منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   (رواية) رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان (https://www.liilas.com/vb3/t206280.html)

SHELL 07-11-18 11:04 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
تكلّل مشوارهم بالنجاح أخيرا ,وقد صدق من قال أن الصبر مفتاح الفرج ,شعرت فريال بأن هذه هى مكافأة الله لها على صبرها وتحمّلها ,ما شعرت يوما بفرحة غامرة مثل اليوم ... أصبحت تملك ورقة موّثقة بأن هذه الفتاة الرائعة هى ابنتها ... أميرة ,اعترفت الدنيا بأسرها بأمومتها المفقودة واعتلت السعادة عرش قلبها فباتت لا ترجو من الحياة أكثر من هذا القدر الذى جادت به عليها بعد سنوات عجاف من الشقاء والبؤس ,لم تعد وحيدة فأميرة ملأت عليها فراغ حياتها وجعلت لكفاحها معنى ,ولم يفارقهم مجدى حتى أنهى كافة الاجراءات المتعلّقة باستصدار شهادة ميلاد باسم أميرة ناجى الشرقاوى ,احتاجوا فى مسعاهم نحو اظهار الحقيقة وثيقة زواجها من ناجى واقرار من هناء حيث أنها القريبة الوحيدة الباقية لناجى ,والحق يقال أنها لم تقصّر أبدا بل مدت لهم يد العون عن طيب خاطر كما توقعّت بالضبط فابنة عمها مثال على طيبة القلب وصفاء النية ,ثم توجهوا لاستخراج بطاقة الرقم القومىّ لها بالاسم الجديد ,ولم يبقَ أمامهم سوى معضلة زواجها من رفيق ,وقد وعدها ابن اخيها بسعيه لاستصدار فتوى شرعيّة حتى يتأكد من جواز العقد القديم أو اضطرارهم الى تجديده.
ما أن اجتمعت بأمها وأخيها محمد وزوجته سوسن فى البهو الكبير ,وألقت اليهم بالمفاجأة السارّة حتى كانت تتلقى التهانى والتبريكات القلبية منهم على حد سواء والفرحة تتقافز فى عيونهم لتمحى لمسة الحزن التى خيّمت على أجواء المنزل فى الفترة الأخيرة.
وانضمّت اليهم هناء ودلائل السعادة بادية على محياها ,ثم قبّلت ابنة أخيها على وجنتها وهى تحتضنها بحب حقيقى وتقول لها:
-حمدا لله على عودتك الينا يا ابنة أخى.
فطبعت أميرة قبلة على جبين عمتها وهى ترد مبتسمة:
-الله يسلمك يا عمتى.
-الله ! ما أحلاها كلمة , عمتى , تعالى فى حضن عمتك.
ثم ضمتها بقوة مرة اخرى حتى شعرت فريال ببعض الغيرة تعتريها وهى التى لم تتعوّد بعد على أن يشاركها أحد آخر فى حب ابنتها.
أشفق رفيق على زوجته وهى ضائعة بين المباركات التى انهالت على رأسها والأحضان المتزايدة التى تلقفتها وهو يقف مراقبا لكل ما يدور منتظرا أن يحين دوره ,ولكنه لن يقف مكتوف اليدين بينما أميرة مستسلمة بلا حول ولا قوة فاقترب من اللمّة العائلية ليفضها بدبلوماسية وشعور بوجوب حمايتها:
-نشكركم حقا على شعوركم الطيب ,ونحن نقدّر اهتمامكم ,دعونا لا ننسَ أن أميرة لا بد وقد أرهقتها كثرة المشاوير وقد استيقظت مبكرا فهى تحتاج قسطا من الراحة ,هيا يا حبيبتى اصعدى الى غرفتك.
وأمسك بيدها يقودها نحو الدرج وهى تمنحه أجمل ابتساماتها امتنانا وعرفانا على صنيعه معها ,قبل أن يفيق الجميع من ذهولهم.
وحينما توقف أمام باب غرفتها ليدعوها الى الدخول ونيل قسط من النوم ,تذمّرت كطفل صغير حرم من متعة اللهو فقالت تحثّه باستعطاف:
-ألا يمكن أن تبقَ معى قليلا ,لا أحبذ البقاء وحيدة.
كانت فى عيونها دعوة صريحة لا يمكن أن يخطأها ,وهو لم يكن بحاجة الى تشجيع منها فقربها منه سيطر عليه يؤجج مشاعره الملتهبة لتحرقه بنار كاوية ,تنهد بقوة وهو يداعب خصلات شعرها البنية النى لا يمل ملامستها بل يتمنى لو يدفن نفسه فيها طوال العمر ويغفو بين ذراعيها لا يقطع عليهما خلوتهما متطفل ,لكنه يريد أن يتأكد من أن ما يقومان به سوف يكون صحيحا بنسبة مئة فى المئة بدون الوقوع فى أية أخطاء مرة أخرى ,عليه أن ينتظر وهو يعد نفسه بأن المسألة برمتها لن تستغرق وقتا طويلا.
-حبيبة قلبى , أرجوكِ ساعدينى لنبدأ من جديد صفحة بيضاء لا تشوبها شائبة ,أنت تعرفين أنه ليس أحب علىّ من أبقى الى جوارك الى الأبد ومنذ هذه اللحظة بل منذ وقت طويل ,وأنا أتوق الى لمساتك ونظراتك وأن أجعلك ملكى بكل ما فى الكلمة من معانى حتى نذوب سويا فلا يبقَ بيننا مجالا للشك .
-أعرف يا عزيزى ,فمشاعرنا متبادلة وخاصة أننى أريد أن أعوّضك عن السنوات الماضية التى قاسيت فيها وحدك بعيدا عنى ,وكنت السبب فى عذابك و...
قاطعها بضمة الى صدره وهو يغلق عينيه يتنسم عبق عطرها الفوّاح ليستكين كل كيانه بعد عودته الى روحه التى سحبت منه ,ويتمتم من بين أنفاسه المتقطعة:
-لا تفكرى حتى فى الأمر ,لقد ولّت هذه الايام الى غير رجعة ,ولن يلبث الوضع أن يعود الى مجراه الطبيعىّ بيننا ,سأذهب بنفسى الى مشيخة الأزهر لأطلب فتوى بجواز العقد القديم ,أو نضطر الى تجديده ,وفى كلتا الحالتين ... ستصبحين زوجتى اسما وفعلا.
تهدّج صوتها وهى متأثرة بهذا الفيض الهائل من العواطف الذائبة ,لا تريد الخروج من الجنة ,فمكانها الأصيل بين أحضانه ,ولن يخفق قلبها أبدا الا لصوته الحنون فابتسمت وهى تبذل قصارى جهدها حتى تتحرك منتزعة نفسها من بين ذراعيه ,فان بقيت لدقيقة أخرى لن تسمح له بالرحيل واستعادت عقلانيتها فأكدت على كلامه:
-أنت محق يا رفيق , علينا الانتظار لآخر مرة .
-نعم يا ملاكى , فقط مرة واحدة ,وبعدها ....
غادر المكان تاركا جملته معلّقة فى الهواء ... لتملأ هى فراغاتها بما تشتهى نفسها.


**************

SHELL 07-11-18 11:06 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عندما انطلقا فى طريقهما حيث المطعم الذى دعاها للغداء فيه ,تصوّرت أنه نفس المكان الذى تقابلا به أول مرة الا أن كريم فاجأها من جديد وفاقت مفاجأته كل توقعاتها ,فكان مطعما للوجبات السريعة مما اعتادت هى ومها تناول طعامهما فيه ,شعرت بالمتنان نحوه لأنها لم تكن ترتدى شيئا لائقا ليصطحبها الى مكان فاخر يعج بعلية القوم ممن يختلط هو بهم فى حياته ,نظرت له بصمت وقد أظهرت مشاعرها بوضوح متجليّة فى ابتسامة خفيفة وهى تتأمل وسامته المشعة وحلته الباهظة الثمن والتى تكشف عن ذوق راقٍ جدا ,والهالة المحيطة به كلها مظاهر تتناقض بقوة مع بساطة ملبسها وتواضع هيئتها,وأحست أنها تشوّه صورته الاجتماعية على الرغم من اعتدادها بنفسها فلم تقدر على خداع عقلها ,الذى ما فتأ يذّكرها بالفارق الشاسع بينهما ,ماذا تفعلين يا بلهاء بنفسك ؟لماذا تتركينه يقودك الى مصير مظلم حينما يملّ من صحبتك وهذا آتٍ لا محالة ستكونين قد غرقتِ فى حبه حتى أذنيك ؟ وصاح قلبها بصوت يقاتل جاهدا ليخرس عقلها: فلتتمتع بيومها وتدع الغد الى رب العباد يدبّره لها كيفما يشاء.
واعترفت بجرأة أنها لم تكن قادرة على رفض دعوته ,بينما كانت حائرة تحاول اخماد الصراع الدائر بين عقلها وقلبها ,تمكّن كريم من مراقبتها عن كثب ,شعر بالمعاناة التى تجلّت فى نظرات عينيها دون أن تنبس ببنت شفة ,صار يفهمها أكثر من قبل ,ولن ينكر أنها تثير فضوله ,وابتسم لنفسه هازئا : أنت تحاول انكار الحقيقة ... أنها تثير مشاعرك أيضا ,وما دعوتك لها اليوم الا لتقضى معها وقتا أطول بعيدا عن أجواء العمل المزدحمة والتى تفرض نوعا خاصا من المعاملة بينهما ,ليس بالشخص الذى يخلط الجد بالهزل ,يا ترى ما السر وراء عائلة السنهورى ؟ بداية ... علاقة صلاح بأمه والتى تبدو مريبة ,لقد حاول استجواب والدته أكثر من مرة وهى تتهرّب من الاجابة بذكاء ومراوغة ,لو فقط يرتاح قلبه ليتفرّغ لهذه الجميلة التى أصبح يراها بمنظور جديد دون ارادة منه.
-تفضلى.
لم تنتبه هديل الى ايقافه للسيارة ولا نزوله وها هو يفتح لها الباب كأميرة تستحق معاملة خاصة ,لم تصدّق عينيها هل من يتصرف بهذه الرقة والأناقة هو نفسه مديرها القوى الشكيمة الذى يثور اذا ما اشتم رائحة اهمال بسيط أو تجاوز عن أوامره الصارمة.
-هل سنتناول الغداء هنا ؟
هبطت من السيارة وهى تشير نحو المطعم الذى يقع فى الناحية الأخرى ,أساء كريم فهم اشارتها ,ظنا منه أنها قد استاءت لاختياره ,فقلب شفتيه ممتعضا وهو يوجهها بيده:
-أستمحيك عذرا يا آنستى ,اذا كان المطعم غير لائقا لكِ ,ربما تفضلين عليه ( ... ) وذكر اسم مطعم معروف أنه لا يرتاده الا أغنى الأثرياء
شهقت هديل لمجر تخيّل أنها تجلس برفقته فى هذا المكان ,وتبعته طائعة غير منتبهة لرنة السخرية الواضحة بصوته ,تباطأت خطواته حتى تلحق به وما أن مرّت الى جواره حتى انتظمت خطواتهما سويا ليتجها الى الداخل حيث انتقى طاولة تتسع لفردين وتقع بزاوية بعيدة عن القاعة الرئيسية التى تعج بالزبائن .
تشاغلت هديل بالتطلّع الى قائمة الطعام ,حتى لا تفضحها نظراتها الشغوفة ,ولم تكن بحاجة لانتقاء الصنف الذى سوف تتناوله فهى تحفظ جميع الأطباق عن ظهر قلب ,وتبيّنت نوعا جديدا تمت اضافته الى القائمة فقررت أن تجرّبه دون تفكير,وحين ألمح كريم الى أنه يبغى رأيها فيما يختار أشارت عليه بتبسط وتلقائية ألا يبالغ فى التمعّن فى المكونات لكل طبق فغالبا ما تتشابه جميعا فى المذاق ,راقت له دعابتها فابتسم متناسيا مشاغله وهمومه وقال:
-أنت ما زلت تتذكّرين ,كان مزاجى يومها معتلا ,ولم يكن بسببك أبدا ,أعتقد أنك قد تحملتنى كثيرا يا هديل ,ترى هل أنت دائما هادئة الأعصاب ومطيعة كما تتعاملين معى أم أن لكِ وجها آخر أجهل وجوده ؟
تأثّرت للذكرى البعيدة وتساءلت لماذا يذكر تفاصيل بسيطة مرّت بعلاقتهما ,هل حقا يهتم بها ؟ شعورها أنبأها بأن الأمر يتعدى الاهتمام العادى ,لقد انتقلت علاقتهما الى مرحلة جديدة ولن تعود كالسابق مهما حاولا اخفاء تطلعاتهما نحو بعضهما البعض ,فانفرجت أساريرها اعجابا وردت مؤكدة:
-لا أنسَ حدثا يتعلّق بك.
شعرت بخطئها بعد فوات الأوان فقد انزلق لسانها بما يهتف به قلبها طوال الوقت ويرفض عقلها الاعتراف به ,فاستدركت سريعا:
-أقصد أننى أذكر كل التفاصيل التى تخص العمل وما يحدث خلاله.
نظر لها بوجه خالى من التعبير وهو يشير الى النادل ليأتى قبل أن تنبهه الى أن نظام الطلب فى المطعم يختلف عن غيره من المطاعم المعروفة وهى ( اخدم نفسك ) ,قبل أن تتهوّر لمنعه من هذا التصرف ,كان كريم يملى عليه رغباتهما بدون ذرة تردد أو تراجع .
استغربت مما حدث وكان النادل ينصت له باهتمام بالغ وكأنه يستمع الى نشرة اخبارية ,وفى النهاية انحنى له احتراما وهو يقول:
-عشرة دقائق فقط يا سيدى.
أومأ له كريم برأسه فيما عاد ليصب كامل اهتمامه على الفتاة الجالسة أمامه تتابع كل حركة وسكنة يقوم بها فى انبهار.
-كيف جعلته ينفذ أوامرك بهذه البساطة ؟ أنهم لا يقومون بالخدمة على الطاولات ,كان عليك التوّجه الى الخزينة.
ابتسم بطريقة العارف ببواطن الأمور وبدأ يشرح لها ببساطة:
-أنا زبون دائم هنا ,لذا فهم يعاملوننى بطريقة مختلفة.
كان يعنى أنه زبون مهم جدا وبالتالى ينال معاملة خاصة.
أخذت تجول ببصرها فيما حولها وهى تقول بحماس:
-كنت أظن أننى ومها من الزبائن الهامة لديهم فنحن نتردد على هذا المكان بصفة شبه دورية ,اليوم عرفت المعنى الحقيقى لكلمة فى آى بى
v.i.p
كشر ما بين حاجبيه استياءا من لهجتها الانهزامية وهو يحاول الرفع من روحها المعنوية التى انخفضت:
-عليكِ أن تتحلّى بالروح الرياضية يا هديل ,فأنا أعترف بأنه ليس هيّنا عليكِ أن تعيشى حياة مليئة بالعمل والكثير من الكفاح متنازلة عما تطمح به الفتيات فى مثل عمرك.
-وما الذى تعرفه عن الكفاح ؟لقد ولدت وبفمك ملعقة من ذهب ,سبق وأخبرنى أبى عن عائلتك حينما التحقت بالعمل فى شركتكم ,عائلة الحيتان ... ذات الصيت والغنى والسلطة.
استشاط غضبا من لهجتها المستخفة فانتفض منزعجا وهو يهدر بصوت حاول الحفاظ عليه منخفضا قدر الامكان:
-ليس لمجرد أننى ولدت لعائلة ثرية ومعروفة ,يكن لك الحق لتحكمى علىّ بدون معرفة حقيقية ,فلم تكن حياتى وردية كما تتصورين ,ولم أصل لمنصبى هذا الا بعد جهد وكفاح ,قد لا تصدّقين أننى مررت بما هو أسوأ ,لقد تدرّجت منذ كنت أدرس بالجامعة فى عامى الأول .. بوظائف متدنية للغاية فى الشركة التى تعملين بها سكرتيرة , بدأت كموظف صغير تحت التمرين .. يرأسنى من هم يعملون تحت امرتى الآن ,ولم أكن الوحيد الذى تمت معاملته على هذا الأساس فرفيق وسيف استغرقا وقتا أطول منى حتى يصلا الى هذه الغرف الأنيقة المتسعة بعد أن كنا ... نتشارك غرف أصغر وأكثر ازدحاما مع الآخرين.
رسخ لديها اعتقاد بأنه يخفى فى جعبته الكثير من الأحداث الأكثر غرابة ,صراحة لم تتوقع أن يكون قد عانى فى حياته مثلها فاعتذرت له رافضة التكبّر عن الاعتراف بالغلط:
-أنا آسفة حقا ,لم أكن أعلم.
ابتسم ساخرا وهو يهز كتفيه العريضتين بعد أن علّق سترته على مقعده وأظهر القماش الرقيق لقميصه عضلاته المتصلبة وهو يقول بأسى:
-لا يعرف الناس سوى الظاهر فقط ,كم واحد قد يتمنى لو كان مكانى بينما أنا أحسد هذا الرجل العادى الذى يجلس الى جوار زوجته حاملا طفله الصغير بحجره يطعمه بنفسه ولا يشغل بالا للغد ,فقط يعيش يومه باستمتاع بعيدا عن أعين الفضوليين.
هل تراه يلمح الى أنه يشتاق الى حياة بسيطة خالية من التعقيد برفقة امرأة عادية يشاركها حياته وينجب منها أطفالا بدلا من حياة الترف والرخاء التى ينعم بها.
شعرت هديل بالتعاطف مع الرجل الشديد البأس الذى تهفو نفسه الى لمحة من التصالح والعيش بأريحية دون الاهتمام بالمظاهر الكاذبة التى تخدع البعض.
قام النادل بوضع الأطباق أمامهم على الطاولة الصغيرة وهو يسأل بأدب عن تقديم أى خدمة لهما ثم ابتعد منصرفا.
بدأت هديل فى التقاط شطيرتها ذات الصلصة الغنيّة والرائحة التى تثير الشهية ,وتناولت أول قضمة بنهم ,كانت تشعر بالجوع يجتاح معدتها الصغيرة فهى قد أغفلت تناول أفطارها صباح اليوم واكتفت ببضعة قطع من البسكويت المملح ,وأحسّت بالطعم الحارق يلسع حلقها منتشرا بفمها كله فبدأت تشعر بالاختناق يهددها ,بدأت تسعل بقوة عليها تخفف من احساسها بأن الهواء ينسحب من رئتيها ,وهب كريم لمساعدتها فصب لها كوبا من الماء وقرّبه من شفتيها وهو يسقيها منه رشفات متتالية ,على اثرها تحسنّت قليلا بينما يستحثها على تجرع المزيد حتى تهدأ تماما ,وزفر متنهدا بعد انتهاء نوبة السعال الحادة وهو يقول ملطفا:
-ألا تفضلين الطعام الحار ؟
أشاحت بوجهها نفيا وآثار الدموع تلتمع بعينيها المحمرتين ,لا تعرف لمِ شعرت برغبة حارقة لتجهش بالبكاء فقد أظهرت نفسها غبية أمام ناظرى الرجل الذى تهيم به ,استوعب سريعا ما الذى انتابها فربّت على يدها بحنان متفهما وهو يضيف بمرح:
-سوف أطلب لك شطيرة عادية بلا بهارات ؟
هزت رأسها نفيا وهى تجاهد لتتحدث بصورة طبيعية:
-لا داعى لذلك ,سوف أكمل طعامى.
سحب الطبق من أمامها بدون أن تجرؤ على الاعتراض عارضا عليها طبقه:
-اذن يمكننا أن نتبادل الطبقين
-ما ذنبك أنت لتتناوله؟
- لا تشغلى بالك فأنا أهوى الشطة ,عليك أن تنتبهى بعد ذلك ... قبل أن تتورطى بما لا يمكنك انهائه.
أخفضت بصرها نحو المنضدة وهى تلتقط شطيرته التى أكل جزءا منها ,وارتعشت حينما لامست شفتيها أثره وهى تؤنب نفسها على انفلات أعصابها ,فيما كريم يشاهدها باعجاب وقد تخلّصت من أثر الحادث واستعادت ملامحها الابتسامة الغائبة ,وبقى تحذيره لها قائما : عليك أن تنتبهى بعد ذلك ... قبل أن تتورطى بما لا يمكنك انهائه.
هل كان حديثه اعتباطيا أم أنه يحمل انذارا معلنا لا يمكن اغفاله , لا تتورطى معى يا صغيرة , فلا قبل لك بمواجهتى.

***************

SHELL 07-11-18 11:07 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

أوقف سيف سيارته الفارهة أمام منزل مها القديم فى تناقض متباين, وقد استرعى انتباهها أنه قد تذكر العنوان منذ المرة الماضية ولم يستفسر منها عن الاتجاه على الرغم من أن الطريق يمتلئ بكثير من المنحنيات يمينا ويسارا ,قاد الرجل ببراعة منقطعة النظير أظهرت خبرة واضحة فى قيادة السيارات فى طرقات وعرة ,لم تكن مها بحاجة الى مساعدة لتدرك أنها قد قطعت شوطا لا بأس به نحو تقدم علاقتها بهذا الرجل الثرىّ الذى ينتمى للعائلة التى تكن لها أشد مشاعر الحقد والكره قسوة .
-ألن تنزلى من السيارة ؟ لقد وصلنا .
وأشار لبيتها الذى يربض منتظرا لدخولها ,فشعرت بخيوط المصيدة تضيق شيئا فشيئا لتحكم الحصار حول جسدها الخائف ,ممِ تخشى ؟ من ردة فعله الغير متوقعة اذا ما أدرك نواياها السيئة ؟ أم أنها تخشى من افلات السيطرة على قلبها ,فهى ليست محصنّة ضد سحره الرجولىّ الطاغى ,قررت بعد تردد دام لحظات أن تهبط من السيارة شاقة طريقها بصعوبة نحو مدخل المنزل ,ولم تلتفت الى مقعد السائق الذى كان شاغرا من وجوده فى ثانية واحدة.
تبعها ببطء وهى ترتقى درجات السلم ,كانت تجد مشقة بالغة فى التقدم وكعب حذائها مكسور فاضطرت الى خلع فردة الحذاء الأخرى والا كان مصيرها السقوط لا محالة ليدق عنقها الجميل ,شعرت بانزعاج مما هى مقدمة عليه فكيف تسمح لنفسها بالتمادى فى لعبتها التى سوف تحطمها وحين تنتهى منها لن يصبح لحياتها أدنى قيمة ,أخذت تفتش حقيبتها مطولا بحثا عن المفتاح وأخذت تلعن وقد تناثرت بضعة أغراض وافترشت الأرض التى بهت ملاطها من كثرة جريان المياه فوقها ,تدّخل سيف باللجظة الحاسمة وهو يلتقط المفتاح من بين أصابعها المرتعشة قائلا بثقة :
-اسمحى لى.
وأولجه بالقفل ثم أداره بحنكة فأصدر تكتين وانفتح الباب مصدرا صريرا قويا أجفلها ,أفسح لها مجالا حتى تتقدمه وكأنه بيته هو الخاص لا بيتها مشيرا لها :
-تفضلى.
كانت تجر قدميها جرا نحو مفتاح النور حتى تضيئه ليتغلّب على العتمة المغلّفة للمكان ,فانتشر الضوء ساطعا ليكشف عن صالة ضيقة تعج ببضعة قطع من الأثاث البالى ,أريكة تتسع لفردين ,وأربعة مقاعد يشكلون نصف دائرة .
أجال سيف بصره فى أنحاء القاعة بنظرة حادة ثاقبة ولم يغفل ملاحظة القماش البالى الذى اهترأ كاشفا عن الجزء الداخلى من الأثاث.
-لقد حاولت تحذيرك بأن المكان لن يعجبك من قبل , آسفة ان كنت قد خيّبت آمالك.
نبرتها الهازئة وهى تحاول مواربة مشاعرها الحقيقية التى أخفتها بمهارة ,فالخجل يجتاحها من مجرد التفكير فى أنها تسكن بهذا المكان القذر بينما هو وعائلته ينعمون بالعز والجاه ,أيقظت بداخله الوحش النائم ,فانقضّ عليها قابضا على رسغيها بيد واحدة بينما يده الأخرى حرة لترتفع الى عنقها الأبيض الرخامىّ ,وهو يهددها بنعومة:
-لسانك السليط هذا سيورطك بمشكلات لا قبل لك بها ذات يوم .
شلّ الرعب حركتها وحاولت أن تصرخ مستنجدة الا أن صوتها قد انحشر بحلقها وهى تجاهد لتخلّص نفسها من قبضته الفولاذية .
شدد من احكامه حولها فشعرت بالحائط البارد ملامسا لظهرها يتغلغل الى جلدها من خلال قماش ثوبها الرقيق ,فيما واصل سيف تهديده:
-أنت مجرد فتاة مغفلة حقا ,هل اعتقدت أنك استطعت خداعى بمثل هذه البساطة ؟ كل تصرفاتك كانت واضحة تشى بغباء لا حدود له ... والآن أجيبينى صراحة ما الذى تسعين نحوه ؟
هزت رأسها بخوف مغمغمة:
-لا أفهمك .
داعبت ابتسامة صغيرة ركن شفته وقد تراقصت الغمازة بالقرب منها وهو يقهقه بلا مرح:
-ما زلت تلعبين دور البريئة , أليس كذلك يا آنسة مها كمال الراوى ؟
لم تفهم تلميحه واشارته الى اسمها الكامل ,وكان جسدها قد بدأ ينتفض بقوة تحت ضغط جسده فوقها فتلامسهما أثار بها اضطرابا واضحا كادت تشعر بالاغماء وهى ترجوه بمذلة:
-أرجوك يا سيف , دعنى فأنا أشعر ... بدوار رهيب.
سخر من محاولتها اليائسة للهروب:
-لا مجال لأن أتركك الآن ,أنت تريدين الفرار منى.
هزت رأسها بحركة عنيفة جعلت خصلات شعرها الذهبية تتمايل لتلامس بشرته الخشنة حيث ذقنه النامية لم تحلق ,وهى تجاهد لتتنفس بصورة طبيعية ,بدأ الدوار يتملّكها شيئا فشيئا حتى كادت تهوى أرضا لولا أن تلقفّتها الذراعين القويتين اللتين حملتاها بسهولة فهى خفيفة الوزن لدرجة مذهلة , كما أخذ يحدث نفسه وهو حائر الى أين يتوجه ,لا يعرف أين تقع الغرف فى هذا المنزل الصغير ,سار وراء حدسه نحو الممر القصير الذى وجده يمينا ودفع أول باب صادفه بركلة من قدمه ليجدها غرفة نوم كما كان يأمل ,فأزاح عن كاهله الحمل وأراحها على الفراش الكائن بوسط الغرفة ,أخذ يفتش حوله عن عطر يمكنه أن يرشه على أنفها حتى تستفيق ,فوجد ضالته المنشودة قابعا على منضدة الزينة ذات المرآة المكسورة من جانبها فاختطف الزجاجة وضغط عليها عدة مرات حتى تأكد من اختوائها على سائل ذى رائحة نفّاذة ,تنبهت حواسه الى هذا العطر ,انه خاص بها ,يميّز وجودها ويدير رأسه كلما مرت بالقرب منه تسير بدلال ,فأبعد ذهنه عن مسار التخيلات الذهنية التى باتت تشكّل خطرا على سلامة عقله ,وقلبه ,ورشّ عدة مرات على منديله ثم قرّبه نحو أنفها الدقيق ,ليترك لها مجالا للاستنشاق ,بينما يربّت بيديه بحركات عنيفة على خديها ,كانت دقات قلبه تتسارع كأنها فى سباق عالمى ,ناداها باسمها ملتاعا عدة مرات:
-مها , مها , أرجوكِ أفيقى ,مهااااااا...
لمح جفونها تتحرك ثم بدأت ترفرف برموشها عدة مرات قبل أن تعود الى وعيها كاملا وهى تتمتم بضعف:
-آآآه .. آآآه ..
صاح هاتفا يحمد الله وهو يباشرها حتى رأت الاهتمام والقلق باديين بوضوح على محياه فقلما تخطئ هذه اللهفة الحارقة وهو يعترف بصدق:
-لقد أرعبتنى حقا ,مضت لحظات رهيبة اعتقدت أنك لن تفتحى عينيك مجددا ,رحماك يا ربى !
نظرت له بوميض من الفرح ,فهى وان كانت بموقف لا تحسد عليه الا أنها المرة الأولى منذ وقت طويل التى تشعر فيها بأن هناك من يهتم لأمرها ويعتنى بها ,انها بحاجة اليه ,لم يعد هناك مدعاة للشك ,هل يمكن أن يتجلّى خلاصها على يد معذبها ,همست باسمه:
-سيف ...
اقترب منها أكثر وهو يجيبها بحرارة:
-نعم ...
-لا تتركنى وحدى ,هل يمكنك أن تبقى قليلا ؟
وكأنه يستطيع الابتعاد عنها خاصة وهى فى حالتها تلك ,البلهاء الجميلة لا تملك ذرة واحدة من العقل فى رأسها الصغير ,أنها بحاجة ماسة الى رعايته ,تهيب به أن يرعاها ويحنو عليها ,وهو سيكون ملعونا اذا ما أنكر وجود هذا الرابط الخفىّ بينهما ,الذى يتسلل رويدا حتى يقبض على روحه ,هل يعيد الزمن نفسه ؟ ألم تلقنه الحياة درسا قاسيا دفع ثمنه غاليا ؟
ربّت بيده على كتفها مهدئا بلمسات حانية آسرة فيما بدأ يستجوبها بخشونة تسللت الى صوته رغما عنه وقد انحسر ثوبها القصير عن ركبتيها فعمد الى النظر بعيدا:
-ما سبب هذه الاغماءة ؟ هل كنت تشعرين بالخوف منّى ؟ ألهذه الدرجة تهيّأ لكِ أننى وحش مفترس ؟
هزّت رأسها نفيا ببطء بينما تحاول ستر جسدها المكشوف بغطاء خفيف على مقربة منها وهى تسارع لتوضيح الأمر له بصوت خفيض يفوح منه رائحة اليأس:
-أنا ... مصابة بفقر حاد فى الدم ,وعلى فترات متباعدة تصيبنى حالات اغماء ... كل ما فى الأمر أنه حين ينخفض مستوى الأكسجين بالمكان أشعر بأعراض الدوخة ... فقط.
لم تغب عن عينيه المتقدتين شررا حركتها وأجابها شاعرا بالاختناق لدى استعادته للمشهد السابق:
-ينخفض مستوى الأكسجين ! ليس الى هذه الدرجة من المبالغة فالبيت وان كان ضيقا فهو جيد التهوية .
كانت تفكر برويّة أنه لا يعى مقدار جاذبيته المغناطيسية فوجوده فى ذات المكان أشعرها بأن الهواء قد سُحب تماما ولم تعد قادرة على التقاط أنفاسها.
عاد الى حدته فى الحديث معها وهو يقول:
-ولماذا لا تتعالجين من فقر الدم ؟ وأرجوكِ لا تخبريننى قصصا عن غلاء أسعار الدواء والقصة القديمة المستهلكة منذ عشرات السنين ,فمرتبك يكفى لتغطية نفقات أسرة بأكملها ,خاصة بعد المكافأة التى نلتها قريبا بتوصية من رفيق.
تراقصت ابتسامة متلاعبة على شفتيها المكتنزتين ولم تستطع مقاومة رغبتها فى الاندفاع للرد عليه فانبرت تقول على الرغم من شعورها بالوهن:
-لا يا سيد سيف لا أشكو الآن من ضيق ذات اليد ,وأعرف جيدا أن المال متوفر لشراء الأدوية المطلوبة ,ولكن لتنظر حولك ... لمن أعيش ؟ ولمِ أكترث بالحياة ؟ أننى وحيدة كما ترى ... فلا أسرة لترعانى ولا زوج ليحبنى ..
وترقرقت الدموع فى عينيها تجاهد لكبحها والسيطرة عليها بعد أن فضحت مشاعرها الدفينة فى لحظة ضعف ,وهى التى تتقن تمثيل دور المرأة القوية المسيطرة التى لا تحتاج الى أحد ,وخاصة الرجال ...
ضرب كفا بكف وهو يقول منفعلا:
-استغفر الله العظيم , ألا يمكنكن أن تتعاملن بدون سلاحكن الفتّاك هذا , لماذا الدموع الآن ؟ وما هذا الهراء الذى تتفوّهين به ؟ اذا كنت وحيدة الآن فلا يمكن أن يطول بك الحال على نفس المنوال ,ذات يوم ستتزوجين وتؤسسين أسرتك الصغيرة , زوج محب وأبناء صغار يحيطون بك ,والسعادة تغمرك من كل جانب ,فما حاجتك لمقاومة العلاج ؟ انصتى الىّ ... هل زرت الطبيب من قبل ؟ أم ..
قاطعته سريعا مجيبة :
-نعم , منذ ما يقرب من ستة أشهر وقد وصف لى عقــارا لعلاج الأنيميا.
-عظيم ,وأين هى التذكرة ؟
-لماذا تسأل عنها ؟
أجابته بغباء يتنافى مع التفكير السليم فشخر ساخرا:
-لأننى أريد زيارة هذا الطبيب ليعالجنى أنا أيضا ,أف .. طبعا لأشترى لكِ الدواء المطلوب .. مها ... ألن تخبريننى ؟
أجابت مترددة وهى تتلفت حولها لتجد ضالتها المنشودة بلا جدوى:
-أنها بحقيبة يدى .
حاولت القيام لتبحث عنها فأدرك نيتها بلمحة البصر وأسرع يمنعها من مغادرة الفراش ,فأسندها بقوة حيث أعادها الى مكانها الدافئ فى الفراش وهو يعيد ترتيب الغطاء على جسدها.
-لا ترهقى نفسك ,سوف آتيك بها.
أغمضت عينيها استسلاما وهى تسمع وقع خطواته المبتعدة ,ثم عادت الخطوات الرجولية الواثقة ليستقر بجانبها مادا يديه بحقيبتها ففتحتها لتخرج من محفظتها ورقة بيضاء مطوية ,ناولته ايّاها بدون أن تغفل عن تأمله لوجهها بغموض وكأنه يفكر فى خطوته التالية .
-هل توجد صيدلية قريبة من هنا ؟
اومأت برأسها موضحة بصوتها الذى أصبح يتغلغل فى أعماقه مخترقا كافة الحواجز التى بناها على مر السنوات بعد انهائه لعلاقة الحب التى جمعته بليلى ,وهى تصف له المكان بدقة واختتمت قولها:
-وان كنت أظن أنه لا داعٍ لأن تتعب نفسك معى ,فاذا شعرت بتحسن لن ...
-هل تعرفين كيف تبقين فمك الجميل مغلقا ؟ أم أن أتصرف أنا بطريقتى ؟
رمقها بنظرات مقيّمة أشعرتها برغبة فى الفرار من حصاره حيث تهدلت خصلات شعره العسلية على جبهته العريضة فقاومت اندفاع طائش لتعيدها الى مكانها ,وحاولت الالتهاء عن مراقبته التى لم تدم فيبدو أنه هو أيضا كان يصارع رغباته الداخلية ليوجّه اهتمامه نحو حقيبتها فسألته باندهاش عما يريده ,فأجابها ببساطة:
-مفتاح الشقة اذا لم تمانعى ,فلا أريدك أن تنهضى من الفراش لأى سبب كان حتى آتيك بالدواء.
ومد يده اليها بسلطة مؤثرة ,ما نفع المقاومة مع مثل هذا الرجل القوىّ الشكيمة الذى اعتاد أن يأمر فيطاع ,ناولته سلسلة مفاتيحها التى لا تزيد عن ثلاثة مفاتيح معلّقة بها وأشارت الى الوحيد المختلف الشكل بينهم وهى تقول:
-هذه هو المفتاح.
-حسنا , لن أتأخر عليكِ.
وكافأها بابتسامة ساحرة هذه المرة فيما هى تتطلع الى ظهره الذى أولاه لها منصرفا ,وقد أظهر قميصه الناصع البياض المفصّل بدقة عليه عضلاته المقسّمة بتناسق وكان مثالا للرجل الرياضىّ الذى يحافظ على رشاقة جسده اضافة الى قامته الفارعة فأخذت تلوم نفسها على تسرعها فى التفكير به وهى تلتقط هاتفها المحمول لتجرى مكالمة مستعجلة قبل أن يعود سيف ,لديها مساحة لا بأس بها من الوقت فقد أرسلته الى أبعد صدلية تقع بالحى المجاور لهم ,وهو بدوره لم يشكّ بها على الاطلاق.


************

SHELL 07-11-18 11:14 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لحقت به فريال وهى تحث خطاها على الاسراع محاولة أن تتوازن فى مشيتها على الممر الحجرى الذى يصل الفيلا بالفناء الخارجىّ حيث أوقف سيارته الحديثة الى جوار سيارات العائلة ,فأطلقت نداءا يائسا لتستوقفه:
-مجدى ... مجدى.
توقف فجأة وقد تصلبّت عضلاته بفعل ملامستها لكتفه وهى تحاول التماسك قبل أن تتعثر بفعل حجر صغير فى مرمى طريقها فأنقذها باحاطته لخصرها قبل أن تفهم ما يحدث بالضبط كانت بين أحضانه معانقا لها بعنفوان وقوة غاضبة لم تعتدهما من قبله فأطلقت العنان لعواطفها الحبيسة وقد تعلّقت بعنقه سامحة لكل مشاعرها المكبوتة أن تنفلت من عقالها مرددة بهيام:
-شكرا .. شكرا يا مجدى.
-لا شكر على واجب يا سيدتى.
وأزاحها بعنف بعيدا عنه لتقف ملاصقة له ولكنها محرومة من دفء ذراعيه ومساندته لها ,وقد تألمت من طريقته الرسميّة بعد المشهد العاطفىّ الذى تشاركاه منذ لحظات فقالت باندفاع:
-الى أين أنت ذاهب ؟
-الى بيتى , الى حياتى التى أهملتها وأنا أحاول ترميم حياتك أنت ,لقد انتهى دورى بالنسبة لكِ ,وها هى ابنتك الحبيبة عادت الى أحضانك ,فلا حاجة الىّ بعد الآن.
-أنت مخطئ يا مجدى.
قال متشنجا وقد ابيضت مفاصله بفعل ضغطه على حقيبته السوداء التى يحمل بها أوراقه الخاصة بالعمل :
-لقد كنت مخطئا طوال هذه السنوات ,انتظرت وهما وسعيت نحو تحقيق المستحيل ,,, فكان نصيبى الفشل الذريع.
-لا , أرجوك لا تقل هذا ,فأنا ,,, بحاجة اليك ,ما زلت ...
قاطعها بحدة:
-وفّرى على نفسك المجاملات التى لا طائل منها ,أنت لا تحتاجيننى بعد الآن ,لقد كنت رجلا معك حتى النهاية ,,, لا يمكنك اتهامى بالتقصير ,أو أننى قد أخذت أكثر مما أستحق.
كان يذكّرها بعنف باهانتها السابقة له ,فأطرقت بوجهها أرضا محرجة من مواجهة نظراته القاسية ,فأجهشت بالبكاء وهى تقول بتردد:
-ألا يمكن أن تمنحنى فرصة ثانية ؟
ورفعت بصرها اليه تستجديه بضعف فهزّ رأسه نفيا وهو يجيبها بلا رحمة:
-لا أستطيع يا فريال ,لقد أعطيتك أكثر من فرصة ,ولكنك كنتِ تتبارين فى اظهار مهارتك فى اهدارها الواحدة تلو الأخرى , لم أعد أتحمّل طريقتك المتعالية ولا أسلوبك الجارح ,كنت ألتمس لكِ الأعذار بالماضى وأقول لنفسى انها مجروحة ويائسة فلتكن أنت الكتف الذى تبكى عليه ,والآن ... لم أعد مناسبا لكِ ,فليس من العدل بعد انتظار سنوات وحيدا بلا حب بلا زواج مضحيا بكل ما أملك من وقت وجهد حتى أصبح رجلا يليق بكِ وبمستواك الاجتماعىّ ,عملت ليلا نهارا لم أنعم بأية راحة محاولا الوصول اليكِ ,أن تكون مكافأتى على يديك أن تطعنيننى بسمعتى وشرفى ,فاتهامك لى بالكذب ومحاولة السعى وراء المال أصابنى فى الصميم ,اذا أردت أن أبيّن لكِ حقيقة زوجك الراحل منذ وقت طويل كنت فعلتها ,ولدىّ كافة الدلائل على وضاعته وحقارته ,أنه مجرد شخص مستهتر يهوى القمار أراد التلاعب بمشاعرك البريئة حتى يصل الى غرضه الدنئ ,وقد تورّط بعمليات نصب بعد أن أصبح غارقا بالديون حتى أذنيه ,فأنهت العصابة التى كان يعمل معها حياته بعد أن دفعها ثمنا رخيصا لأفعاله الغير شرعية ,وصار مجرد كارتا محروقا بالنسبة لهم فكان أن هدّدهم بكشف أمرهم للشرطة فاستحق العقاب للخيانة ولم يكلفهم سوى رصاصة واحدة فى القلب ,وهذه هى نسخة من التقرير الذى أصدرته دائرة التحقيق بوقتها.
-لا يمكن ...هل .. هل يمكننى الاطلاع عليها ؟
فناولها ورقة أخرجها من حقيبته فالتقطتها منه مرتعشة وهى تنهب سطورها مصدومة مرعوبة مما تره بعينيها فما كان منه بعد أن أنهت قراءتها الا أن قال مشمئزا:
-ويمكنك الاحتفاظ بها أيضا , فلم تعد تهمنى ,كنت فقط أحاول أن أجنبك الألم ,كما لا أريدها أن تقع بيدى أميرة ,فما جدوى معرفتها لحقيقة أبيها القذرة ؟ اتركيها لخيالها .. تراه بصورة مثالية جميلة.
حتى فى أكثر اللحظات ايلاما له يفكّر بغيره ,يهتم بشؤون ابنتها ,لا يريد أن يسبب لها المزيد من الوجع , يضحى بسعادته من أجلها ,وهى ردّت له الجميل مضاعفا بخذلانها لمشاعره المتأججة التى لم تنطفئ برغم البعاد, لو فقط منحته الثقة التى يستحقها ؟
-أنا آسفة.
-وما نفع الأسف الآن؟
واستطرد يائسا:
-وداعا يا فريال ,اهتمى بنفسك وبأميرة.
خشيت أن يكون مقدما على الرحيل فعلا وهى تقف كالمتفرجة تشاهده يعتلى مقعد القيادة ,فتشبثت بيديها على مقبض باب السيارة وهى ترجوه مذهولة:
-أرجوك يا مجدى ’ لا تتركنى وترحل ,,, أنا لا يمكننى الحياة بدونك.
نظر لها مرة أخيرة قبل أن يقول بمرارة وأسى:
-بل يمكنك يا فريال , لقد فعلتها من قبل ,ولا تنسى أن أميرة قد عادت الى حياتك ,وبالتأكيد ستعوّضك عن الحرمان الذى قاسيتِ كثيرا بسببه ,أتمنى لك من قلبى كل السعادة ,وداعا.
أبعدت يديها وقد أدركت أنها خسرت جولتها الأخيرة ,وانطلق مجدى مسرعا ليخرج من حياتها نهائيا.
ظلّت متعلّقة بالورقة التى تكرمشت بفعل قبضتها وهى تتمنى لو تستطيع تمزيقها اربا اربا كما تمزّقت حياتها من قبل ,ولكن هل يكفى هذا لمحو الذل والعار ؟ ارتسمت دلائل الشعور بالاحباط والانهزام على وجهها وقد وعت الحقيقة الغائبة عنها : لم يكن أبوها ذلك الرجل الظالم الذى كرهته ,كان يعرف بحقيقة ابن أخيه المتجليّة بوضوح كالشمس ,حاول حمايتها من انتقامه وسعيه ورائها من أجل ميراث هو حق له أراد أن يبعثره هباءا بعد أن سيطر عليه داء المقامرة ,هل أحبّها حقا ؟ وهل استحق حبها له ؟ ظلت أسئلة بلا اجابات ... فوالدها وزوجها ... كلاهما مات ... ولن تعرف ابدا الحقيقة كاملة ,لكنها لن تيأس سوف تسعى باحثة عنها .
جرجرت قدميها عائدة الى الفيلا وهى تنفض عنها آثار الحزن البادية بجلاء على وجهها ,شامخة باستعلاء يليق باسم عائلتها.


******************

SHELL 07-11-18 11:15 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثانى والعشرون

http://www.7lwthom.net/up/uploads/1459430526432.gif


الساعة الآن 06:26 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية