشرفة , حيث وضعها برفق على الإرجوحة وجلس بجوارها فلم يستطع تمالك نفسه عن ضمها بين ذراعيه وشدها الى صدره وتقبيلها لدرجة أنها لم تستطع أن تتنفس . فتأوهت حين التصقت بجسده وقد امتدت يداه لأزرار قميصها وراح يفكها بيد مرتجفة من عمق المشاعر أزاح قميصها وراح يقبل كل إنش من جسدها فذابت بين يديه . رفعت بصرها اليه لتلتقي نظراتهما وكان نظراته تقول لها هل أتوقف لكنها كانت في عالم آخر عالمهما معا نعم انها تحبه وتريده لها , وقد أدركت أن هذه الأمسية انطبعت في ذهنها الى الأبد . لم تحب رجلا آخر من قبل , ولم ترغب في ذلك قط . لكن البهجة والسعادة غمرتاها الآن , وهي في أحضان هذا الرجل الذي استحوذ على حبها واهتمامها وعواطفها كلها .
* * *
- سارا .
ناداها باسمها برقة من جديد , لكن صوته حمل نبرة جعلت قلبها يجمد . أبقت عينيها مغمضتين وقد تملكها إحساس بالخوف .
- آه , يا سارا .
ارتجفت سارا وهي ترى نظراته المصوبة اليها , وأخذت تشعر بمزيج من الارتياح والشوق إليه . سيكون كل شيء على ما يرام , لأن نيال ماكان ليظهر لها تلك العاطفة لو لم يكن يُكنُّ لها بعض الحب .. وماذا لو لم يكن يحبها ؟ لم تستطع التخلص من هذا الاحساس بالشك , فأجفلت حين ابتعد عنها وهو يقول بهدوء :
- يجب أن نتحدث , يا سارا .
- لماذا ؟
وضحكت ضحكة قصيرة , اختلط فيها التوتر بالشك , وأضافت :
- ماذا هناك لنقوله , يا نيال ؟ مدت يدها ناحية ذراعه لتعيده الى جانبها وأضافت :
- أردت منك أن تعرف مشاعري نحوك , وأنت أيضا أردت ذلك .
- نعم , لقد أردت ذلك .
كان في موافقته ألم مبرح جعلها ترجع ذراعها الى جانبها , شعرت بقلبها يدمى فشهقت . رأت وجهه يتغضن , وهو يغالب عواطفه , فعرفت أنها لن تنال منه أكثر من ذلك .
هبت واقفة , حتى أنها لم تكترث لعريها . فقد ندم نيال على إظهار اهتمامه بها وعواطفه نحوها ! وأحست حين أدركت ذلك أن أثمن لحظات حياتها أضحت رخيصة .
بدا وجهه قاتما , كما غاب لون عينيه فبدتا باردتين فارغتين .
- سأحضر القهوة . لا !
ورفع يده يسكتها حين رآها تهم بالكلام , وأضاف :
- أقل ما علي أن أفعله هو أن أشرح لك الأمر يا سارا .
ودخل الى المنزل قبل أن تنطق بكلمة واحدة . اخترق وقع قدميه على الأرضية الخشبية السكون . أخذت تتنفس بعمق ولكن الهواء أبى أن يملأ رئتيها , وأحست بالموت والفراغ , وبرغبة في الهرب من هذا البيت ومن نيال ومما قد يقوله أو سيفعله لن يشكل أي فرق . إنها تحبه حتى وإن كان لا يشعر بشيء نحوها . أخذت تجمع ملابسها الملقاة على الأرض وراحت تلبسها بسرعة وعندما دخلت أخيرا الى المنزل , وجدته جالسا الى مائدة المطبخ . ودت لو تغتسل , وتترك المياه الساخنة تنصب على جسدها البارد , علها تدفىء أطرافها المتجمدة . لكن ما من شفاء لهذا الصقيع الذي جرى في شرايينها ! قد يدفئها نيال بقربه مرة أخرى , لكنها شكت في أن يساعدها ما سيقوله على ذلك .
نهض وسكب لها فنجان قهوة وكان قد ارتدى كامل ملابسه ومن دون أن ينطق بكلمة واحدة .
وجلست هي بوهن , قانعة بتدفئة يديها حول فنجانها , فقد خشيت أن ترفعه الى شفتيها ويداها ترتجفان بهذا الشكل .
سمعته يتمتم بصوت خافت , لكنها لم تنظر اليه . لم تستطع ذلك , لم تستطع أن تنظر إلى عينيه فتقرأ الندم فيهما .
- هل تذكرين حين التقيت بلورا ؟
كان صوته خافتا , ولهذا لم تجفلها اللهجة بل السؤال . رفعت عينيها إليه . لكنها سرعان ما حولتهما بعيدا حين رأت نظراته على وجهها , وقالت :
- لا أفهم ما تعنيه .
واتجف صوتها .
- قالت لورا إنها تظن أنها تعرفت إلي من قبل .
كان صوته خشنا بعض الشيء , مما يظهر أنه بذل جهدا بالغا ليحدثها بالموضوع .
أرادت أن تمد يدها لتلمسه , وتخفف عنه وتريحه , لكنها خشيت أن يصدها . فقدرتها على السيطرة على أعصابها ضعيفة للغاية .
وعندما أومأت , تابع يقول , وقد ازداد انخفاض صوته فزاد من توتر أعصابها :
- لم أعرف بما أجيب , صراحة . تجاهلت الأمر لأنني لم أشأ أن أعترف بأنها رأت على الأرجح صورة لي . ولهذا السبب بدوت مألوفا لها .
- لا أفهم . أي صورة ؟ ماذا تقول , يا نيال .
وأدركت فجأة أن عليها أن تعرف كل شيء . ما شأن لورا أو الصورة بكل هذا ؟
أخذ يحدق في فنجانه الفارغ وقد عكس صوته كآبة جعلتها تضطرب حتى قبل أن تسمع ما كان يقوله :
- الصورة التي كانت أليسون تحتفظ بها قرب سريرها . كانت شريكتها في الغرفة فتاة تدعى لورا عندما كانت تلميذة في مدرسة التمريض . ولعلها هي لورا التي قابلتها الليلة الماضية .
- أليسون ؟
وبللت سارا شفتيها وسألته : " ومن ... من هي أليسون ؟ " .
عند ذلك رفع بصره , وبدا في عينيه تعبير جمد الدم في عروقها , وأجاب :
- زوجتي .

arewa 29-06-08 08:13 PM

- لن يحبها أبدا



- زوجتك ..
سمعت سارا نبرة الصدمة في صوتها . وأخذت تحدق في نيال وقد شحب وجهها ليماثل شحوب الأموات .
تنفست بسرعة وهي ترى الغرفة تدور من حولها وقالت :
- أنا لم ... لم أكن أعلم أنك متزوج .
- أنا لست متزوج حاليا .
وهب واقفا فجأة وسار نحو النافذة , وأراح يديه على قاعدتها ثم أحنى رأسه , وتابع يقول :
- توفيت أليسون منذ ثلاث سنوات عندما كنا نعمل مع القوات الدولية في أفريقيا .
واستدار نحوها فعضت على شفتيها وهي ترى العذاب في عينيه , وسمعته يضيف :
- وقد مات الطفل معها .
- طفل .. ؟
وعجزت عن إضافة أي كلمة أخرى , فقد أثقل ذهنها ما أخبرها به , وامتلأ قلبها أسى للألم الذي رأته على وجهه . ولكن بدا أنه لم يكن بحاجة الى ما يحثه على الكلام , وساورها شعور بأنه يريد أن يطلعها على الأمر ... إنه بحاجة الى أن يروي لها القصة كلها .
- نعم , كانت أليسون حاملا في شهرها السابع عندما ماتت من جراء نزيف في المشيمة .
- نزيف في المشيمة ؟
وقطبت سارا جبينها وهي تحاول استيعاب ما تسمعه ثم أضافت :
- ولكن أما كان ممكنا مساعدتها ؟ فهذه الحالة لا تؤدي الى الوفاة عادة .
- لو كنت موجودا , ربما لاستطعت مساعدتها . وهذا ما فكرت فيه مرارا وتكرارا . هل كان بإمكاني أن أنقذ أليسون ؟
ومرر أصابعه في شعره بضعف . كان وجهه كئيبا وعيناه غائمتين بذكرى ما حدث . حزنت سارا من أجله ولما عاناه , وللألم الذي يملأ نفسه . ولكن أي عزاء يمكنها أن تقدمه له ؟ كل ما يمكنها فعله هو الإصغاء الى حديثه , وإن كان قلبها يتحطم يأسا .
- أين كنت , يا نيال ؟ قلت إنك كنت في أفريقيا , ولكن أين كنت عندما .. عندما مرضت أليسون؟
تنهد وهو يعود ليجلس عند المائدة , وقال :
- توجهت الى إحدى القرى الحدودية البعيدة . تألف فريقنا من طبيبين وثلاث ممرضات , وكانت أليسون إحداهن . إلا أنها خفضت ساعات عملها عند تقدم حملها . لم تكن مريضة أو ما شابه , بل كانت تشعر بأنها في أحسن حال . لقد ناسبها الحمل .
وابتسم وهو يشرد مع الذكريات ويضيف :
- كانت أليسون امرأة هادئة جدا , لكنها حازمة للغاية . لهذا رفضت العودة الى انجلترا عندما اكتشفت أنها حامل . كانت تؤكد أنها لن تتعرض لأي خطر إذا ما أنجبت طفلها حيث كنا نعيش . وكان المكان يبعد أكثر من مئة ميل عن أقرب مستشفى . اقنعتني بأن لا بأس في ذلك وأن لا شيء يستدعي القلق .
رفع ناظريه , فشعرت سارا بعينيها تغرورقان بالدموع حين رأت الأسى على وجهه , وهو يقول:
- ما كان علي أن أصغي إليها . كان علي أن أجبرها على العودة للوطن .
راحت تنظر إليه بعطف , وقالت :
- ما كانت لتعلم , يا نيال . لم يكن بإمكانك أن تتنبأ بما سيحدث , وليس باستطاعة أحد أن يفعل .
- ربما , ربما هذا صحيح . ولكن ما كان علي أن أتركها كل هذه الفترة . فالقرية التي قصدناها تبعد يوما كاملا في سيارة الجيب عن المركز الطبي . وهذا يعني أنه علينا قضاء يومين في الطريق ذهابا وإيابا , ويوما في القرية للعمل . قررنا أن يذهب الفريق كله , فلا بد أن هناك أمور أخرى نقوم بها عدا التطعيم . وكان على أليسون أن تبقى لتواجه أي مشاكل صغيرة قد تنشأ أثناء غيابنا .
- لقد جرى ذلك إذن أثناء غيابكم عن القرية ؟
- نعم . وكما علمت فيما بعد , بدأت أليسون تنزف بغزارة عصر أول يوم . كان في المركز امرأتان من المواطنين الأصليين , ولكنهما تفتقران الى العلم والخبرة فلم تعرفا ما عليهما فعله . طلبتا من أليسون أن تستلقي , وقامتا بكل ما في وسعهما , لكن النزيف لم يتوقف ... أرسلوا بطلبي الى القرية , فتركت كل شيء وعدت على جناح السرعة , ولكن الأوان كان قد فات . فقد توفيت أليسون من الصدمة التي يسببها النزيف .
- أنا آسفة جدا , يا نيال . لا بد أنك عانيت الكثير .
ومسحت سارا دموعها وهي تضيف :
- يا له من حادث مؤلم .
- كان بالإمكان تجنبه وهذا ما يعذبني أكثر ... لو لم أصطحب أليسون معي الى أفريقيا للعمل , لما حدث ذلك قط . كما أنها لم تكن من النوع المغامر ! لقد رافقتني لأنني أردت ذلك . سافرت معي إلى هناك ومع ذلك , زعندما كانت بأمس الحاجة إلي , أين كنت أنا يا سارا ؟
- لا تقل هذا .. لا , يانيال . وضعت يدها على كتفيه مواسية وقالت : " لم يكن الذنب ذنبك . يجب أن تدرك هذا .
- يا ليتني أستطيع !
- وأشاح بنظره عنها فجأة , موضحا أنه لا يريد أي تعزية منها .
وتراجعت , وشدت على قبضتيها وهي تراه يقصيها عنه من جديد .
وعندما نهض وتوجه نحو الباب لم تحاول منعه . وكيف تستطيع ذلك ؟
فليس لديها ما تقدمه إليه . لعل ما شعر به نحوها منذ قليل , لم يكن سوى رغبة عابرة , لكنها لم تكن كافية لتنسيه المرأة التي ما زال يحبها .
وقف ويده على مقبض الباب , ثم قال بصوت خالٍ من أي شعور :
- وأنا سألوم نفسي إذا ما تطورت الأمور بيننا , يا سارا وإبداء أسفي غير كافٍ , لكنني

آسف فعلا . كل ما أرجوه هو أن تتمكني مع الأيام , من الصفح عني .
كيف يمكنها أن تحتمل ذلك ؟ بكل هذه البساطة انتهى كل شيء قبل أن يبدأ . كيف يمكنها أن تبقى وتستمع اليه وهو يتنكر لكل ما شعرا به ؟ لكن يبدو أن شعور نيال لم يكن كشعورها . وهذا ما يحاول أن يقوله لها , إنها مجرد بديل للمرأة التي أحبها ليس أكثر .
لم تعرف سارا كيف تمكنت من الحفاظ على أعصابها , ومنع نفسها من الانهيار عند هذه النقطة .
- لم يحصل شيء يستدعي الصفح .والآن , إن كنت لا تمانع , أود أن أعود الى بيتي .
تنحى جانبا حين توجهت الى الباب . ومضت لحظة ظنت فيها أنه يهم بالكلام , لكن هذا لم يحدث.
تقدمته نحو الباب وقد تلاشى فجأة كل لون ودفء من حياتها لقد اغتال حبها في مهده .
لن يحبها نيال أبدا كما أحبته , وقد فاق ذلك قدرتها على الاحتمال .
* * *
- سارا ماذا حدث لك ؟ بطاقة الاسم موضوعة بشكل خاطىء . وأعادت إيرين الطفلة الى المنضدة وقطعت السوار البلاستيكي من حول معصمها , ثم تناولت قلما وكتبت المعلومات الصحيحة على البطاقة .
استبدلت البطاقة الأولى بالجديدة ثم حملت الطفلة الى أمها قائلة :
- هاك يا سيدة لويس . هل تريدين أن تحملي لوسي بعد أن اغتسلت وأصبحت جميلة ؟
تركت ايرين الوالدين تالمبتهجين بابنتهما , ثم عادت لتنهي عملها .
نظرت الى سارا وهي ترفع حاجبيها ممازحة , لكن سارا لمحت الاهتمام في عيني صديقتها وهي تقول :
- أن يحدث خطأ كهذا ... وفي آخر يوم لي هنا !
قالت ذلك بلطف , لكن سارا كانت تعلم أنه خطأ لا يغتفر .
- آسفة ... فقط ... فقط لم أدرك ..
وسكتت عندما اغرورقت عيناها بالدموع . أصبح هذا يتكرر مؤخرا .. فأي شيء يجعلها تبكي بسهولة . أشاحت بوجهها وهي بالكاد تسمع تعليمات إيرين الى هيلين الهادئة , بأن تنقل المريضة الى القسم .
منتديات ليلاس
عندما انغلق الباب , استدارت إيرين إليها مجددا , وسألتها :
- ما الذي يحدث يا سارا ؟ أخبريني , لقد تغيرت كثيرا منذ ليلة حفلتي . ماذا حدث حينذاك ؟ أعلم أنك ونيال انشغلتما بحالة ولادة في الطريق , لكن ثمة شيء آخر قد حدث , أليس كذلك ؟
- لا أفهم ما تعنينه ؟
وحاولت سارا أن تضحك , لكن ضحكتها جاءت مصطنعة , عالية أقرب الى الهياج العصبي . عضت على شفتيها وهي تشغل نفسها بترتيب غرفة التوليد لتعدها لولادة جديدة , فنظرت إليها إيرين بهدوء وقالت :
- لا تفهمين ؟ أنا لست عمياء . أعرف أن شيئا ما حدث تلك الليلة بينك وبين نيال جيلسبي .
ولاحظت النظرة المجفلة التي رمقتها بها سارا فابتسمت بلطف وأضافت :
- يجب أن أكون عمياء وصماء وخرساء حتى لا ألاحظ توترك حين تكونين بقربه , عزيزتي , هل هناك شيء ما بينكما أستطيع أن أعرفه ؟
- لا .
ثم خففت سارا من لهجتها الحادة وهي ترى الدهشة ترتسم في عيني إيرين , وهزت كتفيها قائلة :
- لا أظن أن نيال مهتم بي , يا إيرين .
- ولكن ماذا عنك أنت ؟ هل أنت مهتمة به ؟
ولم تنتظر إيرين جوابها , إنما غيرت الموضوع بلباقة , ما جعل سارا ممتنة لها . وأكملت بقية نهارها من دون أن ترتكب المزيد من الأخطاء .
لكنها وجدت صعوبة في التركيز على عملها , كحالها مع أي شيء آخر حاليا . كان ذهنها لا ينفك يعود المرة تلو الأخرى الى اللحظات في تلك الليلة الرائعة عندما أحست أن العالم ملك يديها , ثم الى اللحظات التالية حين انهار كل شيء من حولها .
وعندما حان وقت الغداء , كانت قد وصلت الى حافة اليأس . لا شيء يمكنه أن يغير حقيقة أن نيال ما زال يحب زوجته . وعليها أن تتقبل ذلك وتتابع حياتها الخاصة . لكنها أدركت فجأة أن هذا الأمر مستحيل وهي تراه كل يوم , لهذا عليها أن تترك مستشفى " دلفرستون العام " . فهذه الطريقة الوحيدة التي ستحررها من عذاب التفكير في عدم اكتراث نيال بها .
تركت غدائها في خزانتها , وتوجهت الى مكتبة المستشفى حيث رزمة من مجلات التمريض من على الرف .
قرأت إعلانات عن العديد من الوظائف , تتراوح بين قابلة خارجية وممرضة خاصة في لندن . وصورت الصفحات التي لفتتها , ثم وضعتها في حقيبتها لتعيد قرائتها في بيتها مساءاً . لم تشأ أن تترك هذا المستشفى . لكن لم يبق أمامها خيار آخر فرؤية نيال يوميا أمر يعذبها , وتعجز عن احتماله . وكأنما قدر لها العذاب , فكان عليها أن تعمل معه في اليوم نفسه , حين أحضرت سيارة الاسعاف حالة طارئة . خرجت سارا لتلاقي الممرضين وقلبها على المرأة الممددة على الحمالة وقد فقدت وعيها , وكان ممرضو الإسعاف قد وضعو لها مصلا , ففتحت سارا الباب على مصرعيه ليمروا منه . سألتهم :
- اسمها تريزا كيلي . نزيف حاد . وهذا كل ما نعرفه عنها باستثناء أنها أنجبت طفلا من اسبوعين.
ولتفت الممرض الى الوراء عندما وصلت سيارة الى الباب , وقال :
- هذا زوجها . وقد اصطحب أولاده الى بيت أحد الأقارب قبل أن يلحق بنا . لديه خمسة أطفال , جميعهم دون السابعة من العمر ,كما فهمت . فضلا عن الطفل الرضيع , أي أن المجموع ستة .
ولوى الممرض شفتيه .
- ستة .
وألقت سارا نظرة فارغة على المرأة المحمولة وأضافت :
- تبدو لي كبيرة في السن .
- هذا ما تقولينه أنت .
ولم يزد الممرض على ذلك وهو يساعد على نقل المريضة الغائبة عن الوعي . أخذتها سارا على الفور الى قسم الجراحة حيث طلبت هيلين أن تقيس ضغط دمها فيما اتصلت تطلب طبيبا . توقعت حضور مينا , لكن الباب فتح وبرز منه نيال قائلا :
- مينا مشغولة , ماذا لديك ؟
كانت لهجته مقتضبة واهتمامه مركزا على المريضة الغائبة عن الوعي . أخذت نفسا عميقا , وأرغمت نفسها على التركيز على حالة المريضة , بالرغم من أن وجودها قرب نيال لم يكن بالأمر السهل , وقالت :
- اسمها تريزا كيلي وقد أنجبت طفلا منذ حوالي الأسبوعين , وهو طفلها السادس . تعاني من نزيف حاد , لكننا لم نعرف عنها أي شيء آخر بعد .
- ولما لا ؟ بحق الله يا سارا , كان عليك أن تعرفي ما يكفي عن تاريخ المريضة , كي تكون لدينا فكرة عما نواجهه ؟
والتفت الى هيلين وقد سيطر على صوته البرودة قائلا :
- اذهبي وحاولي إحضار أوراقها . أحضريها الى بأسرع ما يمكن .وأدار عينين باردتين الى سارا بينما أسرعت هيلين نحو الباب .
سألها :
- هل كان برفقتها أحد ؟
- لابد ... لابد أن زوجها ينتظر في الطابق السفلي .
راحت ترتجف , وحاولت ألا تظهر له مدى تأثرها للهجة التي خاطبها بها .
أشاحت بوجهها , وهو يأمر هيلين باقتضاب , بأن ترى ما يمكنها معرفته من زوج تريزا أيضا . وارتجفت يداها وهي تنزع , بسرعة ملابس المرأة المخضبة بالدم .
- والآن فلنر ما لدينا .
تجهم وجهه وهو يفحص المرأة الغائبة عن الوعي وسأل :
- ما هي حرارتها وضغط دمها ؟
التقطت سارا الجدول وقرأت ما دون عليه , فأومأ باختصار , وركز اهتمامه على عمله . وكان قد فرغ من ذلك تقريبا , عندما تحركت المريضة وقالت :
- أين أنا ؟
وحاولت النهوض لكن الألم ما لبث أن عاودها , فانحنت وهي تمسك ببطنها .
- لا تتحركي , يا سيدة كيلي .
وأعاد نيال المرأة الشاحبة الى الوسائد خلفها وقطب وجهه اهتماما وهو يسألها :
- متى حدث هذا ؟ هل تنزفين بشدة منذ ولادة طفلك الأخير ؟
- نعم , كثيرا . ظننته سيتوقف , لكنه ازداد سوءاً اليوم , ورحت أشعر بارتفاع حرارتي وبدوار . وعندما بدأ الألم ينتابني ... هنا .
ومدت تريزا يدها تشير الى بطنها . وكانت العرق تتشكل على جبينها فتقدمت سارا بهدوء نحو أعلى السرير لتمسكها .
- هل واجهت مشاكل أثناء الولادة ؟ لقد أرسلت ممرضة لتحضر ملفك , ولكن إذا ما أخبرتني بكل شيء , ستوفرين علينا الوقت .
فتمتمت تريزا :
- لا . كل شيء جرى ببساطة ...
وتجنبت النظر الى عينيه , وراحت تتأمل يديها اللتين كانتا تضغطان على بطنها .
- فهمت .
بدا جليا أنه لمس النفور في صوتها . وتساءلت سارا عما يستتر وراء ذلك . ولكن , وقبل أن تسترسل في تكهناتها , التفت نيال إليها , وقال بلهجة أكثر تكلفا ورسمية :
- أظن أنه علي أن أفحصها بشكل أدق لأرى سبب ذلك . جهزي المريضة أيتها الممرضة .
امتثلت سارا لأوامره , فساعدت تريزا على ارتداء ثوب مخصص لهذه الحالات , بينما أخذ نيال يغسل يديه . وأثناء ذلك عادت هيلين وتوجهت مباشرة نحوه , وأخفضت صوتها ليسمعه وحده . وأدركت سارا أنه لم يكن مسرورا بما سمعه .
كان وجهه جامدا حين أشار اليها لتنظم إليهما , وقال :
- يبدو أن السيدة كيلي لم تدخل المستشفى لتلد آخر أطفالها , كما أنها لم تستدع قابلة قانونية . يقول زوجها إن أمه هي التي ولدتها .
- أمه ؟ هل تعرف ما تفعله ؟
طرحت سارا سؤالها هذا بذعر واضح .
- لا . يبدو أن الزوج لا يرى جدوى من احداث جلبة عظيمة بسبب شيء تافه كالولادة . فهذه وظيفة المرأة التي خلقت من أجلها , لهذا ستسير الأمور بسهولة , او شيء من هذا القبيل .
- يا إلهي ! أهناك من يؤمن بهخذا في أيامنا هذه .
والتفتت سارا الى الخلف , تنظر الى المرأة المستلقية على السرير فبدا العطف على وجهها وهي تقول :
- لعل هذا يفسر إنجابها لكل هؤلاء الأطفال في مثل هذه الفترة القصيرة . ولعله لا يؤمن بتحديد النسل .
- ربما لا .
ظهرت في صوت نيال خشونة مفاجئة . فنظرت اليه وصدمتها المرارة التي قرأتها على وجهه . تلهفت الى معرفة سبب ذلك , لكنها لم تجد سبيلا للاستفهام وهيلين تقف هناك وتستمع اليهما . جاهدت لتركز على عملها .
- من المحتمل إذن أن يعود سبب مرض تريزا الى نقص الرعاية الصحية أثناء ولادتها طفلها .
- هذا أكثر من مجرد احتمال , إنه أساس المسألة . ولعل أجزاء من المشيمة بقيت في رحمها , فتسببت لها بعدوى . فكل الدلائل تشير الى ذلك , من النزيف الى الألم والحرارة , وهي محظوظة إن لم تصب بتسمم في الدم أيضا . علينا أن نجري لها فحص دم شامل .لكن المهم , الآن , هو أن نرى ما يحدث داخلها .
تركهما لتغسلا هي وهيلين أيديهما . وعادت سارا لتساعده , محاولة تركيز ذهنها على ما يحدث . ستفكر فيما بعد في أسباب ما ارتسم على ملامحه , وذلك عندما تنفرد بنفسها ... كانت واثقة من أمر وحيد وهو أنه لن يرحب بهذا الاهتمام !
* * *
- اشربي جرعة من هذا فقط , يا تريزا ... هذا حسن . عندما يبدأ مفعول المضاد الحيوي ستشعرين بتحسن كبير , لقد نظف الدكتور جيلسبي الرحم ولكنك لا زلت تعانين من التهابات التي يجب القضاء عليها .
- شكرا أزعجتكم جميعا , أليس كذلك ؟
وابتسمت تريزا بوهن . فلاحظت سارا أنها جميلة رغم شحوبها البالغ . كان وجهها أكثر تجعدا مما يفترض به أن يكون في مثل سنها . لكن لم يكن من السهل أن تنجب ستة أطفال وترعاهم .
فقالت لها مشجعة :
- لم تكوني مزعجة أبدا , فلا تكوني سخيفة . كل مانريده هو شفاؤك وبعدها تستطيعين العودة الى البيت وأسرتك .
لكن تريزا أشاحت بوجهها وأجابت : " أتمنى ألا أعود "
وكبتت المرأة شهقة باكية , وأضافت :
- لا أدري إذا كنت أستطيع احتمال المزيد ! فليس لدي لحظة أقضيها مع نفسي , وعلي أن أهتم بالطهي والغسيل وحمام الأطفال .
- ومن يود أن يعتني بستة أولاد ؟
ومسحت تريزا عينيها بظاهر يدها وتابعت تقول :
- لا , ليس هناك سوى والدة " لي " . وهي مشغولة برعاية أسرتها وترى أن علي أن أهتم بأسرتي وأكف عن التذمر .
فأجابتها سارا :
- ولكن لا بد أ، هذا صعب . فستة أطفال , عائلة كبيرة .
وأضافت وهي تتساءل كيف تقولب اقتراحها بلباقة :
- ربما عليك أن تفكري في طريقة نهائية لتحديد النسل , إذا كنت لا تريدين زيادة عدد أولادك .
ضحكت تريزا بمرارة , وقالت :
- لا أظن أن " لي " سيوافق. فبحسب رأيه , كلما زاد عدد أطفاله كلما برهن عن رجولة فائقة . لقد حذرني الطبيب من الحمل مرة أخرى بعد الطفل الخامس . لكن " لي " لم يهتم لذلك .
- ربما عليك إذن أن تتخذي قرارك بنفسك , فهو جسدك أنت وحياتك . ولا يمكنك ترك القرار لشخص آخر . لا سيما وأنه لا يهتم لمصلحتك فعليا .
وتركت للمرأة لحظة تستوعبر فيها كلامها , ثم ابتسمت لها وغادرت الغرفة قبل أن تقول ما لا ينبغي أمن تقوله . كان من الصعب عليها أن تصدق بأن إمرأة تسمح بأن يهيمن زوجها عليها بهذا الشكل , في هذا العصر .
- أريد أن أكلمك يا سارا , إذا سمحت .
وقفت , وخفق قلبها بسرعة عندما ظهر نيال فجأة . تقدمها الى باب المكتب من دون أن ينتظر موافقتها . ثم تنحى جانبا لتدخل أمامه . أغلق الباب ثم وقف مستندا اليه وأخذ يتأملها بإمعان , وشعرت سارا بأن هنالك ما يزعجه فتسارعت دقات قلبها .
- أريد أن أتحدث معك عما جرى في بيتي .
أكدت كلماته ظنها فشعرت للحظة بدوار خفيف . وعندما تكلمت جاء صوتها لاهثا بعض الشيء . قالت برقة :
- ماذا عنه , يا نيال ؟
- حول ما قلته وانجرافي وراء مشاعري .
ومرر أصابعه في شعره بفروغ صبر وأضاف :
- لابد أنك تعلمين ما أود قوله , يا سارا .
وفهمت . كما فهمت أيضا ما رأته في وجهه منذ قليل ... مشهد المرارة تلك وتأنيب الضمير . وشعرت برغبة في الضحك , إنما لتغطي الألم الذي اعتصر فؤادها عندما أدركت مدى ندمه ...
- لا تقلق يا نيال . فأنا واثقة من أنك لم تقصد ما قلته . إذا كان هذا ما يقلقك ! وأرى أن تطرد من ذهنك كل ما قلناه وفعلناه في تلك الليلة .
وضحكت بمرارة , وقد فاق ألمها ما يمكن وصفه وأضافت :
- كل شخص يمر بحالة ضعف ... حتى أنت !
ثم سارت متمهلة نحو الباب . وتردد نيال للحظة , فتساءلت عما إذا كان لديه شيء آخر يود قوله . لكنه تنحى جانبا أخيرا ليدعها تمر دون أن ينطق بكلمة . وغادرت المكتب بساقين ثقيلتين ثقل الرصاص , والألم والعذاب يدميان قلبها . لقد تلاشى أي أمل في أن يبذل رأيه ويعود اليها . لم تستطع مواجهة أي شخص في تلك اللحظة , لهذا توجهت الى غرفة الجلوس الخالية في مثل هذا الوقت من النهار , فالأمهات يسترحن في أسرتهن قبل بدء مواعيد الزيارة المسائية . سارت الى النافذة وأخذت تنظر منها الى المدينة , وهي تشعر بوحدة لم تشعر بمثلها من قبل , فقد أصبح الوضع فجأة واضحا كالبلور .
لقد وهبت قلبها لرجل لا يريده . وهناك امرأة وحيدة يريدها نيال , امرأة واحدة فقط أرادها أن تحمل أولاده وتلك المرأة ليست هي .

arewa 29-06-08 08:19 PM

11- الحب دائما على حق !


- لن يبقى أحد هنا . اولا الدكتور هندرسون , ثم إيرين والآن أنت !
وصفقت سالي باب خزانتها بعنف وحملقت في سارا قائلة :
- ما ظننت قط أنك قد ترحلين .
- ولا انا تخيلت ذلك . لكنها فرصة سانحة وهي أحسن من أن أضيعها .
وأغلقت سارا خزانتها ثم ابتسمت رغم العذاب الذي يثقل قلبها . لم يكن من السهل عليها أن تقرر الرحيل عن المستشفى لكنه القرار الصائب الوحيد .
- قابلة خاصة ؟
وقطبت سالي جبينها وهي تضيف :
- انها فكرة غريبة . لكني لا أظنها مختلفة عن أي عناية صحية خاصة أخرى .
- بالضبط , ولكن يبدو أنها ستكون ممتعة . فسأعمل في العيادة والبيوت أيضا , وأنا أتطلع الى ذلك بشوق . على أي حال , أتوقع أن تتغير الأمور هنا بناء على الملحق الجديد .
لكن سالي بقيت تنظر اليها بارتياب , وقالت :
- أظن ذلك . لكن الأمور لن تعود كما كانت .
خرجت سالي من غرفة الممرضات لتلحق بها سارا بعد لحظات .
وتنهدت الأخيرة وهي تتوجه الى المكتب لتستلم التقرير . ستتبدل الأمور فعلا , وربما لن تكون أفضل , لكنها لا يمكن أن تصبح أسوأ , وهذا جل ما تريد تجنبه .
فالعمل مع نيال أصبح لا يحتمل . ولا يتعلق الأمر بأنه راح يعاملها بتهذيب كما يعامل بقية الممرضات . ولكن ما جرى بينهما أعمق من أن يسمح بالعودة بسهولة الى نقطة الانطلاق ليصبحا مجرد زميلي عمل . ربما استطاع نيال أن يمحو ذهنه كل شيء , لكنها عجزت عن ذلك , وذكرى تلك الليلة ما زالت هاجسا في عقلها وقلبها .
- حسنا , هذا كل شيء .
انهت بريندا كارليل , الممرضة المسؤولة , عن تسليم سارا التقرير عن المرضى , وأطلعتها على ما ينبغي عليها مراقبته من حالات خاصة , وعما حدث أثناء النهار , ثم قالت :
- أرجوا لك ليلة هادئة . بالمناسبة سمعت أنك قدمت استقالتك وأنك ستغادرين الى حيث أضواء المدينة .
فأجابت سارا عندما انتهت من تسجيل ملاحظاتها :
- هذا صحيح . سأرحل في آخر الشهر .
- هذا غريب . ظننتك ستستلمين مكان إيرين . لابد أنك فزت بهذه الوظيفة في مسابقة .
فهزت سارا كتفيها , وقالت :
- ربما . لكنني شعرت بالحاجة الى التغيير .
- حسنا . إذا كان هذا شعورك , فمن الأفضل أن تذهبي الآن بدلا من أن ترحلي فيما بعد .
وغادرت بريندا المكتب بينما جلست سارا تنظم العمل . بعد رحيل إيرين وعدم تعيين بديلة لها , وقعت وظيفة الإشراف على الممرضات على عاتق سارا . وكانت الليلة هادئة , لحسن الحظ إذ لم تصل سوى حالة واحدة , بعد انتهاء مواعيد الزيارات .
تأكدت من اقفال الأبواب الخارجية بعد خروج آخر زائر , قبل أن تعود الى القسم . وقد حرصت الإدارة على ابقاء الأبواب مقفلة بعد خروج الزائرين وذلك لأسباب أمنية . يدق المرضى الجدد الجرس ليدخلوا الى المستشفى كما لم يسجل القسم أي حوادث من قبل , لهذا كانت الممرضات والأمهات يشعرن بالسرور والارتياح , إذ يدركن أن المبنى آمن .
وبعد أن اطمأنت الى حسن سير الأمور , توجهت نحو غرفة التوليد حيث كانت هيلين وسالي تساعدان في حالة ولادة . سألتهما بهدوء :
هل كل شيء على ما يرام هنا؟
- بأحسن حال . السيدة دايفيز تتوقع حضور زوجها بعد أن يستلم الرسالة التي تركتها له . إنه في اجتماع كنسي .
فطمأنت سارا المرأة :
- سأنتبه للجرس .
ثم غادرت الغرفة

الغرفة , وقامت بجولة سريعة على الأقسام كلها , متوقفة أحيانا لتبادل الحديث مع بعض الأمهات . كان البعض منهن يشاهد التلفزيون في غرفة الجلوس , لكن معضمهن اختار الاستلقاء في الأسرة للقراءة أو لتبادل الحديث . لم يكن هناك قانون صارم يتعلق بإطفاء الأنوار , لكن الغالبية كانت تفضل الخلود الى النوم عند الساعة العاشرة .
إن الولادة عملية مرهقة , وتعتبر معظم النساء فترة وجودهن في المستشفى فرصة للراحة , قبل أن يعدن الى بيوتهن وحياتهن التي غالبا ما تكون محمومة قلقة .
عادت سارا الى المكتب , لتنهي بعض الأعمال المكتبية التي تراكمت أثناء النهار . وعندما دخلت لاحظت أن الباب مغلق , ودهشت إذ وجدت النور مطفأ كذاك .
مدت يدها تتلمس الجدار بحثا عن مفتاح الضوء , وشهقت بدهشة حين رأت رجلا قرب خزانة الأدوية . مضت لحظة حاولت فيها أن تستوعب ما يجري . فهل أدخل شخص ما زوج السيدة دايفيز واتى به الى هنا ؟ولكن لماذا بقي في الظلام ؟
وإذا به يستدير فجأة , فأجفلت عندما عرفته , وهتفت :
- غاري ! ما الذي ...؟
لكنها لم تكمل كلامها إذ اندفع نحوها . ولم تجد فرصة لتبتعد عن طريقه فدفعها بعنف , وارتطم رأسها بحافة المكتب محدثا صوتا م
مثيرا للغثيان ثم ساد الظلام .
* * *
كان النور يؤلم رأسها . فأشاحت سارا نظرها عن الضوء الساطع ثم تعالى أنينها حين تسببت لها الحركة بألم في رأسها يبعث على الغثيان . وشعرت بحركة خفيفة قربها , وبيد باردة تلمس خدها.
سارا ؟ هل تسمعينني , يا حبيبتي ؟
عرفت صوت نيال , لكنها لم تفهم الكلمات التي قالها , فما هذا التحبب الرقيق ؟ أغمضت عينيها لتجنب الألم الذي بدا أسوأ من ذلك الذي حاصر رأسها , وحاولت السيطرة على جموح مخيلتها . لم يكن نيال قربها ! إنها مخيلتها وحسب التي تعبث بها ...
- سارا حدثيني .. قولي أي شيء . قولي لي أن ابتعد . ولكن قولي شيئا يجعلني أعلم أنك بخير .
كان في صوته عذاب اضطرها الى فتح عينيها بالرغم من ألمها الشديد .
أدارت رأسها بحذر على الوسادة فشعرت بخفقات قلبها تتوقف وهي ترى نيال محتضنا إياها منحنيا فوقها ... كان في عينيه من اللهفة , والتركيز و ...
عضت على شفتيها خائفة من أن تتسرب الكلمة الأخيرة إلى أفكارها فتثير فيها الألم .
وتمتمت بصوت أجش :
- ما ... ماذا حدث ؟
- ألا تتذكرين ؟
عكس صوته اهتماما أكبر , وقد فاضت عيناه بمشاعر جعلتها تصاب بدوار . عادت تغمض عينيها , خائفة من الصور التي يستعيدها ذهنها الأحمق , فنيال لا يشعر نحوها بما تشعر به نحوه ... وقد أعلن ذلك بوضوح !
قطبت حاجبيها وهي تحاول أن تستجمع أجزاء الصورة الضبابية التي تزاحمت في رأسها , وأن تتذكر ما حدث ... ظلام ... النور المفاجىء , ثم شخص يندفع نحوها ...
شهقت عندما ركبت الصورة :
- كان ذاك غاري ! أنت تعرف من أعني , صديق تريشا . كان في المكتب فدفعني . ولكن .. ولكن ماذا كان يفعل هناك .
وماذا تظنين ؟
بدا صوته خشنا وهو يهب فجأة واقفا . وانسدل فجأة على وجهه نقاب ضبابي , مخفيا الدفء والمشاعر التي رأتها في تلك اللحظات .
جاهدت سارا كي تسيطر على شعورها بالخسارة . كانت تعلم أن مخيلتها تعبث بها , ولن مازال ذلك يؤلمها .
- كان يريد المخدرات , طبعا . لابد أنه اكتشف مكانها عندما جاء ليزور تريشا . إذا كنت تذكرين , كانت ارييل تحقن بالفاليوم , حين ذاك وأظن أن غاري سمع أحدهم يذكر ذلك , فلمعت فكرة سرقته من هنا . هنالك سوق واسعة للفاليوم في الشوارع .
- مخدرات ...؟
أخذت تكرر ذلك ببلادة . ونظرت اليه مذهولة , ثم شهقت وهي تتذكر فجأة أمر آخر .
- لقد فاجأت تريشا في المكتب صباح يوم خروجها من المستشفى . أتظنها كانت تفحص الخزانة لترى ما يمكنها أن تجد فيها ؟
- ربما . أتصور أن غاري دفعها الى القيام بهذا العمل , تعلمين كيف كانت خاضعة له. ولكن هذا ليس عذرا .
كانت لهجة نيال عنيده وصلبة وهو يضيف :
- سأتصل بالشرطة وأعلمهم بالأمر . أتصور أنهم سيرغبون في التحدث إليها .
فسألته مجفلة وهو يحاول ترتيب الوسائد التي استلقت عليها :
- كنت تعلم إذن أنه غاري , أليس كذلك ؟
- ابقي مستلقية , ولا تتحركي . لقد تعرضت لضربة قوية على رأسك .
وجلس على حافة سريرها , محاولا جهده كي لا يهزه . أخذ يتأمل وجهها الشاحب للحظة , مطيلا النظر الى الرضة الضخمة على صدغها الأيسر وقد كسا ملامحه الغضب :
- ليتني أستطيع الإمساك بذلك القذر ...
- ربما من الأفضل ألا تستطيع .
وتمكنت من الضحك . رغم نبضات قلبها المتسارعة بجنون , مما زاد من ألم رأسها . هل الغضب الذي يشعر به نيال هو بسبب غصابتها ؟ هل يعني هذا أنه يشعر نحوها بشيء ما ؟ أخذت تفكر في ذلك محاولة السيطرة على هذه النشوة التي شعرت بها .
- ربما .
كانت لهجته ساخرة وهو يأخذ يدها بين يديه برفق . ولم يبد عليه أنه لا حظ الرجفة التي سرت في كيانها حين لمس أصابعها وهو شارد الذهن .
- على أي حال , لن يحدث ذلك فالشرطة ألقت القبض على غاري .
- ها ... هذا عمل سريع .
وتساءلت ان كان نيال سينسب ارتجاف صوتها الى ما حدث معها لكنها لاحظت النظرة التي وجهها إليها . ترك يدها فجاة ثم هب واقفا وهو يقول :
- علينا أن نشكر مايك داوسن . فحين لم يفلح غاري في الخروج من الباب المؤدي الى الشارع , حاول الهرب عن طريق المبني الرئيسي .
وصادف أن رآه مايك خارجا من القسم فحاول إيقافه .
وهز نيال كتفيه , متجنبا بحذر عينيها ويبتعد عن السرير ويضيف :
- يبدو أنهما تعاركا لبعض الوقت , لكن مايك هزمه أخيرا .
فقالت :
- هذا من ... حسن الحظ .
وأغمضت عينيها حتى لا يرى الألم الذي اعتصر حين ابتعد عنها بهذا الشكل , وهمست بلهجة مفككة , غير قادرة على احتمال المزيد من هذا العذاب في حالتها الراهنة :
- أظن .. أنه علي أن أرتاح إذا لم كن لديك مانع , يا نيال .
- طبعا أنا آسف . لم أكن أعني أن ...
وصمت ... ثم سار الى الباب , ووقف ويده على المقبض . كان في صوته خشونة بالغة جعلتها تفتح عينيها حين قال :
- إذا احتجت لأي شيء , فأعلميني أرجوك يا سارا . أتعدينني بذلك ؟
لم تستطع احتمال سخرية القدر . فالأمر الوحيد الذي تحتاجه هو ما لا يمكنها الحصول عليه ... أي هو نفسه ! ولم تجبه , وعندما خرج أغمضت عينيها مجددا . إنها تحب نيال من كل قلبها وستحبه الى الأبد .
* * *
منتديات ليلاس
أنا بخير , صدقيني . اسمعي يا لورا . انني اقدر عرضك هذا حقا , لكنني لا أحتاج لأي رعاية .
وجاهدت سارا لتضفي على صوتها نبرة مرحة عندما راحت صديقتها تحتج على الفور .
وتابعت تقول :
- لا . لا .. ؟ ديك ما يكفيك من العمل من دون أن تأتي الى هنا لتعتني بي . لقد قالت إيرين إنها ستأتي وتزورني في ما بعد , لهذا لن أكون وحدي .
كان ذلك تحريفا للحقيقة . فقد اتصلت إيرين وعرضت عليها أن تزورها لكن سارا لم تقبل بذلك , كما لم تقبل بزيارة لورا لها ,وتنهدت وهي تنهي المخابرة أخيرا . كان الجميع لطفاء للغاية معها , وعرضوا عليها المجيء للعناية بها . ولكن جل ما كانت تريده هو أن تبقى وحدها .
كانت قد أمضت اليومين الماضيين في المستشفى , وحاولت أن تتظاهر بالشجاعة , لكنها لا تريد الآن سوى البقاء وحدها . لم يكن الحادث وما نتج عنه من ارتجاج خفيف في الدماغ , سبب انزعاجها بل تحطم قلبها هو ما آلمها أكثر . فهذا الألم لن تشفى منه كليا .. ولكن عليها , بشكل ما , أن تواجهه وتتابع حياتها .
لم يحبها نيال , لكن العالم لم ينته لمجرد أنه أوضح لها ذلك , وإن كانت تشعر أحيانا بأنه انتهى فعلا .
لم يأت لرؤيتها مرة أخرى أثناء وجودها في القسم ولم يدهشها هذا .
فقد قام بواجبه حين زارها وانتهى الأمر عند هذا الحد . أتراه علم بأنها قدمت استقالتها ؟ وأخذت تتساءل عن هذا فجأة . واوشكت أن تضحك بصوت عال . ولماذا يهتم بها ؟ فهي , برحيلها , ترتاح وتريحه هو أيضا . فنيال لا يريد ما يذكره بها , كما أنها لا تريد ما يذكرها دائما بمدى ندمه على مضاجعتها .
جالت في أنحاء المنزل شاعرة بالكدر , وحاولت العثور على ما يصرف ذهنها تلك الأفكار الحزينة . لقد ألحت عليها إيلين روبرتس مديرة المستشفى , كي تأخذ إجازة مرضية بقية الأسبوع , مما جعل الأيام الممتدة أمامها خالية حزينة . كانت متلهفة الى الانفراد بنفسها ولكنها , عندما أصبحت وحيدة , شعرت بأن الفراغ يدفعها للبكاء .
وفي محاولة لملء الفراغ , قررت الشروع في فرز ما تريد حمله معها الى لندن . ستحتاج الى استئجار شاحنة صغيرة لنقل الأثاث . لكن هناك التحف والأواني الصينية والأشياء الأخرى التي جمعتها خلال السنوات القليلة الماضية . كل هذا يجب فرزه والتخلص من التافه منه . لكن , وبعد نصف ساعة , شعرت بالتململ والضجر من البقاء محبوسة في بيتها .
كان الطقس قد تغير , وهب نسيم بارد من التلال فانخفضت درجات الحرارة . ارتدت سترة سميكة , ثم خرجت في نزهة على الأقدام , آملة أن يخفف ذلك من ضجرها . سارت من جديد نحو النهر ووقفت على الضفة تنظر الى المياه المتدافعة عند قدميها . ولم تدرك أنها تبكي حتى شعرت بتبلل خديها . عندما ستترك المستشفى سينتهي كل شيء , لن ترى نيال مرة أخرى . كيف ستتمكن من احتمال ذلك ؟
- لا تبكي يا حبيبتي !
قطع صوته أفكارها التعيسة وجعلها تستدير بسرعة , أوشكت معها على الانزلاق الى النهر , إلا أن نيال مد يديه وجذبها اليه محتضنا إياها لتلتصق بجسده الصلب . ونظر نيال اليها بعينين مرحتين وقال :
- يبدو لي أنك بحاجة الى من يعتني بك , أيتها الممرضة هاريس .
حاول أن يجعل نبرة صوته مرحة , لكنه فشل في ذلك , وأحست سارا بتوتر كل عصب في جسمها .
نظرت اليه مذهولة :
- هل ... هل هذا عرض منك يا دكتور جيلسبي ؟
ضحك ضحكة عميقة , رقيقة وحنونة بحيث أنعشت كيانها, كان يمسكها بين ذراعيه بقوة وكأنها سف تطير من بين يديه يداعب خصرها كما يداعب أوراق الزهرة. وهي تنظر اليه بعينين متلألئة بدموعها حينها قال :
- نعم , إنه كذلك ! ويبدو لي أنه كان علي القيام بذلك منذ زمن طويل .
- نيال !
فأطبق بشفتيه على شفتيها فغاب اسمه في خضم المشاعر التي غمرتها عندما أحست بطعم شفتيه. آه كم اشتاقت اليه , ملأت البهجة قلبها الى حد شعرت معه بأنه يكاد ينفجر .
وابتسمت عندما رفع رأسه وفي عينيه الذهول نفسه المرتسم في عينيها :
- أحبك سارا ! وقد كنت أكبر مغفل حين لم أدرك ذلك من قبل , لكنني أحبك أعشقك وأهيم بك !
- وأنا أحبك , يا نيال .
حدقت في عينيه الخضراوين العاصفتين , وهي تمرر أصابعها بنعومة على شفتيه كي يدرك أنها تعني كل حرف قالته :
- أحبك أكثر مما يمكن لأي شخص أن يحب .
- يا حبيبتي ,ولم يكمل بل أطبق بشفتيه على شفتيها وهو يحتضنها ممررا يديه على جسدها كما لو أنه خائف ألا تكون حقيقة وأنها بقربه وتشاركه حبه وتريده كما يريدها .
وتنبها الى ما يدور حولهما , حين تناهت الى سمعهما أصوات الأولاد الذين كانوا يصيحون ويلعبو ن بالقرب منهم .
تركها نيال من بين يديه وهو ينظر الى ملعب الأولاد شزرا :
هممم ... يبدو أن هذا المكان يعج بالناس . هل منزلك بعيد يا سارا ؟
- آه , إنه قريب جدا .
وابتسمت له ابتسامة عريضة , وهي تدس يدها في يده ليستديرا عائدين . درا حول الملعب . ثم توقف نيال وقد ظهرت على ملامحه كآبة خفيفة وهو ينظر الى الأولاد .
قال لها بهدوء :
- ربما ذات يوم يا سارا , سيلعب ابننا هنا .
وكان هذا كل ما تاقت إليه نفسها . أحلى وعد بالحياة , عربون الالتزام الكامل . مدت يديها نحوه لتضعها على وجنتيه وشعرت بقلبها يمتلىء حبا وحنانا وهي تقول :
- هذا محتمل أكثر منه مستحيلا , يا حبيبي .
عادا الى بيتها يدا بيد . وأغلقت سارا الباب خلفهما , فجذبها اليه حاملا إياها الى الأريكة الجلوس ووضعها عليها ليستلقي بجانبها رفع نفسه قليلا ليصبح وجهها مقابل وجهه وتلتقي نظراته بنظراتها خفق قلبها بقوة حين أطبق فمه بنعومة على عنقها ورا ح يقبلها وهي ترتجف بين ذراعيه منتشية بحبه , راح يزيح السترة عن جسدها لتتخلله يديه صدرت عنها تمتمة ناعمة باسمه وبيديها أخذت تفك أزرار سترته لتمرر بعد ذلك أطراف أصابعها على شعر صدره .
كانت مشاعرها تماثل مشاعره قوة . فهو نورها , دفئها , حياتها ... وسبب وجودها .
* * *
أخذ يحدق في عينيها بحب عارم شعرت إزاءه بغصة في حلقها .
- أحبك , يا سارا .. أحبك أكثر مما أحببت أي امرأة أخرى.
همست وهي ترتجف , لا تكاد تصدق ما يقوله :
- حتى ... حتى اليسون ؟
وأجاب :
- نعم , حتى أليسون . لقد نشأنا أنا وأليسون معا . وماكنت أشعر به نحوها مختلف تماما . وقبلها على أنفها , وأكمل لقد أحببتها فعلا لكنني لم أكن مغرما بها . لم أشعر معها قط بمثل ما أشعر به معك الآن ...
كلامه هذا خدر احاسيسها و وصرف ذهنها عن أي شيء في العالم باستثناء حبهما الجديد المتكامل . هذا الحب الذي سيدوم الى الأبد .
فكل ما أرادته في حياتها وكل ما حلمت به جسَّده نيال وحبه .
لم يحاول أخفاء رغبته وتملكه حين راحت قبلاته الساخنة تنهال على وجهها وجسدها لذا شعرت بقلبها ينتعش.
ضحك للتعبير الذي بدا على وجهها .
- ما رأيك بغرفة نوم مميزة فيها سرير ضخم ؟
- أنا ... أنت ...
وتنفست بعمق وهي تسأله :
- هل هذا عرض زواج , يادكتور جيلسبي .
- نعم .
ورفع حاجبه بغطرسة وأضاف :
- أظنني أعلم الجواب مسبقا , لكن من المفروض أن أسمع منك الجواب بالقبول .
ضربته بنعومة على صدره قائلة وهي تبتسم بعبوس خفيف :
- لماذا , أنت ... أيها المغرور .
- نعم أم لا ؟ هيا , قرري الآن هل ستتزوجينني ؟
- حسنا , إن كان هذا سيمنعك من التصرف كرجل الكهف ...
وتنهدت بلهجة مسرحية وأضافت :
- أظن أن علي ان أقول نعم .
- هذا حسن . وأعلمك أنه لم يكن لدي النية لقول ( لا ) كجواب . كان نيتي ان أقنعك بكل الوسائل الممكنة .
وسرت قشعريرة في جسمها وهي تتلمس للعاطفة التي حملها صوته , وقالت :
- هممم ... جعلني قولك هذا أتمنى لو أنني تمنعت قليلا .
- آه , لا تقلقي , تستحقين الآن مكافأة لأنك لم تجعليني أنتظر . وأنت الرابحة من كافة النواحي , يا سارا .
احتضنها من جديد وهم أن يقبلها لكنه تردد بشكل خفيف , فقالت له :
- إن خسارتي الوحيدة هي ألا تحبني يا نيال .
فرد معترفا بهدوء :
- لكنني أحبك لقد أغرمت بك منذ عهد طويل , منذ ذلك اليوم قرب النهر . كنت ... كنت فقط خائفا من أن أواجه مشاعري لأنني كنت أشعر بالذنب حيالها .
- حيال أليسون ؟
- نعم .
وتنهد , وتابع يقول :
- بدا أنه ليس من العدل أن أحب وأسعد مرة أخرى وهي ميتة . شعرت بالذنب فلو لم أصطحب أليسون ألى أفريقيا وأجعلها تحمل طفلي , لبقيت حية حتى اليوم . لقد أقسمت على ألا أضع امرأة أخرى في مثل هذا الموقف , وعلى أن أبقى بعيدا عن أية علاقة شخصية , كي لا أجازف مجددا.
فقالت وقد كرهت أن تسمع منه ذنبك هذا الكلام :
- لكن الذنب لم يكن ذنبك يا نيال .
ورفعت رأسها لتنظر الى وجهه , وسرها أن يتقبل قولها باسما .
- انني أدرك ذلك الآن . لكنني قبل أن أتعرف إليك لم أسمح لنفسي بأن أفكر في ذلك بتعقل . ولم يكن ذلك صعبا . فلم أكن بحاجة الى القيام بذلك , حتى تعرفت اليك سارا . كنت قانعا بالبقاء وحيدا بقية حياتي , فلا يرافقني سوى عملي , وأدركت مدى خطرك على توازني النفسي منذ رأيتك للمرة الأولى في غرفة الممرضات . لكنني صممت على مقاومة مشاعري لأنني شعرت بالذنب .
- ظننتك ما زلت مغرما بأليسون ولا تحتمل التفكير في امرأة أخرى في حياتك .
عندما اعترفت بذلك بهدوء , رأته يجفل . وأجاب :
- لا . كل ما أخبرتك به صحيح ... لقد أحببت أليسون . كانت دوما جزاءا من حياتي , وكانت فتاة حلوة رقيقة . لكنني لم أحبها بقدر ما أحببتك يا سارا . لم أبتعد عنك لأنني لا أستطيع أن أحبك بقدر ما أحببتها , ولكن لأنني أدركت كم يمكنني أن أحبك ! وهذا ما جعلني أشعر بالذنب , لهذا صممت على وضع حد لذلك .
فسألته باسمة :
- فهمت . لكن ما الذي جعلك تغير رأيك ؟
- سمعت أنك قدمت استقالتك ! فأدركت فجأة أنك ستخرجين من حياتي الى الأبد وأنني لن أراك أبدا . وعدت عقلي بعد اصابتك تلك , مما دفعني الى بذل الجهد لأرى نتيجة تصرفاتي معك .
وضحك فبدا صبيانيا ووسيما وجذابا , وتسارعت خفقات قلب سارا . قال :
- كان لدي اجتماع عمل بعد ظهر اليوم , لكنني أرسلت اعتذارا الى مجلس الإدارة . وتحججت بأن لدي أمرا هاما مستعجلا أقوم به , ثم جئت الى هنا مباشرة . ولم أكذب .
تحول ضحكها الى آهة محمومة عندما باشر بتقبيلها , وأغمضت عينيها وقد جرت حمى المشاعر الجياشة في كيانها . نيال على صواب , فما من حاجة ماسة أكثر الحاحا من الحب !
-

arewa 29-06-08 08:20 PM

تمت بحمد الله

وردة الياسمين 30-06-08 01:24 AM

:flowers2:يسلموووووووووووووووووووووووووووووووووووو حبيبتي بتجنن ورووووووووووووووووووعه و شكرا ا عسل:55::55:

sasa sasa 02-07-08 09:05 AM

شكرا اروى كثيرا
روايه جميله فعلا

الآنسة سالي 08-07-08 07:43 PM

مشكوره يا غلاي

تسلم اناملك

salwa20 16-07-08 06:26 PM

شكرا لك الرواية رائعة جدا وانا اقدر مجهودك العظيم

sekymeky90 16-07-08 08:35 PM

تسلمى الرواية روعة
ميرسى كتير
:flowers2::flowers2::flowers2:

لميس133 27-07-08 05:21 PM

يعطيج العافيه
روووووعه
ألف شكر
دمتي بتميزك

عزوف الحزن 27-07-08 07:25 PM

يسلمووووووووووووو يا قلبووووووووو ع الروايااااااااا الرووووووعهـ

وننتظر جديدكـ

غادة شمس المودة 09-08-08 01:55 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الف شكر على هذا المجهود العظيم


تقبلى مرورى

حقيبةالجراح 14-08-08 10:28 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا على الرواية..............ننتظر منك مزيد من الابداع ................

**أميرة الحب** 10-09-08 01:54 AM

يسلمووووو يعطيج مليوون عافية

امنيتي 19-09-08 12:00 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا لك على الرواية الرائعة ارجو الا تحرمينا من جديدك

nado 28-09-08 01:31 AM

شكرا تسلم ايديكى

المحروسه 28-08-09 03:41 AM

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . جزاك الله الف خير بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه

أسيرة الاحزان 29-08-09 02:11 AM

من البداية تبدو اكثر من رائعة مشكورة حبيبتي.

أسيرة الاحزان 29-08-09 04:15 AM

اختي العزيزة ارواية اكثر من جميلة شكرا علي مجهودك في كتابتها.

moura_baby 02-09-09 04:38 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

,,pink,, 29-09-09 07:03 AM

يــــآـآـآي

الروايه شي

جونـــــــــآـآن

خلاص خاني التعبير


:c8T05285:

وردة الزيزفون 17-10-09 10:03 AM

تسلم ايدك على الرواية الرائعة

awaw 19-11-09 01:26 PM

ما اقدر اوصف لك قد ايش الروايه حلووه شكرا

طيف مساء 26-11-09 09:03 PM

جزاك الله الف خير

كيووتي 15-01-10 05:56 AM

الرواية حدها فظيعةو رومنسية

الهيفاء 16-01-10 01:55 PM

رواية مميزة ومؤثرة، شكرا على الاختيار...

الجيتار 17-01-10 09:15 PM

http://www.osrah.net/forum/uploaded/...1201110226.gif

قماري طيبة 04-03-10 10:12 AM

رواية جميلة جدا تشكري عليها... بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه... موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

نعوم 06-03-10 10:07 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

Rehana 15-03-10 12:01 AM

يسلمو الأيادي

مع اني ما احب أجواء المستشفيات لكن رواية حلووة

تحياتي لك

goo_goo 15-03-10 04:52 PM

http://www.sky-bramj.com/upload/uplo...182792016d.gif

سفيرة الاحزان 10-04-10 01:21 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

سفيرة الاحزان 28-04-10 12:33 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

انسى العالم 08-05-10 11:37 PM


يعطيك الف عافيه خيتو
الروايه اكثر من رائعه
يسلموالايادى..........انسى العالم

جوريات111 18-09-10 07:01 PM

بصراحة حلوة تسلم ايدك

toukech 20-09-10 02:19 PM

merciiiiiiiiiiiiiii

الدكتوره سها 03-11-10 03:26 PM

مشكوووووووووووووووووووووره

KABR TNI YA HAM 04-11-10 09:26 PM

يسلمو ع الروايه رووعه

قهوة المساء 04-11-10 10:30 PM

مشكوووووووووووووووووووووره

rosi 06-11-10 03:57 AM

مرسي على الرواية الحلوة ويعطيك العافية :liilase:

كشخه زود 06-11-10 07:28 PM

ماحبيتها

كأنها متكرره الأحداث

<< مجرد رأي ^^

شاهد 16-11-10 11:28 PM

رائععععععععععععععععععععععععة

زهرة منسية 09-04-11 01:05 PM

يسلموا ايديكى حبيسبتى الروايه جـــــــــــــمـــــــــــــــيـــــــــــــــــــلـــــــــ ـــــــــــه

سماري كول 12-04-11 02:59 PM

تسلمين ع الروايه الحلوه

ندى ندى 21-04-11 12:39 AM

روعه روعه روعه روووووووووووووووووووووووعه

(غموض) 27-04-11 10:40 AM

رواية رائعة

خالص الشكر لجهودك

الجبل الاخضر 06-09-13 01:06 PM

رد: 217- سيد الصقر - جينيفر تايلور (كاملة)
 
تسلمي عيوني :55:برافو :55:برافو :55:برافو :55:برافو :55:تسلم الانامل :hR604426:على المجهودك الرائع والاختيار الممتاز:55::peace: ونشكرك على تعبكي:lol: ياعسل :wookie:وننتظر جديدك:dancingmonkeyff8:

شووقهـ 07-09-13 11:09 PM

رد: 217- سيد الصقر - جينيفر تايلور (كاملة)
 
يسلمو ياعسل رواية جميلة

rebel angel 05-10-14 08:54 PM

رد: 217 - سيد الصقر - جينيفر تايلور ( كاملة )
 
مبين انها حلوه لهالروايهه تسلم اي


الساعة الآن 06:49 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية