منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   (رواية) خطوات على الجمر (https://www.liilas.com/vb3/t207573.html)

سميتكم غلآي 17-06-20 10:12 AM

خطوات على الجمر
 
عدت وبين يدي رواية أرجو أن تحط خفيفة رشيقة عليكم وأن تستمتعوا بأحداثها وشخصياتها...
الرواية كاملة سأضع فصولها بين فترة وأخرى ليست ببعيدة إنما قريبة...

ملخص:

رحلة بحث عن ذات البطلة "ياسمين" بين الماضي والحاضر، من طفولة منبوذة، وحاضر مليء بالندم،
لعلها ترمم ذاتها، تعيد لحياتها استقرارها، تغفر ويغفر لها، تتعايش وتعيش!

ياسمين عاشت طفولة منبوذة من والديها، لا تعلم لمَ كانت طفلاً منبوذاً وغير محبوب؟
فقط الذي تعرفه أن هناك أطفالاً غير محبوبين لدى أبويهم وآخرين محبوبين.. فسبب لها ذلك عُقداً نفسية...وبسبب محيطها العائلي المتفكك من أب غير مبالي وأم غارقة في مشكلاتها مع الأب واهتمامها بطفل واهمال آخر ، أصبحت طفلة، ومراهقة، وشابة، غاضبة وتعيسة.

في أحد الأيام ترتكب ياسمين خطأ فادحاً بحق الطفل "يوسف" وبعد مرور 13 سنة، يدخلان إلى حياة بعضهما من دون أن يتعرف يوسف إلى هويتها!
فهل سوف تتطور علاقاتهما؟ وهل من مكان للغفران في قلب يوسف لها؟
وهل سوف تجد ياسمين طريق الخلاص من كل تلك العقد النفسية، والحياة الأسرية المضطربة وتصل إلى بر الأمان وتتصالح مع ذاتها!


سميتكم غلآي 17-06-20 10:17 AM

رد: خطوات على الجمر
 
طفولة محفوفة بالمخاطر

1-
كنتُ صغيرة على أمور كثيرة، طائشة، لا أعلم سبب طيشي قد
يكون بِسبب الإهمال الذي كنتُ أُعانيه، أو أنه تحدٍّ للعالم الذي أعيش
فيه ومحاولة إثبات نفسي.
نشأت في بيئة طبيعية بين أب وأم لن أقول إنهما متفاهمان، بل أقول إنهما
مجرد أم وأب احتويا عالمي.
وكان هناك نقطة عظيمة جعلت مني شخصاً محطماً من الداخل، هي
أن أمي لا تحبني، أمي دائماً ما كانت تتذمر مني وتتمنى عدم وجودي،
وتعترف لي بأنني كنت مصدر تعب لها وأنها أخطأت بإنجابي، لا أعلم
لمَ كانت تقول لي هذا، وما ذنبي أنا!
ولكن هناك من يقول إن هناك أطفالاً مفضلين لدى أهاليهم، وآخرين
لا!
أعرف أنهما يهتمان لأمري ويخافان عليّ داخليّاً، ولكن لم أكن المفضلة
لديهما، فسبب لي هذا عقدة نفسية، فأنا أرى اهتمام أمي المبالغ به
بأخواتي الثلاث الأكبر مني سنّاً، وابن أمي اليتيم والذي لا يمت لنا
بصلة إلا أنه ابن صديقة أمي المتوفاة وابن خالتي من الرضاعة.

سميتكم غلآي 17-06-20 10:21 AM

رد: خطوات على الجمر
 
2-
حدث لي في طفولتي حدث غير تفكير طفلة، هو أن الخادمة أخبرتني
بأمور محظورة، أمور يجب على الطفل عدم معرفتها
لم أكن أستوعب ما هو الأمر، وكيف هو!
ولكنني أخذت ألتقط بعضه وأحتفظ به في ذاكرتي، أخزنه لعلي
أستوعبه، أتخيله في عقلي الصغير
ولكن الآن أشعر بأن هذه الخادمة قد اقترفت ذنباً عظيماً في حقي
فلقد هدمت طفولتي وشوهتها، بمجرد الفضفضة
فهي كانت فقط تريد القذف والطعن وإخراج مكنونات قلبها فلجأت
إلى طفلة لا تعرف الكثير عن العالم

سميتكم غلآي 17-06-20 10:30 AM

رد: خطوات على الجمر
 
3-
أذكر في طفولتي عندما كنتُ في السادسة من عمري
أُعاني من إهمال أمي الشديد
فلقد تزوج أبي من امرأة أخرى تاركاً إيانا نعاني قسوة النبذ
نبذنا لنعاني الوحدة والألم
كانت ألعابي بين الرمال، كنتُ وحيدة بين ألعابي المهترئة، لا اهتمام ولا
أمان، إلا من خادمة المنزل.
فأمي باتت متعلقة بابنها الذي احتضنته منذ فترة طويلة، ومنذ أن كان
في المهد، لأن أمه كانت أجنبية مقطوعة الجذور، وأبوه متوفى وليس له
أقرباء مباشرون
احتضنتهُ بعد أن قامت بعملية استئصال لرحمها من بعد ولادتي
ومن بعد أن فقدت الأمل بإنجاب صبي بعد أربع بنات
كنتُ أكرهه، وأكره أخواتي معه لأنهم أحب إلى أمي مني
فأمي تبخل باحتضاني وتقبيلي
فأنا أقف في زاوية معتمة وحيدة بين الظلال أنظر إلى الكل
أنظر بلا دموع، نظراتي مجردة من الأحاسيس، فارغة، ضبابية
نظرات تطمع بما يحصل عليه الجميع عداي
فكم وددت لو أن جدتي تحتضنني فقط، وليس أمي!
ولكنني لم أحصل على شيء، فجدتي كانت تنبذني، تنبذني لأنني فرد
خاطئ، فرد لا تحبه أمي.
تمر الأيام تلو الأيام، والفراغ يتسع
وريقي يجف، وأتوق إلى المفقود، وأتلهف إلى الحنان والحب
أندس وأحوم حول المنزل، وعندما لا أرى أمي في الجوار أمسك
بالطفل لأقول لهُ: «أنت يتيم عد إلى أهلك فنحن لا نريدك »
عيناه كبيرتان بريئتان لا تحركان مشاعر طفلة مثلي، يقوس شفتيه وهو
يقول: «أريد ماما »
أصرخ عليه، وأنا آخذ ألعابه: «أمك ليست هنا إنها أمي أنا، أنت ليس
لديك أم »
يهز رأسه ويبكي: «لا ... أمي هنا »
أصرخ عليه ضاربة إياهُ: «لاااا.. إنها أمي أنا، وأنت سرقتها مني »
أنقض عليه، وأُبرحه ضرباً، أشفي غليلي، آخذ منه الحنان الذي سرقهُ
مني.

سميتكم غلآي 17-06-20 10:45 AM

رد: خطوات على الجمر
 
4-
كنتُ أرى عالمي في المشاغبة، وفي افتعال المشكلات
والغيرة والحقد على من تحبهم أمي، أكرههم وأغار منهم لأن أمي
تعطيهم مساحة كبيرة من قلبها، وأنا لا تعطيني شيئاً.
كنتُ شاحبة، هزيلة
صغيرة مشاغبة
تشتم فلا تبالي
تضرب فلا تبكي
كنت جافة كما ربيتُ، فاقدة لما يسمى الحب، وفاقدة لمعنى الخوف
والرهبة، غير مستوعبة لحقيقة الحياة بأكملها، فكيف لطفلة لم تعلم إلا
الاعتماد على النفس وعدم المبالاة بما حولها، أن تفقه شيئاً من مخاوف
الحياة.
ولكن تغيرت حياتي منذ ذلك الحين، وحينها أدركت معنى الخوف
والرعب، وأن هناك ما هو أقسى وأمر، وأن تجارب الحياة التي لم
أستوعبها في سنواتي السابقة، قد تفتح لها عقلي في ذلك الوقت!
كان هناك حفل زواج في قريتنا الصغيرة، كنتُ في العاشرة من عمري، في ذلك اليوم ارتديت فستاني الزهري وانتعلت حذائي الأبيض،
وركضتُ إلى منزل الجيران الذي يحاذي منزل العروس
وكما في عاداتنا وتقاليدنا وفي حفلات الزواج تكون هناك خيمتان
كبيرتان أمام منزل العروس واحدة للنساء والأخرى للرجال.
اختبأت وراء باب الجيران الكبير، كانت الظلمة ترسل ظلالها عليّ
وأنا أحدق إلى ألوان منزل العروس الذي تغطى بمصابيح ملونة
شعرت بالسعادة، فمنذ فترة طويلة لم أشهد مثل هذا الاحتفال،
قرب الجدار وأمامي مباشرة، بين شلال الضوء المنبعث من المصابيح
الصفراء،
كان يقف هناك رجل طويل القامة، ضخم الجثة، أسمر البشرة
يحمل بين يديه كيساً أسود كبيراً وعملاقاً
الكيس يتحرك، يعبر عن مقاومة خفية تختبئ بداخله

تحاول الأيادي الصغيرة الإفلات من ذلك المكان، والفستان الأبيض
يتحرك معها
وعينا الرجل تتحركان بحركة سريعة خوفاً من وجود متلصص
بالجوار، وقدماه تضربان الكيس لعله يكف عن مقاومته
أذكر أن الأضواء كانت خافتة، والهدوء سيد تلك اللحظات التي
لم أنسَها يوماً
كنتُ أراهُ أمامي بوضوح، وضوح جعلني أنفي الحقيقة، أنفيها بطفولة
لا تعرف معنى خلو القلب من الرحمة، ونزعة الشر وقتل النفس
البريئة.
كنتُ أرى الرجل الضخم يخنق إنساناً صغيراً، ومن فستانها الأبيض
استنتجتُ أنها فتاة!
في ذلك الوقت ظللتُ متصلبة أنظر أمامي غير قادرة على تغيير شيء
أو إنقاذ تلك الطفلة الصغيرة من يد ذلك المجرم
هو من كشفني، لولاهُ ما كنت كشفت!
فلم أكن أنوي الظهور وتعريض حياتي للخطر
ولكن ابن أمي اليتيم «يوسف » الذي يصغرني بثلاث سنوات
كان طفلاً صغيراً في ذلك الوقت
جاء إليّ عندما رآني مختبئة في الظلام ووراء الباب بالتحديد، وتحدث
معي بصوت عالٍ قائلاً: «ما الذي تفعلينه؟ » وكشف تلصصي على
ذلك المجرم
لم أستطع في ذلك الوقت إسكات فمه أو إعماء بصره
فهو قد أخذ بالنظر إلى ما أنظر إليه، وكشف ستار الحقيقة بشهقةٍ قويةٍ
وكشفني للعيون النائمة، والتي لم تعِ اكتشافي لها
هو وجه أسود قد غطته الظلال، هي نظرات حمراء، عيون جاحظة
تحمل هالة من السواد الوحشي، تنطق باللا رحمة، تشرب الدماء قبل
الماء.
نظرت إلينا صارخةً بالتهامنا والقضاء علينا، أخرج المجرم السكين
من حيث لا أدري، وقبض على الكيس وطواه بضربة واحدة من يده
واقترب من خطواتنا التي خرجت من الظلمة لتكشف عن أجسامنا
تشبث بي يوسف مرتجفاً من البكاء والرعب
استجمعتُ شجاعتي وركضتُ إلى داخل منازلنا المتصلة ببعضها
انطلقتُ إلى داخل المنازل وأنا أجر الصبي معي، أحمله مرة وأسقطهُ
مرة أخرى
أبكي بهستيرية مرعوبة من لحاق المجرم بي، وأنه في أيّ لحظة قد ينقض
عليّ ويقتلني
لم أعِ إلا بوصولي إلى المنزل ورمي جسمي وجسم يوسف على الأرض
انهرت باكية مختبئة في مكان لا يراني فيه أحد
أرتجف وأرتعد ببكاءٍ شديد، ولا أرى أمامي سوى الضباب
أمسكتني أمي وقد هلع قلبها لمَا حل بي
أخبرتها بما رأيت وأنا أبكي، أقسمت أنها الحقيقة، وافتعلتُ صخباً هز
جدران تلك الليلة المأسوية.
لم تنتهِ تلك الليلة على خير، ولم ينتهِ صخبها المروع
الزوبعة التي اختلقتها سرعان ما هدأت
لأنهُ ليس هنالك دليل!
فالشرطة قد فتشت المكان، وبحثت عن مفقودين
ولكن ليس هنالك مفقودون!!
فالبعض قال إنهُ قد خيّل إلينا الأمر، أما البعض الآخر فقد كذبنا تكذيباً
فالأطفال في منظورهم كاذبون وليسوا دقيقين، وقد يرون الأشياء من
منظور آخر فيه زوائد كثيرة
في تلك اللحظات الطويلة التي لا أنساها، اختبأتُ تحت أغطية سريري
أبكي وسرعان ما انتهى بكائي
فلم يبقَ منه غير الأفكار والخواطر
كنت غاضبة في ذلك الوقت، وكرهت حقيقة تكذيبهم لي
فأنا لستُ كاذبة، فكيف أكذب بمثل هذا الأمر!
لم تمر إلا دقائق قصيرة حتى عدت إلى حياتي الطبيعية
ونسيت ما حدث لمجرد تكذيبهم لي، وعدم تصديق ما رأيت وما زادني
ذلك إلا نفوراً من العالم
فالكل ينظر إليّ وكأنني قد فعلتُ شيئاً سيئاً، وأنني مجرد كاذبة!
بعد رعب تلك الليلة
أعادوا الأمر إليّ، وأني أخفت الصبي وأوهمتهُ
وأنني مشاغبة وفتاة لا تسمع الكلام، عاقبوني بشدة على كذبي
وأسموني الكاذبة
شوهوا نفسي التي لم تكذب قط في مثل هذه الأمور
اتهموني حتى إنني تخليتُ عن الحقيقة، وأن ما حدث محض خيال
كيف يكون خيالاً وقد رأيته وكوابيسه تلاحقني، ولكن ليس هنالك
دليل على ذلك حتى الآن!
وأمي التي زجرتني في ذلك الوقت، وحفرت كلماتها القاسية في قلبي
المزيد من الخدوش.

سميتكم غلآي 17-06-20 10:50 AM

رد: خطوات على الجمر
 
انتهى الفصل وهذه مجرد بداية وستبدأ الحكاية الحقيقية بعد فصل التعريف عن ياسمين وقصتها مع يوسف... استمراري يرجع إلى تفاعلكم...

سميتكم غلآي 19-06-20 02:57 PM

رد: خطوات على الجمر
 
تغير جذري

في أيامي التي لم أكن أعي فيها حجمي الحقيقي، أو واقع الحياة التي أعيشها
كنتُ أقضي معظم وقتي مع يوسف
لأنني من تجالسه منذ أن أكمل الثانية من عمره، ومن تعتني به وتقضي
له حاجياته
كان طفلاً لو قلت إنني أبغضه فقط لأنني تحملت مسؤوليته لكذبت
لذلك
فأنا مجرد طفلة أرغمت على تحمل مسؤولية أكبر منها
كان دائماً ما يتبعني عندما كبرنا وأنا أنهره عن ذلك
ولكن وبعد ذلك أعود إليه مع إصراره، وألعب معه حتى مع وجود
تلك الحساسية التي كنتُ أشعر بها نحوه
فليس لدي غيره من هو قريب مني ويحب مجالستي، أو مشاطرتي
أفكاري وألعابي
فأخواتي بعيدات كل البعد عني، مختلفات كثيراً، كنَّ يطردنني في أكثر
الاوقات لو حاولت الجلوس معهن أو مشاركتهن أحاديثهن.
كان يوسف طفلاً مناقضاً لي، مطيعاً، محبوباً، لطيفاً لا يسبب المشكلات
وطفلاً رأى ما رأيته
في ذلك الوقت تحدثت معه من بعد الحادثة التي وقعت لنا: «يوسف لم
يصدقني أحد، إنني أشعر بالقهر »
بطفولة وعينين لامعتين، عينيه اللتين تحملان بريقاً عسليّاً بريئاً، قال:
«ياسمينة أنا أصدقك فأنا رأيت ما رأيته، لا يهم إن كذبنا الكل فنحن
على حق »
أحب قوله لاسمي، فعندما كان طفلاً صغيراً فبدلاً من أن يسميني
ياسمين مثلما يفعل الكل، سماني بياسمينة، فأعطاني هذا الطفل شعوراً
جميلاً
شعور أنني شخصٌ مميز، وأنه صديق يفهم شعوري ويصدق كل ما
أقوله له، وينفذ أوامري
كنتُ أستغله
كنتُ طفلة ظالمة، مستبدة
أعامله معاملة قاسية خالية من الرحمة
أضربه، أجبره على فعل ما أريده

أسمعه كلاماً يحمل من الغيرة والكره الكثير
حتى إنه يقول لي: «ياسمينة، إن أمي تحبكِ، أنا متيقن أنني لم آخذ
حبها لكِ منها »
أضربه وأقول: «لا تكذب أنت لا تعرف شيئاً فأنت المفضل لديها وأنا
لا، أنت مجرد سارق »
يقول بحزن: «أنا لستُ سارقاً »
أدفعهُ عني، وأنا أقول: «بلى، أنت سارق »
مع هذا كلهِ
مع قسوتي وكرهي له
هو لا يبتعد عني، إنما يستمر باللحاق بي، ويفعل ما أفعل
كنت ألعب معه دائماً في باحة المنزل وبين الأشجار الكبيرة وبالرمل
والحصى وبعض الألعاب البلاستيكية، بزجاجات المياه الغازية الفارغة
كنا نرسم طريقاً طويلاً في الرمل بين أوراق الشجر والأعشاب،
ونبني بيوتاً من الأخشاب الصغيرة والصناديق الخشبية والورقية
كنت أشرب من صنبور الماء المخصص لسقي أشجار المنزل وكان هو
يقلدني
وفي بعض الأوقات يقول لي: «ياسمينة اصنعي لي المعكرونة،
فمعكرونتكِ لذيذة جدّاً »
أشعر بالفخر لقوله لي هذه الكلمات، وأطير زهواً
فأبدأ في صنعها على الفور، وأكلها معه بلذة
كان يوسف كظلي، كجزء مني
وكنت أنكر حبي له، أو اهتمامي به
وكم كنا نتخاصم، وكنت أنا شديدة الخصام بغيضة التصرفات
أنا من يبدأ وليس هو
أنا من أفتعل المشكلات
وكنا في خصام دائم
لا يحله إلا هو
ذات مرة، وفي ذلك اليوم الذي لا ينسى!
كنا كعادتنا نلعب، ولا نكف عن اللعب
كنتُ أبلغ من العمر الثانية عشرة وهو في التاسعة
كنتُ بغيضة فتاة مشاغبة، بل طفلة لا تعي ولو
القليل
تشاجرت مع يوسف في ذلك المساء، لأنه لم ينفذ طلبي ولم يهتم
لصراخي عليه، وبعد أن وقعت على وجهي من بعد تسللي إلى المطبخ
ورفض مجيئه معي
ضحك عليّ بعد أن تبعني وقفز من النافذة إلى داخل المطبخ بعدي
كنا في مطبخنا الواسع الذي اكتسى باللون الأبيض والبيج، وكان كُل
شيء في متناول الأيدي، والمخاطر تحيط بنا من كل جانب
تحركنا نلعب ونلهو ونتشاجر بالأيادي، نمر قرب الفرن، ولا نشعله
إنما نشعل أعواد الثقاب واحداً تلو الآخر، وفي مرات أخرى نقوم بقلي
البطاطس من دون النظر إلى العواقب، ونجلس على الأرضية نحصي
عدد بلاطها أو نعبث بأدوات المطبخ المختلفة.
كنت غاضبة وأريد تلقين يوسف درساً فأمسكت بأول شيء وقع في
يدي وكانت علبة حمراء وضعت عليها علامة تحذير كبيرة، ونفثت بها
على وجهه بغزارة
أخذ يوسف يصرخ ويلطم ويدافع عن نفسه، وأنا أضحك عليه
وكأنني أسترجع ضحكاته السابقة عليّ
في لحظات قصيرة، استوعبت فعلتي
ولكن بعد فوات الأوان
اجتاحني الرعب من جراء فعلتي
بل متُّ جزعاً
ورميت ما بيدي وأخذت أمسحهُ عن وجهه، لعلي أبعد ذلك السم عنه
وبعد ذلك غسلت له وجهه، وهو يبكي عينيه واللسع فيهما وفي وجهه
كانت عيناه منتفختين ووجهه محمرّاً بشدة
كان لا يستطيع فتح عينيه أو الكف عن البكاء
مرت دقائق طويلة
مرت وأنا معه أخفف من قوة ألمه، وأحاول نسيان ما فعلته أو التبرير
لنفسي أن لا شيء حدث له، وأنه مجرد شيء بسيط وسيختفي
انتابني في ذلك الوقت البؤس والندم الشديد
وبعد فوات الأوان ذهبنا إلى أمي
واعترفت لها بما حدث
ضربتني أمي أشد ضرب تلقيته في حياتي
ونقل يوسف إلى المستشفى في أسرع وقت ممكن
ولم يكف أحدٌ عن أذيتي وتأنيبي
وندمت كثيراً وأحسستُ في ذلك الوقت أنني أستحق كل ذلك
فأنا جنيت عليه
بكيت في ذلك المساء بكاءً لم أبكه من قبل
بكيت خوفاً من فعلتي الخرقاء
لم أكن أظن أن شيئاً تعيساً كهذا سيحصل!
ولم أكن أستطيع تصديق حقيقة ما حدث!
وأنني أحدثتُ مصيبة
فأنا كنتُ مجرد طفلة مشاغبة، طفلة عُلمت الانتقام منذ نعومة أظفارها!
بقي يوسف في المستشفى، وبقيت أمي معه
وبقي الكل يسلط نظراته عليّ
الكل يوبخني وينعتني بالمجرمة
فلقد أدى ما فعلته إلى إصابة عيني يوسف بضرر بالغ
ضرر أدى إلى فقدانه البصر
فلقد أصبح يوسف أعمى
صديق طفولتي، أخي البغيض، وطفلي الصغير، أنا سببت له عاهة
مستديمة
في ذلك الوقت وحتى الآن أشعر أنني مجرد شخص حقير، اقترف ذنباً
لن ينساه مدى الحياة
تراكمت على صدري أحزاني
انطويت على نفسي
وأكلني إحساسي بالذنب والندم
والكل بدأ يعنف، ويحتقر ويكره طفلة مثلي
حتى أثر ذلك على نفسيتي التي كانت متأثرة من قبل
والتي كانت تعاني الأمرين
رؤيته ولو من بعيد تجعلني أعرق وأنشف من الرعب من جراء تذكري ما حدث
نظراتهم تأكلني قبل نظراته الفارغة، والتي أصبحت غير واعية لمَا
حولها
كان في بادئ الأمر مصدوماً ويبكي طوال الوقت، ويقول هي السبب،
ياسمينة هي من فعلت بي هذا، لقد سلبتني ياسمينة عينيّ
نعم!
فأنا قد سلبته عينيه مثلما سلب هو حياتي وأمي عني
ولكنني أنا من سلب ودمر أكثر
فأنا من أعلن الحرب، وأحدث خسائر فادحة
منذ ذلك الوقت وحتى الآن، كان الاختباء وسيلتي الوحيدة للهرب
من العالم
الهرب من إدانة العالم بجرمي هذا
فأهلي لم يرحموني
واستمروا أياماً وشهوراً وسنينَ يذكرونني بعظم ما فعلته.

سميتكم غلآي 19-06-20 05:21 PM

رد: خطوات على الجمر
 
حياة بلا أحضان

لقد أصبحت في مراهقتي شخصاً حساساً
لأن ما فعلته أثر على نفسيتي، وجعلني شخصاً منعزلاً كليّاً غير
قادر على الاختلاط نهائيّاً
فأنا أخاف اللوم، أخاف رؤية وجهه الذي يتهمني ويزدريني
ويكرهني
فلقد أصبح يوسف غير ذلك الطفل الذي أعرفه
فعندما أكون موجودة ويعرف هو بذلك
كان يصر على الذهاب
يسود وجهه، ويلويه الحزن والألم
عندما كان صغيراً كان يقذفني بالشتائم ويبكي
ولكن وبعد ما كبر
أخذ يتخذ الصمت رفيقاً عند وجودي
والهروب وسيلة إضعافي، وتحسيسي أنني مجرد شخص مسؤول عن
فعل لا يغتفر أبداً
وأمي ... ظلت كما هي
كانت بخيلة جدّاً، بخيلة عليّ بعطفها
كنتُ أريد أحضاناً تضمني
تسكنني محيطاً يحتوي أوجاعي
كنتُ منبوذة من قُبلها
شخصاً غير محبوب، شخصاً يريد البوح ولكن لا يستطيع
البوح صعب لشخص لا يعرف الاعتراف بما يخالجه
فأنا أرى أخواتي يحصلن على الاحتضان والاهتمام، وأما أنا فلا أحصل
على شيء
وعندما أحاول الاقتراب منها
أحاول الاعتراف بأنني أحبها وأعشقها
وأنني أريدها لي أيضاً
أريد البكاء على صدرها، واستنشاق عطفها وحنانها
أحاول تطويقها بذراعيّ، تصحيح علاقتي بها قبل أن تصلحها هي
ولكن فجأة أسقط في حفرة مظلمة، تصيبني صدمة عنيفة في كل مرة
أحاول فيها احتضان أمي
أحتضنها لتدفعني بعيداً عنها
وكأنها تركلني، تمزقني، تنفي وجودي
تبعدني عنها متضايقة مني، ناهرة إياي، وقد رسم وجهها علامات
الاستياء مني
تستاء مني، وترميني بعيداً عنها، تحطمني كثيراً وتشتكي مني بلا سبب
وتذكرني بأفعالي، تلومني ولا تكف عن ذلك حتى الآن!
كنت في الماضي أسمع عنها أقاويل عني لا أفعلها، فأصدم أخبرها
بالأمر وأصارحها ولكنها تنفي وتقول ببرودة: «أنا لا أحب الكذب
ولا أقول إلا الحقيقة ولكن الناس قد تسيء الفهم، وتزيد عليه »
لم أكن أكره أمي بل كنت أحبها، ولكنني في تلك الفترة أصبحت لا
أعرف ما هي مشاعري نحوها
أهو استياء
أم عدم محبة
أم أنه حزن عميق
ولكن ومع مرور الوقت بدأت أشعر بالبرود والصقيع يجتاح صدري
الحساس، صدري الذي قد تعود على هذه الحياة وتفهم أنه أمر لا مفر
منه.
أن تكون فرداً منبوذاً، غير موجود، لا أحد يحبك، هل باليد حيلة! ليس
هنالك إلا الصمت والتشبث بالأمل الذي قد يكون مجرد سراب، أو
الانتقام منهم ولفت الأنظار إليك.
أذكر في تلك الأيام أن أبي قد جاء إلى المدرسة لأخذنا منها، أبي تأخر
وليس من عادته أن يفعل ذلك!
ولكن وبعد فترة من الوقت جاء إلينا، وأوقف سيارته أمام سيارة
إحدى المعلمات وترجل منها من دون أن يلقي نظرة إلى أطفاله
الذين جاؤوا إليه فرحين تأخذهم النشوة برؤيته، وأخذ يتكلم مع
المعلمة بابتسامة واسعة لم أكن أراها إلا نادراً، ويعاين سيارتها بكل
جهد، والتفت إلينا بنظرة سوداوية يحثنا على ركوب سيارته، في تلك
اللحظات نظراتي أصبحت حائرة مصدومة، خفت من رحيل أبي لمرة أخرى عنا!
الرحيل إلى امرأة أخرى وقلب حياتنا رأساً على عقب، فأنا لا أريد
فقدان ذلك الاستقرار القصير الذي حل علينا من بعد عودته إلينا،
هو قصير وشحيح ومتعب...
أبي ساعد تلك المرأة وكسر قلبي، ولم يكن ذلك بالشيء الجديد، فوجود
أبي ليس كعدمه
ففي فترة طفولتي القصيرة كان أبي شخصاً صامتاً جامداً، شخصاً
يحاول تربيتنا بأحسن تربية كما يقول
كان عطفه وحنانه شحيحين
كان جافّاً وقاحلاً أكثر من أمي، بل إنه عندما كبرت أصبح وحشاً
كاسراً لا يعرف الرحمة!
ولكن معاملته لأختي الكبرى سارة أفضل لأنها المفضلة
لديه.
مراهقتي كانت من الصعوبة لا تطاق
مراهقة تعيسة لا تجد اليد الحنون فيها، صاخبة حد الجنون
ففيها قد خضتُ معارك مع نفسي، كنتُ أريد تكوينها ولكن تكوينها صعباً على نفسي المهزوزة والمنبوذة
أن تبحث عن شخص يعطيك جبالاً من الآمال، أن تكون شخصاً
مميزاً عنده، أن تكون محبوباً
لم أكن أثق أن أحداً سيعطيني ذلك وخاصة من جنس الرجال
لأن أبي كان قدوة عبرت عن جنس الرجال كافة
وأن الرجال مجرد بشر معدومي المشاعر
فمشكلاته مع أمي ومعاركه الدائمة وجعل أمي تبكي أمامنا جعلني
لا أتمنى أي رجلٍ مثله أبداً.
حدث لي مرة موقف وكان الأول وتوالت بعده الكثير من المواقف التي
كانت في العلن، أن ذهبت إلى غرفة أمي ووقفت عند بابها لأسمع بكاء
أمي وصراخ أبي وشتائمه وقوله بصوته الصاخب: «أنتِ يا أم البنات
لستِ جديرة بتربية بناتكِ، انظري إلى تصرفاتهن وقلة أدبهن، أنتِ لم
تكوني ولن تكوني زوجة جيدة في حياتك كلها، يا ليتني لم أتزوجك »
أمي لم تكن لتصمت في تلك الدقائق بل أخذت تنعته بأنه أناني ومهمل
وزوج غير صالح ولكن بكاءها وحسراتها كانت أقوى وأمر...
كانت تنتحب بشدة، ذُهل عقلي الصغير بما يسمعه ويراه لأول مرة،
وتقطع قلبي وجعاً مع أنني أعترف بذنب إهمال أمي لي وعدم حبها
لي، ولكن ذلك الموقف كان شديد الصعوبة عليّ
صدمني أبي، وكسر ذلك الهدوء الذي كان في داخلي وحوله إلى فيضان
من الأوجاع، حطمني أبي بكلماته القاسية وصراخه على أمي.
أصبحتُ شخصاً حزيناً في مراهقتي، لأنني كنت مشتتة لا أجد حبّاً
ولا احتواءً
وأصبح أبي يضربني على أخطائي الصغيرة ويمنعني من كل شيء، فقط
لمجرد تفريغ ما بداخله عليّ.
من الغباء أن تنتظر من ينقذك مما أنت فيه، أن تتشبث بأمل مستحيل تظل نتنظره سنيناً طويلةً... دون تغير..
لقد طمستُ نفسي في الحزن
حاولت اعتزال العالم، حبس أحزاني في قفص صدري
وعدم أخرج مشاعري لأي كان، فلقد كنت أخشى انكشاف ضعفي
وأنني مجرد مظهر خادع للأعين، المرح وسيلتي، الثرثرة فضفضتي،
شخصيتي السعيدة والرائعة كانت مجرد قناع مبتذل لجذب الأنظار.
أن تمر السنون وتكبر، لم يكن أمراً يهمني ولكن! دائماً ما تكون
كلمة «ولكن » معي
خطواتي دائماً تكون مرتبطة بلكن، فهي رفيقتها التعيسة، كفتاة
كأنثى تكاد تتفتح نضجاً، فتاة مراهقة هكذا نحن المراهقات، نتمنى
الفرار إلى السعادة الأبدية والأحلام الوردية، أحلامنا وردية تحيطها
هالة من الأزهار البيضاء، هي صافية براقة لا تحمل السواد، لا تحمل
أي شهوة، إنما تحمل الصفاء والنقاء، ولكن أنا يربطني الخوف من
تكوين العلاقات مع الناس ومن الوقوع في الحب، أن أحب شخصاً،
أن يقاسمني قلبي أحد لهو شيء يخافه قلبي الموجوع، قلبي الذي اعتاد
على الوحدة.
الألم هو أن تعيش بلا حب من الوالدين، أن تعيش مرميّاً لا يذكرونك
إلا وقت أخطائك.
في ذلك الوقت أخذت أنبش التراب، حتى أصل إلى نهايته ولكن
أوصلني إلى اللانهاية، فلا شيء تغير حتى لو كبرت وانعزلت
وأصابني البرود، حتى لو بكيتُ في وجوههم، حتى لو ذهبت للبحث
عن أشخاص يحتضنونني، فأنا لست شخصاً يخدع، ولا شخصاً تجره
مشاعره، صحيح أنني فتاة حساسة، ولكن هناك في البعيد في أعماق
صدري نبض يمنعني من التمادي، من الخضوع لأي شيء.
***

سميتكم غلآي 19-06-20 06:01 PM

رد: خطوات على الجمر
 
أنا ويوسف
كان الشخص الوحيد الذي أختبئ عنه
أختبئ تحت صمتي وانعزالي في حضرته
حتى بعد انقضاء هذه الأعوام الثلاثة عشر
لم أستطع الخروج من حفرة ذنبي
من بئر خوفي
أذكر أنني توسدت الأريكة واحتضنت الوسادة من بعد ذهابهم،
وذهابه من غرفة المعيشة
الغرفة التي يجلس فيها كل أفراد العائلة من دون قيود
أغمضت عينيّ لدقائق أتنفس بعمق، هكذا أنا من بعد كل تلك
السنوات
حتى صوتي لا يسمع حسهُ
فأنا أصبحت لا أعرفه، ولا أجالسه ولا أحادثهُ
فلقد أصبحنا مجرد غريبين بعد أن كنا أخوين
غفوت لثوانٍ قليلة لأشعر بعدها بلمسات على وجهي
تنحتهُ
تسبر أغواره
تسير على خطوطه بلا تردد
تتلمس بشرتي بخفة
تصبب عرقي، ارتفعت درجة حرارة جسمي
حاولت فتح عينيّ بتردد، ونبضات قلبي تدق صدري
رأيته
وتزايد قلقي، وحل على قلبي الألم
منظره القريب مني، أصابني بالحزن والدهشة
دهشت من شكله الذي تغير وكبر كثيراً
ولِلونِ عينيه العسليتين
ولوجهه ذي السمرة الفاتحة
ولذقنه الذي نمت عليه اللحية الخفيفة
فلقد أصبح غير ذلك الطفل الذي كنتُ معه
فلقد أصبح يوسف الصغير رجلاً كبيراً
يوسف كان يلمس شعري من الأمام
يخطو بخطوات أصابعه ليكتشفني
ليكتشف من أنا!
لمساته كانت موترة وغير مريحة
أشعرتني بغرابتها على بشرتي، وجعلتني أنطوي على نفسي خجلاً
وصمتاً
عندما انهى اكتشافه لي، رفع يده عني متردداً وحائراً وتمتم:
«عذراً »
لم أنطق، إنما تحركت من مكاني، وأسرعت إلى أبعد مكان أختبئ فيه عنهُ
من بعد ذلك الموقف، خشيت مقابلته
خوفاً من تلك المشاعر
مشاعر الندم
مشاعر طفولتي التي لا أنساها
إحساسي بأنني من دمره بالكامل، وأفقدهُ أعز ما يملك
فأنا من سلبه عينيه
فكيف لهذا الذنب أن يغتفر
ترددتُ كثيراً عندما جلس مع أمي وخالتي التي أرضعته
أجبرتُ على الجلوس معهم، جلست والصمت رفيقي
لأنني كنت أتجنب التواجد عندما يتواجد هو في أي مكان
نادتني أمي: «ياسمين »
تعكرت ملامحه المبتسمة، واختفت ابتسامته الصغيرة مع ذكر اسمي
وحل عليه الوجوم
فهو لم يكن يعرف بوجودي معهم
طأطأ نظراته المنزعجة، والتي لم تكن ترى وجهي إلى الأسفل
وكأنه شعر بمراقبتي له، وكره نظراتي المسلطة عليه
أمرتني أمي بالذهاب لإحضار غرضٍ لها
وعندما عدت إلى هناك، توقفت عند عتبة الباب
توقفت وأنا أنظر إلى أمي ويوسف
ابتلعتُ ريقي
تشتتت نظراتي
واحتلني التوتر، وأصابني القلق
عند رؤيتي ليوسف ورأسه يتوسد حجر أمي
ويده تتلمس وجهها وشعرها القصير الذي أسقط عنه حجابه
يعيد لمساته عليها من أعلى وجهها إلى أسفل فكها، ويعبث بشعرها
البني، يزيل خصلة ويرفع أخرى، وهي تتذمر من فعله لذلك
اقتربت منهم عند رؤيتي لنظرات أمي المنادية لي
اقتربت منه، والتوتر كان رفيقي
مددت يدي إلى أمي وأعطيتها حاجتها، يدي كانت قريبة منه وأنا
أقرب إليه، وعينا يوسف اللتان تنظران إلى وجهي كانتا أقرب وأقرب.
قلبت حالي إلى هيجان وحرارة أخذت تغلي في داخلي
وابتعدت سريعاً، وجلست في أبعد مقعد عنهم
في تلك اللحظات شعرت بأن يوسف يريد معرفة ذلك الشخص
الذي هو أنا
والذي كان يظنه أمي أو أي شخص آخر يعرفه
ولكن لم تكن تقاسيمي تشبه تقاسيم أمي
فأنا أختلف عنها كثيراً
فأمي بيضاء البشرة أما أنا فحنطية مثل أبي
أمي قصيرة القامة أما أنا فطويلة القامة مثل أبي
حتى في الملامح، فأنا لدي انف أبي وفم أبي وعينا أبي
فلا شيء فيّ يشبه أمي إطلاقاً
في ذلك الوقت كان يوسف شديد الإلحاح بالأسئلة على أمي وخالتي
كان يسأل عن سكان المنزل
كنا نسكن في المنزل الكبير، منزل جدتي )رحمها الله( والتي رحلت عنا
منذ زمن طويل.
لأن أمي أصبحت كالمعلقة يمر عليها أبي متى يشاء، ومتى اشتاق إلى
رؤيتنا فهو لا يعيش معنا من بعد انتقالنا إلى منزل جدتي ومنذ سنوات
أحسبها طويلة نسبيّاً، تركنا منزلنا الذي أصبح خالياً، في بعض المرات كنا نمر
عليه متى شاءت أمي لنقضي فيه إجازة أو عيداً، فأمي تظن أن لا داعي
للعيش فيه وحدنا من بعد أن تزوجت أختاي سارة ولطيفة الأكبر سنّاً
من أختي خولة ومني.
وخالتي المتوفى زوجها تعيش معنا، وخالي الوحيد يعيش معنا مع
عائلته في قسم خاص بهم.
فنحن عائلة كبيرة أكثرها نساء وقليلها رجال
كان هناك بنات خالتي الأربع واحدة أكبر مني سنّاً وهي فاطمة، أما
سميرة فهي أصغر مني وهي بعمر يوسف وهي من رضع مع يوسف،
وأما سحر وريم فهما فتاتان مراهقتان على عتبات العشرين.
وبنات خالي هما اثنتان تصغرانني
وأما ذكور العائلة فهم أطفال لم يبلغوا الحلم
فمع وجود الكثير من الفتيات في المنزل لم يعرفني يوسف
ذات يوم، بينما كنتُ في المطبخ أحاول صنع الطعام
في الحقيقة فشلت فشلاً ذريعاً، بل في الحقيقة دائماً ما تكون المحاولة
الأولى لصنع بعض الأطباق هكذا!
كنت أستعد للخروج من المطبخ، وقد تبللت بالماء، وأرهقت من
طول الوقوف
فتحتُ الباب في غير انتباه، فداهمني جسد واصطدم بي، بدل أن
يمسك بكتفي أو حد الباب أمسك بوجهي في ضربة
سمعته يقول وأنا مغمضة العينين متألمة من الضربة التي تلقيتها:
«أووه، عذراً »
رددت على من ضربني بألم: «يا إلهي، إنه مؤلم » وتوقفت عن الإكمال
حينما أدركت أنه يوسف
قال لي: «آسف لم أكن أقصد ذلك »
أبعد يوسف يده عني، لكنه أعادها، وصدمني من جراءته
ولثانية واحدة فقط أبقاها ثم أبعدها، وقال بسرعة: «أنتِ »
وابتسم يوسف لي
ولأول مرة ومنذ زمن طويل يفعلها أمامي
ليظهر صف أسنانه المتراصة والبراقة، ابتسامته التي لم تتغير أبداً
ابتسامته التي أعادت إليّ ذكريات طفولتي
ارتسم وجه ذلك الطفل أمامي
أشرق نوره، وتشكلت صورته في ذهني
أرسل صوته القشعريرة في جسمي
ضحكاته السابقة
تعلقه بي، وحبه لي ظهر لي في وجهه القديم
تقاسيمه لم تتغير، لا لم يتغير فيه شيء
ولكن أنا من تغير
أنا من أصبح غير شخصه القديم
أعاد كلمته الأخيرة وزاد عليها: «أنتِ، أخبريني من أنتِ فأنا لم
أعرفكِ »
«أأنتِ من بنات خالي، أو إحدى أخواتي من الرضاعة »
لم أستغرب قوله عن أخواته من الرضاعة لأن سحر وريم فتاتان
خجولان جدّاً، وتجدان صعوبة في التواصل مع يوسف بعكس سميرة
وفاطمة.
لم أجبه، إنما اتخذت الصمت سبيلاً
هو لم يسأل حتى إذا كنت ياسمين، أو أنني إحدى بنات أمي !!
لم يتحرك من أمامي، إنما بقي حاجباً طريقي عني: «ما بكِ، ألن
تجيبيني؟ »
نطقت من غير وعي وأنا أحاول الفرار منه، إبعاده عني، ولكن لم
أستطع لأنه بقي كالسد أمامي: «... أنا ... أنا ... أنا هي » وتوقفت
أحدق به، أنقل بصري في تفاصيله، أنقل إليه شعوري الذي لا ينطق
لمَ لا تتذكرني!!
أنا ياسمينة، صديقة طفولتك
أنسيت صوتي يا يوسف، أم أنه قد تغير!
أم أن الأيام قد أنستك إياهُ!
يوسف
أتدري كم أتمنى، وكم أرجو لو تعود طفولتنا، ونعود كما كنا
نطقت بصعوبة، وأنا متيقنة بأنهُ لن يعرفني: «مجرد فتاة تسكن هذا
المنزل »
ازدادت ابتسامته اتساعاً، وقد بدأ المرح يرسم تفاصليه على تقاسيمه:
«أعرف أنكِ فتاة من وجهكِ وصوتكِ، ولكني فضولي لمعرفة صاحبة
الحاجبين الغليظين »
يا إلهي
نبرته تلك
وصفه لحاجبيّ
قلب حالي وجعلني أود الضحك معه
انتابني الحنين والحب لذلك الطفل الذي رعيتهُ
وددت إخباره بأنني أنا ياسمين، وأردت استعادة ذكرياتي معه
والحديث معه عما كنا نفعله، عن تلك الأيام الجميلة التي كنا نقضيها
معاً
وددت إخباره أنها كانت الأجمل، ولم أكن أكرهها أبداً كما كنت أدعي
ولكني تراجعت عن كل هذا
عندما سمعت نداءً من البعيد، يقول: «ياسمين »
تعكرت ملامح وجهه التي كانت تنظر إليّ، بل هي في الحقيقة لم تكن
تنظر إلي، إنما كانت تنظر إلى مكان آخر.
تشكلت التجاعيد بين حاجبيه الكثيفين، بهت وجهه في صدمة محت
كل التعابير السعيدة عنه
صدمته جعلتني أُصدم أنا الأخرى
وأندم على حديثي معه
في تلك اللحظات كان الوقوف بصمت ملاذاً لنا
بدأ قلبي ينبض وينقبض بشدة
وأنا أشعر بتعكر الأجواء واختناقها من حولنا
ونشوء جو الحرارة، وانهيار كل تلك المشاعر
حاصرتني الكآبة
وقوفه بصمت، تشنج ملامحه كانا علامة لشكه بمن يحادثه
عيناه انذرتا بغضب عميق وكره سحيق
وكأنه كان يحاول استيعاب أن من يحادثه هي ياسمين، ولا أحدَ غيرها
تراجعت خطواته عن أمام الباب، حتى أخلت المكان لي، لأتقدم
وأتأخر
كسر حاجز الصمت المشحون بالمشاعر السلبية، صوت عالٍ قريب منا
يرد: «نعم »
«يا إلهي لم أصدق أنني استرحتُ لدقائق لتزعجوني ثانية »
وبسرعة رهيبة، التفت نحو مصدر الصوت، تجمد لثوانٍ وبعدها
ارتخت ملامحه وطرد كل ذلك عنه
وكأنه شعر بالراحة والأمان
يا لعِظم ذلك الموقف !!
كان قاسياً!
محزناً!
أهذه أنا بالنسبة لهُ!
حاصرني الحزن من كل الجوانب
حاولت المقاومة، وزجرت نفسي عن البكاء
وأنا أنسحب بهدوء أحسه يوسف، وناداني بهمس: «لو سمحتِ لمَ
أنت صامتة! »
كفاي اللتان كنت أشدهما في قبضة حررتهما، وأنا أجر خطواتي إلى
الباب المفتوح وأجتازه إلى الأمام، وأترك يوسف الواقف على جانبي
يكمل بصوته الهادئ: «لم تخبريني عن اسمك؟ »
ضغطت على أسناني في محاولة يائسة لخنق الألم الذي أشعر به، وأنا
أقول بصوت مرتجف واضح لنفسي: «اعذرني »
وأكملتُ خطواتي المسرعة إلى غرفة المعيشة لأتركها خلفي وأركض
نحو السلم وأقفز بخطواتي إلى الأعلى
وهربت منه
كنت أركض خوفاً من انكشافي، خوفاً من ضعف داخلي وهشاشته
وأوقفت خطواتي بداخل غرفتي، التي ولجت إليها وأجهشت بالبكاء
فيها
لأول مرة في حياتي أشعر بهذه الأحاسيس
وأنني شخص بغيض، وكريه لهذه الدرجة
مع أنني كبرت وأصبحت بالغة ودفنت الكثير من الماضي ورائي منهُ
النبذ الذي كنتُ أعانيه، وعدم حب أحدٍ لي
نعم، حاولت دفنه ونسيانه ووضع الكثير من الخطوط عليه
ولكنني أسترجعه في كل حين، وألوم نفسي والعالم كله عليه
صحيح أنني الآن لست تلك الطفلة أو المراهقة
وأنني غير ذلك الشخص القديم
فأنا شخص يخاف عيش ذلك الماضي مرة أخرى
ولا يريد أي أحداث تصله به
فأنا حاولت الاستغناء عنهم، والاعتماد على نفسي فقط
وكبت مشاعري، واهتماماتي داخل صدري
ولكن أن يشعرني يوسف بهذا
وأنني شخص مرفوض غير مقبول، ومكروه لهذه الدرجة لهو شيء
وقعه على قلبي عظيم وأليم.
***

سميتكم غلآي 25-06-20 08:00 PM

رد: خطوات على الجمر
 
حصار
بعد ذلك الموقف
حاولت الهروب من أي مكان يوجد فيه يوسف
فمشاعري متقلبة
دامعة في لحظة وغاضبة في أخرى
حتى إنني لزمت غرفتي في ذلك الوقت، وحبست نفسي بين جدرانها
في كثيرٍ من الأحيان كانت تطوقني أفكاري، وتخنقني هواجسي
وأفكر في حياتي الآن
وما أنا عليه
وهل حققت شيئاً
أجمع أوراقي، أنبشها، أنظر إليها عن كثب
فتتساقط من بين يديّ
فأراها فارغة، لها عمق أسود مثقوب
نعم ...فداخلي مملوء بالثقوب التي لا ترقع
منذ زمن وحتى عمر الخامسة والعشرين لا أزال أبحث عن ذاتي
المخبأة فيّ
ذاتي التي لا أعرفها
فأنا لا أعرف نفسي، ولا حتى ماذا تريد!
أعرف أنني عشت حياة غير منصفة
حياة تتجسد كشكل من المعاناة
حتى في بيئتي المدرسية، وعند مراهقتي تغيرت إلى الأسوأ
الانعزال كان ملاذي
وانخراطي في أحزاني وهمومي
جعل مني شخصاً وحيداً منبوذاً في نظري
حتى نبذت نفسي في ذلك الوقت، وكرهتها
فالكل أصبح في نظري يعاملني مثل أمي
والكل يلومني ويعنفني على أخطائي حتى لو كانت بسيطة
حتى كدتُ أخسر أحلامي التي كنت أطمح إليها
وأتخلى عنها، وأخضع للواقع
كنتُ أريد دراسة القانون الجنائي، أطمح في شيءٍ مميز أحبه
وعندما وقفت أمام الكل بطموحي هذا، وقفت حوائطُ رفضهم
القاطع أمامي، وجدران تذمرهم وتعنفيهم لي
خضعت لهم، وتخليت عنه، بسبب أنني بنظرهم لا أرتقي لذلك
الطموح، واخترت غيره تخصصاً قريباً منه وأسهل وكان علم نفس،
وأعادوا الكرة
أبي ... كان أكبر المتشمتين بي، في البداية ضحك عليّ، واستحقر
حلمي، ورفض ذلك الغباء الذي أريده، وأنه تخصص لن يفيدني بشيء
أما أمي ... أمي التي تمنيت ولو لمرة في حياتي أن تكون في صفي، وأن
تقف معي وفي الأمام
فكانت غير مبالية، وغير مهتمة وكأنني لست ابنتها ولا شيئاً يخصها
كنتُ أريد التوسل إليها، وتقبيل قدميها، أريد فقط ابتسامة حنوناً
منها، ابتسامة تشجعني
تضمني وترفعني إلى السماء، وموافقة تسع الكون
ولكنني وكما تعودت، وكما هي العادة والصدمات المتتالية
قالت لي: «أشك في نجاحكِ فأنتِ نجحتِ بصعوبة بعد محاولات
كثيرة فاشلة، الحمد لله أنك استطعتِ التخرج من المدرسة، ولا أظن
أن هذا التخصص مناسب لكِ فقد تصبحين في المستقبل شخصاً مجنوناً
فالكثير من الأشخاص أصيبوا بالجنون من جراء هذه المهنة، الجلوس
في المنزل أفضل من الدراسة من وجهة نظري »
كانت كلماتها، هي الشوكة القاصمة
والمدمرة بالكامل
كانت محزنة بشكل عقيم
جعلتني أذرف دموعاً حارة، وأبكي وحيدة، وأتمنى لو أنني لم أولد
أو أتمنى لو كانت أمي تحبني، ذلك الذي أتمناه، حلم بعيد لا تطاله
الأيدي!
ولكن ذلك لم يكن ليجعلني هشة فقط، إنما مترددة في كل خطواتي،
حزينة في داخلي، ولكن فعلتها ودخلت ووقفت في وجه المعارضين
حتى لو كانت كلماتهم سمًّ يجري في الأبدان.
وفي النهاية فعلتها وتخرجت منه بتقدير جيد جدّاً، لم يكن سهلاً ولم
تكن كل محاولاتي سهلة
فلقد عانيت الكثير إلى أن نجحت، وأهملت النظرات لشخص يظنونه
لن يفلح فقط لأنه رسب مرات قليلة
وفي النهاية، جلوسي في المنزل كان الخيار الإجباري إلى أن تجدني
وظيفتي أو أجدها.
***
أنا شخص أحب الكتابة، وكم كنت أقرأ وأكتب وأتعلم
كنتُ أقرأ بالسر لأن القراءة كانت ممنوعة من جهة أبي، وكنتُ أحاول
الكتابة وأخفي ما أكتبه في خزانتي خوفاً من اكتشاف أحدٍ لي
فكسر المواهب وإهمالها من قبل الأهل، جعلني أعمل كل شيء بالخفاء
جعلني أخفي حبي لأشياء كثيرة
خوفاً من تحطيم أحدٍ لي، أو الاستهزاء بي...

أن تتحدث مع نفسك كثيراً، أو أن تُحدثها وكأنها شخص مقرب
وحميم، هو أمر بغاية الغرابة لكثير من الأشخاص!
أنا هكذا
دائماً ما أتكلم مع نفسي وأشتكي إليها
فهذا يعطيني راحة عظيمة، وتنفيساً عميقاً
وكم من المرات كنت أتكلم فيها مع نفسي في دورة المياه خاصة،
وأخطط لمَا سأفعل غداً
وعندما أخرج أسمع أختي خولة الأكبر مني بسنتين تقول: «أأنتِ
مجنونة! »
أهز رأسي، وأؤكد لها أنني شخص مجنون كليّاً
الجنون هو أن أتحدث مع نفسي عن يوسف
وأن أقول عنه كلاماً غير لائق، وأقلده
فيوسف قد تغير فجأة، وأصبح لا يبالي بوجودي، ويتصرف على سجيته على غير العادة
فلقد ترك صمته وكآبته بعيداً
وبدأ يصبح ثقيل الدم، ويتدلل بإفراط على أمي وخالتي
دائماً ما أراه يحتضن أمي ويقبلها ويسمعها المديح، ويحادث خالتي
ويجعلها تعبر عن كل ما بداخلها
فيوسف قليل النقاشات، كثير التودد إلى أمي وخالتي وأخواته من
الرضاعة
يا إلهي، حتى إنني نسيت ما حصل بيننا
ونسيتُ أنه هو يوسف بسبب تصرفاته هذه
فأنا قد بدأت أراقبه، وأرى تصرفاته مع أهلي
واكتشفت أشياء بغيضة عنه
أنه يبدي رأيه فيتقبله الجميع برحابة صدر، ويعطي رأيه بالأشياء التي
لا تعجبه، ويسن القوانين كيفما يشاء، وكأن كل مقاليد العائلة بين يديه.
لم أكن أتصور أن يكون يوسف شخصاً بهذا الشكل، فأنا لم أعرفه
إطلاقاً خلال سِنِيّ الماضية
فلقد اكتشفت أنني أكره هذا النوع، وبصدق!!
في إحدى المرات وبعد ذهابهم جميعاً، بدأت أتكلم بصوت عالٍ مُنقهر:
«يا إلهي لم أرَ أحداً مدللاً مثله من قبل، والمصيبة تصرفهم معه يشعرُني
وكأنه هو الشخص الوحيد الموجود على الكرة الأرضية، يا إلهي .. كم
أكره الرجال ». عبستُ بشفتيّ وأنا أقلده: «أختي سميرة أنا لم أتذوق
مثل طعامكِ من قبل، يا إلهي يا لها من كاذبة فهي لم تطبخ في حياتها
بيضة واحدة، الذي يتعب ويكد نحن وهي تأخذ كُل المجد، أما فاطمة الثقيلة
الدم تلك والتي لا تكف عن النقد والتذمر فيقول إنها أجملنا وتملك
حلاوة لسان لم يرَها من قبل، يا لسخافته »
«يا إلهي، صدقاً إنكِ تملكين الكثير من الأحقاد بداخلك »
جاءني صوته القريب مني ممزوجاً بالفكاهة، وأخافني وأنا في خلوتي
وكنتُ أظن أن لا أحد هنا، ولن يسمعني أيٌّ كان
ولكن ويا لسوء حظي سمعني صاحب الشأن
احمر وجهي وإحساس بالخجل اعتراني
لم أتحرك ولم أرد عليه، إنما سكنت للحظات قبل أن يقرر عقلي أن عليّ
الهرب
في الحقيقة لا أستطيع مواجهته بعد الذي قلته، وأنا خجلة جدّاً منه، بل
أكاد أموت من الإحراج.
ظهر أمامي، كان يوسف يتحرك بحرية وكأنه يحفظ كُل شبرٍ في المنزل،
لا... إنما ظننتُ للحظات أنه يبصر!
فيا سبحان الله الذي يعطي الأعمى بصيرة تفوق بصيرة المبصر بمرات
مر من أمامي فلمحت ثوبه الأبيض، ولكنني لم أرفع بصري إليه
وصل بالقرب مني قرب المقاعد، وقال: «ها أنتِ ثانية يا صاحبة الحاجبين الغليظين، حقّاً إني لا أخطئ نغمة صوتكِ، وأعرفكِ على الفور »
تصاعدت الحرارة إلى وجهي، يا إلهي.. يا لهذا المدلل المعسول اللسان،
إنه لا يخجل من قول مثل هذه الكلمات.
كانت غرفة المعيشة خالية من سكان المنزل إلا مني أنا ويوسف، وكان
الصمت سيد تلك اللحظات
تجرأت أن أحادثه، فأنا متشوقة للحديث معه، ومعرفته عن قرب،
فصغيري قد تغير وكبر
إلى جانب أنه لا يعرف أنني ياسمين!
بعد حزني الطويل في الأيام الماضية
وندمي السحيق
توصلت إلى أن لا أخبره أنني ياسمين، إذا حاول الحديث معي عن
هذا الأمر
وأن أكون شخصاً مخفى يعرفه يوسف حتى أستطيع الوصول إلى قلبه
حتى أجعله يرق ويسامحني حتى لو تقبلني قليلاً، ولم يسامحني نهائيّاً
قد تأتي فرصة يسامحني فيها يوسف
فأنا لم أكن أقصد فعل ذلك
إنما كنتُ طفلة غير واعية
تجرأت وطرحت أفكاري بعيداً عني، فأنا أريد التقرب منه، فبدأت
حديثي معه: «وبهذه السرعة ما شاء الله »
أصدرت حنجرته ضحكة خفيفة وعميقة، جعلتني أبتسم وأمشي مع
خطواته التي مرت بجانبي وبدأت ترحل نحو أحد المقاعد
وجلس يوسف على المقعد الجلدي الأسود، مقعده الدائم والمفضل
على ما يبدو
وأسند ظهره عليه بكل أريحية
يا إلهي إن يوسف طويل وضخم، ويملك جسداً رياضيّاً !!
قلت له بدون وعيٍ مني: «يوسف، هل أنت تمارس الرياضة ؟»
تشكلت على وجهه تلك التعابير، التي لم أفهمها في البداية، ولكني
وللحظة ظننتُ أن السؤال كان قاسياً، سؤالاً يذكره بحقيقة إعاقته،
صمتُّ بعد تلك الكلمات وأصابني الندم الشديد عليها، أيقظني من
ندمي وتأنيب نفسي صوته الغليظ المنخفض وهو يقول: «نعم فأنا
رياضي بارعٌ جدّاً، ولدي الكثير من الميداليات »
تبّاً!!
أظن أنني أخطأت في ندمي ذلك، فصوته كان محملاً بالغرور والفخر
حل علينا الصمت، وأنا استرخيت في مكاني وغصت في مقعدي
وانتقلت نظراتي إلى كل ما يحيط بي من أبواب ونوافذ وجدران وألوان.
كتمت أنفاسي وأنا أبعد نظراتي عن كل شيء، وأرحل بها إلى أعماق
أفكاري، سرحت في عالمي لأفكر لمرة ومرتين وثلاث في كل شيء، فيّ
وفي يوسف وأهلي !! وهل ما أفعله صحيح! وهل عليّ أن أقترب منه
لأخدعهُ!
أعدت نظراتي إليه، واهتز قلبي الساكن في أعماق صدري
حتى تشقق وتقطع
وتناثرت شظاياه
لو كان لي القدرة على إعادة الماضي
لو حدث ذلك
لكنتُ غيرت العديد، بل وفعلت الكثير وتركت القليل
لكنتُ أحسنت معاملتك، ورعيتك جيداً
أتعرف ندمي يا يوسف
ندمي يحرق صدري في كل يوم
ندمي يسع الكون كله، بل إنه لا يسع أي شيء
ولو أخرجته لك لما استوعبته من ثقله وعِظمه.
أخرج يوسف سماعة صغيرة ووضعها في أذنيه، ظننته ولوهلة أنه قد
نسي وجودي
ابتلعت موجات الألم التي اعترتني منذ لحظات، وخبأتها بداخلي
وأخذت أطيل النظر إليه
يا تُرى ما الذي يسمعه الآن !!
فملامحه تغرق في الاسترخاء
زفرت نفساً، تبعه صوتي وجلبة داخلي، تعمقي في النظر إليه، وحفظ
تفاصيله
سمعت يوسف يقول وأنا سارحة فيه: «ألن تكفي عن التحديق بي! »
في تلك اللحظات كدتُ أكذب حقيقة أنه لا يبصر، أكذبها رأي العين
فأنا أسمع العجاب منه
«يا إلهي، وكيف لك أن تعرف هذا!! »
قلتها والدهشة تغرقني، ويطوقني تعجبي من كل الجوانب
ارتفع طرف شفتيه عن ابتسامة واسعة، اظهرت غمازة خفيفة على
خده
ذكرني ذلك بالماضي
وتساقطت الذكريات على رأسي
وخلف موجها فيضاناً من السعادة في داخلي
وكأنني في ذلك الوقت، وكأن الزمن عاد بي إلى الوراء
إلى ذلك الصغير الذي لا تفارقه ضحكاته، ولا ابتسامته، ولا حتى
هُتافاتهُ
أنظر إلى الأسفل والرؤية ضبابية، نظراتي تنصب عليه، وجه دائري
قمحي اللون وشعر بني مسترسل كالشلال، وعينان كبيرتان لامعتان،
وابتسامة واسعة تسع الكون من فرحتها، وغمازة صغيرة مميزة.
صغير جدّاً، وجميل جدّاً، ويقول بصراخ: «احمليني »
أرفض.. أهز رأسي بالرفض، بل هو رفض الحقيقة، رفض كل ما أراه
في تلك اللحظة!
أهذا يوسف !!! أهذه أنا !! أرفع أصابعي فأراها صغيرة ضئيلة، تعبر
عن حجمي، وتعبر عن ذاتي القديمة
ينتشلني من ذلك الموقف المرعب صوت بعيد
صوت من بعده يكاد لا يسمع
كان يقترب بسرعة رهيبة مني
وأعادني إلى أرض الواقع
وكانت تلك ضحكة يوسف
يا إلهي !!
خُيل إلي أن ما حدث منذ لحظات كان ضربة من الجنون
جنون حل على عقلي
وضعت يديّ على وجهي وأنا ألهث من الخوف، وأنظر إلى أصابعي
التي كبرت فجأة، وبشكل مفزع أصابني بالرعب
أغفوت! متيقنة أنني غفوت ولم أشعر بذلك، على الأكيد أنه حلم!
أبعدت يديّ عن وجهي وأنا أحاول العودة إلى أرض الواقع ونفي كل
ما مر عليّ، وأنظر إلى يوسف
الذي قال: «أعرف فإحساسي لا يخيب »
ما الذي يحدث يا يوسف !!!
أرأيت أنا واقعاً، أم حلماً!
أخذت أتنفس بسرعة، أخرج أنفاسي المختنقة من صدري، وأبعد تلك
الأحلام المزعجة عن مخيلتي
حتى لو لم تكن مزعجة
حتى لو كانت الأجمل
ولكنها مرعبة عندما أصبحت حقيقية
«ما بكِ! »
قالها يوسف والاهتمام بادٍ عليه
كان يحدق بي وكأنه يراني، ينظر إلى عينيّ اللتين ارتبكتا فوراً، وتبدل ما
بصدري إلى حرارة
حركت مشاعري الخامدة، مشاعري التي تصهر جسمي وتحرك ما
تحت أضلعي، وتتموج بأشكال من الأحاسيس الغريبة
التي تنتابني عند رؤيتي لهُ في الآونة الأخيرةِ
قلت وأنا أشعر بالعرق يبللني أكثر من ذي قبل: «لا شيء »
«إذاً إن كان لا شيء، فلمَ كان صوتك وأنفاسك بهذا الشكل »
والآن أكتشف في يوسف شيئاً سيئاً أكرهه جدّاً
أكره الحديث عن نفسي في حالاتي هذه
أكره رؤية أحدٍ ما لي في لحظات ضعفي
أكره اقتحام أحدٍ ما لحصني المنيع الموضوع حولي
أكره الإلحاح الذي يلحه الغير في معرفة الأسرار
يوسف أرجوك لا تواصل الحديث !!
كلمة أخرى وأنفجر عليك، وأقول كلاماً غبيّاً وأنا في حالتي هذه!
ويا للعجب تغيرت تعابيره ولهجته وهو يقول: «أتحبين القراءة »
انقلب حالي المنزعج، وتحول التعكر إلى انشراح، بل وسكنني الهدوء
بهمس قلت: «على الأكيد، فأنا أكتب »
سأل والدهشة ترتسم على وجهه: «وأتكتبين! »
بتردد أضفت: «نعم، فأنا أحب كتابة القصص والخواطر »
أصابني الندم على هذا الاعتراف الصريح، صحيح أنني أتوق لإخبار
أحدٍ ما بأنني أكتب، وأريد الافتخار بهذا الشيء، وأريد أن أصبح
عظيمة الشأن، بارعة في هذا المجال.
ولكنني أفضل الاختباء في ذلك الجحر الذي يفصلني عن العالم المحيط
بي، وعن الذين يعرفونني على الأخص
«مدهش، وهل نشرتِ شيئاً؟ »
احتجزني صمتي، وهجرتني عزيمتي وآمالي التي كانت تلمع في الأفق
البعيد
لا.... لمَ أفعل يا يوسف!
ألكي يعرفني الكل!
أم لكي يستهزئ بي المزيد من الناس الذين من حولي
جربتها مرة وأعطيتها لأمي لعلها ترى في ابنتها شيئاً مميزاً تفتخر به،
فأصبحتُ محط سخريتها قبل أن تقرأها
حتى إنها قالت لي: «دعكِ من هذه السخافات، التي لا تجدي نفعاً ولا
تغني من جوع، إنها إهدار للوقت »
لقد كان وقع كلماتها على نفسي أشد وأقوى من وقع المرض على جسمي
فالتأثير النفسي كان أشد مرارة
ولقد أصبت بالصدمة، صدمة جعلتني أفقد رغبتي في إكمال ما أريده
قلتُ لهُ وصوتي ذابل، يغص بالحزن: «لا »
كان في صوتي نبرة تدل على عدم رغبتي في الاستمرار في هذا الحديث
أعرف أنها كانت فظاظة مني، ولكن حقّاً أنا لا أريد الحديث أكثر عن
نفسي لكيلا يكتشفني يوسف!
لا .... ليس لكيلا يكتشفني يوسف
إنما هو الخوف من الإفصاح عن حقيقة نفسي، فأنا لا أريد استنكاراً أو
احتقاراً سقيماً آخر
لا أريد التحدث، إنه صعب، صعب أن أعبر عن فرحي وحزني
لشخص بيني وبينه هذا التضاد العجيب، والفروق العميقة
والشروخ الكثيرة
يوسف لا يزال غريباً عني، وبعيداً أميالاً كثيرة
أنبني ضميري لصمتنا الذي وضعته أنا، واستمر لدقائق طويلة
وخنقني
قطعت الصمت بصوت منخفض هامس: «ما الذي تسمعه! »
لم تظهر ملامحه الهادئة أي ردة فعل على سماعي، كان مستغرقاً في النظر
إلى أمامه، وسماعته تلتصق بأذنيه، فصمتُّ وقد حاصرني ندمي، وحل
عليّ الحزن.
قطع تفكيري وانحشاري بين أنسجة الأريكة، صوته الخشن الرنان:
«كتاب يمكنك القول عنه إنه مجموعة من الخواطر » صمت ليضيف
وكأنه استنتج أن وجهي قد قفزت إليه علامات التعجب والدهشة:
«إني أجيد خمس لغات، وقصدي من القراءة هو نصفه الاستماع إلى
الكتب المسجلة، والنصف الآخر القراءة من كتب المكفوفين »
بعد هذه الكلمات وهذا اللقاء، نظرت إلى نفسي، أمعنت النظر إلى
أعماقها
ووجدت التبعثر يحتل كل ركن فيّ
أنا الإنسانة التي لا تعاني من خطب عضوي واحد عدا النفسية المدمرة
بالكامل
إنسانة طبيعية تمتلك كل حواسها، تمتلك كل مكملات الحياة حتى
الرفاهية منها
لا أجيد إلا لغتي الأم، ولا أجيد شيئاً في هذه الحياة سوى الانغماس
في البؤس!
وأتخلى عن كل الأشياء بسهولة، لا أرغب في التقدم خطوة واحدة
بسبب أنني خائفة ومترددة!
أما هو فيعاني من فقد حبيبتيه، فقد أغلى ما يملك الإنسان، فالأعين
أهم شيءٍ لدى الإنسان وهي نعمة لا تضاهيها نعمة.
يوسف شخص إيجابي يناقضني
يوسف غريب كغرابة عالمي عني
يوسف شخص يعيش في فضاء غريب عن فضائي، وفي عالم فسيح
ولعل معرفته الواسعة جعلته بهذا الشكل
شخص وكأنه يكبر عمره أضعافاً
هو أصغر مني، وأقل مني مرتبة دراسية
ولكنه أكبر عمراً بعقله مني
أحسست بحجمي الصغير وهو يطلعني على مهاراته، وحجم
الكتب التي قرأها، وسعة معلوماته المذهلة، علم فيزياء وكيمياء
ورياضيات.... بل كل علوم الدنيا تستقر بداخل ذلك الرأس الذي
لا يكبر رأسي كثيراً، أما أنا ... ويا لفظاعة ذلك فلا يوجد لديّ غير
التفكير المستمر والتردد والتذمر، ونظراتي العمياء عن المساحة الممتدة
أمامي، وعن فضاء يوسف الساطع في السماء.
يوسف كان لا يتردد في طرح أفكاره، والتحدث بانسيابية
لم أكن أستوعب حديثه إلا بمشقة
كنتُ مجرد شخص منبهر، يرى شيئاً لامعاً مصقولاً بعناية فائقة
فيوسف قد صقل نفسه صقلاً، ورمى عثرات طريقه بعيداً عن مرماه
اتخذ الحياة سبيلاً، والإعاقة درباً
بعد حديث يوسف المطول، بعد تلك الحرب النفسية التي خضتها
اجتاحتني الغيرة وأمسكتني مطولاً من عنقي
خنقتني وجعلت مني شخصاً يرى ويسمع ويفقه
لمَ لم أفعل شيئاً واحداً صائباً في حياتي!
لمَ لم أكن أفضل منه!
لمَ لم أقاوم كل العثرات والخيبات!
وأجابه الحياة والناس الذين كانوا يحاولون إضعافي بكل السبل،
وإسقاطي في مستنقع التخاذل والإحباط
الفظاعة أن أكون شخصاً كشخصي الآن الذي أفكر به، وأنني شخص
مملوء بالحقد والغيرة
لأنني أرَى يوسف أفضل مني، وأنا لا شيء
لأنني بقيت كما أنا، أما هو فقد تغير كليّاً
استلقيت في تلك الليلة في ظلمة غرفتي والهدوء يخنقني، والألم يحفر
صدري، يشق أخاديده في نفسي
لو كان لدي القدرة على شق صدري، واستخراج قلبي وتمزيقه إلى
قطع صغيرة
لفعلت ذلك من دون تردد
لم أكن أفعل غير الضرب عليه، ولطمه لكي يخرج ألمي منه.
والندم لا يزال يجثم على صدري، فكل شيءٍ في حياتي مرتبط بالندم
وهل الندم يقال لهُ يا ليت!!!
لم تكن كلمة يا ليت لتضيف شيئاً جديداً إلى حياتي، فهي كانت ولا
تزال تلتحم بي
قضيت الليل بطوله أتقلب في تفكير مستمر لم يثمر إلا عن آمال تعد
مستحيلة بالنسبة إليّ.

شبيهة القمر 26-06-20 05:05 PM

رد: خطوات على الجمر
 
غلاااااي
وش هالجماااال
ياالله تأثرت جداااا بمشاعر ياسمينه 💔
اسلوبك وطريقة السرد ممتعه ووصلتني بكل صدق اهنيك على موهبتك ..استمتعت جداا بقراءتها ..
بانتظااار باقي الروايه ..لاتطولين علينا

سميتكم غلآي 27-06-20 09:13 PM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3730380)
غلاااااي
وش هالجماااال
ياالله تأثرت جداااا بمشاعر ياسمينه 💔
اسلوبك وطريقة السرد ممتعه ووصلتني بكل صدق اهنيك على موهبتك ..استمتعت جداا بقراءتها ..
بانتظااار باقي الروايه ..لاتطولين علينا

سعيدة جدا... وجدا تشوقت أكمل
إن شاء الله ما أتأخر وما أطول لأنها كما قلت كاملة ما تحتاج كتابة
شكرا لمرورك الرائع

سميتكم غلآي 28-06-20 08:22 AM

رد: خطوات على الجمر
 
سقوط
في أقصى اليسار عند إحدى الزوايا الزراعية، وعند شجرة الغاف المظلة
لمساحة واسعة من المكان، وأمام لحظة شروق الشمس، في مكاني المميز
وعند نباتاتي الصغيرة، منظر تجمع الماء تحتها واهتزازه فوق الرمال
الصفراء، رؤية هذا المكان من جديد تثير الكثير من الحنين بداخلي، حنين
إلى طفولتي وإلى نباتاتي، أصابع قدميّ تنغمس في التربة المبللة، وشجرة
الغاف تسقط زهورها الصفراء وتنثرها على مساحة ظلها وأبعد.
اللون الأحمر الخفيف يغطي أفق السماء وبالتدريج يختفي، ويبتعد
صوت المياه المنهمرة من الصنبور إلى أن يحل الهدوء ويرحل، أفتح
عينيّ على ذلك الضوء الأحمر الخفيف الذي عاد سريعاً ولكن في مكان
غير ذلك المكان الذي كنت فيه، يدي ترتفع إلى صدري
مرة أخرى ذلك الألم الذي يتربع على عرش صدري ينتابني
لا أعلم ما سره أو حقيقة ألمه!
كان من قبل عبارة عن ضيق تنفس طفيف، وفجأة تحول إلى ضيق واختناق أشعر به داخل صدري
ذهبت إلى الطبيب بعد أن استعر بي الألم ونفد صبري من تحمله، أجرى
لي الفحوصات اللازمة وقال لي بنظرات غير مبالية: «ليس هنالك
من خطب في أعضائك فكلها على ما يرام، من الممكن أنه بسبب
الضغوطات أو الامتحانات أو غيرها »
دائماً ما تكون إجابة الأطباء كهذا!
حتى لو عانيت من كل أمراض الدنيا فسيكون تشخيصي أنني على ما
يرام، وأنني لا أعاني من أي خطب!
لأنه وفي ذات مرة عندما كنت صغيرة أتاني ألم في الخاصرة، جعلني
طريحة الفراش لأيام، وأغمي عليّ بسببه وفي الأخير عندما ذهبت إلى
الطبيب، قال إنني لا أعاني من أي خطب ما!!!.
بلعت بعض الأدوية بعد تناول الإفطار، ونظراتي تنتقل عبر كل
شبر من المنزل، ها نحن هنا ثانية، في بيتنا القديم، لا إنه ليس هو إنما
يشبهه فالقديم قد هدم، وبني هذا فوقه، ولكن الذكريات تأتيني كلما
عدت إليه لتثير الحنين!
لأنه وفي كل مرة يخطر على بالِ أمي الذهاب إليه، نذهب إليه من دون
نقاش، لا أدري إن كان شوقاً أو هروباً إليه!
فلقد كان مجرد ثلاث غرف صغيرة بجانب الصالة
جلست على أحد مقاعد غرفة الصالة أشرب كوباً من الحليب
الساخن عندما خرج أبي من غرفة أختيّ الكبيرتين
ارتجف الكوب من بين يدي، وكاد ينسكب عندما تلاقت نظراتي
بنظرات أبي الحادة
كان أبي ذا بشرة حنطية، يغطي الشيب معظم شعره، يلبس ثوباً
رماديّاً قصير الأكمام فوق جسد طويل عريض البنية
عندما رآني عقد حاجبيه الكثيفين فوق عينيه الحادتين، وأنا انقبض
قلبي، حل عليّ إحساس ثقيل عندما اقترب مني وجلس ملقياً السلام..
سألته بصوت منخفض عن حاله فرد عليّ بالنبرة نفسها
كان الصمت حاضراً وبلا منازع، الصمت المشحون بالأحاسيس غير
المريحة بالنسبة لي، أمرني باحضار طعام الفطور له من دون أن يسألني
عن حالي أو عن أي شيء آخر يخصني، وحتى إن نظراته لم تكن لتنظر
إليّ مباشرة، أو لتبتسم لي أو تحدثني
هكذا أبي معنا، وهكذا كانت حياتنا مملوءة بالصمت والغربة، غربة لم
تعرف الألفة قط..
كانت أمي قد أعدت الفطور منذ الصباح وذهبت إلى بعض الجيران
أحضرت لأبي الفطور وفي تلك اللحظة التي وضعت فيها الأطباق
على المائدة
عادت أمي من الخارج، وعند الباب البني توقفت قبل أن تكمل
خطواتها إلى الداخل، عقدت حاجبيها ونظرها يسقط على أبي
امتعض وجهها، عبست تقاسيمها، نظراتها المضطربة والغاضبة
كانت تسقط على أبي وتتحول بسرعة إلي، وكأن نظراتها كانت تهرب
من أبي إلي.
الجمود احتل وجه أمي وهي ترفع قدماً وتحط بالأخرى على الأرض
وتكمل خطواتها إلى الداخل
الابتسامة انتصرت على فم أبي، كان أبي على عكس أمي في تلك اللحظة،
كان وكأنه سعيد برؤية أمي التي لم تعره أي اهتمام إنما مشت متجاهلة وجوده وذهبت إلى غرفتها، أغلقت الباب خلفها، بعد دقائق معدودة خرجت وقد مسحت كل مساحيق التجميل عن وجهها، وأوثقت حجابها الذي
دائماً ما يخرج خصلات ناعمة من شعرها البني، اقتربت منا، جلست
بجانبي، نظراتها القوية التي اكتسبتها من الزمن، ارتفعت لتحط على
أبي، أخرجت أمي الكلمات بصوت هادئ: «ما الذي أحضرك إلى
هنا! »
كنت أتوقع شجاراً عنيفاً، وغضباً عميقاً من أبي، ككل مرة يلتقيان
فيها، ولكن أبي كان هادئاً على غير العادة وأمي العكس كانت شعلة في
أشد اشتعالها، وكأن هدوء أبي أكسبها قوتها!
نظرات أبي لم تنخفض عن أمي، وإنما كانت مستقرة عليها، قال بعد أن
طال صمت أمي وتحديقها به: «لقد طلقتها »
في الحال وبشكل مستفز، وبوجه خالٍ من التعابير ضحكت أمي
ضحكة قصيرة وتلتها بقول: «وما الجديد! »
انخفضت نظرات أبي ثم عادت للارتفاع بتكبر، بنظرات أرجعت شخصه
القديم، نظراته زرعت في داخلي ذلك الخوف القديم، اضطربت أنا بين
صراعهما، وكنت أود الهروب من هذا النزاع، ولكنني بقيت في مكاني
لأسمع قول أبي: «تعرفين ما الذي أريده »
نقطة تحول كبيرة أصابت أمي، تغيرت ملامحها، طواها الاضطراب،
احتلها التوتر، زحزحها قوله فجعلها تنكس نظراتها وتقول: «لن أفعل
حتى لو نفذته! »
ولكن ومن بين عيني أبي المصوبتين على أمي وعينيّ المتنقلتين بينهما،
رفعت أمي نظراتها فجأة، تفجر الاحمرار على وجهها، ثم قالت
بقهر: «لقد أخبرتك منذ زمن بعيد، أنه انتهى من تلك المرة التي
خذلتني فيها، فشروطي وأفعالك كلها هراء، فأنت كلك أقوال لا
أفعال »
بعد كل تلك الكلمات المشحونة بالألغاز، والنظرات غير المفهومة
بالنسبة لي، والحزن المسكون في الأعماق، ألقى أبي بعض اللعنات،
وأمي صمتت على غير العادة وخرجت وكأن لا وجود لأبي، وخرج
بعدها أبي، وكأن لا وجود لمن تسمى أنا في الوجود، كرهت تلك
اللحظات وتمنيت لو أن أمي أخرجتني من قبل أن تخرج كلماتهما، فلم
يكن وجودي ذا فائدة لهما، إنما كان سيئاً على نفسي!
بعد رحيل أبي بساعات، كان الحزن يسكن وجه أمي، ولم تكن تطيق
الكلام، كانت سارحة الفكر، تشغل نفسها بالعمل، كنت أريد إخبارها
عن زيارة عمتي لها في وقت كانت هي غير موجودة فيه، ولكن وقبل
أن أبدأ النطق، أمي المنشغلة بخزانتها، والتي كانت تبحث بعصيبة
فيها، التفتت إليّ وصرخت في وجهي: «حلي عني »
صدمت من نطقها للكلمات، ومن طريقة خروجها، ومن تعابيرها
الغاضبة، لم أنطق بعدها، إنما خرجت وكُلُّ الاستياء تجمع على صدري،
وتراكم عليه القهر...
ما ذنبي أنا! وما دخلي في المشكلات ليحل عليّ غضبها!
أأنا أحتاج لجرعة من الألم في صدري غير الذي أشكو منه!
أم أن ألمي لا يشعر به إلا شخصي!
***
الموضوع نفسه، والحياة تدور حوله، لم يكن للشمس من وجود في
ذلك البعد من التفكير
كالعادة تلتف النساء في غرفة المعيشة ككل مساء، تحتل الأطعمة
مركز الوسط، وتلتهم الأطباق بنهم
تفكير كل من حولي كان منصبّاً على أمور حياتية مادية، أمور قد لا
أراها بمنتهى الأهمية، وقد تأخذ حيزاً صغيراً من تفكيري ولكن ليس
بالكامل.
أتساءل مراراً، لمَ لا تكون الأحاديث النسائية فيها شيء من الفائدة أو
المتعة..
ولكن وفي قرار نفسي أرى نفسي ثرثارة ومتذمرة
فكيف لي أن أغير من حولي قبل أن أغير من نفسي
لم يكن شيئاً سهلاً بالنسبة إلي، التخلي عن نفسي، وطمر تلك الصفات
التي اكتسبتها طوال تلك السنين حتى لو كانت سيئة!
مرة أخرى جاء ذكري وذكر خولة بتذمر وكأن لا وجود لفاطمة في
الوجود، كان لسان أمي هو المتذمر كالعادة، وانقلبت أساريرنا أنا
وخولة تبادلنا النظرات فيما بيننا وإحساس بالذل يعترينا، كانت أمي
تذكرنا بأننا عانسان، قد تخطينا سن الزواج، فعمري فقط خمس
وعشرون وخولة سبع وعشرون وكأننا بنظرها قد وصلنا إلى سن
اليأس.
في الحقيقة هذا الموضوع على الأخص كان أسوأ موضوع يفتح في كل
جلسة
ألنا يد في سير حياتنا! أم أننا ذواتا حظ سيئ يبعد الخطاب عنا!
خاطبنا أمي بعد أن تشتت الجمع وتفرق الشمل، وبقينا وحدنا في عزلة
عن البقية في الصالة، غرفة الأحداث التي تحصل في هذا المنزل.
جلسنا قبالة أمي، بوجوه لا تحمل إلا الانزعاج
بدأت خولة الحديث: «أمي لمَ فتحتِ هذا الموضوع أمامهن؟ »
ابتسمت أمي بوجه خولة، وهي تقول بلا مبالاة: «لقد كانت زلة لسان
وحثني تجاوبهن على الخوض فيه أكثر، تعرفين أنني أخاف عليكما
ويهمني مستقبلكما كثيراً »
لم يكن هذا ما أوضحته أمي لنا في حديثها مع خالاتي وبناتهن، وكأن
أمي لا تشعر بمقدار الخدوش التي تخدشنا بها كلما فتحت هذا
الموضوع.
تذمرت كعادتي، كنتُ غاضبة حزينة، فأنا لن أعطي أمي أي أعذار
مهما كانت، فكيف لي أن أعطيها وأنا أرى الأقوال تناقض الأفعال،
قلت بغضب: «أمي لماذا أنتِ دائماً هكذا؟ لماذا يكون محور الحديث عنا
نحن الاثنتين فقط، هنالك فاطمة أيضاً لماذا لا تضممنها إلى لائحة
العوانس، أم أن حديثك عنا شيق أكثر من غيرنا! »
ويا لقباحة وفظاظة أسلوبي، فلقد أضمرت نار الغضب في صدر أمي
وتجمعت كل الانفعالات في وجهها، وكل الحنق والامتعاض مني!
انتفضت أمي وكادت تقوم من مقعدها من قوة غضبها مني
غضبها الذي قذفته على وجهي وإلى داخلي الذي أحس بنفور أمي
مني، حتى لو كانت كلماتي مجرد كلمات لا معنى لها، أو لها معانٍ خفية
تدل على إدانتي لها بما تقوم به نحوي، دائماً وما زالت كلماتي تغضب
أمي وتفقدها السيطرة على نفسها.
كان السخط يكسوها، وهي تقول: «أنتِ ... اخفضي صوتكِ، ولا
تحدثيني ثانية بهذه الطريقة، فأنا لا أريد سماع أي كلمة منكِ، فهمتِ!
فعندما تحسنين من سلوككِ وأسلوبكِ فتعالي وحدثيني، حقّاً أنا لم
أربِّكِ جيداً، صدق والدكِ في هذا »
كادت تتقاطر دمعاتي من عينيّ من شدة تأثير كلمات أمي عليّ، وقفت
من مقعدي، حاصرني حنقي وغضبي ودموعي التي حبستها، وأنا
أقول والألم يعتصر صدري: «نعم أنا لم أربَّ جيداً، لأنه ليس هناك
إنصاف في هذا المنزل أبداً، ودائماً ما أكون أنا المخطئة بالنسبة لكِ،
وكل ما أقوم به سيئ، أنتِ ووالدي تشبهان بعضكما بعضاً، وأيضاً
متناقضان حد الضجر، أنتِ يا أمي دائماً ما تكونين ضعيفة أمام أبي
ولكن قوية أمام الناس، لا تدرين كم يبدو هذا كريهاً وقبيحاً، فأنا أكره
أن أكون مثلك أو آخذ رجلاً يشبه أبي إطلاقاً »
انفجاري هذا ... كان قنبلة مدمرة، قنبلة ملغومة انفجرت على حين
غرة
ولكن والأكثر خطورة منها، كان ذكر أبي بهذه الطريقة
فأبي الخاذل وأمي المخذولة، أبي الجاني وأمي الضحية!
لو كنت أريد وصف تلك اللحظة، لحظة كف أمي البارد على وجهي
لوصفت أنه أشد حدث بائس حصل لي في حياتي
كل شيء تجمد في تلك اللحظة، الدم في عروقي، شعر جسمي
ورأسي، وعيناي اللتان كادتا تخرجان من محجريهما
الصدمة كانت أشد وطئاً من كل شيء، من كل الأحاسيس، ومن كل
ما يحيط بي، حتى الهواء أصبح شيءٌ صعبٌ عليّ تنفسه!
انتقلت كفي إلى وجهي، تشد عليه في ذهول ونفي، وعيناي تنظران إلى
وجه أمي المملوء بالمشاعر المختلفة، علامات التقدم في السن تنقشه
بمرارة، تطويه في تعابير حزينة، تجاعيد عينيها كانت تخبأ الآلام المريرة،
شفتاها المفتوحتان كانتا تعبران عن وجع مرسوم، كانت وكأنها منكوبة
بذلك التعبير وبذلك الخنجر المسموم الذي طعنته في قلبها!
قالت وهي ضائقة الأنفاس: «هذا ما جنتهُ يداكِ »
وذهبت مخلفة وراءها أنا
أنا وحدي مع ذهولي وصمتي
الغرفة أصبحت فارغة من الأنفاس
فارغة إلا مني
كل شيءٍ بات أجوفَ، فارغ
حتى المنزل الذي مشيت فيه، كُل ضجيجه اختفى ليحل محله السكون
فقط لا غير..
السأم والسقم كانا يطاردانني، وأنا أترك الصالة خلفي، أمشي حافية القدمين على السجاد والبلاط، أمر بالغرف، أصعد السلم، أرفع قدماً ثم الأخرى فيعيد اللون الأبيض شكله في كل مرة، دون تغير، دون أن أشعر بأي مشاعر، وكأنني أهجر كل شيء ورائي، أتركه معلقاً في تلك الغرفة دون العودة إليه.
لو كنت أصغر سنّاً كما في الماضي لكان تعبيري دموعاً وصراخاً،
وفيضاناً من المشاعر اللانهائية
عتاباً ولوماً وبكاء، ندماً وطلب سماح سريع
ولكن الآن... لا شيء من هذا يريدني
لأنه ولأول مرة في حياتي كلها تعطيني أمي كفّاً على وجهي!
لم تستخدم أمي أسلوباً كهذا معي من قبل، عندما كنت في الطفولة
والمراهقة كانت تضربني على أجزاء متفرقة من جسمي بقليل من
الغضب والعصبية
ولكن لم تكن لتصفعني على وجهي بهذا الشكل
والآن هي تصفعني وأنا بهذا العمر، لأنني قلت لها الحقيقة فقط،
وأخرجت ما بنفسي لها!!
أليس لي الحق في قول ولو القليل مما أريده!!
ألا يكفي صمتي، ووضع رأسي في التراب كالنعامة طوال تلك السنين
أليس التنفيس هو الحل الصائب لمثل حالتي! ألا يحق لي فعل ذلك!!
نعم أنا أكره أن أكون مثل أمي، وأشعر بالسقم لتفكيري بهذا
وأكره أيضاً الرجال لأنهم مثل أبي
فكيف لي أن أحب رجلاً، وأبي عبر تعبيراً كاملاً عن الرجال
وكيف لي أن أنسى عدم حب أمي لي، والذي لا يزال يطاردني إلى الآن!
عبرت الردهة التي شعرت بأنها أصبحت أطول عن ما مضى إلى غرفتي.
شعرت للحظة بالدوار وعدم التوازن، وضيق شديد في الصدر، جعلني أتوقف للحظات، وامسك منتصف صدري، أضغط عليه بشدة، أضربه بضربات متتالية، ثم انخفضت إلى الأرض، والضيق يصل إلى بلعومي، إني اختنق، أخذ شهقات متواصلة كغريقٍ في عرض البحر، لا استطيع التنفس، سأموت!
وكأنني سقطت إلى بؤرة من السواد، ولكن فجأة سطع نورٌ باهر، أنار الظلام الذي احاط بي منذ لحظات، تدفقت كل ذكرياتي دفعة واحدة، رأيت نفسي في تلك الزاوية، زاوية سريري الخشبي بجانب الحائط، كنتُ أنطوي
على نفسي بعد أن اشتد بي الفزع من الإعصار القادم من خلف الباب.
بدأ الباب الخشبي يفتح رويداً رويداً، وكأنهُ ينذرني باقتراب الحدث
الذي كنت أخشاه
لم يكن بطيئاً كما تخيلتهُ، إنما كان شيئاً رتيباً مريضاً
كالقطرات المنسابة من الصنبور
«فمن أنا لكي تكون أمي حصني المنيع أمام إعصار أبي المدمر »
أبي المتجهم الداخل إلى غرفتي بهدوء رهيب
هدوء عصف بداخلي المرتجف جنوناً لفكرة ما سيفعله بي في تلك
اللحظة
تحركت خطواته بسرعة، تحرك ثوبه الأبيض معه
تحركت نظراتي لتنظر إلى وجهه في تحدٍّ زائف
عبر وجهه الغاضب عن تجهم عميق
واتصل حاجباه الكثيفان الأسودان ببعضهما
طوت التجاعيد وجهه حتى أخفت ملامحه، زم فمه بغضب شنيع
ضممت ركبتيّ إلى صدري، وشددت ذراعي حولي في استعداد خاضع
له
ووجهي لا يحمل أي تعابير تدل على الندم
لم يكن لندمي أن يعرف طريقه إلى وجهي الخالي من الأسف
لم أكن نادمة من الأساس، ولم أظن أنني قد اقترفت ذنباً في حقه أو في
حق نفسي أو في حق أيٍّ كان!
كانت مشاعري تثور في غضب واضطراب بين خوف وقهر
عندما وصل أبي بالقرب مني، بجانب السرير الذي كاد يحطمه بساقيه،
أظهر عصا طويلة مدببة، عصا رأيتها مراراً وتكراراً بين يديه يهدد بها
تارة ويضرب بها أخرى
رفعها بغلظة وأخذ يضربني بها، بقوة لم تعرف الرأفة، وبقلب لا يعرف
الرحمة
وكالعادة أخذتُ أصد ضرباته بذراعيّ، وأبكي عندما يشتد بي الألم،
وأحاول عدم التوسل إليه، فأنا أعرف أن التوسل لا يجدي نفعاً مع أبي
وهو في هذه الحالة إنما يزيده إصراراً.
توقف بعد أن استنزف كل قوته في ضربي
وأنا اشتد ألمي وتساقطت دموعي بلا توقف
صاح عليّ: «لمَ ذهبتِ بلا استئذان؟ »
أفلتُّ لساني، ومن بين دموعي المنسكبة قلت: «لقد أخبرت أمي
وقالت اذهبي »
«ولكن أمكِ أخبرتني أنكِ ذهبتِ بلا استئذان وخالفتِ أوامرها »
أمي .... بعد أن تعطيني موافقتها من بعد الإلحاح والتوسل وأذهب
تخبر أبي أنني ذهبت رغماً عنها!
وفي هذه المرة كنت أريد الذهاب إلى نادي الفتيات مع صديقاتي، وكان
هذا في إجازة الصيف
لم أكن أظن أن هناك مانعاً لذهابي، ولو لسويعات قليلة
ولم أكن أظن أنني قد أقلب المنزل رأساً على عقب بذهابي هذا، وأن
جحيماً ينتظرني فيه!
فعندما عدت أخبرتني خولة أن أبي غاضب جدّاً ويبحث عني
بعد مغادرة أبي للغرفة، انطلقت أهرول إلى غرفة أمي بعد تحققي من
خروج أبي من المنزل، وأنا أتلمس جسمي ماسحة ضربات أبي التي ما
زالت تلتهب تحت ملابسي.
دخلت إلى غرفة أمي الواسعة ذات اللون الأصفر، وقفت قرب
الباب البني وأمسكت بزاويته الخشبية، نظراتي التي اختطفت نظرة
سريعة إلى السرير البني المرتب وإلى النافذة الكبيرة التي دخل ضوء
الشمس من خلالها، وصلت إلى أمي أخيراً، أمي التي ناديتها وانا أراها
مضطجعة على المقعد الأحمر الطويل، تشاهد التلفاز الذي وضع على
طاولة سوداء زجاجية: «أمي لمَ فعلتِ هذا بي، لمَ أخبرتِ أبي ؟؟ »
شعرها البني الغامق القصير المتكئ على كتفيها النحيلين تطاير بغضب
وهي تلتفت ناحيتي، تقاسيم وجهها الدائري برزت في عصبية،
تطاير الغضب من عينيها البنيتين الواسعتين، ضغطت على أسنانها
بعصبية ظاهرة وهي تعدل من جلستها وتقول:
«تستحقين ذلك، ألم أقل لكِ من البداية ألا تذهبي! »
وقفتُ وقد ارتخت دفعاتي، وأرهقت مشاعري، وتساقطت دموعي:
«ولكنكِ قلتِ لي اذهبي في النهاية »
أبعدت عينيها عني، نظرت إلى التلفاز لتكمل ما كانت تشاهده،
وأضافت من دون مبالاة: «صحيح قلت لكِ اذهبي، ولكن قلت أيضاً
إن ذهبتِ فسيكون حسابكِ عسيراً، هيا اخرجي لا أريد رؤيتكِ »
لم تسعفني الكلمات ككل مرة، لم أكن أملك حق الدفاع عن نفسي
لأن أمي تقوم بتدميري بالكامل، تشعرنني وكأنني شخص كريه
وغير مرغوب فيه!
أمسكت مقبض الباب وضربته بكل قوة، مشيت أداري دموعي،
وأعاتب أمي وأبي وكل العالم..
توقفت للحظات، وعيناي ترحلان إلى ذلك الصغير الذي يمسك لعبة
إلكترونية قديمة بين يديه، كان يقف أمامي وفي عينيه نظرة تساؤل!
في تلك اللحظة انصبت الذكريات على رأسي انصباباً، وتدفقت
الأحداث إلى عقلي، وحلت الدهشة عليّ حتى كادت تصيبني بالجنون
من قوتها.
يوسف الصغير ... نعم إنه يوسف.
أنا ... يا أنا ما الذي يحدث!
كيف يحدث لي هذا... تيبستُ في مكاني، أخذت أنفاسي تتسابق
إنه يوسف بلحمه وشحمه يبعد عني بمسافة بضع خطوات، ملابسه
صغيرة مثله، وجهه القديم الذي أحب كما هو
ابتسامته قفزت إلى وجهه وهو يرى علامات الاندهاش عليّ
رفعت أصابعي الصغيرة أمامي، ضربت الهواء بها، نفخت عليها،
لأشعر بالبرودة وأستشعر كل ما حولي
لأتحقق أنني أنا، وأنني الآن أمام يوسف
يوسف الطفل الصغير الذي يبصر النور
حدقت به بدهشة وألم، وأنفاس مخنوقة من الصدمة،
وناديته: «يوسف أهذا أنت! أحقّاً أنت يوسف! »
***

شبيهة القمر 28-06-20 02:04 PM

رد: خطوات على الجمر
 
يوووه ياغلاي ماامداني اندمج مع الاحداث الا وخلص الفصل ..
تكفين غلاي اذا هي مكتمله عندك ابي كل يوم اصبح على جزء جديد تكفيييين
بس فعلا ابدعتي برسم مشاعر ياسمين اتمنى ان ياسمين تكتب مذكراتها علشان يوم يفتح عيونه يوسف يقراها .. ايه عندي احساس انه راح يفتح وشلون مدري ههههه..

بانتظاارك ...

سميتكم غلآي 29-06-20 06:59 PM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3730416)
يوووه ياغلاي ماامداني اندمج مع الاحداث الا وخلص الفصل ..
تكفين غلاي اذا هي مكتمله عندك ابي كل يوم اصبح على جزء جديد تكفيييين
بس فعلا ابدعتي برسم مشاعر ياسمين اتمنى ان ياسمين تكتب مذكراتها علشان يوم يفتح عيونه يوسف يقراها .. ايه عندي احساس انه راح يفتح وشلون مدري ههههه..

بانتظاارك ...

يا مرحبا
اذا جذيه بتخلص بسرعة هههه، شكرا لج، الاحداث القادمة إن شاء الله بكون فيها تشويق واحداثها مع يوسف ان شاء الله بتاخذ منحنى يعجبكم

سميتكم غلآي 30-06-20 10:30 AM

رد: خطوات على الجمر
 
انصهار
الخمول كل ما شعرت به بعد تلك الصدمة، وانقطعت ذكرياتي
عند ذلك الحد، وحل الهدوء والسواد على عينيّ
جاءني من بعيد صوت طنين منخفض، صوت مزعج، غريب عني
حاولتُ فتح عينيّ بتثاقل، الضباب يغشى رؤيتي، الصوت يقترب
أكثر وأكثر
تنفست بسرعة تحت جهاز غريب احتل النصف الأسفل من وجهي
وعلى فمي استقر
حاولت فتح عينيّ للمرة الثانية، وعندما فتحتهما الضوء الأبيض بهرهما، عندما اتضحت رؤيتي رأيت الستائر البيضاء تحيط بي من كل الجوانب!
تحجب رؤية ما وراءها عني
أنبوب طويل متصل بكفي، وصوت الطنين لا يزال يختفي ويعود
أخذت نفساً آخر، وأنا أغمض عينيّ في كسل والنوم يتسرب إلى أجفاني
ثوانٍ فقط حتى جاءت الممرضة قائلة: «الحمد لله على السلامة يا
ياسمين »
حاولت النطق ولكن لم أستطع، بسبب الجهاز الموضوع على فمي، وتعب جسدي الذي لم استطع تحريك عضلة منه...
بعد مدة من الزمن استوعبت أنني في المستشفى، وأرقد على هذا السرير
والممرضات يدخلن إليّ ويخرجن عني وقد نزعن جهاز الاكسجين عني بعد انتظام تنفسي..
أتى وقت الزيارة، وتوافد أهلي إليّ، يتحمدون لي على سلامتي،
يجلسون حولي في دائرة، تكسو وجوههم الفرحة والابتسامات
المتبادلة، يتناولون الأطعمة ويمدونها إليّ، فأرفض وآخذ القليل منها
مجبرة.
والبعض يتناقشون على ما حل بي من دون استحياء
سمعت زوجة خالي تقول بلهجتها المعتادة، وأسلوبها المملوء بالسخرية: «انهيار عصبي، إنها تتدلل علينا »
لهجتها المازحة لم أحتملها وأنا في حالتي هذه، فزوجة خالي لم تكن لطيفة معي، كانت شخصاً عادياً ذا لسان سليط يلقي نكاتاً ويسخر من غيره دون مراعاة للحالة النفسية أو علاقته بالشخص!
يا ليتني لم أعط كلماتها الحجم الكبير وتجاوزتها، ولكن كرهت أن يسخر مني أحد وأنا مريضة، فشعرت بالتعب وبنفستي تتدهور ، أغمضت عيناي لعل النوم يسلبني تعبي...تذكرت ما مر بي من حلم، ففتحت عيناي مرة أخرى أدور ببصري في المكان، يوسف ليس هنا، لن يحضر، مالي أضع الآمال والأحلام على علاقة هشة كعلاقتنا! للحظة فكرت بمرضي، شعرت بالمبالغة بذهابي إلى المستشفى! كل شيء مبالغ فيه! شعرت بالدوار فعدت إلى الاسترخاء... يبدو حقا أنني اعاني من خطب ما في جسدي!
بعد لحظات سمعت صوت أحفظه عن ظهر قلب:
«عزيزتي أتشعرين بالتعب! هل أنادي الممرضة »
في تلك اللحظة، وفي ذلك الوقت من الزمان، انسابت المشاعر إلى
قلبي كالفيضان، طوقني إحساسي بالذنب والشوق والفرحة لاهتمام
أمي بي، أحسست بالخجل، ورغبة شديدة في البكاء،، لأعبر عما بداخلي
من إحساس، فأنا أحب حالتي هذه التي تجعلني محط اهتمام الكل بلا
شكوى مسموعة، فأنا قد تركتُ وأهملت حالات مرضي لنفسي، ومنذ
سنوات لم أشتكِ من مرض عانيت منه وكان مزمناً، لقد علمت عدم
الاشتكاء، فالشكوى ليست حل للأمور من وجهة نظري للحياة.
وجاء أبي في تلك اللحظات، أبي الذي لا أراهُ إلا نادراً، والذي تغير
وجهه عما مضى
جاء ليجعل الصمت رفيقه، لتسكن الأصوات ويتفرق الشمل ويُفْسَحَ الطريق له!
تذكرت تلك اللحظات، اللحظات التي لم تمضِ عليها إلا دقائق أو
ساعات قليلة، مظهره الذي لم يغطِّه الشيب كما الآن
نظراته الغاضبة، ووجهه المسود المعبر عن شدة غضبه
كل ذلك لم يكن موجوداً الآن!
الآن لحيته تحتسي البياض، تمحو السواد، تعطيه وقار الشيب
وجهه الآن مختلف عما كان عليه قبل هذه الساعة، هو الآن أكثر رحمة
وعطفاً
وأكثر أبوية!!
كان غير ذلك الذي ضربني، ولكنه يشبهه إلى حد ما
وحل الألم على صدري كنفخة من الحرارة عبرت مجرى تنفسي،
وانكمشت ملامحي في شعور نفسي مؤلم
منظر أبي كان يحزن الناظر إليه، يشنج الغصات في أبدان الأبناء
كان مشعث الشكل يرتدي ثوباً أبيض فضفاضاً
متجعد الوجه، متعب الملامح، مرهق الجسد
كان وكأنه يحمل كل أثقال العالم على كتفيه
ابتسم ابتسامته النادرة، وعيناه تنظران إليّ في ألم
كانت صورة مناقضة لأبي القديم، صورة نزعت مني كل مشاعري
السلبية المتصلة به
نظراته جعلت كُل شيءٍ فيّ يقفز مقشعرّاً
أقترب مني وجهه وقبلتني شفتاه على جبهتي
وقال: «الحمد لله على سلامتكِ »
بقوة لا تضاهيها قوة حاولت ابتلاع الدموع قبل أن تفر من عينيّ،
حاولت الاحتمال وعدم البكاء وأمسكت يديّ في قبضة شديدة
ولكن داخلي بكاء بعنف وغزارة رهيبة، لا أدري لمَ، لمَ تأثرت وشعرت بالحزن!
بعد تلك الزيارة القصيرة والابتسامة الذابلة، ذهب أبي وترك كل
الحضور في صمت مهيب
وتركني بينهم، أعض شهقاتي وأصد دموعي، أستنشق رائحته التي
بقيت في الأجواء وخنقتني.
***
بعد الانهيار العصبي الذي ألمّ بي، والذي لم أعرف كيف أصابني وما
حدث بعده!
صحيحٌ أنني عانيت قبله من إرهاق شديد وأرق، وتفكير مستمر،
وزاد عليّ ألم صدري
وآخره الأحداث التي حصلت مع أمي، والتي صدمتني بالكامل
ولكن اختفت الصدمة بعد ذلك الحدث الذي يشبه الحلم، والذي
رأيتُ فيه يوسف الصغير!
بعد خروجي من المستشفى الذي لم أجلس فيه إلا نصف يوم
كانت أمي وخولة تقومان بالاهتمام بي
أمي لم تكن تكلمني إلَّا لَمِاماً، ولم تكن تنظر إلى عينيّ اللتين تتبعانها أينما
ذهبت، وتنشدانها الصفح
كُنت نادمة حد النخاع، متعبة من صدودها، حزينة على آخر موقف
حدث لنا
لم يكن لقلبي أن يحتمل صدودها ولو قليلاً، صحيح أنني باردة،
وغاضبة دوماً ومثيرة للمشكلات
وأنزعج منها، أكره عدم حبها لي، ولكنني أحبها لأنها أمي، وأريد
منها أن تشعر أنني ابنتها بالمقابل!
أريد أن أشعر ككل الأبناء، أن لي أمّاً تحبني وتهتم بأمري!
خرجت من غرفتي ذات مساء بعد أيام من الحادثة، ووقفت في
صمت بجانب باب غرفة أمي أرفع يدي فأتراجع قليلاً، أقترب مرة
أخرى حتى ألمس أكرة الباب، أتوقف أتردد وأتيه، أسحب أنفاسي
وأخرجها بقوة حتى أستطيع المواصلة.
في الحقيقة أنا لا أمتلك تلك الشجاعة التي تجعلني أواجهها، وأعتذر
إليها
محاولة الاعتذار إلى أمي أو الحديث معها بأريحية هي من أصعب
الأشياء التي أواجهها، والتي لا أعرف كيفية تخطيها!
ففي حياتي كاملة لم أخض مع أمي حواراً دافئاً رقيقاً أخرج فيه كل ما
بنفسي، وكل ما أشعر به حيال نفسي والعالم والحياة التي نعشيها، فأمي
كانت بعيدة وما زالت بعيدة أميالاً كثيرة عني.
دخلت بعد تردد كبير، وصراع نفسي طويل
رأيتها جالسة على سريرها، يداها تحتضنان القرآن، كانت تقرأ بصوت
منخفض لا يُسمع إلا نفسُه
كدتُ أتراجع وأنا أراها ترتل آيات الذكر الحكيم، وتقرأ بخشوع
وكأن لا أحد دخل إلى الغرفة وأنهى خلوتها
كما تعودت، وكما كنت أفعل دائماً وقفت في صمت منتظرة انتهاءها
وقوفي طال، أفكاري حارت وتعبت من الانتظار
فبدأت أتصبب عرقاً من التوتر، فأنا لا أعرف كيف أبدأ، أو كيف
أستجمع شجاعتي لقول ما أريده!
لأنه ومنذ زمن بعيد لم أخض مع أمي معارك شديدة التأثير كهذه،
ومنذ أن تركت المراهقة فضلت الانعزال عن أمي وعدم المبالاة بما بيننا
من شروخ وفراغات ومسافات، وكم كنتُ أتوق وما زلت أتوق لو
أننا كنا أقرب وليس أبعد!
انتهت أمي بعد زمن طويل ظننت فيه أنها لن تنتهي
وضعت المصحف على منضدة سريرها، ارتفعت نظرات عينيها ببطء
إلى أن وصلت إليّ
حدقت بي بنظراتها الحادة التي قلبت حالي إلى أقصى مراحل القلق
والتوتر
وضاعت الكلمات من منبر صوتي، وجف حلقي وبلغ حد الاختناق
لم أعرف سبيلاً للحديث عما كنت أريده!
ولم أعرف الشجاعة قط معها في أموري أنا!
يا ليتني أمتلك الشجاعة لأخبرها عما أشعر به حيال كل الأمور، لا
عن الاعتذار إليها
ولكنني أصمت داخلي الهش والذي يريد البوح بما يختلجه من أسرار
تظهرني بمظهر الضعيفة أمامها
أخذت نفساً طويلاً قبل أن أقول وعيناي لا تفارقان عينيها: «أمي
».... وبترتُ كلماتي قبل أن تخرج
اقتربت منها وقد أخذتني مشاعري، ورق قلبي ولاَنَ وكيف لا يلين
أمام أمي!
قلت بحزن وندم شديد عبر عنه صوتي: «أمي أنا آسفة عما حدث »
لم تكن أمي لتكون مثلي، أو لتسقط أمام اعتذاري هذا مشفقة عليّ،
ولم تكن لتأخذني إلى أحضانها مطبطبة عليّ، وتقول: «لا بأس لقد
سامحتكِ » أو أنها قد تبتسم لي وتبادر إلى الحديث معي وكأن شيئاً لم
يحدث.
لم تكن لتفعل كل هذا!!
إنما صدتني وأبعدت نظراتها عني وانشغلت بكل شيء كان موجوداً
في غرفتها عداي، وكأن لساني لم ينبس بتلك الكلمات الباكية والمتوسلة
وكأن لا وجود لي في تلك اللحظة التي أعرفها تماماً، والتي لا تزال
تتكررُ مراراً!
فهذا هو أسلوب أمي معي فقط، وليس مع أحدٍ غيري
أخواتي الواحدة منهن تلو الأخرى كنَّ يختلفن عني اختلافاً شاسعاً،
كاختلاف الشمس عن القمر
كنَّ يحظين بالدفاع قبل الهجوم، وبالاهتمام قبل الإهمال
كانت لا تعاتبهن على أخطائهن
كانت تدافع عنهن بشراسة
حتى لو كُن مخطئات، حتى لو بدأن هن بالمشكلات
ولكن أنا ويا لبؤسي أنا... كنت آخر شخص قد تفكر في احتوائه، أو
الدفاع عنه أو الصفح!
***
بعد موقفي الأخير مع أمي، ووقوفي الطويل أمامها، وقوفي الذي
دام دقائق طويلة ينتظر ردة فعل مفرحة، ينتظر تجاوباً يريحني، ينتظر
أملاً زائفاً وضعته في مقدمة آمالي، وبعد اعتذاري الذي لم يثمر عن أي
نتيجة مرضية، خرجت من عندها أجر ورائي أذيال الخيبة والمرارة،
وقوفي الذي كان بلا فائدة ترجى، والذي أخجلني وجعلني أشعر
أن لا فائدة أبداً، فلن تصفح أمي عني بهذه السهولة قبل أيام طويلة،
أنسيت أيامي معها أم نسيت من أنا ... وما أنا بالنسبة لها.
الحزن يمسكني من كل الجوانب، ويستأصل بذور الأمل مني وأنا
أسير إلى غرفتي
أفكاري تتبعني، وقلبي يعتصر تحت أضلعي وكل شيء ينكمش في
صدري
دخلت إلى غرفتي، وسرت إلى أن وصلت إلى زاوية سريري قرب
الحائط
رفعت لحافي واستلقيت منطوية فيه، شددت كفيّ في قبضة ورفعتُ
ركبتيّ إليّ، وخنقت كل غصاتي
بدل أن أبكي، صدرت مني ضحكة قصيرة، ضحكة أطلقتها تعبيراً
عن وضعي المزري
وهل البكاء يفيد في حالتي هذه؟
لقد بكيتُ سابقاً، ولم يغير من الأمر شيئاً!
وجه أمي الجاف والذي يرفض كل شيءٍ مني، ومعاملتها وكأن لا
وجود لي، يجعلانني أشعر وكأنني مجرد شخص ضعيف جدّاً
شخص عديم الفائدة، ولن يصعد خطوة واحدة إلى الأمام.
بعد مدة من الزمن، وبعد الانطواء الحزين، والألم الشديد في صدري،
رفعتُ لحافي عني ومددت يديّ إلى الأدوية التي بعثرتها على منضدتي،
وأخذت بعض الأقراص منها وشربت جرعة من دواء الحموضة، ولم
أشرب فوقه الماء لعله يطفئ نار صدري.
ودخلت خولة إلى الغرفة، دخلت تمشي إلى ناحية سريرها فيما ألقت
عيناها اللتان تشبهان عيني أمي نظرة خاطفة عليّ
احتلت سريرها وفتحت يداها كتاباً اختطفته في طريقها، بدأت تقرؤهُ
في سكون
كان الصمت أسير تلك اللحظات
الصمت الذي أظنه أفضل من الكلام مع خولة
ولكن لم يدم ذلك الصمت طويلاً إذ إن خولة قطعته فلم يكن الصمت
حل يريحها، رفعت نظرها عن الكتاب وأغلقته ولكنه بقي في أحضانها
وقالت: «هل تعانين من خطب ما؟ »
تلاقت نظراتي بنظراتها الحائرة، أبعدتُ عينيّ عنها وهززت رأسي ب
«لا » وأنا أعرف أن وجهي يعكس غير ذلك!
بدى وجهها قلقاً حائراً، اقتربت مني، جلست قبالتي وهي تكمل وقد
اكتسب صوتها الفضول: «إذاً لمَ أصابك الانهيار العصبي؟ ياسمين
أتعانين من خطب ما! »
تاهت الأفكار في رأسي وحارت، وما أدراني ما الانهيار العصبي هذا
وما بي، وما الذي يحدث لي، لأنني لا أذكر شيئاً!
يا إلهي... أحسست بالتعب في كافة أنحاء جسمي وفي صدري،
وبفقداني للسيطرة على نفسي وبالضعف والهوان فقلت وأنا أعود إلى
الاضطجاع على سريري: «أرجوكِ يا خولة لا تبدئي أقسم إنني متعبة،
ولست أعاني من شيء كما تتخيلين »
أمسكت بيدي قبل أن أستلقي وقد بدأ الغضب يصعد إلى وجهها
الأبيض الذي احمر سريعاً، وهي تقول: «ياسمين إن الانهيار العصبي
يحدث لشخص أصيب بصدمة أو مريض نفسي، إن الانهيار العصبي
يجب علاجه فإن أهمل فإنه يؤدي إلى أمراض عصبية خطيرة »
أبعدتُ يدها عني، جلستُ على السرير بقفزة، صرخت عليها:
«أنتِ أكثر شخص يعرف ما بي فرجاءً كفي عن هذا »
أكملت بهستيرية وقد أخذني الجنون وأنا أقف وأسير إلى وسط
الغرفة: «حقّاً إن الأطباء مجانين، لستُ أعاني من خطب ما، كيف
أكون مريضة نفسية أرجوكِ، أنا وحدي لا أعلم ما الذي يحصل لي،
حقّاً إني لا أذكر ما الذي حدث بالتحديد، أيفهمني أحد »
قفزت دموعي إلى عينيّ، وكادت تتساقط وتفر وتكشف ما بي من
هموم
فكتمت غصاتي، وخنقت دموعي وطويتها بداخل عينيّ وشددت
عليها الأسر
خولة أرجوكِ لا تجعليني أبكي أمامكِ! أرجوكِ ارحمي حالي!
عينا خولة كانتا معلقتين بعينيّ، كانتا تعبران بؤرتيّ، تعرفان مشاعري
وتسبران أغواري
حاجباها الخفيفان اللذان كادا يلتصقان انفرجا عن بعضهما، لمعت
عيناها الواسعتان وهي تقول: «أحقّاً لا تذكرين ما الذي فعلته بأمي،
وما الذي فعلته بنا! »
تطايرت علامات الدهشة من وجهي، وعقدت حاجبيّ في تعجب!
توقفت مكاني، انصبت نظراتي على خولة الجالسة مكانها وعلى يديها
اللتين امسكتا ببعضهما، وعيناها تتابعان تحركاتي
ما الذي فعلته بهم، أم ما الذي فعلوه هم بي!
فقط الجميع يتذكرون فعلي لهم، ولا يتذكرون ما يفعلونه بي!
كادت تفر من حنجرتي صيحة غضب، ولكن تلك الصيحة فرت
كشكل ضحكة حزينة وأنا أقول وذراعايَ تحتضنان صدري: «ما الذي
فعلته هيا أخبريني ؟ أهو موقفي الاخير مع أمي، لقد حدث ما حدث
ولا أريد تذكره رجاءً »
انكمشت ملامح خولة في استغراب عميق وهي تقوم من جلستها،
وتقترب مني قلقة: «ياسمين ما بكِ، أبعد كل تلك الهستيرية التي
قلبتِ المنزل بها، والانهيار الذي ألمّ بكِ، كدتِ تفقدين عقلك في تلك
اللحظات بصراخكِ وبكائكِ، ظننتُ أن بكِ مرضاً يجعلك تتلوين ألماً
منه، لقد فجعتِ قلبي وقلب أمي »
تقوست شفتاها في ألم، وترقرق الدمع في عينيها وهي تكمل: «نقلتِ
إلى المستشفى وأنتِ على شفا حفرة من الموت، أعطوك منوماً لكي
تهدئي، ولقد شخصوا حالتك على أنها انهيار عصبي حاد، صدمنا في
بادئ الأمر وكنا نظن أنه أسوأ من هذا بسبب ما أصابكِ، لم أصدق أنه
انهيار وإلى الآن لا أصدق ذلك، لا يمكن أن تصلي إلى هذه الدرجة »
كتلك المرة أصابتني الدهشة إلى جانب الخوف، لأنني لا أذكر شيئاً من
هذا!
بعد انقطاع حديثنا، ورؤية خولة لعلامات الاندهاش والتيه على
وجهي، وعدم ردي عليها، إنما تركتها في مكانها ومشيت وكل التبلد
والبرود يعتريني، كل شيءٍ أصبح بارداً جافّاً من حولي، حتى أنفاسي
وإحساسي، خطوت بخطوات بطيئة حتى وصلت إلى السرير ورميت
نفسي عليه وتدثرتُ بلحافي، وعضضت على أسناني تحته وحاولت بلع
ريقي وبلع كل الهواء الذي حولي.
حتى الآن بدى كل شيء غير واضحٍ في حياتي، إنما كان الغموض يحيط
بي!
غموض موحش يجعلني أصاب بالرعب منه!
كُل الأحداث وكُل الفقرات، كانت تفتقر للحقيقة، فكل ما مررت به
كان حوله الضباب، وكانت العتمة صديقة ملازمة لي
فكل شيءٍ كان حبيس الأسرار
لم أكن أفهم تلك الأمور التي تحيط بي بل حرت فيها، فهي تلطمني
وتسقطني إلى عالم غريب.
حبست نفسي وانتابتني المرارة، وبدأ الحزن يتسرب إلى داخلي، ذلك
الحزن الذي يرافقني أينما حللت، ليشكل فجوة سوداء في عقلي فتتسع
وتتسع
بدأت أشعر بالهواء يعبرني، والراحة تسكنني، وكل شيءٍ ينكمش فيّ
ذلك الإحساس الذي أشعر به كلما عدتٌ إلى هناك
شعور تخلت عنه نفسي منذ زمن طويل
أبعدت اللحاف عني، نظرت حولي، إلى لون غرفتي الوردي وإلى
الرسومات الملصقة على جدرانها و الدولاب الخشبي الذي يحتل
مساحة كبيرة من الغرفة، سرير خولة الخشبي الذي بجانبي،
سرير يوسف الصغير في الزاوية.
كان سريري قرب الحائط تحت النافذة التي رفعت جسمي إليها،
وأبعدت الستارة البيضاء ليطل ضوء الشمس منها، وتصلني زغردة
العصافير، وصوت خشخشة أغصان شجرة السدر التي تحركها الرياح
نظرت إلى مطبخنا القديم ذي الباب المفتوح الذي اختفى لونه البني،
إلى سلمه الإسمنتي القصير الذي تكسر قليلاً، ذلك العالم الكبير
والجميل الذي أحلم به مراراً وتكراراً يتجسد الآن أمامي، منزلي
الحبيب وحياتي القديمة..
تركت نافذتي، قمت من على سريري واتجهت إلى كل ركن
من غرفتي، إلى الجدران المرسوم عليها برسومات طفولية، أسمائنا
المكتوبة بشكل كبير، الملصقات الملصقة على دولابي، ملابسي
وأحذيتي، رسائلي وكتابتي، كل أوراقي القديمة التي ضاعت
قفزت ابتسامتي وأنا أرى ثوبي المفضل الذي كان بلون الزيتون، كان
ثوباً ذا قصة فرنسية أهدتهُ عمتي لي، وكنت أحب ارتداءه في ذلك
الوقت.
في تلك اللحظة دخلت خولة إلى الغرفة
خولة التي انبهرت من رؤيتها في حلمي هذا !
اتسعت ابتسامتي فرحة، فأختي الحبيبة والصغيرة هنا معي، كان
وجهها الأبيض محمرّاً، عيناها البنيتان الواسعتان غاضبتين، شعرها
البني الفاتح مرفوعاً كذيل الحصان، كانت تزم شفتيها، وبقامتها التي تكبرني
قليلاً اقتربت مني لتضربني على كتفي وتصرخ: «لمَ أخرجتِ أحمر
الشفاه الخاص بي وتركته خارجاً، لمَ تأخذين أشيائي بلا استئذان، تبّاً
لكِ »
تشكلت على وجهي كُل علامات الاستغراب، لم أفهم من حديثها
شيئاً، ولم أستوعبه إنما وقفت مدهوشة!
لم أكن أدرك شيئاً غير ذلك الإحساس الغريب، والحلم الذي أعيش
فيه
وما لبث أن هجرني ذلك الإحساس ونسيته، وتذكرت كل ما تتحدث
عنه خولة
نعم ... فأنا دائماً ما أعبث بأشياءها، فهي لعبتي المسلية، فخولة مع أنها
تكبرني بعامين فقط ولكنها أنضج مني جسديّاً، تستطيع اقتناء ما لا
أستطيع أنا اقتناءه!
لديها أحمر شفاه واحد، وكحل، وكِريم للوجه وكنت أعبث بهن في كل
مرة تسول لي نفسي فيها.
كانت عينا خولة تنذران بهطول موجة من الدموع الغزيرة، وهي
تكمل: «لقد لعب خالد ابن عمتي بأحمر شفاهي عندما كنا في المدرسة،
لقد أخبرتني الخادمة بذلك »
بلا مبالاة وكعادتي في إخفاء خوفي وكذبي المتكرر عليها: «وما دخلي
أنا! ومن قال إنني أخرجته! »
كلماتي هذه أثارت غضبها، فهي تعرف أسلوبي هذا، تعرف كذبي
أيضاً، هجمت عليّ وهي تصيح بشدة وأنا بدأتُ هجومي عليها
بالمقابل، لم أكن لأفوت فرصة للانتقام منها بأي وسيلة.
كنا نخدش وجوهنا وأيدينا، نتصارع في غرفتنا المشتركة بكل عنف،
نمزق خصلات شعرنا، ونتبادل الشتائم
أسقطها وتسقطني مراراً على الأرض، فأنقض على شعرها وهي تغرز
أظافرها في يديّ حتى تصل إلى اللحم
لم يكن شيءٌ ليقف أمام صراعنا هذا غير أبي! ولكن إن كان هو غير
موجود فأمي هي الموجودة.
بصراخ وقبضات تحاول تفرقت بعضنا عن بعض، تقوم أمي بنزعنا
من هذا النزاع وتهدد: «أقسم بالله إنني سأخبر والدكما إن لم تكفا عن
ذلك »
وعند ذكر أبي ترتجف الأبدان، ويسكن الخوف أفئدتنا، خف صراعنا
إلى أن بقيت الشتائم تتقاذف فيما بيننا.
ابتعدت عنها إلى أن وصلت إلى جهة الباب المفتوح، وعندما هممت
بالخروج منه سمعت كلمات أمي المؤنبة لي على اللعب بأغراض خولة
التي تشتكي عليّ وعلى استفزازي لها، وكعادتي صرخت، ضربت
الباب، خرجت إلى الخارج دون ندم.
قدماي الحافيتان تمشيان على التراب فتبعثرانه، نظراتي عليهما وعلى
الحجر الرمادي المصفوف على طريقي، أتتبع خطواتي الذاهبة إلى
الخارج من بين الأشجار التي تسكن منزلنا بكثرة، فتحت باب
الحديد الخارجي، وخرجتُ إلى الشارع، كانت الشمس في كبد السماء
وكان الطقس خريفيّاً، نسائمه معتدلة، الشارع الإسمنتي الذي بين
البيوت هو نفسه، البيوت القديمة كما هي، كانت متلاصقة وجدرانها
البيضاء تلتصق بعضها ببعض، وألوانها المتراوحة بين الأبيض والبني، تظهر على بعض البيوت قبب من القرميد الأحمر...
كانت براقة، رائحتها كما هي، كذلك نفسي التي أحست بالغربة،
والاختلاف الشاسع بين العالمين.
فجأة ظهر يوسف من تحت ذراعي التي كانت ممدودة إلى مزلاج الباب،
ظهر ليجعلني أستعيد ذكرياتي الغربية تلك وأفهم ذلك الاختلاف،
وأعرف من أنا ومن هو!
قال لي وهو يقفز وشعره البني الفاتح يتناثر حول وجهه القمحي:
«ياسمينة »
أمسكت القشعريرة بكل جزء من جسمي، طوتني بالكامل وأنا
أحدق إليه وأبتعد عنهُ قليلاً لأفسح المجال لبصري لينظر إليه.
أخرجت موجة من الهواء الحار من رئتيّ لأبتسم، وأشعر بالفرحة
العارمة تطويني وتحتضن قلبي، خفضت جسمي الصغير والذي لا
يكبره كثيراً إلى أن وصلت إلى مستواه
مددت يدي وأمسكت بأصابعه الصغيرة، رفعت يدي الأخرى إلى
وجهه أتلمسه، لأشعر بحرارته، وبحقيقة ملمسه
وهو ينظر إليّ بعينين متسعتين، وكُل علامات الاستغراب في وجهه
كنتُ أحاول الإقرار بحقيقة وجوده أمامي
ذلك الطفل الذي أحب
صديقي الذي أتمنى عودته دوماً!
بشعوري الدائم له، وشوقي الملازم له
تدفقت دموعي وأنا أحتضنه بكل قوتي، أحشره بداخلي، أدخله إلى
أحشاء صدري
تشبثت به، وقلت من بين شهقاتي: «يوسف أنا آسفة، آسفة جدّاً،
سامحني أرجوك »
حاول يوسف الخلاص من أحضاني ولكنني شددت الأسر عليه،
وأخذت أقبله، أستنشق رائحته التي لا أنساها، فكم كانت هي
رفيقتي في الطفولة، فرائحة الأطفال عرفتها من يوسف! ولكن رائحته لم تكن نفسها كانت مزعجة نوعا ما، فتركته ضاحكة
وأنا ياسمين الغريبة عن ذلك العالم، ياسمين التي لا تعرف أين هو
مُستقرها!
لم أصدق أنني قد أرى يوسف، يوسف المبصر الذي ينظر إلى وجهي
كما أنظر إليه
وكأنني أخفته بذلك الهجوم والقبلات المفاجئة، فأنا لم أكن أقبله في
ذلك الزمن البعيد!
كانت عيناه العسليتان متسعتين وهما تنظران إليّ بتعجب شديد، لم
يتحدث إنما أبعد خطواته عني إلى الوراء
كان حافيَ القدمين مثلي، ويلبس ثوباً أبيض تنفتح أزراره من
الأعلى، وشعره البني غير مرتب
أظن أنه في السابعة أو الثامنة، ولم يكن يقصرني إلا قليلاً!
طال تأملي الحزين لهُ، وطال وقوفه المتعجب أمامي
قفز طرف شفتيه الرفيعتين ولم تقفز ابتسامته المعتادة معه، إنما حل على
وجهه الانزعاج والحزن وهو يقول: «هل أنتِ مريضة يا ياسمينة ؟ »
كان تفكيري منحصراً في تلك اللحظة على عالمي ذلك، والجاذبية
تجذبني بشدة إليه، تحاصرني بين أحضان ذلك الزمان
تربطني به، في ذلك القلب الصغير والجسد الهزيل، والعيون الصافية
كصفاء السماء والتي لا يعكرها الغبار.
تأوهت بتصنع، وضربت بجسمي على التراب، جلست أمام الباب
وتحت ظلاله، وقدماي تفترشان الأرض: «نعم وكثيراً! »
جلس يوسف بجانبي وعلى التراب، في ذلك المكان الذي اعتدنا
الجلوس فيه أمام الباب الأصفر الذي بدأ يهترئ لونه، في تلك
الساعات من النهار، وتحت الشمس طال تأملنا ولعبنا بالرمل
والأحجار الصغيرة، نبعثرها بأيدينا الصغيرة، ونرمي بها بعيداً لعلها
تصل إلى منزل الجيران المقابل لنا بشكله الصغير الشعبي الذي يشابه
منزلنا
اتسعت ابتسامتي لتذكري أننا كنا نبحث عن الدراهم في التراب،
وكنا نجد الكثير منها مبعثراً وكأنها كنز عظيم، نطقت بصوت أقرب
للهمس: «دعنا نبحث عن الدراهم! »
حرك يوسف رأسه إيجاباً، وهو يبعثر في التراب، بدأت جولتنا من
مكان إلى آخر، ننبش هنا وهناك، تدخل بين أظافرنا حبيبات الرمل
ويضربنا الحصى ويا للاستمتاع الذي نشعر به ونحن نبحث، وأخيراً
وجد يوسف درهماً قديماً قد غطاه الصدأ صرخ صرخته الضاحكة
وأتى إلي ليريني إياهُ، بأصابعه الممدودة والمتفرقة عن بعضها احتل
الدرهم وسط يده.
وطبعاً وكعادتي الأزلية، وشخصيتي المعتادة، أخذته منه وحجتي أنني
سأحفظه له! ولكن الحقيقة كانت غير ذلك!
وأمرته بالبحث ثانية لعلنا نجد المزيد
ويا لفرحة يوسف وحبه لي، لم يمانع إنما قام بالانطلاق ثانية إلى البحث
لا أدري إن كان ذلك خوفاً مني أو رهبة أم أنه الحب!
بين الأتربة والحصى، ومع قطرات العرق المتساقطة من على جبيني،
كان الشارع أمامنا لا يخلو من المارة، ولا يخلو من أشخاص نعرفهم
ويعرفوننا
كنتُ أجلس على التراب، أحفر حفرة في التراب ثم أضع قدماي فيها فأدفنهما ويوسف يفعل نفس الفعل!
تسلق الخوف إلى حنجرتي، امتص متعتي، سلب مني حاستي،
ارتعشت قدماي ونحن نرمي كل شيء من أيدينا، ونحبس أنفاسنا
نهرول ولا نرى سوى طريق الهروب والألوان التي اختلطت
ببعضها، اختبأنا وراء الباب الذي أمسكت
بمقبضه وأمسك يوسف بيدي عليه
نهش الرعب داخلي، قتل كل ذرة من الأمان فيّ، وحطمني الخوف،
يجب أن لا يرانا!
ويجب أن لا نكتشف!
إن عرف بوجودنا فقد يقتلنا!
أصابعي تكتم على فمي وأنا أرى من رأيته في تلك الليلة، يمشي وجثته
الضخمة تتمايل معه وظله يتبعه، ولون بشرته يكاد يميل إلى الرمادي
وعيونه الصغيرة يحيطها السواد ويسكنها الاحمرار وفمه عبوس، كان
يمشي بين الأحياء السكنية من دون خوف، ينظر إلى داخل البيوت
وكأنه يبحث عن ضالته، دقائق ظننتها طويلة واختفى فيها أخيراً.
جلست وراء الباب في داخل المنزل وأوراق شجرة السدر تتراقص
فوقنا وتظلنا، أفكاري تتساقط كما يتساقط الورق أمامي، وصوت
زقزقة العصافير ينحشر داخل رأسي، والخوف يتضاءل في داخلي إلى
أن ينحسر تماماً.
يوسف الجالس بجانبي يتحدث: «ياسمينة إنه مخيف فكل الأطفال
يتحدثون عنه، يقولون إنه رجل سيئ، كثيراً ما يهدد بالقتل، أو «صمت
قليلاً وبصوت هامس أكمل: «إنه يتحرش بالأطفال لقد أخبرني أحد
أصدقائي بذلك، الكل يقولون إنه يجب أن لا نقترب منه، أو نجيبه إذا
نادانا »
عند هذه النقطة توقف كل شيء، وكأن ذكرياتي التي نسيتها قد
استعدتها ثانية، أخذتني الرهبة عندما مرت أطياف ذكريات حفل
الزواج وذلك الرجل الذي رأيته للتو كان نفسه المجرم، وذكرياتي مع
يوسف وأمي قفزت وتناثرت حولي، حتى لم يبقَ أي فراغ للاستيعاب،
بعينين متسعتين مندهشتين نظرت حولي، إلى ظل الشجرة المغطي
لمساحة واسعة أمامي، لصوت الهواء الذي يعبث بأغصانها وأوراقها،
ولحرارة الجو ورطوبته التي لامست بشرتي وذابت في حناياها، وإلى
الممر الحجري الذي يحيط التراب جوانبه ويسير بشكل طولي إلى داخل
المنزل من بين الأشجار الصغيرة والكبيرة، إلى كل تلك الضوضاء
والمشاهد الواضحة
كنت أحاول الاستيقاظ من هذا الحلم
حدقت بيوسف الجالس بجواري، تأملت وجهه الصغير البيضوي،
كان نسخة مصغرة عن يوسف الكبير، يوسف الذي أعاد كل مشاعري
إلي، وجعلني أستشعر عمق اللحظة وانسيابها، قلت له بصوت مخنوق: «يوسف أهذا حلم، إن
كان حلماً فلماذا يراودني كثيراً، ولمَ يكون بهذا الوضوح والحقيقة، ولماذا
أشعر بهذا الألم، ولم ألم صدري لا يختفي في الحلم! .»
يحدق يوسف بي، عيناه العسليتان تلمعان وتعبران عن استغراب كبير،
وكأنهما تحاولان فهم ما أقوله، وقفت من جواره وسرت خطوة واحدة
تبعتها ثانية وثالثة، ووقفت وكأنني أعيد نفسي إلي، أستيقظ من الذي
أنا فيه، درت حول نفسي إلى أن توقفت مقابل يوسف وقلت له في
فرحة قفزت عالياً: «يوسف أنا لا أصدق أنني أراك، ولا أصدق أنني
معك في هذه اللحظة، فكم كنت أود أن تعاد كل ذكرياتي معك مراراً
وتكراراً، لكي أخبرك أنني اشتقت إليك »
سكن الاستغراب وجه يوسف في حيرة وصدمة، صدمة من حديثي
غير المتوقع، وحيرة من أسلوبي المناقض لما كنت عليه سابقاً، يعبث
الهواء بخصلات شعري الطويلة فتتبعثر، فأستنشق رائحة الأزهار
والأوراق المحيطة بي، كلها تعيد لي رائحة ذلك الزمن، بسعادة لا
تضاهيها سعادة ، تركت يوسف وانطلقت أجري إلى داخل المنزل،
أقفز بقدمين حافيتين تحت ظل شجرة الغاف، وأدور حول نفسي،
وكأن الحياة قد دبت فيّ واختفى فزعي عني، في تلك اللحظة وددت
بشوق عيش حياتي كما أريد، وعيش كل لحظة فيها هناك مع أخواتي
وأمي وحتى أبي، ولكن كان هناك حياة أخرى تناديني، نادتني للعودة
إليها
واختفى كل شيءٍ فجأة، واستيقظتً وكأنني أهوي من أعلى جبل.
كُنت في مكاني متشنجة، تحت لحافي أضم جسمي إليّ
اُبعدت اللحاف عني من شدة الحرارة، ووصلني صوت خولة القريب
مني: «لقد كنتِ تتحدثين كثيراً أثناء نومك »
جلست على حافة سريري، عدلتُ من جلستي وجمعتُ الخصلات
الساقطة من شعري عن وجهي وقلت لاهثة دون وعي: «ما
الذي قلته! »
رفعت خولة وجهها عن كتاب كانت تقرؤهُ، وابتسمت حتى وصلت
إلى مرحلة الضحك: «لغة مريخية لم أفهم منها شيئاً »
مع أنني كنت متعكرة المزاج، وضائعة الأفكار إلا أنني ضحكت
بسببها
أحب خولة
خولة لم تكن شخصاً بعيداً عني ولا قريباً، كانت في المنتصف تقف
بل إنها الآن هي المقربة مني من بين كل المحيطين بي
ربما لأنها قاست مثلي من جهة أبي وليس أمي
فلقد كانت تعامل مثلي وأسوأ، فهي كانت تثير غضب أبي وحنقه بأي
تصرف تفعله
تجربتها مع أبي ولدت لديها إحساساً مشتركاً بمعاناتي بخلاف أختيّ
الكبيرتين سارة ولطيفة اللتين تكبراننا كثيراً وتختلفان عنا جذريّاً.
عندما كنا في المراهقة كانت خولة الأحب إلى قلب أمي من بيننا، وكان
هذا واضحاً جدّاً
فلقد قالت لي مرة وبعد أن لاحظت تصرفات أمي معي: «لمَ أمي
تعاملك بهذه الطريقة! »
خولة كانت تشعر حيال أمي كما أشعر أنا!
وأن ليس هنالك إنصاف في المعاملة فيما بيننا
كنتُ لا أطيق خولة في فترة المراهقة، وأفتعل معها الشجار بأي وسيلة
كانت
فعندما كانت خولة تستفزني، كنت أهم بالعراك معها
فتسمعنا أمي وتقف في المنتصف تنزع بعضنا عن بعض
فكل شيء أفعله لا يرى، ولكن ولو لم تفعل خولة شيئاً يقال إنها
فعلت، وفعلت!
***

شبيهة القمر 01-07-20 08:57 AM

رد: خطوات على الجمر
 
ياسمين والعيش باللاوعي .. حياتها متصله بالماضي كأنه مغناطيس ماتقدر تتخلص منه ..كثره الضغوط النفسيه خلتها اسيره الماضي ويمكن الندم احد اسبابها .. العقل الباطن هو مايسيرها .. الحنين .. الشوق .. الندم ..والاحتياج ..جميعهم تكبلها بالماضي ..
متى تتخلص ياسمين من هذا الاسر ..؟؟؟

مبددددعه ياغلاي معك للنهايه بإذن الله..

سميتكم غلآي 03-07-20 06:53 PM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3730517)
ياسمين والعيش باللاوعي .. حياتها متصله بالماضي كأنه مغناطيس ماتقدر تتخلص منه ..كثره الضغوط النفسيه خلتها اسيره الماضي ويمكن الندم احد اسبابها .. العقل الباطن هو مايسيرها .. الحنين .. الشوق .. الندم ..والاحتياج ..جميعهم تكبلها بالماضي ..
متى تتخلص ياسمين من هذا الاسر ..؟؟؟

مبددددعه ياغلاي معك للنهايه بإذن الله..

شكرا جدا على ردودج وتشجيعيج لي.... ياسمين اسيرة فمتى تتخلص من أسرها! جواب هذا السؤال يأتي إن شاء الله في الفصول القادمة

سميتكم غلآي 03-07-20 08:24 PM

رد: خطوات على الجمر
 
لحظات مبتورة

منذ ذلك الموقف، وأنا لا أزالُ في حيرة من أمري، أكاد أجزم أني أتوهم
الأمر، بل وأكذبه، لست أستوعبه ولا أجدُ لهُ حلاً !
إنه مرعب بقدر ما أمر به عندما أستيقظ منه، أما عندما أكون فيه فيكون
بغاية السلاسة والسهولة والروعة
وكأنه حلمي الذي حلمت به منذ زمن بعيد، ويدي تحاول
الوصول إليه بصعوبة، والآن تحقق عندما يئست منه.
أصبح الشرود رفيقي في أيامي هذه، وأمي كانت مغتاظة من شرودي المبالغ
فيه، وصمتي الطويل، وعملي الذي لا أتقنه كما تراه هي متقناً!
غضبت مرة ونحن في غرفة المعيشة عندما كان فيها يوسف وخالتي
وأختي لطيفة التي أتت للزيارة، أمي أرسلتني لإحضار غرضٍ لها،
وكالعادة لم أجد الذي طلبته مني، وبصوت منخفض لا يسمعه إلا أمي،
وبحذر شديد كي لا يسمعني يوسف قلت: «لقد بحثت عنه ولم أجدهُ »
قفز الغضب إلى وجه أمي، أغضبها همسي إلى جانب العادة
التي تعرفها جيداً وهي أن لا وجود لشيء تطلبه مني عندما أبحث عنه
أنا.
بغضب شديد، تفجر من أمي التي كانت تخبأ في داخلها الكثير من
المشاعر السلبية، قالت لي وأمام الجميع: «أين ذهب عقلكِ، أقسم
أنك لم تبحثي جيداً، أو لم تبحثي أساساً، فعقلك مشغول بأشياء لا
فائدة منها، لقد سئمت منكِ ومن كل شيء، أنا المخطئة التي أمرتكِ
بهذا »
سقطت في بحر من الصدمة والإحراج، لم أكن أتوقع أن يكون ردها
بهذا السوء، لم تكن ردودها سيئة إلى هذه الدرجة ولم تكن تؤثر بي كما
الآن، عيناي تنتقلان بين الجالسين، إلى خالتي التي نظرت
بلا مبالاة، وإلى لطيفة التي تعكر وجهها واحرج وهي ترفع يدها محاولة اعطاء امي اعذارها لكي لا أبالي، أما يوسف
فلقد كانت نظراته جامدة خالية من المشاعر وتنظر إليّ، تدخل إلى
عينيّ، تعبر خلاياي، تبعثر ما بقي في قلبي من مشاعر، لم أرد ولم يكن
ذلك من عادتي!
لأنني أشعر أن هناك ثغرة واسعة فيما بيننا ولن تملأ أبداً، وأن الكلمات
لن تحل الأمور إنما ستجعلها أسوأ، فأنا أيقنت أن الجدال لا يرمم
المشاعر.
وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن كل ذلك الإحباط لا وجود له، عصرت
كل شيء تحت أضلعي وخنقت مشاعري، جلست بينهم شاردة
الذهن، أسمع حواراتهم وضحكاتهم المتقطعة، وأشاهد انضمام
باقي أفراد العائلة، من بين كل تلك الكلمات المنسابة في الهواء، وفي
لحظة سكون قصير، نطق يوسف الذي لا يزال يقابلني وعيناه
مصوبتان نحوي، لا لم تكن نحوي إنما أنا من كان يسترق النظر إليه
طوال الوقت، خرجت كلماته: «لقد قررت السفر » واستقرت أمامي،
شهقت من هول المفاجأة، اندفعت شهقتي علناً ولحقتها الحروف
المتقطعة: «ماذا!! »
وقعت نظراته على صوتي العالي والمسموع، وتشكلت التجاعيد حول
حاجبيه لثانية وعادت في الثانية الأخرى إلى حالتها الطبيعية، قال
وكأنه يجيب على تعجبي: «لأكمل دراستي » صمت قليلاً وكأنه يمتص
دهشة الجميع ويجيب على أسئلتهم قبل خروجها، أكمل قبل أن ينطق
أحدٌ آخر غيره: «المعهد قدم لي منحة والدولة تكفلت بكل المصاريف »
طوال تلك اللحظات، التي كانت بين مد وجذب، وبين صمت
وحديث، كنتُ أحاول سحق الألم الذي بدأ يزحف إلى صدري،
وتجميع مشاعري المتبعثرة، وإسكات الصراخ الذي في داخلي ونزعه
لكيلا أحزن.
لم تتقبل أمي ولا خالتي الأمر في البداية، حاول يوسف إقناعهما
بأسلوبه، ذلك الأسلوب المقنع، العقلاني الذي يجعلك تميل إليه رغماً
عنك، اقتنعتا في النهاية وبعد جدال طويل.
كنت أجلس أستمع إلى نقاشاتهم في صمت وعزلة، أرى أمي التي
شكلت ابتسامة صغيرة في آخر المطاف، وخالتي التي ذرفت بضع
دمعات، وإلى يوسف الذي كان جامداً صامتاً، لا ... فهو لم يكن
جامداً بالنسبة إليّ إنما كان وجهه مليئاً بالمشاعر الفاضحة، لأنني
وبسبب مراقبتي له، حفظت كل تفاصيله الدقيقة وفهمتها، فيوسف
قد كشف الكثير من المشاعر أمامي وتجرد من بعض أسراره.
كنت أنظر إلى حضني، أطقطق أصابعي، قدمي تتحرك تعبيراً عن نافد الصبر والتوتر، قررت الوقوف فجأة، مشيت بخطوات بطيئة وبهدوء لم يشعر به أحد، وخرجت مقفلة الباب ورائي، لدقائق حدقت أمامي وكلمات يوسف تتردد في عقلي، كدت استند على الباب وأنا ابتلعت جرعة من الهواء، أشعر بالاختناق والتعب! تركت الباب ورائي، حدثت نفسي وأنا أتلمس طريقي إلى أقرب مقعد لي،
بأنه ليس هنالك داعٍ للحزن، وأن هذه الآلام التي أشعر بها في صدري مؤقتة وسوف تزول!
الألم يعبث بمشاعري والحزن يحبسني في دائرته، انتابني الحنين
ونظراتي تسقط على ما خلف أحد أبواب الغرف المفتوحة، في الماضي
كنت أختبئ خلفه، أعبر عن مشاعري فيه من دون أن يشعر بي أحد،
وأبكي حتى أشعر أنني تحررت من قيود حزني، أما الآن فلا أظن أن
تلك الزاوية تناسبني أو تخفيني! لكي أختفي خلفها وأعبر فيها!
الجلوس على مقعد في زاوية مقابلة للباب الخلفي الخارجي، كان ملاذي إلى أن يخرج الجميع وأرى يوسف وحيداً
كان أملي هو أن أستطيع محادثته بأقصى سرعة ممكنة، وأن يتحقق
وجوده وحيداً وأن لا يخرج قبلهم
وتحقق ما أردتهُ!
راقبتهم من تلك الزاوية المظلمة البعيدة عن أنظارهم واحداً تلو
الآخر، وبعد أن خرجوا جميعاً، مشيت بخطوات سريعة مترددة إلى
الباب
كنت حائرة في صياغة الكلمات المناسبة وفي طرح مشاعري إليه،
وقبل أن أصل إلى الباب، فُتح وخرج يوسف منه، كان يستعد
لإعطائي ظهره، وكادت خطواته تهرب بعيداً عني فهي كانت أسرع
مني وأوثق
أخرجتُ صوتاً لم يكن مسموعاً بالنسبة إليّ، كان صوتاً متردداً هزيلاً،
لأخرج آخر أقوى منه بكثير: «يوسف » وتبعته بأقوى منه: «لا تذهب »
توقف في الحال، وبدل اتجاهه بشكل عكسي ونظر حوله بتعقيدة خفيفة
بين حاجبيه وكأنه يبحث عني، اقتربت منه فتركزت عيناه عليّ،
وانعكس لونهما العسلي ليذكرني بالصغير يوسف فأوقفت خطواتي
مترددة، وعندها أقترب مني وهمس: «كنت أنتظركِ »
اعتراني الخجل
إحساس من التردد ابتلعني، فلم أخرج ولا كلمة، إنما وقفت أنتظر أن
يبدأ هو أولاً
امتلأ وجهه بابتسامته التي يرسمها كلما رآني أو كلما كان في الماضي
وبوجهه الصغير يرى ياسمين، بهجته وضحت بين تقاسيمه، وحل
الهدوء على وجهه الذي كان مختنقاً سابقاً، أعاد خطواته إلى داخل
الصالة، سرتُ وراءه، أنظم نبضات قلبي، أبحث عن
الكلمات التي نظمتها لقولها أمامه دون تردد.
سألني سؤالاً لم يخطر على بالي عندما جلس قريباً من مكان وقوفي:
«أكنتِ معنا، أم لم تكوني؟ حقيقة أنا حائر بشأنكِ دائماً، فلستُ أعلم
من أنتِ؟ »
رمشت عيناي بسرعة، ازداد توتري في لحظة إنهائه لجملته، بل
أحسست بالخوف من هذه اللحظة، لم أحب سؤالهُ ولم أُرد منه أن
يتذكره، فقط أريده أن ينساه، فأنا لا أريد الكذب عليه ولا كشف
الحقيقة، لأنه في كشف الحقيقة سيتخلى يوسف عني، سينبذني
ويكرهني، فأنا لا أريد ذلك بعد ما عدنا كما كنا، وتعلقت أنا به.
لم أجبه، قلت في تغيير سريع وجريء لمجرى الحديث: «سمعت أنك
تنوي السفر أهذا صحيح؟ »
تحركت عيناه لتنظرا إليّ نظرة طويلة عميقة، هكذا أنا أتخيل نظرات
يوسف إلي، وكأنها نظرات المبصر التي تكشف حقيقتي في الحال،
تعرف مشاعري من رمشة عين، وتبدل حالي إلى توتر عميق، توتر لم
يسعف لساني بقطع ذلك الصمت وإنهائه في الحال.
قاطع أفكاري: «هل يمكنني الحديث معكِ قليلاً في بعض الأمور؟ »
لان حاجباه، ارتخت تقاسيمه، عبرت وجهه لمحة هدوء واسترخاء،
وكأنه ينبش أفكاره ليسرح فيها
كنت على هدوئي، لم أجبه مباشرة، وبعد تردد بسيط أجبته ب « نعم
وبالتأكيد » وأنا خائفة من كل كلمة قد تخرج من فمه، أخاف الخوض
في موضوع يخصني أنا، ولكن كان هنالك شوق إلى الخوض في
الأحاديث مع يوسف، فيوسف يعيد نفسي إلي، ينسيني كل الذكريات
الحزينة ويعيد السعيدة فقط.
عيناي كانتا تراقبانه وخطواتي ذاهبة إلى الجهة المقابلة، جلست على
المقعد المقابل والبعيد عنه بخمس خطوات، جلست متوترة
وعيناي تقابلان عينيه، بعد لحظة قصيرة أبعد نظراته بعيداً عني،
وكأنه بها يخفي مشاعر رأيتها مراراً وفي مواقف عديدة، تلك المشاعر
التي أيقظت ألم صدري، وشقته إلى نصفين، ودمرت مشاعري التي
كانت متلهفة ومحبة، مشاعري التي تتوق إلى الحديث معه،
أخفضت نظراتي التمعلقة به وطرحتها إلى حجري من الصدمة
ما لذكرياتي الموجودة في ذاكرته مريضة بهذا الشكل
لمَ لا يتخلص منها!
لمَ أتت الآن إليه وفي وجودي!
تجمع الاحمرار في وجهي وارتفعت الغصة لتخنقني، كدت أصيح عليه
وأخبره أنني أنا ياسمين التي يكرهها، لعله بهذا يكف عن كرهها إذا
علم أنها أنا!
نطق وأنا أقابله، وتعابيري عكس تعابيره التي لانت وزال عنها
توترها وسرحانها: «هل يمكن أن يحصل هذا، أن يكون لديك الكثير من
الذكريات غير المحببة، ولكن وفجأة في الصباح أو في أوقات غريبة
تستيقظ منها، تتساقط عليك ذكريات جميلة عكس تلك، أحداث
تتذكرها لأول مرة، تمر عليك وكأنها حلم جميل »
وكأنها غيوم وانقشعت، كلمات يوسف أذهبت كل تلك الأحاسيس
التي كانت تتضارب في داخلي، كل ذلك الألم والقهر رحل لتحل
محله السكينة، كلماته كانت مفهومة بالنسبة لي، وكالسحر أسكرتني،
جعلت داخلي ينبض بعنف، يتذكر كل تلك المواقف والأحداث
وحتى الكلمات واللمسات، في تلك اللحظة أيقنت أن كل تلك
الأحداث ليست بحلم أو تخيلات، إنما هي حقيقة كما عشتها.
لم أستطع إمساك كل تلك المشاعر التي تفجرت وتناثرت في كل جزء
مني، جرت في عروقي وضُخت إلى كل عضو من أعضاء جسمي،
وقلبي كان من أكثر الأعضاء تهيجاً.
نطقت في تأثر شديد: «نعم، أظنه ممكناً، هنالك الكثير من الذكريات
العميقة والتي لا تنسى، تتجدد في كل حين بل وتكون بصورة أجمل
كلما تذكرتها، وأيضاً يمكنك تغييرها إلى الأفضل، نعم من الممكن أن
يحصل هذا »
بعد موجة المشاعر تلك نظرت إلى يوسف الذي لم يتغير من تعابيره
شيء، لقد كان بعيداً وأنا كنت أبعد عنه!
واستيقظت من أفكاري المستغرقة في الأوهام، أوهام أنني من الممكن
أن أغير وأمحو الكثير!
فيوسف كما هو يكرهني، وأنا ما زلت نفسي ولم يتغير شيءٌ من ذكرياتي
أو ماضيّ
إنني أتخيل حدوث ما يقوله يوسف، من الممكن أنه يقصد شيئاً لا
يتعلق بي، لا يمكن أن يحدث ما أتخيله، فلا يمكن أن يتغير شيءٌ كان
في الماضي!
الواقع والحياة لا يوجد فيهما مثل هذه المعاني!
بعد سكوتي القصير أكمل يوسف بابتسامة، وقد تغيرت تعابيره إلى
أخرى غير مفهومة بالنسبة لشخصي الغارق في أفكاره اللامتناهية:
«أعتذر على عدم إخباركِ بسفري من قبل، لقد حدثت الكثير من
الأمور، وكانت هناك خطط أيضاً لم أفكر فيها سابقاً، لا أعلم مقدار
المدة التي سأقضيها هناك أهي سنة أم أكثر، وأيضاً هنالك شيء أود
إخباركِ به »
توقف للحظات ناظراً إلى وجهي الذي يلاحظه هو فقط، وإلى تعابيري
التي تكشف أكثر مما ينبغي
الحمد لله، أنه لا يرى كل ما أحاول إخفاءه، لأنني أخجل من انكشاف
مشاعري أمامه
ارتفع وجهه وعيناه كانتا وكأنهما ترسلان مشاعره
التي شتتت كل مشاعري وأنستني كل أفكاري
أكمل بتوتر ظهر على صوته: «أطلب منك انتظاري »
خفق قلبي وأنا أسمع باقي جملته: «لا أعلم كيف أوضح المعنى، ولكن
في الحقيقة أنا أريد الارتباط بكِ » شد على كلماته الأخيرة.
بصدمة حبست نفسي، وظللت أحدق به مدهوشة مما قاله، ثوانٍ مرت
وأنا على وضعيتي، أعقد حاجبيّ مرة، وأتنفس بعمق مرة أخرى،
أحاول إخراج كلمة لكي تجر أخرى ولكن لم أستطع لأنه ليس هنالك
مجال للاستيعاب!
هل يمكن أن يطلب يوسف مني هذا الطلب!
أهو حلم أم حقيقة!
هو الجنون بعينه أن يفكر بي بهذه الطريقة، أن يفكر بالزواج مني!
وأي زواج هذا يحصل بيننا!
فالزواج منه محض خيال، لا يتخيل أيضاً!
ابعدت عيناي عنه أفكر لعلي أجمع أفكاري ثم اعدتهما إليه، رأيتُ وجهه المليء
بالتعابير المختلفة، التوتر الذي سكن عينيه والخجل الذي ملأ لون
وجهه، التغير الذي أصابه بعد ثانية، الألم ملأ وجهه وعينيه،
إحساس أنه غير مرغوب فيه انبعث منه، وأن إعاقته هي سبب صمتي
هذا، الإحساس الذي أوصله لي جعلني أتدارك الأمر وأقول: «لقد
صدمتني! »
لأكمل وأنا أهمس: «آسفة، ولكن لم أستوعب ما تقول، عذراً أيمكنك
منحي بعض الوقت لأفكر قليلاً » أمسكت يدايَ طرف المقعد الذي
أجلس عليه، لكيلا يبتلعني وليمسكني عن السقوط، وأنا أهرب
بنظراتي منه، كنت خائفة من افتضاح أمر نبضات قلبي التي تدق في
أذني، والاحمرار الذي علا وجهي وأحرقه.
ندمت على كل كلمة خرجت مني، خوفاً من فهمه لها بشكل خاطئ،
ولكن عندما عادت أخيراً إليه بتردد، رأيت ابتسامته التي
سطعت في بفرح وأشرق نور وجهه الذي كان خافتاً، وتقوس
حاجباه الكثيفان وكأنه أعجبهُ جوابي، بل أظن أنه قد فهمه بشكل
خاطئ!
تداخلت مشاعري ببعضها بين خجل وخوف
كنت أشعر أنني أتقلص وأتعرق بغزارة
لم أعلم ما الذي عليّ قوله أيضاً
لم أكن أريد إعطاء آمال زائفة، أو الكذب!
ولكن هنالك بداخل قلبي وبين جزئياته النابضة، هنالك شيء لا
أعرفه، شيءٌ يؤلمني في هذه اللحظة، مشاعر لا أستطيع تفسيرها،
ولكن أنا متيقنة أن هذه المشاعر ليوسف، لأنها الآن زادت، بعد كلماته
أصبحت أقوى وأعمق ونبضها عالٍ وأوضح.
بعد تلك الكلمات لم يكن هنالك المزيد، وكان الصمت هو الخيار
الأفضل بالنسبة لنا، والابتعاد بهدوء كان قرار نهاية الجلسة.
صعدت السلم ذاهبة إلى غرفتي، أحدق إلى قدميّ المنتعلتين لحذاء بيتي أبيض، وإلى اللون الأبيض الذي يعيد نفسه في كل مرة، لعلي أشتت أفكاري عن يوسف ولا أشعر أنني ارتبكت خطأً بحقه!
لمحت خولة تقف في الأعلى، أكملت مسيرتي إلى هناك، عندما حاذيتها كانت لا تزال ساكنة في مكانها وكأنها تنتظرني، نظرت إليها مستفسرة، وابتسمت في توتر ما زال يسكنني.
كانت خولة تضم ذراعيها إلى صدرها، تشد في آن وترخي في آخر،
نظرت إليّ بحدة وعيون دامعة سكنها الاحمرار،
استغربت تعابيرها وعقدت حاجبيّ استنكاراً لغضبها المفضوح
أمسكت يدها معصمي بشدة، وبحاجبين معقودين وعينين غاضبتين
نطقت: «أريد الحديث معكِ! » هززت رأسي بنعم وأنا أبعد يدي عنها
وأتبعها إلى غرفتنا.
في الغرفة وبعد أن أغلقت الباب بقوة، اقتربت خطواتها ناحيتي إلى أن
توقفت أمامي مباشرة، لا تزال تمسك طرفيها، تغرس أصابعها في أكمامها تحدثت في وجهي بأنفاس مسموعة وبوجه غاص في
انفعالاته: «أنتِ مجنونة، حقّاً أنتِ مجنونة! »
غاص قلبي تحت أضلعي لقصد خولة وعيناي معلقتان بوجهها الذي
تفجرت فيه حمرة الغضب
أكملت بسرعة وهي ترتجف: «أخبريني ما الذي تنوين فعله! أو ما
الذي يحدث بينكما بالضبط! وكيف يمكن أن تكونا بهذا القرب!
وكيف ليوسف أن يطرح عليكِ مثل هذا الطلب؟ أخبريني أفقدتِ
عقلكِ »
ابتلعت ريقها وفتحت فمها لتكمل وهي تنظر إلى وجهي الذي
تساقطت ألوانه وجفت مشاعره وانهارت: «لست أفهم ما يجري حقّاً!
لقد كذبت عينيّ وأذنيّ من المرة الأولى ولكن تلتها النظرات والكلمات،
كيف لي أن أفسر إلا أن هناك شيئاً غريباً لا يستوعب يحدث! »
تخلت عني مشاعري، وأصاب التبلد كل أجزاء جسمي، لم أستطع
النظر إلى خولة، ولم أستطع الرد أو الدفاع، هربت بخطواتي إلى الوراء،
ولكن أمسكت خولة ذراعي وهزتني، لم أنظر إليها فالتوتر قد أرعش
جسدي وشل لساني ، يئست من صمتي فقالت في تهديد: «أنا متيقنة
أنه لا يعرف من تكونين، لأنني استنتجتُ ذلك من حديثكما » قفزت
نظراتي إليها في فزع، وهززت رأسي في رفض وكأنني أنفي ما تقوله،
أكملت خولة بنظرة حادة قلصت من حجم عينيها المقهورتين، وانفرج
طرفا شفتيها قليلاً لتكمل: «أظن أنه يجب أن أخبره من أنتِ، فلو عرف
فلا أظنه قد يسامحكِ »
زاد التبلد حتى وصل إلى قلبي، وبوجه هربت منه ألوانه، واهتزت
مشاعره، رفعت يدي إلى الأعلى لأتحرر من يدها وأتركها عابسة الوجه،
وأضرب الأرض بقدمي وأتجاوزها ذاهبة إلى داخل الغرفة وإلى العمق
إلى مكان سريري قرب الحائط، والتفت إليها ناطقة بصوت متألم اهتز
من كلماتها: «من أنتِ لكي تحكمي أو تقولي لي هذا الكلام؟ أنتِ لم
تشهدي شيئاً من الأساس، وثانياً هو شيء خاص بيني وبين يوسف،
وليس لي يد فيه، لست أنا من أقترب منه، هو من بدأ كل شيء، وأنا لم
أفكر فيه مثلما يفكر هو فيّ »
صددتُ عنها وعلى سريري جلست منهارة، لم أشعر بها إلا وهي
فوق رأسي ويداها على خصرها، تصاعد غضبي لأرفع وجهي إليها
وأتفاجأ باختفاء كل آثار الغضب وقد حل محله الحزن، كان وجهها
محمرّاً وعيناها تحبسان فيضاناً من الدموع ينذر بالسقوط، قبل أن أنطق
قالت هي: «لقد صدمتني، أنتِ تلعبين بمشاعر يوسف! أنت تخدعينه،
لمَ لم تخبريه من أنتِ من البداية، لماذا! »
فضلت الصمت، لأنني في هذه مذنبة، ولأنه كان شيئاً خارجاً عن
السيطرة بالنسبة إلي، شيئاً لم أستطع التخلي عنه.
وأنا جالسة في مكاني مقابلة لخولة التي ما زالت على ما هي عليه تنتظر
مني تفسيراً، أسقطت يديها عن خصرها وابتعدت، قائلة بعد أن
فقدت الأمل في حديثي: «أنتِ حقيرة! يوسف أخبرني شيئاً عنكِ
وأنا بالطبع مثله لم أكن أعرف من أنتِ، وعلى الأكيد أنتِ تعرفين أنني
شخص مقرب منه منذ الطفولة، وأيضاً هو أخي يا جاهلة، أخي الذي
عشنا طفولتنا وشبابنا معه، هو أخ بالنسبة لنا »
عند هذه النقطة وقفت، وانعقد بين حاجبيّ، ونطقت بغضب: «إنه
ليس أخي! أمي لم ترضعه، وليس هناك أي صلة قرابة بيننا »
اقتربت خولة مني ثانية، وقالت بسخرية: «ولكنه ابن خالتي
بالرضاعة، وأمي من ربته »
شعرت بالغرفة تضيق بي، خولة تحاول محاصرتي ومضاعفة
شعوري بالذنب، تريد اعترافاً صريحاً مني، تريد هزي وتذكيري
أنني مجرد شخص غير مرغوب به لدى يوسف، وأنني دخلت من
النافذة.
ما زالت نظرات خولة تنفذ إلى داخلي وتقيدني، كانت وكأنها تحاول
قراءة تلك الأسطر التي لا تكف عن المضي داخلي، لم يرتفع صوتي إنما
انخفض وأنا أحاول تصنع أن لا شيء قد تأثر فيّ: «ولكنه ليس أخي،
ليس محرماً لي ولا لك إنما محرم لأمي وخالتي وبناتها فقط، ولا يمكنك
تغيير هذه الحقائق »
هذه المرة فضلت خولة الصمت بدلاً عني، وكأنها يئست من محاولة
مجادلتي أو كشف أسراري.
ذهبت خولة إلى ناحية سريرها، بعثرت أغراضها لتعيد ترتيبها ثانية،
كانت وفي كل دقيقة تعيد النظر إلي في تهديد، كانت وكأنها تريد
الصراخ عليّ ولعني، أو فتح الباب والذهاب إلى يوسف والإفصاح
عما اكتشفته.
وأنا لا أزال محاصرة بين كلماتها، محبوسة بين أفكاري التي لا تقودني إلى
أي منفذ، لا يمكنها أن تكشفني بهذه الطريقة، سيكون موقفي بشعاً،
ولن يحدثني يوسف مرة أخرى وسيعرفني من صوتي، وسيكرهني،
وأنا لن أطيق ذلك، يجب أن لا يعرف عني شيئاً، أريد أن أكون مجرد
ذكرى عندما نفترق وليس شخصاً مخادعاً لعب لعبة قذرة.
لا أزال على وقفتي، وفي لحظة يأس وحزن، تقدمت خطواتي المترددة إلى
خولة، التي كانت جالسة ورأسها منكوس على كومة الملابس أمامها.
وقفت وورائي النافذة المفتوحة التي اهتز قماشها الزهري بفعل الهواء،
أرسلت نظراتي المترجية إليها لأقول: «خولة أرجوكِ لا تقولي ليوسف
شيئاً »
لم تجبني، وظل رأسها منكوساً، علا صوتي في قهر وأنا أدخل أصابعي
بين شعري: «خولة أرجوكِ أتسمعينني »
رفعت خولة وجهها الخالي من التعابير نحوي، لتقف وتهتز بعض
الخصلات الحرة من شعرها الطويل بفعل الهواء، أجابتني وهي تهز
رأسها في يأس مني: «سألتك عدة أسئلة ولم أجد أية أجوبة لديكِ،
وأيضاً أعطيتكِ أجوبتي كاملة، وأخبرتك بكل مشاعري »
رفعت يديّ أمامي في عصبية، وقلت لها وأنا أترجاها أن تكف: «رجاءً
خولة »
وفي لحظة ضعف وانكسار، تجمعت دموعي في عينيّ، وفاضت
مشاعري كالفيضان وانسابت من قلبي إلى لساني لأقول: «خولة أحقّاً
لا تعرفين ما يعني يوسف لي! الكل قد نسي من هو بالنسبة لي ولكن أنا
لم أنسَ، لم أنسَ أبداً أقرب شخص إلى قلبي، لقد كان صديق طفولتي،
وكان الشخص الوحيد الذي يحبني في طفولتي، كان يوسف يقدم لي
كل شيء لديه، وكان يفكر بي قبل الكل، يوسف لم يكن مجرد أخ أو
صديق في ذلك الوقت كان أكبر من ذلك بكثير، ولن يفهم أحدٌ ذلك
أبداً »
صمت قصير استمر لثوانٍ، كنت فيه أحبس دموعي، أمنع نفسي من
البكاء بشدة، أمنع شهقاتي من الخروج بعد كلماتي وأنظر إلى خولة التي
لم تحرك كلماتي فيها ساكناً
زمت شفتيها وعيناها ما زالتا تنظران إلي ببرود وهي تقول: «دعكِ من
الماضي، وأخبريني إلى أين وصلت علاقتكما بالضبط »
أصابتني الدهشة إلى جانب شعور بشع بالندم، تمنيت لو أنني لم أنطق
ولم أخبرها بتلك المشاعر التي خرجت بنشوة وانطفأت وتغيرت
إلى إعصار من الغضب العميق لأقول لها بصوت صارخ أطفأ كل
تعابيرها: «تبّاً لكِ، هل أنت بليدة! ألا تشعرين!، لم نصل إلى أي علاقة، ما
بال عقلك النتن يصور لكِ أموراً تافهة، وهل تظنين أنني قد أصل إلى
ما وصل إليه عقلكِ »
تحركت بخطوات سريعة ثائرة غاضبة، وأنا أتنفس بسرعة، أحاول
تهدئة نفسي، أمسك نفسي من افتعال شجار جسدي معها، والتفت
إلى خولة التي تقف في مكانها قرب النافذة وقد رحل عنها الغضب
وامتلأ وجهها بالتردد والحيرة.
قلت بصوت مرتفع وأنا أشد على كلماتي: «علاقتي به مثل علاقتكِ
أنتِ به، ألا تتكلمين معه؟ ألا تردين السلام؟ ألا تضحكين وتمزحين؟
أم هو حلال عليكِ وحرام عليّ، ما بال تفكيركِ وظنكِ بي! أم لأنني
من فعلت بيوسف فعلاً لا يغتفر، فأصبح لا يحق لي الحديث معه! .»
لان حاجبا خولة، تسرب إلى وجهها إحساس بالندم، غطت
وجهها خصلات شعرها المتأرجحة بفعل الهواء المنبعث من النافذة
وأخفت جزءاً منه علي، فرفعت يدها إلى النافذة لتغلقها وتمنع مروره.
وأنا كنت أنتظر منها ردّاً، لكي أنسفها بآخر، وأبرر لنفسي أكثر، وأطفئ
غضبي المتأجج!
اقتربت خولة مني جالسة على سريرها القريب من سريري، قائلة
بتردد واضح: «لم أقصد شيئاً خاطئاً، كنت فقط أريد معرفة حقيقة
العلاقة بينكما، أنا الآن أتفهم ما تفعلينه وأفهمه من وجهة نظركِ،
ولكن أشعر أنه ليس صحيحاً! »
صمتت قليلاً وهي تضم يديها في توتر، وعيناها الشبيهتان بعيني أمي
تحدقان بي: «انظري إلى أين وصل تفكير يوسف فيكِ، إنه لا يفكر بكِ
كما تفكرين به! أخبريني كيف ستبررين الأمر! حتى لو أخفيته فسيأتي
اليوم الذي يكتشف هو فيه ذلك! »
عند هذه النقطة انتهى حديثنا بعدة نقاط وبعدة أسئلة غير مجابة،
وبفراغات متسعة لا يمكن ملؤُها.
***

شبيهة القمر 05-07-20 07:40 AM

رد: خطوات على الجمر
 
ياالله تكسر الخاطر ياسمين
طيب الحين يوسف على اي اساس يحب ويخطب وهو مايعرف حتى اسمها ؟؟
ياخوفي انه يحسبها خوله لان خالته مابقى عندها الا ياسمين وخوله والباقين متزوجات
الله يستر ان عرف انها ياسمين بيقلب الدنيا على راسها ..
واحيانا اقول يمكن انه يعرفها ومازال حبها بقلبه رغم الي سوته بالماضي ..


بانتظااارك غلاي لاتتأخرين 🥰

شبيهة القمر 08-07-20 12:15 PM

رد: خطوات على الجمر
 
غلاي وينك
مو كنك طولتي هالمره 🤔

لولوھ بنت عبدالله، 08-07-20 12:23 PM

رد: خطوات على الجمر
 
ما شاء الله تبارك الله
حبيت اسلوبج ي عسل
استمررررري :55:

سميتكم غلآي 08-07-20 05:00 PM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3730758)
غلاي وينك
مو كنك طولتي هالمره 🤔

مرحبا حبيبتي... انشغلت شوي وكنت تعبانه بعد
وأمس يالسه أراجع الفصل وحسيته طويل شويه... أونه طويل ^__^ يمكن لأن في أحداث طوال ويبالها تعديلات شوي بما أن الرواية صار لها اربع سنوات

سميتكم غلآي 08-07-20 08:03 PM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لولوھ بنت عبدالله، (المشاركة 3730762)
ما شاء الله تبارك الله
حبيت اسلوبج ي عسل
استمررررري :55:

شكرا عزيزتي على الرد وعلى التشجيع

سميتكم غلآي 09-07-20 09:00 AM

رد: خطوات على الجمر
 
تساقط الأوراق



بعد ذلك الموقف تحاشيت الحديث مع خولة التي اختارت الصمت
على البوح ليوسف.
علاقتي بخولة أصبحت جافة، كنا فيها نتحاشى النظر إلى بعضنا،
وكانت كلماتنا مقتضبة عندما نضطر إلى الحديث.
كنت أكره تلك اللحظات التي يصبح القريب فيها بعيداً، وتصبح
العلاقات المتينة مهترئة لمجرد أسباب تافهة!
وكان يوسف في أهبة الاستعداد الكامل للسفر، فقد حاول
تعويض أمي وخالتي عن الأيام القادمة، يمضي الكثير من
الوقت مع العائلة، يحاول المساعدة بقدر استطاعته!
لقد تجنبتهُ من آخر موقف معه ومع خولة، حاولت الابتعاد وإنهاء
الأمر مع نفسي قبلهُ، إجبار نفسي على وضع مسافة بيني وبينه فأنا لا
أريد الخوض في العمق، ولا إغراق نفسي في وهم الحلم، وفي المقابل
فعلت الأمر مع يوسف في تجنبه لعله يفهم بهذا رفضي له بطريقة غير
مباشرة.
قطعت كل اللحظات التي جمعتني بيوسف لأهرب منها بعيداً،
حتى أنني ظللت أراقبه من أبعد نقطة قبل الأقرب، أركز على لون عينيه
العسليتين اللتين لم يتغير فيهما شيء منذ الطفولة، تلك العينان اللتان
ألتقي بهما كلما عدت إلى الماضي.
استمر تهربي منه إلى أن سافر من دون وداع مني، ومن دون رد يجيب
على أسئلته، وأسفر ذلك عن ندم عميق انغرس في أعماقي، ندم أحاول
اقتلاعه، عندما أبدأ في إيهام نفسي أن هذا هو الحل الصحيح لمَا بيني
وبين يوسف!
باتت علاقتي بأمي علاقة عملية تطغى فيها الأوامر، إلى جانب أنها
باتت فاترة باهتة في الآونة الأخيرة، وخالية من أي مشاعر فلقد كنا
مجرد أشخاص نتعامل مع بعضنا لإثبات الروابط غير المنقطعة!
في أحد الأيام، كان الوقت عصراً عندما قررنا الخروج أنا وأمي وخولة في رحلة إلى السوق، من أجل أمي وبأمر منها فلم نكن نخرج إلا مع
بعضنا وفي مرات قليلة، وكانت خولة هي السائق، في بادئ الأمر حل
الصمت كردة فعل للأجواء الهادئة السائدة فيما بيننا، خولة مركزة على طريقها، أمي ينعكس وجهها على نافذة المقعد الأمامي وهي تحدق إلى خارجها، بينما عيناي تنتقلان إليهما وإلى القلادة التي تحمل شكل قطة زرقاء اللون معلقة تحت المرآة الأمامية.
خولة هي من كسر ذلك الصمت، بسؤال سألته لأمي، توالت بعدها
الكثير من الأسئلة والمواقف والضحكات التي شاركت فيها من
دون تردد، فالعلاقة بيننا كانت انسيابية لا تحتاج إلى أسباب للعودة
إليها، بمجرد أن تفتح قلبك وتخرج الكلمات فهي تصل إلى الطرف
الآخر من دون قيود.
منذ فترة طويلة، لم أعش مع أمي وخولة مثل هذا الإحساس، ولم
أتعمق في هذا الصفاء العاطفي، والتقارب الروحي، في العلاقة المتينة
التي تربطنا وتشد بعضنا إلى بعض، فمهما كانت المواقف والمشاعر في
كثير من الأوقات إلا أنني في مثل هذه اللحظات أشعر بأن هذا الحب
يأسرني، ضحكة أمي الناعمة التي تظهر صف أسنانها الذي لا يرى
دائماً مدهشةً، تقاسيم وجهها الصغير وتجاعيده الواضحة تظل
مطبوعة في داخلي، تشعرني بغلاء ثمن هذه اللحظة، حتى
المواقف التي تذكرها كنت أحاول الإنصات إليها من مقعدي
الخلفي، أحاول ألا أترك أي كلمة تهرب مني!.
جلست في المنتصف، حشرت قدمي في تلك الزاوية الصغيرة التي
تفصلهما عن بعضهما، مستمتعة بتلك الأجواء التي لا تتكرر، أنقل
نظراتي من خولة التي تضع فوق عينيها النظارة الشمسية وإلى أمي
التي ترتب حجابها الأسود في كل مرة تضحك فيها.
ضحكاتنا تتصاعد في غمرة من الفرح
كانت أمي أكثر استرخاءً مما سبق
وكنت أنا أعبر ذلك الظلام المتلألئ في أعينهما، وأدخل إلى أعماقه.
أرى الاستقرار فيه، وأشعر بالإحساس المنبعث منه
هي لحظات خاطفة مرت على حين غرة منا
اختفت الألوان واختلطت ببعضها، واختفت اللحظات،
وأصبح الصراخ اللاواعي هو الحدث الأساسي
فقدت خولة السيطرة على السيارة في لحظة لم نعرف ما جرى فيها، ضرب شيئٌ عنيف جهة أمي، تطايرت شظايا الزجاج من جانبي، لم أستطع حماية وجهي ولا جسمي لأنني اصطدمت بالجهة الأخرى، تعلقت يدي بالمقبض الأعلى، انكمشت على نفسي لكي أحمي نفسي، ولكن جسمي ظل يرتجُ مع الاصطدام، يضرب رأسي السقف ضربات متتالية، يصطدم كتفي بمقعد خولة، عيناي تكادان تخرجان من محجرهما بينما أحاول إغماضهما كلما فتحتا رغماً عني، بدى الصراخ الذي يخرج منا مكتوماً مخنوقاً بالكاد يسمع، انتهى كل شيء عندما ظننت انه لن ينتهي حتى يكسر كل عظم مني، لقد هدئ كل شيء بينما أنا مقلوبة رأساً على عقب، حررت أصابعي الممسكة بالمقبض بعد أن شعرت بخلع في المرفق، بكيت متألمة لأنه وكما يبدو أن عظامي قد خلعت كلها، وصلني انين خولة الخافت، فحاولت التحرك، مددت يدي الأخرى إلى أبعد مكان تصل إليه، لعلي أمسك طرف خيط، أبسط كفي ثم اقبضها، إلى أن استطعت أمساك يد، تلمست اليد، لمست عروقها الواضحة، أظافرها المقلمة، إنها يد أمي، شددت عليها، منادية:" أمي"
ترجيت أمي أن ترد عليّ، تخبرني بانها بخير وليس عكس ذلك، ولكن لم يصلني رد، حتى خولة التي صرختُ باسمها اختفى صوتها!
ظل صوتي يتردد في ذلك السكون الذي حل فجأة، ثم بدأ الضغط يسد مجرى سمعي، ثم رويداً رويداً بدأت الأصوات تعود إليّ، كنت أريد رؤية حالهما ولكنني لم أرَ سوى أطرافهما والمقعد المقابل لي، وصلتني الأصوات الخارجية، ضرب النافذة، المقبض الذي يحاولون فتحه، الباب الذي يرتج خلفي، رفعت ذراعي ثم ضربت النافذة لعل الباب يفتح ويخلصني من الألم والضيق اللذان أشعر بهما، قبل أن أختنق حية، ولكن لا صوتي يسمع ولا طرقي يرد!
بعد برهة من الزمن شعرت بأيادٍ تمسك بقدميّ ثم تجرني وتسقطني،
تخرجني من حفرتي التي كنت أختنق فيها، من الظلام إلى النور
خرجت، وعلى الأرض جلست وبين أيديهم واجسادهم التي حاوطت السيارة، وأمامي سيارتنا اللؤلئية التي كنت بداخلها، الدخان الرمادي
المتصاعد من أجزائها المقلوبة، كان يحجب رؤية ما بداخلها، فتم اقتيادي إلى أبعد مكان عنها، بينما الأصوات الصاخبة جعلت تركيزي يتشتت عن رؤية ما حل بأمي وأختي، أجلسوني على الرصيف، ثم وضع عليّ غطاء للرأس، للحظات حاولت فتح عيناي ورؤية الأحداث أمامي، يسقط ضوء الشمس الساطع على زجاج السيارة المتناثر على الأرض، يمتد الأسفلت على مرمى نظري قبل يصطدم بصري بأشجار النخيل والحاجز الحديدي الذي تحطم بفعل الاصطدام الذي حدث، وصوت الإسعاف بدأ يقترب بسرعة رهيبة صم أذناي، رأيتهم يخرجون خولة، لقد عرفتها، من اللون الأبيض في عباءتها، لم أقدر على تبين ما حدث لها، فوقفت متشنجة، كانت خطوة واحدة لأشعر بعدها أنني أُعاني من خطب ما في جسدي، ولكنني قاومت، الخطوة الأخرى كانت أسوء، أما الأخيرة، جعلتني أرجع بشكل عكسي وأرى الأرض مقلوبة، وهويت على الأسفلت الساخن دائخة، لم أستطع فتح عيناي أو الرجوع إلى وعيّ، فقط ما شعرت به هو أن أحداً ما يفتح عيناي، يقيس نبضي وتنفسي، يلمس وجهي، يفتح فمي بعنف، ثم حل الظلام وبزغ منه ضوء كما ومضات الشهب الفارة من السماء، ثم تصطدم بوعي بشدة ورجة، إني اذوب واذوي ويختفي ألمي!.
***
أفتح عينيّ بهدوء وسكينة تسكن أعماقي، أنظر إلى الأسفل فأرى
حذاء لؤلؤي اللون، يرتفع بصري من الحذاء إلى فستاني الزهري الذي
انتفخ أسفله وضاق أعلاه، ترتفع كفاي الصغيرتان أمام وجهي
فأنفخ عليهما لأدفئهما.
ترتفع نظراتي أمامي، كانت الأضواء الصاخبة تشق ظلام الليل،
تنبعث منها مختلف الألوان، يتجاور الأحمر والأخضر والأصفر في
أعلى أحد المنازل واللون الأصفر كان أكثرها إشراقاً ونوراً
خطواتي تنطلق وحذائي يركل التراب تحتهُ، أخرج من باب منزلنا
الأصفر الصغير، أمشي في ممر طويل رملي، تنتقل نظراتي بين الحجرات
المتجاورة التي علق على أعلى كل منها مصباح، أكمل
خطواتي فأرى غرفة عماتي ذات الباب البني العملاق، وغرفة جدي
وجدتي التي كانت في الأعلى يحيطها حاجز حجري أحمر مدبب جميل
الصنع
أركض في ممر حجري صغير يفصل جدارين عن بعضهما، أسمع صوت أنفاسي العالي والهواء يخرج من فمي ليشكل ضبابة خفيفة، يتطاير شعري المتموج كلما قفزت إلى الأعلى، أقف عند باب منزل الجيران
من باب منزلهم الداخلي يخرج الصغار منه، أطفال الجيران الذين لم أرَهم
منذ زمن طويل، ينطلقون ركضاً وقفزاً إلى المساحة الكبيرة الأمامية
المليئة بالأحجار الصغيرة، يلعبون بها ويضربون الأرض ركضاً إلى
الخارج إلى تلك الأضواء المنبعثة من ذلك المنزل الذي يشير إلى وجود
مناسبة زواج، أركض وراءهم، والأرض تهتز من تحتي والهواء يقفز
بي إلى الأعلى، عند بوابتهم الرمادية الضخمة، أمسكت طرف بابها
الصغير والمفتوح، ارتفع جسمي لتحط قدماي على الأرض خارجاً،
لتنطمس الصور وتتشكل الذكريات
وكأني عدت إلى ذلك المكان، إلى تلك اللحظة التي اختبأت بين
أرفُف ذاكرتي
أقبض على مقبض الباب البارد، أرى الأضواء خفيفة في أماكن وعالية
في أخرى
وعند ظل الجدار الضخم، وتحته تماماً فوق التراب، كان هو كما تركته
ذاكرتي، ذلك الكيس والرجل
اختناق شنيع أمسك صدري، صدمة عنيفة هزت جسمي
تراجعت خطواتي المرتجفة إلى الوراء لكي أختبئ، ولهثت أنفاسي بشدة،
نظرت كما نظرت سابقاً رأيت كل شيء بوضوح أكثر، بدقة أشعلت نار
صدري، وأوصلتني إلى أقصى مراحل الرعب.
كيس يتحرك، ثوب أبيض يخرج مرة تلو الأخرى كاشفاً عن حقيقة
صاحبه
هي دقائق صامتة قضيتها في تبلد، بإحساس منبعث من الأعماق،
واستعداد طويل لهذه اللحظة، التفتُّ إلى الوراء، ومن البعيد من بين
الأضواء المنبعثة من أقصى الجنوب كان هناك ظل قادم
كان يوسف يتقدم إليّ بخطوات راكضة، خطوات سبقت أي ردة فعل
مني إلا يدي التي امتدت إليه في الظلام وأمسكت بيده، وبسرعة
سحبته إليّ، طوقت فمه قبل أن ينطق
ولكن وخارجاً عن توقعاتي، عضني يوسف وصرخ، وللمرة الثانية
يكشفني يوسف
يكشفني لتلك العيون التي لم تفارقني يوماً، بانهيار مني ونظرة منه
فقدت إحساسي
ورأى يوسف ما رأيته، وتمسك بي لعلي أفعل مثل تلك المرة، ولكن
هذه المرة كانت مختلفة، أن تعاد الأحداث بمعرفة سابقة تكون أشد
وطئاً، وأكثر سقماً، ولكن حتى لو حدث هذا فأنا الآن أكثر نضجاً
وجراءة
أمسكت بكف يوسف وشددت عليها استعداداً للحظات
الهروب
وبدل الهروب كان الصراخ بصوت عالٍ الحل الأمثل، عند صراخي
أصبحت الضوضاء أشد قوة والأصوات أكثر صخباً والظلمة أشد
قتامة
ولم يكن هناك شيء يخفى إنما هو التغافل والبيئة المساعدة التي جعلت
من أمر فعلته سهلاً
أتراجع إلى الداخل مع يوسف ونظراتي تراقبه، السكين في يده والكيس
في اليد الأخرى، ينظر حوله، يتراجع في رعب شديد في موقف لم
يتوقعه
يخرج من بيت الجيران بعضٌ من أهله وأهلي، يتقدمون نحونا على عجل وخوف، أمسك يد يوسف فيضغط على يدي ثم يتعلق بي ممسكاً خصري
، أخبرتهم بطلاقة ما حدث وأنا أشير إلى الذي هرب عند رؤيتهم
كنت لا أشعر بالدموع التي تشق سيلاً على خديّ، ولا بالبرودة التي
أعدمها الانصهار الذي أنا فيه!
أرى تسابق النساء إلى الخارج، صراخهن وعويلهن، وسقوط
إحداهن مغمى عليها وتعثر أخرى
انهار على الأرض مع يوسف بعد ان تخدرت قدماي وأصبح من الصعب الحفاظ على شجاعتي، انخرطُ بالبكاء
بكاء أعاد كل ذكرياتي إلي، أعاد المرة الأولى والثانية، أعاد كل
اللحظات المفزعة، والنظرات السامة، اتهاماتهم وتكذبيهم لي، كل
تلك النظرات والإشارات المتهمةِ لي اختفت، وبقي بينها الضباب،
وبقيت مع يوسف على الأرض ونحن في حالة رعب
أسمع شهيق يوسف في أذنيّ، أشد على يده المحتضنة ليدي مخففة من
هول الموقف عليه وأمد نفسي بالأمان لعل ارتجافي يخف..
أنظر إلى حال الذين أخبرتهم وتحت الأنوار العالية والخافتة كانوا
متجمعين ومتفرقين على وسع المنزل المفروش بالحصى، بعض النساء يخبرن الناس أنهن رأين الكيس والرجل، أما البعض الآخر ينفين الأمر وبعضهن يقمن بمساعدة التي أغمي عليها بجعلها تستنشق رائحة البصل والعطور.
يأتي بعض الرجال فأسمع أصواتهم العالية وصوت أحدهم يقول: «لا
أثر له لقد اختفى ولكن وجدنا كيساً أسود ممزقاً فيه فردة حذاء لفتاة
صغيرة، ولكن لا أثر لهما»
لازال أجلس على التراب مع يوسف نقبض أيدي بعض، أشعر بالعرق يتزحلق من بين أصابعنا، أرى الإشارات تُصوب إليّ من بعض الرجال وأراهم قادمين نحوي بقاماتهم الطويلة الضخمة
أسمع خطواتهم المقتربة منا، بعيون لم تجف دموعها، وبيد متشنجة تركت يد يوسف وانتقلت إلى ملابسه، أمسكت طرفها من الخوف، ثم شددته إليّ حتى لاصقني..
انخفض واحدٌ منهم إلى الأسفل ووصل إلى مستوانا، انكشف وجهه لي من خلال النور الساطع، كان شاب في متوسط العمر، لديه لحية سوداء داكنة وعيون بنية، ابتسم فجأة فابتسمت عيناه مع وجهه، قال بصوت منخفض حنون النبرة:
«ياسمين أخبريني ما الذي
رأيته؟ لا تخافي نحن من الشرطة ونريد القليل من التفاصيل»
أشار بأصابعه إلى ما وراء الجدران إلى مكان بعيد عنا وهو
يكمل: «أنا ابن جاركم البعيد، أظن أنكِ تعرفينني فلقد رأيتك عدة
مرات قليلة» لم أعرفه إنما تذكرت أنني رأيته بضع مرات قليلة، حركت
رأسي تقبلاً لكلامه، سردت عليه ما رأيته بحماس، كل التفاصيل
تجمعت منثورة أمامي فنبشتها حتى لم يبقَ منها شيءٌ، بالابتسامة
نفسها وبربتة على رأسي أثنى عليّ وشجعني على أن الأمر منتهٍ، وأنهم
سيمسكون بالمجرم من أجلي أنا ويوسف.
بعد أن تركنا الشاب، تركت قميص يوسف، تحررت قبضتي فبسطها، تحركت من مكاني بضع خطوات تعبيراً عن الفضول، بجانب شعور
مريح وثقة بالنفس، ثقة منحني إياها من حولي جعلتني أرى نفسي
بأجمل حلة، وأنني قد فعلت شيئاً، أنقذت حياة كانت على وشك
الزوال.
غيرت مكاني، وتحت المصباح على الدرجة الأولى من الدرج قرب
الباب العملاق، كان حجمي ضئيلاً مع يوسف أمام أحجام
الأشخاص الغادين والآتين، جلسنا ننتظر أخباراً، ننتظر منهم
أملاً بقول إن كل شيء قد انتهى!
كانت دقائق قليلة التي مرت، من بين الأشخاص القادمين وأصواتهم
الصاخبة وأحاديثهم المتواصلة
كان صوت أمي الصوت المميز الذي ظهر علناً على مسامعي، وغطى
على جميع الأصوات
كان بعيداً ومنخفضاً بينما بالنسبة لي واضحاً ومحفوظ النبرة، وكلما
اقتربت زاد وضوحه
نادت باسمي واسم يوسف بشكل متواصل وبنبرة خائفة حزينة،
وقفت ووقف يوسف معي وبخطا بطيئة مشيت أبحث عنها بين
الظلال المنتشرة على وسع ذلك المنزل، أنقل بصري من عند الباب
المتصل لمنزل جدي إلى الممر الطويل الذي يصل إلى الباب الرئيس
لمنزل الجيران
فأراها راكضة وقد رأتنا، أقف في مكاني، تندفع أمي إلينا، تصل قرب
المصباح الذي أنار الساحة أمامي، أمي التي انكمش غطاء
رأسها، وشحب وجهها وانتفخ في يوم واحد، أخذتني في دفعة واحدة
بين يديها وضمتني ضمة لم أحصل عليها طوال حياتي!.
ضغطت عليّ حتى أحسست أن عظامي ذابت داخل صدرها، قبلتني
وكأنها تحفظ كل شبرٍ مني وتتمنى عدم اختفائه، يتحرك صدرها في
زفير وشهيق سريع، تبتعد عني، ومن بين دموع قد شقت سيولاً على
خديها، وما زالت تطفو على عينيها الحمراوين: «أتتمنين موتي، كيف
لكِ أن تذهبي بمفردكِ، لو حصل لكِ مكروه كنت سأموت»
كانت تتلمس وجهي من أسفله إلى أعلاه، تمسح دموعي التي جفت،
تمسح على شعري، تعيد كلماتها، تكتم موجات
بكاءها، تمسك بيوسف الواقف بجانبي، تأخذه إليها تضمه، تقبله،
أقف في مكاني فأنا لا أريد الذهاب عن حضن أمي، ولا أريد اختفاءه،
فهذه المشاعر التي أشعر بها كانت تغوص في أعماقي، تسبح بين
جزيئاتي، تُسكر إحساسي الذي افتقد مثل هذه المشاعر، أن تكون
محبوباً وأن يرى هذا الشخص أن موته في عدم وجودك، لهُو أعظم
شيءٍ حصل لي!
.
.
بيد أمسكتني وباليد الأخرى أمسكت يوسف وبهدوء تحفهُ السكينة
مشينا معها، وتحت لحاف البرد تحركنا على التراب مرة وأخرى
على الأرضية الحجرية، أتعثر مرة وأتأخر أخرى، أعقد حاجبيّ في
النور وأفتح عينيّ في الظلام، وصلنا إلى المنزل، أعطتنا أمي طعاماً
وصمتت بعدها ولم تفتح معنا حديثاً، وكأنها بهذا تكتم موجة
من الغضب الشديد!
جلست في الصالة على الأرضية المفروشة، وبجواري يوسف
يقضم قطعة من الخبز كما أقضم ويشرب فوقها جرعة من الحليب
الدافئ، بابتسامة واسعة خرجت من قوة نبض قلبي المتسارع، ومن
إحساس مليء بالسعادة: «يوسف لقد صدقنا الكل ولم يكذبنا
كما في المرة السابقة، لقد فعلنا شيئاً رائعاً، فأمي لم تزجرني ولم تضربني،
إنما كانت سعيدة أنني بخير، إنني أحبها كثيراً وأحب هذا الإحساس»
نظرت إليه للمرة الأولى وتحت الضوء الساطع، كانت بشرته
القمحية منتفخة من كثرة البكاء، واحمر بياض عينيه العسليتين
وازداد اتساعهما، ابتسم عندما تلاقت عيناي بعينيه وهو يقول: «لقد
كنتِ رائعة يا ياسمينة، أرأيتِ كيف تحبكِ أمي» إحساس بالمرارة ارتفع
إلى صدري، لم أعرف ما هو سببه ولكن أظنهُ بسبب نبرة يوسف،
حركت ركبتيّ إلى أن ضممتهما إلى صدري وألصقتهما به
أرفع نظري إلى يوسف الذي يكمل طعامه ومن ثم أخفضه في توتر،
للمرة الأولى تكون ذكرياتي بهذا الوضوح وأكون أنا هي ياسمين
الكبيرة، غريب ما يحدث لي ولكنه كالحقيقة، حتى لو كان حلماً فأنا
أريد التغير، تغيراً بسيطاً يزيح ذرة من الندم عن صدري.
تجرأت ورميت كل كبريائي بعيداً عني، كنت أريد التعويض فقط،
ورمي تلك الشخصية البغيضة بعيداً عني، التعويض عن أفعالي التي
لا تغتفر، فلقد كنت شخصاً لا يطاق بالنسبة لنفسي
امتدت يداي إلى وجهه وأمسكت جوانبه
مسحت على مكان دموعه التي جفت، مسحتها مراراً وتكراراً
ثبت نظراتي عليه، ابتسمت من أعماقي أبث إليه امتناني، وحبي لكل
تلك الذكريات الجميلة التي أعطاني إياها
قلت ومشاعري تنجرف إلى داخل صدري، تعطيه ذلك الدفء
الحنون: «يوسف أريدك أن تسمعني، أن تحفظ كلماتي ولا تنساها»
ابتسمت أحدق إلى وجهه الذي أظهر انفعالاته المستغربة مني، أكملت
وعيناي تحبسان دموعاً حارة: «في الحقيقة أنا لم أكرهك يوماً، لقد كنت
أغار منك فقط، يوسف أنتَ أفضل صديق لي، بل أنت الأقرب إلي
من كل البشر، أنت شخص مميز بالنسبة إلي، يوسف أرجوك لا تنسَ
هذا، احفظه في ذاكرتك، ومهما حدث بيننا تذكر أن ياسمينة تحبك ولا
تكرهك، وتحبك كثيراً»
وبعد هذه اللحظة، تلاشت صورة يوسف من أمامي، واختفى وجهه
قبل أن أجد ردّاً منه، أو أتفحص ردة فعله!
فتحت عينيّ على مهل، كنت أرقد على جانبي الأيمن، حدقت عيناي إلى المشجب والمغذي المعلق عليه، ثم انتقلت إلى الستارة البيضاء التي حاوطت كل الجهات وعزلتني عن كل شيء، دقائق قضيتها في مكاني بهدوء، انظر إلى يدي الدامية من ابرة المغذي، أتنفس بعمق لعلي أدفئ نفسي من برودة الجو، أتذكر كل تلك الأحداث التي حصلت لي وانتهت، فرأيت أن بعضها فارغ وغير مملوء، وقد طواه النسيان، فأصبح بلا ذكرى!
في لحظة خاطفة، مرت ذكرى الحادث وكأنه كالحلم الذي عشته
بعده، ما أن يأتي غيره حتى ينسى، قمت من على السرير أشد جسمي
شدّاً لكي أجلس، حسرت عن ساعدي بعد ان رأيت تمزقاً في كم عباءتي، وشاشاً على المرفق، رأيت بعض الرضوض وجرحاً يبدو كبير ولكنه محجوب تحت لاصق كبير وشاش، والالم لا يزال يطوي جسدي كاملاً، شعرت بالتقزز من شكل الابرة ثم نقلت بصري إلى المغذي الذي التصق ببعضه معبراً عن انتهائه، رفعت يدي الأخرى لأكشف ما وراء الستارة، فقابلتني المعدات والادراج، ناديت:
-هل من أحدٍ هنا؟
لم يصلني أي جواب... وظل الهدوء مخيماً على ذلك الجو البارد.
رفعت يدي إلى الأخرى في تردد، سأنزعه، لا يمكنني تحمله وانتظار من يأتي، عليّ حالاً أن انهض وأسأل عن خولة وأمي..
نزعت اللاصق أولاً ثم الإبرة متأوهة من الألم الذي في مرفقي، نهضت مقاومة، وضعت الشال الذي وضع وقت الحادثة على رأسي، ثم تلمست طريقي ذاهبة، خرجت بخطا ثقيلة من الباب،
غرف متجاورة وممرات كثيرة تؤدي إلى عدة اتجاهات، تتبعت
اللوحات التي كتب عليها كلمة مخرج، خرجت إلى قاعة كبيرة بيضاء،
مليئة بالأشخاص الواقفين والسائرين، الذين يمرون بسرعة من
أمامي، غير آبهين بالذين حولهم، وفي آخر القاعة كان هنالك مصعد.
قاومت موجة من الدوار وأنا أمشي إلى المصعد الذي توقف وخرج منه
عدة أشخاص ليدخل آخرون ويزدحم، أدخل معهم، أنحشر بينهم،
أتنفس بسرعة وأنا بين الزحام، أضغط على صدري الذي بدأ يؤلمني،
أستند على الطرف الأيمن منه والذي ولجت إليه أولاً، انعكست صورتي على المرآة، رأيت وجهي، هناك بعض الخدوش، وكدمة فوق حاجبي الأيمن، وعيناي إنهما غائرتين، أبدو متعبة، بل أن وعيّ يكاد ينفلتُ مني!
يخف الزحام شيئاً فشيئاً في كل مرة يقف فيها المصعد بين الطوابق
لم أضغط على أي زر إنما انتظرت إلى أن توقف عند أسفل المبنى
خرجت وقدماي تشعران ببرودة الأرضية، في تلك اللحظة
استوعبت أنني لا أنتعل حذائي، ولم يكن هنالك متسع
للعودة لأنني لا أذكر من أين جئت!
مشيت إلى غرفة الطوارئ
ووقفت عند الاستقبال
كنت مترددة حائرة عندما تقدمت نحو الرجل الجالس هناك،
حاولت اخفاء قدميّ خجلاً من رؤية أحد ما لهما
وضعت يديّ على طاولة الاستقبال استند عليها بعد أن شعرت بالتعب،
، تحدثت إليه بعدما شعرت بانتباه ضئيل منه: «إذا
سمحت هل يمكنني طلب خدمة منك؟»
ترك أوراقه جانباً وحدثني بهدوء: «تفضلي أختي!»
بارتجاف شديد شعرت به في جسدي المتعب، قلت وأنا أمسك
صوتي عن الاهتزاز: «أمي وأختي هنا، قد حصل لهما حادث سير
وأريد معرفة أخبارهما؟»
سألني عن الاسم وعن كل البيانات المطلوبة، أعطيته كل ما أعرفه، أسمائهما، وصفت له الحادث، ولكنه قال بسهولة لي:" لا أستطيع اخبارك، لأنه ليس لديك اثبات هوية!"
نظرت إلى نفسي بعد أن رفض اخباري، إلا يمكنه تبين وضعي من مظهري! لماذا يتجاهلني؟ إنني في حال يرثى له، لقد خرجت من الحادث بكدمات وجروح! لم أتزعزع من مكاني، فقال باختصار بعد ان بان الازعاج عليه بسببي: «واحدة منهن في العناية
المركزة والأخرى حالتها مستقرة والثالثة في حالة فقدان للوعي،
وطبعاً لا أستطيع إخبارك بأي معلومات أخرى.»
حالة من الذهول أصابتني عند سماعي للخبر، بصدمة أمسكت
رأسي وأنا أقول بصوت عالٍ: «أرجوك أوصلني إليهما،
أرجوك فأنا ليس لدي هاتف»
ترجيته مرة بصوت منخفض وآخر عالٍ، فلم يعطني بالاً، كان منشغلاً
عني ومتذمراً مني!
تركته ومشيت على البلاط، قدماي تمتصان برودتها،
تنقلانها إلى كل خلية في جسمي، دموعي تنحبس داخل أجفاني،
أشهق في كل ثانية من أجل منعها من السقوط أمام الناس وكشف
انهياري الشديد.
الأجسام تمر من أمامي ومن خلفي ومن بين ضباب دموعي كنت لا
أرى إلا الألوان التي تبهت في كل لحظة وتشوش طريقي.
مشيت متنقلة بين اليمين واليسار أذهب إلى عدة أبواب وأدخلها
وأخرج منها عائدة إلى حيث أتيت، أسرق نظرات خاطفة إلى الناس
الذين تختلف ملامحهم عندما يحدقون بي.
شعرت بالضياع، وأن لا ملجأ لي، وأنني فقدت
أمي وخولة ولن أجدهما أبداً، ولن يجدني أحدٌ، وسأعيش هكذا!
بعد فترة طويلة جدّاً، أوصلتني إلى أقصى مراحل الانهيار النفسي
والإحباط، رأيتُ شخصاً أعرفه جيداً، شخصاً انطلقت إليه جرياً من
دون وعيٍ مني وناديته، شخصاً لو كنت في غير هذا الموقف لخجلت
من الذهاب إليه، ومناداته بكل هذا الأمل والشجن، والصراخ أمام
العالم بأسره باسمه، لقد كان هذا الشخص «أبي» أبي الذي انطلقت إليه
ناسية علاقتنا المشوشة، إنما اعتبرته مُنقذي ومنفذي إلى الحياة!
كان يمشي بخطا ثقيلة ظهرت على مشيته، كان رأسه الأشيب عارياً،
ووجهه الذي تغطى بالشيب والتجاعيد جامداً، لقد قدم من بوابة
المستشفى بين العديد من الناس، لم يكن منتبهاً لي، ولم يرَني عندما
رأيته، في البداية سمع صوتي العالي، صوتي الذي أخرجته من كل خلية
مني، وملأته بمشاعري.
عقد حاجبيه استغراباً وصدمة عندما رآني أركض نحوه، وقفت أمامه
وأنا ألهث بصوت عالٍ بجانب شلال من الدموع المنهمرة، وبكاء
عميق خرج من دون وعيٍ مني
مسحت خديّ بكفيّ لعل دموعي تختفي وتجف ولا تنهمر أكثر،
ولكن محال فرؤية أبي كانت بصيص نور انتظرته طويلاً.
كان اللقاء بيننا لقاءً رسميّاً، طمأنني فيه بعد أن رأى انهياري التام
أن كل شيء على ما يرام، وأن أمي خرجت من غرفة العناية المركزة،
كانت الكلمات هي ما تشاركنا به والخطوات المتقدمة إلى الأمام، لم
يكن هنالك شيءٌ آخر، إلا أنني عانيت من إعياء شديد
وتوتر عميق يهز مشاعري، كنت أحتاج إلى الكثير من المساندة الجسدية
والعاطفية، كنت أريد خولة في ذلك الوقت وأريدها بشدة وأشتاق
إليها.
فخولة الوحيدة التي تظهر حقيقتي أمامها، هي شخص يفهمني من
نظرة.
ندمت أشد الندم على مخاصمتها، والابتعاد عنها بذلك الشكل وحتى
في ابتعادي عنها شعرت بالذنب ناحيتها، كنت طوال ذلك الوقت
أفتقد أحاديثها، وضحكاتها، وحتى مشاجرتها.
مشيت مع أبي، صعدت المصعد معه فأخذنا إلى الأعلى ووقف عند
الطابق الثالث، ينزل أبي فأتبعه، نمشي طويلاً عبر الأبواب والممرات،
نصل إلى ممر شبه مظلم وإلى غرف كثيرة فندخل إحداها، يدخل
فأدخل وراءه، ويحجب الرؤية عني فلا أرى إلا طرف السرير الأبيض
الذي احتل مساحة واسعة من المكان، بعد ثوانٍ تقدم ليظهر
السرير شيئاً فشيئاً، وتظهر أمي النائمة على السرير والمتنفسة على جهاز
الأكسجين وجسدها متصل بعدة أجهزة، وخولة الجالسة في زاوية
قريبة منها مضمدة الذراع مجروحة الوجه.
خطواتي انطلقت أولاً إلى خولة، ارتميت في أحضانها، ضممتها بشدة
إليّ وأنا أبكي، بينما هي مسحت على ظهري من أوله إلى آخره
متسائلة بصوت متعب: «أين كنتِ لقد بحثت الممرضات عنكِ كثيراً،
ولم يجدنكِ؟»
أهز رأسي غير قادرة على إجابتها، وغير قادرة على إخبارها عن تلك
اللحظات السيئة، التي كانت عبارة عن موت بطيء ويأس شديد.
أجلس وكرسيّي ملاصق لسرير أمي، ألمس يدها الشاحبة المملوءة
بالعروق، والمتصلة بإبرة المغذي، أتذكر كلماتها الأخيرة، نظراتها
وخوفها عليّ، أحضانها التي ما زلت أحتفظ بدفئها إلى الآن، ومن
غير أن ينتبه لي أحد أقبل أصابعها سريعاً.
واستيقظت أمي بعد مدة بعد زوال تأثير المخدر، الذي كان بسبب
عملية خضعت لها بسبب الحادث الذي أصيبت فيه بنزيف داخلي في
البطن.
كنا أنا وخولة من يلازم أمي في المستشفى، ونتبادل الأدوار في كل ليلة
وفي النهار نظل معها ونستقبل الزوار، فقط هي مرة واحدة التي
أتى بها أبي للمستشفى وكانت معي واختفى بعدها وكأننا لم نكن نعني
له شيئاً، فلم يكن إهمال أبي جديداً ولكنه كالجرح الجديد ينزف كلما
نبش!.
في آخر ليلة قضيتها مع أمي في المستشفى، ظلت خولة فيها معي
إلى قبل موعد منع الزوار، بعدما غطت أمي في النوم، وبقيت أنا
بجوار خولة المتدثرة بغطاء من المخمل، نجلس على أرضية فرشت
بسجادة زرقاء مزخرفة، احتضنت يدي كوباً من القهوة المرة
تنشد دفئاً لجسمي غير الوشاح الذي يغطيني، جلسنا نستمع ونشاهد البرنامج الثقافي الصادر من التلفاز، ولكن لم يكن تركيزي عليه لقد كنت أفكر بعيداً وبعيداً جداً.... هناك خواطر وخيالات كنت أحتضنها في مخيلتي لم أستطع البوح بها حتى لنفسي، إنها محظورة، يجب عليّ حظر التفكير فيها لكيلا أدخل في متاهة جديدة! متاهة توصلني في النهاية إلى تصديق كل شيء حتى لو كان خارجاً عن الواقع!
تحدثت خولة كاسرة ذلك الصمت: «يوسف يسأل عنكِ، ويسلم عليكِ»
عند نطقها لاسمه، التفت إليها سريعاً، فالتقت نظراتي بنظراتها الثاقبة
التي عبرت عينيّ باحثة عن ردة فعل تدينني بها، بصوت منخفض
وعيناي تحدقان إلى الأمام باتجاه التلفاز هاربة من نظراتها الموترة لي:
«يستحق السلام أرجعيه إليه إذا حدثته. »
قالت خولة التي ما زالت تحدق بي: «لا تقلقي فهو لا يعرف من أنتِ
فأنا لم أخبره، لأنه في النهاية أيقنت أن هذا شيءٌ خاص بكِ وليس لي
دخل فيه والذي سيتحمل العواقب هو أنتِ وليس أنا»
كنت مُوقنة أن لا جدوى من التبرير أو إطالة الحديث في هذا الشأن،
لأن لا شيء سيتغير، لا مشاعري ولا تفكيري إنما سيدخلنا إلى نزاعات
لا تنتهي، وسيجعل الحديث ساحة معركة يبرز فيها الأقوى والأحق.
أبعدتُ نظراتي عن التلفاز وأرسلتها إلى أمي النائمة، إلى وجهها الذي
هزل، وعينيها اللتين ذبلتا وازدادت هالاتهما عمقاً، إلى شعرها الذي
نمت جذوره وأخرجت لوناً أبيضَ ناقض صبغة اللون البنية التي تحته.
وتذكرت تلك الذكرى التي حدثت لي، والحلم الجميل الذي عشته
نعم...فلقد كان جميلاً فأنا فعلت فيه شيئاً لم أستطع فعله سابقاً، عشت
أجمل لحظاتي مع أمي، وأيضاً أثبت للناس صدق ما أقوله!
ولكنه يظل حلماً، حلماً لا يستطيع واقعي البائس تحقيقه!
حتى لو نبض قلبي بعنف، ورأيت ألون ذلك المكان، تلمست جدرانه وطلاءه، شممت هواءه ورائحة أصحابه، إلا أنها ظلت ذكرى مشوشة شيء لا يمكن أن يمت للواقع بصلة، مجرد ذكريات تعاد وتطوى!
.
***
مرت أيام على عودتنا إلى المنزل، استعادت أمي صحتها فيها، ملأت
البهجة المنزل باجتماع كل أفراد أسرتي فيه وخاصة عودة أختي
الكبرى سارة من سفر طويل مع زوجها، لاحظت تغيراً ملحوظاً
على أمي، كانت الابتسامة رفيقة جلستها، والاسترخاء ملاذ خلوتها.
في يوم خاص أخبرتنا أمي أن هناك زواراً قادمين، وحضر الزوار وكن
ثلاث نساء تتفاوت أعمارهن بين الثلاثين إلى الخمسين، ولكن أمي
لم تخبرنا بحقيقة حضورهن، فنظراتهن المتفحصة هي من كشفتهن،
وعند معرفتهن أن خولة هي الأكبر سنّاً اتجهت النظرات إليها في
تفحص شديد، حتى أقدامها لم تسلم منهن، وانسحبت أنا لكيلا أكون
فريسة أخرى!
كنّ من أقرباء أمي ويعشن بالقرب منا، ويردن خولة التي لم تبدِ أي
رفض أو اعتراض كما في المرات السابقة، إنما قبلت بالرؤية الشرعية،
وتمت الرؤية الشرعية بقبول من ناحية الطرفين، وكم فرحت أمي
وازدادت حيوية لأن خولة لن تبتعد عنها وستكون قريبة منها وليس
كأختيّ اللتين رحلتا إلى مناطق بعيدة.
بعد الرؤية الشرعية وبموافقة من الطرفين تم تحديد موعد الخطوبة.
مع كل ما حدث لم يكن أبي حاضراً، فخالي هو من أتم كل شيء نيابة
عنه، فأبي وعند إخباره بالموضوع في البداية لم يوافق، ولم يعجبه أهل
الخاطب، فرفض ولم يعطِ الموضوع أية أهمية إلا عندما سمع من خالي
أن الخطبة سوف تتم وأن خولة قد وافقت.
جاء أبي إلينا، وعند الباب المؤدي لقسمنا وقسم خالتي وقف يطرق
الباب الذي كان مقفلاً، فالوقت ظهر وليس وقتاً للزيارة، فتحت
الباب على عجل عند سماعي لصوته المتردد عالياً، دخل أبي غير آبهٍ بي
وبحرمة المكان عليه، وقال بصوت خشن عالٍ: «أين والدتكِ وتلك
التي توافق من غير إذن مني.»
كان أبي يضع عمامته على كتفه، يضغط عليها
يمشي بخطا سريعة إلى الداخل ويزيد من تعقيد حاجبيه، يقف لحظة
لينقل نظراته الغاضبة إلى كل ركن من الصالة وعيناه تصعدان
إلى أعلى السلم وتعودان ثانية إلى الغرفة.
ينادي بصوت عالٍ باسم «جميلة» التي هي أمي، يعقد ذراعيه وهو
واقف، ينتظر صوتاً يجيب عليه
لم يحصل على جواب سريع، فأخذ ينادي مرة أخرى متوعداً، مزمجراً
من غضبه.
بعد فترة قصيرة، نزلت خولة المستغربة تتبعها أمي المصدومة من هذه
الضوضاء المفاجئة، فتحت عينيها دهشة وشحب وجهها واحمر وهي
تقول: «ما الذي يحصل! وما الذي أحضرك إلى هنا! المنزل ليس ملكاً
لنا وحدنا لكي تدخل إليه متى شئت، ومن دون استئذان! »
تقدمت خطوات أبي باتجاه أمي، يشد على عمامته التي على كتفه، ينزلها
عنه، يضرب بها الأرض غضباً، وأمي تقف بلا حراك، نظراتها
لا تتزحزح عنهُ، يقول وهو يشد على كلماته وينقل نظراته بين أمي
وخولة: «لم أعطِ موافقتي لإتمام الخطوبة، ومن سمح لكما بالموافقة!»
تقدمت أمي إليه وفي منتصفنا وقفت، وعيناها تلمعان، تعبران عن
القهر والاستغراب، نطقت وهي تضيق عينيها: «ألهذا جئت؟»
صمتت قليلاً وهي تهز رأسها في استهزاء وتكمل: «أين كنتَ عندما
تقدم الخاطب، أخبرني أين كان هذا الوالد الذي يجب علينا أن نأخذ
موافقته، للأسف الشديد كان غير حاضر مع معرفته بالأمر وغير آبه
به، فنحن بالنسبة إليه ومنذُ زمن طويل شيءٌ غير مهم ومركونٌ في
الزاوية»
تطاير الغضب من عيني أبي، وازدادت التجاعيد حول عينيه وحاجبيه،
عض على أسنانه باحثاً عن الكلمات، كاتماً قوة غضبه، مكوراً كفيه في
عصيبة، قال وصوته انخفض عن سابقه: «من البداية لم يكن هنالك
رأي لي!»
بعدم مبالاة وصوت جامد بارد صدر من أمي التي لم تتحرك من
مكانها: «أنت من ألغى دوره وليس نحن، أرجوك عند هذا الحد دعنا
نتوقف، إلا ابنتي لن أدعك تهدم حياتها واختياراتها فأنا سأقف في
وجهك من أجلها»
قلبي ينبض بسرعة، إحساس بالألم يشق صدري، كان نقاشاً حادّاً،
يبعثر مشاعر أبي الواضحة في وجهه لتظهر متخبطة، تضعف قوته
وتزيده إحساساً، ينقل نظراته فيما بيننا يرفع عينيه وينزلهما بسرعة ولا
ينظر مباشرة إنما يختطف النظرة، وكأنه يرسل أسفه الشديد وندمه
وكأنه يشعر الآن وأمامنا بأنه أخطأ، لأنها المرة الأولى التي يكون فيها
حديث أمي إليه أمامنا مباشراً وبعيداً عن الرموز!
وانفجرت أمي، وكأنها تتخلص من كل مشاعرها السلبية ومن
كل تلك الضغوطات التي استمرت بالضغط عليها وإخضاعها على
الانصياع، قالت دون تردد، ووجهها المحمر يظهر مشاعرها
وألمها: «منذ أيام أو شهور أيقنت أن لا جدوى من الإهدار أكثر، فلقد
استيقظت من الصدمة أخيراً، واستوعبت أنني أهدر صحتي وحياتي
بلا معنى، فنحن ليس بيننا شيءٌ، فلقد وقع الطلاق منذ زمن طويل،
وظل مخفياً، وبسبب ماذا ومن أجل من أنت أعلم بذلك أكثر مني، أما
الآن فليس لديّ ما أخسره»
أخذت نفساً عميقاً قبل أن تكمل بوجه هادئ: «مهما حاولت فأنا لن
أعود إليك ولو وضعت كل كنوز الدنيا تحت يديّ وفعلت المستحيل،
فلقد انتهى كل ما بيننا منذ زمن طويل وبعد طلقتك الثانية، وكبر
الأولاد وكُلٌّ لهُ طريقه الآن»
عند هذا الحد توقفت أمي وسارت بهدوء، خطواتها لا تسمع، فقط
جسمها الضئيل يتحرك ويحتك بالهواء، تصعد على السلم من دون أن
تلتفت وينحسر لون ثوبها الأصفر شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي.
لم نتحرك بعدها، نظراتنا كانت باتجاهها إلى أن اختفت
وانسحبت خطوات أبي على مسمع منا، تحركت نظراتي إليه وهو مدبر،
رأيته يعيد عمامته على كتفه، وكتفاه منحنيان إلى الأمام، يمشي بخطا
ثقيلة قد أثقلها الشيب والهموم، يصل الباب فيفتحه بقوة، يخرج منه
وكأنه استنزف كل طاقته فيه ويرحل أبي تاركاً المجال لي لاستيعاب
الحقيقة التي كشفت للتو!
بعد رحيل أبي بقيت أمي في عزلة عنا، حبست نفسها في غرفتها لباقي
اليوم، فلم نزعج خلوتها وإنما تركناها وحدها، وبالمقابل كانت نفسيتي
في الحضيض، كل أفكاري تعيد الذكريات وتحللها وتبعثرها.
فلم أكن أتخيل أن يكونا منفصلين، فأمي لم تجعل للشك مكاناً في
علاقتهما، فهما كما كانا لم يتغير بينهما شيء، فمنذ أن وعيت على
هذه الدنيا، لم أرَ إلا شجارهما، وحياتنا المليئة بالمشاعر السلبية لكل
الأطراف.
في الماضي كان أبي كثير الحضور ولكن ليس دائماً، وكان حضوره شديد
التأثير، قويّاً كفاية ليجعلنا خائفين صامتين، ننسحب بسهولة
متى حضر، خوفاً من غضب أو تعنيف يصدر منه لأشياء لا تذكر،
ومنذ سنوات افترقنا عنه إلا أنه كان يتردد علينا نادراً، ولكن لم أكن أظن أنه
فراق أبدي بينهما!
في الغرفة مع خولة، كانت كل واحدة منا تجلس في زاوية خاصة بها،
خولة تعبث بهاتفها المحمول، أما أنا فأقلب صفحات كتاب من
دون أن أفقه منه شيئاً، فكل أفكاري محصورة بأمي وأبي، وكيف حصل
هذا! وإلى أين وصل الوضع! فالتفكير وحده مرهق يستنزف
الطاقة، مللت من التفكير وأرهقت، لا أعلم إن كنت غاضبة أو
مشوشة، ولكن احتجت للحديث والفضفضة، من مكاني تحدثت إلى
خولة: «لست أصدق هذا، ولست أستطيع منع نفسي من التفكير، لقد
تعبت» وضعت خولة الهاتف المحمول من يدها، ووقفت متجهةً إلى
سريرها بالقرب مني، تحدثت وهي تتنفس بعمق: «لقد عانت أمي
الكثير، ولقد آن لها الأوان أن تستريح»
جلست خولة بالقرب مني، لا تفصلنا إلا خطوة واحدة، عيناها اللتان
تنظران إلي لمعتا بالدموع، تحدثت فخرجت كلماتها متبوعة بغصة: «أمي
أخبرتني ذات مرة وفي لحظة يأس كانت تمر بها، أن أبي قد ظلمها كثيراً
وهددها بنا، وفعلها ذات مرة عندما كنتِ رضيعة إذ إنه
تزوج على أمي وأخذنا إلى زوجته أسبوعاً عدنا بعده في حالة يرثى لها،
ولم يقف أحدٌ من أهلها معها عندما طلبت الطلاق منه، إنما وقف الكل
ضدها واتهموها بالإهمال وأنها سبب كل شيء»
بعد كلماتها لم يكن هناك المزيد، ولم يكن هناك إلا الألم، ألم ينغرس
بداخل صدري، يشقه ليصل إلى قلبي ويمزقه.
***
بعد هذا اليوم المليء بالمشاعر المتناقضة، والأحداث المؤلمة والشاقة على
نفسي.
استلقيت على سريري، انطويت تحت لحافي، وأنا أرتعش من البرد،
وكل جسمي يعاني من خمول شديد ومرض
في تلك اللحظات أحسست بالحمى، وبتلك الفقاقيع التي تنتشر أمام
عينيّ المغمضتين.
هي لحظات قليلة حتى تدفقت الذكريات إلى داخلي، عبرت روحي،
حملتني إلى ماضيّ إلى بُعد آخر أعرفه جيداً، إلى صوت أمي الذي
اقترب لينقذني ويدفئني ويجعلني أستيقظ باكية وأناديها: «أمي إنها
الشياطين، إنها تلاحقني»
جاءني صوت أمي: «باسم الله، ليس هنالك شياطين» وتحت ضوء
المصباح الخفيف هدأ بكائي وأنا أرى خيال أمي الجالس أمامي
وملامحها واضحة تحت ضوء المصباح، وجهها الشاحب أحاطه
حجاب أبيض، اتصل لابسها به، لقد كان جلباب صلاة،
لم تكن عابسة أبداً إنما مسترخية تتنفس بهدوء، وعيناها
الواسعتان ناعستين ناعمتين.
أسمع صوت أنفاسها، أشعر بلمسة يديها التي تمسد قدميّ مرة ومرة
أخرى ذراعيّ، كانت تمسدني دون عناء واستمرت لفترة طويلة
حتى غلبني النوم.
استيقظت على ضوء الشمس الذي سقط على نافذتي المقابلة لسريري،
واستيقظت مرة أخرى في ذلك المكان، تأملت السقف الأبيض لفترة
طويلة قبل أن أجلس وأمشي إلى خارج الغرفة، أخطو على الأرضية
المفروشة المؤدية إلى غرفة أمي، أمسك أكرة الباب وأفتحها،
الغرفة منارة يتوسط منتصفها سرير خشبي كبير يقابله دولاب بنفس
الحجم واللون.
أحب رؤية هذه الغرفة التي لا تزال في ذاكرتي ولا تختفي تفاصيلها،
نافذتها الكبيرة التي تطل على زرع أمي، لونها الأصفر الذي يضفي
بهجة وراحة، اللوحة الكبيرة التي علقت في منتصف الجدار وفوق
السرير، حملت صورنا أنا وأخواتي ويوسف، كانت لوحة بارزة ألوانها
براقة، كُلٌّ فيها مبتسم.
بعد وقت طويل من المشي بين النباتات والأشجار والأماكن المحفوظة
في ذاكرتي، دخل أبي من الباب، أبي المختلف كليّاً عن أبي الذي
رأيته منذ ساعات، صدمت من رؤية ابتسامته التي وجهها إليّ، ووجهه
الشاب لم يكن يمتلك تلك التكشيرة التي لا أنساها والتي رافقته
منذ زمن طويل ظننت فيه أنه لا يبتسم!!
تقدم أبي ناحيتي بهندامه المتألق الناصع البياض، حاملاً بين يديه كيساً
أزرقَ ثقيلاً، بطوله الفارع وضخامة جسمه ربت على رأسي من دون
أن ينخفض إلى مستواي، وأنزل ما بيده في يدي التي امتدت إليه عندما
قال: «هذا لكِ ولأخواتك» وأكمل طريقه إلى الداخل وعيناي تتبعانه
وتختطفان نظرة سريعة إلى الكيس.
اختفى أبي على ناظري كما في المرة السابقة ولكن هذه المرة كانت
العكس، فشعوري مختلف، وإحساسي ملتهب يعبر عن سعادة مطلقة،
وأيقنت أنني لست مخطئة فأنا في ذلك الزمان والمكان الذي أحبه....

شبيهة القمر 09-07-20 12:35 PM

رد: خطوات على الجمر
 
سلامات غلاي ماتشوفين باس يارب
ياسمينه وقيود الماضي حتى بالاحلام تلاحقها ..
اتوقع يوسف راح يعالج عيونه ويمكن يرجع وهو متعافي ...

غلاي ..تسلم يديك ياجميله بارت جمييييل ...
بانتظاارك ..

سميتكم غلآي 12-07-20 10:00 AM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3730822)
سلامات غلاي ماتشوفين باس يارب
ياسمينه وقيود الماضي حتى بالاحلام تلاحقها ..
اتوقع يوسف راح يعالج عيونه ويمكن يرجع وهو متعافي ...

غلاي ..تسلم يديك ياجميله بارت جمييييل ...
بانتظاارك ..

الله يسلمج، أنتِ مصر ه على علاج يوسف :lol: ان شاء الله الفصل القادم يكون هناك تطور في الاحداث وينال على رضاج
شكرا لك

سميتكم غلآي 12-07-20 02:58 PM

رد: خطوات على الجمر
 
عودة

مر عامان على سفر يوسف، عامان قضيتهما في ترتيب نفسي وتكوينها،
بعد أن اختفت لحظات عودتي إلى الماضي، اختفت من دون سبب كما
جاءت!
وجعلت الحنين يئن في داخلي، والشوق يجعلني أقضي أيامي بإيجابية
فلقد تغير الكثير، وتغيرتُ أنا، فبعد رؤية أبي بذلك الشكل المحزن،
ورؤية انكساره الذي ناقض شخصه، وعيش تلك الذكرى التي
أيقظت جميع ذكرياتي ونثرتها أمامي، جعلتني أفكر جديّاً بالبدء أولاً
حتى لو للمرة الأولى أو العاشرة، حتى لو كنت لا أعني لهُ
شيئاً، وحتى لو لم يكن يعطني بالاً!
حدث ذلك عندما أخذت رقم أبي من خالي،
فللأسف لم أكن أملك رقم أبي، ولم أفكر سابقاً بالتواصل معه، لقد كنت عمياء، ألعب دور الضحية دون تبديل، لقد أردت التصالح مع محيطي قبل أن اتصالح مع ذاتي، فالتصالح مع الذات يبدأ بالتغيّر أولاً!
وبعد تردد طويل ككل مرة عزمت على الاتصال، لم يكن الأول فالأول كان منذ شهور طويلة، حينها كنت أتمنى ألا يجيب، لا أعلم إن كان خوفاً أم تهرباً، ولكنني قويت نفسي لكيلا أضعف عن التغير!
أجاب بعد فترة طويلة، وعندما
أخبرته من أنا صمت في استغراب وتعجب ظهر في صوته الذي ألقى
عليّ التحية لاحقاً، كانت كلماتنا سريعة متوترة مترددة، لم يكن فيها
شيء يذكر حتى النهاية التي سمعت فيها صوت الهاتف يغلق.
وتوالت الاتصالات بعدها مرة في الأسبوع أو في الأسبوعين.
هذه المرة أمسكت بالهاتف وككل مرة يصيبني التوتر والخجل، ضغطت على
رقمه، مضت ثانيتان والرنين متواصل، وقبل أن تبدأ الثانية الثالثة رُفع
الهاتف على صوته الخشن: «السلام عليكم» لقد رد بسرعة لم أتوقعها
ووترني، نبرة صوته كانت مختلفة أكثر هدوءاً واسترخاءً، أجبته:
«وعليكم السلام » سألته عن حاله وكيف هي الأجواء وأجابني بشيء
من الهدوء بعيداً عن صرامته المعتادة، وعند نهاية مكالمتنا التي لم تستمر
إلا دقيقتين قال لي وبسرعة: «شكراً على اتصالك» وأغلق بعدها ولم
أستطع إجابته، لم يكن لدي رد له، إلا الصمت وإحساس مليء
بالمرارة، فلم يكن شيئاً رائعاً أو ثميناً هي اتصالاتي بالنسبة لنفسي التي
تشعر بالتقصير.
وبعد هذين العامين من التنقل في الدورات والأنشطة التي طورت
الكثير من المهارات لديّ، حصلت على وظيفة مؤقتة، وظيفة مكتبية
غير متعلقة بتخصصي جعلتني أقضي فيها وقتي، لعلي بعدها أجد
ضالتي وما أريده حقّاً.
وبعد زواج خولة الذي مر عليه سنة، حاولت بصعوبة التغلب على
الفراغ الذي صنعته بذهابها
كان صعباً في البداية، مليئاً بشعور الوحدة
ظل مكانها خالياً، وسريرها الذي في الوسط تعود على وضعه أياماً
طويلة دون وجودها
كنت أرتبه بشوق ولهفة لها عندما تأتي لتقضي معنا ليلة أو عدة ليالٍ،
وعند ذهابها أتركه لعدة أيام قبل أن أرتبه وكأنني بهذا أبقي مكانها حيّاً ولأيام!
في النهاية تأقلمت، حاولت بناء الصداقات وتقوية العلاقات ببنات
خالي وخالتي بخلاف فاطمة التي تزوجت بعد خولة.
عدت إلى المنزل بعد نصف يوم من العمل، وجدت عائلتي مجتمعة
من فاطمة وأخواتي جميعهن وكل أفراد أسرتي، وكان المنزل في حالة
صخب وابتهاج.
أصابني التوتر إلى جانب الفرح، فمنذ أيام مضت سمعت بخبر
يعيدونه مراراً وبلا ملل «هو أن يوسف سيعود» لم
أخض معهم في أي حديث، لم أسأل عن موعد وصوله، بل تركت
الأمر وكأنه لا يخصني، لكيلا يشعر أحدٌ بلهفتي إليه، ولكيلا أرى
نظرتهم المستغربة مني، والتي تجعل مني شخصاً مذنباً!
أفلت الشمس وهم
محتشدين عند باب المنزل الداخلي، منهم الصغار الراكضون حولنا
والكبار الذين تعالت أصواتهم بين كلمات وضحكات.
وعاد يوسف، الذي خرج من السيارة مع خالي، خرج بطوله الفارع،
والابتسامة على وجهه الذي كثفت لحيتهُ، وعيناه العسليتان ترسلان
فرحته إلينا، الكل التف حوله، الكل طوقه بأصوات عالية مرحبة
به، حجبت رؤيته عني.
أتقدم خطوة مع خطواتهم وأتأخر أخرى، أحاول اختطاف النظرة
إليه، أرى اتساع ابتسامته واحمرار وجهه وهو يقبل أمي، يضمها
فتضمه بشدة، يضم خالتي فتبكي يمسح دموعها بأصابعه، يحيي
أخواته، يضم سميرة فتبكي هي الأخرى!
عيناه تطوفان حول الجميع، يخبأ نظراته المحمرة، يأخذ نظرة، يخفضها
بسرعة، تلتقي عينايَ بعينيه، يقف لثوانٍ وهو ينظر إليّ، تعلق نظراته
بي، يطيلها ويتأمل، أرمش تنخفض نظراتي وتعود ثانية إليه، تتوسع
عيناه، يبعدهما وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه.
أصابتني ابتسامته بالدهشة إلى جانب شعور عميق بالسعادة والخجل
هناك شيءٌ غريبٌ فيه، وغريبٌ جدّاً، هناك تواصل ملموس وإحساس
منبعث، فنظراته كانت وكأنها تعبرني وتتحدث إليّ وتحدق بي فعلاً!
مر الوقت سريعاً بين ترحيب وتهليل وبين جلسة اجتمع فيها الكل في
حلقة في الصالة، جلست فيها معهم، كنت مجرد
شخصٍ مستمع، أثرت الاستماع على الحديث، لأنه هذا هو وجودي بوجد يوسف معهم،
شعرت بالبهجة
تطوقني لرؤيته بعد هذا الزمن الطويل، ورؤية هيئتهِ التي لم تتغير كثيراً،
إنما ازدادت حيوية، وابتسامته ازدادت إشراقاً.
تفرق الجمع الذي اجتمع طويلاً، بعد أحاديثَ طويلة جمعت كل
مشاعرهم وذكرياتهم، وبعد الانتهاء من الطعام، لم يبقَ مع يوسف إلا
خولة وبنات خالتي وأمي، نهضت معهن في إتمام بعض المهام في المطبخ
وترتيب بعض الأشياء، وعدت بعدها إلى غرفة الجلوس، جلست
قرب خولة الجالسة بعيداً عن البقية، نظرت إلى بطنها المنتفخ وأنا
أهمس لها: «دعيني ألمسها» أكملت وأنا أتحسس بطنها في فرحة: «أما
آن الأوان لكِ لكي تلدي ونرى صغيرتنا الجميلة ياسمين»
ابتسمت خولة وقالت: «ومن قال لكِ إنني سوف أسميها ياسمين» كان
صوتها ممزوجاً بضحكة قصيرة، وعالياً جدّاً لجذب انتباه الجالسين بقربنا،
الذين ألقوا نظرة خاطفة علينا، إلا يوسف الذي تجعد ما بين حاجبيه
وهو ينقل نظراته بيني وبين خولة لثوانٍ قبل أن يعيدها إلى من حوله.
لم تمر إلا دقائق قليلة على جلوسي بصمت قرب خولة، حتى نادتني
أمي، تركت مقعدي وذهبت إليها، رأيت فاطمة تجلس مقابل أمي ويوسف، وبيدها كوب الشاي الأحمر، بينما سميرة بجانب يوسف، ترفع يدها إلى الطاولة الزجاجية التي وضع عليها إبريق الشاي الزجاجي لتصب لها كوباً، اقتربت من أمي حتى حاذيتها وقبل أن تصدر منها أي كلمة أخرى، قد لا ترضيني، أو تكشفني أمام يوسف، قلت بخفوت:" نعم"
لم تعرني أمي انتباهاً في البداية، بل أظنها قد نسيتني، فوضعت يدي على منكبها، فاستمرت في الحديث، تلاقت عيناي بيوسف
يوسف الذي
غرقت في عينيه، كان ينظر إلي، وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، أبعدت نظري عنه متحاشية النظر إليه، شعرت بيد توضع على كتفي جعلتني ألتفت إلى صاحبها بسرعة، استندت خولة عليّ وكأنها تآزرني، تعرف ترددي وما تخفي نفسي، فنطقت بصوت أعلى من صوتي: «أمي»
أخيراً انتبهت أمي إلينا
فقالت متذكرة: «ياسمين أحضري بعض المكسرات
الموجودة في غرفتي.»
لم يكن وجهه بعيداً، كان مقابلاً لي قرب وجه أمي التي أبعدت بصرها عني،
اتسعت عينا يوسف فجأة، حلت الصدمة على وجهه، عيناه تحدقان بي، بينما ظل يعقد حاجبيه حتى وصل وجهه إلى مرحلة العبوس، مما جعلني استغرب نظرته الشفافة والتي لم تجد استقراراً مريحاً لها في نفسي! ولتدارك الأمر وليتهم ظهري، مشيت محتارة محبطة مشككة به... لمَ نظر إليّ بنظرة لم أرها منه طوال مدة معرفتي به؟
لمَ عيناه طبيعيتين بطريقة مخيفة!
ولكنني حاولت تجاهلها، إنه لا يراني ولا يعرفني، لقد خيل إليّ ذلك، ولكنني شعرت بنظرته، أحسست بمشاعر الصدمة في وجهه!
مما صدم، هل عرفني؟
هل اكتشف أنني ياسمين!
هل أخبره أحد ما؟
ما الذي سأفعله لو حدث ذلك؟
ولكن من سيخبره وهو لتوه عائد!
إني اتوهم الأمر، ولا أريد أن يحصل ذلك، لأنني من سأخبره بالحقيقة، سأكون واضحة معه ولن أخدعه مرة أخرى!
أريد أن تسنح الفرصة لي لمحادثته!
فأنا متشوقة للحديث معه بعد كل هذا الوقت، وتوضيح الأمور والاعتذار!
عدت إليهم، وجدت أمي وبنات خالتي كما كن قرب يوسف، بينما وقفت خولة مودعة قبل أن تمشي بخطوات ثقيلة صاعدة السلالم، وضعت المكسرات على الطاولة وفتحتها لهم دون أن التفت إلى يوسف، وعدت إلى مقعدي الذي كنت أجلس عليه، انشغلت بهاتفي لعلي أبعد الملل عني، بينما عيناي تخطفان النظرة إليهم بين لحظة وأخرى، حاولت الانعزال لكيلا يكتشف أحدٌ ما بنفسي، ولكنني أصختُ السمع إلى أحاديثهم، لعلي ألتقط نبرة صوته وموجتها، أعرف مستجداته، أخباره التي تجنبت الخوض في تفاصيلها منذ أن سافر، وما الذي فعله، هل ظل مثلما هو أم تغير! ألا زال يذكرني!
استأذنت أمي أولاً متعللة بالتعب، تلتها فاطمة، ثم سميرة التي ظلت قليلاً في حديث لم أسمع تفاصليه، ورحل الكل بعدها دون أن يشعروا بوجودي!
ووجدت نفسي وحيدة مع يوسف الذي يبعد عني مسافة قصيرة
اجتاحني إحساس من التوتر!
لم أستطع تقويت نفسي على مواجهته، لم أعلم لم الوقوف كان صعباً عليّ، كنت خجلة ومترددة، لا أعرف كيف أبدأ، كيف اتغلب على نفسي التي تخاذلت حينما واجهت اللحظة الحاسمة.
بقوة أخرجتها من داخلي المتردد، وقوة ارتديتها لعلي بها أتغلب على
ضعفي الذي يتهرب منه.
وقفت متوجهة إليه، رأيته يجلس على الأريكة يطالع جهازاً بين يديه، لم أتبين ما هو، هل كان هو ذلك الجهاز الذي يسمع فيه الكتب سابقاً! أم أنه هاتف محمول! لأني رأيت نوراً خفيفاً... أصابعه تضغط بسرعة عليه، ركبتاه تتعلقان بالطاولة الموضوعة أمامه، كوب من الشاي الأحمر شبه فارغ قربه، تمتد إليه أصابعه، تلتقطه ثم يفرغه في جوفه ويعيده..
لم يكن منتبه لحركتي المسموعة، فجل اهتمامه مصوب نحو الجهاز، إلا عندما لمست قدمي الطاولة بالخطأ، وكادت توقع مزهرية منها، تداركت الأمر سريعاً والتقطتها، ولكن صوتها كان عالياً ليجذب الاهتمام لي، التفت إليّ متفاجئاً من الصوت الصاخب الذي أحدثته، وعند رؤيته لي، لانت نظراته ثم أخفضها سريعاً...
عدت أدراجي، هربت إلى المطبخ، خطواتي تسرع إلى الباب، افتحه وأدخل إلى الظلام، استند على الجدار دون أن أغلق الباب، أضع كلتا يدي على صدري، اتحسس نبضاته في الظلمة لعلها تهدئ، أقف للحظة أعيد ترتيب أفكاري، هل أعود أدراجي إليه؟ لا يمكنني تفويت هذه الفرصة! عليّ محادثته، إني مشتاقة لتأمل ملامحه دون أن يعرف هو بذلك!
للأحاديث الطويلة التي جمعتنا، للمشاعر التي يكنها لي وتظهر جلية في وجهه، لمشاعري التي لم تختف طوال تلك السنتين إنما بقيت تزورني في كل حين، أفتح الباب وأخطو عازمة على المضي إليه، مشيت إلى أن وصلت إلى تلك البقعة المنارة الجالس فيها، عندما وصلت إلى هناك وقابلتُ ظهره، احترت في صياغة الكلمات، ترددت كثيراً في اخراج الحروف، لأنها كانت متعسرة صعبة الولادة، ظهر يوسف لا يزال يقابلني، لم يتحرك ولم أتحرك أنا، في لحظة شوق أعادت الذكريات، أعادت آخر المواقف والنظرات، كل تلك المشاعر والاحاسيس اجتمعت في أعماق روحي، نطقت باسمه في لحظة تهور وشجاعة: «يوسف »
قبل أن انطق رأيته يقف، ولكن عند نطقي لاسمه، توقف مكانه ولم يتحرك ولا يزال ظهره يقابلني، ولكنه استدار سريعاً إليّ،
وعند استدارته وقبل أن أرى ملامحه، ابتسمت
وأنا أقول: «الحمد لله على سلامتك»
ابتسامتي ظلت كما هي، ولكنها بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً،
عند رؤية وجهه الذي تجمد فجأة، سقطت نظراته عليّ، عبرت إلى
داخلي، عيناه المتسعتان اللتان أغمق لونهما العسلي تحدقان بوجهي،
تقرآن تفاصيله، تعيدان النظر إليه مراراً وتكراراً.
كانت الصدمة جلية على وجهه الخالي من التعابير، فحاجباه ظلا مثلما هما، أما عيناه فازدادت حدتهما، أما شفتاه فلم تظهرا إلا الجمود،
وكأن لا وجود للمشاعر في نظراته، كان الإحباط والاستنكار كل ما
ينبعث منه!.
أبعد نظراته عني، وبصوت جاف حاد قال لي: «اعذريني إنني مضطر
للذهاب حالاً»
ودون أن يلقي نظرة أخيرة عليّ، أو يجيب على كلماتي، مشت
خطواته مصدرة صوتاً عالياً، فتح الباب وخرج، اغلقه خلفه بهدوء
ناقض الفوضى التي خلفها وراءه.
كنت متجمدة في مكاني أراقب كل انفعالاته، نظراته التي استغربتها
، وجهه الذي لم يصدر أي ردة فعل لصوتي الذي سمعه،
كانت ردة فعله غريبة جدّاً، وكأنني شخص لا يعرفه، أو شخص لا
يطيقه!
صحيح إنه يبدو على عجلة من أمره، ولكن لماذا عاملني بتلك الطريقة!
وبهذا الأسلوب الجاف والخالي من المشاعر!
هل يمكن أنه عرف من أكون!
أشك في أمري!
أم أن خولة من أخبرتهُ بذلك، لا يمكن فخولة لن تفعل هذا بي من
دون أن تخبرني بذلك!
شعرت بالصدمة للحظة عندما أغلق الباب وراءه، تلاهُ الألم والانهيار،
انهرت من هذا اللقاء القاحل، ومن هذا البرود القاتل، الذي سيطر
على كل ذرة في المكان، جمد كل المشاعر وجعلها تفتقد للحياة، هذا
اللقاء الذي انتظره أياماً طويلة، كنت أشعر بالاشتياق والحنين
إلى كل التفاصيل التي جمعتنا، أردت التغير،
التكفير عن ذنبي بعدم إخباره بمن أنا، أعترف له بشكل تدريجي.
فكم فكرت في خطة تكون أقل ضرراً، وكم كان يؤرقني ويؤلمني
التفكير أن ألا يسامحني!
ولكن الآن وبعد رؤيته بهذا الشكل وقبل أن يعرفني، جعلني أتخلى عن
كل شيء، وأستسلم نهائيّاً قبل البدء
وحيدة ظللت واقفة قرب تلك الأريكة ولا زالت رائحة المكان تُدقدق أنفي، هل هي رائحته أم رائحة عطور من سبقوه، أم أنها من كتمت على صدري واشعرتني بالضيق، هناك ألمٌ في صدري، ألمٌ لم أشعر به منذ زمن طويل، إنه الألم نفسه الذي كان موجوداً سابقاً
منذ سنوات وكان يأتيني متقطعاً وخفيفاً، الآن عاد شديداً بعودة يوسف
التنفس صعب، الألم يمزقني، أمشي بخطوات سريعة نحو السلم، أحاول كتم موجة بكاء ارتفعت فجأة وخنقتني، أصعد السلم، أقف عند العتبة، أجلس على البلاط البارد، اضع كفاي على وجهي اخنق لحظة ضعف، لحظة انهارت فيها قوتي التي حاولت تغطيت نفسي بها، تساقطت دموعي بحرقة، لم أكن أريد البكاء ولكن الكتمان صعب في أشد
المواقف خذلاناً.
***
بعد ذلك اللقاء، كان التهرب وسيلة لإخفاء تأثري الشديد من ذلك
اللقاء، ولكن الصدمة أن يتهرب يوسف مني هو الآخر، فكلما جئت
أنا ذهب هو، أو أنهى حديثه بطريقة سريعة أو انشغل بأمور تجعله
يتفادى فيه لقائي حتى لو كان صدفة!
شعرت أن هناك شيئاً مخفياً بشأنه، إنهم يتحدثون به ولكن لم افهمه، لأنني عزلت نفسي عنهم...
وتفاقم الأمر لأيام، شعرت فيها أنني شخص غير مرغوب به لديه
وكأنه يشعر بي متى جئت
يسمع صوت خطواتي، ويرى جسمي القادم من البعيد.
أصبحت أجلس لأغيظهُ في كل جلسة يجتمع فيها كل أفراد العائلة
أسترق النظر إليه متى سنحت لي الفرصة، أبعدها متى شعرت
بطيف انتباه منه!
شعرت بالبرود الذي يرسله لي متى مر بعيداً أو قريباً مني،
برود لا ألتقط منه سوى الألم، ألم ينغرس في أقصى مكان في قلبي
ويجعلني حزينة يائسة من تصرفه، لا أعرف ما الحل!
ألا يكفي كرهه لياسمين لأكون أنا التالية، أنا التي لا يعرف أنها
ياسمين نفسها، حالة من اضطراب المشاعر عشتها، كنت فيها في لحظة
أتهرب منه وفي اللحظة الأخرى أنتظره بشغف.
ولكن غير قادرة على مواجهته!
.
.
جلست في غرفتي بعد يوم شاق من العمل الذي بت مرهقة منه، ومشغولة البال عنه،
غير راغبة به، كنت أريد أخذ إجازة لأختلي بنفسي بعيداً عن
أي إزعاج.
طرق الباب عدة طرقات قبل أن تدخل أمي، بوجهها المستدير الذي
عاد لونه وامتلأ قليلاً، وبرز خداها عليه ليعطياها إشراقاً وحيوية
افتقدتها منذ زمن طويل، ظهرت ابتسامتها وهي تقول: «السلام
عليكم» تقدمت ناحيتي ونظراتها تلتقي بنظراتي، جلست على سرير
خولة، وهي تضع يديها على لحافها وتلمسهُ عدة مرات، تتأمل الغرفة،
تنتقل عيناها إلى الأسرة البيضاء القريبة من بعضها، ويقابلها
الدولاب وإلى كل جزء من الغرفة حتى الصغير منها، أخيراً استقرت
نظراتها عليّ لتقول وابتسامتها تذبل: «لقد مرت السنوات سريعاً
وكبرت بناتي وكُل واحدة منهن استقلت وأسست عائلة لها، ولم تبقي
إلا أنتِ معي إلى الآن وعلى الأكيد قريباً ستنضمين لأخواتكِ، هذه هي
الحياة في النهاية كُلٌّ لهُ طريقه فيها.»
أخفض نظراتي ثم أرفعها مع كل كلمة تنطقها أمي بحزن، وكأن كلماتها تحفر داخلي وتعبر عن الألم بداخلها، تكلمت برضا وقناعة لم أرها تتكلم بها من قبل، وكأنها تؤمن أن هذه هي الحياة ويجب عليها أن ترضى بقدرها حتى لو ظلت وحيدة...
عند انتهائها من جملتها، كنت أود النطق والإفضاء بما في داخلي، وددت
قول: أمي إنني لن أذهب عنكِ وسأظل معكِ، ولا يهمني إن لم أتزوج،
فأنا لا أفكر بالزواج ولا أرغب به.
أكملت أمي لتعود ابتسامتها إلى وجهها: «لقد تقدم إليكِ خاطب
من أقربائي، هو من عائلة معروفة والرجل ذو أخلاق عالية، وتاجر
غني ذو تعليم جامعي، هم لا يبعدون عنا إلا مسافة قصيرة وهو ابن
عم زوج خولة.»
تشكلت المفاجئة على وجهي، وأنا أحدق بعينين متسعتين إلى وجه
أمي، هززت رأسي وأنا أقول في مفاجئة لم تختفِ: «لست موافقة» انعقد
حاجبا أمي في تعجب وتساءلت: «لماذا! ما السبب؟!»
ازدردت ريقي باضطراب، ونظراتي تطوف على وجه أمي المستغرب، اخفضت بصري ثم أجبت
: «لست مستعدة، ولا أريد الزواج الآن»
كان جوابي غير مقنع بالمرة لأمي، تصاعدت الحمرة إلى وجهها، وبان الغضب عليه، كتمته بصعوبة وهي تقول: «كيف
تكونين غير مستعدة، وكيف أنكِ لا ترغبين بالزواج، عمركِ الآن
سبع وعشرون، أنتِ لست صغيرة، أنتِ كبيرة وكبيرة جدّاً أيضاً»
أخذت نفساً قصيراً قبل أن تكمل بصرامة: «أنتِ لم تعطي نفسكِ
فرصة حتى للتفكير، فكري وقرري بعدها، وصلي صلاة الاستخارة،
وكفاكِ إهداراً لحياتكِ بما يسمى لست مستعدة»
لم تختفِ الانفعالات ولا الغضب عن وجهها، وهي تقوم من جلستها
وتمشي إلى الباب لتفتحه وتخرج منه.
رفعت قدماي ووضعتهما على السرير، ثم وضعت رأسي على ركبتاي، شبكت أصابعي ثم حررتها من التوتر، غرقت في التفكير، إني أرفض الفكرة بأكملها، لا أشعر أنني مستعدة ولا قادرة على تقبل
الزواج حاليّاً.
هناك العديد من الأسباب، وأولها الخوف، الخوف من الخوض في مثل
هذه التجارب التي تجعلني أفكر فيها مراراً، وأحسب لها ألف حساب
بسبب ما عشته في حياتي!
وأيضاً هناك، في البعيد في أعماقي نبض خفي ينبض، نبض أعرفه جيداً
خاص بيوسف، ولا أستطيع تجاهله أبداً
نبض الآن أكتشفه، إنه يحزنني، مرتبط بكل جزءٍ مني وفراقه صعبٌ
جدّاً.
ما زلت على وضعي، أجلس تحت ضوء المصباح الخافت، وحيدة
حزينة، أتنفس بصعوبة بسبب ألم صدري
الذي عاد ثانية.
بعد فترة من الزمن، استمرت طويلاً جدّاً تنفست فيها عميقاً، اتصلت
فيها بنفسي، رفعت رأسي الذي أصابه الألم، ووجدتني أجلس على
أرضية باردة جدّاً في زاوية ضيقة خلف باب خشبي ضخم، تسللت
أشعة الشمس من النافذة المفتوحة لتنير بقعة مربعة بعيدة عني، نقلت بصري في كل ركن من
أركان ذلك المكان، إلى الرفوف البيضاء كما أذكرها، البلاط الأبيض
المزخرف الواسع، الموقد الكبير، المنطقة القريبة منه وعلى
الأرض كنت فيما مضى أجلس فيها مع يوسف نأكل المعكرونة، وفوق
الطاولة بجانبها نقشر البطاطس قبل أن نضعها في الفرن أو في الزيت، وهناك في تلك الزاوية التي ضمت زيت الطبخ رأيت
تلك العلبة التي رششتها على وجه يوسف وسببت لهُ العمى.
كان كُل شيءٍ في مكانه، وكان مطبخنا كما هو في الماضي، الذكريات
تحاصرني عندهُ، تذكرني بكل نفس فيه!
أخرج من تلك الزاوية، أمشي بقدمين حافيتين، أسير إلى الخارج
فتضربني أشعة الشمس، أحدق حولي فلا أجد أحداً، المكان هادئ
والجو حار وأوراق الأشجار تتحرك في الأعلى، إنها تظلني وأنا أمشي تحتها، أشم رائحة الياسمين، وورد شجرة النيم، أمشي بسرعة منتقلة من
تحت أشعة الشمس الحارة إلى تحت ظل الشجرات، أقف قليلاً
لأعود للركض إلى أن وصلت إلى باب المنزل ووقفت عنده، اختبأت خلف
الحائط بقربه عند سماعي لأصوات في الداخل، استرقت النظر
بهدوء، ينحسر لون الباب الخشبي لأرى يوسف الجالس على الأرض
بعينين معصوبتين، كان يضم قدميه، يمسك بكوب أبيض بين يديه،
يرتشف منه رشفة ثم يخفضه، ينظر أمامه ولا يحرك رأسه في أي اتجاه.
أصدر شهقة عالية، ارتجف من هول الصدمة، لم أستطع
المشاهدة أكثر، هناك انقباض شديدٌ في صدري إنه يمزقني، يؤلم كثيراً، حركت قدميّ إلى الخلف وانطلقت راكضة، إلى ذلك المكان الذي كنت فيه،
وصلت إليه ثم اختبأت خلفه وجررتُ الباب عليّ إلى أن لم تبقَ إلا
زاوية صغيرة تضمني، وأجهشت بالبكاء!
رفعت رأسي بعد موجة عميقة من البكاء الطويل، وأنا على وضعيتي
نفسها ولكن في غير ذلك المكان، فلقد كنت في غرفتي ووراء بابها،
بقلب موجوع مسحت دموعي التي لا تزال رطبة، ونظرت إلى يديّ
الكبيرتين كفاية لتكونا يدي أنا وليس يديْ ياسمين الصغيرة.
ذهبت باتجاه سريري، اضطجعتُ عليه، غطيت جسمي بأكمله
باللحاف، انطويت فيه، أتتني صورة يوسف مرة أخرى، فبكيت ثانية،
كنت لا أريد تذكر تلك الأيام ولا العودة إليها، فيا ليتها لم تعد، يا ليتني أنساها!
قمت من على سريري، متألمة من ألم صدري، أشعر بالضيق والاختناق، فتحت الأدراج بجانبي باحثة عن دواء فلم أجد أي شيءٍ يطفئ الألم
ارتديت حجابي، ذهبت إلى دورة المياه وغسلت وجهي مرة وعشر
مرات لعل أثر بكائي يختفي، خرجت ذاهبة إلى المطبخ، كان الوقت
قريباً من منتصف الليل والهدوء يسكن المنزل.
دخلت المطبخ، أغلقت الباب علي، شربت كوباً مليئاً بالحليب
البارد، شربته برشفات طويلة، أتجرع برودته لعلها تطفئ ذلك
الانصهار الذي يحدث في داخلي، سمعت صوت الباب يفتح فلم
ألتفت، بقيت في مكاني أفعل ما كنت أفعله ولكن بسرعة أكبر.
ألتفت بعد سماعي صوت الإغلاق الذي حدث سريعاً، فلم أجد أي
شخص، أنهيت كوبي وأنا أضغط على صدري أتحسس أذهب ألمه أم
لا!
سرت نحو الباب وخرجت
وقفتُ بدهشة وأنا أرى يوسف أمامي، وقفنا للحظة نحدق ببعضنا البعض، سرعان ما أبعدت عيناي عنه عندما شعرت بالتوتر من طريقة تحديقه بي، هناك حديثٌ في عينيه، حديث لم أفهم رموزه، ولم أفهم لم مشاعري تتعرى الآن بوجوده، لمَ بت أشعر أنه ليس هو نفسه!
أعدت بصري إليه، رأيت التوتر يسكن وجهه كما وجهي، فتح شفتيه ليطبقهما سريعاً، وكأنه يخنق الكلمات قبل خروجها، بعد تلك اللحظة وفجأة أخرج من جيبه ذلك الجهاز الذي كنت أراهُ سابقاً في
الماضي معه، وضع سماعته على أذنيه، وتجاهلني ببساطة وكأنني غير موجودة أمامه... حتى بعد أن حاولت الحديث بصعوبة قائلة:
" مرحبا" بصوت خافت..
عند هذا الحد تساقطت حصوني، التي هي بالفعل هشة ورقيقة
وبات ألم صدري لا يحتمل، إنه يخنق
ينشر حرارته إلى كل خلية في صدري، ويصل إلى أعلى بلعومي يسد
مجرى تنفسي
بت لا أطيق الكتمان، ولا أطيق إمساك ذلك الانفجار العميق في داخلي
حاولت التماسك، وحبس شهقاتي من الانفلات لكيلا يسمعني!
ولكنه سمعني، فترك ما بيده وحدق بي، وصلني صوته الهادئ: «أتبكين!»
كتمتُ صوتي الذي بدى واضحاً لنفسي، مسحت
دموعي وأنا أجيبه بصوت حزين: «لا، أنا لا أبكي!»
رفعت نظري إليه وأنا أمسح وجهي مستعيدة انفاسي منهية لحظة بكائي تلك، كان عاقد الحاجبين، عيناه لامعتان تنظران إليّ بألم، انحسر كل ذلك التوتر واللامبالاة من وجهه، حلت محله تلك النظرات المألوفة لي،
نظرات يوسف الصغير، وجعلتني غير قادرة على ابعاد نظري عنه!
ببطء ابتسم يوسف، ابتسامته المميزة بالنسبة إلي، وارتفع حاجباه
الغليظان وعيناه تقابلان عينيّ، وقال: «سلمكِ الله، اعذريني في ذلك
الوقت كان لدي ظرف، فصديقي قد أصابه حادث ولم أكن في
تركيزي»
في تلك اللحظة اختفى كل ذلك الألم والحزن، وحل محله إحساس بالراحة، لقد اراحني عذره، طمأنني أنه ليس بسببي، خفت حدة توتري ولكنها عادت بعودة الصمت، ظللنا متقابلين، ولكن الوضع مختلف، يوسف ينظر إليّ بثبات، جعلني أشعر أنني أقف أمام رجل أخجل منه واتردد بالحديث معه! ليس كيوسف الذي أريد تعويضه! لا أعلم لم اختلفت المشاعر فجأة؟
أهو الإحساس الجديد الذي أشعر به نحوه؟ أم أنه البعد الذي خلفته السنتين الماضيتين!
كسر يوسف ذلك الصمت من دون أن يتحرك، أو تتزحزح
نظراتهُ عني: «كانا عامين حافلين بالإنجازات، أنهيت دراستي فيهما،
استعدت فيهما شيئاً ثميناً، كنت فيهما أموت شوقاً للعودة إلى أهلي،
وأفتقدهم كثيراً، أريد عيش أفراحي معهم، وكنتِ أنتِ أكثر
شخصٍ مميز لديّ، محور معظم أفكاري وأشواقي، كُنت متشوقاً
لمعرفة ردكِ، ولسماع صوتكِ، ولرؤية وجهكِ الذي تمنيت رؤيته منذ
أن التقيتكِ»
بعد كلماته هذه، التي جعلتني مشوشة الفكر غير قادرة على ترتيب
مشاعري التي سيطرت على قلبي، وأذابت كل جزء منه، قال مودعاً
وهو يمشي عائداً من حيث أتى: «تصبحين على خير»
ومشى بخطوات ثابتة بطيئة، دخل إلى قسمه البعيد، الذي سطعت
فيه الأنوار في جهة حوت باباً بنيّاً واحداً فقط،
واختفى طيفه الذي ظلت مشاعره طافية على السطح.
كانت كلماته تتردد بين أفكاري، تحاصر مشاعري وأنا أمشي متجهة
إلى السلم بعد أن وقفت طويلاً أستوعب ما قاله وما الذي فعله بي بعد
حديثه.
أرتفع إلى الأعلى مع كل درجة من السلم، ابتسامتي تتسع، فرحتي
تزداد، أشعر بأنني أطير وأحلق عالياً، فأضع يديّ على وجهي أطفئ
تلك الحرارة التي تنبعث منه.
أشعر بالحب يسكن كل جزء مني، حب عميق أعترف أني أُكنه ليوسف
حب لا أعرف كيف هو!
ولكنه عبارة عن إحساس عميق ينبعث من داخلي عندما أراه، وعند
كل نظرة أو ابتسامة ينبض قلبي بشدة، هو إحساس أن هذا الشخص
لا أكن له أبداً أي مشاعر سلبية.
قضيت ليلتي تلك في أرق، أرق من أجمل ما يكون، فأفكاري كلها
كانت محصورة بيوسف، وبالسعادة التي أعطاني إياها!
***
عند الظهيرة وفي وقت متأخر من يوم إجازة، قررت الاستيقاظ من
سريري بعد نوم متقطع بسبب الضوضاء المنبعثة من
الخارج.
نزلت من على السلم، اتجهت نحو الصالة، رأيتهم هناك، يدخلون
ويخرجون منها، تحمل الخادمات وبنات العائلة الصحون، عقدت حاجباي في تفكير هل هناك مناسبة؟ لمَ لم يخبرني أحدٌ بها!
تنتشر رائحة بخور العود الكمبودي في الأجواء، مختلطة برائحة مخلطات العطور الزيتية العربية، منها العنبر والمخمرية، دخلت فرأيت الطاولة الأرضية الرخامية، مملوءة بشتى أنواع الأطعمة، وكل أفراد العائلة جلوس في حديث وضحكات عالية، نقلت نظراتي بينهم في حيرة، استغربت وجود أخواتي، أخيراً نظرت إلى ملابسي البيتية التي لا تناسب ذوق جلستهم، ووجهي الذي لم أضع عليه أي زينة، بعكس وجوه الحضور،
لم يكن لدي خيار سوى التقدم وإلقاء التحية
على كل فرد، وفي النهاية وصلت إلى خولة بعدما انتهيت من تقبيل النساء على الخدود، كان الإرهاق واضحاً على
وجهها بسبب الحمل، قبلتها بشوق، جلست بقربها،
في البداية صمت أستمع إلى أحاديثهم التي تتسم بالألغاز بالنسبة
لي، وأرى نظرات خولة الغريبة لي كلما التفت إليها، وفي المقابل كنت
أبحث عن يوسف في كل ركن يقع بصري عليه، وعند كل صوت
يصل إلي، وعند كل باب يفتح.
سمعت صوت خالتي بالقرب مني تقول: «لمَ لم يخبرنا بذلك قبل
أن يفعل العملية، حتى لو كانت بسيطة، كان يجب عليه ألا يخوضها
وحده»
رد خالي عليها بصوت عميق: «لم يرد إخافتكم، المهم النتيجة التي
غيرت كل شيء وجعلته يسترجع ما فقده»
بصري الذي انتقل إلى خالي وخالتي في فضول لمعرفة ما يتكلمان عنه
سرعان ما أبعدته عنهما قبل أن ينتبها لي، ونقلته إلى خولة التي كانت
تنظر وتسمع مثلي، حدقت بها في استفسار وخوف فقابلني عمق عينيها
البنيتين اللتين كشفتا مشاعر أحسستها تخصني أنا، اضطربت مقتربة منها، همست بخفوت مخفية توتري:
«ما الذي يحدث هل هناك مناسبة
خاصة لهذا التجمع؟ ومن الذي يتكلمون عنه، ومن الذي خاض
العملية!»
أمسكت خولة بيدي وشدتها، وبنظرة من عينيها فهمت مقصدها،
وقفت معها وسرنا باتجاه المطبخ، دخلت معها إليه، أمسكت بالمقبض خلفي مغلقة الباب.
كان المطبخ خالياً، ومليئاً بالفوضى، أسندتُ ظهري إلى الباب وخولة
تقابلني، عقدت خولة حاجبيها، وأخذت نفساً عميقاً وهي تسحب
كرسيّاً قريباً منها ثم تجلس عليه، مرت فترة من الصمت كانت فيها
خولة تتأمل تعابير وجهي الذي ينتظر منها حديثاً مطمئناً، مللت منها
لأقول وأنا أشد على أكرة الباب التي في يدي: «ما بكِ لمّ لا تتحدثين،
إنكِ تخيفينني أهناك أحدٌ أصيب بمكروه، أو»
صمت قليلاً وأنا أفتح عينيّ لفكرة أنه قد حصل ليوسف شيء أو
لأمي التي لم أرَها حتى الآن أو أي أحد قريب مثل أبي، وضعت يدي
في شعري الذي أزحت طرف حجابي عنه، وشددت على كلماتي:
«خولة أرجوكِ إنكِ تجعلينني أفكر بأفكار سيئة » ابتسمت خولة بما
يشبه نصف ابتسامة وهي تقول بوجه حمل ملامح متعبة: «لم يحدث
أي مكروه اطمئني إنما هو كل خير» زادت ابتسامتها وهي ترفع كتفيها
وتكمل: «يبدو أنكِ لا تعلمين شيئاً»
وقبل أن أحلل كلماتها أو أفكّر بها، أو أتخلص من الاستغراب الذي
حبس أنفاسي، قالت وهي تضع يدها على جبينها حائرة: «لا أعلم إن
كنتما التقيتما ببعضكما وعرف من أنتِ! على الأكيد أنه عرفكِ من تلك
المرة» صمتت تأخذ أنفاسها للحظة وعيناها تلمعان، أكملت بينما كلماتها هوت بقلبي عميقاً في صدري،
: «ياسمين، إن يوسف قد استعاد بصره، إنه
يرى، إنه يرانا الآن»
قالتها ودموعها تتجمع في عينيها.
تجمدت للحظة، تجمد كل ما فيّ، لم أفكر إلا فيما أسمعه، أعيده
مرات ومرات في عقلي، أنظر إلى خولة في دهشة، أفلت اكرة الباب، اقتربت منها خطوة لأفرج عن الكلمات دفعة واحدة: «خولة أقسمي على ما تقولينه وأنه حقيقة!»
واستعدت كل الكلمات التي قيلت أمامي والتي لم أفهم رموزها،
وأخيراً وضحت معانيها!
دموع خولة ويداها اللتان أمسكتا بيديّ وشدتا عليهما كانت تأكيد على صدق حديثها، وكأنها
تطمئنني،
تريح قلبي الذي تألم طويلاً
تخبرني أن كل شيءٍ انتهى ولا داعي لاستعادة الماضي، فالماضي ماضٍ
مستقبله متغير!
بكيت عند خولة دموعاً حارة،
لم تكن دموع حزن إنما دموع فرحٍ وسعادة لا توصف، فلا يمكنني
وصف شعوري إلا عن طريق الدموع فشعوري لا يقال.
لم تكن هنالك كلمات إضافية من خولة التي ذهبت وتركتني وحيدة،
أمسح دموعي، أنظر عبر النافذة إلى الخارج إلى السماء الزرقاء الصافية
الآن فهمت معاني كلماته، وأنه على علم بمن أنا من ذلك الموقف
لست ألومه على تصرفاته أبداً، فله كل الحق، فأنا من خدعهُ وخذلهُ
ويحق له كرهي مع أنني لا أطيق كرهه لي!
لا شيء يهم الآن حتى لو جُرحت أو كرهت، سأدفن الألم داخل قلبي
وأتخلص منه بالتأكيد
أهم الأشياء عندي الآن هو أن أرى من أحب في أفضل حالاته وفي
أتم صحته
وفي هذه الحالة أكون أنا في أتم الرضا، والراحة النفسية التي تجعل كل
خلية فيّ تتنفس.
***__

شبيهة القمر 13-07-20 08:52 AM

رد: خطوات على الجمر
 
كللولييييييبش 💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃
واخيييييييرااا ستتحرر ياسمينه من الماضي
يوسف الحمدلله على سلامتك ياشيخ ..احساسي انك تحب ياسمينه ماخاااب هههههههه

غلاي لاتقولين ان الروايه بتخلص ..خساره احس بفقدها 😌
اهم شي ان عقدة الذنب لياسمين انتهت وان شاءالله تتكلل بالفرح 🧖‍♀️🧖‍♂️
تسلمين غلاي ..جزء جميييل واتوقع لقاء يوسف وياسمين ومصارحتهم لبعض بتكون اجمل .. بإنتظااارك

شبيهة القمر 13-07-20 09:03 AM

رد: خطوات على الجمر
 
تذكرت شي هههههه
يوسف كان متشوق لرؤيه ياسمين بعد كل هالسنوات لانها كبرت وهو اعمى مايشوفها ..ولان يوسف من طبيعته وهو طيب فأتوقع جريمه ياسمين نساها حتى لو كان هو المتأذي الوحيد منها .. يمكن لانه كان صغير وتعود على حالته وتعايش معها ..او حبه لها كان اكبر ..فأتوقع هو نفس ياسمين كان يحن لأيامهم مع بعض وذكريات طفولتهم ..ويمكن شوقه لرؤيه ياسمين بعد هالعمر هو الي خل يوسف يفكر انه يسافر ويسوي العمليه ..

سميتكم غلآي 15-07-20 09:34 AM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3731009)
كللولييييييبش 💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃💃
واخيييييييرااا ستتحرر ياسمينه من الماضي
يوسف الحمدلله على سلامتك ياشيخ ..احساسي انك تحب ياسمينه ماخاااب هههههههه

غلاي لاتقولين ان الروايه بتخلص ..خساره احس بفقدها 😌
اهم شي ان عقدة الذنب لياسمين انتهت وان شاءالله تتكلل بالفرح 🧖‍♀️🧖‍♂️
تسلمين غلاي ..جزء جميييل واتوقع لقاء يوسف وياسمين ومصارحتهم لبعض بتكون اجمل .. بإنتظااارك

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شبيهة القمر (المشاركة 3731010)
تذكرت شي هههههه
يوسف كان متشوق لرؤيه ياسمين بعد كل هالسنوات لانها كبرت وهو اعمى مايشوفها ..ولان يوسف من طبيعته وهو طيب فأتوقع جريمه ياسمين نساها حتى لو كان هو المتأذي الوحيد منها .. يمكن لانه كان صغير وتعود على حالته وتعايش معها ..او حبه لها كان اكبر ..فأتوقع هو نفس ياسمين كان يحن لأيامهم مع بعض وذكريات طفولتهم ..ويمكن شوقه لرؤيه ياسمين بعد هالعمر هو الي خل يوسف يفكر انه يسافر ويسوي العمليه ..

بالنسبة لكتابتي معظم الي يقرونها ما كانوا يتوقعون الاحداث القادمة، بعزي في ها الرواية أنها بسيطة كتبتها وانا توني في أول العشرين علشان اعطي عذر هههههه أو ان سير الاحداث كان سهل عليج :55: .... :9jP05261: ان شاء الله المره اليايه اذا فكرت احط رواية بخلي الاحداث متشابكة وصعبة التوقع... بس والله استانست على توقعاتج وكيف عرفتيها... وصح مثل ما قلتي الفصل القادم بيكون الفصل الأخير ونهاية رحلتنا مع ياسمين... مع ان كانت بدايتي فيها من 2013 بس يوم رديت أعدل فيها وأقراها عشت وياها أوقات حلوه واستانست وانا احطها مع شوية احباط طبعا... بس اهم شيء شخص واحد يتابع والله كملتها علشانج ما حبيت اردج وانتي تردين عليه وتتابعين وتحمسيني

شكرا لج

سميتكم غلآي 15-07-20 11:18 AM

رد: خطوات على الجمر
 
فصل جديد

مرت الأيام، دون أن أبرر لنفسي، فلم تكن لديّ مبررات،
فمبرراتي مجرد أعذار وضعتها لنفسي، قد تكون أثمن الأشياء وأهمها
بالنسبة لي وقد لا تكون نفسها بالنسبة لغيري!
حاولت التهرب منه ومن كل شيء لعلي لا أوجهه حقيقة خداعي له وأنه عرف بشأنه، لفترة انعزلت في غرفتي، ولكنني خرجت مرغمة لكيلا أكون محل شك، مع خروجي وتواجدي مع العائلة، كنت اتفاداهُ، أستغلُّ أي فرصة سانحة للهروب عندما تقع عيني عليه من النظرة الأولى، حتى دون أن أفكر للحظة ماذا يمكن أن يظن فيّ الآن، لم أرد التفكير!
ولم أتجرأ على محادثته منذ ذلك الوقت، لأنه لم تكن لدي الجرأة الكافية
على مواجهته ولا الاعتذار إليه!
صحيح أنني مسرورة لأجله، بل ولا أصدق ذلك، فذلك كان
أقصى أمنياني، أمنياتي التي يئستُ من تحَقُّقِها، ولكنني حزينة في داخلي
على هذا البعد والمسافة التي لم تتغير ولا أظنها ستتغير، فالحواجز بيننا
لن تنكسر، لأنها بنيت منذ زمن طويل وأصبحت قاسية!
منذ زمن طويل، أصبحت علاقتي بأمي جيدة نوعاً ما، فلم تصبح
كلمات أمي مزعجة لي، ولا عدم إصغائها واهتمامها بي، لقد تعودت أخيراً، وأصبح تقبل حياتي أسهل، لقد حاولت مجاراتها، تقبل أنها أمي، واشغال نفسي بنفسي!
ما زالت أمي غاضبة مني، تلح عليّ في كل مرة ننعزل فيها ببعضنا، أن
أوافق على العريس الذي تأخرنا عليه أسبوعين أو أقل، وأنه يجب عليّ
أن أعيد التفكير لأنها فرصة لا تعاد مرتين!
وأنا ما زلت على رأيي، لم أوافق بعد ولكن إصرار أمي يجعلني أعيد
التفكير في الموافقة والتجربة، حتى لو كان ذلك عكس رغباتي، وميل
قلبي، قلبي الذي استيقظ منذ عودة يوسف، فكيف لي أن أبدل ما في
قلبي أو أنزع حبه منه!
في صباح يوم الاثنين، كنت في عملي عندما اتصلت خولة لتبشرني
بولادتها وأنها أنجبت طفلة، كانت فرحتي لا توصف بقدوم المولودة
الجديدة التي انتظرتها مع خولة، فخولة هي أحب الأشخاص
إلي، بل هي شيء ثمين، لا أعلم متى أصبحت ولكنها هكذا
هي الآن!
في المساء بعد انتهاء عملي ومروري بالمنزل سريعاً لأخذ أغراضي،
ذهبت إلى المستشفى الذي ولدت به خولة، حملت باقة ورود متنوعة
الألوان بين يديّ، وأمام باب غرفتها وقفت بعد عدة طرقات خفيفة،
وعند سماع صوتها فتحت الباب، دخلت إلى غرفة تزينت باللون
الوردي، وانحسر لون الحائط الأبيض لتظهر خولة النائمة على
فراشها الأبيض، والورود الملونة والهدايا تحيط بها من كل جانب،
جلست خولة ووجهها شاحب ومتعب، رسمت ابتسامة صغيرة عند رؤيتها لي، قبلتها على خديها، ثم اخذتها في حضن قصير وأنا أقول:
«الحمد لله على سلامتكِ ومبارك عليكم
الطفلة» ردت خولة بصوت منخفض: «سلمك الله يا عزيزتي» وهي
تنظر إلى الصندوق الزجاجي القريب منها وإلى الطفلة الموضوعة
فيه، وكأنها تشير إليها، ذهبت إليها في سعادة، وعند رؤيتها ورؤية
ملامحها الصغيرة والجميلة قبلتها قبلة خفيفة، وشعور غريب ينساب
إلى قلبي ويملؤني بالفرحة!
جلست مع خولة في أحاديث طويلة تحكي بها تفاصيل ولادتها وعن
مخاوفها قبلها، بقيتُ معها بما أني من سينام معها الليلة،
وبعد وقت طويل، جاء اتصال لخولة، تكلمت فيه بكلمات متقطعة
فهمت منها أن أحداً ما قادم، انهت الاتصال، ثم نظرت إليّ قليلاً تتابع فيها ردت فعلي وهي تقول:
«إنه اتصال من يوسف يقول به
إنه قادم.»
خفضت نظري في توتر بعد انتهاء خولة من كلماتها، جاريتها بإيماءة خفيفة من الرأس، ثم أخرجت هاتفي وبدت اعبث به،
مخفية اضطرابي وقلقي، عليّ التخلص من كل تلك الاحاسيس قبل أن يأتي!
أو عليّ الهروب قبل أن يأتي، أستأذن من خولة متعللة بأي شيء لكيلا أقابله، نعم سأخبرها أنني احتاج شيئاً من الصيدلية، أي شيء يخطر ببالي، ثم أذهب للتنزه في الحديقة إلى أن يرحل وبهذا أنجح في عدم مواجهته، لست مستعدة! لا أستطيع اظهار نفسي له، لأنني حائرة وخجلة!
وفي لحظة اضطراب وعدم تركيز قمت من مقعدي، حملت حقيبتي على كتفي، وقبل أن أخطو خطوة واحدة
نادتني خولة التي أمسكت طفلتها
بصعوبة، وكأنها كانت تعاني معها وتتألم، قالت لي:
«هل يمكنك إحضار حقيبتي؟» أحضرتها إليها وحاولت مساعدتها في
بعض الأمور التي تحتاج إليها، وبعد فترة قصيرة من الجلوس بصمت،
تحدثت خولة التي تجلس على سريرها تضم طفلتها إليها وعيناها
لا تفارقانها: «كنتِ تريدين الذهاب؟»
أوأمت برأسي بـ «نعم» وقلت مدارية توتري دون أن أنظر إليها:
«كنت أريد الذهاب إلى الصيدلية
»
رفعت خولة بصرها ناحيتي في نظرة قصيرة قبل أن تخفضه ثانية إلى
طفلتها، وكأنها تخبرني بأنها تفهمني بالكامل، تعرف أنني أستعد
للهروب من يوسف، بعد مدة قصيرة من التأمل الصامت لطفلتها،
قالت:
«في الحقيقة أنا فضولية بشأن معرفة ما حدث بينكما، فيوسف لم يخبرني
شيئاً حتى إنه لم يظهر ذلك الغضب ناحيتي لأنني أخفيت سر من تكونين
عنهُ، أخبريني ياسمين هل اعتذرتِ إليه؟ وكيف كانت ردة فعله!» كانت
نظرات خولة تنتقل من طفلتها وإليّ في فضول منتظرة جوابي الذي طال
انتظارها لهُ، فأنا كنت أبعثر الكلمات بحثاً عن الأجوبة
لم يكن لديّ أي جواب لها إلا الصمت فداخلي كان في تيه وحيرة
، لأنني وببساطة لم أستطع الاعتذار إليه، لأنه
كان صعباً عليّ، فلقد حاولت وفشلت، وفي كل مرة كنت أحاول فيها
مواجهته أفشل قبل البدء لأنني أظن أنه ليس لدي الحق لذلك، إنني
خجلة مما فعلت، وأفضل البقاء على هذه الحالة بدل الاعتراف بأنني
خسرته!
كنت أشعر بالتردد، أردت الإفضاء بما في داخلي لخولة، لأنني كنت أخبرها فما مضى بعضاً من أسراري، لأنها الوحيدة التي أستطيع التحدث معها بحرية، حتى لو كانت ردة فعلها لا تعجبني
وتغضبني أحياناً! ولكن الآن يبدو صعب عليّ إخبارها!
بعد صمتي الطويل الذي قاومت فيه الاحباط، والانهيار التام لمشاعري،
وأفكاري التي تعيد نفسها مراراً، وتبحث عن الكلمات لقولها، قلت
لها وأنا أنتحل القوة: «أنا متيقنة أنه يعرفني الآن، وللأسف لم يكن
هنالك وقت للقاء بيننا أو إصلاح الأمور»
لم أستطع الاعتراف لها عن تخاذلي، أو الإفضاء لها بكل تلك الصراعات
الداخلية، فضلت الاحتفاظ بكل شيء لنفسي لكيلا أكون في موقف
المذنب!
وكأن خولة شعرت بالمرارة في كلماتي، وبتلك الغصات التي انحشرت
بينها، فاختارت الصمت ولم تسأل أي أسئلة أخرى بعدها، فلم يكن
هنالك مجال لأن الباب قد طرق بهدوء، هدوء ناقض الفوضى التي
حدثت في داخلي، تمنيت بيأس ألا يكون يوسف!
من وراء الباب وصلنا صوته الغليظ الذي يستأذن بالدخول، وجعلني
أمسك طرف حجابي بقوة، وأقوم من جلستي مضطربة متوترة، قالت
خولة قبل أن أفكر أنا بالنطق: «تفضل»
دخل يوسف الذي لم أرفع نظري إليه، إنما رددت عليه السلام
بصوت منخفض لا أظنه سمعه!
تقدم يوسف من خولة وبارك لها، ووضع سلة من الحلويات بقربها، وعيناي ترقبان قدميه، تريان حذاءه الأسود ولا ترتفعان إلى الأعلى تهرباً من الصدام!
شعرت بالارتباك ولكنني رفعت رأسي لأتجاهل ما أشعر به، وبالمقابل فعل يوسف مثله، هل كان يتجاهلني كما أتجاهله؟ لا... لم يكن كذلك خلال الأيام المنصرمة، لأنني كنت أشعر بنظراته إليّ، لقد تغير شيئاً ما ولكنني أجهل ما هو تماماً! ولا أريد مواجهته الآن لكيلا اصدم منه!
جلس يوسف على المقعد قرب الباب، بعيداً عني وعن خولة، جعلت نظري إلى خولة فقط، تحدث إليها يهنئها بولادتها، ترددتُ بالاستئذان منهما، كنت أريد الخروج بأسرع فرصة ممكنة قبل أن اكشف اضطرابي لهما، لقد كنت أعاني بشدة وأنا معه في نفس الغرفة، وقد يفضحني توتري، ولكن سرعان ما بكت الطفلة بكاءً ملأ الغرفة،
حملتها خولة بين يديها محاولة تهدئتها، تضعها مرة على كتفها
ومرة أخرى في أحضانها، تضمها إليها في خوف ظهر على وجهها، وفي
النهاية وضعت عليها غطاء الرضاعة وألقمتها ثديها فهدأت الطفلة!
بعد عدة دقائق قضيناها في صمت، دخلت الممرضة، استغليت تلك الفرصة ووقفت مستأذنة من خولة:
"سأذهب إلى الصيدلية ثم أعود "
خطوت خطوة ثم أوقفتها، عندما اقتربت منه لأنه كان يقف عند الباب، ارتفع بصري إليه دون قصد مني، تلاقت عينانا في نظرة سريعة كشفت لي عن مشاعر لم أفهمها، كانت عيناهُ غرقتان في لونهما العسلي، وفي حديث طويل يخص ما بيننا، فأخفضت نظري في استحياء، مغمضة عيناي، كيف سأمر من جانبه، ولكنني اسرعت بخطواتي وحينما مررت بجانبه سمعت همساً، ولكنني لم التقط موجته، وخرجت من الباب...
انغلق الباب خلفي بهدوء، وأنا أكمل خطواتي في ممر أبيض طويل بارد تفوح منه رائحة المعقمات،
أنقل نظراتي بين الأبواب الرمادية البعيدة بعضها عن بعض،
يتزين بعضها بالزينة الوردية أو الزرقاء وأما بعضها الآخر فلقد
كان خالياً من أي لون آخر عدا لونه.
أرى الممرضات القادمات والذاهبات اللاتي يرسلن الابتسامات فأرد
عليهن بالابتسامة نفسها.
أصل إلى المصعد، أصعد فيه وحدي وأضغط على زر الطابق الأرضي
ألتفت إلى اليمين، أعدل حجابي الأسود، أنظر إلى
وجهي الخالي من مساحيق التجميل في المرآة، ورأيت أنه محمر
ومضطرب!
كان الاضطراب واضحاً على وجهي وعلى عينيّ السوداوين
في تلك اللحظة التي تأملت فيها ملامح وجهي، ابتسمت فهناك طيف شبه
بيني وبين أمي
الآن وأمام عينيّ لم أكن تلك الفتاة التي يقولون عنها إنها لا تشبه أحداً
إطلاقاً، ومن أين جاءت بهذه الملامح التي أرجعوها بعد حيرة لأبي
الذي أخذت منه بعض الصفات الجسدية واللون، كنت أكره
ذلك الإحساس الذي يعطونني إياه، وكأنني كائن غريب عنهم!
أبعدت نظري عن المرآة وباب المصعد ينفتح، خرجت منه، مشيت
بخطوات سريعة، أفكاري تحاصرني، أتذكر كل اللحظات التعيسة، أبي
الذي لم يفكر في السؤال عني أو الاطمئنان عليّ إذا مر يوم أو أسبوع
على موعد اتصالي، وأمي التي تهتم بكل من حولها عداي، وأخواتي
البعيدات عني وحتى خولة التي ابتعدت عني قليلاً بعد زواجها، فلا
أحد يقف معي في لحظات احتياجي لكتف أستند إليه.
هززت رأسي أنفض تلك الأفكار البائسة عني والتي ما أن تعود إلي
حتى أحاول التخلص منها حتى لا تكون مصدر توتر وبؤس لحياتي،
فإن لم يكن أحدٌ معي فالله وحده معي، وكفى!
أكرر على نفسي أن لا شيء مهم، وأنه يجب عليّ النسيان وترك كل شيءٍ
ورائي، لأن الأمور قد تغيرت ولم يبقَ شيءٌ على حاله.
أمشي في حديقة المستشفى بخطا بطيئة على العشب الأخضر، أستنشق
رائحته القوية،
أرسل نظراتي إلى ساحة الألعاب
وأسمع أصوات الأطفال العالية وهم يلعبون، وأرى ظلالهم التي
تظهر وتختفي، تعيدني خطواتي إلى الطريق الذي جئت منه.
وقفت بقرب البوابة التي تقودني إلى مدخل المستشفى، كانت المصابيح تنير بقعاً متفرقة من المكان، مشيت قليلاً ثم جلست مسترخية ساهمة، أفكر، رأيت البوابة تفتح ثم يخرج منها شخصٌ وكأنني أعرفه!
إنه يوسف، أدقق النظر إليه، لعلي أتوهم رؤيته، أره يتلفت حوله، قبل أن يراني، أرى تقدمه الواضح مني، خطواته الواسعة وبنيته العريضة التي أعرفها جيداً، إنه يوسف فأنا لا أخطئ تمييزهُ!
أظل جالسة في مكان، ولكنني أمسك خشب المقعد اتمسك به لا أعرف هل يجب عليّ أن أقف أو اظل جالسة، ولكنني وقفت وأردت الالتفات والمشي بسرعة بعيداً عنه!
ولكنني توقفت عندما سمعت صوته ينادي عليّ:
"ياسمين انتظري، لقد كنت أبحث عنك في الصيدلية ولم أجدك هناك!"
بقيت في مكاني متوترة
تقدم ناحيتي، إلى أن وصل بالقرب مني، ولم تفصل بيننا إلا مسافة بضع خطوات، حدثني دون أن أرفع نظري إليه:
" هل يمكنني محادثتك؟"
ازدردت ريقي، رفعت يدي في ارتجاف لألمس طرف حجابي وكأنني اعدله وأنا اقول:
"تفضل"
لم أعلم إن سمعه أم لا، ولكنه أبقى على مسافته الفاصلة بيننا،
زفر زفرة قصيرة، وأتبعها بنفس طويل مسموع دل على التوتر، وقال
ووجهه خالٍ من التعابير الواضحة بالنسبة إلي: «أظن أن الوقت قد
حان لتوضيح الأمور، فلا أظن أن التهرب حلٌّ يريح، إنما يصعب
الأمور أكثر ويتعب النفس»
صمت قليلاً بعد كلماته وكأنه ينتظر ردة فعلي، التي بدلت حالي
وذكرتني بالذي بيني وبينه
وكأن الفرصة قد أتت إليّ في تلك اللحظة، الفرصة التي كنت أنتظرها
وأحاول خلقها، والآن وبعد محاولات يائسة ومترددة جاءت إليّ منه
هو!
أطبقت شفتي في ارتباك شديد، كتفتُ ذراعيّ لأقوي من عزيمتي، حاولت تحريك لساني قبل أن أتردد وأتيه، قلت:
«يوسف... إني أعتذر منك على عدم إخبارك بمن
أنا»
هي ثانية أغمضت فيها عينيّ لأفتحهما بعد كلماتي، وأنظر إليه مباشرة،
وأرى وجهه الذي كشف النور ملامحه
حاجباه مسترخيين، عيناه لامعتين، كفاه تختبئان في جيبيْ بنطاله
الأسود الرياضي، وقبل أن تتحرك شفتاه بالكلمات، تقدم خطوة إلى
الامام باتجاهي، وقصرت المسافة بيننا ووضحت ملامحه أكثر، وجهه
الذي ضخ حزناً وألماً واضحاً، تحدث أخيراً بعد صمت: «كان هذا
السؤال الأكثر طرحاً على نفسي، لمَ فعلت ذلك! لمَ لم تخبريني بالحقيقة!»
عند هذه النقطة وبعد إنهائه لجملته، وبعد اعتذاري منه،
امتلكت في تلك اللحظة كل شجاعتي، ورحل عني ترددي،
أحسست أني أستطيع الاعتراف ومواجهته بكل شيء، إخباره عن
عمق جراحي، التلميح عن عمق حبي له، نطقت ووجهي يقابل
وجهه المنتظر لجوابي، وعيناي تنظران إليه دون أن يتزحزح
نظري عنه: «يوسف أخبرني لو كنت أخبرتك من البداية من أنا،
أكانت سوف تصل علاقتنا إلى ما هي عليه الآن! أكنت ستستمر في
محادثتي! لا، فلا أظن ذلك، إنما ستفعل بي كما تفعل دائماً وستنظر إليّ
بتلك النظرات التي تظهر عمق كرهك لي، وعدم رغبتك في رؤيتي
وسماع صوتي»
صمت أجمع مشاعري التي تبعثرت، وأنفاسي التي اختنقت
أخذت نفساً طويلاً وأنا أضغط على شفتيّ لكي أتماسك ولا أنهار أمامه
نظراتي ابتعدت عنه، في مقاومة بائسة لحبس دموعي، ووصلني صوته
منخفض النبرة ومليئاً بالمشاعر:
«ومن قال إني أكرهك! »
لم أستطع المقاومة، كنت أريد إخباره بكل شيءٍ حتى لو عنى ذلك
إظهار ضعفي، والاعتراف له بمشاعري
: «كل شيءٍ كان يدل على ذلك، فكم كانت تصرفاتك
واضحة وأنك لا تطيق وجودي، فكنت تنزعج من سماع اسمي عندما
ينادى، ولم تسألني أبداً إن كنت ياسمين»
تساقطت دموعي رغماً عني، وجعلت صوتي حزيناً متألماً وأنا أكمل:
: «أعرف جيداً، وأندم كثيراً على ما فعلته لك في
طفولتي، وأظن أن لك الحق في ذلك!»
لم أكمل إنما انقطعت كلماتي عند هذا الحد، وتوقف سيل انجراف
مشاعري إلى الخارج وبقي داخليّاً فقط، مسحت أثر دموعي بأنامل مرتجفة، ثم ألتفت إلى جهة لا يرى فيها وجهي، واستنشقت الهواء لعله يمدني بطاقتي التي استنزفتها، لم أُعد بصري إليه إنما ظللت أنظر حولي إلى ساحة اللعب التي أصبحت فارغة وخالية من الضجيج، فقط ما كنت أسمعه هو صوت ضربات قلبي التي لم تتوقف، كنت خجلة حزينة من بعد كلماتي، لا أريده أن يرى دموعي ووجهي الذي تأثر من اعترافي...
أتاني صوته الهادئ المشحون بالشجن الذي تحدث أخيراً: «إني أعتذر
عن ذلك، وأعترف أنني كنت أحملكِ ذنباً غير مقصود، إلى وقت كنت
فيه مراهقاً أو شخصاً لم يرضَ بواقعه، ولكن لم أكن أكرهك ولم أنسَكِ
أبداً فلقد كنتِ دائماً بين ذكرياتي، ياسمين صدقيني فأنتِ ومنذ الطفولة
كنت شخصاً مميزاً بالنسبة إلي، أنتِ ياسمينتي التي تعد لي المعكرونة
اللذيذة والوحيدة التي تشاركني ألعابها، والتي كانت تبتسم لي طوال
الوقت، وتدافع عني متى احتجت إلى شخص قوي بجانبي»
ضحك بعد جملته هذه وأنا تركت كل ما حولي، وركزت على يوسف،
وعلى كلماته التي جعلت داخلي يشهق، ويصدم من اعترافاته الصريحة
والتي حركت قلبي، ومن دون أن ألتفت إليه أكمل: «وكيف لي أن
أنسى كل كلمة قلتِها لي وكل ذكرياتي معكِ التي تأتيني كلما خلوت
بنفسي، فأنتِ كنتِ أقرب شخصٍ لي وأحبه إلى قلبي، وكم كنت أتوق لمعرفة كيف صرتي وما هي أحوالك، وأيضاً في تلك
الفترة التي مرت علينا من بعد معرفتي بمن أنتِ والتي صدمتني، كنت
في ذلك الوقت أحتاج إلى وضع مسافة بيننا لكي أعيد فيها ترتيب
أفكاري واستيعاب من أنتِ بالنسبة لي.»
تسلل الدفء إلى كل جزء مني وملأني بالبهجة،
وأنا ألتفتُ إليه، أحاول استيعاب كلماته التي جعلتني ألين وأرق.
أكمل وابتسامته تتسع أمام عينيّ، ونظراته تأسرني: «ياسمين انسي أنكِ
من سبب لي العمى، فتلك فترة مضت من حياتنا، وكان ذلك شيئاً
بسيطاً أُهمل بسبب الأطباء وتدهور وكان علاجه أسهل من غيره، وها
أنا الآن استعدته وانتهت تلك الصفحة، بجانب أني نادم على جرحكِ
من دون قصد مني، أو عدم معرفة أن من أحب هي أنتِ»
شعرت بالراحة بعد كلماته، وبالامتنان لأنه حمل لي هذه المشاعر التي تشابه مشاعري التي عشتها معه في طفولتي، وأنه يحبني كما أحبه، ولم يكرهني... وكأن ذلك الحاجز الذي بيننا اختفى وكأنه لم يكن
موجوداً من البداية!
حقاً أنا ممتنة له وخجلة منه، ولا أعرف كيف يمكنني مواجهته بعد هذا الاعتراف الصريح!
ظللنا متقابلين، يوسف يحاول رسم ابتسامة لكنها سرعان ما تختلط بالتوتر الذي يشعر به، وأنا أحاول التبسم له ولكنني اتيه فجأة في مشاعري المحرجة منه
بعد لحظات الصمت تلك، التي قضيناها متقابلين محرجيّن من الخطوة التالية، غير قادرين على انهاءه، تأخرت خطوة ثم تقدمت أخرى، أخيراً حاولت انهاءه عندما قلت وأنا أتقدم منه لأذهب ناحية بوابة المستشفى التي تبدو بعيداً جدّاً عنا، والتي أظنها أفضل ملجأ للهرب: «سأذهب إلى خولة، لأنني أظن أني تأخرت عليها.»
وقبل أن أكمل خطوة أخرى سريعة، أوقفني صوت يوسف وهو
يقول: «هل يمكنكِ الانتظار قليلاً، فلا أظن أن خولة في غرفتها، لأن
الممرضات قد أتين لأخذ الطفلة من أجل بعض الفحوصات» أخذ
نفساً مسموعاً وأنا ألتفت إليه: «لدي بعض الأمور التي أود
قولها لكِ وسألكِ عنها؟»
وقفت مقابلة بعد أن قربتني خطواتي منه، وقلت في خجل:
: «حسناً
رأيت الانفعال واضحٌ على وجهه وهو ينظر إليّ مباشرة، نبئني أن هناك شيئاً خاصاً سيقال، قال يوسف وهو يرص على عينيه ويخفي ابتسامته:
«سمعت من أمي أن هناك خاطباً تقدم
لكِ»
تعكرت ملامح وجهه وهو ينقب في وجهي الذي أعلن المفاجئة من حديثه:
«وأيضاً سمعت أنكِ قد رفضته، وأمي كادت تجبركِ عليه لأنها
أخبرتني أنكِ قد بدأتِ تغيرين وجهة نظرك في الموضوع، بقولك إنك
ستفكرين!»
أبعدت بصري عنه ثم أعدته في احراج، قائلة متداركة الأمر بسرعة:
«أنا لم أوافق، قلت سأفكر في الأمر،
فأمي كانت تضغط عليّ، وأنا أشعر أنني لست مستعدة للزواج بعد»
عقد حاجبيه في استنكار، ثم ابتسم شبه ابتسامة اظهرت ملامحه الهادئة
تحت ضوء المصباح الذي سقط عليه وعليّ وتقدم خطوة إضافية
باتجاهي لتصبح المسافة أقصر، قال ولمعان عينيه العسليتين يرسل
التوتر إلي: «عرضي ما زال في قائمة الانتظار، فأنا ما زلت أنتظر
ردكِ، بل موافقتكِ، هل توافقين على الزواج بي؟»
لم أكن أتوقع كلماته هذه، ولم أكن أظن أنه سيعيدها عليّ مرة أخرى،
إنما ظننت أن مشاعره ستتغير ناحيتي، حتى لو أنه أظهر أنني ما زلت
ياسمين الصغيرة في ذكرياته والتي يكن لها المشاعر نفسها، ظننتُ أنه
سينسى إحساسه لي بعد أن يعرفني!
شعور الإحراج ما زال يلازمني، بالإضافة إلى الحيرة والتيه، فأي
جواب يريده مني، فأنا نفسي لم أفكر به ولم آخذه بجدية، إنما وضعته
على الرف لعلي أتناساه، ولا أضع الآمال عليه أو أعلق مشاعري به.
في هذه المرة نطقت دون تردد وأنا أرفع عيناي إليه وأنظر مباشرة
إلى وجهه الذي حمل الشوق واللهفة والانتظار، والابتسامة التي لم
تختفِ: «يوسف اعذرني ولكنني حائرة، لا أعلم بما أجيبك، لأنني ما
زلت أفكر، وأظن أنني سأجعلك تنتظر ردي طويلاً، ولكن قبل هذا
كلهِ كيف ستكون ردة فعل أمي وأبي وأخواتي وكل الأهل، وكيف
سيتقبلون الأمر، فأمي لا أظنها ستوافق، ستجن لن يعجبها الأمر،
وأشعر أنه صعب جدّاً»
صمت وشعور بالإحباط يتملكني، وأنا أرى زوال ذلك الانكماش
الذي بين حاجبيه، وظهور ابتسامته الواسعة التي أظهرت مدى
فرحته التي أشرقت وجهه، كان عكس وجهي الذي سكنه الحزن
وذبلت ابتسامته، عكس داخلي المضطرب الذي يضع الأعذار ويتمنى
الأحلام.
بحس دعابة قال لي: «في الحقيقة لقد أخبرت أمي وأخذت موافقتها،
وأنا الآن أنتظر موافقتكِ والتي أظنها ستصلني قريباً»
صدمت وزاد إحراجي أضعافاً، يبدو أنه قد اتخذ قراره بشكل نهائي،
ويبدو أنني قد أظهرت لهُ مشاعري وبوضوح، وأظهرتها لنفسي،
وأصبحت واضحة جدّاً، فلم يبقَ إلا اتخاذ القرار، والنظر بعمق إلى
الأمور التي أتردد بشأنها وأتهرب منها خوفاً من اصطدامي بالواقع،
واصطدامي بشيء يكون عكس توقعاتي ويؤدي إلى تدميري، ولو أنني
اعترفت من البداية ولم أتهرب لحلت الأمور قبل أن أتأزم نفسيّاً، ولو
أنني أخبرت أمي ببعض الأمور التي تخصني والتي أشعر بالنقص
ناحيتها لكانت الأمور أفضل ولم أكن لأجعل ذلك الحزن يتسلل إلي
ويصل إلى ذلك العمق، ولكن لن تفيد لو الآن فالحاضر أهم والتغير
أفضل من إعادة يا ليت، هي أوراق تساقطت ولن يعاد تركيبها،
وانتهى ذلك الفصل وبدأ فصل جديد وحكاية مختلفة.
***
النهاية

شبيهة القمر 20-07-20 08:29 AM

رد: خطوات على الجمر
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سميتكم غلآي (المشاركة 3731076)
بالنسبة لكتابتي معظم الي يقرونها ما كانوا يتوقعون الاحداث القادمة، بعزي في ها الرواية أنها بسيطة كتبتها وانا توني في أول العشرين علشان اعطي عذر هههههه أو ان سير الاحداث كان سهل عليج :55: .... :9jP05261: ان شاء الله المره اليايه اذا فكرت احط رواية بخلي الاحداث متشابكة وصعبة التوقع... بس والله استانست على توقعاتج وكيف عرفتيها... وصح مثل ما قلتي الفصل القادم بيكون الفصل الأخير ونهاية رحلتنا مع ياسمين... مع ان كانت بدايتي فيها من 2013 بس يوم رديت أعدل فيها وأقراها عشت وياها أوقات حلوه واستانست وانا احطها مع شوية احباط طبعا... بس اهم شيء شخص واحد يتابع والله كملتها علشانج ما حبيت اردج وانتي تردين عليه وتتابعين وتحمسيني

شكرا لج

مرحبا غلاي ..معليش تأخرت بالرد ..المنتدى هالايام يعلق موب راضي علي ههههههه ..بس اليوم الحمدلله
حبيت اعلق على كلامك هذا ..اولا روايتك جدا سهله ولذيذه وممتعه وفيها شي يجبر القارئ يكملها حتى لو انه واقف يغسل مواعين .. ايه عرفته فيها جاذبيه انا احب هالنوع من القصص ..لما تكون البطله هي المتحدثه الرسمي عن مجمل القصه ..
نجي للاحباط الي حاشك .. بسم الله عليك من الاحباط واخوانه ..
انا دائما اقول ان عدد المشاهدات يشفع للكاتبه انها تكمل وماشاءالله عدد مشاهدات الخطوات فوق الالف .. وحطي ببالك ان اغلب الناس توجهت لوسائل التواصل الاجتماعي وانهجرت اغلب المنتديات ..
ومشكوووره ياقلبي انك كملتيها علشاني جد جد احرجتيني بس والله انك تستاهلين وان شاءالله انا معك بأي روايه راح تنزلينها وراح احل كل الغموض الي فيها >>فيس كونان ههههههه

غلاي ..تسلم يدك استمتعت جداا بالرحله معك على متن خطوات على الجمر ..وان شاءالله نلتقي فيك قريبا بإذن الله ..
كل الحب اهديه لك ..💕💕

Alessia Angel 12-11-20 12:32 AM

رد: خطوات على الجمر
 
شكرا كثيررررررررررررررررررر


الساعة الآن 04:25 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية