منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   (رواية) رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان (https://www.liilas.com/vb3/t206280.html)

SHELL 14-09-18 04:31 AM

رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 


http://files.fatakat.com/2010/7/1278879816.gif


بداية أحب أعرفكم على نفسى أنا عضوة جديدة معاكم ولأول مرة بكتب رواية , رغم أنى مدمنة على القراءة كنت مترددة انشرها فاستقبال الكتابات المختلفة ليس كارسالها للمتلقى..
دى روايتى الأولى الطويلة .. بدأتها من فترة طويلة لكن ,,, توقفت عن المتابعة لفترة أطول ,, وبعدين قررت أكملها ,,, استغرقت كتابتها حوالى 8 شهور ,,, حبيت اشارككم بهذه الرواية التى اعتبرها اجتماعية رومانسية وغامضة الى حد ما .. وكلى أمل أن تنال اعجابكم

تحت عنوان

لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف (من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان)

http://d.up-00.com/2018/09/1536891959681.jpg

ونبدأ بــ


الملخص

http://www11.0zz0.com/2017/05/22/02/854963795.gif

كانت حياتها كالبحر الهادئ بلا أمواج , وما أن عصفت الريح بدفتها حتى بحثت عن شاطئ ترسو عليه سفينتها.
فتحطمت أحلامها البريئة على صخور جزيرته النائية , ولكنها قاومت دوامة سيطرته القوية رافضة أن تغرقها فى القاع.
وأدرك هو أن ليس كل ما يلمع ذهبا , وكما قال الشاعر فإن تطلب اللؤلؤ ,عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غير الزبد , فترك بر الأمان وغاص فى أعماقها لعله يجد ما يبحث عنه قبل أن يقتنصه صياد آخر.

وموعدنا كل جمعة و ثلاثاء باذن الله فى تمام الساعة السابعة مساءا بتوقيت القاهرة لعرض الفصول

لا تحرمونى آراءكم ومتابعتكم

والسلام ختام

http://idata.over-blog.com/4/32/93/8...ETTA-.X---.gif


bluemay 14-09-18 06:13 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ،


يا هلا ومرحبا فيكِ

نورتِ بيتك ومطرحك

المقدمة مشوقة

بتمنى لك التوفيق وتلاقي التفاعل اللي بتتمنيه


تقبّلي خالص الود

SHELL 14-09-18 03:14 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3706089)
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ،


يا هلا ومرحبا فيكِ

نورتِ بيتك ومطرحك

المقدمة مشوقة

بتمنى لك التوفيق وتلاقي التفاعل اللي بتتمنيه


تقبّلي خالص الود


أهلا عزيزتى

مشكورة على الترحيب والاستقبال الحافل

بارك الله فيكِ

SHELL 14-09-18 08:04 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 










الفصل الأول
*******
- صباح الخير يا حبيبتى
قالتها السيدة الأكبر سنا ذات الوجه الصبوح للفتاة الجميلة الواقفة الى جوارها والتى فاجأتها فى المطبخ وهى تعد طعام الافطار
فردت الفتاة الرشيقة الواقفة بجوارها:
- صباح الخير والسعادة يا أحلى خالة , ما كل هذا النشاط؟
ضحكت خالتها وقالت:
- ومنذ متى لم أكن نشيطة يا ست لبنى ؟ ألا تجديننى صباح كل يوم مستيقظة قبلك أعد لك أشهى افطار؟
ابتسمت لبنى وتوجهت نحو خالتها لتضمها بذراعيها بحب جارف :
- ربنا يسعدك ويديم عليك الصحة والنشاط دائما , أنت تعرفيننى أكثر من نفسى , أحب أن أمزح معك
ثم أضافت بمرح ظاهر:
- ثم ان الطعام الذى تعدينه شهى جدا , ألا ترين أن وزنى قد ازداد كثيرا فى الآونة الأخيرة
- ما هذا الكلام العجيب ! أنت ذات وزن زائد!
ثم رمقتها بنظرات مقيّمة من رأسها حتى أخمص قدميها وهزّت رأسها يمنة ويسارا كمن لا يعجبه أمر ما :
- يا حبيبتى أنت فى قمة الرشاقة والجمال , تشبهين والدتك - رحمها الله - تماما , كأننى أراها من جديد
ترقرقت دموع الحزن فى عينى لبنى ولكنها أخفتها بمهارة شديدة عن خالتها المحبة وقالت بسرعة :
- الله لا يفرقنا أبدا, هيا لنتناول الطعام سويا
بعد الانتهاء من وجبة الافطار , توجهت لبنى مسرعة نحو الباب ثم عادت لتطبع قبلة رقيقة على خد السيدة المسنة:
- الى اللقاء
وخرجت مسرعة لتلحق بالحافلة فى طريقها الى العمل
عندما وصلت الى غرفة مكتبها ألقت التحية على السكرتيرة الجالسة أمام شاشة الكمبيوتر تضرب بسرعة ومهارة شديدتين على مفاتيح اللوحة
ردت عليها التحية دون أن ترفع بصرها عن الشاشة ولكنها ما لبثت أن تذّكرت أمرا ما فقالت بلهفة:
- لبنى ... قبل أن أنسى هناك شخص اتصل بك مرتين وأصرّ على ضرورة محادثتك
تعجبت لبنى :
- من هو هذا الشخص يا ليلى ؟
- لا أعرف ولكنه ترك لك رقم هاتفه ,وأكّد على ضرورة معاودة الاتصال به
شكرتها لبنى على اهتمامها وتوجهت الى الغرفة الفسيحة حيث يقع مكتبها فى منتصف الغرفة بين مكتبين آخرين يخصان زميلين لها
أحدهما التفت اليها مرحبا أما الثانى فبدا وكأنه تجاهل أمر وجودها بالحياة أصلا , لقد تعودت على مثل هذا التجاهل المتعمد ولكنه ما زال يترك ألما فى قلبها لا تمحوه الأيام ولا تشفيه المواعظ
- صباح الخير يا خالد
ولم تلتفت نحو زميلها الآخر
- لدينا ملفات كثيرة أحضرتها ليلى هذا الصباح وعليك أن تختارى من بينها خمسة على الأقل
التفتت اليه متسائلة فأشار برأسه ناحية المكتب الآخر حيث يجلس خلفه رجل عابس ولكنه ملئ بالحيوية والنشاط
تنهدت لبنى وتوجهت ناحيته لتلتقط الملفات التى ستبدأ بها
مدت أصابعها باتجاه الملفات المتكدسة فى تنظيم وترتيب فائقين حتى تبدأ بمهمتها الشاقة ففوجئت به يمنعها من ذلك ببرود أثلج الهواء المحيط بهما :
- انتظرى , ماذا تظنين نفسك فاعلة؟
- سألتقط الملفات التى تخصنى , أرجوك لا تعطلنى
سخر منها ببطء:
- ولمَ العجلة ؟ فقد تأخرتى كثيرا اليوم
- وما دخلك أنت ؟ لست مديرى ! ولا أنت صاحب العمل !
- فى هذه الحالة لا تثيرى فوضى حولك ولا تبعثرى الأوراق
شعرت هى بالضيق الشديد وحاولت أن تكظم غيظها حتى لا تتفوه بما تندم عليه فيما بعد
وعدت الى رقم عشرة فى سرها وببطء
تنفست ولفظت الكلمات كأنها ترميه بها:
- هل من أوامر أخرى ؟
- لا يكفى هذا اليوم
سحبت الملفات بسرعة وجرت نحو مكتبها وهى تفكر أن اليوم لن يمر بهدوء فما زال أمامها الكثير من العمل بالاضافة الى أمر المكالمة الغامضة التى أثارت فضولها
بعد فترة قصيرة تناست أمر هذه المكالمة واندمجت فى عملها , ترتب الأوراق وتجمع البيانات فى ملف جديد
فأنجزت الأعمال المتكدسة أمامها وهى ترتشف من فنجان قهوتها الساخنة الخالية من السكر كما تعشقها حتى حان موعد الانصراف.
جمعت أغراضها وألقت التحية على خالد متجاهلة الآخر تماما
وكانت على عجلة من أمرها فاصطدمت وهى فى طريقها للخروج بشخص ما وكادت أن تقع أرضا لولا أن أمسك بها هذا الغريب فى اللحظة المناسبة.
رفعت رأسها لترى ذلك الذى قلب كيانها فرأت رجلا تبدو عليه سمات الوقار والهدوء قدرت بأنه فى منتصف الأربعينات من عمره , فاعتذرت منه بكلمات مقتضبة وهمت بالذهاب فاستوقفها بسؤاله الذى أثار انتباهها:
- أرجو المعذرة , ألست أنت الآنسة لبنى وجدى ؟
هزت رأسها بالايجاب وهى فى حيرة من أمرها , كيف عرفها هذا الرجل ؟
- هل من خدمة أؤديها لك ؟ اذا كانت تتعلق بالعمل فأنا آسفة لقد حان موعد انصرافى تستطيع المجئ غدا
هكذا استنتج خيالها المتقد
- انه أمر لا يتعلق بالعمل , هل تسمحين لى بدقائق من وقتك؟
- من أنت ؟ وماذا تريد منى؟
سألته بحدة متجاهلة كل قواعد اللياقة فى الحديث
- ستعرفين كل شئ فى وقته , لقد حدثتك تليفونيا ولم أتلق ردا
اذن فهذا هو الرجل صاحب المحادثة الغريبة التى سبق وتلقتها ليلى فى غيابها
- تفضل وهات ما لديك
قالتها بتبرم واضح
- لا تقلقى لن أعطلك كثيرا ولكن لا يمكننا أن نظل واقفين هكذا
تطلعت حولها فوجدت أن المارة يتطلعون بفضول اليهما
- ألم تسمعنى جيدا يا سيدى لا أستطيع أن أتأخر أكثر
وهمت بالرحيل
- انتظرى ... سأخبرك
توقفت لبنى فجأة واستدارت لتستمع اليه
ما الذى يثير فضولها فى حديثه ويمنعها من المغادرة ؟ ربما يكون شخصا محتالا , واستبعدت هذا الاحتمال فهناك ما يدفعها للوثوق به بالرغم من عدم معرفتها به من قبل
ان احساسها يقودها دائما الى الصواب
اضطر الرجل للحديث حتى لا يفقد أى ذرة من اهتمامها المنصب على كلماته الآتية:
- أنت طبعا تعرفين السيد عبد العظيم الشرقاوى
رانت لحظة صمت ثقيلة عليهما
أجابته بترفع :
- نعم , فهو جدى و ولكننى لا أعرف عنه شيئا فاذا كنت ..
قاطعها الرجل الوقور :
- أعرف ,وأنا أعتذر لأننى لم أقدم نفسى لك فأنا المحامى المختص بتنفيذ وصيته
نظرت له بشك وحذر :
- عن أية وصية تتحدث ؟ وما شأنى أنا بكل هذا ؟
- صبرا وسأشرح لك لقد توفى جدك وترك لك ميراثا
شهقت غير مصدفة ما سمعته بأذنيها:
- ترك لى أنا ميراثا!
اندهش من ردة فعلها فهى لم تبد مصدومة لنبأ وفاة جدها ولكنه تجاهل ما حدث فعمله يقتصر على ابلاغها وليس تحليل شخصيتها
- ولماذا أنت متعجبة ؟ فأنت حفيدته ألست كذلك ؟
- حفيدته ... نعم للأسف
قالتها بحسرة ومرارة
قرر تجاهل نبرة صوتها
- ولكن الميراث ليس لك وحدك , يوجد شركاء آخرون
- لا دخل لى بما تقول , فأنا لا أريد منهم قرشا واحدا
همت بالانصراف مرة أخرى فنفد صبره من تصرفها
فأوقفها بقسوة:
- معذرة يا آنستى فلم أنهِ حديثى معك ويكفى أنك جعلتى من هذا الموقف برمته أمرا شائنا ... استمعى الىّ ثم قررى ما تشائين
تنهدت بفروغ صبر:
- يا سيدى , ألا تفهمنى ؟ لا يعنينى الأمر من قريب أو بعيد
- حتى ولو كان الأمر يتعلق بالكثير من المال ؟
سألها بوقاحة فمنعت نفسها من مجابهته بما يليق من رد لاذع
والتزمت الصمت حتى يفرغ ما فى جعبته من كلمات
- ستجتمع العائلة كلها غدا فى تمام الساعة الخامسة مساءا فى فيلا جدك وعليك حضور هذا الاجتماع , فأنت من الورثة الشرعيين
أرجوك فكرى فى الأمر جيدا قبل أن تتسرعى باتخاذ قرار قد تندمين عليه يوما ولن تخسرى شيئا بحضورك واذا لم يرق لك الأمر حينها تستطيعين الرفض ولن يلومك أحد
وأضاف بنبرة مختلفة:
- ربما سيشكرك الكثيرون على مثل هذا الانسحاب
لتتخلص من الحاح الرجل الشديد :
- حسنا يا سيدى سآتى , ولكن هل لى بالعنوان؟
- طبعا
وأخرج من جيبه ورقة أنيقة من النوع المقوى اللامع مدونا عليها العنوان
ثم التفت اليها قبل أن ينصرف :
- بالمناسبة هل معك رقم الهاتف الذى تركته لك مع زميلتك؟
- نعم
- حسنا انه يخصنى .. اسمى مجدى العمراوى , اذا احتجتى شيئا فلا تترددى بالاتصال
- ان شاء الله سأحاول المجئ فى الموعد غدا والآن هل تسمح لى بالانصراف؟
حيّاها السيد مجدى فردت عليه بتمتمة خافتة وهى مشتتة الفكر والعواطف
ترى ما الذى يخفيه لها الغد؟
نفضت الأفكار عن رأسها وتوجهت لتستقل سيارة أجرة فقد تأخرت كثيرا عن موعد الحافلة ولا جدوى من الانتظار.


*******



SHELL 18-09-18 07:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

الفصل الثانى


***********

رن جرس الباب فى الشقة التى تسكنها لبنى مع خالتها السيدة مديحة وقد كان الطارق متعجلا لحوحا لا يستطيع صبرا
- حاضر يا من على الباب .. الصبر طيب
قالتها السيدة مديحة وهى تضع غطاء الرأس القصير وتمشى بخطى واسعة لتنقذ الجرس من الصراخ وتتفادى اصابتها بالصمم
وفتحت الباب بسرعة لتنهر من يقف ورائه لتفاجأ بابنة أختها الراحلة تقف بشرود ويدها لم يفارق زر الجرس
- لبنى ... ما لك يا ابنتى ؟
استفاقت الفتاة من شرودها على صوت خالتها يعيدها الى واقعها المحسوس
دخلت الى الشقة بدون حتى أن تلقى السلام على خالتها كعادتها كلما رجعت الى المنزل
- لبنى ... أين مفتاحك ؟ ولماذا وقفت هكذا على الباب؟
- هاه .. لا شئ لا شئ يا خالتى أعانى من صداع فقط
- سلامتك يا حبيبتى هل أعد لك الغداء؟
- لست جائعة ... سأخلد الى النوم
ودخلت الى غرفتها لتغلق بابها تاركة خالتها تتخبط فى أمواج حيرتها وقلقها
قالت الخالة فى نفسها " ربما هى مشكلة بالعمل أم يكون جاسر قد ضايقها ثانية ؟ "
وتنهدت بحرقة " لو تجد عملا آخر ستستريح من مواجهته كل يوم "
لم يطاوعها قلبها أن تأكل وحدها وتترك لبنى جائعة كما أنها قد فقدت كل شهية للطعام بعد رؤيتها لها متكدرة
طرقت على باب غرفتها طرقا خفيفا وهى تناديها بصوت هامس:
- لؤلؤتى .. هل نمت؟
لما لم تجد اجابة أو تسمع صوتا فتحت الباب ودخلت الى الحجرة المظلمة الا من ضوء خافت لآخر النهار والشمس تلفظ أنفاسها الأخيرة
كان الجو بالداخل ينم عن هدوء رتيب , تجولت عيناها فيما حولها لتعتاد على درجة الاضاءة الخفيفة بغرفة لبنى ذات الطابع الأنثوى الرقيق والذى يشى بذوق راقى ومنسق فى كل تفصيلة من تفاصيل الأثاث .. لقد اختارته لنفسها منذ ما يقرب من عشرة أعوام وهى المدة التى قضتها معها بمنزلها البسيط القابع فى أحد أحياء الجيزة المتوسطة المستوى فلا هو يتدنى لمستوى الحى الشعبى ولا يرقى لمستوى طبقة الأغنياء التى ينتمى لها عائلة زوج أختها الراحل .
عشرة أعوام انقضت على الحادث المروع الذى أودى بحياة أختها وزوجها الطيب تاركين خلفهما ابنتهما الوحيدة يتيمة شريدة بلا مأوى أو معين على الحياة الا الله .
سرحت بذكرياتها للحظات ثم تنبهت على صوت نهنهة لبكاء متقطع يتخلله شهيق مكتوم , تمزق قلبها من أجل الصغيرة التى رأت بأعوام عمرها الأربع وعشرين ما يمكن أن يراه المرء فى عمر كامل.
لقد لاحظت أنها اليوم على غير عادتها فقد نسيت أن تستخدم مفتاحها وظلت تدق الجرس لفترة طويلة كما أنها لم تمازحها بخفة ظلها المعهودة ورفضت تناول الطعام وانتهى بها الأمر الى الغرفة تبكى بحرقة وتحاول اخفاء اضطرابها عن خالتها.
- ما بك يا لؤلؤة؟
نادتها باسم التدليل المفضل لديها وهى تربت على كتفها وتحاول أن تضمها بين ذراعيها بينما تمسح على شعرها الأسود الحريرى كشلال من الليل البهيم.
تشنجت لبنى فى أحضان خالتها الدافئة وتهدج صوتها وهى تحاول السيطرة على انفعالاتها
- سأحكى لك كل شئ , لا أستطيع تحمل الكتمان , انه حمل ثقيل جدا
- كلى آذان صاغية يا حبيبتى
وقصت على خالتها كل الأحداث التى دارت اليوم بدون أن تغفل أدنى شاردة فهى لم تتعود الا على الصراحة معها , حتى قصة حبها القصيرة التى انتهت بالفشل الذريع كانت على علم بكل صغيرة وكبيرة فيها
- ماذا أفعل ؟ اننى حائرة جدا وأشعر بصدمة من جراء الضربات المتوالية اليوم
- هل هناك شئ آخر غير مقابلة المحامى هذه ؟
استغربت لبنى لماذا لم تشعر باندهاش خالتها لما قصته عليها من تفاصيل تخص جدها والميراث المزعوم الذى تركه لها فهى حتى الان تشعر بأنها خدعة أو مزحة ثقيلة ستنتهى بومضة فلاش ,وصوت مرح يقول:
كنتى معنا فى برنامج الكاميرا الخفية . هل توافقين أن نذيع ؟
ورأت أن تروى لها ما دار بينها وبين جاسر ... الحبيب سابقا والعدو حاليا
- لا بأس يا عزيزتى , فهو ما زال لا يتقبل خسارته لك
- ولكنه هو من أصر على الابتعاد !
- ربما يحمل لك بعضا من المشاعر القديمة
- لا أعتقد هذا
نفت لبنى هذا التفسير وبشدة آلمتها شخصيا فهى تتمنى لو كان ما تقوله خالتها صحيحا ولو بنسبة صغيرة من الأمل يمكنها استعادة ما كان
وعادت بذاكرتها لتصرفاته العدائية نحوها فاقشعر بدنها من برودة لهجته فى الحديث معها واصراره الدائم على تجاهل وجودها بالرغم من كونه شخصا لطيفا محبوبا من جميع المحيطين به
لقد لاحظ خالد زميلهما هذا الجفاء الذى اتسم فى جميع حواراتهما النادرة بعد أن كانا لا يفترقان أبدا وكل الرقة والحنان اللذان كانا يبدوان فى كل نظرة يصوبها اليها ولكنه آثر الصمت وعدم ابداء أى تدخل للمصالحة أو حتى التهدئة فهو يخشى انفجار جاسر القاتل فيه اذا ما جرؤ وألمح الى ما كان بينهما من عشق أو اذا حاول أن يجعله يتعامل بروح الزمالة معها.
لقد رفضها جاسر كحبيبة أو زميلة , وهى المسكينة تأمل يوما بعد يوم بأن يعاودا قصتهما الجميلة وهذا الأمل يخفت تدريجيا حتى باتت تعتقد أن اليوم شيعت جنازته وودعته للأبد الى مثواه الأخير ... لم يعد هناك من أمل
- خالتى .. سوف اذهب غدا بناءً على طلب المحامى لقد شعرت ببعض الثقة تجاهه فملامحه توحى بالطيبة ولا أظنه يريد ايذائى
- أنت صافية النية كالماء العذب ولا تعرفين بعد خفايا الدنيا
- هل تقصدين تخويفى يا خالتى العزيزة ؟
- لا يا عمرى .. بل أخشى عليك منهم ... ولكنك ايضا قوية صلبة العود ولن يكسروك ابدا
- أتمنى ذلك ولكن ما يهمنى من أمرهم فلا أعرفهم ولا أريد أى صلة بهم
- سنرى يا حبيبتى ... يا خبر بفلوس بكرة يبقى ببلاش
- لا تحملى هما .. سأنسى بمرور الوقت ما يكدرنى
- أنا واثقة من ذلك وأتمنى ألا تتوقف حياتك بانتظار من لا يقدرك حق قدرك
كانت تعرف من هو المقصود بهذا الكلام .. انه حكم الهوى الذى جعلها تتعلّق بمن ليس لها , ويا ليته يبتعد عن طريقها للأبد فوجوده بقربها يعذبها, تراه كل يوم وهو لا يراها , تراقبه بحذر شديد حتى لا يدرك أنها ما زالت تحفظ عهود العشق التى قطعاها منذ ثلاث سنوات مضت وهو يتجاهلها كما لو شبحا خفيا
- أنت على حق ... آن الأوان لأنسى ما فات وأبدأ من جديد
سأنساه ... قررت فى نفسها , وكأن هذا سهلا بمجرد أن اتخذت قرارا لا يعنى أنه تم تنفيذه
وشغلت بالها مقابلة عائلة أبيها فى الغد , لقد تجاهلوا وجودها خمسة وعشرين عاما ومن قبله نبذوا أباها لأنه تجرأ وخالف والده - الطاغية - الذى لم تصدق أنه مات , لقد كان أبوها رجلا بمعنى الكلمة يُعتمد عليه , ولم يشعر بأى استياء لدى طرده من جنة العائلة المزدهرة وحرمانه من كل الامتيازات التى يتمتع بها أقل فرد فى هذه العائلة , تقبّل الأمر ببساطة لا يشوبها أى ضيق , اختار امرأته بنفسه ودافع عن مثل هذا الاختيار , ما اشد اختلافه عن الرجل الذى وهبته حبها الأول
فقط لو قابلت رجلا يشبه والدها , لارتاحت الى الأبد
كانت حياة والديها قبل الحادث - كما تتذكّر - هادئة كبحيرة صافية ومبهجة كفرحة العيد , لم تسمعهما مرة واحدة يتجادلان ولم ترهما متخاصمين
ان خالتها لا تمل قولها بأن أختها كانت امرأة محظوظة لأنها وجدت حب حياتها وتزوجته
هل يخبئ لها القدر مفاجأة مذهلة كأمها ؟ هل ستتذوق طعم السعادة بعد أن تجرّعت مرارة الوحدة والعذاب؟
- ماذا أرتدى غدا؟
سألت خالتها لمجرد شغل تفكيرها بأمر آخر غير ما يضنيها ويهدد استقرارها الذاتى
- فقط ارتدى ثوبا بسيطا باللون الأسود .. لا تنسى أنكِ فى حداد
- حداد ؟ أنا لن أعزّى أحدا ... لا صلة قربى لى بمن مات
- وكيف يُعقل ما تقولين ؟ أتريدين أن يقولوا أنكِ لا تعرفين الواجب ولا تربيت على الأصول؟
- ليذهبوا مع أفكارهم الى الجحيم
شهقت السيدة مديحة من تعليق ابنة أختها المهذبة فهى لم تتفوّه بمثل هذه الألفاظ من قبل
- لا يصح يا ابنتى , خليكِ أنتِ صاحبة الأصل والتربية الحسنة
********
رن جرس الباب فى الفيلا الأنيقة الواسعة والتى تقع فى حى جاردن سيتى وقامت خادمة صغيرة السن رشيقة القوام بفتح الباب الزجاجى ووقفت مفسحة الطريق بمهنية عالية
- مساء الخير ...أنا ... هل وصل السيد مجدى ؟
وترددت الزائرة فيما تقول
- مرحبا بكِ ... تفضلى فالجميع بانتظارك
اندهشت لبنى كيف عرفتها هذه الخادمة الأنيقة بالرغم من أنها لم تطأ هذه الفيلا ولا مرة
وارتاحت لأنها لم تضطر الى التعريف عن نفسها
واحتارت الى اين تتجه ولكن حيرتها لم تدم الا لثوانٍ قليلة فقد أرشدتها الفتاة الى قاعة فسيحة ... اثاثها فخم ويشى بذوق راقى أنيق لا بد أنه كلفهم ثروة طائلة .. المال , لا قيمة له عندهم .. ورفعت بصرها لترى ثريا عملاقة تبرق كريستالاتها الزجاجية كأنها عقود من الألماس اللامع كما يزين جدرانها لوحات زيتية عملاقة تبدو أصلية كلها كما أن أثاثها غالى الثمن ويحيط به عدة تماثيل ذهبية اللون كادت أن تصطدم قدمها بواحد منها واستطاعت أن تميّز وجه المحامى الذى كان جالسا فى المنتصف ويحيط به أشخاص عديدون يتحدثون جميعا بصوت هادئ ولم يلتفت أيا منهم اليها حتى توجهت الخادمة حيث يجلسون وان كانت وقفت على مسافة بعيدة نسبيا
- لقد وصلت الضيفة
عم القاعة صمت رهيب ونظرت اليها أزواج من العيون الفضولية تتأملها باهتمام وتدقيق أثار القلق فى نفسها وتجردّت من أسلحتها التى شحذتها لمثل هذه المواجهة
وأنقذها من الحرج استقبال السيد مجدى لها بحفاوة وترحيب :
- مرحبا بكِ يا آنسة لبنى ... تفضلى
وأشار الى مقعد خالٍ قريب منها لتجلس عليه
- واسمحوا لى جميعا سأقوم أنا بالتعارف
بينما سرت همهمات جانبية بين الجالسين وخمنت لبنى بأنها هى محور هذه الهمسات ليس لغرور فى نفسها ولكنها الوحيدة الغريبة بينهم والتى شعرت منذ اللحظة الأولى بأنها النغمة النشاز فى وسط مقطوعة متناسقة الألحان
- هذه هى الآنسة لبنى .. ابنة المرحوم السيد وجدى
......
وأشار الى رجلين يبدو عليهما سيماء الوقار :
- هذا هو عمك الأكبر السيد محمد , وهذا هو عمك الأصغر السيد عادل , والدك رحمه الله كان الأوسط بين اخوته
ثم أكمل وهو يبتسم ابتسامة خفيفة:
- وهذه هى عمتك السيدة فريال
كما تعرّفت على زوجة عمها الكبير السيدة سوسن والتى بدت لطيفة وقبلتها على وجنتها والأخرى زوجة العم الأصغر السيدة منى وأشارت برأسها تحية لها شعرت معها بأنها متكبرة بعض الشئ
- وهؤلاء أولاد عمومتك ... سيف ابن عمك عادل
والآنسة ريم ابنة عمك محمد
ثم توقف برهة قبل أن يقول بخفوت :
- أما كريم فهو ... أخوكِ ووالدته السيدة هناء
أجفلت للعداء الواضح الذى يطل من عينى زوجة أبيها , وتاهت فى عالمها الخاص ... والدها كان متزوجا من غير والدتها , كما أمها قد أدركت من فارق العمر الواضح بينها وبين اخيها ويا لغرابة الكلمة عليها انه اكبر منها بكثير , اذن فهذه هى الزوجة الأولى وأمها .... كانت الزوجة الثانية , وهذا يوضح الكثير من الملابسات ... يعتبرون أمها قد خطفت الرجل من زوجته وابنه , ان لها اخ ويا له من اكتشاف !
أما كريم فقد نظر اليها بمحبة عميقة وحنان أخوى لم تستطع مقاومته فابتسمت برقة اليه وكانت المرة الأولى التى تشعر فيها ببعض الاطمئنان منذ وطأت قدميها أرض المعركة
وبعد القاء كلمات المجاملات التقليدية والتى بدت فى غير موقعها فى هذه اللحظة , وجدا الخادمة تمشى الهوينى وتستند على ذراعها سيدة عجوز يبدو على وجهها آثار الزمان من خطوط وتجاعيد تحيط بعينيها وفمها ولكنها لم تمحٌ ملامحها الرقيقة الارستقراطية والتى وشت بجمال ذابل كان يوما حسنا فائقا بشعرها الفضى الحريرى والذى جمعته فى كعكة فوق رأسها الصغير وعينيها الرماديتين كعينى قطة مدللة
قام عمها الكبير محمد من مجلسه ليلحق بهذه السيدة ويحيطها من كتفيها :
- ما الذى جعلك تغادرين الفراش يا أمى ؟ قال الطبيب بأن عليك التزام الراحة التامة
لم يبد على السيدة أدنى اهتمام بحديث ابنها بل قالت بلهفة كمن يبحث عن شئ تاه منه :
- هل هى حقا هنا ؟ ابنة وجدى جاءت .. أريد أن أراها
جدتها .. السيدة المسنة هى أم والدها وشعرت بعاطفة قوية تغمرها من لهفة الجدة على لقائها ووجدت نفسها بدون ارادة تندفع نحوها لتضمها فى أحضانها الدافئة الحنون ,شعرت كأنها وجدت مرفأ آمن تلوذ به بعد أن كانت تصارع أمواج الغرق
- أنا لبنى يا ... جدتى
- يا شريفة هانم لم يجدر بكِ مخالفة أوامر الطبيب , فلا ترهقى نفسك
قالها محامى العائلة الموثوق به والذى بدا كصديق مقرب لهم أكثر من مجرد محامٍ يلتزم بقضية الميراث
وأفسحوا لها مكانا لتجلس على الأريكة المخملية الكحلية اللون وما لبثت أن أشارت الى لبنى :
- تعالى الى جانبى يا ابنة الغالى
وتساقطت دموعها وكأنها أنهارا محفورة على خديها
- لقد حرمت من ابنى سابقا ولن أسمح لأى أحد أن يحرمنى من تعويض ربنا
- ولكن الله لم يحرمك الأحفاد ... كما أن كريم هو ولده ايضا
لفظت السيدة هناء - زوجة أبيها - بهذه الكلمات بحنق شديد عجزت عن اخفائه وهى ترمق لبنى بنظرات من نار
- ولبنى أيضا ابنته ولها مثل حقوقهما
رد عليها السيد محمد بلهجة قاطعة حتى ينهى هذا الحوار السخيف
- هيا لنبدأ ؟
كانت هذه أول مرة يتدخل فيها عمها عادل فى الحوار
أما عمتها فريال فكانت تقف على الحياد لا تضايقها وفى ذات الوقت لا تظهر تعاطفا
باردة .. هى الكلمة المثلى لوصف هذه السيدة التى تبدو فى أوائل الأربعينات من عمرها وهى رائعة الجمال كأمها ورثت عنها كل ملامحها فيما عدا أنه جمال بارد لا روح فيه
- ألن ننتظر رفيقا ؟
تساءلت زوجة عمها السيدة سوسن فى تبرم واضح
- ها أنا قد جئت
صوت قوى له رنة مميزة تلتصق بالآذان لشخص صاحب سلطة ونفوذ
جاء هذا الرد من مكان مرتفع فاضطرت لبنى معه وهى جالسة الى جوار جدتها أن ترفع رأسها عاليا لترى القادم
وتشابكت نظراتها البنية بنظراته الرمادية القاتمة وأسرت اهتمامها فغفلت عما حولها ... كان صاحب قامة طويلة تتجاوز المائة وثمانين سنتيمترا رشيق القد قوى العضلات تظهر من تحت قماش قميصه الذى شمر كميه الى منتصف ذراعيه وكان قد أرخى ربطة العنق قليلا وفتح أول زر فى قميصه فبدا كفتى عابث يرفض تماما أى قيد يحيط به
وقد وضع سترة بدلته على أقرب مقعد له باهمال
ألقى التحية على الجميع ثم توجه نحو جدته ليطبع على يدها قبلة رقيقة فيما هى تمسح على شعره الأسود الكثيف بحنان فريد
- ما الذى جعلك تغادرين فراشك يا أنّا ... فطبيبك لن يعجبه الأمر
- لقد مللت أوامر هذا الطبيب .. لقد آن الأوان لاستبداله بآخر
غمز لها بعينه دلالة على موافقته على كلامها
- طلباتك أوامر فلتعتبرى أن الأمر قد قضى
ثم استقام ليقف شامخا أمام لبنى يتأملها ولم يغفل عن تفصيلة واحدة بداية من شعرها البنى الحريرى الطويل الذى جمعته الى الخلف بذيل حصان , وجهها الخالى من الزينة وقد تمهل فى نظراته الى عينيها ... ثم بوقاحة الى شفتيها ... نزولا الى ثوبها البسيط الذى ترتديه حتى
استقرت نظراته على قدميها الصغيرتين فى صندالها الصيفى الأسود الرقيق العالى الكعبين
من يظن نفسه ليقيّمها بنظراته المحتقرة ؟ انها حتى لا تعرف من هو ؟ لقد نادر جدتها بأنّا .. اذن هو حفيدها ولكن ابن من ؟
- اذن أنت من جعلتها ترهق نفسها لتتشرف بمقابلتك
كانت السخرية واضحة فى نبرات صوته وفى نظرات عينيه الآسرتين
وقبل أن تسنح لها الفرصة لترد عليه ردا مفحما أنقذها السيد مجدى بقوله:
- لم يعد لدينا سببا للانتظار فقد اجتمعت العائلة كلها
جلس رفيق على المقعد المقابل لها بتكاسل وردد:
- نعم العائلة كلها حتى القطة الشاردة قد عادت للديار

*************

SHELL 21-09-18 06:31 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

الفصل الثالث

http://files2.fatakat.com/2012/9/13480867711093.gif

تشاغل الجميع بانتظار السيد مجدى الذى جلس وسط العائلة وكأنه فردا منها وليس مجرد محامى يقوم بمهمته , فتعجبت لبنى من ردة فعلهم .. هل تخيلت أن رفيقا قد نطق بما سمعته أذناها أم أنها بدأت تهلوس ؟
لم يعجبها طريقة تعاطيه للأمور وسطوته الواضحة كما لم تسترح لنظراته الوقحة التى يوجهها لها من حين لآخر , ما بيدها حيلة فهى عالقة فى هذا المكان حتى تنتهى التمثيلية السخيفة الخاصة بتقسيم الميراث , كانت شبه متأكدة أنها ليست معنية بالأمر ولا بد أن المحامى قد أساء فهم الأمور, ارتأت أن تؤجل تحليلها لما يحدث لأجل غير مسمى.
- بداية دعونا نقرأ الفاتحة لروح السيد المحترم عبدالعظيم - رحمه الله وغفر له - ورفع يديه ليتلو الفاتحة بصوت مسموع وتبعه الجميع , شعرت بأنها ستزعج جدتها ان لم تلتزم بما يفعله الآخرون فلأجل خاطر هذه السيدة العجوز المحبة يهون كل شئ.
بعد أن أنهت التلاوة فى سرها رفعت عيناها لتجد أن رفيقا كان يراقبها خلسة ربما ليتأكد من أنها تشعر بالحزن على رحيل هذا (( الجد )) القاسى الذى لم تعرفه شخصيا وسمعت عنه من خالتها مرارا وتكرارا ولم تكن بالذكرى الحسنة بالطبع
لم تستطع هى ادّعاء الحزن أو تصنّع الدموع بينما اغرورقت عينا الجدة بدموع اللوعة والحزن على الفراق فتعاطفت معها ورق لها قلبها العاصى , أخذت تربت على كتفيها وتحاول تهدئتها (( لن يكون هذا جيدا لصحتك , فتماسكى يا جدتى ))
بعد مرور لحظات تجرّع الأحزان واجترار الذكريات لدى كل فرد من العائلة
قام السيد مجدى بفتح المغلّف الذى يحوى الوصية أمام نظرات الجمع المنتبهة وقرأ بصوت ثابت رجولى بنود الوصية كما نص عليه الشرع فلم يحرم أحدا من نصيبه
ولدهشة الفتاة نالت قسما من تركة هذا الرجل الذى لم يحنو عليها يوما ولا تعرف له صورة الا التى رسمتها فى خيالها لشخص مستبد ظالم عامل أمها كامرأة غانية وطرد أباها من جنته المفترضة وحرمه من العيش فى رغد ونعيم تمتع به كل الجالسين من حولها الآن يتطلعون اليها بمزيج من الحقد والاحتقار.
- لا أريد أى مال من هذه الثروة.
قالتها لتزيح عن كاهلها عبء هذه النظرات
- صدقا لقد جئت حتى أفى بوعدى للسيد مجدى , ولم أكن أنوِ أن أشارككم ميراثكم
- ما هذا الذى تقولينه؟
ردت عليها الجدة بصوت مجروح وقد آلمها رفض حفيدتها لهم
- عفوا جدتى , مع انها المرة الأولى التى أراكم فيها وعلىّ أن أكون صريحة : لقد دخلتم الى قلبى بدون سابق انذار , وأنتِ قبل الجميع , لكننى لن أقبل قرشا واحدا .
رحب الجميع بتواجدها بينهم واعترافا بأنها جزءا من شجرة العائلة ولا بد من تقسيم الثروة كما أمر الله بالاضافة الى ان هذه هى رغبة الجد
لم يقض سعادتها بهذه الحفاوة الا نظرات زوجة أبيها المليئة بالكره والغل , ونظرات رمادية ساخرة تربكها وتسقطها من عليائها .
استطرد المحامى كلمات الوصية :
- وشرط أن يستلم كل فرد نصيبه أن يجتمعوا تحت سقف هذا البيت وأن يظل السيد محمد هو رئيس مجلس ادارة الشركات بحكم أنه الابن الأكبر وبواقع خبرته الطويلة فى هذا المجال .
كادت أن تصرخ متبرمة من طغيان الرجل المتوفى فحتى بعد موته يصر أن يحركهم كعرائس خشبية وتتجمع كل الخيوط بيديه .
- أعتقد أن الآنسة لبنى لن تتنازل لتسكن معنا وسوف تصر على الرفض.
اتهمها رفيق بدون هوادة والتفت الى السيد مجدى ليضيف:
- ما هو التصرف فى مثل هذه الحالة قانونيا ؟
تنحنح الرجل المسئول عن هذا الاجتماع بحرج فلم يكن هذا هو المسار الذى يبغاه ولكن الأمور انفلتت من يده وقبل أن يفكر فى الرد المناسب
- ومن قال أننى سوف أرفض !
فجرت لبنى هذه المفاجأة بقبولها لشرط الوصية
- لن أخذل عائلتى التى غبت عنها سنوات طوال وها قد أتت الفرصة لنغتنمها لاعادة صلة الرحم المقطوعة
حتى هى لم تخطط لمثل هذه الخطبة المزعومة ولعنت رفيق فى سرها فلولا سخريته منها واعلانه برفضها للوصية لكانت بالفعل رفضت هذه المهزلة وعادت بنفس راضية الى أحضان خالتها الدافئة
ضمتها جدتها لصدرها وهى تبتسم برضا واكتفاء
- كنت واثقة من موافقتك فأنت أصيلة ودماء الشرقاوية تسرى فى عروقك
- اذن لقد حسم الأمر , ولتبدأ من الغد بتنفيذ الاجراءات اللازمة
كان هذا هو عمها رئيس مجلس الادارة كما فهمت من لهجته أنه اعتاد أن يلقى الأوامر وينتظر ممن حوله الطاعة التامة فقد التفت اليها :
- حسنا يا ابنتى عليك أن تأتى للعيش معنا ابتداءا من الغد
وقاطعته الجدة التى تاقت لحفيدتها طويلا:
- ولمَ ليس الآن يا بنى ؟ لتذهبى وتوضبى أغراضك فورا
سارت الأحداث سريعة متوالية بدون أن يتركوا فرصة للفتاة المسكينة حتى تدلى برأيها فى أمر يخصها هى
- معذرة يا جدتى ويا عمى , ولكن لا تنسوا بأننى أعيش مع خالتى التى تولت رعايتى بعد وفاة والدىّ ولم يكن لى من معين سواها فلن أستطيع أن أفاجئها برحيلى , يجب أن أذهب لأقنعها بالقبول , كما أنه لدىّ عمل فى الغد لن أقدر على التغيّب هكذا بدون ابداء أعذار
- لن تحتاجى لهذا العمل بعد اليوم . اتركيه
أمرها عمها بحزم
- لا , حتى ولو لم أكن بحاجة اليه ماديا , أنا لن أترك وظيفتى
لم يعجبه مجادلتها له فهو لم يعتد مناقشة أوامره
- لا يصح أن تكونى حفيدة الشرقاوى ووريثته ثم تذهبى لتعملى تحت امرة شخص غريب . ماذا يقول الناس عنّا؟
ذكّرته لبنى بأنها ومنذ خمسة وعشرين عاما حفيدة للشرقاوى وكانت تعمل ولم يتغير شئ بالنسبة لها
- لقد تغيّر الوضع
وأمام اصرار العم ورؤيتها للغم الذى ألقى بظلاله على وجه جدتها المتغضن رأت أنها يمكن أن تجد حلا وسطا يرضى الجميع فأعلنت أنها سوف تتقدم باستقالتها حتى تتمكن من استلام شهادة خبرة بمدة عملها فى المكتب اذا أرادت يوما أن تعود للعمل مرة أخرى
لاقى هذا استحسانا من الجميع وحتى لا تتراجع عن قرارها لو أعادت التفكير قرر العم :
- رفيق , فلتصطحبها غدا الى المكتب حتى تتأكد من انتهاء الأمر على الوجه الأكمل بدون أية مشكلات
بدون أن يترك لهما مجالا للاعتراض الذى بدا على وجهيهما
قال رفيق :
- حاضر يا أبى , لا تقلق ستسير الأمور كما تريد
هو ابن عمها , شقيق ريم الفتاة الناعمة الحلوة التى رأتها تتحدث بألفة وأريحية مع سيف ابن عمها الآخر والذى كان واقفا يرمقها بنظرات مقيّمة
- هيا لتوصلها الى منزل خالتها
ألا يكفى أوامر لهذا اليوم , هذا الرجل لا يكتفى من السلطة
- هل أنت جاهزة ؟
قالها رفيق وهو يتجه نحو الباب دون أن ينتظر جوابها فعليا وكأنه واثقا من لحاقها به
وفى هذه اللحظة تدخل كريم فى الحديث قائلا:
- لو لم أكن قلقا على صحة أمى لكنت قد قمت بتوصيلك يا لبنى
ابتسمت له مشجعة وقد راقتها شخصية أخيها العفوية :
- لا عليك . الأفضل حقا أن تبقى بجوار والدتك
- ولن يمنع هذا من أن لنا غدا حديثا طويلا
- بالطبع فأنا متشوقة للتعرف عليك .. وعلى كل أفراد العائلة
ودعت الجميع باشراق , ووقفت منتظرة بالباب الخارجى فهى لا تعرف سيارة رفيق ولن تجرؤ على الدخول ثانية لتسأل عنها
وهى تتخبط بحيرتها توقفت سيارة فضية من طراز ميتسوبيشى لانسر يبدو أنها أحدث موديل لهذا العام وفوجئت بسائقها يصرخ فيها:
- هيا اركبى ماذا تنتظرين؟
ما أن همت باغلاق الباب ورائها حتى انطلق هو مسرعا بجنون
لم تحاول اخفاء ضيقها وتبرمها من سرعته التى خطفت قلبها وجعلته يهوى فى قدميها , وقد شحب وجهها قليلا:
- أتنوى قتلنا ؟
- ليس الآن
هل كان يعنى أنه يريد ذلك
- اذا كنت متضايقا هكذا من وجودى فكان بامكانك الرفض
- لا أرد لوالدى طلبا , أم أنك معتادة على التمرد ؟
لن ينتهى الجدال بينهما اذا لم تتبع أسلوبا آخر فى المعاملة ستلزم الصمت
- هل أكلت القطة لسانك؟ أم أنك تخططين لأمر ما ؟
ثم قام بوضع اسطوانة فى مشغل الأغانى وانطلق صوت المطرب وهو يخبر حبيبته عن مدى تعلقه بها وبأنها حلم عمره الذى عاش ينتظره
فلم يكن ينتظر اجابة على سؤاله بل كان يقرر واقعا
وتعجبت أنه لم يسألها عن موقع منزلها بل توجه نحو الطريق العام وسلك طريقا فرعيا نحو الجيزة , كان يسير الآن بسرعة معقولة فقد هدأ انفعاله وعاد يركز بنظراته على الطريق غير منتبه لوجودها بجانبه
- اذن قررتى التضحية بخالتك العزيزة من أجل حفنة جنيهات
الى متى سوف يستمر استفزازه لها ؟
- لن أضحى بها ... ولا علاقة للمال بقبولى
- هذا صحيح
كان يهزأ منها
- لقد رفضتى من قبل أى علاقة لك بالعائلة والآن تقبلين بعد أن مات جدى وترك لك ميراثا ضخما يسيل له اللعاب
- ربما أنت تقيس الحياة بمنظورك المادى الخاص ... ولا يعنى هذا أن الجميع مثلك
- ماذا تحاولين أن تقولى يا آنسة ؟ هل تعنين أنك قد تحركت مشاعرك أخيرا ورأفتى بحال جدتك المريضة التى لطالما اشتاقت لرؤيتك فقط بعد أن عرفتى بأمر الميراث؟
لن أصدقك حتى ولو حلفتى بأغلظ الأيمان؟
- لا يهمنى تصديقك فأنت لا تملك قلبا ولا تعترف بالمشاعر الانسانية , أنت آلة صنعت من حديد
- أنت تنتظرين اثباتا على عدم صحة كلامك؟
شعرت بالتهديد فى كلماته المبطنة فتراجعت قليلا فى مقعدها وهى نادمة أنها تسرعت وتفوهت بما أثار غضبه فهى الآن تحت رحمته
- ربما سأخيّب آمالك يا صغيرتى , فأنا لا تلفت أنظارى نوعك من الفتيات الصغيرات اللاتى تدعين البراءة المزيفة
- كيف تجرؤ على اتهامك لى بأننى أمثل دورا ؟
- لقد وصلنا
تنبهت انه يقف أمام العمارة التى تعيش بها ,وانتظرت منه تفسيرا لمعرفته بالعنوان:
- كيف عرفت أين أسكن؟
- انزلى قبل أن أفقد أعصابى
يا له من وسيم متعجرف ولم تنتظر كلمة أخرى منه فنزلت من السيارة وهى تتمنى ألا تراه ثانية
- لا تنسى . سأمر عليك فى تمام الثامنة . لا تتأخرى فلا أحب الانتظار
زفرت بحرقة يوما ما ستجعله ينتظر كثيرا
صعدت درجات السلم الرخامى دون أن تلتفت ورائها ولكنها شعرت بعينيه تراقبانها حتى أطمأن أنها اختفت وراء الباب الحديدى للعمارة فانطلق كالقذيفة بسيارته الفاخرة.
ما أن أولجت مفتاحها فى باب الشقة حتى سمعت حوارا دائرا بين خالتها وابنها حسام , لم يشعر أيا منهما بدخولها الصامت لانشغالهما بمناقشة أمر هام .
لم يكن من عادة حسام أن يزور والدته فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل , فتوجست لبنى من زيارته وقد استشعرت أمرا غير سارا وراء زيارته هذه.
كان صوت خالتها هادئا:
-لن أتخلى عنها يا حسام فليس لها بالحياة سوانا.
رد عليها الابن منفعلا:
-وهل سوف تتخلى هى عن الأموال الطائلة التى سترثها ؟ بالطبع لن تفعل.
-مهما كان قرارها , ولا تنسى بأنهم قد حاولوا سابقا أن يمدوا جسور التواصل ولكننى أنا من رفضت وقطعت جميع حبال الود بينهم.
شعرت لبنى بزلزال عنيف يهز كيانها فتصدعت جدران ثقتها بقريبتها الوحيدة التى كانت تودها وكأنها أمها .
هل معنى كلام خالتها أن عائلة أبيها لم تكن بمثل هذا الجحود الذى أسبغته عليهم وكانوا يحاولون التواصل معها بدون علمها.
هذا يفسر بعضا من تعليقات رفيق اللاذعة عن اجادتها للتمثيل ببراعة فقد ظن ومثله بالتأكيد الآخرون أنها صائدة ثروات سعت اليهم بعد أن أصبحت وريثة.
هم حسام بالرد على والدته عندما لمحا لبنى مسمرة بجوار باب الغرفة وقد ظهرت عليها آثار الصدمة واضحة مما أكد لهما أنها قد استرقت السمع لحديثهما بدون أن ينتبها .
وجرت الخالة نحوها لتحاول رأب الصدع الذى نشأ فى علاقتهما المستقرة ,لكن الفتاة لاذت بالصمت رافعة يديها علامة الرفض لأى تقارب ممكن
-لا أصدق ما سمعته أذناى. اننى ما زلت أتهمهما بالكذب على , لا يمكن أن تفعلى هذا أبدا
حاولت الخالة تهدئتها مجددا وأن تضمها لصدرها بحنان كما اعتادت
-أنت لا تفهمين ما حدث .
- لا أريد تفسيرا فكلامك واضح للغاية , لقد ارتضيت بأنانية أن تحرميننى من عائلتى حتى لا أتركك وحدك .
- لبنى , أنا أحبك وأعتبرك مثل ابنتى التى لم أنجبها.
-حقا؟ انه مثل حب الدبة لصاحبها , فقد قتلتنى بحبك , ومنعتنى من رؤية ما هو خارج دنياك , قصرتنى على مبادئك ورؤيتك للحياة , ولم أدرك بأن للحياة وجوه أخرى.
هل كنتى تعرفين بأن أبى كان متزوجا من أخرى قبل أمى؟
توترت خالتها وقد كانت تعرف بأنها بعد هذه الزيارة لن تعود كما كانت لبنى التى ربتها , وأن الماضى بكل سواده سيصيبها بالأذى الشديد.
-نعم , أعرف
اعترفت بهدوء فما فائدة الانكار؟
-اذن فلم تكن أمى حقا ذلك الملاك كما كنا نراها؟ ولم يكن جدى ظالما لها؟
اتهمت أمها بقسوة وهى غير موجودة لتدافع عن نفسها وتنفى هذه الأكاذيب
-لا كانت ملاكا . أؤكد لك أن الأمر ليس كما يبدو , عندما قابلت أمك والدك كان منفصلا عن زوجته بالفعل ولكنه لم يطلقها بسبب تمسك أبيه بهذا الزواج لأنها ابنة أخيه, كما كانت أما لصبى صغير فآثر جدك أن يظلم أباك ويبعده عن المنزل من أجل خاطرها.
ابتلعت ريقها بصعوبة وقد شعرت بجفاف فى حلقها كأنه صحراء قاحلة
-ثم تعرف على أمك وكان حبها الأول ولم يخف عنها أدق تفاصيل حياته بل أشركها فى القرار الذى يخص انهاء زواجه من ابنة عمه , وهى التى أصرت على منعه من تطليقها الا اذا كانت هذه هى رغبة زوجته.
-ولكن كان لديه ابن هو أخى , ما ذنبه فى أن يفترق عن أبيه؟
-معك كل الحق , وليس هذا ذنب أمك بل هو تعنت جدك وممانعته لرؤية ابنه طالما اختار ان يتزوج من أخرى , كان على أبيك أن يرضى بأن يعيش فاقدا للحياة وسط عائلته وابنه وثروته الطائلة أو أن يحيا فى ضيق مع من اختارها قلبه .
-وقد فضّل أبى طبعا الخيار الثانى.
أومأت لها برأسها علامة الايجاب وتنهدت فقد عاودتها ذكرى أيام بعيدة
-كانت صغيرة وكلها حيوية ورغبة فى الحب والحياة انتشلته من عالم اليأس والغربة التى كان يعيشها وبعثته الى الحياة من جديد بعد انجابها لك.
تدخل حسام فى الحديث بعد بقائه صامتا وهو يدير دفة الحوار لمجرى آخر:
-ما هو قرارك يا ابنة خالتى العزيزة؟ بالطبع اخترتى الثروة والعز؟
كان كلامه تهكميا وهو يلمح الى أن قرارها مرده الطمع
-قبل أن أستمع لحواركما بالمصادفة كنت قد اتخذت قرارا بمصاحبة خالتى العزيزة الى قلبى لتعيش معى فى العز كما تقول, ولكن يبدو أن الأمور قد اختلفت الآن ..
وتركت جملتها معلقة فى الهواء
-أعتقد أن خالتى الفاضلة لن تمانع فى أن تنتقل للسكن معك الآن فلم يعد لديها ما يشغلها عنك
وكانت تقصد بكلامها أن تذّكره بضيقه لرفض أمه الانتقال لمنزله الذى يضمه وزوجته الحسناء حتى لا تتركها بمفردها فى هذا البيت
-لقد زال المانع وأصبحت حرة
تألمت خالتها كثيرا من لهجتها المتهمة لها وأدركت بأن الأمور قد خرجت عن نطاق سيطرتها فهى تعرف لبنى وعنادها وشدة تمسكها برأيها , ستأخذ وقتا طويلا حتى تصفح عنها وتصفو نفسها , ولكنها واثقة بأن هذا اليوم سيأتى لا محالة , فلتترك الزمان يداوى جراحها ويشفى آلام قلبها المتمزق.
-ما دمتى صامتة فالصمت يعنى الموافقة, ولا تشغلا بالكما فسألملم أغراضى بسرعة وعندما تشرق الشمس لن تجدا لى أثرا بالبيت.
ثم انحنت بطريقة مسرحية ساخرة
-تصبحين على خير يا ... سيدة مديحة
وتصبح على خير يا باشمهندس ..حسام
وأسرعت نحو غرفتها لتبحث عن ملجأ بعيدا عن همومها وأحزانها , كان اليوم عصيبا مليئا بالمفاجآت الغير سارة , وكان أيضا مفترق الطرق بالنسبة لحياتها التى كانت تظن أنها قد استقرت بعد صدمتها مع جاسر وافتراقهما الذى عكّر صفو قلبها البرئ النقى .
وها هى واقعة تحت رحمة شخص أشد قسوة منه , ولا يكن لها الا البغضاء والكراهية والاحتقار .
وسوف تلتقيه فى الصباح الباكر , وعليها أن تتهيأ لمقابلته التى لن تكون بالتجربة البسيطة.
سيصحبها فى طريقها لانهاء علاقتها بكل ما يربطها بالعمل وزملاء العمل بمن فيهم حبيبها السابق.
وقد تخلت عنها من اعتبرتها بمثابة أم ثانية لها عوضها بها القدر عن أمها التى فقدتها .
وحيدة ... منبوذة .... عليها أن تواجه قدرها بنفسها .
غلبها النعاس وهى تصارع أفكارها المتضاربة , وحلمت بنفسها وسط أمواج البحر الغاضبة تصارعها بضراوة وتحاول التشبث بطوق النجاة الذى ألقى اليها ,فشاهدت جزيرة قريبة كانت بمثابة الجنة الوردية فى عينيها الضائعتين وعندما جذبتها من بعيد اليد التى تمسك بحبل النجاة رأت عينان رماديتان قاسيتان فى وجه قد من صخر يرنو اليها بابتسامة انتصار.

***********

bluemay 23-09-18 07:08 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسلمو ايديك يا قمر استمتعت كتير بالبارتين

وما اخفيك سر اتمنيت لو انك كاتبتيها باللهجة المصرية الحلوة والسرد فصحى عادي

بالذات حوار الخالة اتخيلتها متل شخصية كريمة مختار
لووول

اللقاء خالف كل توقعاتي ابدعتِ بتصوير المشهد
و منين طلعلنا رفيق اللي مو رفيق بنوب ..

يستاهل يسموه عنيف متل صديق بسيط اللي بالكارتون ههههههه <<<< تحية لرفاق الكفاح اللي شاهدوه


متشوقة لأعرف كيف راح تعيش بهالبيئة الجديدة وكيف رح تحسن صورتها في عيونهم .


تقبّلي مروري وخالص الود

SHELL 25-09-18 06:32 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


الفصل الرابع



http://img0.liveinternet.ru/images/a...609_000001.gif

استفاقت لبنى من نومها غير راغبة بالنهوض من سريرها الدافئ الذى يضم جسدها الفتى , رافضة السماح لأشعة الشمس المتسللة برفق عبر ستائر النافذة الزجاجية أن تزعجها لتستقبل يوما جديدا يخبئ لها المجهول.
عليها أن تتماسك وتحتفظ برباطة جأشها فاليوم ستواجه الوحش ذو الوجه الصخرى الذى لا يبتسم بسهولة وبالرغم من ذلك يظل وسيما جذابا بصورة غير عادية , فله حضورا مميزا يطغى على ما حوله وكأن هالة من السيطرة تشع من عينيه الرماديتين واللتين تشبهان الفضة السائلة .
نفضت صورته التى تطاردها بانزعاج والحاح جعلها تلوم نفسها على الاسراف فى التفكير به .
كان هناك ما يشغلها أكثر , فعليها مواجهة خالتها بعد ليلة أمس العاصفة وأحداثها الكئيبة التى أثّرت على نومها فجعلته متقطعا تتخلله الأحلام المزعجة , واستعادت ذكرى الحلم الذى طارد خيالها ... وعادت لذات العينين اللتين تعذبانها باستمرار, لم تقابله سوى بالأمس ولم يتبادلا سوى الاتهامات , والتفتت الى المنبه بجوارها لتجد عقارب الساعة تشير الى السابعة والنصف , أمامها فقط نصف الساعة لتغتسل وترتدى ثيابها وترتب أغراضها بحقيبة السفر الوحيدة التى تملكها , لقد أخبرها البارحة لا بل أمرها بطريقة غير مباشرة بألا تتأخر عن موعدهما فى الثامنة صباحا.
على كل حال لن تستغرق وقتا طويلا فلا حاجة بها لتناول الافطار مع خالتها , ولن تزعج السيدة نفسها بتحضير الطعام لها بعد مشادتهما , لو فعلت لوفرت عليها عناء الوداع المزعج .
انسلت من غرفتها بخفة القطة متوجهة نحو الحمام .
وعادت منه الى غرفتها فأغلقت الباب برفق وظلت ممسكة بمقبضه حتى لا يحدث صوتا عاليا وهى تكتم أنفاسها.
لا تود ازعاجها بعد الآن , ما أقسى الحياة لقد صارت هى وخالتها غريبتين بعد عشرة أعوام طويلة سويا.
أخذت من أغراضها الأشياء الضرورية فقط فلم تكف حقيبة واحدة لكل متعلقاتها الشخصية .
وفتحت باب غرفتها الذى أحدث صريرا منخفضا وكأنه يعترض عليها وعلى تصرفها الغير اللائق.
-هل سترحلين بدون أن تودعينى؟
لهجة السيدة الرقيقة المعاتبة بهدوء لسعت لبنى بشدة وكأنها ضربتها بسوط من نار
-كلا , أنا فقط لم أشأ أن أسبب لك ازعاجا
-لن ألومك يا لؤلؤتى فلك كل الحق فى غضبك منى , وعليك أن تتذكرى أننى أحبك , وسأنتظرك حتى يهدأ غضبك الجامح.
شعرت الفتاة بالخجل من نفسها ومن تصرفها فتلعثمت بالرد
-أنا ... لا أعرف ماذا حل بى؟
ثم ألقت بنفسها بدون وعى بين أحضانها التى دائما كانت تحتويها عندما تضيق بها الحال وتخفف عنها أحزانها, وقامت خالتها بالمسح على شعرها الناعم الكثيف بأصابع تمرست على هذه الحركة التى تفضلها لبنى كثيرا وتخفف من آلامها.
-لؤلؤتى , علينا أن نتحدث قبل أن ترحلى وتبدأى فصلا جديدا فى حياتك.
وقد أخذت تخبرها بماضى والديها بعد تردد دام لبرهة وتحاول أن تزيل عنها الأوهام التى تعشش برأسها وتستوطن خيالها.
لم يجعلها ما سمعته مرتاحة البال أبدا , بل على العكس أثار لديها رغبة انتقامية عنيفة من هذه العائلة التى ظلمت أمها وحرمتها من الدفء الأسرى والرعاية التى كانت واجبا عليهم تجاهها.
-سأراك لاحقا يا ... خالتى
بالرغم من اعتراف هذه السيدة الذى حوّل مسار حياتها الا انها لا تستطيع أن تقسو عليها فمهما كان لقد تولت رعايتها بكفاءة وحب, وهى التى اختارت أن تترك هذا العش الصغير الدافئ الملئ بالسكينة والهدء لتدخل الى عش الدبابير , غير مبالية بلسعاتهم المؤلمة.

-سأنتظرك مهما طالت غيبتك عنى
واطمأنت الى أن حسام سيأتى لاصطحابها معه الى منزله بعد أن يفرغ من عمله, وستغلق الشقة الى أجل غير مسمى.
انتزعها من دفء الأحضان صوت بوق سيارة يدوى فى أنحاء الشارع الخالى فى مثل هذا الوقت ينم عن فروغ صبر صاحبه.
وأيقنت أنها تأخرت عن موعدها , وضحكت فى نفسها من هذه الكلمة ( الموعد ) , وهل يصح أن تطلق على مقابلتها لهذا المتكبر المغرور موعدا؟
كادت أن تتهور وتتلكأ فى نزولها حتى يمل ويذهب بعيدا ولكنها خشيت من اثارة غضبه فقد يتصرف بطريقة غير متوقعة ربما تؤدى لأذى أكبر لها من مرافقته الى حيث مقر عملها كما طلب منه والده.
كانت حقيبتها ثقيلة الوزن فقد حشرت بها كل ما يلزمها من ضروريات حتى أصبحت تنوء بحملها .
حملتها بيد واحدة وثبتت حقيبة كتفها بيدها الأخرى وهى تتوجه نحو مدخل البيت , ورأته واقفا بسيارته الحديثة وينتظرها بضيق , أدركت انزعاجه من طريقته فى تدخين سيجارته بعصبية على الرغم من أن عينيه كانتا تختفيان وراء نظارة شمسية سوداء فقد لاحظت أنه كان يراقبها وهى تعانى تحت وطأة ثقل حقيبتها ولم يحاول أن يلحق بها عارضا عليها المساعدة كأى رجل محترم حقيقى , بل بدا مستمتعا بمعاناتها واكتفى بأن فتح لها حقيبة سيارته الخلفية بجهاز التحكم عن بعد
-لقد تجاوزت الساعة الثامنة بعشرة دقائق , ألا توجد امرأة تلتزم بموعدها ؟ ما الذى أخّرك كل هذا؟
-ألا ترى أن الحقيبة ثقيلة جدا ولا أستطيع النزول مهرولة بها لألحق بموعد سعادتك!
-آه , هذا التأفف مرده الى أننى لم أعرض عليك حمل حقيبتك التى ملأتها بأغراض لا فائدة منها , كان يكفيك حقيبة أصغر من هذه عشرة مرات , ولكنت وفرت على نفسك وعلىّ كل هذا اللف والدوران.
فكرت لبنى .. كيف يفكر هذا الرجل ؟ ما هذا الالتواء العجيب فى منحنى أفكاره حولها؟ هل يظن أنها تعمدت ملء حقيبتها بالأشياء الغير ضرورية لتجعله يتحمل عبئها؟
-الحقيبة بها أغراضى التى لا أستغنى عنها, والبقية ما زالت بالشقة.
أخذ منها الحقيبة وحملها بيسر وسهولة حسدته عليهما , وألقاها باهمال فى حقيبة السيارة.
-أهى ممتلئة بملابسك القديمة التى لا قيمة لها ؟ أم بها دميتك المفضلة التى لا تنامين بدونها؟
كان يهزأ منها بدون رحمة , بينما أخذ مكانه خلف عجلة القيادة وانتظرها قليلا حتى تغلبت على صدمتها وركبت بجواره فانطلق مسرعا فى الشارع الواسع ليأخذ طريقه الى مقر عملها.
كانت تجهز ردا على تهكمه الغير مستساغ فقالت:
-بالطبع فملابسى لا تقارن بملابس السيد الغالية الثمن والتى تكلّف والدك ثروة طائلة بالاضافة الى أن ثمن سيارتك هذه تكفى لسد جوع نصف أبناء هذا الحى الفقراء.
اصابته فى مقتل لأنه التفت اليها ورمقها بنظرة غاضبة وقد احتقن وجهه من شدة انفعاله:
-استمعى الىّ أيتها الفتاة الحمقاء السخيفة .. اذا أردت السلامة مدة اقامتك لدينا فى البيت فلا بد وأن تتعلمى آداب الحديث وخاصة معى.
ثم ضغط بشدة على مكابح السيارة فأصدرت صريرا مخيفا وكادت هى أن تصطدم بالتابلوه أمامها الا أنها تمسكت بمقعدها بنجاح
-ولا تقومى باستفزازى مرة أخرى لأن ردة فعلى غير مأمونة ولن تعجبك نتائج أفعالك
وتباطأ فى حديثه بصورة متعمدة ليرى تأثير كلامه عليها :
-أولنقل أنك تنتظرى رد الفعل هذا وربما أنت متضايقة لأننى لم أتأثر مثل الاخرين بنظراتك البريئة المصطنعة التى تصوبينها نحوهم فيشعرون على الفور بالانجذاب نحوك
-كفى ! من فضلك احتفظ بتحذيراتك لفتياتك اللواتى يتساقطن تحت قدميك فأنا لست منهن , ولن أكون يوما ما.
-حسنا اذا كنا متفقين ويعرف كلا منا مشاعر الآخر نحوه فعلينا الآن المضى فى طريقنا.
وأكمل فى طريقه بعد أن استعاد سيطرته على نفسه بسرعة بالغة فى حين أنها لم تستطع منع نفسها من الارتجاف بعد أن ألقت كلماتها الغاضبة عليه.
وللمرة الثانية لم يسألها عن الطريق الى المكتب الذى تعمل به وبدا أنه يسلك الطريق الصحيح , هل يعرف هذا الرجل كل شئ !
وأثبت لها أنه ليس خصما هينا , ولن يتوانى عن فعل أى شئ اذا ما حاولت اثارة استفزازه مرة أخرى.
اذا انتهت مهمته اليوم فى هدوء وسلاسة لن تعود مجددا لرؤيته ولن يكون مضطرا لمصاحبتها , فلتتحمل لساعة أخرى وتنتهى هذه المواجهات الدامية بينهما .
-أعتقد أنه يمكنك الانتظار هنا قليلا بينما أنهى أوراقى فى المكتب.
قالتها لبنى وهو منشغل عنها يبحث عن مكان خال لركن سيارته أمام العمارة التى تضم المكتب الذى تعمل به.
كان الصبى الصغير الذى يقف فى هذه البقعة لينظم وقوف السيارات ويستقطع من سائقيها نقودا هى كل مصدره للرزق قد لمح رفيق وهو يتوجه للمكان الخالى بين سيارة السيد فهمى مدير المكتب وسيارة أخرى وأسرع نحوه ليحاول منعه من الوقوف , فأشفقت عليه مما ينتظره اذا حاول الصدام مع هذا الرجل الفولاذى.
أخذ ينقر على زجاج السيارة فتصاعد غضب رفيق حتى وصل الى الذروة وقفز خارجا من سيارته وهو يشير الى لبنى لتتبعه وتحدث الى الفتى الذى كان يرتدى بنطلونا ممزقا من عند الركبة وقميصا متسعا يغطى عظامه البارزة
-أنت يا هذا تعالى الى هنا , خذ وانتبه جيدا للسيارة لا أريد أن يصيبها خدشا صغيرا ولو كان بحجم نملة
ومد يده فى جيب قميصه لينقده ورقة من فئة العشرة جنيهات مباغتا اياه حتى تعجبت لبنى منه فقد ابتلع ما كان سيقوله ككل يوم من أن هذا المكان مخصص للسيد فلان الذى يملك مكتبا بالدور الثالث
كما أنه قد عرف قدر من يحادثه بلهجته الواثقة المسيطرة التى تفيض رجولة وتكبرا.
صعدت معه الى المكتب وهى متوجسة من نواياه
-ألم يكن من الأفضل أن تنتظرنى بالسيارة؟
لم يلتفت ولو بنظرة واحدة لها وأشار لها بمرافقته بصمت وقد وضع أصبعه أمام فمه.
أهانها للمرة العاشرة وهى تشعر بأنها تحت رحمته وكأنه القائد وهى التابع , ان هذا هو شأنها الخاص
-أنا أستطيع التعامل
-حقا! أنا متأكد بأن لك لسانا حادا كالموسى ولكن ما نحتاجه هنا هو الدبلوماسية فقط.
-أنت دبلوماسى!
كانت ترد له الصاع صاعين فانقلب السحر عليها , فتوقف عن متابعة سيره وجذبها من يديها لتواجهه :
-انصتى الىّ يا مصدر الازعاج , أنا مكلف بهذه المهمة شئنا أم أبينا أنا مضطر للتدخل فى شؤونك الخاصة يا حلوة فاغلقى فمك الجميل على لسانك الطويل حتى أنهى المسألة بسرعة وأناقة.
قالت بتململ وقد آلمتها قبضته القوية التى تلهب جلدها الرقيق:
-ألا تستطيع التعامل برفق وآدمية مع البشر؟ اترك يدى انها تؤلمنى
أفلتها وقد انتبه لمعالم الألم المرتسمة على وجهها
-هذا يلقنك درسا بأن تلتزمى فى تعاملك معى بما سبق وأخبرتك به
-يا لك من وقح...
وقبل أن تكمل جملتها صاح بانفعال وصل الى درجة الغليان:
-أنت مصرة على أن ألقنك درسا فعليا .أليس كذلك؟ حسنا أعدك بهذا ولكن لا هذا هو الوقت ولا المكان المناسبين.
تنفست الصعداء بعد أن أنقذتها العناية الالهية من الغضب النارى للتنين.
ما أن دخلا الى المكتب حتى التفتت ليلى اليهما تحدق فى وجه رفيق الأسمر الوسيم وهى لاهية عن وجود لبنى التى ألقت عليها تحية الصباح فتجاهلتها ووجهت حديثها الى الرجل المذهل الذى يرمقها باستعلاء:
-بم أخدمك يا سيدى؟
-أريد مقابلة السيد فهمى لأمر ضرورى
وفوجئت لبنى بها تسأله:
-حالا سأخبره
بالرغم من أنه لا بد وأن يكون لديه موعدا سابقا معه
وقامت على الفور غير متباطئة من مقعدها خلف المكتب لتتوجه نحو غرفة المدير قبل أن تتذكر شيئا فعادت مسرعة لتقف بمحاذاة رفيق وقد اقتربت منه جدا حتى أنها تنسمت عطره الفواح بقوة وسألته:
-أرجو المعذرة ولكن ما اسمك يا سيدى حتى أطلعه عليه؟
-لا عليك فهو ينتظر حضورى , أخبريه بأننى قد جئت من أجل لبنى.
استفاقت السكرتيرة من أحلامها لدى سماعها اسم لبنى وتذكرت وقوف زميلتها بجوار هذا الوسيم , وليس هذا فقط لقد تنبهت الى انها جاءت بصحبته وهو ينوى التحدث الى المدير بخصوص شأنها.
فغمزت لها بسرعة وغادرت بدون أن تلمح نظرة رفيق الممتعضة من تصرفها.
مسكينة أنت يا ليلى , لو تعرفين مع أى رجل تتعاملين لكنت غيرتى من طريقتك كثيرا ... قالتها لبنى فى نفسها
ومرت دقيقة واحدة بدت كأنها دهرا على لبنى حتى خرجت ليلى من غرفة السيد فهمى وهى تشير بيدها لرفيق أن يتقدم للدخول:
-تفضل يا سيدى انه بانتظارك .
تبعته لبنى بصمت وان كان قد أشار لها بعدم الدخول
-انتظرى أنت هنا , لا داعى لتواجدك .
همت بالاعتراض لولا أنها رأته يتحدث الى ليلى ويقول:
-اهتمى براحة صديقتك واسأليها ماذا تشرب؟
- طبعا
خضوع السكرتيرة المبالغ فيه واستسلامها لكل أمر منه أثارغيظ لبنى وكادت أن تخنقها عندما أن اختفى هو بداخل غرفة المدير بعد أن أمرها بأن تنتظره فى مكانها لا تبرحه
-واااو . لبنى من هو هذا الرجل الرائع ؟ أهو خطيبك ؟ هل ستتزوجان قريبا؟
وتدفق سيل من الأسئلة على لسان السكرتيرة الفضولية وأسكتتها لبنى باشارة من يدها:
-رويدك يا ليلى . انه ليس بخطيبى . اطمئنى لقد جئت فقط لتقديم استقالتى
-حسنا اطمأننت بما انه ليس خطيبك , ما زال أمامى فرصة
وغمزت ثانية بعينها حتى استوعبت ما تفوهت به زميلتها
-تقدمين استقالتك من العمل ؟ لماذا؟ هل وجدتى عملا اخر؟ وما دخل هذا الرجل بك؟ هل هو حبيبك ؟
-أوف يا ليلى , أنا لن أجيبك عن أى سؤال أيتها الفضولية , ونصيحة لك لا تتعلقى بحبال الهوى الذائبة , فرفيق لا ينظر اليك ولا الىّ الا بنظرات الاستعلاء فنحن لسنا بمستوى سعادته
-اسمه رفيق , ولكن لديه كل الحق فيبدو عليه الثراء الشديد.
كان هذا هو مقياس ليلى الوحيد لتقييم الرجل طبعا بعد الوسامة.
-حسنا , دعينى أذهب لأودع خالد و...
ترددت قليلا
-وأجمع أغراضى بالمكتب
ولم تنتظر حتى تمطرها زميلتها بسيل آخر من أسئلتها اللحوحة التى لا نهاية لها.
صباح الخير .. أخيرا طلت علينا شمس النهار-
حيّاها زميل العمل البشوش خالد وهو ينظر اليها بمرح مبالغ فيه فلم تفلح فى رسم التكشيرة المصطنعة التى تمازحه بها كل يوم فهو قد بدد قليلا من توترها لهذا اليوم الذى بدأ معها بداية غير مبشرة بالخير, لتقل أن عالمها انقلب رأسا على عقب , هذا هو التعبير الأنسب.
وقبل أن تمنع نفسها دنت من مكتب جاسر وألقت عليه تحية الصباح بهدوء:
-صباح الخير يا جاسر
ولم تنتظر لترى دهشته البالغة ومعالم الحيرة التى ارتسمت بوضوع على وجهه العابس , ولكنه رد عليها :
-صباح الخير, يا لبنى
لم يثر فى نفسها اى مشاعر تلفظه باسمها وهى التى كانت تزداد ضربات قلبها عندما كان ينظر اليها ويحدثها حديثا عاديا
وبدأت تفتح أدراج مكتبها الواحد تلو الآخر ثم تفرغها على سطحه وهى متعجلة حتى لا يسبقها رفيق الى هنا فآخر ما كان ينقصها أن تجده واقفا على رأسها أمام زميليها .
اندهش الرجلان التى كانت واقفة بينهما تعمل بجد وعجلة ولم يمسك خالد لسانه عن التعليق فقد كان يشبه السكرتيرة فى فضولها ان لم يفوقها:
-ماذا تفعلين يا لبنى ؟
-أخلى مكتبى
-ولماذا ؟ هل ستنتقلين الى فرع آخر؟
خمن هو بذكاء وفطنة لم يصب منهما شبرا واحدا
-لا بل سأقدم استقالتى
وقالت تحدث نفسها .. ربما يكون رفيق قد أنهى كافة الاجراءات الآن وأصبحت حرة
فغر خالد فاه تعبيرا عن دهشته الكبيرة فى مشهد يصلح أن يكون فيلما كوميديا بالأبيض والأسود , أما جاسر فقد أسقط فى يده فلم يجرؤ على ابداء مشاعره الحقيقية وأن كان بداخله بركانا يكاد ينفجر فى وجه أول شخص يقابله.
-ألم تنته بعد ؟
وحدث ما كانت تخشاه وتحسب له ألف حساب ها هو الغول واقفا على باب الغرفة التى تتشاركها مع زميليها وهو يستعجلها فهو ينتظر الخلاص منها بفارغ الصبر وشعرت بأن انزعاجه قد ازداد عندما رأى جاسر يحملق فيه وتبادل الرجلان نظرات غير ودية على الاطلاق.
-أكاد أنجز ما تبقى , ان تفضلت وجلست هنا لتنتظرنى قليلا سأكون ممنونة.
شعرت بنفاد صبره وقال وكأنه يعامل طفلة صغيرة:
-ألم أطلب منك البقاء مع ليلى؟
هكذا عرف اسمها , لا بد أنها قد انتظرته لتحاول تجربة سحرها على الوافد الجديد.
تعرف أنهما أصبحا محور اهتمام الجالسين الى جوارها تاركين عملهما ليشاهدا المبارزة الكلامية بينهما.
-فكرت بأن أختصر الوقت فيبدو أنك مستعجلا
لم تشأ أن تقول أنه يبدو متلهفا للابتعاد عنها مثلما هى متشوقة لغيابه.
-لا , يمكننى الانتظار بالطبع
واقترب منها لدرجة أصبحت تشعر معها بانعدام الأمان فقد تجاوز المسافة المسموحة بين أى اثنين ثم وضع يدا على كتفها وهو يقول بجد:
-كنت أسألك انتظارى حتى أساعدك يا عزيزتى
بان الغباء على وجهها الجميل وقد شعرت بأنها لا بد حالمة بما يحدث وأنها تطير فوق السحاب .. هل هو يحاول مغازلتها؟ أم حمايتها؟
استبعدت الاحتمال الأول سريعا وبقى الثانى عالقا بعقلها الذى كان يعمل بسرعة الصاروخ لايجاد تفسير مناسب لتصرفه الغريب يحميها ممن؟
أزاحت يده برفق عن كتفها وشعرت بأن ثقلا كبيرا قد انزاح عن كاهلها فقد كانت ذراعه حقا ثقيلة فوق كتفها النحيل , بينما لم يبد عليه أنه قد تضايق من لفتتها وأصرّ على أن يحمل لها الصندوق الكرتونى الذى عبأته بأغراضها المتناثرة فى كل مكان .
فكرت فى أنه أبعد ما يكون عن موقفه من حقيبتها هذا الصباح.
هل يعانى رفيق من انفصام الشخصية ؟ أم أنه يمثل دور دكتور جيكل الآن؟
-هل انتهى كل شئ؟ هل تقبل السيد فهمى استقالتى ؟
-كل شئ تم انجازه
-هل سيقبل باعطائى شهادة الخبرة؟
-عزيزتى , أنا واثق بأنه يمكننا الانتظار حتى نصبح وحدنا قبل أن نكمل حديثنا الخاص
وحملت نظرته العابثة ألف معنى ومعنى لكلماته المبطنة, وشهقت لبنى عندما رأت تأثير كلماته على رفيقيها وخاصة جاسر الذى رمقها بنظرة احتقار وغيرة.
لو يعرف الحقيقة فقط ! ومن يكون رفيق !
هل ستهتم باخباره؟ لا السؤال الأصح هو هل سيهتم بتفسيرها والأدهى أنه سيظن أنها ما زالت تكن له المشاعر الحميمة.
هل شفيت من داء الحب ؟ استعجبت من نفسها لأنها لم تعد مهتمة بردة فعله.
ربما يستحق أن يتألم ولو قليلا ليتذوق من نفس الكأس التى سبق وأذاقها لها.
دفعها رفيق أمامه بلطف زائد وكأنه يحاول حمايتها من عينى جاسر المؤذيتين وبهذا يؤكد له بما دار فى ذهنه من أفكار غير حقيقية عن طبيعة علاقتها برفيق.
واستغلت هى الفرصة لتثبت هذه الأفكار وتجعلها قيد التنفيذ فابتسمت بحساب لرفيق ودست يدها فى ذراعه وهى تودّع خالد وجاسر معا
-الى اللقاء يا شباب . أراكم على خير, هل نذهب يا عزيزى؟
لوهلة شعرت بعضلات رفيق تتوتر تحت تأثير لمستها الغير متوقعة ورأت ابتسامته تتجمد على شفتيه قبل أن يستعيد سيطرته مرة أخرى ويشد على يدها بينما يده الأخرى مشغولة بحمل الصندوق الخاص بها.
-هيا يا ممثلتى الصاعدة , أهنئك على دورك البارع فقد نجحتى بصب الثلج فوق رأسه بتصرفاتك.
-ماذا تقصد؟
جذبت ذراعها من قبضته الحديدية وهو لم يحاول الاستئثار بها أكثر من هذا ووقفت لتتحداه , وقد نالت ما تتمنى فلم يمهلها حتى أجابها بخشونة:
-هذا المسكين الغارق بغرامك حتى أذنيه؟ لقد لقنته لتوك درسا قاسيا لن ينساه
نسيت أن رفيق لا يعلم بصلتها بجاسر وعلاقتهما السابقة فزل لسانها بالاعتراف:
-جاسر؟ أنت من بدأ هذا كله !
-وأنت لم تعترضى ولا قيد أنملة , فقد راق لك المشهد كثيرا
وفتح حقيبة سيارته ثم ألقى بصندوقها ليجاور حقيبتها قبل أن يغلق الصاج بعنف ويتوجه لمقعد السائق.
تأففت لبنى وهى حائرة لا تجرؤ على الاعتراض ولا تستطيع نفى اللوم الذى يقع عليها لأنها حقا استغلت رفيق لاثارة غيرة جاسر.
مجرد رغبة طفولية لرد الأذى الذى طالها على يديه.
ولكن رفيق لم يكن بالرجل الهيّن الذى يتشكل فى يد امرأة مهما كانت درجة جمالها ودلالها.
ركبت بجواره باستسلام راضية بأن تضع نفسها تحت سيطرته القوية حتى تنال ما تستحقه على فعلتها.
فما فائدة المقاومة الا أن تزداد آلامها حتى يهدأ غضبه المتقد؟
توقعت أن يقود بتهور كالعادة كلما كانت الى جواره , فعاكس توقعاتها وكان هادئا رزينا يتبع ابسط قواعد الأمان والسلامة ثم سألها دون أن ينظر اليها فقد كان منشغلا بالطريق أمامه:
-أين تحبين أن نتناول القهوة؟
لم يكن بالسيارة سواهما فلا بد أنه يتحدث اليها وانعقد لسانها فلم تحر جوابا:
-هل ابتلعت لسانك يا عزيزتى؟
وضغط على حروف كلمة عزيزتى ليذّكرها بمشهدهما التمثيلى القصير فى المكتب .
-لا أرغب بتناول القهوة فأنا لا أحبها.
كذبت على الرغم من عشقها للقهوة التركية ولكنها رغبت فى معاكسته بأى شكل , أرادت أن تثير غضبه أكثر .
-حسنا ولكننى لا أستطيع أن أكمل يومى بدونها , وأنت شئت أم أبيت سترافقيننى.
-تستطيع بالتأكيد الاسغناء عنى ولو لربع ساعة.
حاولت تقليد سخريته منها , محاولة الثأر لكرامتها الجريحة فذرّ هو الملح على جرحها النازف وضغط على نقطة ضعفها:
-بعد أن ساعدتك لتثيرى صديقك التافه أنت مجبرة أن توافقيننى على ما أقوله وأفعله , هذا دين عليك يا حلوة.
لفظة التحبب لم تكن بمحلها فقد قصد أن يهينها بعد ادانته لموقفها من جاسر.
قالت لنفسها ... وما الضرر فى بضعة دقائق يستغرقها ليحتسى قهوته وتنتهى من مرافقتها له الى الأبد.
استسلمت بهدوء لمشيئته:
-لا بأس .
-هكذا تكون فتاتى المطيعة.
هنّأها على استجابتها له فى انتصار أضافه لقائمته الطويلة منذ أن التقاها وهو يملى عليها ارادته فتتحرك كدمية بأصابعه يوجهها أينما شاء.
توقفا عند مقهى شهير يقع بوسط البلد , وأدركت أنه معتاد على التردد عليه عندما رأت ابتسامة النادل وهو يستقبله بترحاب شديد ويقوده الى طاولة منعزلة بعيدا عن ضوضاء الرواد الذين شغلوا معظم الأماكن.
كانت تسير بجانب رفيق عندما شعرت بأعراض الدوار تسيطر على رأسها لتحاول اغراقها فى دوائر صفراء متلاحقة واحساس ببرودة فائقة يتسلل الى اطرافها وأصبح مجرد محاولتها لأن تفتح عينيها هو العذاب بذاته , توقفت فجأة تبحث عما تستند اليه فالتفت رفيق اليها بذات اللحظة ليتلقاها بين ذراعيه القويتين قبل أن تسقط أرضا.
أسندها الى أقرب مقعد لها وأخذ يحاول منعها من أن تفقد الوعى وكان صوته الرجولى العميق غاضبا عنيفا:
-هل تناولت أفطارك اليوم؟
ردت بضعف:
-لا , فقد كنت متعجلة للحاق بك فى الموعد
-أيتها البلهاء الصغيرة , ما ينقصنى طفلة صغيرة فاقدة للوعى بين ذراعىّ.
ثم اشار للنادل بأن يحضر لها افطارا وكوبا من العصير على وجه السرعة.
ناولها كأسا من الماء البارد وأمرها بشربه على الفور فلم تقو على معارضته, وقد أنعشتها قليلا, فيما أخذت تتخيل نفسها بين ذراعيه وفجأة انتفضت بعنف لتبعد هذه الصورة عن ذهنها وقد اعتقد رفيق أنها ترتعش من الارهاق فبدا عليه بعض التعاطف معها.
-هل تشعرين بأنك أفضل قليلا؟
-نعم , شكرا لك
أحضر النادل لها افطارا متكاملا لا ينقصه أى شئ ووضع فنجانا من القهوة التركية ذات الرائحة النفاذة أمام رفيق وانحنى له احتراما ثم انصرف وهو يتمنى السلامة للآنسة.
كانت رائحة الطعام زكية تثير الشهية وكانت هى جائعة جدا فالتهمت معظم ما فى طبقها وتجرعت عصير الفواكه الطازج بنهم .
وراقبها رفيق باهتمام بينما يحتسى قهوته بتمهل واستمتاع.
-هل حقا تخشين اثارة غضبى أكثر من اهتمامك بصحتك ؟
-ليس هذا صحيحا, كانت هناك عدة عوامل ساهمت فيما حدث
-نورينى اذن
هل يطلب منها تفسيرا؟ أم أنه يسخر من جديد؟
-لقد اعتدت أن أتناول افطارى بالمنزل مع .. خالتى , هى من كانت تعده لى.
-آه , فهمت
رنة السخرية من جديد ترددت فى أذنيها
-أنا أستطيع أن أعده لنفسى ولم تكن لدى شهية هذا الصباح.
-أتعنين أن مصاحبتك لى قد سدت شهيتك.
قهقه ضاحكا وهو يستريح فى جلسته أكثر ويشعل سيجارة ليدخنها بأريحية تامة ثم أكمل:
-ولكنك الآن لا يمكنك اتهامى بانعدام شهيتك , فقد أنهيتى كل الطعام تقريبا بسرعة قياسية.
شعرت هى بالخجل , وغزا اللون الأحمر خديها فباتت أكثر جمالا وجاذبية لم تكن تدرى ما تثيره رؤيتها فى نفوس الأخرين.
-أنت تحمرين خجلا!
قالها بتعجب وكأنه لم ير فتاة خجولا من قبل.
ازداد احمرار خديها حتى شعرت باشتعالهما وهى تحاول تلطيف الجو من حولها بأن طلبت منه:
-هل يمكنك أن تجعله يحضر لى فنجانا من القهوة التركية بدون اضافة سكر؟ رائحة القهوة زكية جدا
-هل أعجبتك قهوتى لهذه الدرجة؟ ألم تكونى منزعجة من قبل بسببها؟
-لا فأنا أدمن على احتسائها قبل أن تمر الساعة العاشرة والا أصابنى صداعا قاتلا.
-لا يمكن أن نجازف باصابة هذا الرأس الجميل بالصداع
احتست قهوتها وأثنت على جودة صنعها .
-كان من دواعى سرورى راحة الآنسة الفاتنة.
ما هو السر وراء تغير طريقة معاملته لها ؟ كانت تتأمله بعينيها وهو يدفع الحساب وقد ترك بقشيشا سخيا للنادل .
-هل أنت مستعدة للانصراف الآن؟
اومأت له برأسها فشبك ذراعها بذراعه دون أن يترك لها مجالا للاعتراض :
-حتى أضمن أنك لن تسقطى مرة ثانية.
كان مبررا واهيا فقد أصبحت على ما يرام , وهى أيضا أمتعت نفسها بهذا الاحساس الجديد من الحماية الذى أسبغه عليها ابن عمها ... وفكرت انه قريبى .. فلم لا نتعامل برفق ولين ؟
يا ترى هل سيصبحان صديقين يوما ما؟
لم تشغل بالها بالاجابة على هذا السؤال الملّح فى ذهنها , يكفيها أن تعيش اللحظة ولا يهمها ما ينتظرها غدا.


************

SHELL 26-09-18 12:25 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3706340)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسلمو ايديك يا قمر استمتعت كتير بالبارتين

وما اخفيك سر اتمنيت لو انك كاتبتيها باللهجة المصرية الحلوة والسرد فصحى عادي

بالذات حوار الخالة اتخيلتها متل شخصية كريمة مختار
لووول

اللقاء خالف كل توقعاتي ابدعتِ بتصوير المشهد
و منين طلعلنا رفيق اللي مو رفيق بنوب ..

يستاهل يسموه عنيف متل صديق بسيط اللي بالكارتون ههههههه <<<< تحية لرفاق الكفاح اللي شاهدوه


متشوقة لأعرف كيف راح تعيش بهالبيئة الجديدة وكيف رح تحسن صورتها في عيونهم .


تقبّلي مروري وخالص الود



وعليكم السلام

صدقينى لو أقولك أنى معرفش أكتب حتى الحوار بالعامية رغم انه الاسهل طبعا

يمكن تعوّد زى ما بحب اقرأ مش بحب الا الروايات بالفصحى

ههههه كريمة مختار دى مبدعة ف شخصية الام الحنون

سعيدة عزيزتى بمتابعتك وتعليقك

انتى الوحيدة الى تفاعلت مع الفصول لحد الآن

دمتى بود :flowers2:

SHELL 29-09-18 01:33 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الخامس

http://dl.glitter-graphics.net/pub/2...djs83392f7.gif



-هل سنذهب مباشرة الى الفيلا؟
ألقت لبنى بسؤالها على رفيق وهى تخشى قطع حبل الود القصير الذى ربط بينهما منذ قليل , فهى لا تريد اثارة القتال على كل الجبهات دفعة واحدة فلديها ما يكفيها من مواجهة وشيكة مع زوجة أبيها , فقد استشعرت فى نظراتها بالمرة السابقة مكرا وحقدا عندما وافقت هى على الاقامة بمنزل العائلة الكبير.
لن يفيدها اتباع أسلوب الهجوم لدى تعاملها مع هذه العائلة الحريصة , قررت بأن تغير خططها المستقبلية أو على الأقل تؤجلها لما بعد اكتسابهم الى صفها فهى كما وصفها رفيق سابقا القطة الشريدة التى عادت للديار , لقد أجاد انتقاء ألفاظه بدقة ليعبر عن حالها تماما.
-أين ذهبتى ؟ هل من عادتك الشرود وسط النهار فى أحلام يقظتك؟
-آسفة لم أنتبه , كنت أفكر قليلا .. هل قلت شيئا فاتنى؟
ضحك عاليا وتبدلت كل خلية بوجهه فشعرت لبنى بنفسها تنكمش داخليا فهو يصير مرعبا عندما يغضب ولكنه يصبح خطيرا عندما يبتسم , ولم تدرى هل الأفضل أن يصير عدوا بدلا من أن يغدو صديقا؟
-لقد أجبت على سؤالك أيتها الحالمة , سنذهب فورا الى المنزل لأن أنّا شريفة تلح علىّ بالاتصال منذ خرجت حتى تستعجلنى فهى متشوقة للغاية لرؤية جمالك الباهر.
فكرت لبنى بأنها لن تصمد أمام تلميحاته التى تبدو تلقائية ومغازلته الصامتة لها بعينيه التى تتوه بداخلهما , فليعد باردا متباعدا كما كان فهذا أكثر أمانا لسلامة عقلها , وقلبها.
-كم تبلغ من العمر؟
قالت أول ما خطر ببالها حتى تحوّل انتباهها الذى تشتت على يديه.
رفع حاجبيه عاليا وهو يحك ذقنه بيده مفكرا بعمق:
-سأبلغ الثانية والثلاثين بعد شهر واحد.
-هل أنت متزوج؟
علت ضحكاته حتى غطت على صوت أبواق السيارات التى تجاورهم , ورمقها بنظرة غريبة لم تستطع تفسيرها:
-لا لست متزوجا فى الوقت الحالى
كادت أن تطلق تنهيدة ارتياح الا أنه استطرد بمكر:
-ولكننى أنوى الزواج قريبا.
-هل أنت خاطبا؟
-شئ من هذا القبيل.
صدمها اعترافه البسيط كقطار مسرع وبعثرها حطاما , اذن فهو خاطبا وتمالكت نفسها ,وسألته بصوت جاهدت أن يخرج هادئا قويا الا انها ارتجفت قليلا:
-ولكنك لا ترتدى دبلة!
وسقطت نظراتها على قبضة يده التى تمسك بمقود السيارة فى قوة وتحكم , فنظر هو الى أصابعه الخالية من أى خاتم وشعر باحباطها الواضح:
-أنا لا أحب أن يقيدنى أى شئ.
طال الصمت بينهما فراقبها تنزوى فى مقعدها وهى تتصنع الاهتمام بواجهات المحال التجارية , شعر بالشفقة نحوها ولكن عليه أن يكمل طريقه بدون رحمة حتى ولو كان الثمن أن يفقد متعة احساسه الجديد بهذه الفتاة التى تبدو عديمة الخبرة فى الحياة وتثير فيه مشاعر الحماية , لقد باغته ضعفها المفاجئ لحظة سقوطها فقفز منه قلبه وقتها ليستقر عند قدميها, ولكنه سرعان ما استعاد تمالك نفسه وهو يلومها على ما بدر منها.
-لماذا تهتمين بشؤونى الخاصة؟
لن يتركها بدون استجواب , كانت تخشى الاعتراف بالحقيقة, ستراوغه بمهارة حتى لا تعطيه الشعور بالرضا:
-مجرد فضول!
جاهدت لتبدو لا مبالية
-أريد أن أعرفكم أكثر بصراحة أنتم عائلتى الوحيدة التى تبقت لى.
-ربما , لكنك لم تسأليننى عن أى فرد آخر من العائلة , ألم تشعرى بالفضول تجاه ريم أو سيف أو حتى أخيك نفسه؟
كان جوابها جاهزا سريعا
-بالطبع أهتم بهم , ولكننى لم أقابلهم بعد , وبمرور الوقت سأكتسب صداقة أختك ريم أنا أشعر بها قريبة الى نفسى.
-أنا أيضا أؤيدك فى رأيك فهى تثق بسهولة فى أى عابر سبيل ويمكن لها أن تقص عليه سيرتها الذاتية منذ ولدت.
هل يرى أنها ليست أهلا للثقة كأى عابر سبيل ؟ هى الغريبة عنهم ؟
طعنتها سكين صراحته القاسية بعمق وانغرز فى كبريائها , سيرى كيف ستمسك هذه الغريبة بزمام الأمور قريبا جدا.
-أنا أحب الشخصيات البسيطة التى تماثل أختك فى تلقائيتها وبرائتها.
-أنتما تتشابهان فى هذا كأن الوراثة قد لعبت دورها معكما ببراعة منقطعة النظير , لأول وهلة عندما رأيتك , شعرت بأننى أعرفك تمام المعرفة , واتضح لى الأمر الآن.
كانت تموت قلقا وفضولا لأن تستفسر منه عن معنى كلامه , هل يراها تشبه أخته شكلا أم موضوعا؟
والأهم لديها ألا يعتبرها بمثابة شقيقة له وألا يعاملها بالمثل .
-بالمناسبة , ألا تحملين هاتفا نقالا ؟
-بلى , وهل يوجد أحد فى مصر حتى الآن لا يملك واحدا يتحدث فيه ليلا نهارا؟
-هل هو يتبع خاصية ال 4g ؟
-لا.
أجابته وقد ازداد فضولها تدريجيا حتى صار هاجسا لها
-لماذا أنت مهتم ؟
-هذا ما توقعته , عليك باعطائى الشريحة الآن لأغيرها لك , فسوف تحتاجين اليها.
-أنا لست مهتمة بهذا التحديث فلست من هواة البحث على الانترنت ولا أستخدم برامج التواصل الاجتماعى.
ابتسم متعجبا من سذاجتها الواضحة فلو تعرف ما هى نيته لما أفصحت عما يدور بداخلها.
-ستحتاجين اليها فى العمل.
-أى عمل ؟ ألم تخبرنى بأنك قد أنهيت الأمر مع السيد فهمى ؟
-أنا أتحدث عن عملك معى , أقصد معنا.
تصنعت عدم الفهم وألحت عليه فى السؤال:
-أرجوك لا تتحدث معى بالألغاز , سأعمل مع من ؟ أنت ؟ أنتم؟
-أنت تنتمين لأعرق العائلات فى تاريخ مصر المحروسة , ولا يخفى عليك أمر الامبراطورية التى صنعها جدنا ومن قبله جده فى عالم التجارة.
سألته بفرح غامر كطفلة صغيرة تلقت لتوها اللعبة المفضلة التى كانت تنتظرها:
-هل يعنى هذا أننى سأعمل معك؟ أعنى معكم ؟
لم يفته رنة الدلال فى صوتها عندما رددت كلمة ( معك ) ثم عدلتها.
لقد أصبح الأمر يسيرا بالنسبة لما هو مقدم عليه, فلن يستغرق انهاء الموضوع بأكمله سوى أسابيع قليلة ويصبح حرا.
-ستعملين معنا , وتضعى بصمة آل الشرقاوي على خطواتك.
صفقت بجذل والسعادة تنهمر شلالا من عينيها السوداوين:
-لن تتصور مدى سعادتى بأننى قد أصبحت جزءا من العائلة, ما أروع هذا الاحساس الذى افتقدت اليه بالماضى.
ذات الشعور بعدم الطمأنينة قد راوده مرة أخرى عندما تناثرت خصلات من شعرها حول وجهها وعلى عينيها فقد كانت تطلقه فى حرية متناغمة مع ابتسامتها الطفولية, الا أنها شعرت ببعض الآلام الخفيفة برأسها تعاود التسلل مرة أخرى لتنذر بنوبة مفاجئة من الصداع النصفى الذى تعانى منه.
لم تنتبه لعبورهما البوابة الحديدية الشامخة معلنا وصولهما الى المحطة النهائية لرحلتهما التى بدأت صباحا حتى انتهت ظهرا.
-ها قد وصلنا يا أميرة ... عائلة الشرقاوى.
ارتعدت حين أطلق عليها هذا اللقب , فقد بدا لها أنه يدللها بطريقة مألوفة , كيف عرف ؟ أم أنها مجرد مصادفة ؟ ,وحاولت استكشاف ما بداخله فيما وضع على عينيه نظارته الشمسية السوداء فأخفت عنها رؤيتهما.
اتجها الى الفيلا معا بعد أن أخرج من سيارته حقيبتها وحملها بخفة حتى وصلا الى الباب الزجاجى فرن الجرس مرتين متتاليتين فى نغمة مميزة.
-هكذا يعرفون أنك من العائلة.
قالها ردا على نظرتها المستفهمة ولم تطل وقفتهما حتى فتحت لهما نفس الخادمة التى استقبلتها فى اليوم السابق , وأفسحت لهما الطريق وهى متهللة الأسارير:
-مرحبا بك سيدى , مرحبا يا آنستى.
وتلقت منه الحقيبة التى أفلتها من يده لتستقر على الأرضية الرخامية اللامعة.
-أين الجميع؟
-انهم بانتظارك منذ الصباح , وحتى شريفة هانم قد غادرت غرفتها لتنزل الى الشرفة.
-هذا هو تأثيرك يا حلوة , لقد جعلتى أنّا تخالف عادتها اليومية التى كانت ثابتة كالكتاب.
كان فى طريقته مسحة من اتهام ظالم لها , وتجاهلته تماما حتى لا تفسد يومها.
-ربما سيمتد تأثيرك ليشمل العائلة بأسرها !
-ولكنه حتما لن يفيد معك , فأنت غير قابل للتغيير.
-وهل ستحاولين معى؟
قاطع حديثهما الفتاة العشرينية التى استقبلت رفيق بشوق ولهفة فقبلته على خده فيما تطوق عنقه بذراعيها متشبثة به حتى رفعها بسهولة ودار بها مرتين قبل أن ينزلها على قدميها وهى تضحك شاعرة بدوار خفيف:
-مرحبا بجميلتى.
أثار هذا المشهد ضيق لبنى وغيرتها بدون داعٍ فهى تدرك أن هذه الفتاة ما هى الا شقيقته ريم , التى التفتت نحوها وعلى وجهها ابتسامة ترحيب حقيقية :
-أهلا بك يا لبنى بيننا , أنا فى غاية السعادة لأنه ستصير لى ابنة عم قريبة فى هذا المنزل الملئ بالذكور المتسلطين.
وأشارت بطرف عينيها الى رفيق.
-بالطبع سنشكل جبهة متحدة.
ردت عليها لبنى وهى متأكدة بأنها ستصبح صديقة قريبة لابنة عمها فقد مالت اليها على الفور.
سأل رفيق :
-أين يوجد كريم ؟ وهل استيقظ سيف الكسول ؟
- الكسول مستيقظ منذ أربعة ساعات وجالسا بملل فى انتظار جلالتك.
كان هذا هو رد سيف ابن عمهم الذى كان يهبط من الطابق الأول قفزا على الدرجات وقد ساعده طوله الفارع ورشاقة قامته.
ثم أخذ يتأمل لبنى بعينين مقيمتين معجبا بما رآه ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يشاهدها فيها ولكنه تحدث اليها مستجوبا:
-كيف وجدتى ابن عمنا القائد؟ هل قام باطلاعلك على لائحة التعليمات؟
كانت لهجته مازحة.
فاحتارت بما تجيبه, واكتفت بهز كتفيها دلالة النفى.
-لقد كان رائعا, ولكنه على ما أعتقد قد نسى لفت نظرى لهذه اللائحة.
كان ردها دبلوماسيا فلم تفتها نظرة رفيق الباحثة عن حقيقة شعورها , فيبدو أنه كان مهتما باجابتها كثيرا.
تشارك الجميع فى الضحك , وقالت ريم :
-ما هذا الاستجواب؟ ألا ترى أنها لا بد متعبة وتريد أن تستريح قليلا ؟
-قبل أن تحيى أنّا فلا وجود لكلمة راحة فى القاموس , هيا الى الشرفة قبل أى شئ.
تكلم سيف نيابة عن رفيق الذى ثار تبرمه من موقف ابن عمه , فأجابه بحزم:
-ستصعد لبنى أولا الى غرفتها لتستريح وتقوم بتغيير ملابسها ثم تأتى لتجلس معنا جميعا بالشرفة.
كان أمره معاكسا لما توقعته هى منه , ولم يترك لها فرصة للاعتراض بل نادى على الخادمة:
-سماح , هيا اصطحبى الآنسة لبنى الى غرفتها وساعديها بافراغ حقيبتها.
-أمرك يا سيدى.
لم تجد لبنى مفرا من أن تنصاع له حتى لا تثير التساؤلات فى وجود ريم وسيف اللذين لا يعرفان ما يدور بينها وبين رفيق فى الخفاء.
صعدت الدرجات خلف سماح النحيفة التى تعجبت من قدرتها على حمل الحقيبة الثقيلة فى هدوء وثبات عجزت هى عن تصنعه.
وقفت سماح أمام باب غرفة واسعة متقدمتها الى الداخل لتضع حملها على السجادة المخملية وتقف بأدب تنتظر أوامر سيدتها الجديدة.
لم تنتبه لبنى فى بدء الأمر لوقوف الخادمة تنظر لها ببلاهة فأدركت أنها تنتظر تلقى الأمر منها وهى التى لم تعتد فى حياتها على مثل هذه المعاملة.
ابتسمت لسماح فى ود وأخبرتها بأن تذهب لعملها فهى معتادة على خدمة نفسها.
ترددت سماح من لهجة الوافدة عليهم ولكنها نفذت رغبتها بدون تعليق.
-اذا احتجتنى فما عليك سوى أن تضغطى على هذا , واشارت الى زر أبيض يتوسط الجدار بجوار السرير الضخم المفروش بأروع الأغطية الزاهية الألوان.
وغادرت سماح الغرفة مغلقة بابها ورائها باحترافية ومهنية دقيقة.
ما كادت لبنى تنفرد بنفسها فى غرفتها الجديدة حتى خلعت حذائيها وألقتهما بفوضوية ورمت بنفسها على السرير اللين حتى غاصت فيه وشعرت به يحتضن جسدها الرشيق بألفة, فشعرت بأنها ليست غريبة أبدا.


************

SHELL 29-09-18 01:37 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


بعد دقائق استرخى فيها جسدها من مشقة اليوم وأحداثه المتلاحقة , تناثرت ذكريات الأيام السابقة فى مخيلتها وهى ترى نفسها بعين ناقدة : هل كانت مجحفة بحق خالتها التى ربتها ؟ وتنازلت من أجلها عن الكثير ؟ ولكن لم أخفت عليها أمر طلب الجد برؤيتها سابقا ؟ كان هذا ليوفر عليها الكثير من السنوات ويختصر المسافات البعيدة بينها وبينهم.
لا مجال لالقاء اللوم عليها فهى موقنة بحب خالتها لها وخوفها على مصلحتها , عندما تهدأ ستحادثها لتعتذر لها عما بدر منها بالأمس أمام ابنها حسام , أنه ذلك السمج الذى يستفزها دائما ولولا وجوده وقت الانهيار الذى حدث فى علاقتها بخالتها لما آلت الأمور لما هى عليه الآن.
كانتا ستتصالحان وكل واحدة منهما تنام قريرة العين , ولكنها تعلى ضوء المصالح الجديدة لها عليها أن تبتعد لفترة حتى تحقق ما تخطط له.
ثم تذكرت أنه عليها أن تسرع بارتداء ملابسها ولقاء العائلة قبل أن يفكر أحدهم بالصعود ليرى سبب تخلفها.
كانت تخشى من شخص بعينه وتهتز كلما رأته أو سمعت صوته العميق , ولها كل الحق فى خوفها منه فيبدو عليه أنه قد اعتاد القاء الأوامر وعلى من حوله السمع والطاعة بدون مناقشة.
كيف ستكون المواجهة بينهما , لن تفكر به ولن تهاب لقائه بعد الأن , قامت لتفرغ حقيبة ملابسها فى الدولاب الكبير ( البلاكار ) الخشبى ذى اللون البنى الغامق واحتارت فى ضلفه الكثيرة فهى ان تحتاج سوى ثلاثة أرفف فقط لتضع فيهم كل حاجياتها المنقولة.
ارتدت كنزة خضراء بلون ورق الشجر متسعة من عند كتفيها وتنحدر بضيق حتى وسطها النحيف وتنسدل باهمال من جانب واحد حتى تصل لردفيها , واختارت معها بنطلونا من الجينز الأزرق يظهر رشاقة ساقيها الطويلتين وانتعلت خفا فضيا مريحا, وتركت شعرها البنى الناعم منسدلا بعد أن طوقت مقدمته لتمنعه من ملامسة وجهها البيضاوى.
وعدلت من زينة وجهها فجددت أحمر الشفاه بلون وردى وكحلت عينيها الواسعتين بالقلم الأخضر ولم تضع حمرة على خديها الموردين.
تطلعت الى صورتها بالمرآة الكبيرة ذات الاطار الذهبى برضا وثقة , كانت الآن قادرة على مغادرة غرفتها لتواجه عائلة الحيتان.
وكان هذا هو الاسم الذى يطلقه عليهم المنافسون لهم بسوق الأعمال التجارية , حيث أنهم يحتلون المرتبة الأولى بلا منازع وقد تشبهوا بالحيتان التى تبتلع الأسماك الصغيرة بدون رحمة أو هوادة ففى هذا العالم لا حياة للضعفاء.
هبطت الدرجات الواسعة الرخامية وهى تتعجب من مدى ثراء العائلة التى حرمت منها لسنوات بدون ذنب جنته الا أنها ابنة وجدى الابن الضال كما يبدو , وها قد حانت الفرصة لاستلام نصيبها الشرعى من ميراث والدها المحروم , واختارت وهى واقفة عند نهاية السلم تنظر يمينا ويسارا علها تلمح أحدا يدلها على الطريق الى الخارج , ما أشد حيرتها وهى تحاول ألا تبدو متأثرة بشدة من نمط الحياة التى يعيشها أقاربها , حتى وجدت نفسها وجها لوجه مع أخيها كريم والذى بدا متعاطفا معها منذ اللحظة الأولى فها هو يبتسم لها بمودة :
-هل كنتى تائهة تبحثين عن شئ ما ؟ أو ربما أحد ما ؟
-أنا أبحث عن الطريق الى الشرفة
-لم تتح لى الفرصة بالأمس حتى أرحب بك كما يجب , فنحن اخوة ... ولم نر بعضنا أبدا
بدا عليه الارتباك , وهو يحاول جذب طرف الخيط بينهما حتى ينسج أول غرزة فى حلة علاقتهما.
ولم تكن هى بأقل لهفة منه فى التعرف وابداء المشاعر الودية كدليل على حسن النية والاستعداد لمحو الماضى الأليم كله بضربة قلم عندما تم ذكرها بالوصية.
-أنا كنت مصدومة أكثر منك لأننى لم أعرف بوجودك ولا ...
أدرك بدون أن تكمل عبارتها أنها تلمح الى والدته السيدة هناء.
-انه ليس ذنبك ولا ذنبى , فلا ترهقى نفسك باللوم . هيا معى لننضم الى العائلة فهذا هو موعد جدتى المنضبط لاحتساء فنجان شاى ما بعد الظهيرة , ويليه بعدها بساعتين موعد الغداء.
أبدى استعدادا لتعريفها على كل بقعة بالفيلا فيما بعد , وتأبط ذراعها وسارا نحو اللقاء المرتقب , تصاعدت دقات قلبها , وتساءلت ترى هل ستنجح فى مخططها ؟
كانت الشرفة كلمة ضيقة لتصف مدى روعة واتساع هذه المساحة التى تصلح لأن تصبح شقة كاملة يعيش فيها عشرة أشخاص على الأقل .
كانت تتوسط الشرفة الفخمة منضدة مستطيلة مصنوعة من الخوص الفاخر بلون العاج ومجدولة لتصنع فراغات مدورة على مسافات متساوية ويستوى فوقها لوح زجاجى وقد استقرت على سطحه اللامع مزهرية خزفية مزينة برسومات ونقوش فرعونية جميلة ويفوح من زهورها الملونة رائحة عطرة عبقت المكان ويحيط بالمنضدة عدد من المقاعد المشابهة عندما حاولت أن تحصى عددهم وجدت أنه يطابق عدد أفراد العائلة كلهم ويشملها معهم فوججها كريم نحو المقعدين الفارغين ليجلسا جنبا الى جنب بعد أن ألقت التحية على الجميع وقبلت يد جدتها السيدة شريفة فى اجلال كما يفعل رفيق بالضبط.
تفاوتت ردات فعلهم ما بين مرحب ومتجاهل وممتعض , كان الجميع بلا استثناء حاضرا لهذا الاجتماع العائلى , يبدو أنهم مترابطون بصورة أو بأخرى وربما كان الخوف من الخروج عن التقليد العائلى مسيطرا على أغلب تصرفانهم فلم يكرر تمرد أبيها أحد من بعده.
جاءت جلستها فى وسط أبناء عمومتها وأخيها الذى أحاطها برعايته واهتمامه وقد انصبت معظم الأحاديث الجانبية فى ثنائيات وقد تكوّنت لديها فكرة عامة عن الأحزاب المتوقع مواجهتها بالفترة القادمة , كانت زوجة والدها (هناء) تثرثر مع زوجة عمها عادل فى تفاهم لا يخلو من نظرات مختلسة توجهها نحوها بين الحين والاخر لترى كيفية تعاملها مع أقرانها .
ولم يفتها التعبير اللائم على وجهها عندما رأتها تأخذ حريتها فى الحديث الى أخيها اللطيف الذى أشعرها بأنها فى بيتها حقا .
بينما كانت جدتها تحتسى الشاى من فنجانها الصغير برضا وهناءة بال بعد أن اجتمع كل أحفادها تحت جناحها كما كانت تتمنى .
أخذ سيف وريم يتشاكسان كالقط والفأر ولكنها لمحت ما وراء الستار اهتماما خفيا يسرى كالتيار بينهما , وبينما هى غارقة فى أفكارها رأت رفيق واقفا بالقرب من جدته يعتذر منها :
-أنّا ...علىّ أن أنصرف الآن فالعمل ينتظرنى وقد تكدست المناقصات التى تحتاج الى مراجعتى فقد تأخرت اليوم كثيرا بسبب انشغالى ...
ولم تستطع أن تخمن بقية كلماته فقد انحنى على أذن الجدة يهمس لها وهو غير عالم بمراقبة لبنى لكل لمحة منه, الا أن طرف يعينه ناحيتها فأدرك ما كان حتى أشار لها :
-لبنى , أريد أن أتحدث اليك دقيقتين.
وانصرف دون أن ينتظرها متوقعا سرعة لحاقها به , وجدت أنها صارت فى بقعة الضوء المسلط عليها من الجميع , فلم تجد بدا من أن تنهض من مجلسها وهى غير راغبة بالانفراد به.
-ماذا أيضا؟
سألته بعصبية غير مبررة فتجاهل هو لهجتها التى لم تعجبه وقال:
-أعطنى شريحتك الآن فلا وقت لدىّ
ومد يده اليها فى ترقب متعجل لم يتح لها الفرصة لاعتراضها الواهى
-ولكننى أحتاجها
-لن يستغرق الأمر سوى اليوم , هيا فلا وقت لدى أكثر من هذا
أخرجت الشريحة من هاتفها بدون كلمة أخرى فهى تعرف متى تنسحب من معركة خاسرة بكل المعانى
-تفضل ولا تدعنى أعطلك أكثر من هذا
وهمت بأن تعود حيث ينتظرها الآخرون فقبض على معضمها بقوة أجبرتها على الالتفات نحوه
-لم أنهِ حديثى معك , فلا تعطينى ظهرك مرة ثانية
-اترك يدى , فأنت تؤلمنى بلا داعٍ , كان يكفى أن تطلب منى بهدوء.
ترك يدها لتسقط بجانبها وهو يبدى استياءه :
-أنت تضطريننى الى مثل هذه المعاملة بتكبرك وعنادك الذى لا يلين , ما الضرر من أن تبادرى لمعاهدة سلام بيننا , فى الأول والأخير نحن أبناء عمومة ونعيش تحت سقف واحد.
كانت تتمنى لو أن هذا يدوم للأبد , وألا يكون فقط الرابط العائلى هو ما يجمعهما معا , وآثرت أن تركن للحل الوسطى فتبدأ هدنة جديدة معه.
-هكذا تكون فتاتى المطيعة المهذبة , الى لقاء قريب هذا المساء.
وتبخرت صورته التى كانت تملأ المكان وتسبغ عليه هالة وضاءة من السيطرة وارتأت أن تعود من حيث أتت , فلا قبل لها بالمواجهة الحاسمة , حينما ينتهى الأمر ستغادر محطمة الفؤاد.

SHELL 29-09-18 01:38 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الخامس

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...y5_nwQ9zopuz6w

SHELL 16-10-18 12:58 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
http://upload.3dlat.net/uploads/3dla...4318d5dcd3.gif

الفصل السادس

https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...z1McOc24Od11WR




رنة هاتف محمول مميزة دوّت فى أرجاء الغرفة الصامتة الكئيبة لتعلن اسم المتصل بوضح على الشاشة المضاءة , ألقت نظرة ثم ارتبكت فما الجدوى من محاولة احياء الماضى ؟ لماذا يصرّ على الاتصال بها بعد عودتها الى مصر؟لقد رآها يوم اعلان الوصية ولم يحاول أن يقوم بجهد زائد لمواساتها بالكاد قام بتعزيتها ببضعة كلمات باردة لا توحى بالتعاطف حقا , ولكن هل كانت هى متأثرة بموت والدها لهذه الدرجة , لم تفكر كثيرا فى هذا الموضوع , وكادت أن تغلق جهازها فى وجه المتصل , الا أن سبابتها ترددت على الضغط على زر الالغاء .
وعوضا عن هذا استقبلت المكالمة
-آلو ,كيف حالك يا فريال؟
-بخير , وأنت؟
-أعيش وأتنفس كما ترين
ابتسمت بمرارة لقوله المؤسف
-ما الذى جعلك تتذكرنى؟
-وهل نسيتك يوما يا عزيزتى؟
لن تسمح لنفسها بالوقوع مرة أخرى فى هذا الفخ , لقد عانت بما فيه الكفاية فى الماضى ولم تعد الفتاة الغريرة التى تحلم بكلمات الحب والعشق الزائلة.
-ماذا تريد يا مجدى ؟ ألم تحقق انتصارا باحضار هذه الفتاة الى المنزل؟
-انه الشرع , وعلى كل أن يعطى ذى حق حقه!
-وهل كان مشروعا ما لحق بى من أذى ؟
-لم أوافق يوما على تصرف والدك نحوك, ولكنك عنيدة تتشبثين برأيك.
أغمضت عينيها لذكرى الألم التى مرت فى ذهنها واجتاحت كيانها لتطيح بالاستقرار الهش الذى تحتمى به .
-آلو , فريال ... هل ما زلت معى؟
يا ليتها تستطيع أن تكون معه , ولكنها سرعان ما طردت هذه الأفكار الخيالية , فلا مجال لها فى حياتها بعد الآن.
-نعم
أجابته بصوت مرتعش , ألقى بظلال الأسى عليه فلو كان باستطاعته لحماها من أى مكروه حتى ولو كان من ذاته التى تهفو اليها .
-أريد أن أقابلك , بعيدا عن نطاق البيت والعائلة , هناك أمر هام جدا لا يمكن تأجيله.
-أرجوك يا مجدى , ابتعد عنى واتركنى بسلام.
-عزيزتى , أؤكد لك أنه سيهوّن عليك كثيرا
-هيهات ما تقوله , ولا يهمنى الآن مليما واحدا من هذه الثروة المشؤومة , التى ندفع ثمنها من نبض قلوبنا وراحة بالنا.
عاد مرة أخرى ليترجاها حتى توافق على لقائه , ويبدو أنه قد نال مأربه فى النهاية , واتفقا سويا.

************

SHELL 16-10-18 12:59 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


جلست لبنى مع أخيها كريم فى غرفة الجلوس الواسعة التى تشمل جميع وسائل الراحة والرفاهية, حيث أخذا جانبا من الأريكة الجلدية السوداء الوثيرة وبقيا يتحدثان وكأنهما صديقان افترقا وعادا ليلتقيا بعد طول غياب وشوق واهتمام , لم يكن كريم رجلا معقدا يستعصى فهمه مثل رفيق بل كان أمامها كالكتاب المفتوح ولديه فلب من ذهب , أخبرها بأنه يود نسيان الماضى وبدء صفحة جديدة فالحياة لا تحتمل الخصام .
وقد أسعدها تفهمه لوضعها الدقيق فى هذا المنزل وأشاد بموافقتها على الانتقال للسكن معهم حيث يكون بمقدورهما التعويض عن الأيام الماضية التى حرما فيها من نعمة الاخوة ورابطة الدم القوية التى تجمع كل أفراد العائلة.
كادت لبنى أن تشعر بالذنب لأنها لم تبح له بكل أسرارها مثلما فعل هو , كانت ماكثة فى ركنها البعيد تحمى نفسها من العيون الفضولية وحب الاستطلاع الذى لا يتجزأ من النفس البشرية.
فى حين استلقى سيف على الأرض فوق البساط العجمى ذى النقوش الجميلة والذى كان يعد تحفة فنية ساندا ظهره الى البف الذى كانت ريم جالسة فوقه تشاهد التلفاز الموضوع على طاولة منخفضة من الطراز الحديث للأثاث .
كان الجو عائليا دافئا مريحا بالنسبة للغريبة التى كانت متوترة بشأن علاقتها بهؤلاء الشباب , وقد أبدوا استعداد واضحا لضمها الى الفريق العائلى بدون تحيز أو تنمر, فى حين شعرت هى بابتعادهم عن وجهات نظر الأمهات فى تواجدها بالبيت الكبير.
كانت الوحيدة التى رحبت بها بحرارة هى زوجة عمها السيدة سوسن – والدة رفيق وريم – وكأنها تنتظر لقاءها على أحر من الجمر, على عكس عمتها فريال التى بدت متباعدة غير راغبة فى رؤيتها ولكنها ليست عدائية بقدر زوجة والدها , ولا متعالية مثل زوجة عمها السيدة منى.
بدأ فتيل الشجار يشتعل بين ريم وسيف بعد أن أصرّ هو على أن يحوّل القناة التى كانوا يتابعون معها المسرحية الكوميدية الى قناة رياضية حيث كانت تذاع مباراة لفريق الأهلى – الذى يشجعه بحرارة – وهى يتأهل لنهائيات دورى أبطال أفريقيا.
رفضت ريم – التى تكره كرة القدم بعنف – أن ترضى بسياسة الأمر الواقع التى يبدع سيف فيها , وقد حاول كريم أن يهدئ من هذا الوضع المحتدم بينهما بلا جدوى
-ريم , انتظرى قليلا , فهذه هى المبارة النهائية ولا يمكن تفويتها أما المسرحية فسوف تعاد عشرات المرات فيما بعد.
-واذا كنت أتابعها الآن , لم لا يخرج هو لمتابعة المباراة فى الخارج مع أصدقائه كالعادة؟
لم يكن كريم متابعا شغوفا لمباريات الكرة , الا أنه كان يبذل قصارى جهده للحيلولة دون وقوع مشاجرة تثير الأعصاب , فالتفت الى سيف راجيا:
-ألا يمكن التنازل قليلا ولو لربع ساعة حتى تنتهى المسرحية بأمان؟
-لا يمكن تفويت ردقيقة واحدة من الماتش , اذا أصرت على رأيها فلتتابع المسرحية فى غرفتها فلديها جهاز تلفاز هناك , ولتصطحبى معك لبنى فهى لا بد ستوافقك الرأى بالنسبة لمشاهدة المباراة.
ولدهشتهم جميعا , أبدت لبنى اهتماما بالمباراة وارتأت أن تغلف الجو بروح التسامح فقالت:
-لا يمكن , أريد أن أتابع النهائى فهو لا يتكرر كثيرا , وأنا أشجع فريق الأهلى منذ صغرى.
-أنت تشبهين أبى فى هذا.
كان هذا هو كريم الذى ألقى بجملته التى أثارت استغرابها فكيف عرف هو بهذه المعلومة , زلم تستطع اخفاء فضولها بداخلها فسألته:
-كيف عرفت أنه كان شغوفا بالأهلى؟
تردد قليلا فقد كانت هذه الذكرى تؤلمه وتهز كيانه كلما مرّت طيفها:
-ان هذه العادة متوارثة بالعائلة , فكلنا هنا نشجع الأهلى , ما عداى طبعا فأنا غير مهتم بهذا النوع من الرياضة ولكننا أعضاء بهذا النادى منذ قديم الأزل .
ومضت برأسها صورة تتكرر باستمرار ,والداها يسيران فى التراك وأبوها يدفع بدراجتها الصغيرة الى الأمام وهى متشبثة بمقبض جادون العجلة وكأنها هى التى تقود , ويأتى طفل صغير أطول منها قليلا ليدفعها بقوة وهى تصيح مذعورة , فيقبض على ذراعه صبى آخر ويوقف استمراره بهذه المزحة فى حزم عجيب لا يليق بسنه الصغيرة ويتلقفها بين ذراعيه حاملا اياها فوق كتفيه ليطوف بها فى أرجاء ملعب كرة السلة القريب من مضمار الجرى.
وهى تهلل بسعادة , وكان يناديانها بلؤلؤة , اسم التدليل هذا الذى صار مرتبطا بها بعد ذلك, كان أبواها لا يحرمانها من أى متعة , وقد كانت مسرورة بهذه الصداقة الا أنها بعد الحادثة التى أودت بحياتهما لم تطأ أرض هذا النادى من جديد.
لن ترحمها الذكريات فباتت تتحسر على سعادتها الضائعة الى الأبد , لن يهنأ بالها الا بعد أن تحقق ما سعت اليه ,حتى تحظى بلحظات النوم العميقة التى تجافيها فى عتمة الليل البهيم .
عندما استفاقت من شرودها وجدت أن الوضع المشتعل الذى اندلع منذ قليل قد أخمدت نيرانه بمهارة من أخيها كريم والذى كان يبدو دبلوماسيا عتيدا, ودفعها هذا الخاطر لسؤاله عن طبيعة عمله:
-أود أن أسألك عن عملك ؟ هل أنت فى ذات الشركة التى يعمل بها رفيق ؟
لم تكن قد اعتادت على نطق اسمه فبدت خائفة من شئ ما وهى تجمع الحروف , وانتظرت بفارغ الصبر اجابة أخيها.
-أنا أشرف على كافة الاجراءات القانونية التى تتعلق بالشركة بحكم دراستى , فقد تخرجت فى كلية الحقوق , وليس لى اختلاط مباشر بمجال ادارة الأعمال من الناحية التجارية البحتة , فهذا هو مجال الريّس
ثم غمز بعينه وتابع : رفيق
اذن فرفيق هو الريّس كما خمّنت ولذلك فهو يتعامل معها من هذا المنطلق .
-ولكن أليس عمى محمد هو الريّس كما سمعت من المحامى ؟
-بلى عمى هو رئيس مجلس الادارة ولكنه ليس المدير الفعلى للشركات.
-الشركات ؟ أليست هى شركة واحدة ؟ أقصد هل يدير رفيق وحده هذا الكم الهائل من الشركات التى ترجع الى العائلة ؟
-لا بالطبع , ليس وحده فهناك عمى عادل وابنه سيف , لا تنسى أنهما الطرف الآخر للخيط , أما أنا ... فلست طرفا بالمنافسة.
وأخفض صوته أكثر فصار همسا.
كان صوته يقطر مرارة وأسى فشعرت بقلبها يميل نحوه فى عطف فطرىّ لا تتخلله شوائب الكره والحقد والحسد التى زُرعت بداخلها طوال السنين الماضية , أدركت معنى جملته المبتورة أنه بسبب تصرف والدها وتخليه عن حقه منذ خمسة وعشرين عاما لم يعد كريم قادرا على الدخول الى هذا السباق العائلى.
اذن فالعائلة منقسمة , وكل فريق يحاول السيطرة وفرض مبدأه الخاص على سير الأعمال هكذا استشفت من حوارهما.
عليها أن تنتبه لهذه النقطة وتستغلها لصالحها , قالت لكريم وقد بدأت فكرة تتبلور وتتشكل أمامها حتى صارت كاملة مكتملة.
-علينا أن نتحدث , ولكن بعيدا عن هنا , فالجدران لها آذان.
وأشارت بمغزى للخارج , وقد أدرك كريم تلميحها بألمعية وذكاء متقد فرفع حاجبه متفهما وأومأ لها رافعا سبابته للأعلى دلالة التأكيد.
وتابعا ما فاتهما من المباراة التى كانت تشير الى خيبة أمل فى فريقهم المفضل الذى فشل فى تسجيل هدفا فى مرمى الخصم الشرس .
ولم يكف سيف عن التذمر أو القاء اللوم على كل لاعب فى الفريق بما فيهم اللاعبين الاحتياطيين , والمدرب ,المدير الفنى وحتى عامل غرفة تغيير الملابس.
بينما انسحبت ريم بهدوء من بينهم بعد أن يئست من أن يلاحظها أحد من المتابعين المهتمين بالمباراة التى أخذت تلفظ أنفاسها الأخيرة بدون تحسن.
وكانت داخليا ناقمة على سيف وأنانيته اللا معقولة بنظرها فهو لا يهتم الا بشيئين لا ثالث لهما : العمل, والكرة ,وان كان يشبه رفيقا فى شئ فهو شدة حرصهما على أعمال العائلة المتعاظمة.
وحينما أحرز اللاعب الأفريقى المحترف بصفوف النادى المصرى هدفا مفاجئا بآخر دقيقة محققا النصر المشرف لناديه الذى فاز بالبطولة , قام سيف بالصراخ عاليا وهو لا يكاد يصدق ما رأته عيناه وأخذت لبنى تصفق بيديها جذلا وهى تحتضن أخاها بسعادة ممزوجة بفرحة النصر, ثم قامت لتطوف بأرجاء الغرفة وهى تنشد بصوت مغرد :
-وااااااو أخيرا هدف, وكسبنا ..كسبناا
كانوا على حالة من الفرح الغير طبيعى ربما كان مرده لاجتماعهم بهذا المكان وليس فقط لفرحة الانتصار واحراز التقدم , ثم رأت رفيق واقفا على المدخل ويبدو عليه أمارات الارهاق والتعب بيد أنه عندما تشابكت نظراته بنظراتها شعرت بخجل غير مبرر ثم بدأت ابتسامة بطيئة تظهر على جانب شفتيه وهو يراها منتشية بسعادة طفولية
-هل انتهت المباراة ؟ أم أنه ما زال متبقيا الوقت بدل الضائع؟
ألقى رفيق السؤال عليهم وهو يأخذ مجلسه بالقرب من كريم بينما عيناه ما زالت متعلقة بها لا يخفى عليه أى تفصيلة منها , وكانت قد عادت الى الأريكة تستند عليها بقوة بعدما شعرت بعمق نظرته تخترقها حتى الأعماق وتجردها من الغطاء الذى تستر به مشاعرها.
-لا يا أخى لا زال باقيا ثلاثة دقائق , يمكن أن يحدث خلالها الكثير .
أجابه سيف وهو منشغل عنه بالتلفاز لا يرفع بصره عن المباراة.
-ما أخبار سير العمل بشركة التصدير ؟
بدأ كريم فى القاء الأسئلة على رفيق , وهو يجيبه بألغاز لم تستطع لبنى فك شفرتها فهى تجهل كليا عالم التصدير والاستيراد فمجال خبرتها كان منحصرا فى التسويق الxxxxى حيث كانت تعمل بمكتب السيد فهمى قبل أن ينهى رفيق مشوارها هناك بيده.
لم يلاحظ الاثنين أنها قد استعدت لمغادرة المكان بدون اثارة الازعاج من حولها , وهيهات أن يمر هروبها مرور الكرام على الرجل الذكى الذى لا تفوته شاردة ولا واردة , فأرسلت لها عيناه سهاما تحذيرية من أن تحاول الهروب منه, فقد اعتذر من كريم بحجة أنه مرهق ويريد أن يستريح بعد يوم عمل شاق متجاهلا سيف الذى كان منشغلا بمتابعة الاستوديو التحليلى للمباراة, لمحت اشارته الخاطفة ولم تخيّب أمله أبدا فتعللت هى الأخرى بحاجتها الى الراحة , فأبدى كريم تفهمه لها :
-سنتكلم غدا كما اتفقنا.
ابتسمت له باشراق وانحنت على كتف سيف لتهنئه بالفوز فى مشهد لم يرق كثيرا لأخيها الذى قطب جبينه مفكرا وان لم يقم بما يشير الى اعتراضه.
تطلعت حولها فلم تجد أثرا له بالصالة الواسعة فارتقت درجات السلم ببطء وقررت بالأخير أن تنفض عن نفسها هذا الخاطر الملح وهمت بأن تفتح باب غرفتها فتذكرت أن رفيق قد أخذ منها شريحة الخط الخاص بها ليقوم بتبديلها بواحدة جديدة وهى بحاجة اليها لتهاتف خالتها اليوم.
انفتح فجأة باب الغرفة المجاورة لغرفتها ورأت رفيق واقفا هناك يتطلع اليها وقد كان ما يزال مرتديا ملابسه التى خرج بها منذ الصباح الا أنه قد أرخى ربطة عنقه وتركها معلقة بياقة قميصه وقد فك أول أزراره العلوية ,بينما تهدلت خصلة من شعره الناعم الأسود على جبينه مما أعطته مظهرا صبيانيا محببا جعلها تشعر بقلبها يرفرف خافقا بقوة وهى تكتشف أنه جارها بنفس الطابق , ولم تدر لم ساورها الشك بأن هذه لم تكن من قبيل المصادفة البحتة.
-تأخرت كثيرا فقد ظننت أنك لن تأتى أبدا.
-لقد أسرعت بعد خروجك فلم أجدك بانتظارى.
تنهد وهو يزيح خصلة الشعر الشاردة :
-وهل كنت تظنين بأننى سأقف على الدرج بانتظارك كتلميذ صغير يقف على باب مدرسة حبيبته ذات الضفائر.
أرادت أن تشاكسه حتى تروى بداخلها رغبة دفينة
-ربما كان هذا سيضفى عليك بريقا من الانسانية التى تفتقر اليها , كما أننى قد تركت المدرسة منذ زمن بعيد, ولم أعد اضفّر شعرى.
حذرتها نظراته الداكنة من أن تتمادى أكثر فقررت الدخول الى لب الموضوع
-أين هى شريحتى ؟ ألم تخبرنى بأنك ستعيدها الىّ اليوم؟
أخرج من جيب قميصه الشريحة الجديدة وناولها للبنى
-كنت أنتظرك لهذا السبب , فلم أكن أنوى سرقتها , للتمتع برصيدك التافه.
وأدركت أنه يرد لها الصفعة انتقاما من سخريتها منه.
-شكرا , هل أصبحت الآن على النظام الجديد؟
-تأكدى بنفسك
وكادت أن تتوارى بداخل الحجرة الا أنه أجبرها على البقاء بقوله:
-لدىّ ما أريد أن أعطيكِ اياه
غاب قليلا وعاد حاملا علبة أنيقة مغلفة بورق مفضض لامع
-هيا خذيها وافتحيها
-أهى لى أنا ؟
تلفت حوله كمن يبحث عن أحد ما
-هل ترين أحدا سوانا؟
-ما الذى يوجد بداخلها؟
أمرها بحدة:
-افتحيها فانها لن تعضك
امتثلت لامره الغاضب فوجدت هاتفا محمولا من أحدث طراز لهذا العام يتألق لامعا بداخل العلبة, لم يكن لديها الخبرة فى أحدث الاصدارات من الهواتف ولكن يبدو أن قد كلفه كثيرا
-أنه ملكك الآن.
-لم يكن عليك اهدائى شيئا غاليا كهذا
وهمت برفضه , الا أنه أسكتها :
-انه ليس منى , فسوف تحتاجين اليه بالعمل لان هاتفك القديم لم يتوافق مع النظام الجديد , وكل هذا مضافا لفواتير الشركة.
-آه , فهمت
وشعرت بأنع قد حط من قدرها عندما انتقد طراز هاتفها المحمول ولكن خطرت لها فكرة فصارحته:
-وهل تقوم الشركة بلف العلب التى تحتوى على الهواتف بهذه الأغلفة التى تخص الهدايا؟
-لا بد أنها السكرتيرة الحمقاء من قامت بتغليفها , ربما ظنت أنه هدية الى صديقة.
شعرت بغيرة قاتلة حينما قام بذكر صديقته , ولامت نفسها على غبائها انه يمتلك خطيبة فلم تشعر بالضيق من وجود أخرى بحياته ؟
-حسنا , تصبح على خير
-انتظرى , عليك أن تطلعينى عندما تصبحى مستعدة حتى تتسلمى وظيفتك الجديدة بالشركة
-هكذا ! هل تنتهى الأمور بمثل هذه السرعة ؟
-عندما تصبحين شريكة فى امبراطورية عائلة الحيتان , عليك أن تتوقعى أى شئ وكل شئ.

**************

SHELL 16-10-18 01:07 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


كان رجل وامرأة جالسين على طاولة أنيقة باحدى المطاعم المعروفة بالعاصمة المزدحمة فى مثل هذا الوقت من آخر النهار , وقد كانا متقابلين يحدق كلا منهما فى وجه الآخر بصمت ولوعة حتى خرج الرجل من محراب صمته :
-حمدا لله على سلامتك يا فريال.
-الله يسلمك يا مجدى.
-لقد طالت غيبتك لسنوات , ألم تفكرى يوما بالرجوع؟
-لا كنت أحيا بسلام بعيدة عن كل ما يٌحاك من مؤامرات ودسائس ولولا الوفاة ما كنت جئت.
أطلق مجدى زفرة حارة وهو يتأمل فريال التى كان يهيم بحبها فى الماضى , ويكتشف كم تغيرت هذه المرأة الجالسة معه عن الفتاة الشابة التى تعلق بها قلبه ورفض أن يسكن غيرها فيه, وعلى الرغم من تقدمها بالعمر خمسة وعشرين عاما عن آخر لقاء لهما الا أنها ما زالت تحتفظ ببقايا جمالها الذى انهار تحت وطأة معاناتها وحزنها العميق .
-ما هو الأمر المستعجل الذى كنت تريد رؤيتى لأجله ؟
تنحنح محرجا قبل أن يجيبها:
-ألا نتناول شيئا مرطبا ؟
اندفعت تهاجمه بغير هوادة كما هى عادتها فى معاملته منذ الأزل:
-أنا لم آت الى هنا لأجل التسكع معك.
أسقط فى يده اهانتها الجارحة له , وقد ندمت على الفور ما أن نطقت بكلماتها فحاولت أن تلمس يده معتذرة الا أنها سحبها بسرعة وهو لا يحتمل لمستها الساحرة:
-أنا آسفة حقا يا مجدى , فلا ذنب لك بكل ما يحدث, لا ادرى لم أعاملك بهذه الطريقة, فأنت الصديق الوحيد الذى وقف بجانبى.
لم يخف انزعاجه من وصفها له بالصديق , أكثر مما أزعجه انفجارها فى وجهه.
-لا يهم , أردت أن أقول لك : أن تهتمى بلبنى وتحاولى التقرب اليها , فنحن بحاجة لدعمها فيما تواجهه.
اندهشت فريال من مطلبه فلم تعتد منه على انتهاج أسلوب التخطيط الخفى , ودمج القوى للوقوف فى جبهة ضد أخرى بالنسبة للعائلة.
-أنا لا أصدق ما تقوله , أنت يا مجدى دونا عن الجميع تريد أن تقسم العائلة الى جبهتين , والى أى جبهة تنتمى ؟ لا تخبرنى , دعنى أحرز , بالنظر لعلاقتك التى توثقت بأخى محمد فأنت حتما تشجع رفيق.
وأكملت منفعلة بحقد كامن:
-ألم يحن الوقت لوقف هذا النزيف من الكراهية المتبادلة بين الأشقاء ؟ ألم أكن ضحية لهذا التصرف المشين من قبل , وقد طال وجدى -رحمه الله -أيضا.
واغرورقت عيناها بالدموع التى فاضت رغما عنها , حين تذكرت مأساتها الماضية والضرر الذى لحق بها وبأخيها المفضل والذى كان أقرب اخوتها لها حيث أنها كانت الابنة الصغرى المدللة لعائلة الشرقاوى , وكانت تُعامل كأميرة ... أميرة عائلة الشرقاوى التى جرحها الزمان ووطأ فوق ألمها فأدمى قلبها المكسور.
لم يتحمل مجدى دموعها وآلامها التى عادت من جديد , فحاول تهدئتها بكلماته الحانية ولهجته المواسية
-لا فائدة من العودة الى الماضى الا أن تنكأ جراحنا .
-لا تقلقى يا عزيزتى فأنا الى جوارك ولن أتخلى عنك أبدا.
-فات الأوان يا مجدى , فريال القديمة قد ماتت الى الأبد يوم ... ذات يوم ربما أستطيع التغلب على أحزانى المريرة ولكننى لن أنساها أبدا , ألست محقة؟
-ومن قال لك أنه عليك نسيانها؟ أنا اليوم جئت أطالبك بالذكرى.
واندهشت فريال من غرابة طلبه واستوت فى جلستها تنصت له فى اهتمام متزايد فقد كان ما أخبرها به صادما وغريبا جدا.


****************

SHELL 16-10-18 01:09 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

جافى النوم عيون شريفة هانم فى هذه الليلة , فنهضت معتدلة وهى تستند الى عكازها الخشبى الذى تلجأ له فى بعض الأحيان حين تخذلها قوتها كما يحدث معها الآن , وراحت تتجول فى أنحاء غرفتها التى تشبه جناحا فاخرا بفندق على أعلى مستوى , وكانت مقسمة الى جزءين الأول يحتوى على غرفة نوم والثانى يشمل غرفة لاستقبال الضيوف , وحماما واسعا , وبينهما جدار فاصل غير مكتمل.
وجدت نفسها تتجه نحو دولابها الخاص وتفتح درجا صغيرا قابعا بداخله علبة كبيرة تضم صورا فوتوغرافية قديمة فأخذته بحرص واستلقت على الشيزلونج الوثير الذى ترتاح عندما تتمدد عليه اذا ما خاصم جفونها النوم كما يحدث ليالِ طوال , بيد مرتعشة بدأت تنسق صور ذكرياتها السعيدة بالترتيب الزمنى لها كما كان مطبوعا على ظهرها.
رأت صورة زفافها من عبد العظيم الشرقاوى – زوجها المتوفى – والذى استمر ما يقرب من الستين عاما , مرا خلالها بالكثير والكثير من السعادة والشقاء , كما يقال يوم حلو ويوم مر , ولكنها تذكرت أن الأيام المرة قد بدأت تتعدى حدودها لتتوغل وتصير أعواما طويلة حتى محت ذكرى أيام الهناء القصيرة التى عاشتها.
ثم ابتسمت بحنان حين تعمقت بالصورة التى ضمت أبناءها الأربعة : ابنها البكرى محمد وهو فى الخامسة عشرة من عمره يافعا منتصب القامة يشبه والده كثيرا , ولاى جواره يقف عادل الأصغر فى أبنائها الذكور متفردا وهو يفتقر الى قوة الشخصية التى كان يتحلى بها وجدى الابن الأوسط وكان فى العاشرة من عمره يحمل بين ذراعيه الابنة الوحيدة لها وهى بعمر يتجاوز العام بعدة أشهر وتتعلق بشدة بأخيها وكأنها تخشى من ضوء الكاميرا المسلط عليهم.
وبدأت تضع الصورة تلو الأخرى حتى كان آخرهم الصورة الحديثة الملونة التى يجتمع فيها ولديها الذين بقيا على قيد الحياة وأبنائهما الثلاثة , بينما اندس كريم وسطهم كمن يبحث عن ملجأ له.
هذه الصورة ينقصها الكثير , عليهم بالتقاط صورة أخرى تضم ابنتها وحفيدتها العائدة.
وحين تذكرت فريال ابنتها المدللة شعرت بغصة فى حلقها , كانت قد هجرتهم هذه الابنة قبل خمسة وعشرين عاما بعد نفى أخيها وجدى من العائلة لتلحق بمنفاها الاختيارى بعيدا عن تسلّط والدهم الشرس, ملقية بكل سبل الراحة والرفاهية تحت قدميها لا يوقفها ترجى ولا تؤثر بها دمعة.
كانت قد أقسمت ألا تطأ قدميها هذه الفيلا طالما كان والدها على قيد الحياة , والعجيب بهذا الأمر أن زوجها لم يقم بحرمان ابنته من الميراث كما كان متوقعا من قبل الجميع فحتى ابنة وجدى التى نشأت بعيدا عنهم منبوذة كوالدها كانت عمودا هاما فى بناء الوصية التى تركها المرحوم – باذن الله – وقد أسعدها انضمامها لهم تحت مظلة العائلة فى رعاية ابنها الكبير.
قد يشبه محمد والده فى الكثير من ملامح وجهه القوية والتى تتسم بالسلطة والقسوة ولكنها يحمل قلبا طيبا يحب الخير للجميع وقد حاول من قبل اثناء والده عن قراره بحرمان أخيه عندما تجرأ ووقف بوجهه رافضا العودة لزوجته الأولى - ابنة عمه هناء - وتمسّك بزوجته الثانية مهجة , التى قابلتها هى لمرة واحدة عندما أحضرها الى الفيلا يوم زواجهما.
وأخرجت من طيات الصندوق الحريرية صورة مخبأة تضم زوجين سعيدين محبين يتطلعان بلهفة لاستقبال نسيم الحرية , كانت مهجة تقف الى جوار زوجها وجدى وعيناها تقرآن آيات العشق الأبدى.
تأملتها السيدة شريفة بتمعن وكأنها تحاول أن تطبع ملامح وجهه الدائرى البض وتجد أن لبنى ابنتها لا تشبهها البتة بل قد ورثت عن أبيها لون عينيه وأنفه الجميل , وأخذت منها هى الشعر الحريرى البنى عندما كانت شابة فى مقتبل العمر.
وتنهدت بحرقة على ايام شبابها الضائع , ثم أخرجت صورة أخرى مطوية وقد ظهرت عليها معالم القدم وكأنما بهتت لشعورها بالوحدة والنسيان وتأملت الفتى البهى الطلعة واقفا بشموخ ينظر باستهتار الى الكاميرا ولسان حاله يقول : أنا سأظل على حالى وان لم يرق لكم هذا فلتضربوا رؤوسكم بأقرب حائط لن أتغير ابدا , وفكرت أنه لم يتغير أبدا, وظل على عناده حتى النهاية.

*****************

SHELL 16-10-18 01:11 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل السادس


https://akhawat.islamway.net/forum/a...11a255c599fbc0

SHELL 16-10-18 01:44 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


الفصل السابع


http://avanarah.unblog.fr/files/2011/03/00ar0548dut.gif

عندما اختلت لبنى بنفسها فى غرفتها الجديدة التى لم تعتد عليها بعد , كانت تشعر وكأنها فى حلم غريب , انها ما زالت بغرفة نومها القديمة فى شقة خالتها حيث تفترش الأرض على السجادة المدورة التى تغطى أكثر من نصف مساحة الغرفة بألوانها المبهجة وملمسها الناعم حيث كانت متعودة على الجلوس وقراءة رواياتها المفضلة تندمج مع أبطالها الخياليين وتنسج لحياتها فصلا بقراءاتها حتى تحتل صدر الرواية وتطرد البطلة لتفوز فى النهاية هى بحب البطل , هل تستطيع أن تحول الأحلام الى أرض الواقع ؟
اتصلت بخالتها مديحة , تلك السيدة التى تكفلت برعايتها منذ وفاة والديها , وقد أحسنت معاملتها بل كانت تعتبرها الابنة التى لم تنجبها , فقد كانت متزوجة من رجل طيب يعمل بوظيفة وكيل وزارة ولم يكن يملك الكثير فاحتملت معاناة الحياة معه وأنجبت له ابنا واحدا هو حسام الذى يكبرها بستة أعوام , تذكرت شجارهما الدائم وعدم توافق ميولهما الواضح , لم يرث طيبة أمه ولا كياسة أبيه.
كان يحلو له أن يضايقها عندما كانت مراهقة , وأصبح ينتقد تصرفاتها متدخلا فى كل كبيرة وصغيرة عندما دخلت الجامعة , وحمدت ربها عندما تزوج بعد أقل من سنة من خطبته لزميلته بالعمل فأصبحت لا تراه الا نادرا.
جاءها الصوت الحنون الذى طالما هدأها فى لياليها المرهقة التى أضناها السهر والصداع القاتل الذى يصيبها من حين لآخر:
-ل.. لؤلؤتى ... كيف حالك يا حبيبتى؟
-بخير يا خالتى , أنا فقط أردت الاطمئنان عليك
-أنا قلقة عليك , هل كل شئ على ما يرام؟
ابتسمت لبنى لنفسها بمرارة وقد غص حلقها بالكلمات فأبت أن تخرج لتريح قلب السيدة الرؤوف , ولكنها قمعت بداخلها الرغبة الملحة بالبكاء وتنحنحت لتقول بصوت شبه ثابت وبقوة لم تعهدها فى نفسها :
-لا تشغلى بالك , فجميع من تسببوا بالأذى لأمى ولى سينالون ما يستحقون.
حذرتها خالتها من مخططها الانتقامى:
-لا يسبب الانتقام سور شعور مؤقت بالراحة , بعدها .. لن تنعمى بالراحة أبدا, لم لا تصفحين ؟
-أصفح ؟ بهذه السهولة والبساطة بعد عمر ضائع ؟
-لا عليك فأنت الآن مشوشة التفكير ولن تتخذى القرار المناسب , أتوسل اليك أن تؤجلى أى فعل حتى تهدأ نفسك وتنقشع الغيوم من ذهنك
كانت لبنى قد اتخذت قرارها ولن تتراجع عنه مهما كلفها , فلم يعد لديها ما تخسره , فقدت وظيفتها , بيت السيدة التى رعتها , حبيبها , راحة بالها.
-أنا مضطرة أن أغلق معك لأننى أسمع طرقا على بابى , الى اللقاء.
-فى رعاية الله يا ابنتى , حماك الله من كل شر.
وكان هناك من يقف ببابها منتظرا اجابتها بفارغ الصبر , فوضعت هاتفها الجديد على المنضدة بجوارها ونهضت مرتجفة وهى تحاول استعادة شتات روحها الممزقة قبل أن تواجه القادم.
كانت ريم ابنة عمها تنتظرها بمرح فائق وهى تدلف الى الغرفة وتقول بصوت عالٍ:
-أين ذهبتى ؟ لقد قلقت عليك , أيمكن أن نجلس لنتحدث معا بعض الوقت؟
لم تنتظر اجابة الفتاة المذهولة أمامها بل اتخذت مجلسا على الأريكة الفخمة المصنوعة من القطيفة واتخذت وضع القرفصاء لتبدو مرتاحة وكأنها تنوى البقاء بغض النظر عن موافقة ابنة عمها, فلم تملك لبنى الا أن تجلس بجانبها وهى تشعر برغبة فى افراغ ما بداخلها من شحنات التوتر وقد ملأت ريم جو الغرفة بالروح الايجابية.
-طبعا تفضلى ولو أننى أرى أنك قد سبق واتخذت قرارك
نظرت لها ريم بغموض لم يلبث ان تحول لضحكة عابثة كشفت عن صفى من الأسنان المنتظمة البيضاء أصافت لجمال ابتسامتها روعة وبهاءاً , ثم اعتذرت منها :
-أنا آسفة لتطفلى عليك هكذا , ولكننى لا أجد من أتحدث اليه فى هذا المنزل , ولم أصدق حظى الحسن لأجدك الى جوارى ونحن تقريبا فى نفس السن , أليس كذلك؟
-ما هو عمرك؟
-خمسة وعشرين عاما
ضربت لبنى كفا بكف ريم وهى تقول بمرح:
-بصرة!
مما اكد لريم بالفعل صدق ظنها.
أخذت القريبتان تتحدثان بعفوية وطلاقة كأنهما قد نشأتا سوية ولم تفصلهما السنوات البعيدة عن المعرفة , ولم تجمد ثلوج الجفاء قلبيهما النابضين بالحياة , وقد انفتح لها قلب لبنى فريم تجسد معانى الأخوة التى حرمت منها لبنى بابتعادها عن مركز العائلة.


***********

SHELL 16-10-18 01:45 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

فى جناحها الخاص بها هى وزوجها جلست السيدة منى وهى تشعر بالغيظ يتآكلها من تصرف هناء الغير متوقع , فبعد دخول ابنة زوجها الغائبة الى موقع متميز بالعائلة والترحيب الحافل الذى نالته ظنت هى أنها ستتحالف معها لأجل أن تحققا انتصارا عليها وتفوزا بأكبر قدر من التركة , انها تشعر بأن هناء تخطط لشئ أهم وأعظم بدون أن تحاول لفت الانتباه اليها , يا لها من متفذلكة تريد النيل من ابنة غريمتها التى حرمتها من التمتع بكونها زوجة وجدى الشرقاوى وابنة عمه وأم وحيده , وتحاول تأمين مستقبل ابنها , بيد أنها رفضت الاقتناع بمحاولة تقريب وجهات النظر بين ابنها وريم ابنة عمه , فقد أرادت منى أن تضع خططا للزواج تؤمن لابنها حظا وافرا بزواجه من لبنى , وفى ذات الوقت تبعد رفيق عن نيل الحظوة الكبرى اذا ما فكر فى الارتباط بابنة عمه.
خرج السيد عادل – زوجها – من الحمام المجاور لغرفة نومهما وهو يتثاءب بكسل , لطالما كرهت منه ضعفه وقلة طموحه وتساءلت فى نفسها لماذا كان عادل الابن الأكثر خيبة بين اخوته فمحمد الأخ الأكبر مثلا لا ينقصه الطموح والسعى وراء اثبات الذات منذ أن كان شابا صغيرا لم يتجاوز عمره العشرين عاما , وكان بمثابة الظل للشرقاوى الكبير – جده – ومن بعدها أبيه , فتشرب منهما حب العمل والحفاظ على مجد الامبراطورية العظيمة التى تكونت على مر الزمان وصارت كالأخطبوط تتمدد بسرعة فائقة وتتوسع بدون حدود.
أما عن وجدى – رحمه الله – فلم يكن مولعا بالمال والسلطة ولكنه كان ذا قلب من ذهب , فهى تذكر جيدا كيف كان ساعيا وراء مشاعره متجاهلا أى أعراف أو تقاليد فترك زوجته الأولى وابنه من أجل امرأة أخرى دق لها قلبه , ورفض التخلى عنها مضحيا بكل غالِ ونفيس .
وجاء الدور على فريال – الأخت الوحيدة – لزوجها فعندما تزوجت من عادل منذ ما يقرب من الثلاثين عاما , كانت فريال ما زالت فتاة فى مقتبل العمر مدللة فاتنة تنال كل ما تشتهيه وكان والدها يعاملها كالأميرة بل لقد كان يطلق عليها بالفعل لقب ((أميرة الشرقاوية )) وأحيانا كانت ترى حماها القاسى الشديد القوى الشكيمة وهو ينحنى بخفة ليلاطف ابنته الغالية على قلبه وكان يتنازل من أجلها عن بعض من أوامره الصارمة والتى لم يكن يجرؤ أيا من اخوتها الذكور على مناقشتها.
الا أن تذكرت ما حدث لها بعد زواجها من الرجل الذى أحبته بدون رضا والدها فكان أن غضب عليها اشد غضب وتبدلت معاملته على نحو مائة وثمانين درجة , فكانت مثار شفقة الجميع لما نالها على يد أبيها من عقاب.
وقام بعد ذلك بارسالها الى الخارج حتى تستكمل دراستها ويتخلص من رؤيتها يوميا فتثير فى نفسه الضيق لما قامت به , وكانت هى قد أقسمت ألا تعود لهذا البيت أبدا طالما كان أبوها حيا , والأن فقط استطاعت أن تأتى لتمكث معهم رافضة أى تواصل معها من أى نوع , حتى من أمها السيدة شريفة التى وقفت عاجزة أمام جبروت وطغيان زوجها وهى تراه يفرقها عن أبنائها الواحد تلو الآخر , غير عابئ بلهفة الأم بداخلها على ضناها , وكان ممنوعا منعا باتا أن تذكر سيرة وجدى أو فريال طوال فترة حياتها هنا لم ترى حماها منفعلا كما كان يوم علم بزواج ابنته من ابن عمها دون ارادته , فى حين أنه كان الساعى نحو تزويج ابنه وجدى من ابنة عمه هناء ولم تعرف منى اذا كانت هناء سعيدة بزواجها من وجدى أم لا فيبدو عليها أنها قد ارتاحت عندما ترك المنزل وأقام مع زوجته الثانية مبتعدا عن كل ما يربطه بالعائلة حتى ابنه البكرى كريم.
كان هذا فى صالح ابنها سيف , أن تحاول هى تكوين جبهة مع هناء ضد رفيق ابن محمد , فاذا اعتمدت على زوجها عادل فى انقاذ الموقف عليها أن تصبر للأبد , تخطط هى لتزويج سيف الى لبنى وتبقى ريم من نصيب كريم.
وحتى لو أخبرت عادل بما يدور فى ذهنها فلن يوافق على مخططها وسيقول لها " دعى الملك للمالك " فهو متواكل لا يحب أن يحفر فى الصخر بيديه مكتفيا بوظيفة غير لائقة بشركات أبيه تاركا الادارة بأكملها من نصيب محمد وابنه رفيق اللذين استوليا على كل شئ من الألف للياء حتى ابنها الوحيد ليس عارفا ببواطن أمور الشغل وتسيير الأعمال واضعين له حدا بتواجده فى قسم العلاقات العامة بحجة أن هذا هو مجال تخصصه, ناكرين عليه حقا أصيلا فهو من الورثة الشرعيين.
ولكنها عادت فتذكرت كريم الذى يتولى الأمور القانونية بالشركة الرئيسية ويشرف على بقية المحامين الصغار الذين يعملون لصالحهم فى الفروع الأخرى , ولكنه مع ذلك يعرف بواطن الأمور وجميع الخفايا التى يتولاها رفيق بدون علم العائلة , فعليها أن تدبر خطة محكمة حتى يخلو لها الجو هى وابنها الذى لا يدرى شيئا عن أفكارها المتآمرة , ولن تحاول اخباره فى هذه المرحلة الحرجة حتى لا يقف بطريقها فعلى الرغم من كل شئ هو متعلق جدا بعائلة أبيه ويحب كريم ورفيق كأخين فقد نشأ الثلاثة بهذا البيت وترعرعوا فى كنف جدهم الذى لم يكن يفرق بينهم فى المعاملة وهى شاهدة على ذلك , وتمنت لو دامت الأمور كما كانت فى عهد حماها فلم يكن يملك أيا منهم معارضته فى أى قرار يتخذه حتى حماتها لم تملك يوما أن تناقشه ولو فى قرار يخص أولادها وحياتهم الشخصية.
-بم تفكرين ؟
ألقى عليها عادل هذا السؤال عندما خاطبها ولم ترد عليه فانتفضت من شرودها وهى متضايقة أنه قد قطع عليها استرسال حبل ذكرياتها
-لا شئ , ماذا تفعل ؟ هل ستنام ؟
قالتها وهى تراه يتمدد على السرير المزدوج بغرفتهما
-نعم سأنام , هل هناك ما يمنع أن أرتاح ولو قليلا فى غرفتى؟
كان الجفاء مسيطرا على علاقتهما منذ سنوات طويلة بعد أن كان السبب فى حرمانها من القدرة على انجاب اخوة لسيف وما أثر على حياتها بالسلب بعد أن عانت من نظرات الاشفاق من جميع من حولها.
-لا يوجد ما يمنع , أنا سأترك لك المكان بحاله لتستطيع أخذ حريتك فى النوم.
وقامت لتخرج من الغرفة وصفقت الباب خلفها بعنف فلم تسمع همسه وهو يقول بضعف وتخاذل
-يا ليتك تغادرين حياتى الى الأبد.
ثم أغمض عينيه بقوة حتى يمحو أى أثر لها من ذهنه فيصفو فكره ويستسلم لسبات نوم عميق.


************

SHELL 16-10-18 01:49 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

كانت هناء جالسة فى الشرفة بجانب هادئ منها يظلله الاشجار الوارفة بحديقة الفيلا والتى يمتد عمرها لعشرات السنين منذ أن قام الشرقاوى الكبير بانشائها , وعادت بذاكرتها للوراء حين كانت فتاة صغيرة تلهو بشرفات المنزل وتختبئ هى وأخوها من أبناء عمومتهم الذين يكبرونهما فى العمر ويحاولون الامساك بهما وهم يلعبون (الاستغماية) , كانت تكبر أخاها بعامين كاملين ولكنها ما زال أصغر أبناء عمها يفوقها بعام واحد , فكانت تخشى كثيرا من خشونتهم فى اللعب وعنفهم القابل لالحاق الأذى بهما , وكان جدهم دائما ما يقف الى صف الأطفال الأقل سنا , وعرف عنه نزاهته وعقله الكبير فى موازنة الأمور , لماذا كانت تشعر هناء فى طفولتها البعيدة بالوحدة حتى وهى محاطة باهتمام من حولها فقد توفت والدتها وهى تلد أخاها الصغير وعاش والدها بعدها عازفا عن الزواج بأخرى وعازفا عن الحياة نفسها , تاركا رعاية الصغيرين لأمه الحنون التى كانت تنهل عليهما بعطف خاص كثيرا ما أثار غيرة عمها عبد العظيم الذى كان يرى أنه تبالغ فى تدليلهما وتخصهما بمميزات أكثر من أبنائه الذكور الا أن ابنته فريال كانت الاثيرة لدى الجد الكبير برقتها وجمالها الأخّاذ ولانها كانت الحفيدة الأخيرة وكما يقال (آخر العنقود سكر معقود) فكانت حلاوة روحها تفوق جمالها الخارجى.
لا مجال لالقاء اللوم على أبيها فيما آلت اليه حياتها من مسار خاطئ , منذ البداية كانت تعرف أنها بلا سند منذ توفى جداها , وبقيت فى رعاية زوجة عمها – السيدة شريفة – والتى لن تنسى أبدا معاملتها اللطيفة لها وحبها الذى أغدقته عليها بدون حساب كما لو كانت ابنتها هى , ولولا وجودها لكان عمها قد أحال حياتها الى جحيم لا يطاق , فأصبح يعاملها بقسوة محاولا وضعها بطبقة غير الطبقة التى ينتمى لها أبنائه , وكان اباها دائما صامتا أمام شكواها ليس لضعف بداخله ولكن لفتور شعوره تجاه البشر عامة وأبنائه خاصة , كانت تشعر بأنه يلوم أخاها على موت والدتهما فكان يعتبره السبب فى هذا الحرمان ممن كان يعشقها بجنون ويرتشف معها رحيق الحياة.
ولن تنسى يوم زفافها الى وجدى ابن عمها ولا توسلها الى عمها حتى لا يتمم هذه الزيجة فقد كانت صغيرة جدا على مثل هذا الارتباط , ولا تعى من الحياة الا مشاعر طفولية بريئة , وهى لا تنكر أنها كانت تشعر بميل نحوه الا أن مشاعرها الوليدة تجاهه قد ماتت لحظة اعلان زواجهما , والذى كان يضمن لعمها سكوتها عن نصيبها بالميراث فى المستقبل وحقه بتولى ادارة الأعمال كاملة بدون منافسة , وحتى ولو رفضت فما كان سيحدث أكثر من أن يتنازل أبوها عن حقهما بكل هدوء وبساطة فما فعلته كان أن حمت نفسها وأخاها من الغدر بهما والقائهما خراج وسط العائلة بعد وفاة أبيها التى جاءت باسرع مما تخيلت فقضت على أى احتمال لها بالسعادة فى وضعها الجديد كزوجة أو أم.
ولم يخفف عنها أبدا احتواء وجدى لمشاعرها واهتمامه المتزايد باحتياجاتها حتى صار يعاملها كملكة بعد أن عرف بحملها المؤكد , لا تنكر أنها قد ساهمت بتصرفاتها الحمقاء ومشاعرها الفاترة فى تحويل حبه لها الى ذكرى مرة أصبح يحاول نسيانها فكان يسافر كثيرا ويبذل جهدا خرافيا للمحافظة على صورة الزواج السعيد عندما يضطر الى المبيت بالمنزل معها , وبعد أن أنجبت كريم , اعتقدت أنه يمكنها اصلاح ذات البين , بعد أن اطمأنت الى أنها قد ثبتت قدميها فى اساس هذا الصرح , بينما صار وجدى شخصا غريبا عنها لا تعرفه أبدا , وكان قد اتخذ قراره بالابتعاد نهائيا عنها.
لماذا عادت هذه الفتاة الضالة الى حظيرة العائلة بعد غياب طويل جعلها تنسى وجودها من الأساس , وهى مدركة أنها غير مذنبة بما حدث فقد كانت فى علم الغيب عندما توطد الخصام مع زوجها حتى مهجة – زوجته الثانية – لم تكن تكرهها أو على الأقل لم تكن تعتبرها غريمة لها , ولا تدرى لما أثارت رؤيتها للبنى المشاعر القديمة بالحقد تجاه هذه العائلة التى سلبتها كل ما كانت تعتز به , كرامتها , شبابها , حقها بالميراث , والأهم شعورها كانسانة سوية , لم يصمد أمام جبروت عمها سوى ناجى ... وقد ذهب الى الأبد ولن يعود مجددا.


**************

SHELL 16-10-18 01:51 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

-صباح الخير
ألقت لبنى عليها تحية الصباح بوجه بشوش مرح لا يتناسب مع طبيعة العلاقة المتوترة بينهما , فاستغربت كثيرا من جرأة هذه الفتاة.
فأشاحت بوجهها بعيدا عنها وهى تتذكر ملامح زوجها الرحل وهى محفورة على وجه ابنته
-هل يمككنى أن أتشارك معك فنجانا من القهوة الصباحية اللذيذة ؟
قالتها ونظرت الى البخار المتصاعد من الفنجان الخزفى الموضوع أمام السيدة هناء على منضدة خشبية صغيرة.
-يمكن أن تفعلى ما شئت , ألست وريثة هذه العائلة المدللة؟
اتخذت لبنى مقعدا بجوارها بدون أن يبدو عليها الضيق أو التأثر بما قالته , بل ابتسمت بهدوء
-أنا المدللة ؟ أنت لا تعرفين شيئا عن حياتى ؟
-ولكنك الآن لن تشتكين من أى سبب لنقص الرفاهية بحياتك , فقد أصبحت تملكين الكثير كما أنه مرحبا بك هنا حتى اكثر منى أنا التى عشت حياتى كلها فى هذا المنزل.
-أنت مخطئة بالتأكيد , فأنا أتعاطف معك كثيرا , وأشعر بأن ... بأنك قد ظلمتى كثيرا.
-غير معقول!
اندهشت هناء من ابدائها مثل هذا التفهم لمشاعرها وهى التى كانت تظن أنها لا تطيق حتى القاء نظرة عليها, فثار فضولها بغريزة طبيعية
-ما الذى يجعلك تبدين نحوى مثل هذا الاهتمام؟
-أنه لديك أسبابا كثيرة ولكنها تختلف عن أسبابى لتكرهى هذه العائلة , وربما أردت تحقيق الانتقام أيضا.
ضربت على وتر حساس لديها , فقد طالبتها منى منذ ايام بأن تقف معها بمخططاتها حتى ينالا من هذه العائلة وكل منهما لها أسبابها الخاصة الا أنها تملصت منها بخبرة دون أن ترفض الوقوف الى جانبها صراحة.
الا أنها تفاجأت كثيرا بهذه الفتاة وجرأتها الوقحة حتى تحاول استمالتها الى صفها فى مواجهة العائلة , ولم يكن لديها علم بأن عدائها كان موجها نحو شخص واحد وهو عمها الذى ظلمها من قبل.
-أنا لا أكره العائلة التى أنتمى اليها أنا وولدى , فاسم الشرقاوى لا يمكن أن تدنسه فتاة مثلك لم تتربى على عاداتنا ولم تتشرب فى صغرها الولاء لهذا المنزل.
-لا تتسرعى بحكمك علىّ , فلدىّ ما أخبرك به , وأنا واثقة أنه حين انتهى لن ترفضى أبدا هذا التحالف بل وستسارعين لمساندتى والوقوف الى جانبى.
كانت سماح فى هذه اللحظة قد اقتربت منهما حاملة فنجان القهوة الخاص بلبنى حيث كانت قد أخبرتها بأن تجلبه لها على الشرفة الواسعة , فاندهشت حينما وجدت الاثنتان تتشاركان المجلس وكأنهما قريبتان حميمتان , لم تكن تعرف ما هى الظروف التى جعلت زوج السيدة هناء يقترن بأخرى لأن هذه أحداث من الماضى وهى لم تمكث فى خدمتهم سوى منذ ثلاثة سنوات ولكنها بالتأكيد لا تحتاج لخبرة لأن تعرف بأنه لا بد من وجود عداء بين الابنة وزوجة أبيها حتى ولو لم تلتقيا من قبل.
-صباح الخير يا سيدة هناء , صباح الخير يا آنسة لبنى.
ووضعت الصينية التى تحمل فنجان قهوة وطبقا مليئا بالبسكويت المشكل مرصوصا باحترافية عالية , وصرفتها هناء بعد أن تلقت أوامرها بشأن تحضير الوجبة للغداء.
تساءلت لبنى بعد انصراف الخادمة عن السبب فى عدم اجتماع العائلة على مائدة الافطار
-منذ وفاة عمى – رحمه الله – والجميع متشاغل بأموره الخاصة ولم تعد الأمور كالسابق , كما أن لكل واحد منهم عمله الذى يجبره على الخروج مبكرا فقد كان الأمس استثناءا لوجودك معنا.
واستشفت لبنى عدم رضا هذه السيدة عن المعاملة الخاصة التى تلقاها من أفراد العائلة, وكانت قد درست هذا الموقف ووجدت أنها لا بد ستغير رايها مائة بالمائة بعدما تفضى اليها بما تعرفه.


**************

SHELL 16-10-18 01:52 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

لمحت فريال طيفا بجانبها وهى تهبط درجات السلم الرخامى , فالتفتت بسرعة لتجد ابن أخيها رفيق يحاول لفت انتباهها بدون اثارة ضجة حيث همس لها
-أريد أن أتحدث معك لحظة يا عمتى
ثم اشار لها اشارة خفية لتلحق به ووجدت نفسها تتبعه متوجهة نحو غرفة المكتب حيث كانت هذه هى غرفة والدها المميزة التى يقضى فيها أغلب أوقاته بعيدا عن الازعاج والضوضاء دون أن تعى أن هناك زوجان من العيون كانتا تراقبهما بحذر وثبات من مكان خفى.
دلفت الى الغرفة التى لم تطأها منذ خمسة وعشرين عاما ولكنها الآن خالية من صاحبها الذى أثار رعبها فى آخر لقاء لها معه , وأغلقت الباب بحرص ورائها فلا بد وأن رفيق لديه سرا ما يريد أن يطلعها عليه , وقد كان ابن أخيها هذا مقربا منها أكثر من غيره فهو الوحيد الذى كان يودها طوال السنوات الماضية التى قضتها فى لندن الباردة بعيدا عن دفء الأسرة ولكنها كانت تشعر بأنها أرحم من البقاء فى ظل الأجواء المشحونة بعد خلافها الكبير مع أبيها , وكانا كثيرا ما يتقابلان فى انجلترا عندما يأتى لزيارتها.
استند رفيق على طرف المكتب الخشبى ذى اللون البنى الفاتح وهو عاقدا ذراعيه فوق صدره منتظرا أن تأخذ وقتها لتستريح على مقعد جلدى أمامه قبل أن يبادرها بسؤاله الذى اثار توترها
-ما الذى يدور بينك وبين مجدى فى الخفاء؟
على الرغم من أن الفارق فى العمر بينهما لم يتجاوز الاثنى عشر عاما الا أنه كان معتادا على احترامها وعدم تجاوز حدوده فى التعامل معها
-ما هذا السؤال الغريب يا رفيق ؟ وكيف تخاطبنى بهذه اللهجة؟
-لا أعرف , ربما تملكين أنت الاجابات على كل هذه الأسئلة.
أشاحت بوجهها بعيدا عنه وهى محتارة كيف عرف بمقابلتها لمجدى.
-بداية , أصر مجدى على احضار لبنى الى هنا بناءا على وصية جدى كما قال وتولى هو هذا الأمر بدون أن يطلع أحدا عليه , ثم أكتشف أنه على اتصال بها من وراء ظهورنا , ويأتى الآن دورك لتتلاعبى معه أيضا فى الخفاء , ما هو تفسيرك لما يحدث ؟
-أنا لا أعرف عما تتحدث فلم أقابل .. لبنى من قبل الا عندما حضرت الى هنا يوم اعلان الوصية , ولم أتبادل معها حتى حديثا شخصيا , فما الذى تسعى وراء اثباته يا ابن أخى ؟
فك رفيق عقدة ذراعيه واقترب خطوتين من عمته حتى بدا لها عملاقا مخيفا بطوله الفارع ووجهه العابس فشعرت بالتهديد ولكنها أوقفته عند حده
-لا تسمح لنفسك أبدا باستجوابى , واذا أردت مقابلة من أشاء فسوف أفعل وقتما أشاء , لم يعد لأحد هنا من سلطان علىّ.
رفع هو حاجبيه بطريقة مدروسة كأنما فوجئ بردة فعلها ثم قال بصوت كالفحيح:
-هكذا تبدلت الأحوال وصرت تدبرين المؤامرات مثلك كمثل زوجات أخوتك , ولكن ما الذى يهدف له مجدى , هذا ما أتعجب له , هل وعدتيه بالزواج هذه المرة حتى يساعدك؟
-اخرس
هدرت بغضب وهى تهب واقفة على قدميها غير محتملة هذه الاهانة الجارحة
-بأى حق تحدثنى هكذا؟ ما الذى جرى لعقلك؟
لم يأبه لغضبها المتفاقم بل وكأنه كان متوقعا لهذا فأجابها بثبات يحسد عليه
-ان عقلى عاجز عن استيعاب ما يدور بهذا البيت منذ فترة , أفاجئ بان جدى أضاف شرطا عجيبا لوصيته وهى اقامة لبنى معنا هنا اضافة الى استلامها لنصيبها فى الميراث وكأن شيئا لم يكن , وأراك تعودين بعد طول غياب فتتحدين مع مجدى الذى أراه يضع خطة محكمة ويحبك تفاصيلها مستغلا ضعفك تجاه ما حدث بالماضى.
لو لم يهاجمها رفيق بهذا العنف لكانت قد أخبرته بما دار بينها وبين مجدى بعد مقابلتهما , ولكنها الآن آثرت ابقاء هذا السر طىّ الكتمان فلا بد وأن رفيق له مطمعا بالثروة وهى التى كانت تتخيل أنه يختلف عن الآخرين الذين لا هم لهم سوى المال.
-وما الذى يضايقك فى بقاء لبنى معنا؟
كان سؤالها مباشرا بسيطا ومع ذلك كانت الاجابة عليه معقدة جدا وتتطلب وقتا طويلا ليستخلص هو بنفسه ما الذى اثار ضيقه من تواجدها بالمنزل , فهو لا يعرف هل الأفضل أن تكون قريبة منه وبعيدة بنفس الوقت أم من صالحه أن تبقى بعيدة كل البعد عن نطاق حياته على الأقل فى هذه الفترة العصيبة بعد وفاة جده وقبولها السريع بالشرط , هذا لا يعنى على الاطلاق أن لم يكن يتمنى أن يراها ولكنه أراد أن تستقر الأمور قبل أن تطأ بقدميها عش الدبابير , علاوة على أنها اصبحت فى نظره ساعية نحو الثروة وليس الترابط الاسرى هو ما حرك مشاعرها.
-أنا لست متضايقا من وجودها , على العكس أنا سعيد جدا لتقاربها مع ريم وسيف وكريم , كما يهمنى رؤية أنّا شريفة مرتاحة وهادئة البال بعد طول معاناة مع الألم والفراق , بالمناسبة ألا ترين أنك تعاملينها بحدة وقسوة لا مبرر لهما؟
تأففت فريال من حشرية ابن أخيها فى كل أمورها
-أليس لديك شيئا أفضل لتقوم به بدلا من مراقبة تصرفاتى وأفعالى ؟
-حسنا يا عمتى , افعلى ما شئتى ولكن لا تصرخى مستنجدة بى بعدما يقع المحظور.
لم تعرف عن أى محظور يتحدث , ولكنها خمنت بأنه يقصد علاقتها مع مجدى, وطمأنته:

-لا تشغل بالك بأمرى , كما أنه لا يوجد ما يجعلنى أخاف من مجدى , فهو يعزنى جدا
لم يكن رفيق عالما بما حدث فى الماضى بالتفصيل ولهذا لم يجد ما يطيل به الحديث أكثر من هذا , فهز كتفيه مستسلما
-أريدك أن تدع لبنى وشأنها يا رفيق , لا تحاول مضايقتها
-وبأى صفة تحذريننى الآن؟
-بصفتى عمتها كما أننى عمتك , فلا تنس هذا
-لا يوجد من يخاف عليها أكثر منى , وأنت بالذات لا أعتقد أن اهتمامك بها نابعا من القلب , فالكل يعرف بأنك قد هجرتى العائلة الى غير رجعة , وعدت فقط لأجل ... المال
رد اليها اتهامها السابق له بالسعى وراء المال
-أنت لا تعرف شيئا , فلا تبدأ فى اطلاق أحكامك على الناس.
-سنرى يا عمتى , الأيام ستثبث صدق هذا الكلام.
وابتعد عنها تاركا اياها مذهولة مما سمعته على لسان ابن أخيها المفضل , لا تصدق أنه يقصدها بهذا الاتهام المشين , ولكنها أعطته العذر فهو يجهل الخلاف العظيم الذى نشأ بينها وبين أبيها بسبب ناجى , وليته موجودا الآن ليساندها ولكنه رحل الى غير رجعة.
لا يفيد الندم الآن ! ولا محاولة استرجاع الماضى الا باثارة الجراح القديمة من جديد وذرف المزيد من الدموع الحبيسة التى لا تغير الواقع , ولكنها ستتمسك بالأمل الذى أعطاه لها مجدى فربما يكون محقا


**********

SHELL 16-10-18 01:53 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

كان رفيق متعجلا الرحيل الى عمله بعد مشادته العنيفة مع عمته فريال التى ما يزال مشدوها من تصرفها وعدم انكارها للاتفاق الخفى بينها وبين مجدى المحامى , لماذا يشعر بحقد تجاهه؟ ألأنه قد سبقه الى لبنى وقام بدعوتها ؟ أم لأنه يدبر لشئ ما مستغلا وجود لبنى كابنة لعمه المتوفى وتشاركه فى هذا التخطيط العمة؟ لم يكن مستعدا لاستقبالها هذا الصباح وهى مشرقة وجميلة كنسمة صيفية فألقت عليه التحية
-صباح الخير يا رفيق
-صباح الخير , ما الذى ايقظك مبكرا هكذا ؟
ضحكت بسعادة لم تعرف سرها
-هل نسيت أننى من الطبقة العاملة الكادحة ؟ علينا أن نسعى لكسب معيشتنا؟
ابتسم لها وقال بتعاطف
-ولكنك الآن لست مضطرة لذلك , فقد اصبحت ثرية ولديك ما يكفي للعيش كباريس هيلتون.
-ليس الى هذه الدرجة!
كانت اجابتها خير دليل على جهلها التام بثروة العائلة وكانت تلقائية فى ردة فعلها فلم يشك بأنها ساذجة بريئة يتم استغلالها بطريقة أو بأخرى
-حسنا , اذا كنت غير مقتنعة فتعالى معى لأريك مدى قوة امبراطورية الشرقاوية
كان هذا عرضا لتصاحبه فلم تصدق ما سمعته أذناها
-هل حقا ما تقول ؟ هل ستصطحبنى معك ؟
-هذا اذا ما أتممت استعدادك فى خلال عشرة دقائق , فلن أنتظرك أكثر من هذا
ورفع اصبعه محذرا بجد وقد اعتادت لبنى على هذه الحركة منه فأشرق وجهها وجرت بسرعة الى غرفتها بعد أن أكدت عليه بطريقة ملهوفة
-أعدك باننى لن أتأخر , لن استغرق أكثر من ثمانية دقائق ونصف
تابعها بشغف وهو يراها تتصرف كطفلة صغيرة فى أول يوم دراسى لها, ولم يعرف لما عرض عليها أن ترافقه الى الشركة , هل شعر بقلبه يميل لها لأنها وحيدة لا تجد ما يسليها هنا , ولكن الاجابة الدقيقة التى راودته لم تعجبه على الاطلاق.
سرعان ما كانت لبنى قد جهزت نفسها وارتدت بنطلونا أسود اللون متسعا قليلا عند الأرداف وقميصا حريرا أصفر اللون له حافة مطرزة باشغال يدوية بارزة تظهر على القبة وعلى طرفى الأكمام وفى جانب من القميص , كما انتعلت حذاءا متوسط الارتفاع وعقصت شعرها الى الخلف على شكل كعكة ووضعت لمسة خفيفة من أحمر الشفاه الخاص بها ثم ابتسمت لنفسها مشجعة وشقت طريقها الى الاسفل, بعد أن علقت حقيبتها الصغيرة على كتفها.
ما أن رآها رفيق حتى خفق قلبه بشدة , فقد بدت شديدة الروعة والأناقة ببساطتها والنظرة المرتسمة على وجهها , نظرة لهفة وشوق , هل يتخيل أم أنها فرحة بعرضه لاصطحابها معه الى الشركة ؟
رمقها بنظرة مقيمة حين اقتربت منه فى حين أنها كانت تنتظر أن ترى الرضا على وجهه الوسيم , كانت لدهشتها مهتمة برأيه فى مظهرها
-رائع , هيا بنا
لم ينطق بحرف آخر , رائع فقط ؟ هل هذا ما أفضل ما استطاع قوله , لقد أحبطها رده المختصر ولكنها كبداية أكثر من ممتازة فهو لم يتجاهلها على الأقل.
-ألن نبلغهم برحيلنا؟
استوقفته بعد أن شعرت بريبة لعدم اهتمامه , فقد أسار لها بالاسراع
-لا وقت لدى أمضيه لأخذ الاذن بالخروج , كما أنك لست قاصرا لتنتظرى الموافقة
كان حانقا عليها معنفا اياها بحدة انغرزت فى صدرها بقوة , فلم يبدو عليه أى رقة أو حنان قد لمحتهما سابقا
أما هو فكره نفسه لأنه بدأ يفقد قدرته فى التحكم بانفعالاته منذ أن أقامت معهم بنفس المنزل , وأخذ يسأل نفسه لم يمض على وجودها سوى يومين وانهار خط دفاعه الأمامى متهاويا أمام فتنة برائتها , عليه أن يحذر فى الايام القادمة من انفلات زمام الأمور من يده , فهى الآن تثق به تمام الثقة وعليه أن يستغل هذا لصالحه ويبدأ فى تنفيذ مخططه.


http://www.oknation.net/blog/home/us.../368354d3b.gif

SHELL 16-10-18 01:54 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل السابع

SHELL 21-10-18 09:18 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

http://www.3roos.com/files/ups/2010/...1258937760.gif


الفصل الثامن



جلس أفراد العائلة فى غرفة المعيشة الواسعة التى تتخذ شكلا نصف دائريا , وتوسطت الجدة المكان بين زوجات أبنائها , سوسن تتابع بعينيعا ابنتها ريم التى كانت مندمجة بمتابعة فيلما كوميديا بشغف يعرض على شاشة التلفزيون وتضحك من حين لآخر بصوت مرتفع وهى غافلة,أما هناء فكانت سارحة فى ماضيها البعيد وبذات الوقت تراجع فى ذهنها ما سمعته من لبنى وهى لا تكاد تفهم لماذا اهتمت باخبارها عن والدتها , أما منى فكانت متأففة وتجلس على مضض حيث أنها تريد أن تراقب كل تصرف يقوم به الآخرون فلا يفوتها أى تفصيل ولو بسيط, بينما جلست فريال فى ركن بعيد نسبيا وهى تتلاعب بأصبعها على شاشة هاتفها المحمول , ويظهر على وجهها علامات الانشغال الواضح , لم تتعافى بعد من شجارها الحاد مع رفيق وهى متألمة بداخلها من اتهامه القاسى لطالما اعتبرته بمثابة الابن الذى لم تنجبه, وتخشى على لبنى من اهتمامه المفاجئ فهى لم تغفل عن استقباله البارد لها وتفرسه بها يوم اعلان الوصية , وعليها أن تتشاور مع مجدى لتعرف ما هى خطوتهما التالية وتذكرت أمرا هاما فسألت ريم البعيدة عن عالمهم الواقعى:
-ريم , ألم ترى لبنى اليوم ؟ أين هى ؟
انتبهت ريم على صوت عمتها الناعم وهى تصب كل اهتمامها للاجابة بالنفى ثم تضرب على جبهتها علامة الاندهاش :
-صحيح , أين هى ؟ انها ليست بغرفتها فقد كانت سماح تنظفها هذا الصباح.
وبدأت السيدات جميعهن يبدين اهتمام بالغا بهذه القضية فقالت الجدة بقلق حقيقى:
-أهذا يحدث حقيقة؟ لم ينتبه أيا منكن لغيابها ؟ سوسن , ابعثى فى طلب سماح على الفور.
نهضت سوسن متلهفة استجابة لطلب حماتها وعادت بعد قليل ومعها الخادمة المسكينة التى اصفرّ وجهها ويبدو أن سوسن قد عنّفتها بقوة وجاءت تهرول الى السيدة العجوز صاحبة الفيلا:
-أقسم لك يا سيدتى أننى لم أرها منذ أن كانت جالسة مع السيدة هناء تتحدثان فى الشرفة فى الصباح الباكر , وقد جلبت لها فنجان القهوة كما أمرتنى وانصرفت بعدها الى أعمالى فى المطبخ ولم أنتبه لغيابها , أرجوك صدقينى
قالت السيدة شريفة لتسكت الفتاة المنكوبة بكبرياء:
-بالطبع يا سماح , لا أحد يكذبك , فأنت تعملين هنا منذ سنوات ولم يبدر منك أى تصرف يدل على سوء النية , ولست محل شك.
وصرفتها باشارة من يدها وكأنها أطلقت رصاصة الرحمة فانهارت سماح وسط دموعها وخرجت من الغرفة ترتعش بخوف لم يفارقها بعد.
اتجهت خمسة أزواج من العيون المتهمة الى هناء التى انكمشت لا اراديا تحت وطأة هذه النظرات النارية:
-لقد كنت جالسة لحالى أحتسى قهوتى عندما أصرت هى على الانضمام الىّ وبعدما أنهت قهوتها غادرت المكان ولا أعرف اين ذهبت.
-لا أحد يتهمك بشئ معين الا اذا كنتى تشعرين بذنب وتحاولين اخفائه.
كان هذا اتهام فريال لها وهى حانقة ثم أضافت:
-لا مصلحة لأحد هنا فى اختفائها سواك يا هناء , فأنت لم تنسى الماضى بعد , وأقسم انه اذا ما أصابها مكروه فسوف تندمين العمر كله على مجرد التفكير بلمسها.
قامت هناء بانفعال وهى تنفى عنها هذا الاتهام الظالم وقالت بضيق:
-كيف تجرؤين على اتهامى بأذية لبنى ؟ بأى حق ؟ على كل حال انها أخت ابنى ولن أحاول أن أضايقها أبدا.
أسكتتهما السيدة شريفة بحزم ونهرتهما:
-اصمتا أنتما الاثنتين . لا ينقصنا سوى تبادل الاتهامات علانية , احترما أننا فى فترة حداد , فلا يعلو صوت احداكما مرة أخرى أثناء وجودى , ربما ذهبت لبنى الى مكان ما فلا يعقل أن تقوم هناء بأى تصرف غير لائق , ولا تنسى يا فريال انها زوجة أخيك وابنة عمك .
-الآن أنت تدافعين عنها بحرارة لا أصدق أنك تقفين الى صف الجميع ... الجميع بمن فيهم الغرباء وابنتك التى من لحمك ودمك قد تخليتى عنها وعن ابنتها ...
-اخرسى , لن أسمح لك . واذا كنت تتصورين أنه بوفاة والدك قد أصبحت حرة لتتلفظى بما شئتى فأنت واهمة , أنا ما زلت على قيد الحياة.
قاطعتهما ريم بانفعال وهى تكاد تموت قلقا على الغائبة ومتعجبة من انصراف ذهن المتابعات للمشهد الى غير الوجهة الأساسية :
-يكفينا هذا , علينا أن نعرف أين ذهبت ؟ هل يملك أحدنا رقم هاتفها ؟
كان هذا سؤالا ذكيا من الفتاة الرشيقة التى استقامت فى وقفتها وهى تتابع بشغف ردود أفعال قريباتها , وكان من الواضح أنه ما من مجيب على سؤالها , فكان النفى مسيطرا على الاجابات.
-حسنا , سأتصل برفيق فى الحال.
-لا
منعت فريال ابنة أخيها من الاتصال بأخيها بحدة أدهشت الفتاة بينما تابعت العمة كلامها الثائر:
-يمكننى الاتصال بمجدى فهو يعرف رقم هاتفها بالتأكيد , ألم يكن هو من عثر عليها؟
-لماذا نتصل بشخص غريب اذا كان فى استطاعتنا التواصل مع أخى؟ انه الوحيد الذى يستطيع العثور عليها!
تحدثت عنه وكأنه بطل خارق يقوم بالمعجزات ولم تدرى أنها قد أصابت الهدف بدقة
بعد أن أجرت اتصالا لمدة دقيقة ظهرت على وجهها علامات الارتياح وانفرجت شفتيها عن تنهيدة حارة وودعته
-أخبرنى رفيق بأنه قد اصطحبها معه الى الشركة حتى تتعرف على سير الأعمال وتتسلى قليلا فقد كانت تشعر بالملل الشديد.
تباينت ردود الأفعال ما بين ارتياح واستسلام وغيظ وضيق.
-هل تأكدتى الآن أننى لم أمس الغالية ابنة الغالى بسوء ؟ لقد قام ابن أخيك بالواجب.
بصقت هناء كلماتها فى وجه فريال المذهولة واستأذنت من السيدة شريفة لتذهب الى غرفتها متعللة بالارهاق وقد تفهمت وضعها فأشارت لها بالموافقة
-اذهبى ونالى قسطا من الراحة , فاليوم حافل بالأحداث التى أرهقتنا كلنا , وأنصح كل واحدة منكن بأن تحذو حذوها.
ونادت على ريم حتى تسندها الى غرفتها بالطابق الأسفل لأنها مريضة بالتهاب المفاصل المزمن ولا تستطيع ارتقاء درجات السلم المرتفعة الى الطابق العلوى.
وانفرط رباط الجلسة بقدرة قادر كأنما يدا خفية قد فرّقتهم وأخذت تتلاعب بمصائرهم وتوجهها نحو مصير مجهول.
فذهبت كل واحدة فى اتجاه بعد أن مشت السيدة شريفة بصحبة حفيدتها.





http://upic.me/i/ke/1228394544.gif

SHELL 21-10-18 09:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عندما توجهت لبنى مع رفيق بسيارته الى الشركة حيث عرض عليها أن تشاهد كيف يعملون فربما تتعلم شيئا تملأ به وقت فراغها لعدم اعتيادها على حياة الكسل والرفاهية المبالغ فيها , فقد تأثرت كثيرا عندما وجدت أنه حتى كوب الماء تستطيع طلب احضاره من الخادمة المسكينة التى تقف طوال اليوم على قدميها لتتلقى الأوامر من كل فرد بالمنزل وتعمل كالنحلة بنشاط منذ الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم حين تدق الساعة معلنة انتصاف الليل , وهى التى اعتادت أن تساعد خالتها فى كل عمل منزلى ولو بسيط حتى تخفف عنها من الأعباء ولم تتوانى يوما عن تحمل المسئولية.
طرأ عليها أن تسأله عما يشغل بالها:
-هل نحن ذاهبان مباشرة الى الشركة؟
أجابها رفيق بدون أن يرفع عينيه عن ملاحظة الطريق:
-بالتأكيد
-هل هذا هو الطريق اليها؟
-هل تريدين الذهاب الى مكان معين فى الساعة التاسعة صباحا ؟
-لا ,ليس هذا ما عنيته , كنت أتساءل عن الطريق فقط ,لا شئ.
وسكتت كأنها تحاول أن تخفى انفعالاتها الداخلية ومترددة من مصارحته بالحقيقة.
-ماذا هناك يا أميرة العائلة ؟ هل تخشين أن أختطفك مثلا؟
وضيّق عينيه قليلا ليعاكسها فازدادت سرعة ضربات قلبها كلما ينظر لها بمثل هذه الطريقة التى آلفتها بسرعة وحركت أطيافا من الماضى , كانت على يقين من أنه يحاول اخافتها فقط ولا يأخذ الأمر محمل الجد , وتأكدت من أن مخططها سوف يسير باتجاهه الصحيح حتى النهاية, لقد بدأت بالتنفيذ الفعلى هذا الصباح.
-لا أعتقد أنك تفعل ذلك , كما أنك قد أخبرتنى بأنك مشغول بالعمل.
قالتها وهى غير مقتنعة باجابتها الواثقة وكأنما تحاول أن تبث الطمأنينة فى نفسها
-من يدرى ؟ ربما أغير رأيى فى وقت لاحق فالفكرة تروقنى, وسوف أعيد النظر فى مسألة العمل
ثم أضاف بخبث:
-يمكن للعمل أن ينتظر حتى ... ننهى هذه المسألة بيننا.
-أى مسألة؟
-أظنك تدركين جيدا ما يجرى بيننا , هذا الانجذاب اللا ارادى الذى يشتد كلما حاولنا مقاومته.
كانت تدرك أن ما يقوله به بعضا من الصحة على الأقل بالنسبة لها , أما عن مشاعره هو فهى غير أكيدة من أى شئ بخصوصها.
-أعتقد أنك تبالغ قليلا , فعندما رأيتنى أول مرة لم تكن تطيقنى.
-هل هذا هو اعتقادك؟
-كما أنك أسميتنى بالقطة الشاردة , ألا تذكر؟
بدا عليه الانزعاج ولكنه نجح فى اخفائه بسرعة قياسية ليحل محله تعبيرا غامضا وهو يجيبها:
-أنت بالفعل تشبهين القطة , لا أنكر هذا بعينيك البنيتين الواسعتين اللتين تنظران لى بخوف ووجل الآن كقطة حبيسة ,ولكن هل حقا أطلقت عليك هذا اللقب فى أول لقاء بيننا؟
ألقى سؤاله الأخير وتركه معلقا فى الهواء الذى أصبح مشحونا بالتوتر المتصاعد بينهما فقد كان وراء كلماته نظرات أثارت شجنا واضحا لدى لبنى وتساءلت فى نفسها : هل يستحق ما تشعر به أن يجعلها تتراجع عما تخطط له ؟
-ها قد وصلنا ... يا حلوتى
لماذا يصر على تدليلها بهذه الطريقة المباشرة وكأنه حق أصيل لديه!
بينما يتجاهلها كليا عندما يراقبهما الآخرون وكأنما يراها لأول مرة.
-هل كريم وسيف متواجدان بالشركة؟
-طبعا , فكل فرد فى العائلة يشغل منصبا بالشركة ويتولى جزءا من الأعمال
-تترك لهما الفتات ,أما أنت ... فتتولى كل شئ ألست الريّس؟
تمنت لو قطع لسانها قبل أن تزل بهذه الكلمات الوقحة التى تلمّح الى استيلائه على الادارة وكأنه لا حق له بذلك.
-بدأت تسنين لسانك الحاد بمهارة , أهنئك على ذكائك الخارق فى الاستنتاج.
كانت تلوم نفسها ,فبهذه الطريقة لن تستطيع أن تتقرب منه أكثر اذا استمرت تقذفه بكلماتها الملتهبة ككرات نار مشتعلة وربما يعيد النظر الى مرافقتها له , وليس عليها الا أن تندم بعد ذلك على تسرّعها.




http://upic.me/i/ke/1228394544.gif

SHELL 21-10-18 09:20 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


أخذت ريم تذرع غرفتها ايابا وذهابا وهى قلقة كأنها قطة على نار فما الذى قصده رفيق بقوله : أن لبنى ستظل أمام ناظريه فى العمل , ولماذا تستلم هى منصبا بالشركة بالرغم من حداثة عهدها بهذا النوع من الأعمال بينما هى أخته , شقيقته الوحيدة تظل جالسة فى البيت تتسكع طوال النهار تشاهد أفلاما سخيفة وتقضى وقتها بملل وضيق , فقد حاولت أكثر من مرة أن تقنع والدها بأن تعمل معهم كأبناء عمومتها ولكنه كان دائما ما ينصت لرأى رفيق بأفضلية بقائها بعيدا عن مجال ادارة العمل حتى لا تعرض نفسها للارهاق والمضايقات بدون سبب , كانت راضخة وقانعة بأن توافقهم على مضض , والآن لقد تغيرت الظروف المحيطة بهم وقد رحب أخوها بمشاركة ابنة عمهما الوافدة جديدا للادارة وحتى ولو تولت عملا صغيرا فهذا يعد ضربة لها , وقد تضايقت قليلا بسبب اهتمام الجميع بها حتى سيف اللا مبالى والذى لا يحلو له أن يستفزها على الدوام أصبح حملا وديعا عندما يتحدث الى لبنى وصارت ابتسامته البلهاء تملأ وجهه عندما ينظر اليها, فما السر وراء تغير كلا من رفيق وسيف ؟
انها ستثير عاصفة هوجاء حول هذا الموضوع , وقررت أن تناقش والدها من جديد برغبتها فى الذهاب الى العمل بدلا من البقاء بدون أى فائدة ترجى منها , ولكن عليها أولا أن تعرف كيف ستفاتحه وبأية طريقة ستلمح الى رغبتها بالمساواة بابنة عمها وهما تبلغان ذات العمر كما أنها خريجة جامعية مثلها , اضافة الى أنها تعد من الورثة الشرعيين حتى ولو بعد عمر طويل , حقيقة هى لا تسعى الى المال ولا تهتم به مثقال ذرة , الذى يكدرها أنها ظلت مقتنعة بابتعادها عن سوق العمل بناءا على نصيحة أخيها الذى يفضل طبعا أن تظل الفتاة حبيسة منزل أبيها وحتى تتزوج لتغير مكان السجن ليصبح بيت زوجها , وهى رافضة للزواج حتى هذا اليوم لم تجد من يقلب كيانها رأسا على عقب لن تكتفى بحب هادئ وشخص طيب يعاملها بلين ورفق , انها تعشق الاثارة وتحب أن تقضى كل يوم من حياتها برفقة شخص قوى الشكيمة يحب المغامرة ولا يخشى أن يخاطر فى سبيل ارضائها ويجعل كل يوم من حياتهما المشتركة ذكرى لا تٌنسى.
فيما هى تتآكل من الغيظ ولا تقوى على الانتظار حتى تتخذ خطوة نحو تنفيذ مرادها , وجدت هاتفها المحمول يرن بانتظام النغمة التى لا تميز اسم المتصل وصدق حدسها فكان رقما مجهولا غير مسجّل لديها , كادت أن تتجاهل هذا الاتصال ولكن شيئا غامضا دفعها للرد:
( آلو ...)
( آلو ... الآنسة ريم ؟ )
استغربت الفتاة من الشخص الذى يحدثها فيبدو أنه لا يعرفها وانما يستفسر عن هويتها , وكادت أن ترد بأنها هى الا أن الحذر قد تمكن من تهورها فى آخر لحظة فأجابت بثقة وقوة:
-أنا لست الآنسة ريم , أنا خادمتها وهى ليست موجودة , من المتحدث ؟
-صديق ,هل هى بالخارج؟
-نعم , لقد نسيت هاتفها , ما هو الاسم الذى أخبرها به عندما تعود
تردد الصوت قليلا وكأن صاحبه يفكر فيما يقوله:
-لا يهم , سأعاود الاتصال فى وقت لاحق
وأغلق الخط وقد وقفت ريم مشدوهة تفكر فى غرابة ما حدث , هذا اتصال يثير بداخلها الريبة فهذا الشخص ليس صديق كما يدعى والا لكان رقمه محفوظا على ذاكرة هاتفها أو على الأقل كانت تعرفت على نبرة صوته , ولكنه من يكون ؟
بالرغم من توتر الموقف الا أنه أضاف ليومها بريقا خاصا من الاثارة التى تعشقها فقد صار لديها ما يشغلها لتتعرف على صاحب الصوت المميز ذى الرنة الجميلة , وقامت بنقل رقم هاتفه على ورقة بيضاء صغيرة فى مفكرتها الصغيرة التى تحملها على الدوام تسجل بها مواعيد عرض الأفلام والبرامج المميزة لها , وقررت الاستعانة بسماح فى مساعدتها على تضليل هذا الشخص وكانت متحمسة للغاية وهى تقفز على درجات السلم هابطة الى القاعة السفلية وتوجهت نحو المطبخ حيث يتواجد كلا من الطباخ ( عم مصيلحى ) والذى يخدم العائلة منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما , كما أن له مساعدا صغيرا فى السن يأتى أحيانا ليمد له يد العون فكانت مهمته شاقة لخدمة عائلة مكونة من هذا العدد الكبير من الأفراد , وكانت سماح أحيانا تحدثها عن دماثة خلقه وطيبة قلبه فتكهنت على الفور بأن قلب الفتاة يميل له وكان اسمه ( سعد ) يبلغ حوالى السادسة والعشرين من عمره قمحى اللون نحيل له هيئة تذكرك بشكرى سرحان وقت أن كان الفتى الأول بملامحه المصرية الأصيلة .
كان العمل فى المطبخ الكبير يجرى على قدم وساق , اذا جاز التعبير لأنه يشبه ملعبا صغيرا فى اتساعه ويشتمل على جميع الأجهزة الكهربية الحديثة التى تساعد على منح الرفاهية لمن يطهو بهذا المكان كما أنه مقسم بطريقة عبقرية ليتسع لهذا الكم الهائل من الأغراض التى تحتل معظمه من طاولات ومقاعد وأحواض وخزائن , باختصار كان حلم كل سيدة منزل أن تمتلك واحدا مثله .
وجدت ريم ضالتها المنشودة وهى مشغولة بتجهيز الأطباق الخزفية فوق منضدة منعزلة جزئيا عن بقية المطبخ وهى تبتسم بخفة لنكتة ألقاها المساعد الصغير وهو يقطّع شرائح الخضروات الى قطع صغيرة بمهارة فائفة وسرعة قياسية وهو يتكلم بذات الوقت بدون أن يهمل عمله , الا أن عم (مصيلحى ) لم يعجبه الحال فبدأ بالتذمر والقاء العظات عليه طالبا منه الالتفات لعمله وترك المزاح جانبا لحين الانتهاء مما بين يديه.
كما أنه قد زجر ( سماح ) بصوت أهدأ قليلا ناعتا اياها بالكسولة , مما جعلها تبدى امتعاضها من هذه الاهانة التى وجهت اليها فى وجود ( سعد ) , وفجأة التفتت الى الباب حيث كانت ( ريم ) واقفة تراقب الموقف بتسلية وهى تشعر بأنهم على الرغم من ارهاق أعمالهم وطول يومهم فقلوبهم صافية وخالية من الهم الذى يحلّق فى سماء العائلة الثرية التى تعد واحدة من أعرق العائلات بمصر وأشهرها على الاطلاق , فيما تشعر هى بتعاسة غير محدودة لأنها لا تملك قرار العمل مثل ( سماح ) وهى مدركة تماما أن الخادمة مضطرة لهذا حتى تساعد اخوتها الصغار على المعيشة فهى تعد العائل الأساسى لهم بعد وفاة أبيها والذى كان يعمل ساعيا فى واحدة من شركات العائلة قبل أن يصاب بمرض عضال ويتوفاه الله تاركا ثلاثة أبناء غير سماح الابنة الكبرى,وشهقت الفتاة برعب:
-آنسة ريم ؟ هل من خدمة أؤديها لك ؟ نحن آسفون ان أزعجناك بأصواتنا المرتفعة.
وهرعت نحوها بخوف من أن تكون قد ألمّت بما حدث منذ دقائق قليلة , فهدّأت ريم من روعها وقالت مستبشرة:
-لا يوجد ما يسئ فى المزاح فهذا ينشر جوا من البهجة بداخل المطبخ وأنت تعملون طوال النهار , لماذا لا تعطيهما فترة من الراحة يا عم ( مصيلحى ) ؟
استطاع الرجل العجوز أن يستدير بخفة على الرغم من بدانته الواضحة ليجيب على استفسار سيدته قبل أن يعلن بصوت جهورى تميز به:
-أنهما بطيئان جدا فى العمل , الى جانب الثرثرة التى لا يملان منها فاذا أعطيتهما فترة للراحة فلن ينجزا ما هو مطلوب منهما ولو بعد أسبوع
تأففت سماح داخليا من تسلّط هذا الرجل ولكنها تحبه وتحترمه فهو من داخله شخص لطيف ومحب للعمل ويكره مخالفة أوامره فهو يعتبر نفسه سيد المطبخ , الذى لا يُقهر , فكانت دائما ما تشاكسه بمماطلة طلباته التى لا تنتهى , وشكرت ريم فى سرها على دفاعها عنهما أمام جبروته.
-لن يتأثر سير العمل من ربع ساعة يرتاحان فيها , بل هذا سيجدد نشاطهما ويعينهما على استكمال المطلوب بسرعة أكبر , هيا يا عم ( مصيلحى ) لا تكن متزمتا هكذا.
أمام اصرار ريم لم يجد بدا من أن يلتزم مصيلحى باعطائهما فترة راحة قصيرة جدا على ألا يغيبا طويلا وقد حذرهما من العقاب اذا تأخرا دقيقة واحدة عن الساعة الثانية, فشكرتها ريم على رأفتها بحالهما وأمسكت بسعد من ذراعه تدفعه الى الخارج حيث يتنفسان بعيدا عن جو المطبخ الخانق على الرغم من جودة تهويته الا أن يظل كالسجن بالنسبة لمن يعمل به.
وجدت ريم أن هذه فرصتها لتفاتح سماح فيما تريده منها وأخذتها الى جانب قصىّ من الحديقة المجاورة لباب المطبخ الخارجى , ثم بدأت تلقى عليها تفاصيل خطتها المدبرة بعناية حتى اتسعت عينا الفتاة بتفهم وذكاء وهى تنصت بامعان لسيدتها الصغيرة ولم تجرؤ على مجادلتها ولو بكلمة واحدة , فهى صاحبة فضل عليها وان طلبت منها القفز الى البحر وهى بكامل ملابسها فلسوف تنفذ بدون مناقشة.





http://upic.me/i/ke/1228394544.gif

SHELL 21-10-18 09:22 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 



استقبل كريم أخته لبنى بترحاب شديد عندما رآها تتجه نحو غرفة المدير التنفيذى الذى يحتل رفيق منصبه هذا بجدارة , أما هى فقد ترددت قليلا قبل أن تنحنى على أذنه بهمسات قليلة تطالبه بمحاولة الانفراد به بعيدا فتفهم طلبها وقد سبق أن ألمحت لهذا عندما كانا بالبيت فقال لرفيق الذى كان كالجبل الذى لا تلين ملامحه ولا قليلا:
-بعد اذنك يا رفيق سأصطحب لبنى فى جولة بالشركة؟
ارتفع حاجبا رفيق وكأنه يدرس هذا الطلب المفاجئ وبدا للحظة أن سيبدى اعتراضا ثم تراجع فأومأ برأسه وقال بصوت خشن:
-لا بأس , ولكن لا ترهقها كثيرا.
اضطربت لبنى لدى سماعها لهجة رفيق المتصلبة ودق قلبها بسرعة عندما رأت اهتمامه بها.
ضحك كريم وابتعد قليلا عنها ليسمح لها بالمرور أمامه برشاقة:
-لا تقلق , فلبنى بالنهاية أختى ولن يخاف عليها أحد أكثر منى.
كان فى لهجته شئ من التحدى الخفى وكأنه لم يعجبه نصيحة ابن عمه للعناية بها.
ضاقت عينا رفيق بينما أخذ طريقه الى مكتبه رافضا أن يواجه كريم بحدة لكنه استوقفهما ثانية:
-ولكن لا تنس عليكما أن تحضرا الى مكتبى فى غضون ساعة, حتى نتناقش فيما يخص العمل.
-طلباتك أوامر أيها الريّس.
وتأبّط ذراع لبنى بمحبة وقادها نحو الطريق, بينما سار رفيق الى مكتبه فألقى التحية ببرود على سكرتيرته الحسناء التى ما أن لمحته حتى هبّت واقفة ترد التحية:
-سيد رفيق , سأوافيك حالا بالبرقيات المستعجلة.
ولكنه استوقفها بحركة من يديه وقال بحدة:
-ليس الآن يا هديل , فقط أسرعى بطلب قهوتى ولا تتأخرى ثانية واحدة.
التزمت السكرتيرة بأمر مديرها وقد استعجبت من حدة مزاجه فى هذا الوقت المبكر من اليوم , فليس من عادته أبدا أن يمنعها من اللحاق به الى داخل غرفته , وتساءلت يا ترى ما الذى عكّر مزاجه وجعله عصبيا؟



http://upic.me/i/ke/1228394544.gif

SHELL 21-10-18 09:24 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 



ما أن ابتعدا عن مرمى بصر الرجل الصعب , حتى تملصت لبنى من ذراع كريم المسيطر وانتزعت نفسها بقوة جعلته يتساءل عن السبب , فربتت على كتفه مهدئة , فكريم يتعامل معها بألفة طبيعية:
-ستعرف فى القريب العاجل , ولكن هل يوجد هنا مكانا آمنا نستطيع التحدث فيه بدون أن يتلصص أحد؟
-أكيد , بمكتبى لا يوجد سوى سكرتيرة وهى بغرفة منفصلة فاذا أغلقنا الباب لن يصبح هناك مجالا للخطأ .
- حسنا , هيا بنا , فلنسرع اذن.
وتركته يقودها مجددا وبذهنه عشرات الاسئلة التى تدور وتدور حتى تكاد تعصف برأسه وعلى الرغم من قلقه الا أن لهفته كانت الأقوى فهو يتمنى أن يعرف سر هذه الأخت العجيبة وما الذى تخفيه ولا تريد أن يسمعه أحد سواهما.
دلفا الى مكتبه فوجدت فتاة جميلة ورشيقة تجلس خلف المكتب الزجاجى الأنيق تقوم بعملها على أكمل وجه وما أن رأتهما حتى وقفت وابتسمت بدبلوماسية وهر تلقى عليها التحية:
-مرحبا يا سيدتى.
قام كريم بتجاهل التعريف بينهما تاركا السكرتيرة تغرق فى دوامة الحيرة حول الصلة التى تربطهما , فهذه هى المرة الأولى التى تجد فيها مديرها يصطحب فتاة غريبة الى مكتبه ,أنه دائما منكب على العمل حتى يخيّل لها أنه لا يتعاطى أى نوع من المرح فى حياته.
-لا تجعلى أحدا يقاطعنا يا مها أيا كان الأمر مستعجلا.
أشارت له بالايجاب وهى تعود لتكمل ما بدأته قبل دخولهما الدرامىّ عليها.
تقدمته لبنى الى الداخل بينما تبعها وهو يغلق باب مكتبه الجرار باحكام , ثم يشير لها بأن تجلس على مقعد جلدى قريب من مكتبه الشخصى.
جالت لبنى ببصرها فى أنحاء الغرفة وهى تتأمل كل تفاصيلها الدقيقة والأثاث المكتبى الحديث المفروش بتصميم ذكى وقد أخذت وقتا لتعتاد على هذا الجو من الثراء الفاحش الذى يغمر النفس بالرهبة , فلأجل أشياء كهذه ظٌلمت والدتها , من أجل الميراث , من أجل المال , ألا لعنة الله على المال!
اتخذ كريم مجلسه خلف المكتب وهو يحاول الاسترخاء بلا فائدة فكانت أعصابه متوترة وكل عضلاته مشدودة ينتظر ما سوف تتفوّه به هذه الفتاة الجميلة والتى تشبه والده كثيرا , ولكن يوجد شئ غامض يسيطر على تصرفاتها منذ أن التقاها للمرة الأولى عندما انتقلت للمعيشة فى منزل العائلة الكبير ,ولم يستطع تفسير ازدواجية شعوره نحوها , فتارة يشعر بمحبة لها , وفى لحظة أخرى يتوجس منها.
كانت هى مدركة لانتظاره الصامت ولك تكن تقوى على المماطلة لوقت أكثر بالرغم من دقة ما ستقوله وما سيجعل حياتهما تتغير للأبد ولن يعود الأمر كسابقه الا أنه لا مفر من معرفة الحقيقة فشبكت اصابعها ببعضهما دلالة على شدة توترها مثله وازدردت لعابها بصوت خيّل اليها أنه مسموع:
-هل اتصلت بك والدتك اليوم ؟
ألقت عليه السؤال لتفتتح حوارها معه بصراحة نادرة الوجود فى زمن كهذا
فرك عينيه وأخذ يدّلك جبهته بطرف أصبعه وهو متحفز للرد:
-هل كل هذه الاحتياطات الأمنية المشددة ؟ وكل هذا التوتر من أجل سؤال تافه كهذا ؟
- لا . بالطبع , ولكننى أريد أن أعرف كيف سأبدأ , وهذا يتوقف على اجابتك لسؤالى ... التافه.
وشددت على كلمة ( التافه ) مما أوضح تبرمها من استنكاره الغاضب.
-لا , لم تكلمنى بعد , هل تريدين التحدث اليها وتأملين أن أفتح صفحة بينكما ؟
-لا , أخطأت الاستنتاج , حسنا فعلت والدتك فقد سبق وأن تحدثت اليها هذا الصباح ولا أحتاج لمساعدتك الا فيما أخطط له.
-ما تخططين له ؟ وما هو هذا الشئ ؟
-سأخبرك بكافة التفاصيل , فلنا كل الحق فى الانتقام ممن ظلمنا.
وسردت عليه ما جعله غير مصدقا وبذات الوقت كان مضطربا فما أخبرته به كان كالصاعقة التى وقعت على كيانه وهزته بعنف جعل الأرض تميد تحت قدميه ولولا أن كان جالسا على مقعده لوقع على الأرض منهارا.


http://upic.me/i/ke/1228394544.gif

SHELL 21-10-18 09:32 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثامن


http://static.tumblr.com/b9f05f599d3...w8so8ock4g.gif

SHELL 23-10-18 05:29 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل التاسع


https://www.m5zn.com/uploads/2011/2/...95ne30wkg6.gif


أخذت فريال تذرع غرفتها ذهابا وايابا وهى قلقة كنمر حبيس لا يستطيع السيطرة على رغبته الفطرية بالانقضاض على من حوله لتفرغ طاقتها السلبية التى سيطرت على الأجواء المحيطة بها , كانت لا تفكر الا بما قام به رفيق صباح هذا اليوم , فبعد أن أخذ يلقى على مسامعها خطبة عصماء ليجعلها تشعر بالدونية اذ أنها تدبر المكائد مع مجدى فى حين أنه يلعب بطريقة غير شريفة فيصطحب معه لبنى الى الشركة بدون أن يخبر أيا من الموجودين بالمنزل , متجاهلا تحذيرها له بعدم التعرض للفتاة اليتيمة التى لا حول لها ولا قوة , ولكنه سيدفع الثمن غاليا على ما سببه لها من رعب وهى تتصور أن هناء قد تجرأت وآذتها فى هذه العزيزة الغالية على القلب , فوجدت أنه لا بد من محادثة مجدى حتى تعلمه بما استجد من الأمور وتطلعه على نيتها التى عزمت عليها ولن تتراجع عنها مهما كلفها الأمر , فها هى تحارب من جديد لأنها وجدت سببا لتتعلق بالحياة كانت كالغريق الذى يتعلق بقشة , وكانت لبنى هى هذه القشة.
اتصلت بمجدى الذى كان دوما خير سند لها حتى وهى بعيدة عنه بمشاعرها نائية عن عواطفه الجيّاشة التى كانت تفيض حولها لم يتخل عنها حتى وهى تعتقد بأنه قد وقف الى جانب والدها بعد خلافهما القاسى تأكّد لها أنه الوحيد الذى اتخذ موقفا ايجابيا وحافظ على جوهرتها الثمينة من الضياع.
سمعت صوت المحامى الرزين وهو يجيبها بوقار:
-آلو .. كيف حالك يا فريال؟
-بخير , كنت أود التحدث معك بأمر ضرورى
-ألم نتفق على تأجيل مثل هذه المناقشات لما بعد؟
-لقد طرأ شئ ولا بد أن تعرفه
-حسنا . هاتى ما لديك , كلى آذان صاغية
ترددت فريال قبل أن ترجوه أن يلتقيا , وعلى الرغم من سعادته العظيمة بهذا الطلب الا أنه أصر على الرفض لظروف خاصة
-لما لا تخبريننى على الهاتف ؟
أطاعته فريال وأجابت بقهر:
-لقد نشب خلاف بينى وبين رفيق , فقد نما الى علمه لقاءنا ولا أدرى ما الذى يخفيه ؟
-اممم, هكذا بدأ يتجسس علينا, لا يشغلك هذا فأنا سأتولى أمر اخباره بالحقيقة
-لا . لا تفعل يا مجدى
-ولماذا تعترضين على هذا ؟ أليس من الأفضل أن نضمه الى جانبنا؟
-لقد بدأ رفيق يخطط لنفسه , هل تعرف أنه قد اصطحب لبنى معه دون أن يكلف خاطره باخبار أحد منا بذلك ؟
صمت مجدى برهة يفكر فى أهمية الأخبار التى تلقاها للتو ثم عصر ذهنه ليقترح عليها برفق:
-اذا كان يميل اليها , فما المانع من تشجيعهما على هذه العلاقة؟
صرخت فريال وكأنما لدغتها حيّة:
- لن أسمح لهذا أن يتكرر ثانية , لن أضع هذه البريئة موضع القربان لأضحى بها حتى أنال شرف الاندماج مع فريق أخى محمد ضد فريق عادل ؟ فلتذهب الثروة الى الجحيم.
اعترض الرجل بهدوء على انفعالها:
-لا يوجد ما يستدعى كل هذا الانفعال من جانبك يا فريال , ولا أطلب منك أبدا التضحية بها ولا أن تنضمى لجانب ضد آخر, لست أنا هذا الشخص , أنت تخلطين بينى وبين رجل آخر.
أعادتها كلماته المؤنبة لذكرى مؤلمة مضت منذ زمان واعتقدت أنها صارت طى النسيان الا أنها ما زالت تتأجج يوما بعد يوم منذ أن وطأت قدماها أرض هذا البيت من جديد , فها هو مجدى الرجل الذى كان يعشقها بجنون وهى ما زالت فتاة صغيرة تجرى بسعادة فى أنحاء المنزل تاركة جدائلها الحريرية تتمايل فى زهو وغرور فيفتتن ببهائها كل عابر سبيل,يتبارى مع الزمان فى ادماء الجراح القديمة التى لن تندمل أبدا.
-لماذا لا تترك الماضى وشأنه يا مجدى ؟ لم تصر على أن تزيد من آلامى ؟
-لست أنا من يفعل هذا , فريال ,,, اذا كنت مصرة على احياء الماضى والعودة الى الوراء فأرجوك ابعدينى عن هذا الحوار , فأنا لدى ما يكفينى من مشكلات معقدة لبقية حياتى , أما اذا أردت أن تفتحى صفحة جديدة وتتسامحى مع الجميع فأنا موجود الى جوارك والى الأبد , لن أتخلى عنك.
ما زال يؤثر بها بدماثة خلقه ورقة مشاعره ورهافة كلماته التى تتغلغل فى أعماقها لتشق طريقا وسط الآلام المدفونة فتسرى كالبلسم الشافى بسحر ساحر تهدئ وتلطف من النار المستعرة بداخلها , هل تستطيع التجاوز عما حدث ؟ والأهم هل تستطيع الغفران؟
-سنرى ما ستقدمه لنا الحياة , وربما يوما ما أستطيع أن أتسامح كما قلت.
-اذن سنعطى أنفسنا فرصة ونحاول , وأنا ما زلت على رأيى بضرورة اخبار رفيق بالحقيقة , لا تجيبينى الآن , فقط فكرى بالأفضل لصالح ... الفتاة.
ابتلعت ريقها وهى تشعر بالأشواك الجافة تتنازع فى حلقها حتى تكاد تزهق روحها وجاهدت لترد عليه بأسى ومرارة:
-أنا أثق بك يا مجدى , فأنت من تبقى لى فى دنياى , أرجوك لا تتخلى عنى ولا عنها, فهى وحيدة مثلى .
-لا تقلقى فأنا لا أنكث بعهودى.
تذكرت الآخر الذى نبذها وحيدة وسبّب لها ولصغيرتها المفقودة كل هذه الآلام التى عاشت لسنوات طوال تحفر ذكراها فى مجرى العمر فصارت هى والألم كيانا واحدا ثم خاطرت لتسأله ثانية:
-ألم يأت الوقت المناسب لاخبارها؟
كان يعرف مدى لهفتها وشوقها فلم يجرؤ على احباط آمالها العريضة ولكنه كان يائسا مثلها ويتشبث بأمل ضعيف فقال:
-ربما علينا أن ننتظر بعض الوقت , على الأقل حتى نعرف من هو الصديق ومن سينقلب الى عدو.
-نعم لديك كل الحق فأنا نفسى صرت مشوشة التفكير.
-عليك أن تتحلى بالصبر والتعقل فأمامنا معركة شرسة سوف نخوضها ونحتاج لكل قوتنا وثباتنا, فريال أعتذر منك ولكن لدى مكالمة هامة فى الانتظار, أراك قريبا.
-الى اللقاء يا مجدى.
وضعت هاتفها جانبا وهى ترى أمها تدخل الى غرفتها وربما للمرة الأولى منذ أمد بعيد , لم تشعر باقترابها الا بعد أن أنهت المحادثة وقالت فى نفسها يا ترى ما مقدار ما سمعته والدتها من حديثها السرى , وتيقنت من نظراتها المدققة أنها لا بد عرفت شخصية المتحدث فقد بادرتها بالسؤال:
-هل كنت تتحدثين الى مجدى .. المحامى الخاص بنا ؟
كانت أمها تصر على الصاق هذه الصفة به , انه بالنسبة لها مجرد مجدى .. المحامى المختص بالمعاملات القانونية , وكانت تنكر عليه صداقته لابنها المتوفى - وجدى رحمه الله - وبالطبع كانت تنكر عليه مشاعره الوليدة تجاه ابنتها , لقد دفعتها بايمانها العميق من هذا المنطلق بأنه لا يرقى لمستوى العائلة العريقة التى تنتمى لها نحو اتجاه خاطئ تماما كلّفها الكثير , ولم تجد بدا من أن تعترف لها بالحقيقة فما الداعى وراء اخفاء صلتها به ؟ وهى لم تعد الفتاة القاصر التى تخشى من أهلها اذا عرفوا عن علاقتها برجل غريب ؟
-نعم ,هل لديك أى اعتراض؟
-لا ليس لدى , كما أنك قد صرتى راشدة بما فيه الكفاية لتتخذى قراراتك الخاصة يا ابنتى
-يا ليتك اقتنعت بهذا فى الماضى , ما كنا وصلنا لهذا الحال.
-كنت مخطئة , كلنا أخطأنا بالماضى ودفعنا الثمن غاليا.
-لم يدفع أحدكم الثمن مثلى.
-أعلم الى أى مدى تتألمين , فقد فقدتك مثلما فقدتى أنت ابنتك. فقدتك وأنت على قيد الحياة.
-لقد اشتقت لها يا أمى , لكم تخيلت أننى أحتضنها ,وكل يوم يمر يتسرب الأمل بعيدا عنى.
انطلقت كلمتها من بين شفتيها بدون ارادة منها , لقد مر وقت طويل منذ أن نطقت هذه الكلمة .. أمى ,حتى السيدة شريفة نفسها كانت مذهولة فها هى ابنتها قد لقبتها بأمى بعد طول حرمان , وقد كان لها فعل السحر فى مشاعرها المتصلبة فلانت وتلهفت لاحتضان فلذة كبدها بين ذراعيها الضعيفتين بفعل كبر السن ففتحت ذراعيها لها لتحتويها بحنان طالما تاقت له فريال واستجابت لأمها فى غريزة فطرية حتى تنهل من نبع العطاء.
-تعالى الى حضن أمك يا أميرتى .
-لكم اشتقت لك , لماذا ؟
كانت تعرف مغزى سؤالها الناقص ,لم تشعر الا بعبراتها تنساب على خديها وهى تضم ابنتها بقوة وتصميم خالفت الوهن الطبيعى الذى تشعر به دائما ولكنها مسحتهم بأطراف أناملها الرقيقة غير سامحة للضعف بأن يتسلل اليها من جديد .
-لم يكن بيدى , أقسم لك أننى بحثت عنها طويلا بعد رحيلك , ولكننى فشلت فى اقتفاء أثرها الذى اختفى.
ربتت على كتف فريال بعطف بالغ وهى تحايلها:
-ألن تسامحى ضعف أمك فى مواجهة جبروت والدك - رحمه الله - لقد فات الأوان أليس كذلك؟
هزت فريال رأسها بعنف رافضة الاستسلام للمشاعر الانهزامية التى تغلبت على والدتها:
-لا . لم يفت الأوان بعد.
ثم استطردت بعد أن ابتعدت قليلا عن أحضانها الدافئة :
-صدقينى يا أمى , سيدفع الثمن غاليا كل من مد يد العون ليحرمنى من ابنتى , وليعيننى الله على ذلك.
وكان هذا وعدا قاطعا صممت على تنفيذه حتى ولو دفعت فى مقابله كل نفيس وغالى تملكه.

*************

SHELL 23-10-18 05:30 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لم يستطع كريم أن يتمالك أعصابه بعدما سمع الكلمات تنساب من بين شفتى لبنى لتحفر بداخله شرخا عميقا يهدد كل كيانه بالانهيار ,ولم يمنع نفسه من الصراخ بوجهها بحدة لم تدهشها:
-أى هراء هذا الذى تتحدثين عنه ؟ لا بد أنك قد جننتى !
-اهدأ وأخفض صوتك فنحن لا نريد أن يعرف أى أحد بما دار بيننا من حوار فى هذا المكتب والا ستكون العواقب وخيمة.
حذرته الفتاة الرقيقة الجالسة أمام عينيه وهى تعدّل من ياقة قميصها بهدوء وكأنها لم تقم بشئ .
هب واقفا من مقعده ليستقر بالقرب من المقعد المواجه لها وهو يحاول أن يخفف من حدة توتره , ثم انحنى قليلا وأشار لها ليصبح وجهه قريبا من وجهها ونظرالى عينيها العسليتين اللتين تشبهان عينى والده تماما ثم همس بصوت كالفحيح:
-هل تدركين معنى اعترافك ذاك ؟ أنه لا حق لك بالتواجد هنا فى هذا المكان بيننا, أنك متهمة بالتزوير فى أوراق رسمية, هذا يسمى غش , تدليس ,انعدام ضمير.
اعتدلت فى جلستها مرة أخرى بعد أن أخذت تعض على شفتيها حتى تخيّلت أنها ستدميها فى حركة عصبية دلّت على انفعالها الداخلى , ثم نظرت الى كريم فى محاولة منها للتأثير عليه:
-أنا أتحدث عن محاولة للنيل ممن يحاولون حرمانك من حقك الطبيعى , كما أنها ستكون ضربة قاصمة أيضا لمن حرمك من حنان أبيك وأنت بعد طفل صغير.
ضربت بقوة على الوتر الحساس لديه , فما زالت هذه المسألة تؤرقه حتى بعدما شب وصار رجلا ناضجا لم ينس ولم يغفر لجده ما قام به من ابعاد والده عن حياته ,وتمنى لو كانت أمه تمتلك من قوة الشخصية والقدرة على المواجهة ما يجعلها تقف فى وجه الطاغية وتصمم على استمرار حياتها مع الرجل الذى تزوجته وأنجبت منه وحيدها , وشعر بتعاطف نحوها فهى ما زالت تأمل فى أن تنال حقها المسلوب منذ زمن بعيد وقررت التضحية بزواجها حتى لا تُحرم هى وابنها من نصيبهما بالميراث , لم يخبره أحد بهذه الحقيقة الواضحة فقط استنبطها عقله الواعى ولم يجرؤ على توجيه اللوم الى هذه المرأة المحطمة , فيكفيها ما نالها فى هذا البيت.
-ولكن من حرمنى من وجود أبى ... لم يعد موجودا لأنتقم منه , ولو كان هذا فى خاطرى لما انتظرتك كل هذه السنوات حتى تأتى وتعرضى علىّ الاشتراك معك فى مؤامرة ضد عائلتى.
قام من مقعده وتوّجه الى الهاتف الموجود على سطح مكتبه وطلب من سكرتيرته أن تصله بمكتب رفيق , وقبل أن تعى ما كان يحاول القيام به سمعته يخاطب ابن عمه:
-رفيق , أريد أن تأتى حالا الى مكتبى , هناك ظرف طارئ.
أنصت الى محدثه وقال بعفوية:
-لا , انها بخير , لا تقلق ,ولكن الأمر يخصها ويخصنا جميعا.
وضع السماعة بعنف وهو ما زال يشعر بالارتجاج الذى سيطر على توارد أفكاره فلم تعد لديه القدرة على التركيز.
-ما الذى قمت به أيها الأحمق ؟
صوبت نحوه نظرات نارية وهى تستشيط غضبا من سرعة ردة فعله الغير متأنية.
-احذرى يا .. لبنى أو أيا كنتى , فلم يعد لدى رصيد يكفى اهاناتك , وستنالين حتما العقاب الذى تستحقينه.
-أنا مندهشة من ردة فعلك , فوالدتك نفسها لم تبد هذا التهور عندما فاتحتها بالأمر هذا الصباح.
زفر بضيق وهو يضرب على سطح مكتبه الزجاجى بقبضة يده ويصيح:
-هل تعرف أمى بمخططك اللعين ؟ولم تخبرنى !
ابتسمت لبنى بطريقة مدروسة وكأنها تؤكد له شده سذاجته:
-بل ورحبّت بها وكانت مستعدة للتنفيذ.
فى هذه اللحظة بالذات , دلف رفيق الى الغرفة بتهور وهو لا يكاد يقوى على الانتظار وأخذ يحملق بنظراته المسيطرة فى وجهيهما لعله يلمح شيئا ,ثم اندفع ليجلس فى مواجهة لبنى ويسأل كريم بلهجة آمرة:
-ما الذى حدث بينكما ؟
ابتلع كريم ريقه بصعوبة فقد تهور من قبل ولم يعد بامكانه التراجع فاعترف ببساطة:
-انها .. تؤكد أنها ليست أختى , وأنه لا حق لها بالميراث.
قاطعته لبنى بحقد :
-لا لم أعترف بأنه لا حق لى بالميراث , فأنا أنتمى للعائلة للأسف.
هز رفيق رأسه بقوة وكأنه ينفض عن ذهنه ما يدور حوله من أحداث وأخذ ينظر الى لبنى مقيّما وهو يحاول سبر أغوارها قبل أن يسألها:
-هل تذكرتى شيئا ما ؟
-لا أعرف عما تتحدث , ما الذى تذكرته؟
أخذ كريم يراقبهما وهو غير مصدق لعدم مبالاة ابن عمه بما اعترفت به هذه الأخت المزعومة بل وأخذ يستجوبها وكأنه على علم بأمرها.
-اذن لما أخبرتى كريم بأنك لست أخته ؟ من الذى أخبرك ؟
تطلعت اليه لبنى بانتصار:
-أه , كيف عرفت هذا ؟ ولما أخفيته عن الجميع ؟ لا بد أن لك غرضا خفيا.
ابتسم رفيق بمكر وهو يضع ساقا فوق ساق وطلب من كريم أن يجلب لها فنجانا من القهوة حتى تخفف من حدة توترها .
فغر كريم فاه تعجبا ولم يملك الا الطاعة وهو يكتم فضوله المتزايد حول هذا الأمر الغريب , فيبدو أنه الوحيد بالعائلة الذى لم يكن لديه معرفة بالحقيقة , انه المغفل الوحيد!
كان يبدو على رفيق الاستمتاع بهذا الموقف حيث كانت لبنى فى موقف الدفاع وهو يهاجمها بحديثه الهادئ وهو يمتلئ ثقة وغرورا:
-أنا أعرف من قبل أن أراك, ولقد أصبتى عندما خمنتى سبب سكوتى فلدىّ أسبابى الخاصة لذلك.
كانت الفتاة كمن ضربت بعصا على رأسها فأخذت تحرك يديها بحركات غير مفهومة وهى غير قادرة على تمالك أعصابها ولكنها استطاعت أن تهمس بخفوت:
-لماذا ؟ هل تعرف حقيقتى ؟ ولكن كيف ؟
قاطع حديثهم دخول السكرتيرة وهى حاملة ثلاثة فناجين من القهوة بعد أن طرقت على الباب وأخذت تتطلع بفضول لم تخفيه الى وجوه الجالسين وكانت الصدمة تسيطر على لبنى وكريم أما رفيق فقد كان متحكما بتعابير وجهه فصار جامدا لا يظهر شيئا مما يعتمل بداخله ,وقام بصرف السكرتيرة بحركة من يده عندما تلكأت وهى تغادر الغرفة انتظارا لأوامر مديرها المباشر :
-تمالكى أعصابك يا عزيزتى , فقد يحدث ما لا يحمد عقباه من جرّاء انفعالك الزائد.
كان يحادث لبنى بعقلانية وتفهم ثم ناولها فنجان القهوة وكان ما زال ساخنا تتصاعد الأبخرة من السائل البنى بداخله , وأمرها بتناوله , كما التقط فنجانه بالرغم من أنه قد احتسى واحدا منذ دقائق قليلة قبل اتصال كريم به ولكنه شعر بحاجته لمزيد من الكافيين حتى يستطيع التركيز فيما سيقوله , بينما ترك كريم فنجانه ليبرد بجوار ذراعه التى يسندها على المكتب وهو غير قادر على الاتيان بأية حركة أو حتى مجرد اشارة وبدا كأنه يتابع فيلما سينمائيا يدور أمام عينيه , فما يجرى لا يمت للواقع بصلة.
ارتشفت لبنى من فنجانها بسرعة فلسعها السائل الساخن وكاد يحرق جوفها الا أنها ما زالت تشعر بارتجاف أطرافها ولم تفلح بالسيطرة عليها فكانت تتوق لسماع التفسير من بين شفتى هذا الرجل الغامض الذى أثار مشاعرها الى حافة الجنون فهو يجذبها كما تنجذب الفراشة للهب ويخيفها بقدرته على معرفة ما يدور برأسها ودائما ما يكون التفوق من نصيبه فى أى حوار يجرى بينهما.
أخيرا استعاد كريم قدرته على الحوار فسأله بلهفة:
-نحن فى انتظار تفسيرك يا رفيق , هل تعرف الحقيقة كاملة ؟
أجاب رفيق بلهجة المعلم الذى يعطى تلاميذه خلاصة الحكمة:
-ومن يجزم بأنه يعرف الحقيقة الكاملة! أنا فقط لدىّ بعض المعلومات وقد كوّنت فكرة مسبقة بسبب هذه المعطيات.
-ولم أخفيت هذا عن العائلة ؟
كان سؤاله منطقيا ولا بد من أن تكون الاجابة على قدر السؤال.
فكّر رفيق قليلا قبل أن يستدير بغتة نحو لبنى التى تفاجأت بنظراته المتوعدة وقال بلهجة تشبه النذير:
-لم أكن أدرى أنك ستبدأين اللعب بسرعة هكذا , أنت لم تضيعى وقتك ؟
انكمشت على نفسها خوفا من انقلاب سحنته وهى تخمن بأنها قد خسرت قبل أن تبدأ وقد فات الأوان للندم , على الأقل يمكنها أن ترحل بهدوء ولن يمانع بالتأكيد فى خروجها من حظيرة العائلة.
-يمكن أن نعتبر أن شيئا لم يكن , وسأنسحب فورا من مكانى وأعود الى حياتى السابقة.
ضحك رفيق ساخرا منها وهو يصفق بيديه :
-برافو, أحييك يا صغيرتى على أدائك التمثيلى الرائع , من تحاولين أن تخدعيه ؟
- بالتأكيد ليس أنت.
التفت الى كريم وقال له بسلطة واضحة:
-عليك أن تكتم ما سمعته الآن حتى أعلمك بقرارى , وهذا ليس طلبا انه أمر غير قابل للمناقشة.
تراجع كريم فى مقعده وقال محبطا:
-صدقنى يا رفيق كنت أتمنى هذا , ولكنها أخبرتنى أنها قد تحدثت الى أمى فى هذا الشأن.
ورفع كتفيه علامة على قلة الحيلة, فوثب رفيق على قدميه بخفة وصار بخطوتين يقف الى جانب لبنى الخائفة فأمسكها بقوة من مرفقها حتى أجبرها على النهوض , وقال مهددا من بين أسنانه:
-عليك بالقدوم معى بدون أن تثيرى أية فوضى , واياك أن تحاولى مخالفة أوامرى.
نظرت الى كريم تستنجد به بلا جدوى فقد أخبرتها نظراته بضرورة الانصياع لرغبات رفيق الغاضب الذى أخبره بأنه سوف يتولى هذا الشأن بدون تدخل من أحد آخر.
ودفعها بلطف أمامه وكأنه يصحبها الى مكتبه كأى شخصين عاديين ولكنها كانت مدركة للمساته المتحكمة والتى لن تجرؤ على أن تبتعد عنها , فأثارت بداخلها مشاعرا متضاربة ما بين سعادة ووجل , فأربكها بحضوره القريب منها وهى تشم رائحة عطره النفاذة المميزة , وقد تغلغلت الى أنفها فشعرت بدوار عجيب ولكنها تماسكت حتى تعرف ما هو قراره بشأنها وما هو مصيرها مع هذا المستبد ؟

***************

SHELL 23-10-18 05:34 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل العاشر

https://www.m5zn.com/uploads/2011/2/...95ne30wkg6.gif




اندفعت هناء خارج غرفتها وقد ارتدت أبهى حلة وهى متلهفة لتلحق بموعد هام قد اتفقت عليه مع صديقتها العتيدة التى باعدت بينهما الأيام والظروف القاسية ,ولكنها عادت لتتمهل ببطء وهى تراقب خلو الطرقة من أى متلصص فآخر ما ترغب به هو تقديم تفسيرات لأى كان , وغير مستعدة للشجار مرة أخرى بعد ما صار بينها وبين فريال من حوار ساخن تطاولت فيه عليها واتهمتها بالحاق الأذى بالغالية لبنى , وآه لو تعرف ما أخبرتها به لبنى , انها تريد أن تستوضح الحقيقة الكاملة حتى يرتاح بالها فما سمعته هذا الصباح كان كارثة بكل المقاييس اذا تأكدت منها فسوف تتغير خريطة المستقبل تماما , وستتبدل خططها التى ستشغل حينها حيز التنفيذ بمنتهى اليسر والسهولة , وعادت لتتذكر مكالمتها السابقة مع صديقتها وكيف تفاجأت من اتصالها الغير متوقع وحقا استطاعت مباغتتها فى الصميم ولم تجرؤ بعدها على أن ترفض لقائها , سوف تستقل سيارة أجرة حتى لا تلفت الانتباه اذا ما طلبت من السائق عم ( رياض ) أن يقلها الى منزل صديقتها فربما يتسرب خبر الى أحد أفراد العائلة ووقتها لن تسلم من لسان منى ولا من استجواب فريال وأخيرا لن تنجو من عقاب حماتها التى سوف تظن بها الظنون ولن يبقى أمامها الا الاعتراف , اذا أرادت أن تنتصر على ظروفها الحالية وتحقق مآربها باعادة الحق الى أصحابه عليها أن تتوخى الحذر فى تصرفاتها وتبقيها طى الكتمان حتى عن ابنها كريم , وعندما تذكرت ولدها لاح شبح ابتسامة خفيفة على شفتيها وهى تقول فى سرها انه قد آن الأوان لتتولى منصب المسئولية كاملا والذى أرادك الجميع بمن فيهم عمك الكبير بعيدا عنه حتى يخلو الجو لابنه البكرى فيتمتع بما هو ملكك يا بنى.
تسللت على أطراف أصابعها بحذر شديد حتى وصلت الى الباب الخارجى , وابتعدت مسرعة عن مرمى البصر وهى تتجه الى الشارع الرئيسى حتى وصلت الى ناصيته فانتظرت وهى قلقة بالرغم من ابتعادها بمسافة كافية عن الفيلا ثم أشارت بيدها لسيارة أجرة عابرة واختفت بداخلها وهى تملى على السائق العنوان الذى تحتفظ به فى ذاكرتها الفولاذية التى لا تنسى وجها ولا حدثا وكانت هذه هى مصيبتها الأزلية فلو وهبها الله نعمة النسيان لكانت أخلدت الى الراحة واستمتعت بحياتها وهى هانئة مرتاحة البال.

***************

SHELL 23-10-18 05:35 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


بداخل أروقة الشركة قام رفيق بدفع لبنى بهدوء مشوب بالسيطرة الكامنة فى شخصيته الفذة الى مكتبه حيث دنا من سكرتيرته التى ذهلت لمرأى علامات الفزع المرتسمة على وجه الفتاة أمامها ولكنها لم تنطق بكلمة واحدة فقط استمعت بانصات لتعليمات الرئيس وهو يدلى بها بسرعة فائقة تجاوبت هى معها بمهارة تحسد عليها فهذا المنصب الذى احتلته منذ أربعة سنوات لم يأت من فراغ فقد كانت مجتهدة وسبق لها التدريب فى أماكن أخرى لا تقل جدارة عن الشركة التى تعمل بها حاليا ولكن ما يميزها عن غيرها هو سمعة العائلة التى تمتلكها ( الشرقاوية ) وما يتمتعون به من سلطة ونفوذ وقوة وثروة هائلين ,وكان حلم أى سكرتيرة أن تصل فقط الى بوابة هذه الشركة فما بالها بأن تحتل مركز الصدارة بين جميع السكرتيرات الأخريات فهى تتباهى بأنها تعمل مع المهندس رفيق الشرقاوى والذى يمتلك خيوط اللعبة كلها بين يديه , وقد أدهشته بمهارتها ومهنيتها العالية فقد التزمت ومنذ يومها الأول بتحذيراته حرفيا وهو يعلنها صراحة بأن تلتفت الى عملها فقط وليس الى صاحب العمل , وهى مدركة لوسامته وجاذبيته المدمرتين والتى قد تغرى أى فتاة تعمل معه بهذا القرب أن تجرب سحر اغرائه ناهيك عن وضعه ومركزه الرفيع , ولكنها مشغولة القلب بشخص آخر غيره فلا وقت لديها لتضيعه فى محاولات لا جدوى منها , فراق لها هذا الايضاح منذ البداية فلا أوهام تلتف برأسها لتصنع خيالا لن يتحقق , وبعد أن تأكد من فهمها لكامل أوامره التى ألقاها بشموخ , جذب لبنى المسكينة من ذراعها وهى كانت تأمل فى أن تأتى لها النجدة من حيث لا تحتسب , وتمنت بداخلها لو كانت أكثر حذرا فى التعامل مع أفراد هذه العائلة , فلم تتخيل أن يتصرف كريم معها بهذه النذالة ويضعها بالمواجهة الأمامية لرفيق الثائر.
ما أن وطأت قدماه أرض مكتبه حتى أغلق بابه باحكام ووقف ينظر لها كأنه نمر يتحيّن الفرصة للانقضاض على فريسة سهلة , وقالت فى نفسها أن ظنه سيخيب اذا ما صارت سهلة المنال بالنسبة له , ستقاتل حتى آخر نفس فى معركتها قبل أن تعترف بالهزيمة المنكرة وربما حالفها الحظ فتنتصر عليه.
وتقدّم منها وهو يحاول سبر أغوار عينيها الجميلتين اللتين تظهران خوفا مبطنا ولكنها تحاول اخفائه باستماتة , فتراجع قليلا وهو يسأل نفسه هل حقا تخاف منه ؟ لم يقم أبدا فى حياته بأى عمل عنيف ضد امرأة وبالتأكيد لن يؤذيها هى بالذات , كان يريد أن يستجوبها على مهل حتى يتأكد بنفسه اذا ما كانت تتذكر شيئا أم أن هذا من وحى خياله ؟ أحيانا يشعر بها تميل اليه وتحاول بشدة لفت انتباهه اليها حتى يهيأ له أنها تقوم بهذا عن عمد , وأحيان أخرى يراها فى منتهى البراءة والوداعة فيصدق قناع زيفها , وأشار لها بالجلوس فاختارت مقعدا منفردا يبعد عنه كثيرا لكنه منعها وأرشدها الى الأريكة الجلدية التى تتسع لاثنين فقط , فتمنّعت قليلا والشكوك تساورها فى نواياه تجاهها , وعندما انتبه لأفكارها ابتسم بسخرية مريرة وهو يحدثها كأنها طفلة صغيرة تحتاج الى التأديب:
-لا تقلقى منى , فاذا أردت آذيتك فلن يمنعنى أحد , ولكننى أريد فقط أن أعرف الحقيقة , ولا شئ سواها.
وأجبرها على الجلوس الى جواره قريبة جدا من أنفاسه اللافحة وجاذبية عينيه القاسيتين , فتلجلجت بردها وهى تحاول السيطرة على نفسها:
-أية حقيقة تبغاها ؟ لقد سمعت ما ردده لك كريم من قبل وبما أنك لم تكن مندهشا , فقد حان دورى لأتعجب من هدوئك , اذا كنت تعرف حقيقتى لم فضلت كتمانها عن عائلتك , بدلا من أن تقوم بفضحى وسطهم فيخلو لك الجو بدون أى تنغيص.
ضحك منها وهو لا يتمالك نفسه من الاستمتاع بمحاولتها الفاشلة لتحليل تصرفه حتى شعر بالسعال يهاجمه فهدأت ملامحه ثم انقلبت الى تكشيرة غاضبة وهو يكور قبضته مهددا اياها:
-أنت وقحة جدا , واحدة غيرك كانت تحمد ربها على نعمة الستر , أخبرينى يا ... لبنى كيف عرفتى حقيقتك ؟ أم أنك منذ البداية تعرفين وتصنعتى الاهتمام بنا فى محاولة منك لكسب ود الجميع بلا استثناء .. حتى زوجة عمى هناء .. لا أتخيّل أنك قد صارحتها بالحقيقة هكذا بدون مواربة ! أنت حقا جريئة!
لم تعرف لبنى اذا ما كان يذمها أم يمتدحها كل ما كانت تصبو اليه أن تنجو من هذا الامتحان على خير ومهما حاولت التملص منه فسوف يجبرها على الاعتراف فعليها أن تحفظ ماء وجهها , واعتدلت فى جلستها محاولة الابتعاد عن هالته المشعة قدر الامكان الا أن ضيق الأريكة لم يسمح لها بأن تنال مرادها فقررت مصارحته بما عرفته وبدون كذب :
-حسنا , بداية جاءنى السيد مجدى المحامى الخاص بأعمال العائلة الى المكتب الذى كنت أعمل به ذات يوم وأخبرنى بموضوع الوصية وأننى جزء منها , وعندما حاولت الرفض نصحنى بالتمهل وتأجيل اتخاذ القرار لما بعد مقابلتى لكم , وفعلا استجبت له ومع أننى كنت ذاهبة بلا حماس حقيقى الا أن استقبالهم لى قد أثّر بى للغاية وجعلتنى أنّا شريفة أشعر بمعنى الحنان الحقيقى النقى بدون مصالح خفية أو تزييف , وصدّقنى وقت أن قبلت بالبقاء فى بيت العائلة كنت على يقين من أننى ابنة عمك وجدى الشرقاوى , وفيما بعد عندما واجهت خالتى مديحة بما عرفته عن أبى من زواجه بأخرى واتهمتها بأن أمى لم تكن ملاكا كما كانت تحب أن تدعوها , تشاجرت معها فى هذه الليلة وأخبرتها برغبتى فى ترك منزلها والذهاب الى عائلتى الحقيقية , صارحتنى بعدها بالحقيقة وهى أننى لست ابنة أختها وبأن عمك قد تبنّانى منذ كنت رضيعة بالمهد.
توقفت لتلتقط أنفاسها المتهدجة فحتى الآن كلما تذكرت هذا الاعتراف تشعر بمرارة وأسى بالغين بعد أن تحطّم عالمها المثالى الى فتات صغيرة جدا , وحتى الحقيقة الثابتة لديها قد صارت وهما تتخبط بأنحائه وهى غير قادرة على النجاة بنفسها من دوامة الصراعات التى أشعلت نيران الحقد والكره بداخلها.
كان رفيق منصتا باهتمام الى اعترافها المرير وهو مشغول الذهن بالخطوة القادمة التى عليه أن يسلكها حتى ولو كانت صعبة التنفيذ ولا يستطيع التكهن بنتائجها الوخيمة عليهما , فسألها عن والديها:
-وهل أخبرتك خالتك ... أقصد السيدة مديحة من هم والديك الحقيقيين؟
-طبعا , فعندما أخبرتك فى مكتب كريم بأننى من هذه العائلة لم أكن أخترع كذبة جديدة كما تظن.
بسط كفيه أمامه وهو يشجعها على اكمال اعترافها حتى النهاية وقد بدأ يتوتر قبل أن يعرف ما ستلفظ به الا أنه أحس بالخطر الكامن ورائه:
-كل ما أعرفه أن أبى ينتمى لعائلة الشرقاوية وأن هذه العائلة قد ظلمتها ظلما بيّنا وحرمتنا من بعضنا ويعود الذنب الى جدك عبد العظيم الشرقاوى, فهو من قام بتمزيق روابطنا الأسرية اضافة الى استيلائه على نصيب أبى من ميراثه.
ضاقت عيناه وهو يستمع اليها بترقب بالغ وقد سيطر عليه هاجس خفى بأن ما ستضيفه لبنى لن يعجبه على الاطلاق :
-أنت مصر على أن تعرف من هو أبى الحقيقى , هذا شئ سهل ولكننى صدقا لا أعرف من هى أمى كما لم تخبرنى خالتى باسم أبى ... ولكننى عرفت أنه ...
ناجى الشرقاوى.
-لا يمكن , كيف عرفتى بأمر ناجى الشرقاوى ؟ لا أحد يعرفه سوى المقربون .. المقربون جدا فقط.
اذا صدق ما جاء على لسانها فهو يعرف جيدا هوية أمها التى ولدتها,وكانت أقرب له مما تتصور ويبدو أنها لا تعى ماسيؤول اليه الحال اذا انتشر هذا الخبر فى أرجاء البيت , سينقلب رأسا على عقب ولن تعود الحياة الى سابق استقرارها,وبدا حائرا ماذا يفعل بها ؟ وماذا يقول لها ؟
-هل أنت متأكدة مما أخبرتك به ؟ هل لديها الاثبات على بنوّة ناجى الشرقاوى لك؟
اندفعت لبنى من مقعدها تهاجمه بشراسة:
-ان خالتى لا تكذب فهى ليست مضطرة لهذا مثل عادتكم المفضلة بالعائلة الكريمة.
هب بدوره وقد أمسك بها يمنعها من المغادرة ثم أجلسها مرة أخرى بحركة عنيفة فاجأته بعد أن أطلقت صرخة ألم ضعيفة وهى تفرك كتفيها بعد أن شعرت بأصابعه الطويلة المسيطرة قد انغرست فى لحمهما الطرى مشعلة النار بآثارها مما جعله يتركها على الفور وينسحب بعيدا عنها وهو غير مصدق لما وصلا اليه ثم وجدته يتأمل بصمت البنايات الشاهقة الارتفاع المحيطة بهم من خلال لوح النافذة الزجاجى الكبير وسمعته يقول لها برقة ولأول مرة:
-أنا أعتذر عما بدر منى , لم أكن أحب أن تسير الأمور بيننا بهذه الطريقة السيئة , فهذا لا يتفق مع مخططاتى أبدا لعلاقتنا.
هل يملك مخططات هو الآخر ؟ ولكنه يتحدث عن علاقة بينهما , انه لا يقصد بالطبع علاقة عمل أو قرابة , هل تتخيّل أم أنه قد ندم على تصرفه تجاهها؟لم تشعر بنفسها الا وهى تتعاطف معه بصدق وتمنت لو تستطيع محو نظرته المتألمة من على وجهه الوسيم ليعود فتتشكّل بجمود ملامحه الصارمة من جديد وكأنه يرفض اظهار أى نقطة ضعف انسانى لديه.
-لا يهم , أنا أيضا أخطأت بفقدان أعصابى وانفعالى الزائد.
استدار ليتأملها بنظرة مختلفة تماما وكأنه يحاول اختراق روحها وان كان ما يزال واقفا بمكانه , فقد شعرت بنظراته تلامسها بشغف جعلها ترتجف حتى الأعماق وهو يعيد السؤال عليها مرة أخرى ولكن بصيغة مختلفة وبصوت أكثر ليونة:
-هل تمتلك السيدة مديحة اثبات رسمى على هويتك ؟ هل لديها ورقة حكومية .. شهادة ميلاد ... اعتراف خطى .. أى شئ من هذا القبيل؟
توجست خيفة من استجوابه فهل يأمل أن تعطيه دليلا على صدقها ليمزقه وتصير شريدة بلا مأوى ولا ملجأ , لا لن تسمح للضعف بأن يتسلل الى مقاومتها , عليها واجب تجاه أمها المظلومة ولا بد أن تأخذ بالثأر حتى ترتاح , وهى حقيقة لا تعرف ان كانت أمها على قيد الحياة أم لا ؟ ولا تعرف ان كانت ستنعم برؤيتها أو تملأ فراغ حياتها بداخل أحضانها الدافئة ؟ انها لم تحرم من العطف والحنان فوالديها بالتبنى كانا نعم الأب والأم لها ولم تشعر بأنهما يعاملانها كأنها لقيطة ! وصرعتها اللطمة القاسية ... هل هى لقيطة ؟ ولهذا السبب فأنكرتها العائلة وطردتها خارج الجنة , كما طرد آدم من قبل بسبب خطيئته ؟ ولكن لديها أب فهل أنكر صلته بأمها ؟ أم أنهما لم يتزوجا من الاساس ؟
ولكنها ليست مذنبة , فهى المجنى عليها بكل حال وعادت لتنكمش على نفسها فاذا كان هذا صحيحا فبأى عين ستتطلع نحوهم؟
أزعجته النظرة الخائفة القلقة التى نمت على محياها وشعر برغبة عارمة فى الدفاع عنها واحتوائها بداخل روحه حتى تنسجم معه ولا تعود فتشعر بالوحشة وكان يعلم بأنها تنتمى له, تأكد الآن من أنها لا بد صادقة بكلامها فهى تشبه عمه لدرجة خيالية وهذا ما يسهّل عليه من ابتلاع كلماتها التى أطلقتها كالسهام النافذة بقلبه وعقله.
حان دورها الآن لتسأله وهى غير قادرة على كتمان فضولها الذى يتآكلها بحرقة:
-هل .. هل ستخبرنى كيف عرفت بحقيقة أمرى ؟ ولم أخفيتها عن الجميع ؟ أرجوك أريد أن أعرف , لن أتحمل المزيد من الخيوط العنكبوتية التى تظلل حياتى وتمنعنى من المضى قدما بها.
كانت لهجتها متوسلة حانية تستعطف قلبه الذى أراد مواساتها على طريقته الخاصة , وحدّث نفسه بأن هذا ليس هو الوقت المناسب , ربما فيما بعد أن ينفضا من حياتهما كل خيوط العناكب التى تمنعهما من التمتع بالراحة والسكينة, لن تفلت منه وقتها , فلن يسمح لها بالتراجع,أما الآن فعليه أن يكسب ثقتها مجددا حتى يستعيدا سابق انسجامهما.
-أنا لدىّ مصادرى الخاصة , وقد سبق وتحريّت عنك عندما أبلغنى مجدى بالخطوط العريضة للوصية قبل أن نلتقى , أما عن دوافعى لاخفاء الحقيقة فهى شخصية ولكنها شريفة فلا أنوى أبدا أن أؤذيك أو أدمر سعادتك الهشة التى تكوّنت لتوها بعد أن غمرتك العاطفة الأسرية فى ظل عائلتنا.
ثم مد يده لها وهو يأسرها بنظراته الحميمية القاتمة:
-هل تثقين بى يا لبنى ؟
كانت تعى مدى أهمية اجابتها عن هذا السؤال والذى يحمل أكثر من معنى , وقلّص أى احساس بالشر فى نواياه , فخاطرت بقلبها وبسلامتها النفسية وهى تمد يدها لتلامس أطراف أصابعه قبل أن يجذبها بقوة اليه فيما أخذت هى تتعثر فى خطواتها نحوه وقالت:
-لبنى .. ليس اسمى الحقيقى.
ابتسم لها بمحبة وقبل طرف أصبعها البنصر وقال بغموض:
-أعرف ... فأنت أميرة ... أميرة الشرقاوية.

*****************

SHELL 23-10-18 05:36 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
توجهت السيدة مديحة الى شقتها القديمة بعد أن عانت الأمرين مع ابنها وزوجته لتحاول اقناعهما بضرورة ذهابها الى هناك لتطمئن الى أن كل شئ على ما يرام فقد صارت مغلقة لعدة أيام اضافة الى أنها أرادت أن تجمع بعض من أغراضها التى نسيتها فى غمرة انشغالها بلملمة حاجياتها حتى تسكن مع ابنها بشقته الأوسع والتى تشغل مكانا أرقى بكثير من الحى الذى كانت تقطنه مع زوجها الراحل , لِمَ تشعر بأن منزل ابنها ينقصه الدفء والسكينة التى كانت تغمرها ببيتها القديم حتى بعد وفاة زوجها كانت لبنى تملأ عليها فراغ حياتها وتؤنس وحدتها , كانت مدركة تماما منذ البداية أنها ليست ابنة أختها ولا حتى ابنة زوجها ,وأنهما قد تبنيّاها مباشرة بعد وفاة وحيدتهما التى لم تبقى على قيد الحياة سوى سويعات قليلة بعد ولادتها ,وقبل أن تصير الحادثة الفظيعة التى راح ضحيتها كلا منهما اعترف وجدى لها بأن الفتاة تنتمى لعائلة الشرقاوية وأن أباها اسمه ناجى ولكنه لم يفصح عن اسم والدتها وهى لم تضغط عليه بالسؤال ,كانت علاقتها بنسيبها ودية للغاية , فقد كان يعزها وهى كانت تحترمه , كأنه كان يشعر بدنو أجله فأزاح عن كاهله سر ابنته - التى رباها وتولى رعايتها هو وزوجته - وكأنها ابنتهما الراحلة وجعلها الوصية عليها ,وتساءلت بعدها هل من الأفضل ابعادها عن أقاربها الأثرياء وحرمانها من التمتع بثروة تغنيها الى يوم الدين وتكفل لها حياة الرغد , ولكنها خشيت افتضاح أمرها ولم يشك أحد فى نسبها لوجدى حيث كانت تشبهه لدرجة مذهلة ومن يراهما سويا لا يشك ولو مثقال ذرة بأنهما والد وابنته , وهذا يعود لقرابته لها فهما يحملان فصيلة دم واحدة وهى نادرة,والآن اتصلت بها صديقتها المفضلة والتى كانت لا تفترق عنها فى الماضى لتطلب منها اللقاء لأمر ضرورى, كانت تخشى من مواجهتها لها فهى بالتأكيد لم تنس الماضى ولا أحداثه المريرة التى تركت مذاقا لاذعا فى نفسها لا يمكن تجاهله,ولم تستطع رفض هذه المقابلة فهى تعلم بأنها آتية لا ريب فيها فما الفائدة من ارجائها لما بعد , فكما يقال وقوع البلاء ولا انتظاره , وهل يوجد ابتلاء أشد من هذا ؟
كانت جالسة فى صالة منزلها تسترجع شريط حياتها وأحلى أيام عمرها التى قضتها مع رفيق عمرها الراحل وذكريات ابنها الذى صار رجلا والابنة اليتيمة التى ترعرعت فى كنفها بعد موت والديها بالتبنى,وبالرغم من المناوشات التى كانت تنشأ بين لبنى وبين ابنها حسام الا أنهما كانا يتصالحان بعدها لتعود المياه الى مجاريها وهى لا تنكر رغبتها فى عدم زواجه منها حيث أنها شعرت بميل طفيف فى تصرفاته نحوها فوأدت هذه المشاعر الوليدة فى مهدها حتى لا تطالهما المشكلات فيما بعد , يكفيها ما نال أختها مهجة من جراء زواجها من وجدى الشرقاوى , ان مجرد انتمائه ولو اسميا لهذه العائلة ذات النفوذ القوى كان شيئا مرعبا لها , فقد نجح أبوه السيد عبد العظيم فى منع استقراره بأى مكان ولا بأى وظيفة فصار كالرحالة هو وزوجته ولبنى لا يبقون بمكان واحد أكثر من شهرين أو على أقصى تقدير ثلاثة أشهر فقرروا السفر الى محافظة أخرى وقد استقر الثلاثة مدة لا بأس بها فى الاسكندرية حتى صارت الحادثة الأليمة التى تركت أثرا غائرا فى نفسية البنت المراهقة لفقدانها مصدر الوحيد للأمن والأمان وهى وحيدة بهذه الحياة محرومة من اهتمام عائلتها ومن حنان أبويها, فكان من المنطقى أن تستقر لدى خالتها ولم يكن معروفا لأيا كان أنها ليست ابنة أختها حتى ابنها حسام كان مقتنعا بأنها قريبتهم فقد كتمت هى السر وكان كالشوكة فى ظهرها تخزها من حين لآخر غير قادرة على التحمل وتريد الفضفضة لعلها تريح قلبها المثقل بالأحزان.
اعترفت للبنى بهذا السر يوم قررت الفتاة الذهاب الى عائلتها للاستقرار فى منزلهم , وقد خشيت عليها من هناء بالذات لا بد أنها تكرهها لأنها تذكرها بزوجها الذى نبذها وفضّل عليها مهجة ,وها هى هناء تود المجئ لرؤيتها بعد كل هذه السنوات وقد ظنت أنها نسيتها مع بعد المسافات وانقطاع سبل الاتصال بينهما ولا تعرف كيف حصلت على رقم هاتفها المحمول , لا فائدة من محاولة التخمين لسبب الزيارة , كلها دقائق قليلة وتتشرف بمعرفة الغرض من هذا اللقاء.
ارتعدت فرائصها وهى تستمع لرنين جرس الباب المتواصل بقوة , والذى ينبئ بقدوم الزائرة فى موعدها بالضبط , وترددت لبرهة قبل أن ترى أنه لا جدوى من الادعاء بعدم تواجدها أو محاولة تجاهل الرنين المزعج والذى أقلق راحتها وأخرجها من ذكرياتها المتدفقة لتواجه واقعا لا مفر منه , ما جدوى الاختباء فى قوقعة من وهم ؟ لتذهب وتواجه القادمة بثبات.
كان اللقاء غريبا , سيدتان متقاربتان فى العمر وقفتا الواحدة أمام الأخرى تتأمل آثار الزمان على الوجوه وعلى المشاعر المتبادلة , رحبت بها مديحة بعد أن أفسحت لها المجال لدخول منزلها وقد اعتادت على زيارتها له بالماضى ولم تنس هناء تفاصيله المختزنة بذاكرتها الحديدية , كل شئ فى مكانه لم تمتد اليه يد التغيير وهى تعرف عمق تعلق صديقتها بكل ما تملكه وكانت تدعوها بالمتملكة العتيدة لأنها ترفض مذهب التجديد ما دامت الأشياء على حالة جيدة ولم يصبها أى ضرر , واتخذت لنفسها مقعدا منفردا حيث تستطيع مواجهة المرأة التى كانت ذات يوم من أقرب الناس الى قلبها , حيث كانتا زميلتين منذ أيام الدراسة وحتى دخول الجامعة وكانت وقتها قد تزوجت من ابن عمها ولم يمنعها من استكمال دراستها وقد كانت بغنى عنها فهى تمتلك مالا يكفيها العمر , بينما أصرت على مواصلة تحصيلها العلمى فكان هذا هو قرارها الوحيد الذى نبع عن تصميم شخصى بعد أن تخلت عن حقها الأصيل فى اتخاذ القرارات منذ صار عمها مسؤولا رسميا عنها وعن أخيها ,واستسلمت بيأس له وهو يرسم مستقبلها بأصابعه القوية ويحركها كالدمية الخشبية بخيوط حريرية كانت أشد قسوة من القيود الفولاذية , تنهدت بعد أن صار الماضى ورائها ولا سبيل للعودة اليه لتغيير ما جرى.
الا أن القدر أبى الا أن يعلنها حربا على صداقتهما الوطيدة وينتصر بمعركته ضدهما وهى لا تلومها فقد كانت على حق وقت أن قطعت علاقتها بها فلا توجد واحدة تتحمل أن تصادق امرأة تزوجت شقيقتها بزوجها حتى ولو كانا شبه منفصلين قبل لقائه بها , كانت مهجة شقيقتها هى السبب فى التفرقة بينها وبين صديقة عمرها هناء .
-مرحبا بك يا هناء فى بيتى , مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأيتك فيها.
قالتها مديجة بصوت مرحب وهى تحاول أن تبتسم ببشاشة فى وجه ضيفتها الغير مرغوب بوجودها.
-مرحبا يا مديحة,نعم مضى أكثر من خمسة وعشرين عاما.
كان صوتها باردا كالثلج يتسلل الى العظام يؤلمها ببرودته, وشعرت مديحة بتجمد الهواء الفاصل بينهما فأرادت الانتهاء من هذا الأمر بسرعة حتى تستطيع التقاط أنفاسها بحرية.
-لا أظن أنك أتيت لاسترجاع ذكريات الماضى.
تعجبت هناء من سخرية مديحة فلم تعهدها شخصية قادرة على جرح مشاعر أى انسان , كانت دوما البلسم الشافى لجراحها والصديقة التى تأمن معها على سرها , فما الذى غيّرها هكذا ؟ وفكرت أنها قد تغيرت أيضا وصارت لا تعرف نفسها حتى وهى تنظر الى المرآة تشعر بأنها ترى مجرد انعكاس لصورة امرأة غريبة كليا عنها , وبدأت تحاول الدخول الى صلب الموضوع فشبكت يديها فى أحضانها وهى تشعر بتوتر بالغ وقالت بصوت جاهدت لتخرجه قويا ثابتا:
-أنت تعرفين أن لبنى قد جاءت لتستقر معنا فى منزل العائلة .. وفى البداية .. كانت كل شئ طبيعى , الى أن حدثتنى اليوم بأمر غريب , ولا أدرى هل أصدقها أم لا ؟
تسللت الحيرة الى مديحة وهى تتساءل يا ترى يا لبنى ماذا فعلتى ؟ وأى تهور قمتى به ؟
سألتها مديحة وقد أثار انتباهها هذا الحديث:
-ما الذى دار بينكما ؟أرجوك لا تخفى عنى شيئا.
-لقد أتيت لسؤالك ...
تريثت لخمسة ثوانى ثم أكملت مباشرة بدون تردد:
-هل لبنى حقا متبناة ؟ أليست ابنة وجدى ... ومهجة ؟
أسقط فى يدها وشعرت بالدنيا تدور من حولها وبأن أثاث بيتها يطبق عليها من كل جهة ,لا يمكن أن تتصور أن جرأة لبنى وتهورها قد أوصلاها لهذا المدى البعيد ,وخطرت ببالها فكرة ربما كانت هناء تكذب وربما عرفت بالأمر من شخص آخر غير لبنى , وجاءت لتوقع بها وهى ساذجة تصدق أيا كان فهاجمتها بقوة:
-ما هذا الكلام الفارغ؟ انها ابنتهما رسميا, ويوجد لدى كافة الأوراق المطلوبة وقد اطلع عليها محاميكم .. ماذا كان اسمه .. آه اسمه مجدى العمراوى , أليس هذا هو اسمه؟
كانت تحاول حماية صغيرتها كأنها قطة تدافع عن ابنتها ومستعدة للنيل ممن يحاول أذيتها,قاطعت هناء ثورتها المتشددة:
-انها لبنى بنفسها من أخبرتنى بأنها ليست ابنة وجدى الحقيقية .. وطالبتنى بالتحالف معها من أجل الانتقام من العائلة التى ظلمتها وظلمت أمها , ولكنها لم تخبرنى من هم والديها الحقيقيين , هل تعرفين بشأنهما ؟
حسنا,يمكن للمتهورة التى تعرفها أن تقوم بعمل غبى كهذا وتحرق أوراقها فى أول أيامها بالفيلا , لقد أخبرتها من قبل بأنها تنوى الانتقام لأمها الحقيقية والأم الأخرى التى ربتها , وأنه لن يغمض لها جفن قبل أن يدفعوا الثمن غاليا.
ولكنها لم تطلع لبنى على اسم والدها واكتفت باخبارها بأنه ينتمى لعائلة الشرقاوية لذلك اعتنى بها وجدى لأنها تعد قريبته , ولهذا فهى متأكدة بأن هناء لا تدرك بعد عمق الصلة بينها وبين لبنى , واذا أرادت التأكد من حمايتها لها فعليها أن تعترف بالأصعب ولتواجه القدر فهى تشعر بثقل هذا السر على قلبها وتريد البوح به لأقرب شخص ومن أفضل لتشاركه حملها من صديقتها القديمة, أغمضت عينيها وكأنها تحاول استجماع شتات نفسها المبعثرة حين سمعت صوت هناء يستحثها بأمل:
-ألا تعرفين حقا من هم والديها ؟ أؤكد لك أننى لا أتمنى لها الأذى , كل ما يجعلنى أتكدر لرؤيتها أمامى أنها تذكرنى بوجدى حيث أنها تحمل ذات العينين ببريقهما اللامع وتشبهه فى الكثير من الملامح , كنت أعتقد بأننى قد نسيته وكرهته مع الوقت , الا أن صارت الحادثة وعلمت بنبأ وفاته , يومها لم أتمالك نفسى من البكاء والانهيار الذى أصابنى بعدها أكد لى أن مشاعرى نحوه لم تكن كراهية أبدا , ظللت أحبه حتى النهاية بالرغم من هجره لى وزواجه من شقيقتك , ظل زوجى حتى وفاته , هل تعرفين ... كان يمكن أن أطلب منه الطلاق بسهولة وكان سيوافق غير نادم على شئ الا أننى لم أجرؤ على الانسلاخ عن هويته .. تمنيت أن أظل حاملة لاسمه الى يوم تصل نفسى الى بارئها.
وأجهشت بالبكاء المرير وأخذت تشهق بقوة من بين دموعها المنهمرة كالأمطار الصيفية تتسابق لتصل الى خديها الجميلين حاملة معها لون كحلها الأزرق الذى زينت به عينيها, فأثارت التعاطف نحوها فى نفس مديحة وقامت لتربت عليها وتأخذها فى حضنها كما كانتا تفعلان فى الماضى , وكانت هناء فى البداية منكمشة على نفسها لا تتحرك ثم تباطأت ذراعاها وهى تلفهما لتحتضن الصديقة المخلصة التى كانت لها دوما السند فى الأوقات العصيبة.
ابتعدت عنها مديحة قليلا لتنظر الى عينيها الدامعتين وتحاول مواساتها فأبدت استعداد لتقبل هذه المشاعر الودية المتنامية نحوها:
-اسمعى يا هناء , لقد صدقتك لبنى الحديث ولم تكذب أبدا.
برقت عينا هناء بلمعان خاص وهى تستنجد بمديحة لتطلق رصاصة الرحمة التى تنتظرها:
-هل هى حقا ابنة ناجى؟
صدمت مديحة بما قالته صديقتها فكيف خمنت باسم والد لبنى , وهى لم تعترف به للفتاة الشابة , وجاء الدور عليها لتسألها باهتمام:
-هل لبنى من أخبرتك بهذا الاسم ؟
أومأت هناء برأسها ايجابا ثم قالت بارتعاش:
-ظننتها لعبة منها , وقد اعتقدت بأنها تحاول مضايقتى الا أنها كانت تتكلم بثبات ...ولكنها لم تعترف باسم والدتها , فعادت الشكوك لتساورنى بمرادها.
-انها ابنة ناجى ... أخيك , ولكننى لا أعرف حقا من هى والدتها, ربما وجدى كان يعرف.
-هل ... هل وجدى كان يعرف بأنها ابنة ناجى ؟
-طبعا , لقد قام بالعناية بها بسبب قرابتها له ولأخيك ,وأعتقد كرما لك أيضا.
أدركت هناء أنه لم يفعل هذا كرما لها أو لأخيها , ولكنه كان يقوم بواجبه تجاه ابنة أخته , وعادت لتتذكر بأن مسألة الزواج بين أخيها وفريال كانت سرية فلم يعرف بها الا القليلون حتى ابنها كريم وأبناء عمومته لا يدركون أن عمتهم كانت متزوجة من ابن عمها وأنها فقدت طفلتها الرضيعة قبل خمسة وعشرين عاما.
-حسنا,هذا يفسر الأمر تماما,ولكن هل توجد أوراق رسمية تثبت هذا النسب؟
ساورت مديحة الشكوك حول رغبتها فى الاطلاع على هذه الأوراق التى لا تملكها للأسف , ولكنها حاولت مسايرتها حتى تعرف بنيتها الحقيقية:
-هل تريدين انكار هذا النسب ؟
-لا , ولكن ما يذهلنى أنه باعترافها هذا تكون غير مستحقة للميراث , فلماذا أرادت أن تلعب هذا الدور الصعب؟
اذا علم الآخرون بهذا وخاصة سيف ورفيق سيكون كارثة بكل المعايير , ولن يرحمها أيا منهما , بل أعتقد أنهما سيقومان بطردها من البيت.
خبطت مديحة على صدرها براحة يدها وهى تشهق بفزع:
-أليست ابنة أخيك ؟ أليس لها الحق بالتواجد فى ذات المنزل؟
-بل لن تصدقى , بهذا سيكون لها النصيب الأوفر من الميراث , فعندما اختفى أخى واستصدر عمى شهادة وفاة له كان متيقنا بأنه لا وريث له على قيد الحياة , وهذا الاكتشاف سيسجل ضربة لهم , ضربة قاصمة حقا.
كانت تحدث نفسها أكثر مما توجه الحديث لمديحة وقد خشيت هى من تلاعبهم بمصير لؤلؤتها الجميلة , كل واحد له أغراضه الخاصة ويريد استغلالها فيها , وما يهمهم من مشاعرها ؟ لم يعد باستطاعتها حمايتها من غدر الزمان , وتمنت لو كان وجدى ما زال على قيد الحياة ليتولى الدفاع عنها كما أخذ دائما على عاتقه , لم يكن من النوع الذى يتخلى عن مسؤولياته , وآه من لو !
-اسمعى يا مديحة , أرجوك اذا ما وقع تحت يديك أى اثبات لما أخبرتنى به أن تبلغينى , ألم يترك وجدى وسط أوراقه أى شئ يمكن أن يساعدنا؟
هزت رأسها نفيا, وهى موقنة بأنه لم يعترف لها بالأمر من أجل الميراث ولكنها محاولة منه فى مشاركتها للسر حتى لا يدفن بموته,وحتى تعلمها به وقت اللزوم.
-لا لم يترك شيئا وراءه , أقسم لك أنه لو كان لدى ورقة واحدة كنت سلمتها للبنى.
ابتسمت هناء بالرغم من أحزانها :
-انها ليست لبنى ... هى أميرة ... أميرة الشرقاوية.
قالتها بغموض وودعت صديقتها وانصرفت بهدوء تاركة مديحة تتخبط فى حيرتها التى ازدادت الى حد مرعب.

***************

SHELL 25-10-18 12:57 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الحادى عشر

https://i.skyrock.net/8028/89528028/...5_K9epk3SH.gif




قرر سيف المرور على ابن عمه رفيق ليطلعه على بعض الأوراق الخاصة بالعمل ويطلب مشورته الخاصة ,بعد أن صار على بعد خطوتين فقط من مكتبه تراجع ببطء وهو يلوم نفسه على هذا القرار المتهور ,لماذا لم يرسل له أحد السعاة بالأوراق المعنية ؟ وفيما هو على شروده ألقى عليه أحد الموظفين بالشركة التحية فرفع يده عاليا ليرد تحيته وكأنه بعالم آخر ,وقف يراقب تصرفه الأرعن ويكلم نفسه ( لا يوجد مجال للتراجع الآن , فقد اتخذت قرارك وعليك أن تتحمل نتائجه , ثم أن العمل يأتى فى المرتبة الأولى ) هكذا حاول اقناع نفسه بدون جدوى ,هو فى قرارة ذاته يعرف الحقيقة , لقد أراد رؤيتها , بل أنه يشتاق لها كلما ابتعدت عنه , هل سيصل الأمر به الى أن يطاردها ؟
دفع الباب بعنف لم يكن يقصده ,ففوجئت مها بدخوله الذى أربكها وحاولت الترحيب به بصوت معتدل لا ينم عن شئ:
-مرحبا سيد سيف,هل من خدمة أؤديها لك ؟
وحاولت أن ترسم بسمة ودية على شفتيها الممتلئتين باغراء ,فيما تنتظر منه الاجابة التى ستحدد تصرفها التالى ,أخذ سيف يطالعها بنظراته الجريئة وهو يمسحها من قمة رأسها الى أخمص قدميها , مما أثار فورة غضبها فكيف يجرؤ على أن يعاملها بهذه الطريقة وكأنها فتاة من الشارع ؟ كان له رأيا وضيعا للغاية بمثيلاتها ممن يعملن بمهنة السكرتارية ,فكلهن جميلات متصنعات ولهن هدف واحد هو غايتهن الكبرى ألا وهو الايقاع بمدرائهن الأثرياء ,ولا يهم ما ستسلكه من سبيل أعوج حتى تصل الى هدفها المنشود ,فالغاية تبرر الوسيلة كما تدعين ,انتبه لما وصلت اليه مشاعره بعد أن انفرجت شفتاه قليلا لتعبر عن رغبة قاتلة ليضمها بين ذراعيه ويثمل من رحيق شفتيها الورديتين حتى يكتفى وتكتفى فلا يبقى لديها ذرة واحدة من المقاومة فتنسى جميع الرجال ولا يعد جسدها يتذكر سوى طيف واحد فقط ,أجابها بخشونة حادة:
-هل السيد رفيق موجود بمكتبه ؟
-نعم , ولكنه أمر بعدم ازعاجه .
قالتها وهى تحاول أن تقنعه بدبلوماسية ألا يحاول المعاندة , الا أنه لم يبدو عليه التأثر لما قالته واندفع نحو باب مكتبه الخاص ليحاول أن يصل الى ابن عمه ,فقامت مها بحركة جريئة تحاول فيها الحيلولة بينه وبين الباب المغلق , فاصطدمت يداها بصدر قوى صلب ووجدت نفسها محبوسة بين ذراعين فولاذيتين فيما العينان الغاضابتان تقدحان شررا من هول جرأتها , هل حقا اعتقدت أنها تستطيع منعه ؟
-ارجوك يا سيد سيف !
-أرجوك ماذا ؟
كان لا بد أن يعاقبها بما تستحق لجرأتها عليه ووقوفها فى وجهه ,فيما انحنى نحوها مقتربا بشفتيه من فمها الصغير ,ليخلص نفسه من العذاب الذى يؤرقه ,انفتح الباب الخارجى للمكتب وتمكن سيف من رؤية كريم يقف مذهولا وهو يجيل بنظراته بينهما وتنطق عيناه بغضب صامت ,فتراجع هو بضعة سنتيمترات ليفسح لمها مجالا حتى تبتعد عن مجال جاذبيته المغناطيسى وهى لا تدرى كيف تتعامل فى مثل هذا الموقف المحرج ؟ لقد أهينت على مرأى من كريم اضافة الى وجود سيف الذى أربكها وشل أى قدرة على التفكير السليم ,وأشار كريم لابن عمه بمعنى واضح فاعتدل سيف فى وقفته وهو يعدل من هندامه وقال بلهجة عادية:
-هل تعرف لماذا يختفى رفيق بالداخل ويمنع دخول أحد اليه ؟
ابتلع كريم ريقه وهو حائر فى تفسير ما رآه بعينيه ,ولكنه آثر تأجيل الحساب مع سيف لما بعد , وأجابه بعد طول انتظار:
-لقد جئت لأتحدث اليه أيضا
ثم وجه حديثه للسكرتيرة التى لم تكن قد استعادت رباطة جأشها:
-هل ما يزال مع لبنى بالمكتب ؟ أم أنه مجتمع مع شخص آخر ؟
أومأت له بالايجاب حتى وجدت صوتها يعود الى طبيعته بصعوبة بالغة:
-انه مع الآنسة لبنى ,وقد أعطى أوامره بعدم مقاطعتهما لأى سبب , وقد أراد السيد سيف الدخول فحاولت ...
وبترت جملتها فلم تبرر له ما هو يندرج تحت بنود وظيفتها ؟ وليس ذنبها أن ابن عمه ذئب متوحش لا يتوانى عن فعل الموبقات , هكذا سمعت عنه منذ بدأت عملها بالشركة فى يومها الأول بعد نجاح المقابلة التى أجراها هو لها بنفسه ,ولم تشعر بارتياح لنظراته المتأملة لها والتى لم تترك شبرا من جسدها الا وانتهكته بوقاحة متعالية وكأنه حق أصيل لديه .
أشار لها كريم بالصمت فلا جدوى من اثارة الأمر أكثر من ذلك وليعتبروا أنه لم يكن مؤقتا ,وأمسك بمرفق سيف ليدفعه الى الخارج فيما هم سيف بالاعتراض وهو يسأله بجدية :
-لماذا يجتمع رفيق ولبنى بالداخل وحدهما ؟ كما أننى أريد أن يوقع بعض الأوراق الهامة بعد الاطلاع عليها.
-اذن فى هذه الحالة اتركها على مكتب السكرتيرة وبالتأكيد لن يعدموا الوسيلة لاعادتها اليك.
أراد كريم أن يعيد الأمور الى نصابها الطبيعى ليذكر سيف بأن هذه هى وظيفة السكرتيرة وليس من مقامه العالى أن يقوم بايصال الأوراق بنفسه ,والسعاة يتواجدون بكل مكان ,فلم يجد بدا من الاقتناع بهذا الحل ,اقترب من مكتب مها وأدنى منها الأوراق فمدت يديها بسرعة لتسحبها منه الا أنه أبقاها متعمدا بين يديه وهو يأمرها بغرور:
-انتبهى جيدا لهذه الأوراق حتى لا تضيع ,وحالما ينهى السيد رفيق اجتماعه المغلق سلميها له على الفور,مفهموم؟
أجابته بتحد سافر:
-مفهوم ,, يا .. سيدى
ابتسم بسخرية لها وهو يرمقها باعجاب:
-عاقلة.
بعد انصراف الرجلين الأكثر صلفا وعنادا بالشركة , تنفست مها الصعداء وهى لا تستطيع أن اصدق حسن حظها بالنجاة من بين يدى الذئب المفترس ,هل حقا كان سيحاول تقبيلها ؟ انها متأكدة بأنه كان مجرد تهديد لأمنها ولكنه لم يكن ليجرؤ على الاقدام على هذه الفعلة ثم عادت لتفكر بوضوح : وما الذى يمنعه من هذا ؟ أنه يظن أن كل سكرتيرة هى فتاة وضيعة تسعى نحو الثراء السريع بايقاع الرجال الأثرياء فى شباكها , الا أنها سوف تكسر غروره وتثبت له خطأ ظنه.
وعادت لتتأمل الباب المغلق الذى يفصل بينها وبين رئيسها بالعمل , تحاول معرفة ما يدور وراء هذا الجدار السميك بلا طائل.

****************

SHELL 25-10-18 12:58 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


لم تعرف هناء كيف استطاعت أن تلملم شتات نفسها الممزقة وهى تبتعد عن منزل مديحة الذى طالما كانت تتردد عليه بل وتقضى فيه أحلى الأوقات برفقة صديقتها المفضلة وأختها الصغيرة مهجة التى ظلت تعيش برفقتها حتى بعد أن تزوجت مديحة ولم يمانع زوجها الرجل الطيب فى أن يستضيف الفتاة خفيفة الظل المرحة والتى يعشقها الجميع من أول نظرة لبرائتها الفطرية واندفاعها الجرئ فلا يملك من يراها الا أن يقع فى حبها ,وقد وقع زوجها هى بالذات فى غرام هذه الفتاة بل واستطاع معها أن يكمل مسيرة حياته فى حين أنها هى حبه الأول توقف بها الزمان لدى لحظة معينة ولم تعد تشعر بطعم لأى ذكرى مرت بها بدون وجوده ,كان يملأ حياتها ووجدانها ولكنها حطمت قلبه وأبعدته عنها باصرار غريب ,وهى للأمانة لم تحقد عليه ولا على مهجة بل فى قرارة ذاتها تمنت لهما السعادة وان كان الثمن أن يحرم ابنها كريم من دفء أحضان أبيه ,وهو ما زال طفلا لاهيا يسأل بسذاجة طفولية عن غياب والده الذى يشتاق له بجنون فلم يكن عمره وقتها يتجاوز الأربع سنوات , وبدأت تؤلف الأكاذيب ببراعة منقطعة النظير ,حتى أخذ كريم فى انتهاج سلوك متجاهل نحو هذه المصيبة وبدأ يكبر يوما فيوما ولا يكاد يذكر سيرة وجدى بكلمة واحدة بل صار يتهرب من أى حوار قد يصل به فى نهايته الى مجرد سماع اسمه,وللحق أنها ارتاحت فى وقتها وظنت أنه قد تحسن ونسى أمر أبيه ,الا أنها كانت تتقطع ألما على حاله وتشفق على نضوجه المبكر ,فأخذ يتصرف بكبرياء وعنفوانية لا يتماشيان مع سنوات عمره القليلة ,وهو يخبر جده كلما سأله عما اذا كان ينقصه شيئا بأنه لا يحتاج الى أحد ,وكان الجد فخورا بهذه الاجابة الأبيّة التى تغذى شعوره الأنانى بالسعادة ,فها هو يثبت لها مرارا بأن الولد لا يفتقد لوجود أبيه وكان كريم قرّة عين جده فكان يدلله كثيرا ولا يرفض له طلبا حتى يعوّضه عن حرمانه لأبيه ,ولكنها أمه وأدرى الناس بأنه لا بديل لحنان وعطف الأب فقد فقدت أباها وهو ما زال حيّا ويعيش بنفس المنزل ,ولكنه كان ضائعا بعالمه الخاص لا يفكر بأبنائه ومصالحهم.
انسابت العبرات تبلل وجهها وتحيل الرؤية أمامها الى ضباب ,وحاولت أن تمسح بكف يدها الدموع المنهمرة بلا توقف وفجأة سمعت صرير اطارات سيارة على بعد سنتيمترات قليلة منها ولامستها مقدمة السيارة بعنف فألقتها بعيدا على جانب الطريق ,وبدأت الذكريات تتوالى أمام عينيها ... طفولتها ,ووجوه من عرفتهم ,أخيها ,أبيها ,وجدى ,عمها,كريم وأخيرا لبنى ,ثم تشوشت الصور بطريقة فجائية ,وكانت تسمع من بعيد صوتا مألوفا يناديها قبل أن تفقد وعيها:
-هناء ... هناء.

********************

SHELL 25-10-18 01:00 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


فى تمام الساعة الخامسة عصرا ,اجتمع كل أفراد العائلة على مائدة الطعام المستطيلة وكان كل واحد يشغل مقعده المعتاد بنظام ودقة اعتاد أهل هذا البيت عليها ,فلم يكن ممكنا أن يخلف أيا منهم هذا الموعد ,وجلست السيدة شريفة على رأس المائدة وفى الطرف المقابل لها جلس محمد الابن الأكبر فى مكان أبيه الراحل ,وجلست الى يساره زوجته سوسن وبجانبها ريم والى يمينه كان رفيق جالسا بهدوء والى جواره كان كريم يراقب مقعد والدته الفارغ وقد بدأ القلق يتمكن منه فهو قد أنهى عمله متأخرا عن أبناء عمه وعندما أشرف على غرفة الطعام كان الجميع ينتظرونه فلم يجد متسعا الا لغسل يديه وانسل الى مكانه بدون حتى أن يغير ثيابه ,وعندما رأى أن والدته لم تكن حاضرة ظن أنها ربما تعطى بعضا من أوامرها للخدم فى المطبخ ,فزوجة عمه منى ترى أنه ليس من مفردات حياتها أن تشغل بالها بهذه الأمور التافهة وعمته فريال تنأى بنفسها عن أى صلة بالعائلة منذ عودتها الغير متوقعة ,فلم يتبق سواها وزوجة عمه سوسن اللتان كانت تشرفان على شئون العناية بالمنزل,كانت سماح تعمل كالنحلة تأتى لتضع أطباق التقديم وتذهب لاحضار الشراشف ,فاستوقفها كريم بلهجة حادة:
-سماح , أين هى أمى ؟ أما زالت بالمطبخ ؟
توقفت الفتاة وكأنما لسعها عقرب وأخذت تهز راسها نفيا ,ففاض الكيل بكريم وأخذ يعنفها بلا داعى:
-هل أكلت القطة لسانك الطويل ؟ أجيبينى يا فتاة.
ابتلعت ريقها بصعوبة وهى تشعر بأنها فى مرمى الاتهام بشئ لم تفعله:
-أنا لم أرها منذ الظهيرة يا سيدى , ولا أعرف أين هى ؟
تصلبت ملامحه وهو يستمع لدفاعها الضعيف وقام ليدفه بكرسيه الى الخلف بصوت أحدث صريرا عاليا وقال بانفعال:
-لا يمكن , ألا تعرفين أين هى ؟ أليست بغرفتها ؟ هى اصعدى واطرقى الباب ,فلا بد أنها نائمة وأنت كسولة لا تفعلين شيئا نافعا أبدا ,هيا اذهبى لتوقظيها.
وضع رفيق يده على كتف كريم وهو يهدئ من روعه:
-اهدأ يا كريم , فلا بد أن المسكينة لديها عشرات الأشغال التى جعلتها تسهو عن هذا , كما أنه لم يقم أحد منا بتنبيهها , لماذا لم يلفت غياب عمتى هناء نظر أحد منكن ؟
كان حديثه موجها نحو السيدات الأكبر سنا واللاتى كن يحدقن بذهول غافلات عما يدور حقيقة أنه ولا واحدة بالفعل انتبهت لغيابها الذى طال بعد المشادة التى دارت بينها وبين فريال ,وعادت الخادمة المتوترة وهى تشعر بالذعر مما سوف تخبرهم به:
-لم , لقد . طرقت الباب فلم تفتح لى السيدة هناء وظللت واقفة حتى تأكدت أنه لا يوجد صوت ... ف .. ففتحت الباب ولم أجد أحدا بغرفتها.
-ماذا تعنين أيتها المعتوهة ؟ هل اختفت ؟ هل انشقت الأرض وابتلعتها؟
كان صوت كريم الصارخ يطغى على الآذان فيصمها وهو يطوّح بيديه الاثنتين فى الهواء باشارات غاضبة ثم استطرد وهو لا يعى تصرفاته:
-ألم يحدث أن شاهد أحدكم ماذا حدث ؟ ألم يرى أى منكم أمى ؟ هل هى مثل الهواء صارت شفافة لا تلقون بالا اليها !
فيما ألقت ريم نظرة اتهام الى عمتها فريال وبادلتها نظرتها بعداء واضح ثم اعترفت بصوت ينم عن تصميم:
-لقد صارت مشادة اليوم بينها وبين ..عمتى فريال ,وثارت اثرها فصعدت الى غرفتها .
ثم أخفضت صوتها بلهجة اعتذار:
-ولقد انشغل كل منا فى أحواله الخاصة فلم نعرف أين ذهبت بعدها.
ثم أطرقت برأسها وهى تشعر بالذنب لأنها انشغلت بأمر المكالمة الهاتفية الغامضة التى أنستها أن تطمئن على زوجة عمها.
ردت عليها فريال بتعالى متعمد:
-كيف تجرؤين أيتها الخرقاء على اتهامى ؟
حاول محمد التدخل للحيلولة بين أخته وابنته:
-لم يتهمك أحد بشئ يا فريال , فريم تحاول فقط تقرير بعض الحقائق
رنت سخرية فريال مجلجلة:
-عن أية حقائق تتحدث يا أخى العزيز ؟ الحقيقة الوحيدة هنا هو أنه لا يوجد من يهتم لأمر غيره , فالكل مشغول بنفسه , ألسنا كلنا كذلك؟
كانت نظرات منى شامتة متشفيّة , بينما صارت سوسن أكثر اهتماما بما يدور وهى تحاول أن تلقى اقتراحا مفيدا بالاتصال بها على هاتفها الخاص ,فيما جلس سيف عابسا وهو يشعر برغبة عارمة فى الابتعاد عن هذه الأجواء المشتعلة ,أما لبنى فكانت صامتة لا تظهر انفعالا ولا تبدى أى رد فعل وكأنها تنتظر من يحركها.
رفعت شريفة هانم بيدها النحيفة عاليا لتسكت الجميع, وقالت بصوت آمر:
-فلتتصل يا كريم بوالدتك أولا , ربما تكون قد خرجت لقضاء بعض المشاوير الخاصة بها ولن كانت لم تعلم أحد منّا بغيابها ولهذا فلم ننتبه يا عزيزى , فليس معقولا أن ننسى أمرها وما صار من حوار عاصف بينها وبين فريال كان مرده الى سوء تفاهم بسيط حول غياب لبنى هى الأخرى بدون علمنا.
قالت جملتها الأخيرة وهى توجه نظرات لوم جليدية نحو حفيدها الأثير ,الذى لم يبد عليه التأثر وظل صامتا ووجهه خاليا من أى تعابير ,ثم لم يلبث أن انتحى بكريم جانبا وقد أخذ هذا يحاول الاتصال بوالدته ولكن ظل هاتفها مغلقا بلا اجابة وهذا ما جعل قلقه يتضاعف ,وأخذ يعبث بخصلات شعره الكثيفة ويدلك رأسه عسى أن يصل الى حل ,وجد رفيق يسعفه بما عجز عنه ذهنه المشوش:
-فلنجرى اتصالاتنا مع صديقاتها المقربات فربما تكون قد قررت زيارة احداهن.
هز راسه يمينا ويسارا ويقول بيأس:
-لا فائدة من هذا , فليس لها أى صديقات مقربات ولا زميلات ,أنت تعرف أن حياتها كانت مقتصرة على مراعاتى والاهتمام بشئون البيت.
-لا يمكن يا كريم ! لا بد أن لديها صديقة مفضلة , ربما واحدة أو اثنتين, حاول أن تتذكر جيدا.
وربت على كتفه مشجعا بعزم , فيما أخذ كريم يقدح زناد فكره لعله يصل الى جديد ولكنه ما لبث أن شعر بالانهيار , فوالدته الغالية قد اختفت من المنزل بدون أن يعرف أحد , وصار يشعر بمسئوليته عنها , لقد كان مقصرا بحقها هذه الأيام وانشغل عنها فلم يجرى اتصاله بها كعادته اليومية ,لو كان فقط قد اتصل بها لعرف أين تتواجد ؟
قاطع خلوتهما محمد وهو يدنو منهما فيقول بثبات ورزانة:
-اسمع يا بنى , أنا أعرف لواء متقاعد بالشرطة , صديق مقرب لى ويتمنى أن يخدمنى برقبته ,سوف أتصل به وأدلى له بمواصفات والدتك واذا كنت تملك صورة لها فسوف أحتاجها معى , هيا أسرع فالوقت يداهمنا .
قالها ولكزه بمرفقه ليتحرك سريعا وهو تائه لا يعرف اين يذهب لقد كان حقا كالطفل الضائع بدون أمه ,أخذ يتعثر بخطواته وهو يفتش فى كل أنحاء الغرفة على صورة لها ,قام بفتح جميع الأدراج , وقلب محتوياتها على الأرض ,وأفرغ جميع العلب الخشبية والتى كانت أمه معتادة على وضع أغراضها الخاصة بها ,كان ثائرا غاضبا وفى نفس الوقت حائرا متخبطا ,لو فقط يعرف أين اختفت ؟ ثم خطر له هاجسا ملحا هل تم اختطافها ؟
وهو فى غمرة انفعالاته المختلفة رن هاتفه المحمول بنغمة أمه المألوفة ,فلم يصدق أذنيه ,اختطف هاتفه من جيبه وهو يرى اسم أمه على الشاشة فأجاب كالمسحور :
-أمى أين أنت ؟
أجابه صوت رجولى خشن :
-هل أنت السيد كريم ؟
-نعم , أنا هو , من أنت ؟ وماذا تفعل بهاتف أمى ؟
-انتظر قليلا , سوف أجيب عن جميع أسئلتك , لقد أصيبت والدتك فى حادثة تصادم بالطريق.
-يا الهى ! أمى هل أصابها مكروها ؟ تحدث.
-لا تقلق , لقد كانت حادثة بسيطة وأنا كنت قائد السيارة التى صدمتها ولكنها كانت سائرة بلا هدى ولم تكن منتبهة لما حولها .
طبعا يحاول الرجل تبرير فعلته القذرة , هكذا خطر لكريم ولكنه اطمأن قليلا لأن والدته بخير فسأله بحدة:
-أين هى الآن ؟
-انها فى منزلى و
قاطعه صوت هادر بغضب عنيف:
-ماذا تفعل فى منزلك أيها ..
-تمهل يا بنى , أنها فى منزلى وابنتى ترعاها بعناية , وقد استفاقت أمك الآن وهى تريد أن تحدثك.
سمع صوت والدته الواهن الضعيف وهى تحاول أن تتكلم على الرغم من آلامها المتزايدة:
-كريم , حبيبى لا تشغل بالك , أنا بخير.
-أمى , حمدا لله أننى سمعت صوتك ,وأنك بخير , هل يعاملونك بطريقة حسنة؟
ابتسمت هناء بضعف بالغ:
-نعم يا بنى , فابنة الرجل الذى صدمنى قد قامت بعمل اللازم وأكثر , لقد أحسنت الاهتمام بى وهى كالملاك الرقيق ,أرجوك لا تنفعل كثيرا فقد كان هذا خطأى أنا ,لقد كنت شاردة الذهن وأنا أعبر الطريق.
-أين كنتى يا أمى ؟ ولماذا خرجتى بدون أن تعلمى أحدا فى البيت ؟ ما كنا وصلنا لهذه الحالة.
-ليس هذا وقت العتاب يا حبيبى.
-طبعا يا ست الكل , المهم أننى قد اطمأننت عليك , هيا أخبرينى بعنوان المنزل حتى آتى لاصطحابك فورا.
-حسنا سأناول الهاتف للسيد صلاح حتى يعطيك العنوان بالتفصيل.
أخذ السيد صلاح يملى عليه تفاصيل عنوان منزله بدقة متناهية وكريم يسجل كل ما يسمعه بورقة صغيرة فى دفتر قريب منه وأنهى المحادثة معه وهو لا يصدق نفسه من الذهول الذى اصابه وأخذ يحمد الله ويشكره على كرمه الواسع , فيما صعد رفيق اليه ليرى ما الذى أخره بالعلية ,وفوجئ به يضحك ويبكى بجنون حتى شعر بقلق عليه وعلى سلامة عقله ,فأخذ يهزه بعنف وهو يصيح به:
-ما الذى اصابك يا كريم ؟ سوف نجدها لا تقلق أنها مسألة وقت فحسب.
- لقد ... لقد وجدتها يا رفيق .
وأخذ يعيد على مسامعه فى كلمات متخبطة متعثرة ما حدث منذ دقائق قليلة وهو سعيد بنجاة أمه من هذه الحادثة.
-حمدا لله على سلامتها , هيا بنا لنذهب ونحضرها.
-لا داعى لأن ترافقنى , فسأذهب وحيدا.
لم يجد رفيق داعيا لاصراره على الذهاب معه , فقد شعر بأنه يود الانفراد بوالدته بعيدا عن جو العائلة الذى صار خانقا , وقد احترم قراره هذا ,كما أنا لم يشأ فعليا بترك لبنى فى هذا الوقت الحرج.

**************

SHELL 25-10-18 01:02 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
فيما عرض الجميع على كريم مرافقته فى طريقه لاصطحاب والدته بعدما عرفوا منه باختصار ما جرى لها ,وكانت علامات الأسف والحزن بادية على غالبية الوجوه ما عدا منى التى كانت تجلس صامتة وكأن الأمر لا يعنيها ولم ترهبها نظرات زوجها اللائمة التى كان يرسلها نحوها بين الحين والآخر فيما نجحت أخيرا فى أن تنطق بجملة أثارت الجو العائلى الذى وحّدهم جميعا بالتوتر وهى تقول بلهجة لا يبدو عليها الاكتراث:
-حمدا لله على أنك عرفت طريق والدتك ,وان كانت هى المخطئة بخروجها المتخفى عن أنظارنا وقد كان لا بد وأن تعلمنا حتى لا تثار كل هذه الضجة والفوضى ثم يتضح أنها بخير.
لم يصدق سيف أن هذا الكلام يصدر عن أمه ,ترى هل هذه هى مشاعرها الحقيقية نحو زوجة عمه ؟ أنه كان يراها تلتصق بها بالساعات قبل هذا الحادث وتحاول أن تتقرب منها بشتى الوسائل , ما الذى غيّرها لهذه الدرجة ؟ولم يدر المسكين أن أمه لم تتغير قط ولكنها أسقطت قناعها الزائف واستبدلته بالحقيقى الذى انكشف فى موقف كهذا ,فلم يحتمل نظرات العائلة وهى تتوجه نحو أمه فى شذر حتى والده بدا عليه الحرج الشديد وقد تعمّد أن يربت على كتف ابن أخيه ويحاول اصلاح ما أفسدته زوجته بقوله:
-ان شاء الله تطمئن على والدتك , ومرة أخرى حمدا لله على هذه الأخبار الحميدة,نحن فى انتظاركما.
شد كريم على يد عمه عادل وهو يشكر له اهتمامه البالغ ويعبر عن امتنانه بهذه المشاعر الفيّاضة :
-شكرا يا عمى ,أنتم خير سند لى,أستأذن سأذهب الآن حتى ألحق بأمى سريعا , فلا بد أنها متعبة للغاية وتحتاج للراحة.
ألقى تحية السلام عليهم وانصرف بعدما حاول أن يكتم نوبة غضبه واستطاع السيطرة على انفعاله فمنع نفسه من الرد على زوجة عمه الحقودة بما يليق بها ,وقد كان هذا احتراما لمشاعر عمه وسيف فهو رفيقه المقرب وصديق طفولته وشبابه.
ما أن غادر كريم المكان حتى عاد الجميع لمجلسهم على مائدة الطعام وان كانت شهيتهم قد انعدمت تماما فأخذ معظمهم يقلّب الطعام البارد فى صحنه وهو شارد ,وبقى الآخرون يحدّقون ببعضهم البعض ,وكان أول من اتخذ قراره بمغادرة الطاولة هو رفيق الذى اعتذر من جدته لأنه بحاجة الى الراحة بعد يوم عمل شاق وطويل ,وتبعته ريم غير غافلة عن نظرات لبنى المتوسلة لها بأن تبقى ,وأخذت لبنى كوبا من الماء أمامها وارتشفت قليلا منه ثم مسحت شفتيها بفوطة السفرة ثم قامت من مقعدها وهى تقول بحبور:
-سفرة دائمة,عن اذنكم.
وتبعتها على الفور فريال بدون أن تعير أي من الجالسين اهتمامها والذى كان منصبا بالدرجة الأولى على الفتاة ,توقفت فريال عند باب الحمام وهى تراقب ابنتها تغسل يديها من أثر طعام لم تمسه وقد أخذت تفرك بشرتها لتجففها جيدا ثم انتبهت لنظرات فريال المشعة نحوها وهى ترمقها بحنان وحب لم تلاحظهما من قبل وقد ظنت أنها تتعجلها لاستخدام الحمام فألقت بالمنشفة وهى تسرع بالخروج وقالت:
-معذرة ,لم أنتبه لوجودك ,تفضلى فقد انتهيت.
ومرت بجوار فريال الا أنها استوقفتها وهى تنظر لها باشتياق طال سنوات كثيرة وقالت برقة لم تتناسب مع نظرتها الأولى لها بأول لقاء لهما:
-انتظرى يا بنيتى ,أود أن أتحدث اليك.
نظرت لها باستغراب وهى تشك فى نيتها , لماذا هذا الاهتمام المفاجئ من جانبها ؟ ولماذا تتخيل الرقة والشفقة فى لهجتها ؟ ربما تشعر لبنى باحساس غامض نحو هذه المرأة التى عرفت أنها عمتها وانقلبت حياتها رأسا على عقب بعد معرفتها بأصلها ونسبها الحقيقى , فهى تنتمى لفرد من هذه العائلة الا أنه لا يمت بصلة الى فريال ,هكذا تصورت الفتاة اليافعة وهى تنتظر تفسير أوضح من المرأة الأكبر سنا والتى يبدو عليها سيماء الكبرياء والشموخ كواحدة أصيلة من عائلة الشرقاوية وهى أيضا تحذو حذوها فلها كل الحق بتواجدها هنا , ألم يظلمها الكثيرون وقد آن الأوان لاسترداد بعضا من حقوقها المسلوبة , لقد نشأت فى كنف اثنين غير والديها الحقيقيين كما أنها ما زالت تجهل هوية أمها التى ولدتها ,وخطر ببالها أن تسألها عن ناجى , ربما تعرف عنه أية معلومات قد تفيدها فى مخططها الذى باء بالفشل على يد رفيق , ولكن هيهات أن تستسلم له ,فهى تتظاهر بالموافقة على كل آرائه حتى تفلت من بين يديه وحين يغفل عنها ستضرب ضربتها القاضية ,ولن ترحم أحدا.
-عمتى , أريد أن أسألك عن شئ ؟ هل تعرفين شخصا من العائلة يدعى ناجى ؟
كان سؤالها البرئ كصفعة قوية انهالت على فريال , التى ترنحت قليلا وهى تحاول التماسك وأخذت يدها ترتعش فى بحثها عن سند ,وكانت لبنى الأسبق لنجدتها فتشبثت بها فريال كالغريق فى بحثه عن قشة للتعلق بها.
-من الذى حدثك عنه ؟
-لا أحد معين .
أجابتها لبنى وهى تحاول أن تدارى كذبها المتعمد وقد أخذ ضميرها يؤنبها لازعاج هذه السيدة التى بدا عليها وكأنها رأت لتوها شبحا بمجرد ذكر هذا الاسم ,ولم تغفل لبنى عن تسارع أنفاسها المتلاحقة وهى تحاول أن تدخل الهواء بقوة الى رئتيها ,ثم احتضنتها ودفنت رأسها فى صدر الفتاة وهى تبكى بكاءا مريرا وتقول من بين عبراتها المتدفقة:
-انه .. لقد كان .. ناجى ...
ولم تقو على اكمال عبارتها المتقطعة بفعل البكاء ,ثم طالبتها بمرافقتها الى غرفتها التى كانت لا تبعد كثيرا عن الحمام ,وأطاعتها لبنى بصمت وهى تقدر ضعفها المفاجئ الذى أصابها برغبة طارئة فى احتضان هذه المرأة ومحو جميع آلامها المرتسمة على وجهها ,ولكنها كانت تموت شوقا لمعرفة ماذا كانت تنوى أن تخبرها به عن ناجى,ويبدو أنها تعرفه حق المعرفة ,ولم لا أليس فردا من عائلتها؟ وان كانت قد شكت بأن الصلة بينهما أقوى من مجرد قرابة عادية ,وقد أصابت رميتها الهدف على ما يبدو وبدقة.

****************

SHELL 25-10-18 01:03 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


كان كريم يقود سيارته الفارهة بسرعة مخيفة وهو يسابق xxxxب الزمن حتى يصل الى والدته ,لم يحتمل فكرة تواجدها لدى أغراب والأسوأ أن صوتها يغلب عليه التعب وشئ آخر لم يدركه بعد ,هل هو ضعف أم انهزام ؟ لأول مرة يجدها غير قادرة على التعاطى مع الموقف بحسب ما يتطلبه الظرف الراهن ,ربما تكون قد أنهكتها الوحدة بعيدا عن وجود رجل يساندها وربما يكون ما حدث لها نتيجة منطقية لما سمعته من لبنى هذا الصباح ,هل اقتنعت أمه بأن هذه الفتاة ليست أخته أم أنها ظنتها مجرد خدعة منها ,وكيف سيفاتحها بما حدث اليوم وقد طلب منه رفيق فى شبه أمر بألا يذكر الأمر أمام أى شخص ,ولكن أمه ليست أى شخص كما أنه قد سبق وقامت لبنى باخبارها ,فلم يتعمد اخفاء الحقيقة عنها ولكن ارتأى بالنهاية أن يؤجل أى نقاش قد يثير متاعبها من جديد ,المهم أن يطمئن عليها وعلى أن هذا الرجل الذى صدمها بسيارته لم يؤذها وقد أحسن ضافتها هو وابنته أم أنهما مجرد عصابة ؟ لماذا يشعر بهذا الكم من التوتر والحذر .. أخيرا هذا هو العنوان كما أملاه له الرجل على الهاتف .. حدث نفسه وهو يحاول أن يسكت صوتا بدأ يعلو بأنه يجب أن يضع حدا لهذه المهزلة الدائرة ببيت العائلة ,فلن يهتم بعد الآن سوى بمصلحته الخاصة هو وأمه , وما بعدهما يأتى الطوفان.
ركن سيارته على مقربة من العمارة التى كان يقرأ الرقم المعلق على بوابتها الحديدية ,كانت عمارة قديمة نسبيا ولكنها مطلية حديثا بلون يشبه لون الطوب الأحمر,كمل أنها لا تتعدى الأربعة طوابق ,فلم تمسها يد المقاولين الجشعين بعد ,والذين يسطون على أى بناية قديمة ويقومون باغراء ساكنيها بالتنازل عنها ليقوم مكانها برج عالى يناطح السحاب فى مقابل شقة جديدة ومبلغ كبير من المال ,لقد كان له صديق يعمل فى مجال التسويق الxxxxى وقد افتتح مكتبا خاصا به ليقوم بتأجير وبيع الشقق السكنية وهو من أخبره بهذه المعلومة ,نفض عن ذهنه ما وصل اليه خياله الجامح فما أبعده عن هذا الصديق اليوم ,لقد كان شخصا غريب الأطوار حقا ,تعرّف عليه منذ أربعة سنوات فى مصادفة غريبة من نوعها ,ثم عاد بشروده الى عالم الواقع وأغلق سيارته ثم أخذ يتقدم باعتدال الى مدخل العمارة وهو يحاول تذكر رقم الطابق فقد أخبره الصوت الرزين بأنه يقطن فى الدور الثانى ,ونسى أن يتأكد منه هل يضع الدور الأرضى بالحسبان أم يتجاهله ,وفيما هو متوجه نحو الدور الأول قرر أن يجرب ويطرق الباب الذى صادفه ,وبمجرد أن وضع يده على زر الجرس حتى انفتح الباب أمامه كاشفا عن فتاة بيضاء ذات شعر بنى حريرى وقفت تنظر له بذهول وهى تكاد لا تصدق أنه واقفا أمامها فيما هو يهتف:
-هديل!
وشعرت برهبة قوية وهى تقول بوجل:
-سيد كريم , هل أنت ؟ تفضل, فأبى ينتظر قدومك.
وقامت بافساح مجالا له ليتقدم الى الداخل , وهو يحاول السيطرة على مشاعره بينما أغلقت هى الباب ورائه وأشارت له بالتوجه الى غرفة الصالون,أخذ هو يتأمل تفاصيل المنزل البسيطة والتى تشى برقة الحال ولكنه نظيف ومرتب بنظام بالغ وتخيّر مقعدا منفردا يقع قبالة الباب حتى يتمكن من رؤية القادم ,أخذ حريته فى الجلوس وكأنه بمنزله الخاص وهو يمطر الفتاة المحرجة بسيل من الأسئلة لا تتوقف:
-هل هذا هو منزلك ؟ أين هو والدك ؟ أتوقع أنك الابنة التى تحدثت عنها أمى .
وكان فى لهجته اتهاما قويا ,أخاف الفتاة وأفقدها القدرة على مواجهته , فلن يقتنع أبدا بأن هذه مجرد مصادفة , وأنّى لها أن تتخيل فى أكثر أحلامها تطرفا أن السيدة التى صدمها والدها هى أم مديرها فى العمل ,وهل يتوقع أنها قد خططت لهذا هى ووالدها ؟
-نعم هذا هو بيتى , ماذا تحب أن تشرب يا سيدى ؟
تألقت ابتسامة غير ودية على الاطلاق على شفتيه وهو يجيبها بغرور وصلف:
-أنت تعرفين جيدا مشروبى المفضل ,والآن هل وفرت علينا كل هذه التفاصيل الغير ضرورية , فأنا لم آت للضيافة ,أين هى أمى ؟ تكلمى.
رأى هناء فى هذه اللحظة تدخل وهى مستندة الى ذراع رجل فى أوائل الخمسينيات من عمره , طويل القامة ونحيف ,بدأ شعر رأسه ينحسر عن المقدمة وان كان محتفظا بنعومته وكان يميل الى اللون الرمادى ,وكان يرتدى نظارة طبية أضفت عليه الكثير من الوقار ,نظر كريم شذرا الى الرجل بدون ذنب جناه سوى أنه قد كره قربه الواضح من والدته ,وقام من مقعده ليلحق بها وهو يتمنى ازاحة يده التى كانت تساعدها ,ابتسم له الرجل بمودة وهو يمد يده نحوه متجاهلا حركته العنيفة فى ابعاده وقال بترحيب حار:
-أهلا وسهلا بك يا بنى فى منزلنا.
تجاهل كريم يده الممدودة فى حركة خالية من اللياقة وهو يحتضن أمه بلهفة ويسألها بنبرة استجواب:
-هل أنت بخير ؟ هل تتألمين كثيرا؟
كان يتمنى فى قرارة نفسه ولو أنه يحبها أن تشكو اليه من سوء المعاملة أو من آلام مبرحة حتى تكون لة حجة قوية فى اتهام الرجل الماثل أمامه فى ثقة ,ولكنها خيبت ظنه كما أنها قد تضايقت من اغفاله السلام فأجابته بقوة:
-أنا بخير , وقد أخبرتك بهذا من قبل على الهاتف.
تراجع الرجل قليلا وهو ينقل بصره بين مشهد ابنته المترددة ومشهد الاستقبال الحار بين الأم وابنها وهو غير قادر على الربط بين الأحداث بصورة سليمة .
قطع عليهم كريم الاندماج فى النظرات حين قرر الرحيل مع أمه وهو يقول باستهانة:
-شكرا لكم على حسن الضيافة , وان كان هذا واجبا عليك بعد أن صدمتها بتهورك.
قبل أن يستطيع صلاح أن يرد اتهامه قامت هناء بالدفاع عنه بحماس:
-لا يا كريم , لم يكن هذا هو خطأ صلاح , أنا كنت شاردة ولم أرى أمامى والحمد لله أنه قد استطاع أن يكبح فرامل السيارة بقوة مخاطرا باصابته بمكروه حتى يفادينى.
عقد كريم حاجبيه بقوة وهو يحلل كلمات أمه .. ثم تبين له أنها تنادر الرجل باسمه مجردا دون ألقاب , كما أنها تتبارى فى الدفاع عنه ,ولا يكفى هذا اضافة الى أن الرجل هو والد سكرتيرته الشخصية, لماذا تسير معه الأمور بشكل خاطئ فى هذا اليوم منذ بدايته وحتى الآن.
-حسنا اذا كان الأمر كذلك فهيا بنا الى المنزل , لا بد أنك مرهقة جدا وبحاجة الى راحة تامة , كما أنه لا بد من اجراء فحوصات للاطمئنان عليك , هل خطر على بالكما أن تعرضاها على طبيب ؟
قامت هديل باعطائه الرد المناسب بعد أن فاض بها الكيل فليس معنى أنه مديرها أن يقوم باهنتها هو ووالدها فى منزلهما وعلى مرأى من والدته:
-أنها بخير وقد قام أبى بالطبع بعرضها على طبيب متخصص فى مشفى كبير قبل أن يصطحبها الى هنا.
-اذا كلن هذا صحيحا ,فلم لم تتصل وقتها بنا وكنت وفرت علينا الكثير من الوقت قضيناه فى قلق على غيابها الغير مبرر .
قام صلاح هذه المرة بالاجابة وهو يحاول أن يتمسك بأكبر قدر من ضبط النفس:
-لقد كانت فى غاية التعب للانتظار بالمشفى , وقد وجدت أنه من الأفضل لها أن ترتاح بالبيت وكانت هديل تقوم على رعايتها وكأنها ابنتها فلا داعى لكل هذه الضجة التى تثيرها بدون سبب.
-كيف تقرر عنها ؟ وبأى حق ؟
كان اندفاعه الى حافة الغضب لا يوقفه أى شئ فى حين قامت هناء بالدفاع عن ابنها:
-فى العادة كريم شخص هادئ ومهذب جدا ,ولا بد أنه قد شعر بقلق رهيب أثار اعصابه ولهذا فأنا أعتذر منكما لما بدر عنه.
قامت هناء بزيادة الطين بلة ,فقد قامت تعتذر عن تصرفه وكأنه طفل صغير لم يتجاوز الخامسة من عمره وهى تؤنبه بلطف على سوء خلقه أمام شخص غريب ,وشعر بابتسامة خفيفة تتسلل الى شفتى هديل وعندما فاجأها بنظراته لم تتراجع بل وقفت تنظر له بجرأة وكأنها تتحداه للقيام بأى عمل غير لائق ,فزفر بحنق وهو يمسك بمرفق والدته ليجبرها على مرافقته بدون أن تلقى التحية على أصحاب المنزل الا أنها قد قامت بالافلات من قبضته لتضم هديل بين ذراعيها وتطبع قبلة على خدها وتقول بصوت بشوش:
-شكرا لك يا حبيبتى على كل ما قمت به من أجلى.
وردت عليها هديل بنفس اللهجة :
-لم أقم بعمل شئ ذو أهمية وهذا أقل من الواجب بكثير.
ثم التفتت هناء الى صلاح تودعه :
-أشكرك على انقاذك لك واهتمامك بأمرى ,وداعا يا صلاح.
ومدت يدها اليه فتناولها على الفور وهو يشد عليها قائلا بوعد:
-الى اللقاء يا هناء , وفى المرة المقبلة انتبهى لنفسك.
أصاب كريم الملل والاحباط من هذا المشهد الوداعى المؤثر وقد ضاقت أنفاسه فى صدره فلم يعد يحتمل المزيد وقال بصوت حاول أن يجعله منخفضا:
-هيا يا أمى , ما زال أمامنا طريق طويل لنقطعه .
ثم التفت الى هديل وقال بدون أن ينتبه أحد الى مغزى كلماته:
-كما أنه لدينا الكثير فى الغد ,وان غدا لناظره قريب.
غادر هو ووالدته المنزل ,وبعدها شعرت هديل بفراغ كبير فقد كان وجوده يشعرها بضيق المكان على الرغم من اتساعه ,دائما تراه ذا مركز جدير به فى طبقة عالية لا يصل اليها سواه, وأخذت تفكر فى معنى جملته , لا بد أنه يعنيها هى فسوف تراه بالتأكيد غدا فى الشركة ,ولن تسلم من عقابه ,فمديرها ليس بالشخص الهيّن الذى لا يُقام وزنا لتهديداته ,بل أنه رجل أفعال وهى قد خبّرت قسوته فى أكثر من مناسبة سابقة بالعمل ,وبالطبع هذه المرة ستكون الأصعب فالأمر قد وصل الى حياته الشخصية ,وقد مس أهم انسانة بحياته .. أمه.

**************

SHELL 25-10-18 07:51 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
https://pa1.narvii.com/6843/573f140a...6dd0e68_hq.gif



الفصل الثانى عشر



https://3.bp.blogspot.com/-DSDkUTQyk...oradogiiif.gif




كانت عودة هناء الى الفيلا مثارا للجدل , فما بين مرحب مهتم وشامت متخفى ولائم عاتب تفاوتت ردود الأفعال لدى أفراد العائلة الواحدة ,وانهالت الأسئلة على رأس المسكينة والتى كانت تؤلمها بشدة من جراء حادث ارتطامها بالأسفلت على الطريق ,أنقذها كريم من الموقف الصعب بعد أن قام بالاستئذان منهم لتنال والدته قسطا من الراحة وقد أمر سماح بأن تعد لها حساءا خفيفا وقطعة من اللحم لتتناوله فى غرفتها بالأعلى حتى تسترد عافيتها وبعد عناء اليوم الطويل وأحداثه المرهقة على أعصابها ,ولم تفلح محاولاتها باقناعه بأنها قد تناولت الطعام فى منزل صلاح فهو وابنته قد أكرما وفادتها الى أقصى درجة ,لم يعجبه ما يسمعه من كلمات الشكر والثناء لحسن صنيعهما وبدأت الوساوس تتلاعب فى ذهنه كراقصة لعوب تعرف جيدا خطوتها التالية ,ولكنه أرجأ استجوابه لها الى الغد ,وبعد دقائق صعدت سماح بصينية الطعام الساخن من أجل هناء وقامت بمساعدتها على تغيير ملابسها فقد كانت ذراعها اليمنى مرضوضة وأى حركة لها تجعلها تشعر بالغثيان ,بعد أن أنهت قسما لا بأس به من الطعام ,قامت سماح بحمل الصينية وهى تسألها ان كانت ترغب بأى خدمة فشكرتها هناء وصرفتها باشارة من يدها بعد أن طالبتها بعدم ازعاجها لأى سبب فهى سوف تخلد الى النوم فورا , وقد كانت هذه رسالتها الغير مباشرة الى كل أفراد العائلة وهى متأكدة بأن الخادمة سوف تنقلها اليهم بدون تجميل.
كان الليل كالبلسم الشافى لجراح النهار فنامت هناء ملء جفنيها بعد أن قضت يوما من أصعب ايام حياتها فلم يكفها ما عانته من ظلم وقهر بهذا البيت بل طالها الأذى من اعتراف مديحة الصريح بأن لبنى ما هى الا ابنة أخيها ناجى الذى اختفى منذ سنوات طويلة مؤكدا على خبر وفاته بعد الخلاف الحاد الذى نشب بينه وبين عمها الذى اقسم بأن يجعله يدفع ثمن ارتكابه خطأ جسيما بزواجه من فريال بدون علمهم ,واتهمه بمحاولة التلاعب بعواطفها من أجل الثروة ,كل مشكلة بدأت فى حياتها منذ وعت فى هذه الدنيا وانتهت كانت بسبب المال اللعين ,لماذا يقضى الانسان عمره لاهثا وراء الجنيهات يملأ بها جيوبه ثم خزانته ثم تفيض عن حاجاته فيودعها فى البنوك حتى يصير من ذوى الأرصدة الخيالية فيشير اليه الناس ويلقبونه بالمليونير ,هل يستحق هذا اللقب كل الدمار الذى لحق بهذه العائلة بجميع أفرادها , انها متأكدة أن كل ابناء عمومتها قد نالهم حظا وفيرا من هذه اللعنة ,لم يفلت ايا منهم من عقاب القدر فهذا هو ذنب أبيها وعمها عبد الله لأنهما قد سمحا للأخ الظالم الأكبر سنا بالاستيلاء على نصيبهما من ميراث جدها بتخاذلهما عن المطالبة بالحق المشروع والسعى وراء اظهار الحق البيّن ,آثر عمها عبد الله الخروج نهائيا من دائرة العائلة تاركا البيت واكتفى بتوجيه نظرة لوم عاتبة نحو أخيه الكبير كانت أشبه بسهم قاتل يسرى سمّه حتى هذا اليوم ,بينما التزم أبوها الصمت كاتما لصوت ضميره حتى لا يفتضح أمر عائلته وتثار الاقاويل حول سمعة الشرقاوية.
وها هم الأحفاد يجنون ثمار ما زرعه الأجداد ,ومن قبلهم الآباء ,ولكن القدر كان رؤوفا بها فى خضم هذه الأحداث المتتالية كلطمات معول مثابرة على تحطيم الصرح العظيم الذى انشأه جدها الأكبر بالحفر فى الصخر بيديه العاريتين ,أرسلت لها العناية الالهية رجلا من ماضيها ,ذكرى مضت وخبى توهجها وفجأة يظهر أمامها مجددا يحيطها برعايته واهتمامه ,نعم رأت الشغف القديم يعاود تألقه فى نظرات عينيه الآسرة ,وتساءلت اذا كانت قد اختارته بدلا من وجدى هل كان حالها قد تبدّل غير الحال الآن ؟ أم أنه قدر لا بد أن يؤول اليه مصيرها مهما حاولت الفرار من طريق مرسوم لها بخط واضح مستقيم اذا حادت عنه أعادها اليه بصبر وجلد ,ولكن ما باله كريم ؟ هل شعر بما يجرى تحت السطح فى غفلة منها, وهل ثارت شكوكه فى صلاح وطبيعة علاقتها به ؟ولكنها عادت لتطمئن نفسها بنفى هذا الاحتمال البعيد فهو لا يعرف الماضى أبدا وهى ستعمل جاهدة على أن يظل مجهولا بالنسبة له, فلا أمل من محاولة احياء الماضى الدفين.


**************

SHELL 25-10-18 07:52 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

غادرت لبنى حجرة فريال بعد أن اطمأنت الى استغراقها فى نوم عميق ,وتأملتها بعيون حائرة لا تدرى لمَ تشعر بلهفة نحوها ؟ ان هذه المرأة تمثل لها لغزا يستعصى عليها فك شفراته ,كانت مشاعرها تجاهها مختلطة متعثرة , بداية وجدتها باردة المشاعر تنأى عن الآخرين تختبئ بقوقعتها اللؤلؤية بعيدا عن أعين الصيّادين مترفعة عما أسمته المشاركة فى مهزلة الميراث ,واكتفت بالمتابعة الصامتة تراقب سعيهم اللاهث وراء المال ,وربما اعتقدت أنها واحدة منهم على الرغم من حرمانها من أى مميزات تمتع بها الأحفاد الآخرون فهى لا تشبه أيا منهم فى ظروف نشأته ولا العز والجاه الذى ترعرع فيه ,بيد أنها كانت راضية مرتاحة البال لا يشغلها سوى أن تعيش فى هدوء مع من تحب , جاسر زميلها السابق ,هل كان ما بينهما حب حقيقى كالذى رأته مزدهرا بين والديها بالتبنّى , أم أنه مجرد وهم أخذت تؤمن به حتى تصنع منه أحاسيسا غير واقعية ,لا تدرى أنه بين ليلة وضحاها قد تخلى عنها هذا الحبيب بل واساء اليها باتهامه الصريح لها بالتلاعب والخداع ,ظلت تسعى حتى تصل الى سبب تغيّر مشاعره بالنسبة لها وفى النهاية آمنت بأنه انسان حقير يتسلّى بعواطفها , حاول ملاحقتها فى بداية علاقتهما حتى ملّ منها وربما ارتبط بفتاة أخرى ,حتى كان يوم رحيلها عن المكتب فوجدته متألما يتابعها بنظراته المريرة وهو يراها متأبطة ذراع رفيق وكأنه يتهمها بخيانته ,وهى لم تبذل جهدا لتصحيح مثل هذا التصوّر الخاطئ ,بل زادت الطين بلّة حين أكدت على شكوكه بهذه العلاقة المزعومة حتى تثأر لكرامتها التى بعثرها من قبل ,فتجاهلت وجعه كما أنكرها يوم فراقهما الذى ما زالت نيران ذكراه تتأجج بداخلها تحرق قلبها ويتحول الى حقد ورغبة مسيطرة بالنيل منه ولو على حساب مشاعرها ,فهى لم تسعَ يوما لأن تجرحه ولم تتخيل أن يتحول حبهما الى بغض وكراهية ,وأين هو الآن ؟ انها تشتاق للمسته الحانية ودفء عينيه حين يبثها هيامه وعشقه الأزلى لها فتنسى الدنيا وما فيها , وما أبعدها عن هذه اللحظات التى كانا يختطفانها من عمر الأيام.
ومنذ اقتحم رفيق حياتها أصبحت كل خيوط مصيرها بين يديه , وصار يحركها كيفما يشاء فيتلاعب بعواطفها الساذجة , فتارة هو قريب جدا يشعل بها نارا ظنت أنها خمدت بعد أن هجرها جاسر بل وتختبر معه قوة مشاعرها التى لم تصل لهذا الحد مع أى شخص من قبله , وتارة أخرى هو متباعد متكبر لا يهتم لأمرها مثقال ذرة يعذبها ويقلق مضجعها ثم يعاود هجومه الساحق على قلبها فتتمتع برقته وحنانه حتى تكاد تذوب بين يديه القويتين ,وحينما تهوى فتظن بأنها ستتحطة بهاوية النهاية يلتقطها بآخر لحظة فتتعلق به وتتمسك بما يقدمه لها وكأنه طوق النجاة الذى سيسحبها من دوامة غرقها ,فتصل معه الى بر الأمان ولكنها تتلفت حولها فتراه قد اختفى مرة أخرى ,وتصير وحيدة تشعر برغبة حمقاء فى السعى ورائه حتى آخر الدنيا ولو كلفها عمرها كله ثمنا لملاحقتها الشغوفة ,حتى تذوب بنظرات عينيه القاتلة ويضمها بأحضانه والتى تجد فيها ملاذها الآمن , فلا مهرب منه الا اليه ,ولكنه أخبرها بارتباطه بأخرى , من هى هذه الفتاة ؟وهل هى خطيبته ؟أم أنها مجرد نزوة عابرة بحياته , يكاد الشك يقصمها ولا تجرؤ على اختراق اسواره العالية التى يحيط بها قلبه فيمنعها من الوصول اليه ، وبينهما تقف الثروة حائلا ,وتتكاتف العائلة بأسرها لافساد ما بينهما ,تتضرع الى الله بأن ينجيها من ورطتها ويهفو قلبها الى عدم الخلاص ,تسعى بقدميها نحو حتفها ,وهل تملك لؤلؤة تائهة مقاومة شباك صيّادها الآسر ؟
انه يحاصرها من كل صوب فيمنع عنها مدد العون حتى تصير سبيّته وحده ,وبقرارة نفسها أحبته وتاقت الى أن تصبح أسيرته مدى الحياة , فهل يحقق لها القدر أحلامها البعيدة ؟ أم أنها ستظل حائرة شريدة ؟


***********

SHELL 25-10-18 07:54 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

رنين هاتف متواصل أقلق راحته ونزعه من شروده بالتفكير فيها ,نظر بتكاسل الى شاشة هاتفه المضيئة وهو يفكر بهوية المتصل ,ضاقت عيناه الرماديتان بغضب وهو يجيب على الرنين الملح بصوت فاضت منه الخشونة والجفاء:
-أنت ؟ لأى غرض حقير تتصل بى ؟
-رفيق ... ما الذى يدفعك نحو هذا الحوار البغيض ؟
أجابه صوت رزين واثق اللهجة وهو يحاول تمالك أعصابه ليمنعها من الانفعال استجابة لهذا الهجوم الغير متوقع.
-مجدى .. كف عن ألاعيبك اللعينة ولا داعى لأن تجربها معى .
-أنا لا أتلاعب يا رفيق , وأنت أدرى الناس بى.
-كنت .. كنت أدرى الناس بك لقد صدقت اهتمامك الزائف وأنك تسعى لمساعدتنا ,والأسوأ أنك قد خنت ثقتى بك.
-أقسم لك أننى لست خائنا , لماذا تنعتنى بأفظع الصفات هكذا , ما الذى جنيته؟
-أتسألنى! ان خطتك الحقيرة يا متر قد انكشفت للأسف , لماذا ؟ أريد اجابة شافية على سؤالى , هل قصّرت معك ؟
-اهدأ يا رفيق وحاول أن تشرح لى ماذا حدث لتتهمنى ؟
-أنا فى منتهى الهدوء ,فلا أحد ولا شئ يمكن أن يثير قلقى , خاصة المتآمرين أمثالك.
-أرجوك توقف , لن يصلح الهاتف لاتمام ما نحاول قوله , هل يمكنك أن تقابلنى الآن ؟
تعجب رفيق من تماسك أعصابه ,فقد ظن بأنه بعد أن كشف لعبته الحقيرة سوف يخشى لافتضاح أمره وأنه سيحاول ايجاد مبررا معقولا لا أن يطالبه بلقاء فى منتصف الليل , شعر مجدى بالترقب فقد طال صمت محدثه على الطرف الآخر وتخيل لوهلة أنه سيرفض رؤيته.
أتاه صوت رفيق يفيض هدوءا وثباتا بعد أن خمدت ثورته الفائرة وهو يفرض عليه ارادته:
-سألقاك يا مجدى ,والآن كما تريد , لنرى ما الذى ستحاول ابتكاره ,سآتى اليك فى منزلك , هل أنت هناك ؟
-طبعا , وأين يمكننى أن أكون بهذا الوقت.
-حسنا , لن أستغرق أكثر من نصف ساعة للوصول اليك .
ثم أغلق هاتفع بعنف وهو يتوعده هادرا:
-واذا كنت تكذب ,فلن تفلت من العقاب.


*********

SHELL 25-10-18 08:02 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

كانت مها مسهدة بأرق تستعيد ذكرياتها البعيدة حين اسر قلبها جارهم الشاب الوسيم بالحى القديم ,خالد المرهف الحس الذى عرفت معه أنقى احساس بالحب , الحب الأول الصافى البرئ ,بلا أغراض ولا أسرار ولا تعقيد.
جمع العشق بينهما وربط قلبيهما سويا برباط اعتقدته قويا لا ينفصم , وتصورت حياتها معه فى عش هادئ صغير ,تنعم فيه بحنانه واهتمامه السخى ,وكانت أقصى طموحاتها أن يتزوجا على جناح السرعة وينجبا الكثير من الأطفال حتى يملأوا عليهما الحياة بهجة وسعادة ولم تكن تسعى كغيرها من الفتيات بمثل عمرها الى الثراء ولم تحلم يوما بعريس غنى ينشلها من ضيق الحال الذى تنغمس فيه حياتها , والشقة الضيقة التى تداعت جدرانها وتحول طلاؤها الى ألوان باهتة ,وكانت خاوية الا من بقايا اثاث متداعٍ ,وأجهزة قديمة بالية .
كانت وحيدة أبويها , مدللتهما الصغيرة التى لم يبخلا عليها بأى شئ , وكان والدها يعمل بمجال التصدير والاستيراد مديرا لشركة صغيرة ببداية طريقه ليشق الحياة بمثابرة وعناد لا يتزحزح ,أما والدتها فكانت تؤازر رفيق دربها بكل ما تملك فهى تنتمى لعائلة ثرية ذات نفوذ واسع فوضعت ارثها بالكامل تحت تصرفه ,لتسانده فى رحلة كفاحه ,فازدهرت أعمال زوجها وصعد بسرعة الصاروخ ليرتقى سلم المجد , حتى صارت شركته من أقوى الشركات وباتت تنافس بشراسة فى سوق العمل ,بل صار الجميع يحسب له ألف حساب ,وانتقلوا الى فيلا واسعة بحى راقى وألحقها أبوها بمدرسة دولية للغات وصار يغدق عليهما بالهدايا وكل ما تتوق له النفس فانتعشت حياتهم بدرجة كبيرة ,وكان هذا حلما قصير الأمد فقد انتزعتهم منه الحياة بقسوة لتلقى بهم فى جحيم بلا قرار ,حين دبر له منافسه مكيدة لتحطيمه ,وتدمير سمعة شركته ,فقد اشترى ذمة مدير أعماله بالمال الوفير وأغراه الشيطان بخيانة أقرب الناس اليه ,ليصدّق على المثل القائل ( اتق شر من أحسنت اليه ) ويتحقق بحذافيره.
فتهوى شركته الى القاع محطمة معها حياتهم المستقرة الى أشلاء ,خسر كل رأس ماله واضطر الى بيع شركته التى أسسها بعرقه وجهده بثمن بخس الى غريمه , ولم يكتف الظالم بما أثمت يداه فقد أمعن فى اذلال ابيها وحطّ من قدره أمام جميع العاملين بها ليعود يومها الى منزلهم القديم مكسورا مهزوما منكس الرأس ,لا يكاد يرى أمام عينيه ,أخذ يحطم كل ما يقع تحت طائلة يده وأمها أخذتها بين أحضانها بغرفتها الصغيرة مغلقة الباب من الداخل بالمفتاح ,وهى تحاول أن تهدئ من روع صغيرتها المذعورة من صراخ أبيها الجهورى وصوت تحطيم الأشياء بالخارج ينتزعها نزعا من السكينة التى تحاول أمها أن تبثها فى نفسها الخائفة ,وهى تناجى ربها بأن يهوّن على زوجها مصيبته ويمن عليهم بالسلام والأمان , فجأة ران عليهم الصمت فهدأت ثورة ابيها ولم يعد وقع أقدامه يتردد ,فحاولت أمها ازاحتها قليلا عن حضنها لتطمئن على زوجها الا أنها تشبثت بطرف ثوبها القطنى بتعلق مستميت لا تستطيع الفكاك منه فحادثتها بصوتها الرخيم الحنون وهى تربت على كتفيها بلمسة أمومة خالصة:
-اهدأى يا بنيتى ,ولا تخشى شيئا لن أتركك وحدك ,ولكننى سأخرج لأطمئن على أبيك وأحاول أن أواسيه فما أصابنا ليس هيّنا أبدا.
وابتسمت لها على الرغم من آلامها المريرة وهى تحاول اقناع طفلة لا يتجاوز عمرها التسعة سنوات بأن كل شئ سيكون على ما يرام ,الا أنها هى نفسها كانت ترتجف بعنف وتشعر بالتردد لرؤية ما لا يحمد عقباه ,فوضعت ابنتها بسريرها الخشبى وربتت على شعرها العسلى الناعم ثم توجهت بعزم نحو باب الغرفة المغلق لتفتحه على مصراعيه فتلقت صدمة رؤيتها لمشهد زوجها وهو ملقى على الأرض فاقدا للوعى لا تبدر منه أية دلالة تشير الى انتمائه لعالم الأحياء ,فصرخت بفزع وهى تهرع نحوه لتهزه بقوة واصرار تحاول افاقته:
-أرجوك يا سامى , أجبنى , انهض ,لا تتركنى وحيدة.
فيما غادرت مها سريرها ووقفت بباب غرفتها تنظر الى هذا المشهد الرهيب وهى تشهد سقوط أبيها وانهيار أمها ,التى تصارع من أجل اعادة أبيها الى الحياة التى فارقت جسده المنهك فتقوم باعطائه قبلة الحياة بلا جدوى, ولم يفارقها بحياتها , هذا المشهد الذى صار يتكرر بصورة يومية كل ليلة وهى تحاول أن تغفو ولو قليلا فى الليل المظلم الطويل ,الا أنه يكبر ويتضخم حتى يملأ كيان غرفتها الضيقة ,ويتمكن من واقعها فلا مفر منه ,وهى تجد أمها سليلة الحسب والنسب كريمة الأصل عزيزة النفس ,تقاتل بشراسة حتى تكفل لها قوت يومها وثيابا تسترها من عوز الفقر والحاجة ,فلم يبقَ لها سوى حب خالد , نسمة عليلة تلطف من الأجواء الخانقة التى صارت تحيط بها من كل اتجاه مطوقة ايها تسجنها بذكرياتها المؤلمة فلا تعى الا وهى تقسم على الانتقام ممن سعى لخراب حياتهم واغتيال لحظة فرحتهم القصيرة , وما زاد عليها الوجع وفاة والدتها بعد معاناة طويلة مع المرض اللعين , السرطان ,فكانت بحاجة الى المال للتخفيف عليها من آلامه القاتلة وربما لو امتلكت الوفرة منه لزاد عمرها بضعة أيام تقضيها بلا أطباء ولا جراح , ومرارة العجز تطاردها فتذكرها بضيق ذات اليد ,وتنكأ جراح مصيبتها السابقة فتقرر التخلى عن أحلام الحب والسعادة لتبدأ مشوارا جديدا تسعى فيه الى أن تكون مها أخرى لا تمت بصلة الى الفتاة التى أشقتها الحياة وأتعست ايامها ,بدون شفقة وبلا رحمة.


*****************

SHELL 25-10-18 08:15 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

ارتدى رفيق ملابسه على عجل واستقل سيارته استعدادا للقاء مجدى بمنزله الكائن بحى قريب من بيتهم ولم ينتبه لمن رأته وثارت بنفسها الشكوك لخروجه من المنزل خفية بعد انتصاف الليل ,أخذ يفكر بالمحامى الذى عرفه طوال عمره رجلا أمينا موثوق الجانب ولم يخطر بباله يوما أنهما سيتبادلان الاتهامات القذرة كما حدث اليوم ,بداية اللقاء كانت جافة فيما التمعت نظرات الاحتقار بعينى رفيق وهو يكيل له الاتهامات بلا هوادة:
-ها قد أتيت بناءا على طلبك ,فأخبرنى وبلا تردد ما هى خططك الدنيئة التى تفنن بها عقلك القذر ؟والى أين ستصل مع عمتى ؟
ثارت ثائرة مجدى حين ألمح رفيق الى فريال فى عرض حديثه فأجابه بعنف محتدم:
-انصت الىّ جيدا , اذا أردت القاء التهم فحربك معى أنا وأخرج فريال فى من دائرة حساباتك ,كفاها ما نالته من قبل من عذاب وآلام لا تحتمل , ألا ترفق بحالها ؟ ألا تشفق عليها ؟
اتكأ رفيق على مسند مقعد مرتفع بغرفة المكتب الخاصة بمجدى وهو يعقد ذراعيه أمام صدره بتحدى سافر:
-اذا كان يعنيك أمرها كما تدّعى ,فدعها وشأنها ولا تجرها معك الى لعبة قذرة ولا تحاول استغلال ضعفها فكما سبق وقلت أنها تألمت بما فيه الكفاية.
رد عليه مجدى بحدة وانفعال:
-أنا أكثر اهتماما بأمرها وأمر ابنتها من أى شخص آخر.
-ابنتها ؟ وما دخلها بموضوعنا الآن ؟
أشار له مجدى بالجلوس ثم اتخذ هو مجلسه قريبا منه ولم يبد على رفيق أنه سوف ينصاع لرغبته فظل واقفا كما هو وان أخذ ينقل ثقله من قدم لأخرى,فهز مجدى كتفيه باستسلام وقال:
-كما تشاء , أود أن أفاتحك بموضوع خطير لا يحتمل التأجيل أكثر من هذا ,ترددت قليلا قبل اخبارك به لأنها كانت رغبة عمتك.
لم تتغير ملامح وجه رفيق ولم يبد عليه أنه قد تأثّر بلهجة المحامى الخبيرة ولكنه نجح فى اثارة فضوله بشكل مستنفر ,ولكنه مط شفتيه باحتقار وهو يستحث مجدى على اكمال حديثه:
-ادخل الى صلب الموضوع يا مجدى ,فلا طاقة لى الآن لتحمل ألاعيب المحامين والمماطلة التى تجيدون فنها.
نظر له مجدى مؤنبا على كلامه الجارح بحقه ,تفادى رفيق النظر الى عينيه مشيحا بوجهه بعيدا فرفع مجدى يديه مستسلما وقال بلهجة افتعل فيها المرح ولكنها خرجت متجهمة صادمة:
-حسنا كما ترغب , اليك بالمفاجأة الكبرى لقد عثرت على ابنة عمتك , لن تصدق من هى!
قاطعه رفيق بسخرية قاسية:
-وهل كنت تبحث عنها طوال السنوات الماضية ؟ويا ترى أين عثرت عليها ؟
زم مجدى شفتيه بقوة وهو يهز رأسه دلالة النفى:
-لا لم أكن ابحث عنها , فأنا أعرف مكانها منذ البداية.
بدأ حديث المحامى يجذب انتباه رفيق اليه بقوة فأخذ ينصت له باهتمام واضح ,وهو يعقد حاجبيه بتكشيرة فيما استطرد المحامى:
-انها لبنى , ابنة عمك , لبنى هى نفسها أميرة بنت فريال.
ألست متعجبا مما سمعت ؟ وكأنك كنت تتوقع حديثى هذا.
شعر رفيق بأن هذا ليس الوقت المناسب لاعلام المحامى بالحقيقة التى يعرفها وأراد ألا يحرق كل بطاقات اللعبة بيديه قتصنّع الاندهاش وحاول مجاراة مجدى بلعبته فسأله بهدوء:
-وكيف وصلت أميرة الى عمى وجدى ؟ وكيف أخفى هذه الحقيقة عن الجميع واعتبرها ابنته ؟ والأهم كيف نما الى علمك هذا الأمر ؟
اعتدل مجدى فى جلسته وأعاد ضبط هندام ثوبه المنزلى كأنه مقدم على مرافعة هامة بالمحكمة, فقال بصوته الرزين :
-سوف أشرح لك كل شئ بالتفصيل الممل.
وسرد على مسامعه أغرب قصة يمكن لعقل أن يصدقها ,ولأول مرة يرى آثار الصدمة بادية بوضوح على وجه رفيق الجامد.



*****************

SHELL 26-10-18 03:10 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثالث عشر

http://idata.over-blog.com/3/89/61/7...e/80ce9bb1.gif


حينما عاد رفيق من مشواره الى المنزل كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا , وكان الهدوء مخيما على أرجاء البيت الفسيح , فاختطف درجات السلم الرخامى سريعا بخفة ورشاقة غير متوقعة بالنسبة لضخامة حجمه وهم بالولوج الى غرفته الا أن هناك من استوقفته بحركة يديها التى جذبت طرف كم قميصه وهمست باسمه برقة:
-رفيق , انتظر.
تراجع الى الخلف ليرى لبنى واقفة أمامه مرتدية ثوبا قطنيا فيما يلتف حول قدها النحيف معطفا منزليا أنيقا قامت بعقد حزامه حول خصرها باحكام,وهى تنشد اهتمامه الذى تصاعد بقلق ,وهو يسألها بهدوء وجمود:
-ما الذى يبقيك مستيقظة حتى هذا الوقت المتأخر ؟
تطلعت نحوه متعجبة وترددت بضعة لحظات قبل أن تجيبه:
-وما الذى يجعلك تخرج فى مثل هذا الوقت المتأخر من الليل ؟
أخذ ينظر لها وهو يحاول سبر أغوارها وتساءل بنفسه ما الذى يجعلها تهتم لأمر خروجه , وهل كان تحت قيد المراقبة ولم يشعر بها , تنحنح قبل أن يبتسم بخبث:
-وهل كنت تراقبيننى ؟
-أنا ؟ ولماذا أراقبك ؟
-اذن كيف عرفتى أننى خرجت ؟
نظرت اليه واشارت بصمت الى ملابسه , ثم خرج صوتها متهما:
-أنت ترتدى ملابس الخروج كما أننى قد سمعت باب غرفتك وهو ينفتح من قبل وكنت ساهرة فعرفت أنك تستعد لمغادرة المنزل.
ارتفع حاجباه بسخريته المعتادة قبل أن يقول بمرح:
-اذن أنت تراقبيننى كما قلت , لماذا يا لبنى ؟
تراجعت خطوتين الى الوراء من جراء تحديقه بها حتى اصطدم ظهرها بالحائط البارد من خلفها وشعرت بالتهديد الماثل أمامها , وسألت نفسها لم تهورت هكذا ؟ وأخذت تنظر الى الرواق الخالى الا منهما فقد كانت بقية الغرف تبعد عن غرفتيهما المتجاورتين وبدأت تشك فى حماقة تصرفها الأرعن ,وخاصة حينما بدا على رفيق التسلية بما يحدث لها وهو يتقدم منها وفى عينيه نظرة احتارت فى تفسيرها , الا أن موجة شجاعة فارغة قد سرت بعقلها محاولة شن الهجوم بغرض الدفاع:
-هل كنت فى موعد مع فتاة ؟
جلجلت ضحكته القوية فى حلقه ,وأخذ يتمعن فى النظر الى الفتاة الواقفة أمامه تستجوبه وكأن لديها الحق فى ذلك ثم أجابها ببرود أغاظها كثيرا:
-وان يكن ؟ هل لديك مشكلة ما ؟
-لا ليس لدى مشكلة , فأنت حر فى تصرفاتك , ولكنك لست محتاجا لأن تقابل حبيبتك فى منتصف الليل هكذا وكأنكما تسرقان , هل تخشى شيئا ما ؟
-أنت حقا فتاة غريبة الأطوار ,لماذا تهتمين ان كنت على موعد مع ... حبيبتى ... ليلا أو حتى فجرا ؟
اشاحت بوجهها بعيدا عن نظرات عينيه المدققة بعناية والتى لا تفوتها شاردة ولا واردة كعينى صقر قنّاص ,ولكنه أجبرها على النظر اليه بطرف اصبعه تحت ذقنها بتسلط واضح وهو يستطرد بخفوت:
-هل تغارين ؟
تلاقت أعينهما فى نظرات طويلة متألقة وكأنها رسالات صامتة تعبر عن مدى التوتر المتنامى بينهما ,ولم تستطع الافلات من حصار عينيه الفضيتين اللتين أسرتاها بقيود غير مرئية ,فحاولت الهروب من الاجابة عن سؤاله المفاجئ فقالت بتوتر :
-رفيق , لقد تأخر الوقت ,ولم يعد مريحا بقاؤنا هكذا فى الرواق على مرأى ومسمع من أى عابر.
كانت تعنى أن الوقت متأخر وأنها تود الذهاب لتنام الا أنه قد اساء تفسير كلماتها عن عمد فقال بغموض:
-معك حق .
وسحبها ورائه عنوة الى غرفته التى فتح بابها بتمهل ثم أغلقه بذات الطريقة فوجدت الفتاة نفسها فجأة حبيسة ذراعيه القويتين بداخل الغرفة المظلمة ,الا من صوء القمر الخافت الذى يتسلل على استحياء من النافذة الزجاجية وقد كان القمر بدرا مكتملا فاستطاعت أن ترى انعكاس الضوء على ملامح مرافقها الحادة وقد جعلته اشبه بقرصان من الأزمنة الغابرة يتمسك بصيده الثمين ,وابتلعت ريقها بخوف وهى تتساءل ماذا يريد منها ؟ وهل من سبيل للنجاة ؟
لم يتردد رفيق طويلا قبل أن يضع اصبعه على زر الاضاءة لتغمر المكان بلمحة سريعة فأعادت الى نفس الفتاة بعض الطمأنينة وهى تؤكد لنفسها أن رفيق غير قادر على ايذائها فقد وعدها بالحماية ؟ ولكنها لم تكن تخشى الأذى البدنى ,بل كانت تدرك جيدا أن مشاعرها المتضاربة نحوه هى أسوأ ما يمكن أن تواجهه بهذه اللحظة كما أنها لا تعرف ردة فعله المتوقعة فى مثل هذا الموقف وهى وحيدة معه.
ثم أدار المفتاح فى قفل الباب مغلقا اياه فأصدر التكة المعروفة والتى انبأتها بأن اسوأ كوابيسها قد بدأ يتحقق امام عينيها المذهولتين ,وأخفى رفيق المفتاح بجيب قميصه وأخذ يتجول بغرفته بحرية مشيرا لها بالجلوس فلم تجد مفرا من الاستجابة له وسمعته يقول بعد أن أولاها ظهره :
-سوف أتوجه لأخذ حماما ساخنا ولن أتأخر عليك , نصيحتى لك أن تبقى ساكنة وديعة وألا تثيرى ضجة فالجميع كما تعرفين نيام.
وتركها تتخبط بحيرتها متوجها نحو غرفة الحمام الملحقة بغرفته والتى يفصلها عنها جزء صغير مغلق بباب خشبى آخر مما أتاح لها فرصة للانزواء بعيدا عن نظراته الأخيرة لها قبل أن يختفى تماما .
لم يستغرق رفيق أكثر من عشرة دقائق قضتها الفتاة فى تفكير عميق بتخمين ما سوف يحدث لاحقا ,ووجدت من يشغل محور تفكيرها ماثلا أمامها مرتديا بنطلونا أسود اللون فوقه قميص قطنى بلون مماثل ,وتقطر المياه من خصلات شعره المبلل فيما تسللت رائحة عطره القوى الى أنفها ,كان مثالا للوسامة المدمرة والجاذبية المميتة.
جلس الى جانبها وأخذت يداه تتلاعب بخصلات شعرها المتناثرة على ظهرها فارتعشت بدون ارادة منها لتسأله عما يدفعه ليتصرف معها بطريقة غريبة:
-ماذا تريد منى يا رفيق ؟
حدق بها باعجاب واضح وهمس لها:
-أنا من يتعين عليه سؤالك , ماذا تريدين أنت منى ؟
لم تستغرق أكثر من ثانية لتجيبه بخفوت:
-أنا لا أريد شيئا الا الابتعاد عن هنا , فلا أشعر بالراحة فى وجودى بغرفتك.
-لا تشعرين بالراحة فى غرفتى أم بسبب تواجدك معى ؟
-لا أنكر أنك تربك تفكيرى ,وأشعر بعدم التوازن فى حضورك ,كما أننى أجهل نواياك تجاهى فبعد أن عرفت أنك تخفى حقيقتى عن العائلة خاصة وأنك لم تتفاجئ بما حدث فى الشركة ,أود أن أفهم سبب تصرفك نحوى.
-أود حمايتك , ولا أريد لك أن تتأذى أبدا , هل تصدقيننى ؟
-جزء منى يؤمن بك ويصدق كل ما تتفوه به , ولكن ... دوافعك هى التى تحيرنى.
ابتسم لها برقة وما زالت اصابعه تتغلغل بعمق فى شعرها الحريرى الطويل متلاعبة بعواطفها الأسيرة:
-أنا نفسى أشعر أحيانا بأننى لا أفهم سر تعلقى بك ,على الرغم من تأكدى بتآمرك علينا , الا أننى أراك ضحية ولست جانية ,أتفهم سبب رغبتك بالانتقام .
حاولت مقاطعته لتوضح له سرها:
-أنا لا ...
-دعينى أكمل حديثى : الانتقام ليس هو السبيل للراحة , بل أؤكد لك أنه سيؤذيك أنت أكثر مما سيؤذى الآخرين , لا أريد لبرائتك ونقائك أن يتلوثا بمثل هذه الخطط القذرة ,اذا كان الماضى يعنيك أكثر من الحاضر والمستقبل فلا ضرورة لمتابعة هذا الحوار.
فجأة شعرت بضباب كثيف يشوش عليها التفكير السليم ,وأخذ رأسها ينبض بألم قوى فأمسكت بجبينها براحة يدها وهى تتأوه بخفوت مما جعل رفيق يحنى رأسه نحوها ليسألها عما ألم بها:
-ما الذى حدث ؟
أجابته بصوت مهزوز من أثر الألم:
-لا .. لا شئ فقط هذا الصداع الذى يباغتنى بين الحين والآخر.
وأخذت تتسارع الصور فى خيالها ,مخيفة ,مقلقة ,متباعدة ,حتى صارت تحاول الفرار منها بتحريك رأسها يمينا ويسارا كأنها تنفضهم عنها ,فقام رفيق بضمها الى أحضانه ليستقر رأسها الصغير على صدره وهو يضغط بكفه على جبينها محاولا ايقاف الدق المؤلم كأنه طبول زاعقة فى حفل صاخب ,وسألها برفق:
-هل أحضر لك قرصا مسكنا ؟
هزت رأسها بالنفى فلم تقو على الرد ولكنها استطاعت أخيرا أن تنطق:
-ليس مجديا مع هذا النوع من الصداع ,كل هذا بسبب الحادث.
بدأ يجرى لجبهتها تدليكا باصابعه القوية مثيرا بداخلها نوعا من الارتياح المؤقت وكانت أصابعه خبيرة دقيقة تعرف طريقها بدون ارشاد فتناغمت مع حركاتها الدائرية العميقة وبدأت ضربات قلبها المتزايدة تهدأ وانتظم تنفسها حتى بات عميقا وانهار رأسها متهاويا على كتفه فتطلع نحوها بفضول ليجدها قد استغرقت بنوم عميق ,فلم يتردد كثيرا وحملها بين ذراعيه فأرقدها بسريره وقام بتغطيتها بدثار سميك ووقف ينظر لها بشوق أخذ يقاومه ممنيا نفسه باقتراب اللحظة الموعودة ولكن عليه أن يصبر قليلا حتى تستقيم الأمور وتصير له كما أراد,وفيما بعد استلقى على الأريكة الوثيرة واضعا وسادة قطنية تحت رأسه ولم يطل بها المقام حتى غلبه الارهاق فغط فى النوم غافلا عما حوله.

*************

SHELL 26-10-18 03:11 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


فى الصباح الباكر لليوم التالى ,بدأ النشاط يدب فى أنحاء المنزل الكبير وقد أخذت سماح تنتقل من غرفة لجناح تنظفه وتعيد تنظيمه حتى وصلت للطابق العلوى وطرقت باب غرفة لبنى عدة طرقات الا أنها لم تتلق أى اجابة فهمت بالانتقال الى الغرفة المجاوة ,ولكنها تذكرت القاء اللوم عليها صباح الأمس بعد اختفائها المفاجئ ولم تنس بعد النظرات النارية التى تلقتها بعد العصر حين اكتشفوا أن السيدة هناء لم تكن بغرفتها ,فقررت أن تكثف من طرقاتها حتى تطمئن الى استيقاظها قبل أن تفتح باب الغرفة فوجدتها خالية وسريرها كما هو بأغطيته فى موقعها لم تمس ,وتعجبت الخادمة هل استيقظت الفتاة مبكرا ونهضت بدون أن تسمع وقع خطاها كما أنها لا بد قد قامت بتسوية سريرها بنفسها وأشادت بداخلها بهمة ونشاط هذه القريبة الغريبة الأطوار فهى تختلف تماما عن أفراد العائلة كلهم ,وقامت بفتح النوافذ الزجاجية جاذبة الستائر حتى تدخل أشعة الشمس القوية الى الغرفة ويتجدد الهواء بداخلها ,وأسرعت بعدها الى غرفة رفيق وتمهلت لبرهة قبل أن تدق الباب ثلاث دقات يفصل بين كل واحدة والأخرى ثلاثين ثانية كما أمرها سيدها من قبل حتى يتنبه الى دخولها الى الغرفة.
استفاق رفيق من نومه وهو يتثاءب فوضع ظهر يده فوق فمه وأخذ يتمطى حتى تستعيد عضلاته قدرتها على الحركة بعد أن شعر بتنميل غريب فى أطرافه جراء نومه فى مساحة ضيقة وهو الذى اعتاد على سريره الواسع وقد ظل طوال الليل على ذات الوضع فتيبست مفاصله ,وتذكر بغتة معنى الدقات الثلاثة على الباب ونظر الى زائرته الليلية بتحفز وهى تتقلب فى مكانها وقد انحسر الغطاء عن جسدها كاشفا عن ساقين جميلتين أطال تحديقه بهما ثم سمع مقبض الباب يتحرك متحشرجا بسبب اغلاقه الباب بالمفتاح ثم تناهى الى مسامعه صوت سماح الرفيع وهى تستأذنه للدخول:
-سيدى , لقد صارت الساعة الثامنة والنصف صباحا.
وانتظرت أن تتلقى جوابا منه ,الا أنه كان منشغلا بالفتاة التى بدأت تفتح عينيها ورأى الصدمة متجلية بداخلهما وفى ثانية كان بجوارها واضعا يده على فمها ليكتم صيحة اعتراض كادت تفلت منها وتثير معها فضيحة علنية بالبيت الهادئ ,فيما رد على الخادمة بصوت عالٍ ليصرفها:
-انتظرى ريثما أخذ حماما يا سماح ,هيا اذهبى.
وانتظر حتى تردد وقع أقدامها المنظم وهى تبتعد عن باب الغرفة بعد أن قالت بمهنية:
-أمرك يا سيدى.
وكانت لبنى تقاتل فى ذلك الوقت باستماتة وهى تحاول الافلات من بين ذراعه التى أحاطت كتفيها لتبقيها مستلقية بالسرير وهمس بأذنها ليهدئ من روعها:
-اهدأى ,فلم يحدث شئ .
وما أن أزاح يده عن فمها حتى اصدرت صرخة مكتومة غاضبة وهى تبعد ذراعه عن بشرتها العارية بعد أن تهدل معطفها المنزلى كاشفا عن بشرتها قمحية اللون وهى تشير له باصبع الاتهام:
-كيف نمت هنا ؟ وماذا فعلت بالأمس؟
زفر رفيق بضيق كاشفا عن توتره البالغ:
-لم يحدث شئ , سبق واخبرتك بذلك ,لقد كنتى مرهقة جدا بالأمس وقد هاجمك صداع قوى فنمتى بمكانك ولم يكن بمقدورى أن أحملك الى غرفتك فتركتك تنامين هنا على سريرى.
صمت بعدها وكأنه بهذا قد أشبع فضولها الا أنها قد سألته بطريقة استجوابية لم ترق له:
-وأين نمت حضرتك؟
أشار بهدوء الى الاريكة التى ما زالت تحمل آثار جسده الضخم والى الوسادة التى انبعجت تحت ثقل رأسه:
-هنا.
-وهل تريد منى أن أصدق أن هذا ما حدث فقط ؟
-أنا لا أطالبك بالتصديق ,ولكن بالله عليك أخفضى صوتك فلا نريد أن نثير ضجة بلا مبرر.
-بلا مبرر ؟ وبماذا تسمى هذا ؟ وماذا سيكون ردة فعل الجميع بعد معرفتهم بأننى قد قضيت ليلتى فى غرفتك ؟ وهل سيصدقون براءة نيتك وأننا قد نمنا بمكانين مختلفين ؟
قاطعها بحدة:
-أتقصدين أنهم لن يصدقوا أننا لم نتشارك فى الفراش ؟
تضاربت الحمرة فى خديها منتشرة بطريقة رائعة أضفت عليها جمالا طبيعيا ,وأخذت تحاول اخفاء خجلها فيما قام رفيق بالاستطراد:
-يمكننا تجنب مثل هذا الموقف بقليل من الذكاء واذا ابتلعت لسانك الحاد وانصتى الىّ , لقد صرفت سماح ولكنها حتما ستعاود المجئ .
أخذ يشرح لها خطته بهدوء أعصاب حسدته عليه فهى كانت تغلى بداخلها قلقة متوترة ,فتح رفيق باب الغرفة بهدوء وحينما تأكد من خلو الدور أشار لها فتسللت على أطراف اصابعها الى غرفتها.
وما أن دخلت الى غرفتها حتى هاجمتها موجة هواء باردة متسللة من النافذة المفتوحة على مصراعيها فتوجهت لتغلقها ثم انسلت الى الحمام لتنسى همومها مع انسياب الماء الساخن على جسدها المنهك متمنية أن تغسل المياه ذكرى ما حدث بالأمس.

**************

SHELL 26-10-18 03:13 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


عندما استيقظ كريم على صوت جرس المنبه بجوار سريره أخذ يبحث عنه متأففا بعين نصف مفتوحة وهو يسكته للأبد حتى يشبع نوما الا أنه أراد أن يتوجه الى غرفة والدته للاطمئنان على صحتها ولغرص آخر فى نفسه ,بعد أن قام بالاستحمام وارتداء ملابسه على عجل فتح باب غرفته قليلا ثم تذكر أنه قد نسى هاتفه المحمول فعاد للبحث عنه وعاد ليتوجه خارجا حينما تناهى اليه صوت باب يفتح فرأى مشهدا لا يصدق كان رفيق يتلفت يمينا ويسارا فتوارى هو بعد أن قام بمواربة بابه ووجده يفسح مجالا لخروج لبنى من غرفته حيث خرجت مسرعة لتتوجه صوب غرفتها المجاورة فاختفى كليا بالداخل ثم سمع صوت بابين يغلقان على التوالى وبالنهاية ران الصمت على الطابق بأكمله,فيما أخذت دقات قلبه تنتفض داخل ضلوعه وهو يحاول فرك عينيه جيدا حتى يتأكد من أنه ليس حلما ,لا يمكن أن يكون ما رآه حقيقة ؟ رفيق ولبنى معا , أو من تدعى أنها لبنى , هل رفيق متواطئ معها بلعبتها الدنيئة ؟ وما الذى يجمعهما حتى تقضى الليل بغرفته ؟ والأهم ألا يستحى أيا منهما ؟
بعد قليل أعاد ضبط هندامه على الرغم من عدم الحاجة لهذا وشد قامته باعتدال ثم توجه الى غرفة والدته فى آخر الرواق وطرق على بابها حتى سمع والدته تطالبه بالدخول ,فابتسم لها أول ما رآها وانحنى نحو يدها ليقبلها بحب :
-صباح الخير , كيف حالك يا ست الحبايب ؟
ردت له ابتسامته بأخرى أكثر اشراقا من العادة وهى تربت على رأس ولدها الحبيب لتجيبه بمودة:
-صباح النور يا حبيبى , أنا بخير, فاطمأن ولا تشغل بالك.
كانت برأسها تدور عشرات الأفكار كما كانت تدور برأس ابنها عشرات التساؤلات وكلا منهما يخفى ما يفكر به ويصطنع البهجة والمرح ,ولكنه كان كريم من بدأ الاستجواب بطريقة بدت بريئة:
-ألم يحن الوقت لتخبريننى بما حدث بالأمس؟
أشاحت هناء بوجهها بعيدا عن مرمى بصره وهى ترد بصدق:
-لم يحدث أكثر من أننى كنت شاردة حين عبرت الطريق فكادت سيارة صلاح تصطدم بى ولكنه نجح بكبح فراملها فى آخر لحظة فلامسنى طرف مقدمتها وتهاويت أرضا ,هذا فقط ما حدث.
-وما الذى جعلك تغادرين المنزل وبدون اخبار الموجودين ؟ والى أين ذهبتى يا أمى ؟
انفعلت هناء بدون مبرر:
-وهل هذا استجواب يا سيد كريم ؟ هل تحقق معى ؟
أخرج كريم كل انفعاله بجملته الغاضبة:
-أنا لا أحقق معك ولكن ألا ترين أنه من حقى أن أعرف اين كانت أمى ؟ ومن هو صلاح هذا ؟ لماذا أشعر بأنك ولأول مرة بحياتك تخفين عنى شيئا ؟
-أنا لا أسمح لك يا كريم , فأنا أمك ولست سكرتيرة تعمل عندك حتى تقومى باستجوابى , كما أننى لست مضطرة للاجابة على تساؤلاتك.
توتر كريم لدى ذكرها كلمة ( سكرتيرة ) فقد تذكر هديل , وما الذى كان ينوى أن يقوم به ,اذا كانت والدته تحاول اخفاء الأمر عنه فلا بد أن هديل سكرتيرته تملك بعضا من الأجوبة التى يسعى الى معرفتها وهو لن يتوانى عن الضغط عليها حتى تقر بما تعرفه هذه الفتاة الماكرة التى كان يعتقد أنها مجرد فتاة بريئة ساذجة وأثبتت له بالأمس أن كل تصوراته عنها كانت أوهاما غير حقيقية.
-كما تريدين يا أمى , سأعرف الحقيقة بطريقتى الخاصة , فلا تشغلى بالك.
قالها وانصرف مسرعا دون أن يلتفت لوالدته التى تنادى باسمه فى لوعة.
ولم يقم حتى بالقاء تحية الصباح على ريم وتوجه الى الباب الخارجى وأغلقه ورائه بعنف أرعب الفتاة التى كانت تجلس باسترخاء فى الطابق السفلى وتعجبت من أمره فرفعت حاجبيها وزمت شفتيها ثم أخذت تفرك جبهتها مفكرة بعمق عن سبب الانقلاب الذى تغلغل فى كيان هذه العائلة وجعل افرادها يتصرفون على غير طبيعتهم ,وعادت لتشغل نفسها بمشكلتها الخاصة ,فلها قضية معلقة مع أخيها وعليها ألا تتركه ينصرف اليوم الى عمله دون مناقشة ,ولكنها ارتات أن تنتظره بمكانها بدلا من أن تفاجئه بغرفته ,وأخذت تتلاعب بهاتفها الملقى باهمال الى جوارها وكانت تنتظر مكالمة هامة تلهفت على سماع صوت محدثها الجذاب الا أن الهاتف بقى على صمته فنظرت الى الساعة التى اشارت الى التاسعة الا ربع فتثاءبت ببطء وهى تحادث نفسها : ما زال الوقت مبكرا , فموعدنا بالعاشرة تماما,وابتسمت بجذل.

*************

SHELL 26-10-18 03:14 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
استيقظ الجميع بالمنزل مبكرا وتسابقوا للنزول الى القاعة الواسعة بالدور الأرضى ,وألقوا تحية الصباح ببشاشة على السيدة شريفة التى كانت جالسة الى جوار حفيدتها ريم تتبادلان أطراف الحديث بينما كان رفيق يسارع بالخروج وهو يعقد ربطة عنقه ويغلق أزرار كمى القميص وهو فى عجلة من أمره وكأنه كان يهرب من شئ ما , الا أن أخته قد استوقفته وقد نوت على اثارة مشكلة بعد أن أعادت التفكير مرارا بما صار بالأمس ورأت أنه من الأنسب ألا تؤجل المواجهة المحتومة فاستجمعت كامل شجاعتها وقالت:
-انتظر يا رفيق , أريد أن أحادثك بأمر ضرورى.
أوقف تقدمها نحوه باشارة جافة من يده وكان واضحا أنه متعكر المزاج ولا ينبغى مراجعته بالأمر فى هذا التوقيت الا أنها كانت تسعى بغباء نحو الشجار فحينما رد عليها بتجاهل:
-ليس هذا هو الوقت المناسب , أنا مستعجل.
زمت شفتيها بغضب وصاحت:
-أريد أن أذهب الى الشركة معك.
عقد حاجبيه وهو يتطلع نحو الجالسين الذين بدأوا يراقبونهما بصمت فى انتظار نتيجة هذه المناقشة التى أوشكت على التحول الى صفعات متبادلة بينهما حين حذرها رفيق من مغبة تصرفها:
-اياك وأن ترفعى صوتك مرة أخرى اثناء حديثك معى ,ثم ما الذى تعنيه بذهابك الى الشركة ؟ ألك عمل هناك ؟ أم أنك تظنين أنها رحلة للهو ؟
شعرت ريم بالاهانة خاصة فى وجود الكثير من الشهود على ما دار بينها وبين أخيها الحانق عليها فردت بكبرياء:
-أنا أعرف أنها ليست رحلة , أريد أن أعمل معكم.
-أنت تعرفين رأيى سابقا بخصوص مسألة عملك , وقد انتهينا منها , فلماذا تعيدين فتح هذا الموضوع مرة أخرى ؟
تنامت بداخلها رغبة حمقاء باثارة زوبعة وألا تستسلم لصوت العقل الذى يرجح انهاء مناقشتها مع رفيق فأكملت بتبجح:
-وما الذى يميز لبنى عنى حتى تصحبها للشركة للعمل هناك ؟
-لبنى تختلف كليا عنك , ولا شأن لك بما يدور فى مجال العمل ,اهتمى بشؤونك الخاصة فقط.
لم تفتها نبرة التحذير الواضحة بصوته المنفعل ولكنها ضايقتها لأنه يدافع عن لبنى بحرارة فيما هى شقيقته الوحيدة يعاملها بمثل هذا الجفاء فتخلت عن تعقلها نهائيا ورفضت الاستسلام فى الوقت المناسب حتى فات أوان التراجع:
-ولماذا تختلف لبنى ؟ على الأقل أنا أختك فالأولى أن تشركنى بالعمل بدلا من بقائى وحيدة بالساعات فى البيت لا أقوم بعمل نافع ,أنا هى فليست سوى صائدة ثروات , كيف تأمن لها ؟
هوت صفعة قوية على خدها رمتها أرضا وقد خارت قواها لتتحمل هول المفاجأة والألم الذى سرى بخلايا وجهها الملتهب فيما انفجر رفيق بغضب أعمى :
-اخرسى , واياك والتطاول عليها مرة أخرى , أفهمت ؟
ولم ينتظر لحظة أخرى فقد اندفع خارجا وصفق الباب ورائه بعنف شديد مما جعل أصدائه ترج فى المكان بينما قام كريم بالاندفاع نحو ريم ليساعدها على الوقوف على قدميها فاستندت الى كتفه بمرارة وأسى وهى لا تصدق ما حدث لها , لم يكن شقيقها ابدا من النوع العنيف الذى يستخدم يديه للتعبير عن مكنونات صدره ,وبحياته لم يمد نحوها أصبعا فكيف بهذه الصفعة المؤلمة التى أصابتها بالوجوم ثم أجهشت بالبكاء وكانت الجدة هى أول من استطاع استعادة السيطرة على الألسن التى ألجمتها الصدمة فأخذت تتحدث بانفعال والكلمات تتزاحم على شفتيها للخروج:
-لا أصدق عينىّ , ما الذى اصابكم يا أحفاد الشرقاوى ؟ كيف وصلنا لهذا الصدام ؟ ورفيق ... لا يمكن أن يكون بوعيه .
ثم وجهت حديثها خاصة نحو ابنها البكرى معاتبة اياه على تخاذله:
-وأنت يا محمد كيف سكت عن فعلة ابنك الشنعاء ؟ هل ظن نفسه قد أصبح كبير العائلة بعد وفاة جده ؟ صار يتصرف على هواه بدون الرجوع الى أحد ,لا بد من وضع حد لتهور هذا الولد.
لم يتمالك محمد نفسه من الابتسام برغم من جسامة الموقف وعدم احتماله لرؤية ابنته وهى تبكى بحرقة متألمة الا أن أمه ترى أن رفيق ما زال ولدا فى حين أنه رجل قد تخطى الثانية والثلاثين من عمره, وتأمل زوجته وهى تحتضن ابنتها بحنان محاولة تهدئة شهقاتها الباكية وهى تواسيها ,فرأى أن الحل الأمثل هو مواجهة ابنه بما فعله وهو يعلم أن رفيق أحيانا يتعامل بغلظة حينما يستفزه أحد ولكن لا يمكن السكوت عن هذا الموقف خاصة وأنه يرى أن ابنته لم تتجاوز حدودها معه ,وكانت هذه هى أول مرة يرفع فيها يدا على أخته ,وآثر أن ينتظر لفترة حتى تهدأ الأوضاع وتستقر ثم يتوجه اليه فى الشركة ليعرف سر عصبيته الغير مبررة تجاه ريم المسكينة.
-لا تشغلى بالك يا أمى , لن يمر الأمر مرور الكرام ولكن علينا أن نتروى قبل الاقدام على أى تصرف قد يزيد من احتدام الوضع.
هكذا دائما كان ابنها يفكر بعقلانية وهدوء مهما كانت درجة الغليان من حوله وفى أحلك الظروف استطاع تجاوز المحن التى مرت عليهم وهذا ما يميزه عن اخوته فهى تثق به ثقة عمياء وتستأمنه على كافة الأعمال الخاصة بالعائلة.
خرج كريم عاصفا بعد هذا الموقف السخيف الذى شهده بمرارة ,فقد بدأ يستشعر بأن هناك أمرا ما يدبر فى الخفاء , وبات يشعر بأن ابن عمه ورفيق صباه قد تغير للأسوأ وباتت أفعاله غريبة تستوجب التفسير ,صدمه بداية من معرفته بحقيقة أخته المزعومة وسعيه للحيلولة دون افتضاح أمرها أمام العائلة ,ثم رؤيته لها خارجة من غرفته فى الصباح الباكر وهى ترتدى ملابسها المنزلية مما يؤكد بقاءها بالغرفة طوال الليل , ولا يوجد داعِ للتخمين بما جرى فهذا أوضح من قرص الشمس الساطعة فى وضح النهار ,واختتمه رفيق بصفعه لأخته ريم وهو الذى كان دائما مثالا للحب والود فى معاملتها وكأنها أميرة مدللة ,ما عليها الا أن تشير ببنانها فينفذ فى الحال ,لا ينقصه الآن سوى زيادة الطين بلة بموضوع والدته وسر معرفتها بوالد هديل ,سكرتيرته الهادئة الرصينة والتى كان يعتبرها مثالا للبراءة النقية فلم يتصور يوما أنها تخبئ أسرارا ,ودوره أن يعمل على استخراج هذه الأسرار ولو بأى ثمن حتى ولو كانت الطريقة غير انسانية فأمه خط أحمر وقد تجاوزت هديل هذا الخط وآن أوان دفع الثمن , وقد عزم على جعلها تدفعه بكل سرور , فلا مانع من التسلية قليلا.

**************

SHELL 26-10-18 03:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
تأخر سيف فى التوجه الى عمله بعدما عرف بالحادث الذى ألم بريم ,وأخذ قراره بعد صراع مع النفس بالتزام الصمت التام وألا يحاول الانحياز الى أى جانب حتى يشرح له رفيق سر تهوره ,ثم تذكر لبنى وأنها ما زالت بغرفتها ولم تلحق بهم الى الشركة كما فعلت بالأمس ,وحاول أن يربط بين سر الخلاف الذى نشب بسببها وانعزالها بعيدا عنهم بعد أن كانت منفتحة تحاول الاقتراب منهم واذابة الحواجز الجليدية بينهم ,وعاد فهز راسه بعنف لينفض عن رأسه هذه الأفكار وقال بصوت مرتفع قليلا عله يقنع حاله : وما شأنى أنا بكل هذا ؟ لا يعنينى الأمر من قريب أو بعيد , فليقوموا بحل مشكلاتهم بعيدا عن نظرى لم يكن ينقصنى سوى القيام بدور المصلح الاجتماعى .
نادته والدته وهر تراه يحدث نفسه كالمجنون وقالت تنهره:
-ماذا دهاك يا بنى ؟ أتحدث نفسك ؟
انتبه على صوتها العالى فرد ببرود اعتاد معاملتها به منذ آخر مرة فاتحته بشأن زواجه من لبنى :
-ان الحال فى هذا البيت أصبح يدعو الى الجنون ,وأنا لست حالة استثنائية ,ولكن ماذا يهمك من أمرى ؟
شهقت منى وهى تضرب على صدرها:
-أنت ابنى الوحيد يا سيف , فكيف تحادث أمك هكذا ؟
ابتسم ساخرا بمرارة:
-ابنك الوحيد , ولكنك تسعين الى استغلاله لنيل مآربك ,وفى هذا تتساوين مع الجميع , عن اذنك يا ... ماما.
أمسكت بذراعه تستوقفه باستجداء وقد تغيرت نبرتها الواثقة تماما:
-يا حبيبى , كل هذا من أجل مصلحتك أنت , صدقنى.
-نعم , أصدقك.
استمر بالتحدث هازئا من محاولتها الفاشلة لاقناعه بأن ما تسعى نحوه هو لصالحه وليس لصالح طمعها ورغبتها بالسيطرة على مجريات الأمور وأموال العائلة.
-أرجوك , لقد مللت من هذا الحديث , فدعينى أخرج بسلام , لدى عمل ينتظرنى.
-وهل تسمى وظيفتك هذه عملا ؟ فيما يستأثر رفيق بالادارة وحده ؟
استشاط غضبا من تقليلها المستمر من شأنه وعمله بالشركة وتناست أن هذا المنصب يسعى نحوه الآلاف والذين يفوقونه خبرة وسنا ومعرفة وجدارة ,وأنه بلمح البصر صار مسئولا عن كل ما يتعلق بأمور الموظفين الذى يتجاوز عددهم المئات ,وأن عمله ليس هيّنا أبدا ولا يجوز مقارنته بمجال واختصاصات ابنى عميه رفيق وكريم.
نظر لها بكراهية وهو ينفخ سمومه بوجهها:
-اتركينى لحالى , أتمنى لو لم يسامحك أبى ويبقيك بالمنزل , فلما كنا قد وصلنا لهنا.
وأزاح يدها المرتعشة من فوق ذراعه وخرج تتنازعه الأفكار تلقيه بجب عميق لا قرار له ,وقد شعر بأنه يختنق من شدة الكراهية التى صار يكنها لأمه ,فمهما عرف عنها من الآخرين فقد رأى بنفسه مدى الشر بداخلها واستعدادها للتحالف مع الشيطان اذا ما كان هذا هو الثمن لنيل غرضها.
كل النساء متساويات...كلهن يتجملن ويرتدين الأقنعة المزيفة فقط ويتصنعن الاهتمام للايقاع بالرجال,ولا واحدة حتى الآن حادت عن هذا المسار...كلهن بلا استثناء !

*****************

SHELL 26-10-18 03:21 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

كانت ريم مستشيطة غضبا ومصدومة من أثر الصفعة التى ما زالت آثارها محفورة بلون محمر على خدها وقد بدأ فى التورم قليلا ,وبدأ النبض المتزايد يضايقها حتى قطع الثلج لم تفلح فى تهدئة صدغها كما فشل الليمون المثلج الذى أعدته سماح خصيصا لها أن يهدئ أعصابها ,وقد شعرت بالذل نتيجة رؤيتها للخادمة وهى تقدم لها كوب العصير باشفاق على حالها ,لا بد أن جميع المتواجدين الآن قد عرفوا بالحكاية وتزايد شعورها بالغضب على تلك الدخيلة التى قلبت أخيها ضدها فى أقل من يومين ,لا بد أن تلقنها درسا تلك الفتاة اللئيمة وهى التى تصنعت الاهتمام بها ورغبتها فى أن تجمعهما الصداقة والأخوة , وكانت من السذاجة بدرجة أنها قد ابتلعت الطعم ببساطة ,وأقسمت أنه لن يغمض لها جفن قبل أن تنتقم ,وحين رن هاتفها المحمول أغلقته نهائيا بدون الالتفات لرقم محدثها فهى الآن مشغولة بما هو أكثر أهمية , يمكن له أن ينتظر قليلا حتى تستطيع استجماع قواها المنهارة لتجيب عليه.
وفيما اتخذت قرارها بالخروج من مخبأها حتى تفاتح والدها بما أرادت من أخيها أن يوفره لها فهى لن تتراجع عن تصميمها , اصطدمت وهى تستعد لهبوط السلم بالتى كانت محور أفكارها السوداء , وحين التفتت نحوها لبنى بمحبة ثم شهقت لدى رؤيتها الخطوط الحمراء الظاهرة بجلاء فانحنت نحوها لتلمس صدغها بحنان وهى تستفسر ببطء عما حدث:
-ريم , حبيبتى ما الذى ألمّ بك ؟
أزاحت أصابعها بعنف وهى تتراجع الى الخلف مبتعدة عنها ونظرت لها بكراهية متجلية وهى تتكلم بوعيد:
-شئ لا يذكر , ولكننى أعدك بأن من فعلها سيدفع الثمن غاليا ... غاليا جدا ... وأنت أيضا لن تفلتى من العقاب.
-عم تتحدثين بالضبط ؟ اهدأى واشرحى لى الأمر.
-أما زلت تتصنعين هذه المشاعر الزائفة وهذا الاهتمام الوهمى ؟ ولكننى لست رفيق لأصدق ألاعيبك وأكاذيبك.
-ريم لماذا تحادثيننى هكذا ؟وما دخل رفيق بالأمر ؟
-لا يليق بك لعب دور الملاك البرئ ,لقد انكشف أمرك.
بدأت الشكوك تساور الفتاة هل أخبر رفيق شقيقته بأمرها ؟ لا يمكن لقد وعدها بالحماية هل يمكن أن يكون هو الذى افشى سرها لريم ؟
-لا أفهم.
-ستفهمين ولكن الآن ابتعدى عنى.
ودفعتها ريم بقوة حتى يتاح لها المجال لهبوط درجات السلم الرخامية ,وفى لحظة كانت لبنى تسقط أرضا لتصطدم رأسها بحافة السلم وهى تشهق برعب فيما واصل جسدها التدحرج بعنف على الدرجات الرخامية الباردة حتى استقر هامدا بلا حراك أسفل الدرج ,وقد أخذت ريم الصدمة فوضعت يدها على فمها تكتم صرخاتها المتقطعة ,وتتابع بنظراتها جسد لبنى المتكور ثم وجوه المتابعين للموقف منذ بدايته والتى تجلت على معالمها آثار الذهول فيما كان أول من خرق حاجز الصمت وأسرع نحو الفتاة الفاقدة الوعى هو محمد الذى اخذ يصيح بانفعال:
-أحدكم يطلب سيارة الاسعاف بسرعة .
أسرعت سماح التى جاءت مسرعة من المطبخ بعد أن سمعت الجلبة الصادرة من البهو الى الهاتف دون أى لمحة تردد وقد استوعبت ما حدث فى جزء من الثانية وقامت بالضغط على الأزرار برشاقة وسرعة فيما أخذت تتمتم :
-سترك يا رب , اللهم أنقذها واحمها من أى شر.
وأخذت تملى عنوان المنزل باستفاضة وهى تتعجل وصول المسعفين لخطورة الحالة.
فيما نهى محمد الجميع الذين تجمعوا فى حلقة حول الفتاة المسكينة عن محاولة تحريكها من مكانها خشية أن تكون مصابة بكسور فى عمودها الفقرى,ولكنه لاحظ بقلق بقعة الدم التى انتشرت على الأرض تحت رأسها وتيقن أن الأمر أخطر مما يتصور.
جثت فريال على ركبتيها بجوار جسد ابنتها المسجى وأخذت تنوح بصوت يقطع نياط القلب:
-بنتى ! بنتى , أرجوك لا تتركيننى ,لا يمكن أن أفقدك مرتين , ليس الآن.

****************

SHELL 27-10-18 03:46 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الرابع عشر

http://files2.fatakat.com/2013/8/13777626181786.gif

لم يكد أبناء العم الثلاثة يصلون الى مقر الشركة متتابعين حتى اجتمعوا سويا فى مكتب رفيق بناءا على رغبة منه ,وفيما اكتفى كريم بالصمت وهو يشعر بالثورة تكاد تتفجر من عينيه اللتين تقدحان شررا وهو يكتم غيظه بقوة هائلة وقدرة عظيمة على السيطرة على النفس ,وأخذ سيف يعبث بالسلسلة الفضية الرفيعة التى تحيط بعنقه والتى يختفى معظمها تحت قماش قميصه الناعم ,استقام رفيق فى جلسته خلف المكتب الخشبى الأنيق وهو ينقل بصره بين ابنى عميه وصديقى طفولته ويفكر هل يستطيع ائتمانهما على سره الخطير ؟لقد فاض به الكيل وبدأ يشعر بالانزعاج من تصرفات أفراد عائلته الغير معقولة وفى نفس الوقت لم يعد قادرا على تحمل المشكلات التى تنبثق من العدم وتأخذ فى التضخم حتى تصير معضلة عويصة ,واكن أكثر ما يزعجه هو تصرفه تجاه أخته الوحيدة , لم يشعر بنفسه الا وكفه يهوى على خدها الرقيق فى تهور أحمق لم يكن عليه الانجراف اليه ,هى من بدأت باستفزازه متعمدة وأثارت موضوعا من لا شئ وأنهت تحديها له باهانتها لأميرة ووصفها لها بأنها صائدة ثروات حقيرة , كان هذا فوق طاقته على الاحتمال وانفلت زمام السيطرة على الأمور من بين يديه ,والنتيجة أنه يشعر بالاحتقار لذاته فهو مؤمن بمبدأ أن من يضرب امرأة لا يعد رجلا.
تنفس بعمق وهو يحاول أن يسترخى بلا جدوى فقلبه منقبض لسبب ما , لا بد أن يصالح ريم فور أن تهدأ وتستقر الأوضاع التى تركها مشتعلة بالمنزل فقد كان مشهد الصفعة على مرأى ومسمع من أبيه وجدته التى لن ترحمه ولن تغفر له أبدا ,أخذ الاثنان كريم وسيف يتبادلان نظرات ذات معانى فقد بدآ يتساءلان عن الغرض من حضورهما الى مكتبه فيما هو غارق بأفكاره الخاصة بعيدا عنهما مئات الأميال ,تنحنح سيف متعمدا وهو يلوح بيديه أمام عينى رفيق اللامعتين كالفضة الشائلة ويقول :
-نحن هنا , رفيق فيما أنت شارد ؟
انتفض رفيق من ذهوله وهو يتساءل بتعجب:
-ماذا هناك يا سيف ؟
-أنت الذى طلبت منا المجئ الى مكتبك لأمر ضرورى , ولا أعتقد أنك تريد أن نشهد على أحلام اليقظة الخاصة بك ,هل تود التحدث بخصوص ريم ؟
-لماذا ؟ هل هناك ما يخصها ؟
توتر سيف قليلا وهو يشعر بأنه قد تورط بأمر غير محمود:
-ربما أردت الفضفضة أو تفسير سبب تصرفك الغريب نحوها
نظر له رفيق بعدائية واضحة وهو يكتف ذراعيه أمام صدره , ثم قال بنفور:
-ليس هذا هو وقت التسلية ولعبة الصراحة ,كما أننى لست بحاجة لمن يحاسبنى على تصرفاتى , وبالتأكيد لن يكون ايا منكما.
كان كريم يحاول السيطرة على انفعالاته المتضاربة وانسلت منه الكلمات بدون أن يعى:
-حتى قضاؤك لليل مع لبنى المزعومة بغرفتك لا يستحق التفسير ,وتسللها صباحا الى غرفتها بدون علم أحد لا يستوجب التبرير,وصفعك لشقيقتك الوحيدة لمجرد أنها قد تجرأت وتطاولت عليها لا يستدعى الشك.
تفجرت الصدمة فى وجه سيف الذى كان لا يصدق ما تسمعه أذناه وهو يضرب كفا بكف متعجبا ويردد متمتما:
-لا حول ولا قوة الا بالله , لا حول ولا قوة الا بالله , ما الذى يجرى ؟
أشعر كأننى فى حلم سخيف !
أجابه كريم بطريقة استفزازية وهو يحاول أن يرى رد فعل رفيق على كلامه:
-الأوقع أن تقول أننا نمثل فيلما سخيفا من الدرجة الثالثة ,فقد استحالت حياتنا الى جحيم منذ دخلت هذه المخلوقة المزيفة الى بيتنا مدعية أنها ابنة عمنا.
-اخرس !
قاطعه رفيق بعنف وهو ينهض من مقعده بخفة النمر ليصل اليه فى ثوانى معدودة ويمسك بتلابيبه بقسوة مهددا اياه والشرر يتطاير من عينيه , فيما حاول سيف أن يهدئ الوضع المشتعل بينهما وهو يبعدهما الواحد عن الآخر واضعا جسده الطويل حاجزا بينهما ,أما كريم فلم يفلح تهديد رفيق فى اسكاته بل استطرد بصوت أعلى:
-لا , لن أصمت بعد الآن , فى البداية كنت أثق بك ثقة عمياء فآثرت السكوت حتى أدع لك الفرصة لتوضح لى ما يجرى من ألاعيب ولكنك تماديت هذه المرة يا ابن عمى العزيز وأصبحت تتصرف بغرابة شديدة ,وكل هذا ولا تريد أن تعطينا اجابات شافية على الأسئلة التى تدور بأذهاننا.
وجه سيف نظرات اتهام الى رفيق منتظرا أن ينفى عن نفسه التهم التى يلقيها بوجهه كريم فى اندفاع وكان صمته الدليل الكافى على صدق هذه الادعاءات.
-لا أصدق ما يحدث ! وما الذى يعنيه بأن لبنى مدعية كاذبة ؟ هل هذا صحيح ؟
-أنا لا أكذب يا صديقى ,فهى التى اعترفت لى بنفسها منذ اول يوم لها بالشركة بل وطالبتنى بالتعاون معها فى خطتها الحقيرة للنيل من العائلة , انها تسعى فقط للانتقام ,ولا أعرف حتى سبب رغبتها هذه.
-فقط اهدآ وسوف أشرح لكما كل شئ.
تهالك رفيق على أقرب مقعد وقد ظهرت على ملامح وجهه آثار التعب والارهاق ,فلم يعد هناك بدا من الاعتراف بالحقيقة , الحقيقة الكاملة ,ربما آن الآوان لأن يأخذ كل ذى حق حقه ,وهذا أفضل للجميع.
فيما كانا الرجلان الواقفان الى جواره يستعدان للجلوس حتى يستمعا اليه بصدر رحب , رن جرس هاتفه المحمول , كاد أن يتجاهل رنينه المتواصل أو يغلقه فى وجه المتصل الا أنه أدرك هويته فأجاب بصوت منخفض يشوبه آثار من الارهاق :
-آلو , نعم يا أبى .
أنصت باهتمام الى صوت أبيه الحزين وهو يخبره عن الحادث الذى ألم بابنة عمه , ولم يتمالك رفيق نفسه من الانزعاج وهو يهتف بأسى:
-ما الذى تقوله ؟ كيف حدث هذا ؟ ومتى ... أين هى ؟ بأى مستشفى ؟
سأكون حالا عندكم.
ألقى بالهاتف فى جيبه وأسرع نحو سلسلة مفاتيحه يلتقطها برشاقة وهو يسارع بالخروج الا أن كريم استوقفه بقلق:
-ماذا جرى ؟ هل عمى بخير ؟
-نعم , انه بخير , ولكنها أميرة ... سقطت من فوق الدرج , علىّ أن ألحق بهم فى المستشفى.
هم سيف باللحاق به وقد بدا متوترا منزعجا:
- هل اصابتها خطيرة ؟
-لا أعرف , ولكنها فاقدة للوعى.
-حسنا , هيا لنذهب جميعا.
هم رفيق بأن يرفض مرافقتهما له الا أنه وجد كل كيانه ينهار دفعة واحدة وتيقن بأنه لن يقوى على قيادة السيارة , فما أخبره به والده غير مبشر بالخير , فحالتها غير مستقرة سقطت من على الدرج وأصيبت بنزيف فى الدماغ ,هل ستكون هذه هى النهاية ؟ لا يمكن , ليس بعد دخولها الى حياته مرة أخرى , ألن يمهله القدر فرصة للاعتراف بحقيقة مشاعره نحوها ؟
خرجوا من غرفة المكتب مسرعين الى الخارج ولكن سيف التفت الى مها التى كانت جالسة تنهى بعد الأوراق المطلوبة على جهاز الكمبيوتر ونظر لها مطولا ثم أخبرها بصوت عادى:
-الغى كل اجتماعات السيد رفيق لليوم ,وأبلغى السيد منير بغيابنا لأمر طارئ فعليه أن يتولى هو زمام الأمور.
شعرت بحاستها السادسة أن لغياب مديرها سبب خطير فحاولت أن تعرفه بفضول المرأة الذى لا ينضب:
-هل كل شئ على ما يرام ؟ أعنى أتمنى ألا يكون غيابكم ...
وتوترت شفتاها بعد أن اخترقتها نظراته المدققة بشغف حاول أن يشغل نفسه بالقضية الأهم فابتعد عنها متجاهلا:
-لا عليك , فقط أبلغيه بما أخبرتك به .
وتركها وعلامات الاستفهام تتطاير برأسها الجميل , كانت تتمنى لو تستطيع أن تغير من مبادئها التى تربت عليها وتحاول أن تسلك طرقا ملتوية لتحقيق غاياتها , ولكن هيهات فمن شب على شئ شاب عليه , وان غدا لناظره قريب , انتظروا انتقامى يا عائلة الشرقاوية.
واعتدلت بجلستها لتجرى اتصالا هاتفيا بمكتب السيد منير كما أمرها سيف بنبرته المتسلطة التى تشع سيطرة وعنفوانية.

***************

SHELL 27-10-18 03:48 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


أخذت دموعها تتساقط على خديها حارقة بشرتها الناعمة وهى تقف مستندة على الجدار البارد للمستشفى الاستثمارى الشهير الذى استقبل ابنتها الفاقدة الوعى وهى تنزف بغزارة ,لا تنسى هذا المشهد الدامى وهى تستمع الى صرخات وحيدتها قبل أن تستقر هامدة بلا حراك ,وتتمنى لو تتسنى لها الفرصة للعودة الى الوراء لكانت اعترفت لابنتها بالحقيقة وضمتها الى صدرها مهما كانت ردة فعلها ازاء هذا الاعتراف ,لقد جبنت عن اخبارها بأنها الأم التى تبحث عنها وهى على قيد خطوات منها ,وأخذت تدعو الله أن ينقذ أميرة وينجيها من الخطر ,هى مستعدة للتنازل عن كل شئ تملكه , لا تريد ثروة ولا بيتا ولا تأبه لما يخططه أفراد عائلتها , اذا أرادوا الاستيلاء على نطيبها من الميراث فهنيئا لهم سوف تتنازل عنه بطيب خاطر فى مقابل استعادة لحظة واحدة تعيشها مع ابنتها التى فقدتها منذ خمسة وعشرين عاما ,لا تفارق مخيلتها صورة الرضيعة وهى فى يومها الأول يعد أن أرهقتها الولادة المتعسرة وكادت أن تودى بحياتها ,شعرت بأنها كانت على أتم استعداد لتحمل الآلام والصعاب لترى وجه فلذة كبدها وتضمها الى صدرها , ثمرة فترة عشقها القصير هى وناجى ,آه يا ناجى فقط لو كنت الى جوارى ,لو لم تهرب بعيدا ,لو لم تختفى عن الأنظار ,لعشنا بسعادة كأسرة صغيرة هانئة البال يظللها الحب والمودة ,ولما تربت ابنتنا فى كنف والدين آخرين ,فقط يقينها بأن وجدى وزوجته - رحمهما الله - قد اعتنيا بها وعاملاها أفضل معاملة كأنها ابنتهما الحقيقية خفف عنها بعض الوجع ,وها هى الآن تصارع مصيرها المحتوم ... هل ستفقد ابنتها هذه المرة الى الأبد كما فقدت والدها ؟
والى جوارها جلس أخوها محمد على المقعد المعدنى بغرفة الانتظار وهو يستشعر عدم الراحة فى نظرات الأطباء الذين يتولون رعاية ابنة أخيه ,وقد فطن الى أن حالتها تعد خطيرة جدا بسبب كمية الدم التى فقدتها اضافة الى أن سقوطها كان عنيفا فاحتمالية تأثر مخها بالصدمة كبيرة ,ولم يجد ما يفعله سوى أن قام بالاتصال بابنه , فهو سنده وظهره فى الحياة لطالما اعتمد عليه منذ أن كان شابا صغيرا فى تولى زمام الأمور بادارة الشركة وسائر الأعمال الخاصة بهم ,وكان مخلصا قادرا على التعاطى مع مختلف الأزمات ,وذكيا لاستيعاب كافة التفاصيل الدقيقة ,أنه رفيق الذى لا يعترف بالاستسلام ولا الهزيمة...
رن هاتفه المحمول أكثر من مرة وهو لا يتمكن من الرد فهو يعرف قلق أمه الفظيع على حفيدتها ,وما باليد حيلة بم يجيبها ؟ يقول لها لا أعرف أم يصدمها بحقيقة خطورة حالتها ,الأفضل بهذه الحالة أن يلتزم الصمت ,وينتظر رحمة الله التى وسعت كل شئ.

******************

SHELL 27-10-18 03:49 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


ظلت ريم على حالها منذ رأت المسعفين وهم يحملون جسد لبنى على المحفة ,تبكى بحرقة متأثرة بما حدث وفى وسط عبراتها تشهق بكلمات غير مفهومة ثم تردد بصياح مرتفع:
-لم أفعل شيئا لها , أنا لم أدفعها ,أنا لم ...
وفيما بقيت السيدات الأكبر سنا تحاولن تهدئتها بشتى الطرق ,حتى جدتها التى كانت تموت رعبا على حفيدتها المصابة أخذت تربت على كتفى ريم وهى تحتضنها بذراعيها فتجد ملجأ للأمان من أحزانها ,وقد أخذت تعيد على مسامعها هذه الجملة بصوت قوى ثابت حتى تخرجها من دوامة تأنيب الضمير:
-لا يتهمك أحد بشئ يا عزيزتى , ليس ذنبك ما حدث , انه قضاء وقدر.
-ولكننى ... ولكننى أخبرتها بأشياء فظيعة ,لقد ...
وانفجرت باكية حتى بللت دموعها وجهها بالكامل وهى ترتجف بشدة وبدا كأنها تهذى من وطأة الموقف على أعصابها:
-أنا لم أقصد أن أؤذيها ,فأنا ... لا أضمر لها شرا.
-اهدأى حبيبتى , سوف تصبح بخير ,ولم يكن بيد أى واحد منا الوقوف فى وجه المكتوب.
كانت هذه هى أمها التى انفطر قلبها وهى تشهد ابنتها تنهار أمام عينيها ,وهى واثقة من براءتها من هذا الجرم الفظيع.
أخذت منى تقلب شفتيها وهى غير راضية ثم انطلقت تتحدث وكأنها تكلم نفسها:
-ولكن أليس هذا غريبا ؟ انها مصادفة أن تكون واقفة بجوارك وقد بدأ صوتك يعلو وقد سمعناك جميعا ,هل كنتما تتشاجران ؟ ويا ترى لأى سبب انقطع حبل الود بينكما ؟ أكيد بسبب ما قام به رفيق هذا الصباح عندما صفعك لأنك تطاولت عليها , أتعرفين عندك حق فهى شخصية غير مريحة أبدا.
-كفى , لا أريد أن أسمع أى كلمة بخصوص هذا الموضوع , أفهمتن ؟
صاحت السيدة شريفة بكل ما تملك من قوة وهى تحاول التماسك حتى لا تخور قواها فتنهار مقاومتها ويتهاوى بنيان هذه العائلة التى ما زالت تحاول احكام السيطرة عليها بعد رحيل زوجها الذى لم يكن يجرؤ أيا منهم على الاتيان بمثل هذه الأفعال وهو على قيد الحياة ,لكم تغير هذا المنزل بعده , لم تكن تعتقد أنها سوف تشتاق لوجوده ولم تظن يوما أنها ستبكى على فراقه بهذه الحرقة كما تتمنى اليوم ,لقد انفرطت حبات العقد المنظوم الذى كان يمسك به بين اصابعه يشكّله كيفما يشاء,وبدأت المآسى والمصائب تتوالى عليهم واحدة تلو الأخرى وكأن أحدهم قد تلى عليهم لعنة أو ربما هى دعاء مظلوم , فكم من شخص قام زوجها بظلمه ,وهى شاهدة على الكثير والكثير فلم يسلم منه حتى أبناءه ,وهى أيضا , ألم يظلمها ؟ بلى وأساء اليها على مر السنوات التى قضتها معه ,بيد أنها بقيت بالبيت من أجل ترابط أسرتها ,تخلت عن توقها الشديد للحرية والهروب من سجنه الضيق وتنازلت عن كرامتها المهدرة وظلت ساكنة صامتة لا تقوى على الحراك , لم تفكر فى المقاومة بل تقبّلت تعذيبه لها باستسلام عجيب , نعم لقد عذبها حينما حرمها من الحب الحقيقى بحياتها وأجبرها على الاقتران به ,ولم يكتف بذلك بل أبعده نهائيا عن حياتها وطرده من منزل العائلة حتى لا تراه ولو مصادفة ,ولقد تعلمت بمرور الوقت أن تحيا مع الذكريات لتنسى مر واقعها وبقيت محتفظة بصورته القديمة المتهالكة والتى طبع عليها الزمن بصماته ,عندما يضيق بها الحال تلجأ بصمت الى غرفتها لتنعزل عما حولها وتخرج صندوق ذكرياتها بما يحمله من صور لأعز الناس الى قلبها فتتأملهم وكأنها تستنجد بهم ,ولا معين لها سوى الصبر على البلاء.
وما يشغل بالها الآن هو سر عدم اجابة ابنها لمكالماتها المتعددة والتى لا تتوقف بلا كلل أو ملل ,فالقلق يتآكلها على حفيدتها الغالية ,وتدعو الله أن ينجيها وأن وتراها مرة أخرى سليمة معافاة , وقد نذرت أن تتصدق بمبلغ مالى كبير اذا ما مرت هذه الأزمة على خير.

****************

SHELL 27-10-18 03:50 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

شعرت هديل ببعض القلق لتأخر رئيسها بالعمل عن موعده ساعة كاملة وهو الذى يلتزم بمواعيده بدقة متناهية وخلال سنوات عملها الثلاثة معه لم يتغيب يوما بدون عذر الا اذا كان مسافرا فى اجازة ,وأخذت تؤنب نفسها على اهتمامها بأمره فما يعنيها اذا كان بخير أم أن مكروها أصابه ,لن تشغل بالها بالتفكير فيه ,فبعد صدامهما الفجائى بالأمس لن تتحمل مواجهته ,كما أنها كانت قد بدأت تحن لرؤيته ,وطمأنت نفسها بأن هذا بحكم العادة لا غير فهى تراه يوميا وتقضى برفقته ساعات طويلة أثناء العمل ربما أكثر مما تمضيها مع أبيها الحبيب ,وتذكرت الحادثة التى جمعت أباها ووالدة كريم بمصادفة نادرة الوجود ,أليس غريبا من بين جميع البشر أن يتلاقى الاثنان ,ولم تظفر من والدها بأى معلومة ذات قيمة عن طبيعة علاقته بهذه السيدة التى أحضرها الى منزله وأمر ابنته أن ترعاها وتساعدها كأنها شخص عزيز عليه وليست مجرد امرأة صدمها بسيارته ,ثم تذكرت كيف كان يعاملها كريم حينما عرف بالصلة التى تربطها بالرجل الذى انقذ والدته ,ولم تنس نظراته المحتقرة التى آلمتها فى الصميم ,فماذا يظن بها ؟ لا يهم , فليفكر كيفما شاء , وأجابت على نفسها بصدق : يا لك من كاذبة ! أنت تهتمين لشأنه كثيرا , ولا تريدين أن تتحطم صورتك أمامه ولا أن تسقطى من نظره ,هيا اعترفى بالحقيقة ,فأغلقت عينيها حتى تهرب من ذكرى عينيه الجذابتين اللتين تأسران قلبها بصمت وتجعله يهوى فى بئر عميق من المشاعر الرقيقة , فهى تحلم به دون أن تدرى.
يا له من حلم بعيد المنال ! وقد صار أبعد من النجوم بالسماء ,لقد تصاعدت الحواجز بينهما وقد زاد عددهم واحدا جديدا بعد لقاء البارحة.
-هديل ! هل تحلمين نهارا ؟
تطلعت نحو الصوت المألوف لصديقتها وزميلتها بالعمل مها ,ولكنها تعجبت كيف غادرت مكتبها قبل موعد الراحة المخصص لهم فالسيد رفيق لا يقل صرامة وحزما عن رئيسها القاسى وتبسمت بمرح تحاول أن تجعل صوتها مبتهجا:
-مرحبا مها , أى ريح طيبة ألقت بك الى هنا ؟
أجابتها مها وهى تتخذ مجلسا بقربها وتحاول أن تتصنع الجدية فى حديثها حتى تلفت انتباه رفيقتها:
-لن تصدقى ما لدىّ من أخبار , لقد غادر الوحوش الثلاثة الشركة وهم على عجلة من أمرهم تاركين ادارة الشركة فى عهدة السيد منير.
-لا يمكن !
كانت هديل تعرف بماذا يسمى الموظفون بالشركة رؤساء الأقسام الثلاثة والذين يمتلكون معظم أسهمها وهم أبناء عمومة ولم تطل حيرتها فقد أراحتها مها بدون علم من السؤال الذى كان يتملك عقلها ,ولكنها ظلت تفكر يا ترى ما الذى حدث ليقوم الثلاثة بترك أعمالهم , لا بد أن الأمر ضرورى وخطير , هل أصاب مكروه والدة كريم ؟ وقررت بعد انصراف مها من غرفتها أن تطلب رقم هاتفها الذى تبادلته معها بالأمس حينما حلت ضيفة على منزلها لتطمئن على صحتها.

****************

SHELL 27-10-18 03:52 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


شعر رفيق بالامتنان لمرافقتهما له فقد كان حقا غير قادر على السيطرة على أعصابه ومشاعره أصبحت تخونه ,فقد تاهت منه الكلمات ولم يعد مسيطرا على تصرفاته بل أخذ يعبث بسلسلة مفاتيحه بعصبية ونفاد صبر وهو يلح على سيف فى الاسراع بالسيارة حتى يصلا سريعا الى المستشفى:
-هيا يا سيف , أنت تسير كالسلحفاة بالضبط , لم لا تزيد من سرعتك ؟
احتد سيف وهو يراه منفعلا بلا داعى:
-هل تريد منى أن أطير فوق السيارات مثلا أم أصدم المارة ؟
لا تنس أننا نسير فى وسط البلد وليس على الطريق السريع ,لا تقلق سنصل قريبا.
زفر بحنق وهو يحدث نفسه بأن سيف على حق وعليه ألا يسمح لمشاعره بالانفلات هكذا والا فلن يقدر على التصرف بطريقة سليمة , ولكنها هناك راقدة بالمستشفى تحتاج اليه وهو بعيد جدا عنها , لقد وعدها بالحماية ,وها هو منذ البداية قد قصّر برعايتها والنتيجة أنها قد تدفع حياتها ثمنا لذلك ,وأخذ يفكر كيف سقطت من فوق الدرج أن أباه لم يشرح له ما حدث تفصيليا فقط لخّص الموقف فى كلمات قليلة غير وافية , هل يعقل أنها قد أصيبت بدوار جعلها تفقد توازنها , بالاضافة الى مسألة الصداع القاتل الذى يصيبها من حين لآخر , الوحيدة التى كانت ستفيده كثيرا بهاذ الشأن هى السيدة مديحة ولكنه لن يجرؤ على الاتصال بها الآن لاعلامها بما حل بالفتاة ,لا ينقصه استجواب آخر وتوتر لا لزوم له ,سيصبر حتى يعرف بالضبط ما هى حالتها ,وفى غمرة انشغاله وجد أنهما قد وصلا الى باب المستشفى فهدّأ سيف من سرعة السيارة قليلا حتى يصفها فلم ينتظر رفيق أكثر من هذا وفتح الباب الجانبى وقفز منه بخطوات رشيقة متعجلة ولم يعبأ بهتاف سيف من خلفه وهو يتهمه بالجنون والطيش:
-أيها الأرعن كان يمكنك أن تتأذى.
وضاعت كلماته فى الهواء هباءا فهز رأسه يمنة ويسارا علامة عدم الرضا وركن سيارته بمحاذاة الرصيف بدقة مدهشة تنم عن مهارة قائد بارع وأسرع للحاق برفيق فوجد ابن عمه كريم قد سبقه الى الدخول متلهفا فقال لنفسه متضايقا:
-الجميع يتركوننى وحيدا ,ألا يوجد أحد يهتم لأمرى فينتظرنى ؟
أتاه صوتا أنثويا أنيقا يقول:
-بالطبع يوجد من يهتم.
التفت مذهولا لأنه يعرف هذا الصوت جيدا ويحفظه عن ظهر قلب ,فوجدها واقفة تتأمله وهى تقترب منه ببطء واضعة يدا على ذراعه العارية:
-كيف حالك يا سيف ؟
تلاعبت ابتسامة ساخرة على جانب فمه وهو يجيبها بحيادية:
-بأفضل حال , وأنت كما أرى ...
ثم تفحصها بعناية وقحة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها متمهلا عند ياقة فستانها المنخفصة كاشفة عن عنق مرمرى ناعم , واستطرد ببطء:
-لم تتغيرى أبدا.
-ماذا تفعل هنا؟ لا أعتقد أنك تتنزه بالمستشفيات!
كانت تهزأ منه ويا لجرأتها ووقاحتها فأشاح بوجهه بعيدا حتى يلتقط أنفاسه دون أن يبدو عليه التاثر لمرآها:
-وماذا يفعل الجميع بالمستشفى ؟ أتيت لزيارة قريبة لى.
-يا للمصادفة ! أنا أيضا أتيت لرؤية صديقة لى هنا.
-عن اذنك , أنا مضطر للحاق بابن عمى الذى سبقنى.
استوقفته متأملة أن تلفت انتباهه كما كان فى السابق وعرضت عليه البقاء معها :
-لم لا تنضم الىّ لاحتساء فنجان ساخن من القهوة ؟ فاذا كانت قريبتك محتجزة هنا فان موعد الزيارة ليس الآن.
وعندما وجدته متشككا هزت كتفها بلا مبالاة وهى تشير نحو موظفة الاستقبال:
-يمكنك أن تسألها لتتأكد من صحة أقوالى.
وجد أنه لا مفر منقبول دعوتها وعلى كل حال فهو سوف يثبت لها أنه على قدر التحدى الذى ألقته اليه ستتفاجئ كثيرا بتغيره وعدم تأثره برؤيتها فقال ببرود مصطنع:
-ولم لا ؟ أحتاج فعلا الى جرعة من القهوة المركزّة , هيا بنا.
وسأل العامل عن مكان تواجد الكافيتريا فأشار له بيديه على التجاه وكانت قريبة جدا منهما ,فدفعها بلطف لتتقدمه ,كان دائما محافظا على قواعد الذوق واللياقة حتى مع من لا يستحقونها , وهى حتما أكثر واحدة لا تستأهل مثل هذه المعاملة الحسنة.

****************

SHELL 27-10-18 03:54 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


لم يكن رفيق صبورا أبدا بحياته ولكن فى هذه اللحظة بالذات شعر بنفاد صبر رهيب وهو يرى أباه وعمته يقفان وقد ظهرت على وجوههم علامات اليأس ولم يجرؤ على سؤالهما عن حال أميرته فقد ظن أنه سوف يسمع خبرا لن يسره أبدا ,فقام كريم بهذه المهمة نيابة عنه وسألهما بقلق:
-كيف حالها الآن ؟
ما أن رأته فريال حتى ارتمت فى حضنه وهى تشهق بالبكاء وكانها كانت تنتظره لتفضى بما فى داخلها وتنهار بسرعة, فشدد من احتضانها بذراعيه وهو يمسد على خصلات شعرها المتناثرة باهمال محاولا بث الطمأنينة فى نفسها:
-اهدأى يا عمتى , كل شئ سيكون على ما يرام باذن الله.
قام عمه محمد بالرد عليه وهو يشعر بتوتر لا مثيل له:
-يقول الأطباء أنها فى حالة خطرة جدا كما أنهم يحتاجون الى نقل دم الها لأنها نزفت كثيرا.
بدون أى تردد ولا تفكير توجه رفيق نحو غرفة التمريض واختفى بداخلها فى حين أثار تصرفه هذا انتباه الجميع فوقفوا ينتظرون ما سيحدث ,بعد أقل من دقيقتين وجدوا رفيق متجها نحو غرفة أبعد تصطحبه ممرضة رشيقة وهى تشير بيدها الى الطبيب الذى كان واقفا يدّون بعض الملاحظات الهامة وهو الذى كان يشرف على متابعة حالة لبنى ,تحدث معه رفيق بضعة كلمات سريعة وأومأ براسه وهو يختفى مرة أخرى بالغرفة وتبعته الممرضة .
تساءلت فريال بفضول وهى لا تدرى ما الذى يجرى:
-ماذا يحدث ؟ ولماذا توجه رفيق نحو هذه الغرفة ؟
أبعدها كريم قليلا عنه وقال بهدوء:
-سأذهب أنا لأرى ما الذى يحدث , اطمئنا فرفيق يعرف جيدا كيفية التصرف.
أجهشت فريال بالبكاء مرة أخرى ,وقالت من بين دموعها الغزيرة:
-أتمنى أن تكون محقا يا كريم , فلم يعد لدينا وقت لنخسره اكثر من هذا و ان حياة أميرة فى خطر داهم.
انعقد حاجبى أخيها وهو يراها تهذى فهذه هى المرة الثانية التى تردد فيها اسم أميرة , حينما اصطحباها بداخل سيارة الاسعاف متوجهين نحو المستشفى اصرت على مرافقتهما بالرغم من اعتراضه على هذا وحينما سؤلوا عن اسم المريضة أعطتهم هى اسما غير حقيقيا ولم يحاول وقتها اثنائها عما تفعله حتى لا يثير أعصابها المنفلتة فقد كانت فى حالة يرثى لها ,وبدأ يتشكك فى سلامة عقلها لأن الاسم الذى دونت به الحالة كان اسم ابنتها المفقودة أميرة , هل بدأت تنفصل عن الواقع ؟ وتتخيل هلاوسا ؟ لا بد أن يطلب من الطبيب مراجعة حالتها فربما أثرت عليها الصدمة.
بعد أقل من نصف ساعة رآهما محمد قادمين من الغرفة المغلقة وكريم يحاول أن يسند رفيق الذى كان مشمرا عن ساعده الأيسر ولكنه أزاحه بلطف وهما يسيران الهوينى حتى اقتربا منه فبادره محمد بالسؤال وهو يشعر بنبضات قلبه تتزايد وهو يرى ابنه فى حالة غريبة من الضعف:
-ما الذى حدث لك ؟
ابتسم كريم بحنان وهو يطمئن عنه:
-لا تقلق يا عمى , رفيق بخير لقد تبرع بالدم للبنى ,للمصادفة أنهما يمتلكان نفس فصيلة الدم النادرة ,هيا يا بطل استرح قليلا.
وحاول اجباره على الجلوس الا أن رفيق رفع كفه معترضا وهو يقاوم آثار دوار بسيط يلف رأسه:
-لا تجعل منها قضية تستحق المناقشة , أنا بأفضل حال , ليس لمجرد نصف لتر من الدم تعاملنى كمريض يستحق الرعاية.
سألته فريال وهى شبه تائهة فى دوامة أحزانها وكانت قد انتبهت من شرودها على صوت كريم:
-وكيف عرفت فصيلة دمها يا رفيق؟
تجاهل الرجل سؤال عمته عن عمد وحينما وجدها محمد مصرة على استجوابه ,قام بتغيير الموضوع بذكاء:
-لماذا لم يأتِ أيا من الأطباء ليخبروننا عن آخر التطورات فى حالتها ؟
كان الجميع يتشاركون بهذه اللحظات من القلق والتوتر الا أن كريم انتبه فجأة لغياب سيف فأطلق تساؤله باندهاش:
-رفيق , ألم تكن مع سيف حينما جئنا الى المستشفى ؟ أين اختفى ؟
لم يحاول رفيق أن يجهد ذهنه أكثر من اللازم فأجاب ببساطة وكأن الأمر لا يعنيه:
-ربما خرج لتدخين سيجارة أو احتساء مشروب ,فلتتصل به على هاتفه.
-نعم انها فكرة جيدة , كيف غابت عنى ؟
-ان هاتفه خارج نطاق الخدمة.
لم تمض خمسة دقائق حتى جاءت الممرضة التى رافقته من قبل وهى تحدثه بلهجة معاتبة:
-يا سيد رفيق لماذا غادرت الفراش ؟ هذا لا يجوز أبدا كما أننى قد أحضرت لك عصيرا طارجا عليك أن تنهيه كله.
-لا ضرورة لكل هذه الاجراءات المعقدة , فأنا لا أشعر بتعب.
اعترضت الممرضة وأصرت عليه بضرورة اتباع التعليمات حتى لا تنتكس حالته:
-أعرف أنك رجل قوى , ولكن لا بد من الالتزام بما أطلبه منك , هذا لصالحك أولا وأخيرا.
على مضض تقبل منها العصير وأخذ يرشف منه ببطء ثم سألها:
-هل هذه الكمية القليلة سوف تكفى لانقاذها ؟ ألم يكن ممكنا أن نضاعف الكمية فى حالة أنها احتاجت الى المزيد ؟
ابتسمت الممرضة باشفاق عليه فقد كان يبدو قلقا جدا على الفتاة المصابة أكثر من نفسه,وحسدتها بداخلها على هذا الاهتمام المبالغ فيه ,وحاولت الهائه عن هذه الاسئلة الغير منطقية :
-أنت تهتم لأمرها كثيرا ,هل هى خطيبتك ؟
- كلا انها زوجتى.
خرجت من شفتيه الاجابة عفوية ,بدون ارادة أو سيطرة وكأنه لم يعد قادرا على اخفائها فى طيات نفسه , وشعر بأنه لم يعد مهما أى شئ الا بقائها على قيد الحياة , فاذا قدر لها النجاة لن يتركها مجددا ولو للحظة واحدة ستكون الى جواره طوال العمر وحتى آخر نفس يتردد بصدره.
لم ينتبه للخمسة أزواج من العيون التى حدقت به وتكاد تخرج من محاجرها أما فريال فقد تدلى فكها السفلى ببلاهة وهى تصرخ:
-مستحيل ! مستحيل !

*******************

SHELL 27-10-18 04:03 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الخامس عشر

http://upload.3dlat.com/uploads/3dla...3923241234.gif

بعد أن أنهت مكالمتها التليفونية مع السيدة هناء واطمأنت الى سلامتها ,شعرت ببعض الراحة الا أنها استشعرت فى صوتها بعض الحزن مختلطا بالقلق وان كانت تحاول التظاهر بغير ذلك ,وطالبتها فى نهاية المحادثة أن ترسل تحياتها الى الوالد ,وأنها تود شكره بنفسها على حسن ضيافته لها ,تذكرت أنها قد رأت مع كريم باليوم السابق فتاة لأول مرة تراه يصطحبها الى مكتبه وقد تأخرا بالداخل لفترة طويلة ثم جاء رفيق ثائرا واندفع الى حيث كانا سويا ولم تمض دقائق حتى طلبوا منها احضار القهوة لهم ,فيا ترى هل لهذه الفتاة علاقة بغيابه اليوم ؟ هل هى حبيبة ؟ أم ربما خطيبة محتملة ؟لقد بدا لها أنهما متآلفان جدا وكان هو يحيطها بذراعه بلمسة حنون وتطل من عينيه نظرات الحب ,واعتصر الألم قلبها هل تشعر بالضيق لأنه يوجه اهتمامه الى فتاة أخرى وما الذى يعنيها من أمر غرامياته , انه مجرد رئيسها بالعمل وهى مهما بلغت فلن تتجاوز منصب السكرتيرة بنظره ,حاولت أن تشغل نفسها بالانكباب على عملها حتى تنجز أكبر قدر ممكن ولكنها بقيت مشغولة البال تستعيد كلمات تهديده المبطن لها , وكانت رحمة الله واسعة فأنقذها من مواجهته الغاضبة ,وتأجلت الى يوم آخر , ومن يدرى بشروق شمس يوم جديد ماذا يتغير .

************

SHELL 27-10-18 04:05 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


بعد عذاب الانتظار الذى طال لساعات انطلق هاتف المنزل معلنا عن مكالمة هامة استقبلتها السيدة سوسن بنفسها وكان المتصل هو زوجها يطمئنها على حالة الفتاة وأخبرها بأنها قد تلقت تعويضا عن الدم المفقود وأنهم بانتظار قرار الطبيب وحينما حاولت تمرير المكالمة الى حماتها رفض محمد بطريقة قاطعة وكان يبدو عليه الهم فأخبرها بأن تبلغ الجميع بما عرفته وقطع الاتصال بدون انتظار اجابتها.
وتنهدت السيدة شريفة ارتياحا وهى تحمد الله وتشكر فضله الذى أسبغه عليهم ,ثم شدت على كتف حفيدتها ريم وهى تنهرها لتكف عن البكاء الذى جعل عينيها الجميلتين تنتفخان متورمتين ,وقالت بصوت آمر:
-كفى يا فتاة عن النحيب , لقد اطمأنت قلوبنا بعض الشئ ,ونحن بحاجة الى قوة العزيمة والقدرة على مواجهة الأسوأ ,لا يمكن أن تستسلمى لدى أول مشكلة تواجهك , وبدلا من بكائك المزعج هذا حاولى أن تفكر كيف سنعالج ما حدث بعد عودتها سالمة الينا باذن الله.
كانت كلماتها المؤازرة التى تنم عن قوة وسيطرة توارثتها الأجيال فى عائلة الشرقاوية تؤتى مفعولها فى نفس الفتاة الصغيرة السن والتى أطاعت جدتها على الفور وبدأت تمسح عينيها وأنفها بمنديل ورقى ناولته لها سماح التى تقف دائما الى جوراها فهما مقربتان من بعضهما البعض فى حدود المساحة التى تسمح بها الفوارق الطبقية بينهما ,ثم قالت بلهجة رسمية:
-سوف أصنع لك كوبا من الليمونادة حتى تهدأ أعصابك.
ولم تنس أن تسأل بقية السيدات عن طلباتهن فاختارت منى أن تحتسى فنجانا من الشاى فيما عبرت كلا من سوسن وهناء عن رفضهما بطريقة مهذبة لا تخلو من لباقة فيما ذكرتها السيدة شريفة بمشروبها المهدئ فأومأت الفتاة برأسها دلالة الفهم وهى تجيبها بمهارة:
-لا أنسى أبدا موعد مشروبك يا سيدتى , اسمحن لى بالانصراف.
فأشارت لها السيدة شريفة بطرف يدها وهى تغالب نفسها لترسم بسمة ضعيفة على شفتيها.
قطعت منى الصمت المخيم عليهن بأن وجهت سؤالا يبدو بريئا بظاهره الى هناء التى سبق وتلقت مكالمة تليفونية منذ بضعة دقائق فاستأذنت لتستقبلها بعيدا :
-من الذى كان يحادثك يا هناء ؟ هل هو كريم ؟
شعرت هناء بالخبث المبطن فى طيات استفسارها وتضايقت من فضولها المتزايد الا أنها اصطنعت المرح وهى تجيبها بهدوء:
-كلا , انها صديقة لى .
ولم تصل الاشارة واضحة من اجابتها المبتورة الى منى بأن تلزم الصمت فاستطردت متصنعة الاشفاق:
-صديقة لك ؟ عجبا منذ سنوات طويلة وأنا لا أرى لك صديقات تتصلن بك أو حتى تقمن بزيارتك ولو لمرة واحدة.
تأففت هناء هذه المرة بتبرم واضح وأجابتها بحدة:
-وهل يجب علىّ أن أستشيرك قبل أن أتصل بصديقاتى , أم علىّ أن أخبرك بلائحة تحركاتى ,أرجوك يا منى نحن لسنا فى وضع يسمح بمثل هذه التفاهات.
شحب وجه منى بعد هذه الاهانة النى وجهت اليها وقالت تتصنع الأسى:
-هل هذا هو جزائى وأنا التى تريد الاطمئنان على حالك.
-أصبحت لا تحتملى يا منى , اهتمى فقط بشئونك الخاصة ولا تدسى أنفك فيما لا يعنيك.
حذرتها لهجة حماتها القوية من أن تحاول الرد عليها فاستسلمت بخنوع:
-حسنا ,أنا دائما المخطئة بنظرك , سألزم الصمت نهائيا.
ولولا كآبة الموقف لانفجرت السيدات الجالسات فى الضحك على طريقتها التمثيلية المصطنعة وهن يعلمن طبعها لن تحتمل البقاء صامتة لأكثر من خمس دقائق حتى يتفتق ذهنها عن سؤال جديد.

*****************

SHELL 27-10-18 04:07 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


بعد أن قامت بتحضير المشروبات وتقديمها الى السيدات المجتمعات بالقاعة , أخذت سماح تروح وتجئ بالمطبخ وهى غير منتبهة لعينى سعد اللتين تراقبانها بتعاطف ومودة فيما أخذت الدموع تتجمع فى مآقيها ثم تمسحها بظهر يدها وهى تكتم شهقات أنين على حال المسكينة التى ترقد بالمشفى ,على الرغم من قصر المدة التى رأتها فيها الا أنها فطنت الى طيبة قلبها ومعدنها الأصيل كما أنها كانت تعاملها ببساطة وليونة مغايرة لكل التكبر والاستعلاء الذى يتعامل به كل قاطنى هذا البيت الكبير ,حتى ريم التى تحبها وتعتبرها ليست مجرد خادمة تعمل لديهم فى بعض الأحيان يعلو صوتها لتنهرها عن فعل ما أو تتضايق من تكاسلها فتوجه لها تقريعا عنيفا ,بدأت تميل الى لبنى فهى كالبلسم الشافى للجراح وأشفقت على ما أصابها بعد مكوثها فقط ليومين وسط هؤلاء الحيتان كما يسمونهم المنافسون فى السوق ,تذكرت أبها - رحمه الله - وهو يقص عليها حكايات لا تخطر ببال ولا يصدقها عقل عن مدى جبروت وسيطرة السيد عبد العظيم الشرقاوى والذى توفى تاركا خلفه ثروة هائلة تكفى أن تقسم على حى بأكمله وليس مجرد عائلة واحدة .
حتى عم ( مصيلحى ) الذى لم يكف يوما عن الصراخ فى وجهها واتهامها بالكسل والبلاهة صار ألطف وأكثر مودة معها منذ الحادث المأسوىّ فكأنما يشاركها أحزانها ,وأخذ يعمل بجد ونشاط حتى يلهى نفسه عن التفكير فيما حدث , أنه يعرف جميع أفراد هذه العائلة فهو فى خدمتهم منذ عشرات السنين ,وقد شاهد أحفادهم وهم يكبرون يوما بعد يوم حتى صاروا شبابا ,فلم يصدق ما يشاع من أن ريم قد دفعت لبنى من فوق الدرج ,حتى ولو أقسموا له بأغلظ الأيمان ما اقتنع أبدا بهذا السيناريو ,لا يمكن لهذه الفتاة الرقيقة أن تقوم بعمل اجرامىّ كهذا .
قررت سماح الاستئذان من رئيسها حتى يسمح لها بفترة راحة قصيرة , فلا فائدة ترجى من عملها وهى مشتتة الفكر, وكانت خائفة من أن يثور بوجهها كعادته ,فتقدمت منه برهبة وصوتها يهتز من أثر البكاء:
-عم (مصيلحى ) , هل يمكن أن تأذن لى .. أريد أن أستريح قليلا ويمكنك أن تحتسبها من فترة الراحة الخاصة بى.
لأول مرة ترى ملامحه ودية وفى لهجة أبوية حنون أجابها:
-طبعا يا سماح ,يمكنك أن تذهبى الى الحديقة لتستنشقى بعضا من الهواء النقى ليساعدك على الاسترخاء,هيا اذهبى.
وقبل أن تنصرف الفتاة ,استطرد وهو يبتسم متلاعبا:
-ولا تقلقى فلن أخصمها من فترة راحتك المقررة , فقط هذه المرة.
رنت له بنظرة امتنان حقيقى وهى تقول وقد تهدج صوتها من أثر عطفه:
-شكرا , شكر يا عم ( مصيلحى ) , أنت أفضل طباخ فى الدنيا.
خلعت مريولها الخاص بالعمل وعلقته على مشجب خاص بالقرب من باب المطبخ الذى يطل على الحديقة الخلفية وانصرفت مسرعة.
لم يخف على الرجل العجوز نظرات مساعده الشغوفة والذى ظل يراقب الموقف من بعيد دون أن يجرؤ على التدخل بكلمة واحدة خوفا من تعنيف رئيسه ,فابتسم عم ( مصيلحى ) وأشار لسعد وهو يغمزه بخبث:
-هيا , يمكنك أنت أيضا أن تأخذ قسطا من الراحة ,وأنا سأحتسى كوبا من الشاى , فلا فائدة من محاولة التركيز بالعمل فيما نحن جميعا شاردون بمكان آخر.
كان الشاب كمن ينتظر فرصته للهروب بعيدا عن الجو الخانق للمطبخ ولكنه ظل يحملق بالرجل الأكبر سنا ليتأكد من أنه لا يمزح ,فلكزه فى ظهره بمرح وهو يشير الى الخارج:
-هيا يا فتى , أسرع قبل أن أغير رأيى.
واستطرد بصوت خافت دون أن يرفع عينيه نحوه:
-يمكنك أن تدعوها للتنزه على الكورنيش ,فهى بحاجة الى تغيير الجو.
كان سعد قد احمر خجلا من تلميح الرجل الصريح ولكنه هرول خارجا من المطبخ وكادت قدمه أن تنزلق لولا أن قام بموازنة ثقله فى آخر لحظة واختفى من الباب المفتوح فيما تبعته ضحكات الطباخ وهو يشهد على ارتباكه الواضح بعد أن أعلمه بأن مشاعره كالكتاب المفتوح , فلم يغفل يوما عن نظراتهما الشغوفة المتبادلة والابتسامات اللا نهائية التى يوزعانها أثناء عملهما سويا ,وقال يحدث نفسه:
-أتمنى فقط ألا تحرجه الفتاة , فسعد هذا يغرق فى شبر مياه.
ملأ الغلاية بالماء وأخذ يعد لنفسه كوبا من الشاى الساخن عله يضبط خلايا دماغه ليستطيع انجاز عمله بهمته المعهودة.


******************

SHELL 27-10-18 04:09 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
فى الحديقة لحق سعد بسماح التى وجدها جالسة على أحد المقاعد الخشبية بركن بعيد وكانت تنتحب بقوة غير قادرة على السيطرة على انهمار الدموع من عينيها ,فاقترب منها وهو متردد يخشى أن يقتحم عليها وحدتها فى هذه اللحظة الخاصة من الضعف ,ولكن مشاعره تغلبت عليه فأكمل نحو هدفه مصمما على ما يفعله ,فهمس باسمها:
-سماح , هل تبكين ؟
انتفضت الفتاة بخوف والتفتت اليه وهى تغالب دموعها فقالت ببطء:
-لقد أفزعتنى , منذ متى وأنت واقف هكذا تتلصص علىّ ؟
تراجعت همته كثيرا بعد هذا الهجوم الغير متوقع من جانبها فأجابها بتردد متلعثما:
-أنا .. أنا آسف ,,, لم أقصد ,, أعنى .. أننى لم أكن أراقبك , لقد خرجت للتو ورأيتك منهارة فلم أستطع .. أن أمنع نفسى من مواساتك.
أخذت تنظر له سماح متشككة من تصرفه فلزم الصمت برهة ثم ازدرد ريقه بصعوبة واعتذر منها:
-أنا أكرر أسفى ,, واذا كنت ضايقتك فسوف أنصرف الآن.
قالها وهم بالابتعاد عنها وهو يلوم نفسه على تسرعه فيبدو أنها غير راغبة بصحبته ,فاستوقفته بصيحة عالية:
-سعد , انتظر.
توقفت خطواته حين سمع نداءها والتفت نحوها بسرعة وهو يجيبها بلهفة:
-نعم , هل تريدين شيئا ؟
أخفضت بصرها وهى لا تقو على تحمل الموقف فقالت بخجل:
-أنا التى يجل أن تعتذر منك , أنا أشعر بأننى لا أتصرف على سجيتى , بعد الحادث الذى وقع للآنسة لبنى وأنا حائرة أشعر بالضياع , هل تسامحنى على انفعالى وتسرعى ؟
اتسعت ابتسامته بلمح البصر وهو يسمع اعتذراها الخجول فهز رأسه موافقا وقال متلهفا قبل أن تخونه شجاعته مرة أخرى:
-لا عليك , أنا مقدر لموقفك ,واذا ... رغبت , يمكننا ,, أعنى ..
وعاد الى تلعثمه والكلمات تتراجع على لسانه ثم أشاح بوجهه بعيدا حتى يقدر على استعادة سيطرته على كلامه فأكمل دفعة واحدة وكأنه انسان آلىّ:
-هل تسمحين لى باصطحابك الى نزهة قصيرة , مجرد تمشية على الكورنيش , فأنا مثلك فى فترة راحة .. ولكن اذا كنت لا ...
-لا أمانع أبدا.
ابتهج مستبشرا وهو يراها لا تقل لهفة عنه الى مرافقته فى هذه النزهة ,ولكنها عادت لتشير نحو المطبخ وترسم شاربا فوق شفتيها فى اشارة الى عم ( مصيلحى ):
-ألن يمانع حين يلاحظ غيابنا ؟
-لا تقلقى , فقد أخبرته بأننا سوف نتأخر كيفما نشاء ,وحينما نعود سيكون عليه مواجهتى أنا اذا ما تفوّه بكلمة واحدة بحقك.
اندهشت سماح من جرأته الغير متوقعة ولم تقل دهشته هو نفسه عنها فكأنما الحب قد أعطاه جرعة زائدة من الشجاعة فصرّح لها بما قد يعجز حقا عن فعله , كما أنه أوهمها بأنه لا يهاب شخص رئيسهما القوى وكذب عليها حين أخبرها أن فكرة التنزه هى من بنات أفكاره ,ولكن ما يهمهما الآن سوى أن يجتمعا سويا ولأول مرة خارج نطاق عملهما المشترك ,وهى بحاجة الى هذه الفسحة حتى تتغلب على الكأبة المسيطرة على أجواء المنزل ,وأشار لها حتى تتأبّط ذراعه بطريقة مسرحية فأطاعته ضاحكة بسعادة وهى تشعر بلذة الاحساس بمشاعر جديدة لم تختبرها من قبل.

**************

SHELL 27-10-18 04:10 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


-اهدأى قليلا يا فريال , لا يصح ما تفعلينه هذا.
حاول أخوها أن يقنعها بضرورة التروى والتزام الهدوء , فكل ما يشغلهم الآن هو الاطمئنان على صحة الفتاة الراقدة بالداخل.
لمح كريم ابن عمه سيف واقفا مذهولا وفتاة رائعة الجمال بصحبته ,فغمزه مشيرا باصبعه ليختلى به لحظات وما أن أصبحا على مسافة بعيدة كافية عن الموقف المشحون حتى سأله بفضول:
-أين كنت يا سيف ؟ لقد اتصلت بك أكثر من مرة ولكن يبدو أنك كنت تدبر أمرك بطريقة رائعة ,من هذه الفتاة الجميلة التى جئت بصحبتها؟
تنهد سيف بمرارة وهو يشعر بأن راسه تكاد تنفجر من هول الصدمات المتوالية عليه فى هذا اليوم بدءا بصفعة ريم مرورا بجدالهما مع رفيق وحادثة لبنى أو أيا كانت فما عاد يعرف لها اسما أو صفة ,انتهاءا بمقابلته لليلى مصادفة على باب المشفى , لم يتخيل أنه سيراها بعد فراقهما الأخير ,وكما هى لم تتغير لم تفقد ذرة واحدة من جمالها ,هو يدرك أنها ليست كملكات الجمال ولكنها تمتلك جاذبية خاصة وسحر مثير ينتشر فور تواجدها بأى مكان ليدير رؤوس الرجال حتى ينهلوا من متعة النظر اليها ,والأسوأ أن عليه الآن تبرير تواجدها معه لابن عمه الذى ينتظر اجابته بفارغ الصبر ,فهز رأسه بقوة وهو يقول بطريقة عادية:
-لقد كنت فى اثرك عندما قابلت ليلى مصادفة فى الاستقبال واضطررت الى اصطحابها الى الكافتيريا ,وما أن أنهينا احتساء مشروباتنا حتى لحقت بكم الى هنا.
قال هذا وكأنه يكفى لتبرير اصطحابها معه ,فقلب كريم شفتيه استياءا بعد أن أدرك هوية الفتاة فهذه المدعوة ليلى كانت فى يوم ما مثار اعجاب وحب سيف الذى لم يبخل عليها بشئ من عواطفه ولا أمواله حتى اكتشف حقيقة خيانتها ,كانت من صنف النساء اللاتى تعرفن كيفية اصتغلال جاذبيتهن للنيل من الرجال والاستحواذ عليهم حتى تحقق مآربها ثم تنتقل لرجل آخر ,ويحمد الله أن ابن عمه قد كشف زيف قناعها قبل أن يتورط بزواجه منها ,وتعجب من مرافقتها له فاستطرد بغضب:
-ولكن هذا لا يفسر وجودها هنا ؟
-لن تصدق فهى آتية لزيارة لبنى , انهما صديقتان.
فى هذه اللحظة كانت ليلى تراقب رفيق وهو غارق بأفكاره شاردا عما حوله متناسيا ما قام به من اعتراف مثّل صدمة للجميع ,ولم تضيع ثانية واحدة فاتجهت الى جواره وربتت على كتفه بلمسة مدروسة فانتفض جسده بعنف ورفع رأسه اليها وبدا أنه لا يتذكرها فنظر له مستفهما ,فابتسمت بطريقة ساحرة تتقنها بمهارة:
-أنت لا تتذكرنى , أنا ليلى زميلة لبنى بالمكتب.
لم تترك له مجالا للتراجع فأضافت بدلال:
-لقد رأيتك منذ عدة ايام عندما جئت برفقتها الى العمل , أنا سكرتيرة السيد فهمى.
أومأ برأسه بفتور فلم يكن مهتما بمحاولاتها لتذكيره بنفسها , ثم ما لبث أن قطب جبينه وسألها باهتمام:
-آنسة ليلى , ما الذى جاء بك الى هنا ؟
-هذا واضح تماما , أتيت لزيارة لبنى والاطمئنان عليها , كيف حالها الآن ؟
تجاهل تماما محاولاتها اليائسة للفت انتباهه وكان مدركا لما تحاول القيام به, وتابع استجوابه بطريقة تقريرية:
-وكيف عرفت أصلا أنها بالمستشفى ؟
لم تتخل عن ابتسامتها الساحرة وهى تتابع حديثها:
-للمصادفة اتصلت بها هذا الصباح لأسأل عن أحوالها فأجابتنى فتاة لا أعرف من هى تقريبا هى تعمل لديكم ,وأخبرتنى بما حدث للبنى حين أخبرتها أننى صديقتها المقربة ,وعرفت اسم المستشفى وهكذا أتيت.
-آه , فهمت.
كادت تبدأ معه حوارا جديدا الا أن عمته لم تهدأ ولم تلتفت الى محاولات أخيها لابعادها عن ابنه ووجدها تزيح الفتاة بخشونة من طريقها وهى تطالبه بالانفراد به :
-أريد أن أحادثك يا رفيق.
نظر الى الجهة الأخرى وهو يتحاشى التقاء عينيه بعينيها:
-ليس هذا هو الوقت ولا المكان المناسبين يا عمتى.
-سوف نتحدث الآن , هيا.
قالتها وهى تدفعه من كتفه لينهض واتجها سويا الى ركن بعيد وما أن رأت أنهما ابتعدا مسافة كافية حتى وجهت له الهجوم بدون هوادة:
-ما الذى قلته عن زواجك من ابنتى يا رفيق.
-ابنتك ؟ ومن قال أننى متزوج من ابنتك !
فاض بها الكيل من طريقته فى اللف والدوران فثارت بحدة فى وجهه:
-رفيق , كف عن هذه الألاعيب , أنت تعرف وأنا أيضا أن لبنى هى أميرة ابنتى التى اختفت منذ خمسة وعشرين عاما.
جاء الدور على ابن أخيها ليثور بدوره وهو يتهمها:
-اذن كنت تعرفين طوال هذا الوقت وفضلت اخفاء الحقيقة عنها ؟
رفعت سبابتها باتهام وهى تشير اليه:
-انت أيضا اخفيت هذه الحقيقة ولا بد أنك كنت على علم بها كما أنك الآن تتلاعب بأعصابنا وتقول أنها زوجتك , يا لك من كاذب.
انتفض بعنف وهو يرفض اتهامها الكاذب وقال يدافع عن نفسه بضراوة:
-أولا لا تتهميننى بالكذب مرة أخرى فأنا لا أجيده ,ولا يوجد لدى ما أخاف منه فأحاول اخفائه ,كما أنه لدى أسبابى الخاصة للسكوت ,ولكننى فضلت الصمت لمصلحة أميرة.
-بأى حق تقرر الصالح لها ؟ من أنت حتى تتخذ القرار نيابة عنها ؟
أجاب بقوة:
-أنا زوجها.
-كيف ؟ فقط لو تخبرنى بالحقيقة كاملة .
وخفت حدة صوتها وهدأت نبراتها الى درجة كبيرة وهى تتهالك على مقعد قريب منها:
-أرجوك , أرجوك.
أشفق عليها رفيق وشعر بتعاطف قلبه معها فمهما كان هى والدة أميرة الحقيقية ولديها كل الحق لمعرفة كافة التفاصيل.
جلس بجانبها ثم قام بضمها الى صدره بحنان بالغ وهمس لها :
-لا تقلقى على أميرة , فأنا لن أسمح لأى مخلوق منذ الآن أن يمسها بسوء , فقط ندعو الله أن تقوم سالمة من غيبوبتها.
واضاف بنبرة وعيد:
-ووقتها اذا ما تجرأ أيا كان سيكون عليه أن يواجهنى أنا , اطمئنى يا عمتى لست عدوا لك , فأنت غالية عندى ليس فقط لكونك عمتى ...
وأزاحها عن حضنه حتى يجبرها على النظر اليه فابتسم لها وأضاف:
-لأنك أم أميرة , حبيبتى وزوجتى , وفى الوقت المناسب ستعرفون الحقيقة كاملة.


******************

SHELL 27-10-18 04:13 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-من منكم السيد رفيق ؟
جاءت ممرضة أخرى فى زيها الوردى المميز وهى تسأل بلهفة , فأشار محمد لابنه حتى يحضر فاستوعب رفيق الأمر وأسرع خطاه نحو الممرضة.
سألته مرة اخرى:
-هل حضرتك السيد رفيق ؟
-نعم , أنا هو , خير ان شاء الله .
-يمكنك أن تأتى لرؤية الآنسة أميرة.
صحح لها خطأها بجدية:
-تقصدين مدام أميرة.
ارتبكت الممرضة وطأطأت برأسها وهى تشير له أن يتبعها ,وحاولت فريال أن تذهب معهما الا أن أخوها منعها برفق وقال:
-انتظرى يا فريال , سنعرف كل شئ بعد أن يعود رفيق.
-ولماذا لم تطلب منى أنا الذهاب معهما؟
تعجب محمد من لهفة شقيقته على لبنى فهى لم تحاول يوما أن تتقرب منها بالرغم من حبها القوى لشقيقهما وجدى, وبدأت الشكوك تعاوده تجاه تصرفاتها فأجلسها بتمهل على المقعد واتجه نحو الشابين ,وبادرهما بحديثه قائلا بصوت منخفض لكيلا تنتبه فريال:
-انصتا الىّ , أريد أن أطلب من الطبيب أن يفحص عمتكما , أعتقد أن صدمة الحادث قد أثرت على أعصابها كثيرا فصارت تتصرف بغرابة شديدة ,أيا منكما يذهب بهدوء ليحضره , هيا.
-أنا ساذهب يا عمى.
قام كريم بالاسراع لتنفيذ طلب عمه وهو متحير مما سوف يخبر الطبيب به حتى يقنعه بالكشف على عمته فهى تبدو له سليمة ومتوازنة,ولكنه لا يملك الى الطاعة.
,ثم تذكر أن عليه الاتصال بوالدته حتى يطمئن على صحتها فاسرع بالابتعاد قليلا حتى يصل الى مكان تقوى به اشارة الشبكة الخاصة بالاتصالات وأتم مكالمته فعرف من والدته أن هديل قد هاتفتها لتسأل عن حالها ,لم يجرؤ على التفكير فيما كان ينوى القيام به اليوم مع هديل الا أن الحظ كان حليفها فنجت من بين يديه ,ولم يدر بنفسه الا وهو يعقد مقارنة بين الفتاتين : ليلى وهديل ,كلتاهما تشتركان بالمهنة وجمال الوجه الا أن هديل تتميز ببراءة صافية وقد نجحت فى أن تنال ثقته المطلقة بعد أن أظهرت مهارة وحماسا للعمل أذهله فصار يعتمد عليها فى عمله ,حتى كان يوم حادثة أمه فتبدل الحال تماما وصار يراها ليلى أخرى,مجرد فتاة انتهازية تسعى لصيد الفرص.
بقيت ليلى واقفة الى جوار سيف الذى تضايق من حوارها مع رفيق ,وشعر باحساس غامض يوخز صدره فهو يتساءل : كيف تعرفت ليلى على رفيق ؟ وهل لعلاقته الغريبة بلبنى أو أميرة صلة ؟
-فيم شرودك؟
كان هذه هو صوت ليلى الذى تسلل من جانبه وهى تضع يدها بطريقة بدت عفوية على ذراعه ,فأشار برأسه ايجابا ثم قال بتسرع:
-لم لا تجلسين بدلا من الانتظار واقفة هكذا , فقد تطول المدة قبل أن تستطيعى رؤية لبنى , هذا اذا سمحوا لك بالزيارة أصلا.
ابتسمت بذكاء وهى تتصنع الاهتمام:
-وهل يهمك أمرى ؟أما زلت تخاف علىّ ؟
-ما دخل كلامى بهذا الموضوع ؟ أنا فقط مشفق عليك من التعب , فالانتظار مرير.
كانت كلماته مبطنة بمعان أخرى فهمتها على الفور الا أنها احتفظت بابتسامتها وكأنها بريئة ثم سألته فجأة:
-صحيح , لماذا تدعو الممرضة لبنى باسم أميرة ؟
واحتار سيف نفسه فى اجابتها على هذا السؤال فهو لا يملك جوابا حتى يشبع فضولها المتزايد فمط شفتيه وهو يقول بلا مبالاة مصطنعة:
-لا أعرف ربما أخطأت ,بالتأكيد يوجد الكثير من المرضى هنا فتلخبطت باسمها.
لم يقنعها هذا الجواب الغير وافى فرفعت حاجبا غير مصدقة وقالت بملل:
-أكره أوقات الانتظار هذه , هل يمكننا أن نذهب معا للجلوس بالخارج , فجو المستشفى خانق جدا.
-لا , أقصد يمكنك أن تذهبى اذا أردت بالطبع , أما أنا فأفضل البقاء هنا معهم.
-كما تشاء .
وسارت بضعة خطوات قبل أن تلتفت بحركة اغراء واضحة وشعرها الناعم الطويل يتطاير حولها وهمست:
-هل يمكنك أن تهاتفنى عندما يعود رفيق ؟
تعمدت أن تنطق اسمه مجردا من الألقاب وألقت بالونة الاختبار لتعرف اذا ما زال محتفظا برقم هاتفها فأشار لها بالايجاب فشكرته ثم انصرفت تتمايل كأنها عارضة ازياء وصوت كعبى حذائها يطقطق على الأرضية الرخامية للردهة.
تنفس سيف الصعداء بعد مغادرتها العاصفة فأيقن أنها لم تتغير قيد أنملة , أنانية ,متبخترة ,وتعرف كيف توقع الرجال بحبائلها ,ولكنه أفلت من شباكها ولا ينوى مطلقا العودة مجددا اليها ,وغاب عنه نظرات عمه الغير راضية عن اصطحابه لهذه الفتاة الرقيعة من وجهة نظره وارتأى تأجيل لفت نظره الى سوء تصرفه بعد أن تنزاح الغمة ,وهذا هو واجبه تجاه ابن أخيه المتوفى فلطالما لعب هو هذا الدور بحياته ولم يقصر يوما نحوه.


*****************

SHELL 27-10-18 04:15 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


تبع رفيق خطوات الممرضة الرشيقة وأخذ يتساءل هل أميرة بخير ؟ ربما أراد الطبيب أن يخبره بأمر سيئ ولم يجد سواه لأنه سبق وتعرف عليه حينما تبرع بالدم وسأله عن صلة قرابته للمريضة فلم يكذب خبرا وصارحه بحقيقة كونها زوجته ,وبدا الأسوأ يتشكل فى ذهنه هل أصبحت حالتها أخطر مما توقع ؟ ماذا لو خطفها الموت من بين أحضانه قبل أن يصارحها بحبه لها ,أخذ يلوم نفسه على صبره الذى طال فضيّع أحلامه معه ,وما بيده الا أن يتماسك حتى يقطع المسافة الباقية وهو لا يعرف الى أين يتجه بالضبط.
توقفت الممرضة أمام غرفة الرعاية المركزة وأشارت له بالدخول الى غرفة التعقيم وطالبته بارتداء الأدوات العازلة للشعر والقدمين فامتثل لها بهدوء واستسلام نادرا ما يجيده ,وتأهب للدخول الى الغرفة ,وأول ما وقعت عيناه على جسدها الصغير وهو ملفوف برداء المستشفى الأخضر ,شعر بغصة فى حلقه جعلت من المستحيل أن يبتلع ريقه بسهولة ثم أخذ يتفحص وجهها الملائكى بملامحها الرقيقة التى طالما حفظها وعشقها منذ صغره ,وقطع تأملاته صوت الممرضة وهى تنبهه الى ضرورة الالتزام بالهدوء والمكوث معها لفترة قصيرة ثم تركته غارقا بحيرته وانصرفت بخفة ,فوجد فى نفسه الجرأة ليتقدم نحوها وهى مستغرقة بالنوم أو ربما ما زالت بغيبوبتها ,فلم يطلعه أحد من الأطباء على تحسن حالتها بعد ,شعر بالفراش ينخفض قليلا تحت ثقل وزنه حين جلس على حافته محاولا منع يديه من لمسها ,لقد أخفق فى وعده لها برعايتها وحمايتها من أى أذى ,وبدأ يصارع رغبة دفينة أن يضمها الى صدره حتى يمتزج كيانها به ,وتسللت اصابعه القوية نحو يدها فاحتضنت أصابعها النحيفة فى عناق حميم ,وكان يهمس بخفوت محاذرا أن يزعجها :
-لؤلؤتى الغالية , لكم اشتقت لك ,ما كنت أعرف أننا سوف نصل لهذا الحد , لم أتصور يوما أن أراك هكذا وأنا عاجز عن التصرف ,وجودك بهذا المكان يشعرنى بالعجز والاحباط ,لم أكن جديرا بك ...
أخذت ذكرياتهما المشتركة تنساب بمرونة متخذة شريطا للعرض أمام عينيه ,كيف كانت تحتمى به وهى طفلة صغيرة من محاولات كريم لاخافتها ,وكيف كان يدللها واضعا اياها على كتفيه ليجرى بها فى ممرات النادى حيث كانوا يلتقون معا ,فوالده دائما ما كان يصطحبه وكريم لرؤية عمه وجدى ,وكان حريصا على مد أواصر الصلة بينه وبين ابنه ,فلم ينقطعا يوما عنه الا بعد أن قرر عمه السفر الى الاسكندرية للاستقرار هناك ,وفى آخر مرة تقابل معه قبل الحادثة التى أودت بحياته انفرد به وصارحه بحقيقة كون لبنى فتاة متبناة وطالبه برعايتها وكتمان الأمر حتى عن أقرب الناس اليه , فأقسم له بالمحافظة على السر, واعترف بأن مشاعره نحوها تفوق حد العطف والشفقة وصارحه برغبته فى الارتباط بها حين يصبح سنها مناسبا فقد كانت مجرد مراهقة بالخامسة عشرة من عمرها ,أما هو فكان شابا فى مقتبل العمر تجاوز العشرين بقليل ,وقد نال مباركته لهذا الزواج حيث كان دائما يستشعر بميل الفتاة الى ابن أخيه ,تنهد بعد أن عاد الى دنيا الواقع حيث اختلطت الذكريات السعيدة بمرارة الأحزان.
-لقد حنثت بوعدى لعمى , تركت الجميع يتلاعب بك وبمصيرك ,وصدقت لوهلة أنك انسانة طامعة ساعية نحو الثروة ,أنا آسف يا حبى , هل تسامحيننى ؟
سرت قشعريرة بجسده لدى احساسه بلمسة خفيفة على أصابعه الملتفة حول يدها ,ونظرة تائهة فى عينيها تحاول أن تتلمس طريقة العودة الى حضن حبيبها الذى انفصلت عنه ,وابتسامة ضعيفة تلاعبت على شفتيها الشاحبتين ,لم تكن بأفضل صورة لامرأة لكنها فى عينيه وقلبه وعقله كانت أجمل نساء الدنيا ولم يصدق الفرحة التى أطلقت زغاريدها حين نطقت باسمه فى حب:
-رفيق ... أين أنا ؟
تأملت المكان حولها ببطء ورهبة ثم شعرت بانقباض حين هاجمتها الآلام العنيفة برأسها ,فمنعها من محاولة التحرك وهو يهدئ من روعها بحنان بالغ:
-لا عليك , فقط ابقى ساكنة ولا تتحركى ,حمدا لله على سلامتك ,سوف أستدعى الممرضة فورا.


********************

SHELL 27-10-18 04:16 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


كما توقعت ريم لم يخيب ظنها وارتفع رنين هاتفها المحمول بنغمته الصاخبة معلنا عن اتصال لحوح وان كان متأخرا عن موعده المعتاد ثلاثة ساعات ,وشعرت بحاجتها الماسة لأن تستمع الى صوته الهادئ الذى يثير بنفسها شتى الأحاسيس المختلفة من اعجاب وشغف وحماس فقد اعتادت أن تجلس بالساعات أمام شاشة الكمبيوتر لتحادثه عبر برنامج ( الماسنجر ) ولم تمل من قصصه الشيقة التى لا تنتهى ومخيلته الواسعة التى لا تنضب ,ولكنه فاجأها ذات يوم بالاتصال على هاتفها الخاص ولم تدر كيف توصل الى هذا الرقم وما الذى دفعه للاهتمام بالتواصل معها صوتيا مشيرا الى عدم اكتفائه بلقائها فى عالم الخيال الافتراضى راغبا فى المزيد من المعرفة ,وقد أسرها صوته الدافئ بلهجته الواثقة واصبحت تنتظره بلهفة طفل صغير يتشوّق للتنزه فى يوم العطلة ,فأجابت متسرعة قبل أن يتوقف الرنين:
-مرحبا , جاسر .. كيف حالك ؟
-أنا فى أفضل حال ... ماذا عنك ؟ لماذا أشعر بأن صوتك يبدو غير طبيعيا ؟
-لا .. لا شئ أنا بخير.
-ريم , أرجوك لا تخفى عنى شيئا , أستطيع أن أتبين ملامح الخوف واضحة فى نبرات صوتك.
كان خبيرا بالأصوات ويدرك مدى التغير الذى طرأ على لهجتها وطريقتها فى الحديث ,فأصر عليها أن تقص عليه ما يقلقها ليحاولا معا ايجاد حلا مناسبا أو ربما يهديها نصيحة مفيدة.
بقلة خبرتها فى الحياة وصفاء نيتها وجدت نفسها تخبره بكل ما صار معها فى هذا الصباح ,عله تجد لديه النصح والارشاد اللذين تحتاج اليهما ,فهو يمتلك خبرة تفوق بكثير سنوات عمرها الخمسة وعشرين التى قضت معظمها محاطة بالحماية الزائدة عن اللزوم ,ولم تختبر قط مواجهة البشر بسبب عدم خروجها للعمل ,وقلة احتكاكها بالأصدقاء حيث كان جدها رجلا متشددا فيما يتعلق بتربية البنات, فضيّق عليها الخناق وقد التزم والدها بطاعته التامة ومن بعده سار رفيق على نفس المنوال.


*********************

SHELL 28-10-18 07:15 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل السادس عشر


http://img0.liveinternet.ru/images/a...4975968__1.gif


حينما أتم الطبيب كشفه على أميرة كانت تشعر بضيق بالغ من جو الغرفة المعبق برائحة المطهرات القوية كما أنها تألمت حين أزالت الممرضة سن المحقن الخاص بالمحلول الذى كان يمدها بالعقاقير اللازمة حتى تستقر حالتها ,هز رأسه برضا وهو يقول ببشاشة:
-ما شاء الله لقد تحسنت كثيرا فى خلال فترة بسيطة والدليل على هذا هو نقلها الى غرفة عادية ,والحمد لله أننا قد عوضنا الفاقد من الدماء التى نزفتها .
ثم التفت محدقا بوجه رفيق المضطرب وهو يهنئه على سلامتها ثم استطرد بفضول:
-أليست مصادفة غريبة أن تكون فصيلة دمكما واحدة ؟ هذا لأن هذه الفصيلة أصلا نادرة جدا !
ابتسم رفيق مجاملة للطبيب الشاب وتملص من الاجابة على سؤاله بدبلوماسية حين باشر بسؤاله:
-متى يمكنها أن تخرج من المستشفى يا دكتور؟
لم يكف الطبيب عن توزيع ابتساماته وهو يمارس عمله فى تسجيل بعض الملاحظات عن الحالة ويضيف أسماء العقاقير الجديدة المطلوبة ولكنه أجاب بسماجة:
-لا يمكن , ليس بهذه السرعة يا سيد رفيق , لا تنس أن الوقعة ربما تكون قد تركت آثارا غير واضحة الآن فعلينا أولا أن نتأكد من سلامتها قبل السماح لها بالمغادرة.
أنّت أميرة بخفوت حين غرست الممرضة محقنا فى ذراعها المكشوفة طبقا لأوامر الطبيب المعالج , فالتفت اليها رفيق متعاطفا وهو يقترب من فراشها محتويا كفها الرقيق بيديه حتى يلهيها عن الألم ,وانتهت الممرضة من عملها وبقيت تنتظر تعليمات الطبيب الجديدة بخصوص المريضة وكانت تهز رأسها بدون أن تناقشه فانشغلا عما يدور بين أميرة ورفيق,ثم تبعته الى الخارج.
كان رفيق ما زال على وضعه وهو يعتصر أصابعها حتى يتأكد من أنها حقيقية أمام عينيه وتبتسم له بحب كما كانا بالماضى البعيد قبل أن تنهال عليهما الحوادث الواحدة تلو الأخرى ,كان بعينيها الكثير من التساؤلات الصامتة ,وظلت متعلقة به كطفل صغير وجد أمه التى ضاع منها ,جذب كرسيا معدنيا ليستقر الى جوارها قريبا منها ولم يكن يجرؤ على افلات يديها ,ويبدو أنها كانت سعيدة بتمسكه هذا وبدأت تتساءل عن كيفية وقوع الحادث وكأنها لا تتذكر:
-ماذا حدث يا رفيق ؟ هل وقعت أم تعثرت ؟أنا أكاد لا أتذكر شيئا ... سوى أننى كنت أتحدث مع ريم و...
لم تكمل جملتها فقاطعها رفيق هائجا:
-ريم ؟ وما دخلها بما حدث ؟
توترت أميرة وخشيت من انفعاله الواضح فانكمشت على نفسها وهى تردد بأسى:
-لا أدرى ,كانت تقول .. لا يهم .. فلست أتذكر ولكنها كانت غاضبة منى أو من شئ ما ,وبعدها سقطت فى ظلام دامس ... رأسى تؤلمنى بشدة, آه.
هدأ من لهجته الثائرة فلا مجال لها بهذا الوقت وربت على كتفها بحنان وهو يحاول بث الطمأنينة فى نفسها:
-حبيبتى , أرجوك لا فائدة ترجى من محاولة استرجاع هذه الذكرى المريرة ,انسها ,يكفينا أنك عدت لنا سالمة معافاة.
لم يبد على وجهها دلائل الانفراج من أزمتها الدائرة بعقلها فهزت رأسها لتبعد عنها ذكريات محزنة أخرى فقالت بقلق:
-ولكننى أتذكر أحداثا أخرى مختلطة بهذا الحادث , سيارة ,,, ارتطام وكنا سويا, أليس كذلك ؟
حاول أن يتجاهل حديثها وهو ينبهها الى ضرورة التزام الهدوء وعدم تحريك رأسها بعنف فالطبيب ما زال غير متأكدا من عدم اصابتها بارتجاج بالمخ كما أن الجرح قد توقف عن النزيف ولكنه قد يعاودها مرة أخرى ,فاستسلمت لارادته وهى حائرة ثم سألته عن خالتها:
-ولكن أين هى خالتى مديحة ؟ ألم تخبرها بعد , لا بد أنها قلقة على غيابى.
أسقط فى يده بعد ذكرها للخالة مديحة وأخذ يحاور نفسه: ما الذى يتعين عليه القيام به الآن ؟ يبدو أنها ما زالت مشوشة التفكير من اثر الحادث ,فقد بدأت الاحداث تختلط عليها ,مرة تتذكر ريم , وتارة أخرى تفكر بالحادث الأول الذى تعرضا له منذ أربعة سنوات مضت وفقدت على اثره ذاكرتها القريبة فقط ,أخبره الطبيب النفسى وقتها الذى تولى علاج حالتها أنها تتذكر ماضيها جيدا وكل الأحداث التى مرت على حياتها منذ وعت على الدنيا الا أنها أسقطت من ذاكرتها البضعة سنوات القريبة ,وكان هذا معناه أنها لا تستطيع أن تتذكره ولا ظروف زواجهما السرى الذى لم يعلم به أحد ولا حتى خالتها ,وحين عرفت السيدة مديحة بأنها كانت معه بسيارته أثناء وقوع حادث الاصطدام قامت بتوبيخه بعنف وطردته من حياتهما شر طردة وخاصة أنها كانت تحاول حماية الابنة التى تركتها أختها وزوجها بعهدتها ,ولم يكن هناك مفرا من الابتعاد المؤقت عنها حتى تسترد ذاكرتها المفقودة ,وظل يتابعها من بعيد حتى يطمئن على سلامتها ,وبدأت بعمل جديد كان هو من قام بتوفيره لها بمكتب السيد فهمى الذى كان على معرفة وثيقة به ,ودون أن تعرف طبعا فقد كان بالنسبة اليها مجرد رجل غريب لا تعرفه ,وطال انتظاره حتى تتحسن حالتها ويبدو أنها مارست حياتها بشكل طبيعى فتعرفت على زميل لها , جاسر ,ذلك الشاب الذى كان يعمل معها بذات المكان وتوطدت أواصر العلاقة بينهما ,لم ينس أبدا السكين التى انغرزت بصدره حين رآها تخرج برفقته أكثر من مرة وهو غير قادر على التدخل لمنعها ,الا اذا أراد أن تنتكس حالتها الصحية أو يتسبب لها بفضيحة علنية اذا ما أعلن خبر زواجهما ,وفى وقتها لم يكن مستعدا لمجابهة جده ورفضه القاطع لأى صلة بوجدى أو ابنته حتى بعد وفاة عمه لم يتزحزح عن موقفه الرافض لها لأنها ابنة المرأة التى اختطفت ابنه من بيته وأسرته ,فأخذ يراقبهما بعين لا تغفل خشية تطور العلاقة بينهما الى أمر آخر .
-رفيق ... أين سرحت بأفكارك ؟
-هه ... لا شئ , آخ.. لقد نسيت أن أطمئنهم على حالتك , لا بد أن القلق قد استبد بهم.
-من هم هؤلاء الذين تتحدث عنهم ؟ وأين هى خالتى ؟
-حبيبتى , لا تشغلى بالك ,سأذهب لأخبرهم بأنك قد استعدتى وعيك ,واذا أردت أن أخبر السيدة مديحة فسوف أفعل ولكن ليس الآن لأنها اذا رأتك على هذه الحالة فسوف تنهار لن تتحمل أبدا , صدقينى.
-لا تذهب وتتركنى وحدى , أنا خائفة.
كان صوتها المرتعش وقسمات وجهها الجميلة التى تغضنت بفعل تكشيرها أكثر مما يحتمل فعاد الى جوارها وهو يحتضنها برفق حتى لا يؤلمها من فورة مشاعره التى انفجرت بعد طول كتمان فلم يعد قادرا على السيطرة عليها وهمس لها بعشق:
-أميرتى ,أنت تعرفين أنك أغلى وأقرب الناس الى قلبى , ولا يمكننى أبدا أن أتخلى عنك ,فقط ثقى بى يا حبيبتى ,دعينى فقط أذهب لبرهة قصيرة وسوف أعود سريعا.
تشبثت به وهى تشعر بالأمان الذى افتقدته طويلا بعد أن ناداها باسم التدليل المحبب اليه ( أميرتى ) وكأنها تعود الى منزلها بعد غياب سنوات وترددت قبل أن تتركه يغادر وهى تسأله باستعطاف:
-هل تعدنى ؟
-أعدك يا ملاكى.
ثم كوّر أصابعه أمام شفتيه وألقى لها بقبلة فى الهواء ,ثم انصرف تاركا الفتاة حائرة مرتبكة .

*****************

SHELL 28-10-18 07:16 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


كان كريم قد عاد ومعه طبيب متقدم بالسن ليفحص عمته بناءا على رغبة عمه محمد ,الذى ما أن رآهما قادمين حتى أشار لسيف أن يلهى فريال عن حديثه مع الطبيب ,وشعر كريم بأنهم يتصرفون بغرابة شديدة فما الداعى لكل هذه الاجراءات التمثيلية ؟وحين انتهى عمه من الكلام حيث شرح للطبيب باستفاضة عن قلقه على صحة أخته النفسية اثر تعرضها لصدمة قوية فتفهم ظروفها وقام بتقديم نفسه الى السيدة الجالسة والتى كانت ملامحها تشى بجمال رائع متناسق وملابسها تنم عن ذوق رفيع ثم بدأ يبقى عليها بضعة أسئلة عن صحتها فأعربت عن دهشتها مما يحدث وهى تحاول الاستنجاد بأخيها:
-أليس غريبا أن تسألنى عن حالتى أنا , من المفترض أن تذهب لترى ابنتى فهى المصابة بالحادث ولست أنا.
ضرب محمد كفا بكف وهو ينظر للطبيب نظرة ذات مغزى بمعنى ألم أقل لك أنها تخرف ؟ثم أخذ يحوقل بمرارة:
-فريال , انها لبنى ابنة وجدى وليست ابنتك.
صرخت بهستيرية وهى تهب واقفة:
-لا ليست ابنته , انها أميرة ابنتى أنا , ألا تصدقوننى ؟
كانوا ينظرون اليها وكأنها مختلة عقليا ويحاول كلا من سيف وكريم أن يحيطا بها لتهدئتها الا أنها أزاحتهما بعيدا عنها وهى تصيح:
-كلا , ابتعدا عنى , أقسم لكم أنها ابنتى , أنا لست مجنونة.
فى هذه اللحظة استدعى الطبيب ممرضتين قويتى البنية وأشار لهما بنقل السيدة الهائجة الى غرفة خاصة حتى يستطيعا التعامل معها فى المكان المناسب ,أما فريال فقد حاولت مقاومتهما كثيرا ولكنهما شلتا حركتها بسهولة ودفعاها بخشونة وهى تردد محاولة الاستنجاد بأقاربها:
-محمد , أخبرهم أننى لا أخرف , سيف , كريم ,,, لا ,, لا أحد يلمسنى ,ابعدوا أيديكم القذرة عنى.
كانت حالتها سيئة للغاية فقد بدأت تهلوس من فرط انفعالها وهى تضرب بقدميها ويديها لتفك أسرها فتم استدعاء ممرضات أخريات للمساعدة حتى لا تؤذى نفسها وحينما حاول محمد وسيف وكريم اللحاق بهم استوقفهم الطبيب باشارة من يده وهو يقول بحزم:
-لا ابقوا أنتم هنا , فسوف نتولى علاجها بحقنة مهدئة ولن يسمح لكم بالتواجد معها الآن.
ثم غادرهم مسرعا الى عمله.
أخذ محمد يمسح على وجهه بباطن كفيه وهو يردد بأسف:
-لا حول ولا قوة الا بالله ,لقد ساءت حالتها جدا ,لا بد أن صدمة الحادث قد أعادت لها ذكرياتها الأليمة فتوهمت أنها ابنتها.
لم يتوقف عقل كريم عن تحليل ما حدث ,وقد بدأ ينتبه الى تردد اسم أميرة كثيرا على لسان الجميع ,رفيق , عمته ... لا بد أن هناك أمر غامض لا يستطيع كشفه ,وتذكر أن غياب رفيق عنهم قد طال وقرر السؤال عنه ,وحين هم بالذهاب اقترب منه سيف الذى بدا عليه هو الآخر دلائل التفكير العميق وبادره بقوله:
-ألا ترى معى أن الجميع يردد اسم أميرة بلا توقف منذ الصباح الباكر ؟ من هى أميرة هذه ؟ هل تعرفها ؟
-لقد كنت أفكر بذات الأمر ورأيت أن أسأل الشخص الخبير فى هذا الموضوع ولكنه ما زال غائبا.
-أتعنى رفيق ؟
-ومن غيره يملك مفاتيح حل هذا اللغز الصعب ؟
-صحيح , لقد تأخر كثيرا , أتكون حالة لبنى قد ساءت ؟
قاطعه كريم بقوة :
-انها ليست لبنى .
-ماذا تقول أنت الآخر ؟ هل تأثر عقلك أيضا مثلما حدث لعمتى ؟
قال كريم بغموض:
-أعتقد أن عمتك ربما تكون مصيبة فى قولها أكثر مما نتصور.
-لماذا يتحدث الجميع بالألغاز ؟وهل أنا الوحيد الذى يمثل دور الاطرش بالزفة ؟
ابتسم كريم بدون مرح وهو يقول مشيرا الى عمه الصامت:
-لست وحدك , أعتقد أن عمى لا يدرى شيئا عن هذا الموضوع.
ولمحا رفيق قادما يحث خطاه مسرعا حتى وصل اليهم فقال بحبور:
-لقد استفاقت وهى الآن أفضل حالا.
-حمدا لله.
ترددت هذه الكلمة على لسان الرجال الثلاثة فيما أخذ رفيق يطوف بعينيه باحثا عن فريال المختفية عن الأنظار ثم سأل بلهفة:
-اين هى عمتى ؟ هل ذهبت لتستريح ؟
ساد الصمت بينهم ولم ينبس أحدهم ببنت شفة فاثار هذا التصرف العجيب دهشته وأخذ يستحثهم على الاجابة:
-ماذا هناك ؟ لماذا أنتم صامتون ؟ هل حدث مكروه لها ؟
-ان عمتك قد أصابتها نوبة من الهستيريا وأخذت تردد اسم ابنتها وهى تصر على أنها بالداخل.
كان والده يقوم بالتفسير موضحا له أنها قد نقلت الى غرفة ليستطيع الأطباء تهدئتها ,فلم يتمالك نفسه من الغيظ وأخذ يعنفهم بقوة:
-ماذا فعلتم ؟ انها لا تهذى , أف , أين ذهبوا بها ؟
-لا ندرى عنها شيئا بعد.
أجابه كريم مترددا خشية اثارة غضبه الواضح على قسمات وجهه الصارم فزفر رفيق بضيق وهو يوضح الأمر ببساطة:
-أنها محقة , فالراقدة بالغرفة هنا هى أميرة ابنة عمتى.
وكان ما نطق به حقا خطيرا ,الى درجة أثارت توتر الجميع ودهشتهم على حد سواء.


*************

SHELL 28-10-18 07:17 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
فى غرفتها تجلس هناء وحيدة بعد أن استأذنت بالانصراف متعللة بوجع رأسها وحاجتها الى الاسترخاء الا أنها كانت تحاول ايجاد وسيلة للهرب من فضول منى الذى لا ينضب فهى مصرة على معاودة استجوابها عن سر المكالمة الهاتفية ,تجتر شريط ذكرياتها المريرة ,لماذا تعاودها الذكرى وتأبى أن ترحمها ؟ ألا يوجد سبيل للهروب مما كان ,أيضع القدر صلاح مرة أخرى فى حياتها وبهذه الطريقة العجيبة ,أخذت تتخيل مسار حياتها لو اختارت أن تتزوج منه بدلا من ابن عمها وجدى ,اذا قررت مجابهة عمها فقط كانت ستوافق حتما على طلبه للزواج منها وقد سبق صديقه وجدى الى قلبها , يا لغرابة الأحداث فوجدى وصلاح صديقان منذ الطفولة وكان دائما ما يتردد على زيارة هذا المنزل ليقضى الوقت برفقته متناسيا وجود الآخرين الا وجودها هى يركز نظراته الهائمة الى عينيها محاولا اختراق الحجاب الذى تضعه حولها حتى تحمة قلبها ونفسها من الدخلاء, وفى بعض الأحيان كانت تراقبه بصمت حين يكون غافلا عن تأملاتها الفضولية وتأبى عيناها أن تروى ظمأ عينيها للحظة لقاء ,فتبعدهما مسرعة قبل أن تُمسك متلبسة بالجرم المشهود اذا ما التفت نحوها ,ولتكن منصفة بحق نفسها انها تشعر كما لو أنها اعتادت على وجود أبناه عمها الى جوارها ومنذ نعومة أظفارهم نشأت فى نفس البيت وان كانت فقدت مصدر أمانها وحنانها بموت أمها ,الا أن تعاطف وجدى واهتمامه الفائق بها قد عوّضها جزءا من الاحتياج الذى كان ينقصها ,فربما شعرت نحوه بالامتنان لا الحب العاصف الذى تهيّأ لها أنها تكنه له ,ورفضت الاقتران بصلاح متعللة بحاجتها الى رد الجميل الى من وقف بجانبها فى محنتها ولكنه لم تفلح حتى فى اقناع نفسها بهذه التضحية الغير ضرورية ,فها هى الآن تحصد ثمار ما بذرته بيديها ,ولكنه عاد مرة أخرى , لتصدق القول أنه اقتحم حياتها الخاوية الباردة فملأها فى ثانية واحدة بوجوده القوى واثار بعواطفها شجنا قديما ظنت أنه مات واندفن مع موت زوجها ووالد وحيدها ,ونفضت عن رأسها سيل التخيلات الوهمية التى صارت تتشبث بها , فليس بالضرورة من لقاء واحد أن تصنع منه احياء لمشاعر قديمة لا بد أنه هو أيضا قد قام بوأدها بعد أن تخلت عنه حتى تتزوج من صديق عمره ,ولكنها تحمد الله أنه قد تزوج وعثر على السعادة الحقيقية وأكبر دليل على هذا الود والحب اللذان يملآن بيته الصغير المتواضع ,لقد شعرت بالألفة والراحة فى وجودها معه ومع ابنته اللطيفة الرقيقة التى تشبه زهرة أقحوان متفتحة , يا لها من فتاة رائعة الجمال كما أنها تمتلك قلبا صافيا كالماء ,وشطحت بأحلامها تود لو يتحقق المستحيل ويرتبط ابنها بهذه الشابة الحلوة المعشر ,بالتأكيد سوف تعوّضه عن سنوات الجفاء والحقد التى عايشها فى ظل جده الظالم ,وتمنت لو يهربا معا من هذا الجحيم المسمّى منزل العائلة ,حتى ولو كان مآلهما الى بيت صغير قديم كبيت صلاح وابنته هديل ,لم يتغيّر ولا قيد أنملة ما زال يزهد بالمال والجاه على الرغم من عبقريته الفائقة فى مجال تخصصه الا أن روحه الطيبة نأت عن مغريات الحياة وزوائلها ,يا ليتها أحسنت الاختيار وقتها, وما أسوأ الندم على أشياء لم نفعلها وكلمات لم نقلها لأحباب فرّقتنا عنهم الحياة أو الموت.


*****************

SHELL 28-10-18 07:19 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

بعد نزهتهما القصيرة على ضفاف كورنيش النيل ,عاد سعد وسماح الى مقر عملهما مبتسمين متشابكى الأيدى فما أحلى الاحساس بهذه المشاعر البريئة التى تنسج خيوطها بين قلبين نقيين لتجمعهما برباط أبدى هو أمتن من كل القيود التى يفرضها المجتمع عليهما ,فسماح قد نشأت ببيئة فقيرة بأسرة متواضعة الحال فى حى شعبى لا يعترف بمثل هذه المشاعر ويضعها دوما فى اطار الفسق والانحلال ,ولكن سعد الذى استغرق عاما كاملا حتى يبوح لها بمكنونات صدره راضيا بالاكتفاء بنظرات هائمة وبسمات خفية يتبادلانها بين الحين والآخر قد تمرد على واقعهما ونطق الكلمة السحرية التى اذابت الجليد ووعدها بحمايتها من القيل والقال عين عبرت له عن بالغ قلقها من هذه العلاقة الجديدة عليها ,فهو ينتظر حتى تتحسن أوضاعه المالية قليلا بعد سعيه فى ايجاد عملا اضافيا آخر الى جانب عمله الأساسى ومساعدته لعم ( مصيلحى ) فى بعض الأوقات ,وأخبرها بحماس مفعم بالعواطف الصادقة أنه سيتقدم لخطبتها على الفور دون تلكؤ ووقتها لن يقف بينهما أى عائق ,وصلا الى باب المطبخ الخلفى فسحبت سماح يديها سريعا من بين قبضته التى أفلتتها على الرغم من اعتراضه ,ثم دلفا الى الداخل ليصطدما بعينى حمراوتي اللون من جراء تقشير البصل فنظر لهما مقطبا جبينه ليصيح بصوته الجهورى مغضبا وهو يشير الى الساعة المعلقة على الحائط:
-ها قد جئتما أخيرا , لقد تأخرتما ....ثلاثين ..
ووقع قلباهما فى أقدامهما وتطلعا سويا الى الساعة ليجدا أنهما عند موعدهما.
-ثانية بالضبط.
واندفع الرجل العجوز مقهقها بسعادة قلما أظهرها فى أثناء تواجدهما معه ,ثم غمز لسعد بعينيه وهو يلمح الى ما أشار عليه به:
-هل كانت النزهة مثمرة ؟
أطرق سعد برأسه خجلا حين التفتت اليه سماح مؤنبة اياه بصمت على كذبه المتعمد عليها واندفعت غاضبة الى حيث تركت مريولها معلقا ,فأخذ عم ( مصيلحى ) يهز رأسه نحوها فى اشارة لسعد حتى يصالحها وشفتاه تتحرك بلا صوت:
-جمّد قلبك.
فانصاع الشاب صاغرا الى توجيهات الرجل الأكثر خبرة منه ,فتوجه الى حيث كانت واقفة تحاول عقد رباط المريول بلا جدوى فقد كانت العبرات تنساب على خديها ماتعة ايّاها من الرؤية.
-هل تسمحين لى ؟
وقبل أن تدرك مقصده كانت أصابعه تحكم الرباط حول وسطها النحيف وهو يحاول اخفار ارتباكه المفضوح ,هامسا باذنها برقة بالغة:
-أنا آسف ,ولكننى كنت بحاجة الى التشجيع ,وهذا الرجل الطيب نصحنى وقد استمعت له الا أن مشاعرى كانت واضحة منذ البداية , أليس كذلك ؟
أدارت وجهها اليه وهى تحاول مسح دموعها بيديها ثم تمررهما على مريولها الأنيق ,وقالت متشنجة :
-حسنا , لم يكن عليك اخفاء الأمر عنى , أنا لا أحب الكذب أبدا.
-سماح هذه المرة يا سماح ,لن أكررها مرة أخرى , هل تسامحيننى ؟
وقام بوضع كفيه متلاصقين اسفل ذقنه بلمحة مرحة وهو يمثل اسفه فلم تتمالك نفسها من الانفجار بالضجك وقد شاركهما المرح رئيسهما الذى نهرهما معاودا سيرته الاولى:
-هيا الى العمل ...
ثم استطرد بخفة وهو يبتسم:
-كسالى !


*****************

SHELL 28-10-18 07:20 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


-ما بالكم اليوم يا عائلة الشرقاوية ؟ أتهذى أنت الآخر يا بنىّ !
أطلق محمد هتافه عاليا وقد وصل الى حافة الجنون من كثرة المصائب التى أصبحت تنهال على عائلته ,ولم يعد عقله قادرا على تحمّل المزيد من الأعباء التى يخرّ من حملها الجبال ,فمسؤولية الأعمال والمنزل وقعت على عاتقه وحده دونا عن الجميع حتى أخيه عادل يتخاذل عند أول مشكلة صعبة يواجهونها فقد امتنع عن الذهاب معهم الى المستشفى بعد حادثة لبنى التى يصر كلا من أخته وابنه على أنها ليست لبنى ,مفضلا البقاء بالمنزل بدلا من توجهه الى شركتهم لادارة سير العمل متخليا عن لعب أى دور له قدر من الاهمية فى حياتهم مكتفيا باغلاق الباب على نفسه وكأنه بهذا يهرب من المواجهة فهو يتصرف كالنعامة التى تدفن راسها بالرمال حتى لا ترى الخطر المحدق بها ,وصار هو وحيدا بساحة المعركة حتى ولو كان رفيق يسانده ويقف الى جواره مؤديا دورا حيويا بكل جدارة ويحمل على عاتقه جزءا لا يستهان به من المسؤولية بكل رجولة ,الا أنه يتمنى بأعماق نفسه لو كان شقيقه هو من يقوم بمؤازرته ويعضد ساعده ولطالما اشتاق الى أن يقفا متلاصقى الأكتاف فى وجه العواصف التى تهدد استقرار حياتهما ,وهيهات أن يتغير عادل للأفضل ,كان هذا هو دأبه منذ كانوا صغارا فهو الولد المدلل أصغر أبناء الشرقاوية الذكور وحظى بالكثير من المميزات التى حرم منها هو وشقيقه وجدى - رحمه الله - بحجة أنهما الأكبر سنا وعليهما أن يتعلما الاعتماد على النفس حتى يشتد عودهما فيما ظل عود أخيه عادل غضا طريا الى وقتنا الحالى.
-أبى استمع الىّ جيدا , أنا ابنك وأنت تعرفنى خير المعرفة ,هل أبدو لك كمن يهذى ؟
حاول رفيق أن يقنع أباه بلهجته الواثقة المتأنيّة ,وأضاف بعد برهة ليرى مدى تأثير كلماته:
-أعرف أن الأمر يبدو غريبا ومعقدا فالأمور تشابكت كثيرا بالآونة الأخيرة ,ولكن الأهم أن نلحق بعمتى قبل أن يؤذوها بشكل أو بآخر فهى لا تحتاج لمهدئ , انها بحاجة لرؤية ابنتها سالمة ليطمئن قلبها ويهدأ بالها.
لم يكن أمامهم الا أن يرضخوا لرغبة رفيق على أمل أن تنكشف الحقيقة وتظهر جميع الأسرار التى أصبحت تحيط بهم من كل جانب.
-هيا اذن ماذا نتتظر فلنذهب للبحث عنها.
قالها كريم وقد كان لديه قدرا من المعرفة منذ أن اعترفت له بنفسها فبدا له تبرير رفيق منطقيا أكثر من سيف الذى دارت رأسه بفعل الصدمات المتوالية عليه وظهر على وجهه علامات عدم التصديق فكأنما يشهد فيلما سنيمائيا مثيرا مع الاختلاف أنه جزء من هذا الفيلم بل يلعب به دورا هاما ,ولم يلبث أن تبعهما مستسلما فيما بقى العم مشدوها لا يلوى على شئ.


**************

SHELL 28-10-18 07:22 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
كانت فريال تقاوم الممرضات اللاتى تحاولن شل حركتها العصبية بشراسة وهى تصرخ بحدة:
-اتركونى , أنا لست مجنونة , أريد ابنتى.
وانسابت العبرات على وجهها الحزين بعد أن نجحن فى السيطرة على جسدها الغاضب وقامت احدتهن بحقنها بدواء مهدئ قوى كما أمر الطبيب وبدأ مفعول الخدر يسرى بأطرافها حتى جذبها الى دوامة سقطت فيها لتشعر بدوار رهيب يتملك رأسها وأخذت تغمغم مضطربة:
-أميرة , انها ابنتى لا تأخذها منى ... كـ ..نت فـ ..قط .... أريـ ...د ضـ ضـ ...مها الى ...
وسقطت بغيبوبة مؤقتة فسكنت حركاتها تماما وأغمضت عينيها فصارت كالملاك الوديع الذى راح بسبات نوم عميق ,وتخلصت من كافة آلامها.
فجأة اندفع الى غرفتها أبناء أخوتها الثلاثة والقلق يستبد بهم حتى وقعت أنظارهم عليها وهى مستكينة بالفراش الواسع وقد قامت الممرضة بتغطيتها جيدا وأشارت للرجال المذهولين بضرورة الخروج حتى ترتاح.
لم يحاول أيا منهم أن يعترض على طلبها فقد شعروا بالشفقة نحو عمتهم التى عانت الكثير وما زالت تدفع ثمن خطأ الماضى وحدها دونا عن الآخرين .
أسند رفيق ظهره الى الحائط البارد وهو يستنشق روائح المطهرات التى يعبق بها المكان فتأفف متنهدا:
-يا له من يوم !
أومأ كريم برأيه ايجابا وهو يتأمل الحركة الدؤوب للأطباؤ والممرضات من حولهم وقال ساخرا:
-لم أتوقع أن ينتهى يومى هكذا !
وكانت أفكاره تتجه دونا عن ارادته الى هديل , الفتاة ذات الوجه الملائكى والعقل الماكر كما أقنع نفسه ,وتمنى لو استطاع رؤيتها اليوم فقد أراد أن يستجوبها عما حدث بينها وبين أمه بالأمس ولا يوجد مانع من معرفة صلة أبيها الغريبة بالموضوع , لقد شعر أنه يخفى سرا عظيما وراء هدوءه الظاهرى.
فيما تذكر سيف وعده لليلى بالاتصال بها لدى استفاقة لبنى حتى تطمئن عليها فانتحى جانبا وضغط على رقمها الذى لم يمسحه من ذاكرة هاتفه حتى بعد انفصالهما.
هز كريم رأسه أسفا على حال ابن عمه وقد تناثرت بضعة كلمات من حديثه الهاتفى مع الفتاة الباهرة الحسن وغاب عنه رؤية ملامح وجهه المتجهمة التى لم تنعكس على صوته فقد استطاع أن يخفيها بمهارة وقد اختمرت برأسه الخطة التى سينفذها بدقة حتى يصل الى هدفه.
قال رفيق بعد أن طال بهم الانتظار:
-لا جدوى من بقائنا هنا , سأذهب لأطمئن على أميرة , هل تودان الانضمام الىّ ؟
ألقى باستفساره نحو الشابين وقد أنهى سيف مكالمته التى اعتقد أنها خافية عنهما فوافق على الفور هاتفا بلهفة:
-هيا بنا اذن.
توجهوا أولا الى حيث كان العم محمد منتظرا لقدومهم فانضم الى مسيرتهم الصامتة الى حيث نقلت لبنى الى غرفة عادية ,وما أن دلفوا الى داخلها حتى تفاجئوا بوجود شخصين آخرين كانا أبعد ما يكونا عن تصور رفيق أن يجدهما بغرفة زوجته , كانا زميليها السابقين بالمكتب خالد و .... جاسر.
ثم سمعا صوتا أنثويا ساحرا يتسلل بخفة من ورائهم:
-مرحبا , ها قد اجتمعنا كلنا ... حمدا لله على سلامتك يا لبنى.
ثم أطلقت ضحكة خافتة باغراء وهى ترى وجوه أقربائها مذهولين فيما بدا على رفيق أنه سوف يرتكب جريمة عما قريب حين استطردت ليلى بخبث واضح:
-عندما عرفا بخبر الحادثة , أصرّا على المجئ لرؤيتها والاطمئنان عليها وخاصة وأننا جميعا ... زملاء.
زمّ سيف شفتيه يقوة وهو يدنو من الفتاة الواثقة بعزم وقد شعر بالغدر:
-أنت ؟ ماذا تريدين بالضبط ؟
أجابت ببراءة مصطنعة وهى تحرك كتفيها دلالة عدم المعرفة:
-لا شئ يا عزيزى أنا فقط أردت أن أسعدها برؤية رفاق قدامى , أليس كذلك ؟
كان خالد أول الحضور تصرفا بتلقائية وود:
-طبعا , فعندما أخبرتنا ليلى جئنا على الفور.
هكذا استنتج سيف لماذا اختفت ليلى عن الأنظار حتى تستطيع تدبير خطتها والاتصال بهذين الشابين ,لماذا يشعر بأن غضب رفيق البالغ يتجاوز السخط الطبيعى فى مثل هذا الموقف ,بالطبع كان عليها أولا أن تستشيرهم قبل أن تذيع النبأ على جميع معارفها ,أنها انسانة خبيثة وهو يعرف طباعها جيدا لا بد أن الأمر أكثر خطورة مما يتصور ,وقطع عليهم تسلسل حديثهم رفيق الذى تحدث من بين أسنانه ضاغطا على كل حرف بقوة:
-أعتقد بما أنكم قد اطمأننتوا عليها فيمكنكم الانتظار بالخارج لأن حالتها ما زالت تندرج تحت بند الخطورة ولا أعتقد أن الطبيب سيكون مرحبا بوجود هذا الزحام حول فراشها الآن.
حاولت أميرة الاعتراض قائلة بنبرة رقيقة:
-ولكننى بخير يا رفيق , أشعر أننى قد تحسنت كثيرا ,تفضلوا بالجلوس ,لما أنتم واقفون هكذا ؟
بدا جاسر وابتسامة ساخرة تتراقص على شفتيه متحديا رفيق الذى عقد ساعديه أمام صدره ليقف كالحارس الأمين على كنزه الثمين فقال بلهجة طبيعية وان أخفت الكثير :
-لا أعتقد أن الوقت مناسب ,المهم أننا قد رأيناك بخير , حمدا لله على سلامتك يا لبنى.
ثم التفت الى صديقه المبتسم وأضاف:
-هيا بنا يا خالد , بالتأكيد سنأتى مرة أخرى للاطمئنان عليك.
وألقى اليها بابتسامته الساحرة المعهودة التى طالما كان يخصها بها فارتبكت خاصة وأن رفيق لم يكن غافلا عن أى لمحة تدور فأخفضت بصرها خجلة وتمتمت:
-طبعا فى أى وقت.
هم جاسر بالانصراف والتفت الى ليلى مستفسرا:
-هل ستأتين معنا يا ليلى ؟
أجابته بثقة زائدة:
-لا سأبقى مع لبنى , أريد أن أتحدث اليها فقد اشتقت لها كثيرا...و..
واستطردت فى لمحة ماكرة نحو سيف المستشيط غضبا:
-لا تقلق علىّ فلدىّ من يوصلنى.
غابت البسمة عن شفتى خالد وهو يراها تكاد ترمى بنفسها على ذلك الشاب الوسيم والذى يبدو عليه الثراء الفاحش , أليس واحدا من أقارب لبنى الأغنياء ؟ أى أمل لديه بعد أن أصبح بمواجهة شخص مثله ؟ لا بد أن الغلبة ستكون له ويبدو أنها منبهرة بشخصيته أو ... بأمواله أو بشئ آخر .
تابعهما رفيق الى باب الغرفة وحين أصبح جاسر خارجها مال نحوه بحركة بدت طبيعية وكأنه يودعه:
-سنلتقى كثيرا , من الأن فصاعدا يا .. رفيق.
ارتد رفيق واقفا بشموخ وهو يرد له الصاع صاعين:
-وأنا فى انتظارك يا ... جاسر , ولكن احذر فما هو ملكى يبقى دوما لى.
ضحك جاسر باستخفاف وهو ينذره متوعدا بخفوت:
-ربما تكون قد انتصرت بالجولة الأولى ,ولكن الحرب ما زالت ببدايتها.
-سنرى !
هدر رفيق بقوة وهو يومئ برأسه الى الخارج.
لم يبد على أحد من المتواجدين أنه انتبه لهذا الحوار المشتعل بين الرجلين المتواجهين والذى انتهى بانصراف جاسر مع صديقه تاركين ليلى وحدها وسط الذئاب ملمحا الى سيف ونظرته الواضحة الى ليلى كما أخبر خالد زميله بتوتر بالغ وقد ثارت شكوكه ,الى أن طمأنه جاسر بأن ليلى ليست صغيرة وتستطيع الاعتناء بنفسها وأطلق جملة غامضة لم يجد لها فى قاموسه تفسيرا:
-ربما يتعين علينا أن نخاف عليه لا منه.
ثم نظر الى ساعته بترقب واتسعت ابتسامته كثيرا قبل أن يقول مغمغا:
-هيا بنا ,فلدىّ موعد هام جدا.
نظر له خالد متبرما ثم أشاح بوجهه عنه:
-أتنوى الاستمرار فيما تخطط له ؟
-نعم ولا تعطلنى فلا أريد أن أتأخر حتى لا يطير العصفور هاربا.

**************

SHELL 28-10-18 07:23 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


توجهت ريم الى غرفة والدتها وهى تعيد بذهنها الكلمات المرتبة التى سوف تستهل بها الحديث ,كانت خائفة على غير عادتها لأنها المرة الأولى التى تكذب فيها عليها ,وحين أخبرتها بموافقتها على خروجها للتسرية عن نفسها قليلا برفقة احدى صديقاتها وهى تتمنى بداخلها أن تستطيع ابنتها تجاوز أزمتها الحالية بعد المشادة التى كادت تودى بحياة لبنى وهى واثقة تماما أن ابنتها بريئة من هذه التهمة ,لقد أحسنت تربيتها هى وأخاها ولم تقصر بحقهما ,وابتسمت لريم بحنان الأم وهى تحذرها من التأخير:
-اذهبى لتخففى عن نفسك ولكن حذارى أن تتأخرى عن موعد الغداء.
تهللت أسارير الفتاة وهى تطبع قبلات بلا حدود على وجنة أمها وهى تعدها بالالتزام الا أن تأنيب الضمير قد بدأ يعلو ليطغى على سعادتها قصيرة العمر,فابتعدت مسرعة عن نظرات السيدة سوسن التى كانت غافلة عما يدور بذهن صغيرتها.
استعدت لارتداء ملابسها وقد احترات بشدة فيما تختار ,كانت تريد ابهاره فى أول لقاء فعلى بينهما ,هى متوسطة الجمال لكنها تمتلك براءة تضفى على محياها شكلا ملائكيا يجعلها محط اعجاب الكثيرين ولا تنكر أنها كانت تشعر بسعادة بالغة حينما ترى نظرات الاهتمام المطلة فى عيون زملائها بالجامعة ,لتعوضها عن نقص العاطفة بحياتها ,كانت دوما مبتعدة عن الجميع نائية عن العلاقات الوهمية التى تنشأ فى نطاق الكلية بين الفتيات وزملائهم من الشباب المستهتر ,وها هى اليوم تدخل فى تجربة جديدة من نوعها , لأول مرة تقابل رجلا وحدها بدون رفقة صديقاتها أو عائلتها , انه جاسر ,ذلك الذى نجح فى أن يلفت انتباهها ويجتذبها الى حياته فوقعت أسيرة لحديثه الشيق ووجدت نفسها غارقة بحبه ,كل هذا دون أن تراه ,وها هما الآن سوف يصلحان هذا الخطأ الجسيم ,لقد دعاها اليوم لملاقاته فى مكان عام معروف وهى لم تتردد لحظة فى الموافقة , وحينما سألته كيف ستتعرف عليه سمعت صدى ضحكاته العالية وهو يمازحها قائلا :
-قلبى سيراك أولا ويتعرف عليك.
فشاركته مشاكسته بمرح طفولى وهى تقول له بحبور:
-فليكن ,لن أخبرك ما الذى سوف أرتديه وأنت أيضا ولنرَ سويا كيف ستصير الأمور بيننا.
وقالت لنفسها وكأنها تحاول قراءة الغيب : لنرى ما الذى يخبأه لنا القدر.

***************

SHELL 28-10-18 05:16 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل السابع عشر

http://www.oknation.net/blog/home/us.../36835c37b.gif

اجتمعت العائلة فى غرفة أميرة بفيلا الشرقاوى بعد خروجها سالمة من المشفى وقد بدا أنها قد استعادت قسما كبيرا من صحتها وأخذوا يرددون عبارات ( الحمد لله على السلامة ,نورت منزلك ), باختصار كان الجو عائليا دافئا وكأن هذه الحادثة قد ربطتهم جميعا بوثاق قوى وزادت من عمق أواصر الصلة بينهم ,ولم يتغيب عنهم سوى ريم التى التمس لها البعض العذر ,الا أن أخاها رفيق لم يقف مكتوف الأيدى بل أصر على اللحاق بها فى غرفتها وهى تجلس وحيدة شاردة وكان اسوأ شعور لها أن تعانى الوحدة كالمنبوذة وسط عائلتها ,فوجئت بطرقات قوية على بابها المغلق فأذنت للزائر بالدخول وهى تجهل تمام هويته ,الا أنها اعتدلت بجلستها أول ما وقع بصرها على رفيق ووجهه المتجهم فظنت أنه آتى لمحاسبتها على ما فعلت فانكمشت على نفسها وهو يسألها بعزم:
-لماذا لم تأتِ لتطمئنى على أميرة ؟
كانت ريم متخبطة بانفعالاتها وقد ازدادت حيرتها وارتباكها حين نطق أخوها باسم أميرة فرأى علامات الذهول على وجهها وسألته مستفسرة :
-من هى أميرة هذه ؟
نظر لها ببشاشة وهو يقترب منها باصرار قائلا بلهجة مرحة:
-زوجة أخيك ,تلك التى وقعت من فوق الدرج.
غمغمت الفتاة مرتبكة:
-زوجة أخى ؟ كيف ومتى ؟ أليست هى لبنى من وقعت , أقسم لك أننى لم أدفعها... أقصد أننى لم أتعمد ... لقد كانت واقفة ...
وحاولت أن تشرح له الموقف بحذافيره الا أن لسانها قد انعقد تحت وطأة نظراته المتفحصة بقوة وتبدلت لهجته شيئا أقرب الى الجدية:
-ريم , انصتى الىّ يا شقيقتى الوحيدة , قد أكون تماديت فى ردة فعلى بالأمس حين قمت بصفعك وأنا أعتذر لك يا حبيبتى , وها هى رأسك لأقبلها.
وانحنى عليها لينفذ غرضه مقبلا مفرق شعرها بحنان أخوى وهو يضمها الى صدره مربتا على ظهرها ليكمل عبارته:
-ولكن ردك كان فى قمة الاستفزاز لى ,ولم أكن لأسمح لك باهانة زوجتى , ان كرامتها من كرامتى أنا شخصيا ,كما أنك قد طرقت الباب الخطأ ,فليست هى من عليك مواجهته وصب جام غضبك عليه ,انها بريئة ونقية مثلك , انتما الاثنتان تتشابهان جدا فى كل تفاصيلكما ,وقد ارتحت لاقترابكما الواضح وقلت فى نفسى ها هى أختى وزوجتى صارتا صديقتين دون أن تعلم أحداكما بهذه الصلة.
جذبت ريم نفسها من حضن أخيها وهى تضغط بكفيها على رأسها الذى يكاد ينفجر من أثر اعترافه الغريب لها وبدأ سيل الأسئلة ينهال عليه:
-كيف صارت زوجتك ؟ ولماذا لا تعلم احدانا هذه الصلة ؟ أيعقل أنك تزوجتها دون علمها مثلا ؟
ابتسم رفيق وقال متشدقا:
-هذه قصة طويلة جدا ,ولست وحدك من يطلب أجوبة لأسئلته الكثيرة ,فهيا بنا الآن الى غرفة أميرة حتى تجتمع العائلة كلها طمعا لارضاء فضولكم المتزايد .
وقام بدفعها أمامه بلطف وهى ترمقه بحب وعاطفة ,ها هو ذا رفيق يعود أدراجه الى عادته ,الأخ الشهم الحنون الذى لا يكسر خاطرا لأخته الصغيرة ويعاملها كأميرة متوجة ,ولكن لا توقفت مسيرة أفكارها عند هذا الحد ... يبدو أن هناك أميرة أخرى قد استطاعت أن تتربع على عرش قلبه ودون علمهم.

**************

SHELL 28-10-18 05:18 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


شعر مجدى بالقلق يغمره فما زالت فريال مصممة على عدم استقبال مكالماته الهاتفية التى انهالت عليها منذ خرجت من المشفى هى وابنتها ,وقد منع نفسه بصعوبة بالغة أن يلاحقها حتى منزل العائلة فلا مكان له وسطهم لأنه لا يعتبر فردا من الأسرة هو فقط مجرد محامٍ يختص بمعاملاتهم القانونية اذا لزم الأمر ,وسوف ينتهى دوره عما قريب باستلام كل فرد لنصيبه بالميراث ,كان يأمل أن تستعيد فريال عافيتها سريعا من جراء صدمة معرفتها بحقيقة ابنتها المفقودة وأن يتقرب منها بعد ذلك ,ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن ,ها هى حادثة أميرة تقضى على آخر أمل له فى استعادة حبيبته القديمة التى طالما تمنى أن يسعى لخطب ودها وكانت تتمنّع عليه بدلال مثير ,فاعتقد أن قلبها بمأمن عن التعلق بغيره , حتى لطمته صدمة زواجها من ابن عمها ناجى ,واشتعلت حربا ضروسا بينها وبين أبيها ,انتهت بحرمانها من صغيرتها الوليدة وهجرتها الى خارج البلاد ,كان دوما الصديق المتفهم والكتف الحنون التى تبكى عليها كلما ضاقت بها الحياة ولكنه ما عاد يكتفى بلعب هذا الدور ,وعليها أن تقرر اذا ما كانت ستتخذ خطوة ايجابية نحو توثيق علاقتهما الجديدة ,أم أن عليه التراجع بعيدا عن نطاق حياتها الى الابد هذه المرة ,لقد طفح الكيل يا فريال ! لم أعد أحتمل برودك وتجاهلك لمشاعرى ! لن أنتظرك لتتقدمى خطوة الى الأمام سوف أبادر أنا بها هذه المرة.

**************

SHELL 28-10-18 05:20 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

-ها قد أتت ريم ,تعالى يا حبيبتى , اقتربى .
كانت هذه هى كلمات جدتها السيدة شريفة التى تجلس محتضنة حفيدتها العائدة من المشفى باصرار عجيب وكأنها تخشى من فقدانها مرة أخرى ,ومدت يدها نحو حفيدتها الأخرى لتستقبلها بحفاوة بالغة , لم تستطع ريم أن تتجاهل دعوتها المفتوحة فألقت بنفسها بين ذراعيها وصارت الفتاتان قريبتين جدا من بعضهما ,همست لها مغمغة باعتذار ضعيف:
-آسفة حقا لما اصابك ,لم يكن لدى النية ...
-هشش , لا داعى للتبرير فأنا موقنة بأنه لا يد لك فيما صار , انه خطأى أنا لم أنتبه لوقوفى قريبة من درجة السلم.
دفاع أميرة المستميت عنها أشعرها بالذنب الهائل وهى التى أذاقتها اتهامات باطلة بدون وجه حق ,وفاض الدمع من عيون السيدات الأكبر سنا واللاتى تأثرن من هذا المشهد الدافئ المفعم بالعواطف ,فيما اقترب رفيق من شقيقته الوحيدة مقبلا خدها بمحبة وهو يعتذر لها على مرأى ومسمع من الجميع الذين شهدوا على اهانته السابقة لها , فصفت النفوس وعادت المياه الى مجاريها.
ثم التفت الى حبيبته المرهقة وابتسم لها بمغزى وهو يجلس بالجانب الآخر من الفراش محتضنا كفها الصغير بين يديه متجاهلا لنظرات الاستفهام التى تلتمع فى عيون الآخرين عدا أربعة منهم كانوا على دراية بنيته ,طبع قبلة رقيقة على أطراف أناملها وشاهد تورد وجنتيها خجلا حين قال بنبرة واثقة قوية معترفا:
-أود بمناسبة اجتماعنا اليوم احتفالا بسلامة أميرة ,أن أعلن لكم خبرا هاما أخفيته عنكم افترة طويلة ...
تعلقت العيون بشفتيه وهو ينطق بالسر الذى طال كتمانه:
-ان أميرة هى زوجتى.
-من هى أميرة هذه ؟
-تزوجتها متى ؟
-لا يعقل.
تباينت ردود الأفعال وانهالت الأسئلة المتعجبة كسيل مندفع على عاتق رفيق الذى أخذ يضحك بمرح وهو يشير لهم بالتزام الصمت والهدوء حتى يستطيع اجابتهم:
-أولا , أريدكم أن تتعرفوا على هذه الفتاة الجميلة والتى تنتمى لعائلتنا من الجهتين , أميرة , ابنة عمتى فريال.
شهقت جدته وهى تضع اصابعها على شفتيها المرتجفتين وتردد متمتمة:
-أهذا صحيح ؟
وتطلعت نحو ابنتها فريال التى كانت تحاول الاختفاء عن أنظار الجميع ,محرجة من صدمتهم لدى معرفة الحقيقة , كانت تتوق لهذه اللحظة بشدة ومنذ عرفت بوجود ابنتها الى جوارها تنتظر بفارغ الصبر نظرة من وحيدتها تقضى على عذاب الانتظار المرير ,وها هى الآن تقف مرتعبة من ردة فعلها , هل ستتقبل ببساطة كونها الأم الحقيقية لها ؟ أم سترفض الاعتراف بهذه المشاعر ؟
-أمى , لقد اشتقت لمعرفة من هى أمى طوال السنوات الماضية , أخفوا عنى الحقيقة حتى خا .. السيدة مديحة لم تصرح لى بها , ربما خوفا علىّ من الصدمة وربما لسبب آخر , وقد جاءت اللحظة يا أمى , أرجوك لا تتركيننى أنتظر.
اندفعت فريال لاهية عما حولها ترى فقط ابنتها التى تحتاج الى حضنها الدافئ الذى حرمت منه وهى رضيعة ,وعادت اليه وهى شابة ناضجة ,أزاحت رفيق لتضم أميرة بقوة بين ذراعيها تكاد تعتصر ضلوعها من شدة لهفتها ,اختزلت آلام السنين ومرارة الذكريات فى ثانية لتتحول الى سعادة متعاظمة وحنين لا ينضب الى أن يتمازج كيانيهما فهى جزءا لا يتجزأ منها ,وأخذت تغمرها بقبلات متتالية لكل خلية بوجهها ودموعهما تختلط سويا ,بادرتها أميرة بالسؤال لتنهى عذاب الحيرة:
-لماذا لم تصارحيننى يا أمى منذ عرفتى بالحقيقة ؟
كانت فريال تشهق من بين دموعها:
-أنا كنت خائفة من رفضك لى ,أخشى ألا تعترفى بأمومتى الضائعة, كلما حاولت بدء الحديث معك أتراجع , وتختفى الكلمات من عقلى , كيف أبرر لك ما حدث , وأنا مثلك ضحية , كنت عاجزة عن حمايتك ,وهربت بعيدا حينما تملكنى اليأس.
-لن يفرقنا أى مخلوق ولن تبعدنا المسافات مرة أخرى , أنا معك وسأظل الى جوارك للأبد يا ماما.
-ماما , ما أحلى هذه الكلمة من بين شفتيك يا طفلتى , كنت أراك بعين الخيال وأنت تكبرين يوما وراء يوم ودائما ما كنت أسمعها بصوتك الذى لم أعرفه ,ماما , حبيبتى لا تتوقفى عن ترديدها لأتأكد أنك هنا معى.
وأخذت أميرة تعيدها على مسامعها مرات ومرات حتى ترتوى من نبع الحنان المنهمر والذى يتمثل فى هذه الكلمة السحرية.
-أخبرونى كيف يصدف أن تكون أميرة هى لبنى ؟
كانت الجدة العجوز ما زالت تحت تأثير الصدمة فلم يتجاوز عقلها هذا الاستفسار وكأن ما يشغلها فقط هو معرفة كيف تحولت لبنى الى أميرة.
أما باقى أفراد العائلة فكانوا أشد ذهولا منها ولم يجرؤ أيا منهم على التفوه بكلمة ساكنين بانتظار التفسير الكامل لما يدور أمام أعينهم.
قام رفيق بازاحة الهم الكامن على صدورهم فى كلمات وجيزة واستهل حديثه قائلا بتصميم:
-ما سأقصه عليكم الآن يعد دربا من الخيال ان لم أتأكد منه بنفسى لكنت انضممت اليكم متشككا مما حدث أمامى وبداية أحب أن أنوّه الى الدور العظيم الذى لعبه السيد مجدى العمراوى للحفاظ على صغيرتك يا عمتى.
كان ذكر اسمه كفيلا بأن يهز كل كيانها ويخترق حجب الصمت التى تغلف بها الجو ,وتنبهت كل خلية من خلايا ذهنها لما سوف يقوله ابن أخيها والذى يبدو أنه على دراية بجميع خيوط القصة ,وبدأت الحكاية:
-أخبرنى مجدى ذات يوم بقصة غريبة ,وهو نفسه اليوم الذى استوقفتنى فيه يا أميرتى عائدا الى المنزل ليلا . أتذكرين ؟
وغمز لها بطريقة صبيانية جعلتها تبتسم رغما عنها وخففت من توترها فقد كانت متلهفة لمعرفة الأسرار الخفية , واستطرد بتمهل:
-حدثنى عن قصة زواج عمتى فريال من ابن عمها ناجى ,خالك يا كريم ,نعم , لا تتعجب فأميرة هى ابنة خالك كما أنها ابنة عمتك ,وكان هذا طبعا دون ارادة من جدى - رحمه الله - ربما لأسباب منطقية تتعلق به وحده ,ولكنه ما أن علم بنبأ حملها حتى توجه الى شقتهما الصغيرة فى يوم كان ناجى غائبا عن البيت واصطحب عمتى معه بدون رغبتها.
توقف قليلا ليلتقط أنفاسه فيما أعادت الذكرى لفريال شعور بعدم الأمان وهى ترى بعينيها شريط ذكرياتها يدور لتجد نفسها وحيدة بلا معين تواجه غضب ابيها الاعمى وسطوته القوية ,بعد أن استغل والدها فرصة سفر زوجها ليحبسها بمنزله حتى تضع مولودها ,وأخذت تتلمس وجنة ابنتها القريبة منها لتتأكد أنها موجودة فكان مجرد ذكر اسم والدها يثير بنفسها الرهبة.
رأى رفيق الجميع يحدقون به متعلقين بما يخرج من بين شفتيه من حديث أغرب من الخيال فاستطرد بلهجة تقريرية:
-وجاء اليوم الموعود وضعت عمتى طفلة جميلة فى يوم شتوى ممطر ,ولم يكذب جدى خبرا فانتزعها منها بلا رحمة ,وطالب مجدى بوضع الصغيرة فى ملجأ للأيتام فلم يحاول وقتها مناقشته أو اثارة غضبه ,على أمل أن يتأكد بنفسه من سوء قراره حين تهدأ فورة المشاعر الغاضبة ,واستطاع أن يضع الطفلة بين يدى أمها لترضعها وكانت هذه هى المرة الوحيدة ...
قاطعته فريال بشرود وكأنها تعيد تمثيل الموقف من جديد قائلة بصوت مهزوز بأسى:
-وقد توسلته ليترك لى أميرة وقد أطلقت عليها هذا الاسم لأنه كان لقب التدليل الخاص بى ,وكنت قد اتفقت مع ناجى على اختياره ,ولكنه وعدنى بمساعدتى وطالبنى بالتمسك بالصبر ...
التقط رفيق طرف الحوار ليكمل القصة:
-ولكن لسوء الحظ يبدو أن أحدا كان يتنصت على حديثهما ,وأخبر جدى بالأمر ,ففوجئ به فى اليوم التالى يقصيه من تولى موضوع الطفلة ,فلم يجد بدا من مسايرته حتى لا يشك فى أمره اذا أصر على التعاطى بنفسه مع الأمر ,وكان عمى عادل هو من أخرج الطفلة من المنزل ليلا متخفيا عن عيون الجميع ... ووضعها على باب دار للأيتام بعيدة عن المنزل ..
قاطعه عمه عادل محتدا بعنف لا يتناسب مع شخصيته الضعيفة:
-هذا كذب وافتراء , أنا لست ...
-لا تكذب يا عادل فقد رأيتك بعينىّ , وكنت أراقبك ليلتها لأعرف كيف ستتعامل مع الطفلة.
أخرسته كلمات المحامى القاطعة وقد شلته المفاجأة بعد ظهوره الغير متوقع على باب الغرفة ,وقد اتجهت اليه أنظار الجميع فتنحنح معتذرا:
-أستمحيكم عذرا لمقاطعتى الحديث ودخولى المفاجئ.
وتعلقت عيناه بعينى فريال التى كانت منكمشة تتشبث بابنتها بخوف غير مبرر فقد اجتمعت بها ولن يفرقهما أيا كان.
اتخذ مجدى مجلسا دون انتظار دعوة فيبدو أن الكل منشغل بالحديث ولا وقت للمجاملات الاجتماعية وواصل سرد الحكاية كما سبق وأخبر رفيق بها:
-وضعها عادل على باب الملجأ وقرع الجرس ليفر بعدها هاربا دون أن يلتفت ورائه فهرعت نحوها ألتقطها وجريت نحو سيارتى , أخذت أقود كالمجنون وبكاء الصغيرة يتزايد حتى يكاد يصم آذانى ,ولم أدرِ أين أتوجه فقد ضاقت بى الدنيا ثم تذكرت وجدى , وجدت أنه الحل الأمثل بأن أطلب مشورته فبالنهاية كانت هذه ابنة أخته ,وبالتأكيد لن يتخلى عنها مثلما فعل أبوه وشقيقه من قبل ,كان صديقى المخلص منذ طفولتنا ولم نكن نفترق الا فيما ندر , لم أرَ من هو أكثر منه حنانا وطيبة لم يكن ليؤذى نملة ,وللمصادفة بذات اليوم كانت زوجته مهجة تلد ,ولكنها فقدت الطفلة بعد ساعات قليلة من وضعها ,فما كان أمامه الا أن يستبدل طفلته بطفلة فريال ولو مؤقتا وكان ينوى اخبارها عن طريقى بأنها بأمان تام معه ,الا أن القدر لم يمهلنا فرصة فقد قام جدكم باقصائها الى بلد بعيد ليدارى الفضيحة كما ادّعى ولتستكمل دراستها بجامعة عريقة ,على ألا تعود وألا يعرف أحد من العائلة بمكان تواجدها ,ولم يكن وجدى قد استخرج شهادة وفاة لابنته فكانت المسكينة خير تعويض له ولزوجته , ولم يكن ممكنا وقتها أن أعود لأخبر جدكم بالحقيقة فقد خشيت أن يتهور ويؤذى أميرة أو وجدى ,وهكذا انتهى بك الأمر فى بيت خالك بعيدا عن الخطط الشيطانية التى كادت تبعدك عن حضن أمك وعائلتك للأبد يا أميرة.
اختتم حديثه موجها اياه للفتاة الباكية بمرارة عما فقدته من سنوات عمرها بعيدا عن كنف والديها الحقيقيين , وما لبثت أن تنهدت بحرقة وهى تسأل عن أبيها:
-وأين هو أبى ؟ أين ناجى الشرقاوى ؟
أجابتها السيدة هناء بعزم حاقد:
-لقد انقطعت أخباره عنا منذ سفره الأخير , وان كان معلوما بدون شك للجميع أن وراء اختفائه كان عمى ,أعلمونا فيما بعد بخبر وفاته والتى ما زلت أشك فى صدق تفاصيلها.
ونظرت بأسى الى أبناء عمومتها تلقى بالتهمة البشعة فى وجوههم:
-لقد استطاع عمى بنفوذه أن يغلق التحقيق فى قضية مصرع أخى ,لتقيّد ضد مجهول.
-لا يمكن , هل تريدين القول بأن جدى قد قتل أبى ؟
بدا أن أميرة لن تفيق من الصدمات التى تجد طريقها اليها بدون ارشاد وهى تهز رأسها نفيا ,فقام محمد لأول مرة بالحديث نافيا هذه التهمة البشعة عن أبيه بقوة واصرار:
-لا يا هناء , الى هذا الحد وكفى , أعرف بأن أبى قد ظلمكما أنت وناجى ,عندما فرض عليك الزواج من أخى لتنالى حصتك بالميراث ثم نكص بعهده ,وحرم ناجى من حقه الشرعى , ولكن لا تنسى أن أخاك قد لعب بقذارة عندما غرر بشقيقتى ليتزوجها بدون علمنا حتى يساوم أبى فيما بعد على نصيبه بالثروة.
-هذا كذب وافتراء.
دافعت هناء بشراسة عن ذكرى أخيها الراحل ,ولم ينتبها الى صمت فريال وتحديقها بشقيقها عادل الذى تخاذل على نفسه بعد انكشاف دوره الحقير بحرمانها من صغيرتها ثم وجدت نفسها تقول بصوت لا حياة فيه:
-أنت يا عادل ! أنت تفعل هذا دونا عن الجميع , لماذا ؟ ما الذى جنيته بحقك ؟ لقد كنت دوما سندا لك كما كنت لوجدى , ألا تذكر أننى وقفت الى جانبك عندما أصررت على الارتباط بمن أحببتها على الرغم من رفض أبى وقتها لأنها كانت تعمل سكرتيرة لدينا , ألا تذكرين هذا يا منى ؟
امتعضت المرأة من ذكرها لوظيفتها السابقة وقد شعرت بنظرات استعلاء من فريال فقاومت شعور جارف بالدونية وأشاحت بوجهها بعيدا عنها رافضة اعطائها الاجابة الشافية , فيما بقى عادل شاخصا ببصره الى الفضاء لا يجرؤ على الاتيان بحركة أو التفوه بحرف واحد بعد أن سقطت صورته المثالية أما عينى ابنه الذى كان مشمئزا من والديه وتصرفاتهما الغير أخلاقية ,حتى أنهت فريال لومها قائلة باستسلام:
-حسبى الله ونعم الوكيل ! لن تتذوق طعم الراحة منذ الآن يا عادل , فيكفى أن حقيقتك البشعة قد ظهرت للجميع .
انهار عادل مبتعدا عنهم فى صمت خجلا من نظراتهم المحتقرة , لم يحاول حتى طلب السماح من أخته , كان متخاذلا بحق نفسه وحق الآخرين ,اتخذ الفرار وسيلته المفضلة بدلا من المواجهة , فيما لحقت زوجته به دون أن تنطق بكلمة على غير عادتها ,وبعدها حاول سيف الانسحاب هو الآخر الا أن كريم استوقفه جاذبا اياه الى جواره ليربت على كتفه مؤازرا , ولم تمض ثانية الا وكان رفيق هو الآخر بجانبه يحاوره بمنطقية:
-الى أين تريد الذهاب يا ابن عمى ؟
أطرق سيف برأسه متواريا وهو يغمغم:
-أعتقد أنه لا مكان لى بينكم بعد ما عرفته عن أبى.
لكزه رفيق بقوة وهو ينهره عن مثل هذا القول:
-توقف عن الرثاء لنفسك ,فما حاجتك لهذا ,ان ما قام به عمى هو الوحيد المسؤول عنه ,وأنت لا ذنب لك فيه كما لا ذنب لأى منا فيما قام به جدى من ظلم بيّن لعمتى وعمى ,ولا أريدك أن تفكر بهذه الطريقة بعد الآن , نحن واحد يا سيف , أتفهم ؟
قامت سوسن بمراقبة ابنها عن كثب ولم تلبث أن ضاقت عيناها وهى تلمحه ينظر لها بالمثل ويقول فى محاولة منه لاذابة الجليد وهو يدرك أنها تموت شوقا لمعرفة حقيقة اعترافه السابق:
-أعتقد أن الجزء الناقص لدىّ , وهو ما يتعلق بكون أميرة زوجتى , هل أحكيه أنا أم تروى أنت تفاصيله يا أبى ؟
نظر بأمل الى أبيه لعله يريحه من عبء هذه المهمة الشاقة فوافقه بهزة من رأسه:
-حسنا يا بنى , كما تريد سأروى أنا بقية الحكاية أو بدايتها ...
وبدأ ...يقص عليهم كيف ظل على صلة دائمة بأخيه وجدى حتى بعد طرد أبيه له من بيت العائلة لزواجه من أخرى ,وأنه كان يصطحب معه فى زيارته لأخيه كريم ورفيق بحجة التنزه ,حتى صارا مقربين منه فلم يحرم وجدى من رؤية ابنه وتوثقت علاقتهما بلبنى الصغيرة ووقتها لم يكن قد صارحه وجدى بحقيقتها ربما خوفا من افشاء السر وتفاقم الامور ,وفيما بعد وقبل وفاة أخيه بقليل طالب بلقائه هو وابنه رفيق , ثم أفضى اليهما بسر خطير : لبنى ليست ابنته وأنها فتاة متبنّاة وقد طالبهما برعايتها والعناية بها ,ومنذ وقعت الحادثة انقطعت زياراتنا لها فقد انتقلت الى منزل السيدة مديحة حيث استقرت بكنفها هى وزوجها يهتمان بكافة شؤونها ولولا خوفهما من غضب الجد ورفضه لأى صلة تربطهما بوجدى أو ابنته لاصطحباها لتعيش معهم بالفيلا ,وبعد فترة توفى زوج السيدة مديحة تاركا اياها وحيدة مع ابنها حسام وابنة أختها لبنى ,وما لبثت مضايقات حسام لابنة خالته كما كان يظن أن ازدادت فصار يلاحقها حتى توافق على الاقتران به ...
استعادت أميرة ذاكرتها بوضوح لترى نفسها صغيرة ملاحقة من جانب الشاب اللجوج الذى اثبت أنه نذل بجدارة فقد استغل تواجدها بمنزلهم ليضيّق عليها الخناق مطالبا اياها بالزواج منه ظنا منه أنها ستخجل من رفضه عرفانا بجميل أسرته عليها ,فأخبرها بأنه ابن خالتها وأنه أولى الناس بها , كأنها قطعة من الاثاث تورث لا رأى لها ,فما كان منها الا أن لجأت الى رفيق ابن عمها والذى كانت تميل كثيرا اليه ,كان حنونا لطيفا فى معاملتها ,لم يبخل عليها بمساندته ومشورته فى أى أمر ,ابتسمت حين تذكرت حوارهما ذلك اليوم حين انهارت باكية أمامه حين سألها عن حالها.
-ما بك يا لبنى ؟
أجابته وهى تغالب دموعها:
-لا شئ , فقط حسام .. ابن خالتى ...
-ما به ذلك الفتى ؟ أضايقك بكلمة ما ؟
لم تجد بدا من اخباره بالحقيقة كاملة فلم تعد تقوَ على المقاومة وحدها فصرحت له:
-انه يطالبنى بالزواج منه.
انتفض رفيق حين سمع كلمة زواج ونظر لها باشفاق ولكنه أراد التأكد من صدق احساسه برفضها:
-هل أنت موافقة ؟
- كلا , طبعا.
شعر بالراحة تغمره فكيف كان سيتصرف اذا ما أخبرته بما يخشى الاعتراف به ,هل سيأتى اليوم وتكون لغيره ؟
لقد أراد أن يتزوجها طبعا ولكنه لم يصارحها بهذه الرغبة بعد لأسباب كثيرة , أولها : جده وخوفه عليها من غضبه ,اصافة الى صغر سنها فى هذا الوقت ولم تكن قد أتمت دراستها الجامعية , لم تفتر مشاعره نحوها بعد اعتراف عمه بأنها مجرد فتاة متبناة بل تعمقت هذه المشاعر ليحاول حمايتها فأعد نفسه مسؤولا عنها بالكامل.
-حسنا , ما عليك سوى اخباره برفضك ليبتعد عنك و..
قاطعته متأملة أن يريحها من عذاب الانتظار:
-لن يتركنى لحالى , لقد أصبح يطاردنى فى كل مكان , واصبحت أخشى خروج خالتى لأى مكان حتى لا أكون وحيدة معه.
-ألهذه الدرجة ؟ هل تجاوز حدوده معك هذا الحقير ؟
أجابته سريعا حتى لا يتضايق:
-لا , ولكنه لحوحا ,لم أعد أطيق البيت ,وأفكر جديا بالهروب.
-ماذا تقولين يا لبنى ؟ الهروب ؟ كيف قادك تفكيرك لهذا الطريق ؟
-وماذا أفعل ؟ لم يعد بيدى حيلة.
كانت يائسة وحيدة بلا معين تلجأ اليه خائفة من مصارحة خالتها بالحقيقة لأنها بنظرها صاحبة فضل عليها ولا تريد أن يزداد الشقاق بينها وبين ابنها , فيكفيها شجارهما المتواصل بسبب أنانيته المفرطة وعدم قدرته على تحمل المسؤولية على الرغم من تخرجه بكلية الهندسة ,ورفضه للبحث عن عمل مناسب حتى يساهم فى مصروف البيت ,وبقيت تنتظر فارسها الأمين ليخلصها من تعاستها.
فجأة خطرت بباله فكرة جهنمية ولكنه ما لبث أن توقف ليفكر قليلا هل حقا يمكن تنفيذها وبدأ يشرح لها باستفاضة خطته:
-اسمعى جيدا يا لؤلؤتى ,لا يوجد أى حل الآن الا أن يصير لديك مانعا شرعيا للارتباط به ؟
-وما هو هذا المانع ؟ لا يوجد شئ الا أن نكون اخوة فى الرضاعة , وهذا مستحيل طبعا لأنه يكبرنى بعدة أعوام.
ابتسم من سعة خيالها المفرطة وضحك عاليا بمرح جعلها تنظر له مغضبة وهى تقول بطفولية بحتة:
-لماذا تضحك ؟ هل تسخر منى يا رفيق ؟ أنا سوف أخاصمك , هه.
وكشرت كما كانت عادتها وهى طفلة عندما يزعجها أمر ما , فأخرج رفيق من جيبه علكة من نوعها المفضل ومازحها قائلا:
-هيا يا طفلتى , خذى هذه العلكة , انها من النوع المفضل لديك.
ومدت يدها فورا لتختطفها من بين يديه الا أن أصابعه قد تمسكت بها وهو يقول بمكر:
-ليس بهذه البساطة , انتظرى.
ارتعشت لدى احساسها بلمسة أصابعه على يدها وقد ساورها شعور غامض بأنها كان يقصد ملامستها ولم يكن تصرفه عفويا ,فحاولت الانسحاب بعيدا ,فتركها بسهولة ويسر حتى يعتدل بجلسته وهو يقول بجدية:
-لبنى , لا يوجد سوى حل واحد.
-ما هو ؟
-أن نتزوج.


*****************

SHELL 29-10-18 09:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثامن عشر


http://sl.glitter-graphics.net/pub/2...kogaunog3d.gif



كانت الفتاة فى ظروف أخرى ستطير فرحا من غمرة سعادتها ,لم تكن لتتخيل فى اكثر أحلامها وردية أنه سيتقدم طالبا يدها للزواج , فارس أحلامها الذى ملأ كيانها واحتل كل تفكيرها ,ولكنه يعرض عليها زواجا باردا خاليا من مشاعر الحب الجميلة ,مجرد حل لمشكلتها العويصة ,لو فقط يضيف كلمة واحدة ( أحبك ) لكان عالمها كله قد تغير ,ولدهشته العميقة رفضت عرضه بكبرياء واباء وقالت بلهجة قاسية:
-شكرا لعرضك للمساعدة يا رفيق , ولكننى لست يائسة لهذه الدرجة.
-ماذا ؟ أترفضين الزواج منى ؟
-نعم , فلا ضرورة للتضحية بحريتك الغالية على نفسك من أجلى.
-وماذا ستفعلين مع حسام ؟ كيف ستجابهين حصاره لك ؟
-لا شئ , سأجد حلا ما , لا تشغل بالك.
وهمت بالانصراف وهى تودعه فاستوقفها مجبرا اياها على العودة الى الطاولة مرة أخرى وقال مهددا:
-انتظرى يا لبنى , ما الذى يضايقك الآن ؟ لقد عرضت عليك الزواج منى , وها أنت تضربين بطلبى عرض الحائط.
-وماذا تنتظر منى ؟ لا أريد شفقتك ,كما أننى لست لحاجة اليك.
-ولكننى بحاجة اليك.
هل توهمت ما سمعته ؟ انها تشعر بأنه يكن لها مشاعر أعمق مما يحاول اخفائه ,ولكنها تتمنى سماع الكلمة صريحة حتى لا يكون هناك مجال للأوهام بينهما ,فاستوضحت الأمر ببراءة:
-ماذا قلت ؟ لم أسمعك جيدا.
-أقول أننى أحبك.
شعرت بالأرض تميد تحت قدميها كمن سحب البساط من تحته ,هل حقا اعترف لها بمثل هذه البساطة المحيرة بمشاعره دون أن يطرف له جفن أما هى لماذا تشعر كانها تلقت لكمة قوية ونبضات قلبها تتسارع مهددة بالانفجار فضغطت بيدها على صدرها لتحاول ايقاف هذه الخفقات المجنونة وتصرخ عاليا:
-هل قلت أنك تحبنى يا رفيق ؟ لا أصدق أنك قلتها أخيرا , أنا أيضا أحبك.
حاول تهدئتها بعد أن التفت اليهم أغلب رواد المطعم الشهير وقال من بين أسنانه مغتاظا من هياجها:
-طبعا أحبك أيتها المجنونة , اهدأى وأخفضى صوتك ,أتريدين أن تثيرى ضجة حولنا ؟
كادت أن تجيبه بأنها تريد للعالم بأسره أن يعرف بحبهما وأنها تود أن تصرخ من فوق الجبال بعشقها له ولكنها شعرت بخجل من نظراته المتفحصة القوية وارتأت أن تستمع له :
-اسمعى الآن علينا أن نسرع بعقد قراننا ودون أن يعلم أحد به ,هل معك بطاقتك الشخصية ؟
أجابته باستسلام:
-نعم , انها بحقيبتى.
-حسنا سوف نحتاج الى صور أيضا , لا يهم سوف أجد حلا.
واستأذنها بضعة لحظات ليجرى اتصالا هاتفيا مهما وقد أخذت ملامحه تتبدل بين العبوس والضيق وهو يجرى حواره الى أن أنهى المحادثة بصورة مفاجئة وتوجه ناحيتها فأشار لها بالنهوض وترك الحساب على الطاولة ثم انصرفا سويا دون أن تعلم الى أين سيتوجهان.
كان عمها محمد بانتظارهما ومعه المأذون ,وحين رآهما يقتربان منه بصمت انتحى بابنه جانبا بعد أن ألقى التحية على لبنى سريعا وأخذا يتناقشان بحدة وهى ترى رفيق محاولا فرض رأيه ليقتنع أبوه فيما بعد وأشار له بالموافقة ,ثم تم الأمر سريعا وكأنها فى حلم , تزوجت من رفيق وكان وليها هو عمها الذى عرفت أنه لم يكن راضيا عن هذه الزيجة أن تتم بمثل هذه السرية حتى ولو فى سبيل حمايتها .


*************

SHELL 29-10-18 09:20 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 



-ولماذا لم تقوما باطلاعنا على هذا السر بعد وفاة جدى ؟
طرح كريم سؤاله بهدوء وقد سيطرت مشاعر غامضة عليه ,فهل يشعر بالفرح لأن لبنى أو أميرة على الرغم من أنها ليست شقيقته ولكنها قريبة جدا له ,ربما أكثر من أى فرد آخر فصلة القربى بينهما مزدوجة ,أم يغضب لاخفائهم الأمر عنه وكأنه شخص غريب عنهم ,تضاربت الافكار برأسه فى انتظار رصاصة الرحمة التى أطلقها رفيق ليخرج الجميع من دائرة الحيرة فيجيب برصانة وهو يتأمل زوجته بحب صريح :
-لأن أميرة كانت فاقدة للذاكرة.
واستطرد بلهجته العقلانية الحازمة:
-تعرضنا لحادث سيارة أنا وهى ,وعلى اثره فقدت جزءا كبيرا من ذاكرتها القريبة ,ربما أخذ عقلها الباطن يلفظ كل ما يثير ضيقها ويمحو الذكريات السيئة التى عايشتها بعد وفاة والديها كما كانت تعتقد ,أما بالنسبة لى ... فيبدو أنها قد تأثرت كثيرا حتى تقرر أن تضعنى بركن بعيد جدا من ذاكرتها , فحينما رأتنى بعد الحادث نظرت لى باستغراب وسألت خالتها عنى:
-من هذا الرجل يا خالتى ؟
حين واجهت سؤالها شعرت بطعنة عميقة فى كبريائى ,واكننى حاولت التماسك لأسأل الطبيب عن حالتها فأخبرنى بضرورة مساعدتها بالابتعاد عن كل ما يزعجها حتى تستعيد ذاكرتها كاملة ,وألا نحاول الضغط على أعصابها المتوترة ,فاخترت الانسحاب بعيدا حتى يتم شفاؤها.
ونظر الى أميرة التى كانت تبحث عن أجوبة لأسئلتها الكثيرة وقال بمغزى مفهوم:
-وهذه هى اجابتى على استفسارك بشأن تركى لك بمفردك طوال هذه الفترة ,كما أن خالتك لم تكن تعلم شيئا عن ارتباطنا ولم أقدر على مواجهتها بالحقيقة بعد أن رجتنى أن أنساك الى الأبد ,ظنا منها أننى حين أعرف بحقيقة كونك ابنة عمى بالتبنى سأتخلى عنك ,كان لديها العذر لأنها تدرك كيف يفكر جدى وما كان بمقدوره أن يفعل اذا اشتم خبرا ,لقد سبق له أن أحال حياة عمى وجدى وزوجته الى جحيم حقيقى.
أمنّت أميرة على كلام زوجها حيث قالت بنبرة مصدومة:
-حينما عدت من زيارتى للفيلا لأول مرة وأوصلتنى أنت يا رفيق ,واجهت السيدة مديحة بحقيقة كون أمى ... مجرد خاطفة للرجال حين علمت بنبأ زواجه الأول الذى أخفاه عنى طوال حياته ,وحتى معرفتى القصيرة بكريم ورفيق توقفت لدى عمر صغير ,مجرد ذكريات ضبابية عن طفلين يكبراننى كثيرا ولطالما تمنيت لو أستطيع أن أرى وجهيهما بوضوح .
هز محمد رأسه ليؤكد صدق كلامها فقال بأسى:
-لقد نما الى علم جدك أننى أصطحب كريم لرؤية والده ,وبالتالى قام بحرمانه من مرافقتى وحيدا, فيما قلت زياراتى لوجدى كثيرا حتى لا أثير غضب جدكم ,وبعد فترة انتقل هو الى الاسكندرية هربا من بطشه حتى يعيش هو وأسرته بأمان.
تنهدت السيدة سوسن بمرارة وهى تنقل بصرها بين زوجها وابنها وتقول بأسف:
-كل هذه الخفايا لا أعلم عنها شيئا , أبعد هذه العشرة الطويلة يا محمد ولا تأتمننى على أسرارك ؟ وأنت يا رفيق تتزوج دون أن تعلمنى حتى ؟ لا أصدق نفسى , لقد عشت فى وهم سنوات طويلة أننى جزء من هذه العائلة لأفاجأ اليوم بأننى مجرد دخيلة.
ونهضت غاضبة لتنصرف بعد أن استأذنت من حماتها:
-عن اذنك يا ماما أنا متعبة وأريد الذهاب الى غرفتى.
أومأت لها السيدة شريفة برأسها مواسية للصدمة التى تلقتها للتو , هى نفسها تشعر بما قالته ولكنها لا تجرؤ على اظهار ضعفها وقلة حيلتها ,أيقنت هى الأخرى أنها مجرد صورة بهذا البيت , طوال فترة زواجها من عبد العظيم والحواجز ترتفع بينهما ,واحدا وراء الآخر حتى صار بنيانا ضخما يحول بين الوفاق المألوف بين أى زوجين ,تربطهما أواصر المودة والرحمة ويجمعهما الأبناء , الا أن الأمور انعكست تماما.
لحق محمد بزوجته ملهوفا عليها لا يلوِ على شئ , فهى محقة بضيقها وهو يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية , ما كان عليه أن يوافق على مثل هذه الزيجة وبهذه الطريقة المشينة وكأنهما يختلسان ما ليس حق لهما,فبما بقى رفيق غير قادر على الاتيان بأى تصرف ,فالخيوط قد تشابكت وتعقدت أكثر مما كان يتصور ,وكلما انحلت عقدة تكوّنت أخرى أكبر منها ,ربما اعتقد أن فى استرجاع أميرة لذاكرتها المفقودة ومعرفتها بأمها الحقيقية سوف يعيدان التوازن الى حياته , فانقلبت رأسا على عقب.
وحذت حذوها السيدة شريفة لتعلن أنها مرهقة وتود أن تنال قسطا من الراحة فعرضت عليها ريم مرافقتها الى غرفتها حتى تساعدها على هبوط الدرج ولكنها استوقفتها باشارة من يدها وهى تخبرهم بأنها بخير وقادرة على العناية بنفسها.
قالت فريال لتقطع الصمت المخيم على الغرفة بعد انصراف أمها وأخويها: -لا تتكدروا هكذا ,لا أريد أن أرى أحدا متضايقا بعد اليوم , يكفى أننا قد اجتمعنا سويا , شمل العائلة قد اكتمل بنا وبعودة أميرة الينا , أليس كذلك يا مجدى ؟
-هه ؟ هل تحدثيننى ؟
انتبه المحامى من شروده على صوتها الحبيب يناديه فأسرع يلتفت نحوها وهو لا يقوَ على مقاومة مشاعره الدفينة:
-أعتذر منك يا فريال , ربما سرحت بأفكارى قليلا , فما حدث اليوم كان مفاجأة لأغلبنا ,والله وحده يعلم ما الذى سوف تؤول اليه الأمور.
أجابته فريال وقد بدأ وجهها يشرق بالأمل والتفاؤل بعد أن أنطفأت ابتسامتها لمدة طويلة:
-لا يهم , كل شئ سيكون على ما يرام ,ولا تقلق يا رفيق فأمك قد تكون غاضبة منك الأن ولكنك تعرف أن لها قلب أم حنون رؤوف , لن تلبث أن تتقبل الأمر وتسامحك على ما أخفيته عن الجميع.
كانت كلماتها تحمل المواساة مع لمحة خفيفة من التأنيب , هى محقة فى لومها الموجه له فها هى ابنتها الوحيدة قد تزوجت دون أن تعرف عن ظروف زيجتها وقد حرمت من فرحتها برؤيتها ترتدى الفستان الأبيض وتسلمها الى عريسها كما تحلم كل أم ولكنها تشعر بارتياح بالغ لأنها اختارت رفيق ابن أخيها فهو بالرغم مما يبدو عليه من جمود ولا مبالاة الا أنه شخص يعتمد عليه وقادر تماما على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه اضافة الى أن مشاعره القوية نحو ابنتها قد أعلنت عن نفسها جلية حينما كانت راقدة بالغيبوبة ,وفجأة رنت برأسها نحوه وهى تسأله بفضول:
-رفيق , لم تجب عن سؤالى حين كنا بالمستشفى , كيف تصادف أن كانت فصيلة دمكما واحدة وكيف عرفت ؟
جذب هذا السؤال انتباه أميرة وهى غارقة فى حضن أمها لتمطره بوابل من الأسئلة بدورها:
-هل فصيلة دمنا واحدة يا رفيق ؟ ولماذا تسألك أمى عن هذا من الأساس؟
أشار الرجل بيده علامة التمهل وقال بهدوء:
-رويدكما أنتما الاثنتين ,اجابة على سؤال عمتى :فقد تكرر هذا الأمر من قبل حين وقع لنا حادث السيارة منذ أربعة سنوات واحتاجت أميرة الى نقل للدم ,ونبهتنى الممرضة وقتها أن فصيلة دم زوجتى تعد نادرة جدا وأنه علىّ سرعة التصرف , ولحسن الحظ فقد كانت هى نفسها فصية دمى ,أما عن سؤالك حبيبتى :فالاجابة هى نعم ,وقد احتجتى لنقل الدم مرة ثانية.
قالت أميرة بصوت حالم:
-أهذا يعنى أنك قد أنقذت حياتى مرتين ؟
اقترب رويدا من زوجته التى كانت تبدو كطفلة صغيرة وهى متعلقة بأمها وحركت مشاعر الحماية بداخله الى أقصى درجة فها هى تعود طفلته المدللة التى كان يحلو لها التشبث بملابسه خوفا من سخافات كريم وهو يحاول مضايقتها ,وتذكر يوم عقد قرانهما حين بدت ضعيفة تائهة الى أن أعلن المأذون أنهما قد صارا زوجين وبارك لهما والده فتألقت ابتسامتها الخجول وهى تتلقى تهنئته الخاصة عندما طبع قبلة دافئة على جبينها ,وجلس بقربها مكان جدته الخالى ,وأخذ يمسح على شعرها بحنان بالغ وقال بصوت ينضح بالمشاعر البدائية التى طالما قاومها فى الماضى حتى لا يؤلمها:
-لقد أخبرتك وأنت بعد صغيرة أنك أميرتى ,لقد اعتدت أن أدللك بهذا اللقب , هل تتذكرين يا حبى ؟
ابتعدت عن أمها قليلا لتميل الى زوجها وهى تنظر له بعشق كأنهما وحدهما فى المكان:
-لقد تذكرت يا حبيبى , كل شئ ,لا أعرف كيف احتملت طوال هذه السنوات ابتعادى عنك ؟ وكيف صبرت أنت على تجاهلى ؟
-لم يكن الأمر بيديك , فهو خارج عن ارادتك ,وكان الله بعونى حينما اتخذت قرار الابتعاد دونا عن رغبتى ولكنه كان لمصلحتك.
-وكيف سمحت لخالتى , أعنى السيدة مديحة أن تقصيك عن حياتى بهذه البساطة ؟ كان عليك أن ترفض وتبقى بجانبى.
-لم يكن ممكنا وقتها , ولكننى قايضتها .. نعم لا تتعجبى , لقد أخبرتها بكل مضايقات ابنها السخيفة لك ووعدتها بأن أبتعد عنك مقابل أن تكف يده عنك.
-لم أكن أتذكر شيئا عنه هو الآخر.
-وهل ضايقك بعدها ؟ هلا تخبريننى بالحقيقة.
كانت نبرته الغيور الغاضبة ونظراته النارية تنبئ بما لا يحمد عقباه اذا لم تسرع بتهدئته فطمأنته بقولها:
-فى الحقيقة كانت علاقتى به باردة الى أقصى حد فى هذا الوقت , كل ما كنت أذكره هو التجاهل من جهتى ونظرات البغض من جهته الى أن أعلن بعد فترة قصيرة من استلام عمله أنه بصدد اعلان خطبته على فتاة ما وحتى لم يستشر أمه فى الأمر , كأن مجرد اعلامها بموعد الخطبة كافٍ ولم تحضر حتى تفاصيل الاتفاق على الزفاف , أراد منها فقط أن تتصرف كصورة مكملة للمنظر العائلى.
-هذا أمر رائع ومثالى.
كانت سخرية سيف واضحة للعيان وقد أخذ يصفق بيديه وهو يستطرد هازئا:
-ها قد عاد الفارس الشجاع الى منزله حاملا بيديه أميرته المدللة والتى اتفق أنها هى ذاتها سندريلا ابنة عمتى المفقودة وليس هذا فقط بل كانت تمثل دور بياض الثلج التى أنقذها الأمير بقبلة من الساحرة الشريرة, هذا شئ عظيم , فلنصفق معا تكريما لابن عمى المغوار.
-كفى يا سيف , أنت لا تدرى ماذا تقول.
قاطعه كريم هادرا بصوت غاضب وهو بحاول السيطرة على انفعاله اللا ارادى ,فأسكته رفيق بيده وهو ينظر الى سيف بلوم:
-اتركه يا كريم يخرج ما بداخله ,هيا يا سيف قل ما بدا لك.
هز رأسه بعنف وهو يقول كمن يهذى:
-نعم سأخبرك بما يعتمل فى نفسى , لقد صار والدى هو الرجل الشرير بالقصة بعد أن قام المحامى الطيب بفضح أمر فعلته الشنعاء , أليس كذلك ؟ وسوف ينال السيد مجدى طبعا مكافأته من عمتى الحبيبة لأنه قد حافظ على ابنتها الغالية.
لم يحتمل مجدى سخريته واستهزائه المبالغ فيهما فقاطعه بحزم وصرامة:
-اياك وأن تمس عمتك أو ابنتها فى فورة غضبك مما قام به أبوك , اذا أردت أن تلقى بلومك على أحد فهذا الشخص قد انتقل الى رحمة الله ولم يعد باقيا له سوى عمله الطيب.
-وأى عمل طيب ؟ ما عرفته منذ وفاته يكفينى لسنوات أن أؤمن بأنه لا يوجد من هو أسوأ منه على وجه الأرض.
-الله وحده من يملك محاسبته على أفعاله , وما نحن الا بشر مثله ولسنا أنبياء , فكل منا له أخطائه وعيوبه , من منا طاهر برئ بلا خطايا !
لا أحد , أعيدها على مسامعك .. لا أحد يا سيف ,وقبل أن تحاسب اباك على فعلته , اسأله أولا لماذا تصرف هكذا , لا بد وأنه يملك تفسيرا.
شعر سيف بدوامة الحقد تبتلعه بداخلها وهو يلعن بمرارة:
-كفى ! لا يوجد مبرر واحد لمثل هذا التصرف ,وأرجو منكم ألا تلتفتوا لهذيانى ولا تدعوننى أقاطع احتفالكم البهيج بعودة الأميرة ,حمدا لله على سلامتك يا .. أميرة.
واندفع خارجا يتخبط بحيرته وشقائه فلحق به كريم وهو يطمئن الجميع:
-لا تقلقوا عليه , أنا سألحق به ولن أتركه وحيدا.
-نعم يا بنى , فابن عمك يحتاجك أكثر من أى وقت مضى , اذهب ولا تعد الا ويدك بيده.
كانت لهجة أمه المواسية والمشجعة له دوما هى خير معين له فابتسم لها بصعوبة وهو يقول مؤكدا:
-طبعا يا أمى لن أتخلى عنه فهو كأخى.
وهرول لاحقا بابن عمه المحبط.
تلجلجت هناء وهى تشعر بكونها دخيلة على هذا الجو الأسرى فقالت متمتمة:
-حمدا لله على سلامتك يا بنت أخى , مبارك رجوعها لأحضاننا يا فريال , استأذنكما لأذهب الى غرفتى , لم يعد من اللائق بقائى هنا.
-ابقى يا هناء , فأنت ابنة عمى ,وعمة ابنتى , لست بغريبة عنا , هذا هو مكانك وسطنا.
قالت فريال بصدق متمنية أن تعود المياه الى مجاريها مع ابنة عمها والتى كانت مقربة جدا منها وساهمت أفعال والدها ومصائب الزمن فى التفريق بينهما.
-وأين سأذهب يا فريال ؟ ليس لى مكان الا هنا ,ولكننى أشعر بتعب مفاجئ ,ساذهب لأستريح قليلا.
-هل أنت بخير يا تنت هناء ؟ أأستدعى لك طبيبا ؟
سألتها ريم بقلق وهى ترى شحوب وجهها وارتجافة يديها , فقامت هناء بمسح دموع ترقرقت فى عينيها وهى تغمغم:
-لا أنا بخير يا ريم , لا تشغلى بالك , مجرد حاجة الى بعض النوم , تصبحون على خير.
انصرفت ترافقها تمنياتهم القلبية لها بالسلامة والخير.


*************************

SHELL 29-10-18 09:21 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انسلت ريم بهدوء مستغلة فرصة اندماج عمتها فى حديث ودى مع المحامى لتفاجئ سماح فى المطبخ ,وجدتها واقفة تجفف الأطباق المغسولة وهى تائهة بعالم الأحلام فقامت بممازحتها بحركة تدغدغها فشهقت الفتاة فزعا وهى تنتفض برعب كادت أن تفلت طبقا من بين يديها وقالت بطريقة طفولية تنفس بها عن ضيقها:
-آنسة ريم ,لقد أفزعتنى , ألن تكفى عن هذه الحركات الصبيانية ؟
كانت دوما تتبسط معها فى الحديث ولم تكن ريم تمانع أبدا مثل هذه العفوية فى علاقتها بسماح وأخذت تضحك بسعادة وهى ترى ملامح الفتاة تتغضن من أثر حركتها المفاجئة وقالت بمرح:
-يا هنائه وسعادته ذلك الذى يشغل بالك ؟
أجابتها الخادمة وهى تعيد الأطباق الى الجارور الخاص بها:
-لا يوجد أحد يا آنسة ريم.
غمزتها ريم بمكر وهى تشاكسها:
-أتخفين شيئا عنى يا سموحة ؟
أجابتها وهى تتعلل بانشغالها بالعمل:
-أبدا ,أنا فقط كنت أفكر بـ ... بـ ..
- بـ ... سعد.
انتزعها الاسم من مكانها كمن قرصته نحلة وقالت بارتباك:
-س .. سعد من ؟
أجابتها ريم وهى تمثل كمن يحاول أن يقدح زناد فكره ليتذكر شيئا ما وأخذت تقلد لهجة سماح:
-س.. سعد ... سعد , أليس هذا هو مساعد عم ( مصيلحى ) الطباخ ؟ ذلك الشاب الوسيم قمحىّ اللون ,الذى يصفف شعره من المنتصف الى أعلى هكذا .
وأشارت بيدها الى قمة رأسها وهى تراقب سماح واللون الأحمر يغزو خديها فأجابتها بكسوف:
-يوووه يا أنسة ريم , وما الذى يجعلنى أفكر به ؟
-ما فائدة الانكار يا خبيثة ولقد رأيتكما بعينىّ صباح اليوم تتناجيان كزوجى العصافير قبل أن يلمحكما عم ( مصيلحى ) وينهركما زاجرا.
وانطلقت ضحكاتهما معا بعد أن انحلت عقدة الخجل لدى سماح فأجابتها معترفة:
-لا شئ , انه فقط مجرد اعجاب ,والله العظيم لم أخرج معه سوى مرة واحدة.
رفعت ريم حاجبيها دهشة من اعترافها السريع:
-هكذا وقعت فى الفخ ,خرجتى معه , يا سلام ؟ والى أين اصطحبك ؟ وماذا قال لك ؟ هل حاول أن يمسك بيدك ؟ هيا أخبرينى بكل شئ .
-آنسة ريم ! لا يصح هذا الكلام ,ثم أننى مشغولة الآن واذا جاء عم ( مصيلحى ) غدا ورأى أننى لم أنهِ عملى سوف يشوينى حية.
لم تتمالك ريم نفسها من الضحك لهذا التشبيه الساخر فلسانه الحاد أفظع من شواية الفحم ,ولكنها أصرت عليها أن تقص عليها كل ما دار بينهما , كانت بحاجة الى صحبة لذيذة تخرجها من جو الاكتئاب المسيطر على المنزل ولتلهيها عن تفكيرها بذلك الوسيم الساحر جاسر الذى قابلته بالأمس لأول مرة , وقد كان لقاءا يفوق أكثر تصوراتها خيالا.
-هيا يا سموحة , لا تكونى كتومة هكذا عن صديقتك , أريد أن أعرف كل التفاصيل المملة.
شعرت سماح بأهميتها المتزايدة لدى انصات الفتاة لها وهى تخبرها بما حدث بينهما من حوار محاولة اختزال اللحظات العاطفية فى اعترافه ,وحين أنهت روايتها أطلقت ريم تنهيدة حارة وتاهت بعالمها الخاص تسترجع لقائهما الخاص.


***************

SHELL 29-10-18 09:39 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


استطاع كريم اللحاق بابن عمه الذى غادر المنزل فى خطوات سريعة متهورة ونجح بالامساك به قبل أن يركب سيارته وقال له بصوت متقطع من شدة اللهاث:
-يا الهى ! انتظر يا سيف , لقد تقطعت أنفاسى من الجرى ورائك ,انتظر!
نفض يده التى وضعها على كتفه بعنف وهو يتراجع الى الخلف مهددا:
-ابتعد عنى يا كريم , لا أريد أن أرى أحدا أو اسمع شيئا, دعنى لحالى.
-وكيف يكون هذا يا ابن العم ؟ ألسنا أصدقاء واخوة ؟
ابتسم سيف بسخرية مريرة وهو يتشدق:
-نعم نحن أصدقاء واخوة , ألم ترَ بنفسك أننا آخر من يعلم فى هذا البيت , لقد تزوج الباشمهندس رفيق من ابنة العم المنبوذ والتى اتضح فيما بعد أنها ابنة عمتك الضائعة والتى لم نكن نعلم أيضا بوجودها على قيد الحياة , والأدهى من ذلك الدور المشرف الذى لعبه والدى بهذه القصة , كل هذا وتريد منى أن أبقى ؟
-وما الذى يكدرك هكذا ؟ انه ليس ذنبك فعمى شخص بالغ ومسؤول عن تصرفاته ,والا فعليك أن تحاكمنى لما قام به أبى منذ سنوات طويلة حين هجر أمى وتزوج امرأة أخرى.
كانت نظرات كريم تطفر بالألم المرتسم بداخل أعماقه والذى طالما حاول أن يخفيه حتى عن أقرب الناس اليه متظاهرا بالقوة والقدرة على النسيان ,ولأول مرة يراه سيف بهذا الشكل ,ويبدو أن كريم قد أصابه الندم لاظهاره ضعفه الواضح وكشف عن غطائه الذى كان يستر به النقص الذى عانى منه طوال فترة طفولته وشبابه ,شعر سيف بالتعاطف يتعاظم نحو ابن عمه وهو الذى جاء ينشد مواساته فى حين أنه هو بأمس الحاجة الى مساندته ,فالتفت اليه محتضنا اياه بين ذراعيه القويتين ضاغطا على ضلوعه بقسوة كما اعتادا أن يفعلا منذ صغرهما لاثبات تفوق أحدهما على الآخر , مما جعل كريم يدفعه ممازحا وهو ينهره:
-كفى يا فتى , سوف تعتصرنى كالأفعى .
-اعترف بأننى الأقوى.
وكوّر قبضته فى الهواء مظهرا عضلة ساعده المنتفخة والتى تظهر قوة لا بأس بها.
-حسنا أيها المصارع ,تعالى لنذهب بعيدا فيبدو أننا نحتاج الى استنشاق هواء نظيف بعيدا عن هذا الجو الملوّث.
-هيا الحقنى بسيارتك ولنرَ من منا سوف يسبق الآخر.
تقبل كريم التحدى بصدر رحب وهو يهرع نحو سيارته ليديرها ببراعة لاحقا بابن عمه الذى انحرف بمهارة ليتجاوز البوابة الحديدية بلمح البصر ,فيما قام هو بملاحقته عن كثب سامحا له بالتفوق النسبى عليه فى البداية ,كانا يتجهان نحو مكانهما المفضل بوسط البلد ,ذلك المقهى الأنيق الخاص بأحد الفنادق الفاخرة والتى يطل على كورنيش النيل.
وباللحظة الأخيرة استطاع كريم انتزاع المكان الذى أراد أن يصف به سيف سيارته مشيرا له بعلامة النصر وشعر بنشوة الانتصار حين لمح نظرة سيف المغتاظة وهو يلعن سوء تقديره لقوة خصمه.
صف سيف سيارته بمكان آخر قريبا واستعد ليغادر مقعد القيادة وقام بصفع بابه بعنف وكأنه ينوى تحطيمه فمال عليه كريم الذى لحق به قائلا بصوت ساخر وهو يصفر لحنا غربيا معروفا:
-هل رأيت يا ابن عمى العزيز أن المسألة لا تحتاج الى عضلات , الأهم يكمن هنا.
واشار الى رأسه غامزا فأجابه سيف بضيق:
-حسنا أيها الذكى , لقد تركتك تنتصر علىّ مرة واحدة فلا تنسَ من هو صاحب المركز الأول دائما.
قهقه كريم عاليا وهو يغالب نفسه :
-صاحب المركز الأول ليس هنا الآن , لا بد أن يرتوى الآن من نبع الحب الذى تدفق فجأة.
كان يقصد رفيق بكلامه ,وشعرا هما الاثنين بأن ابن عمهما شخص محظوظ لأنه قد وجد الحب الحقيقى أخيرا وسط كل هذه الفوضى ,وقد كانا يغبطانه بداخلهما لأنه استطاع أن يتغلب على الصعاب ليجتمع بمن أسرت قلبه وان خالط هذا الشعور احساس بالخيانة لأنه أخفى عنهما هذه التفاصيل المهمة.
أخرجه سيف من شروده حين جذبه من ياقة قميصه هازئا:
-هيا بنا .
عدّل كريم من هندامه بحركة مازحة وهو يقول بغضب مصطنع:
-لقد أفسدت طلتى حقا , يا لك من مفسد للملذات , كيف سأوقع الفتيات بنظراتى الساحرة ان رأتك احداهن وأنت تجذبنى هكذا.
تشاركا فى الضحك وهما بالدخول الى الفندق حين لمحا فتاتين تديران ظهريهما لهما تقفان بارتباك على الرصيف القريب منهما ,واثنين من الشباب العابث يحاولان معاكستهما بكلمات خارجة عن اطار الأدب ويبدو أنهما كانا يحاولان قطع الطريق عليهما.
نظر كلا من سيف وكريم الى الآخر بمغزى مفهوم وانطلقا يخلصان الفتاتين من هذا الموقف السخيف فاقتربا بهمة من الشابين المفتولى العضلات فابتدرهما سيف بقوله برنة غاضبة ناهرة:
-ماذا تظنان نفسيكما بفاعلين ؟
وقام كريم هو الآخر بمناورة ليطبق غليهما من الجانب الآخر وهو يشيح بيده ليصرفهما:
-هيا ابتعد عن طريقهما , فلا يصح منكما هذا التصرف.
لم يبد على ايا من الشابين أنهما سوف يستمعان الى النصيحة وقررا بدء المعركة بقول أحدهما:
-وما شأنك أنت ايها التافه ؟
وقال الآخر وهو يشمر عن ساعديه بحركة مقصودة:
-ان هاتين البنتين صديقتان لنا.
وهمت الفتاتان بالاعتراض ولم تكن احداهما قد دققت النظر الى وجه مخلصها فشهقت احداهن وهى تقول غير مصدقة:
-كريم !
سماعه لنبرة الصوت المألوفة على أذنه جعلته يحدق بوجه الفتاة الجميلة التى أطلقت اسمه بهذه النغمة الرائعة من بين شفتيها فابتسم ببطء على الرغم من جسامة الموقف الذى يواجهونه وهتف متعجبا:
-هديل !
ثم استدرك موقفه فانطلق نحو الشاب الأقرب لها وأزاحه بعيدا فى حركة غاضبة وهو يهدده:
-ابتعد عنها فورا والا فلن تستطيع أن تتعرف على ملامح وجهك الوسيم بعدما أنتهى منك.
رد عليه الآخر مكابرا:
-ولماذا أبتعد أنا ؟ فلتذهب أنت من هنا فلن أترك قطعة البقلاوة هذه تفلت من بين يدىّ.
-أنها خطيبتى ايها الأبله , هيا اذهب من هنا قبل أن تنال عقابك منى.
فيما كان سيف يراقب وجه الفتاة الأخرى المصدومة وهى تشاهده يدافع عنها ببسالة وشهامة وانتهز الفتى الآخر فرصة انشغاله بالتحديق بها ليوجه له لكمة قوية فى فكه أطلقت الدماء من جرح بشفته السفلى فانتبه من شروده وتفادى لكمة أخرى برشاقة ثم قام بدفعه بقبضة يده ليلكم معدته فتأوه متألما ليعاجله بركلة بين ساقيه كوّمته أرضا وهو يئن محاولا الدفاع عن نفسه وهو يقول باستسلام:
-حسنا يا سيدى , سأنصرف , أرجوك لا تضربنى ثانية.
وقام صديقه بانهاضه من على الارض وهو يجره من ذراعه مبتعدين عن ساحة المعركة ويهمهمان باعتذارات كثيفة اتقاءا لشر هذا الرجل الضخم.
أسرع كريم نحو ابن عمه ليطمئن على سلامته وهو يرى جرحه ينزف بغزارة:
-سيف , هل أنت بخير ؟
أجابه سيف ببرود وهو لا يغفل عن نظرات مها المشدوهة وهى تقترب منه ببطء:
-نعم , أنا بخير , لا تقلق.
قامت مها باخراج منديلا مبللا من حقيبتها وسارعت لمسح خيط الدم الذى انسال من شفتى سيف ليغرق ذقنه بلمسة حانية وهى تقول باضطراب ملحوظ:
-أنا آسفة حقا لما أصابك بسببى .
كان لتناقض تأثير لمسة أناملها الناعمة على بشرته الخشنة بفعل ذقنه النابتة فعل السحر على قلبه الذى شعر به يخفق بقوة وهو يتنسم عبيرها الزكى فيما شعرت هى بتوتر فى أعصابها حين أمسك بالمنديل فى يدها فلامست أصابعه باطن كفها وأزاحه عن وجهه فى حركة عصبية ونظر الى عينيها بعمق مستفسرا:
-هل أنت حقا آسفة ؟
تبعثرت الكلمات على شفتيها محاولة الخروج لتبدى ندمها ولكنها ما لبثت أن خفضت بصرها بحياء فاحتار سيف لمرأى هذه النظرة الجديدة عليه , لقد كان يعتقد أنها كأى سكرتيرة أخرى عرفها فى حياته لا بد أنهن يتصنعن هذا الخجل الغير حقيقى لتبدو وكأنها ملاك يمشى على قدمين ,وحدثته نفسه بأن هذه الفتاة تختلف عن غيرها ,لا بد أنها تجيد التمثيل لتخدع شخصا متمرسا مثله بهذه السهولة.
فيما كانت هديل تردد عبارات الشكر وهى ممتنة لتدخل رب عملها وابن عمه فى اللحظة الأخيرة لانقاذهما من هذا الموقف المحرج وشعرت بنظرات كريم المقيّمة لها وابتسمت حين تذكرت كذبه المقنع حين أخبر الشاب أنه خطيبته ,وغالبتها رغبة عمياء لتحلق بعيدا متخيلة أنها فعلا مخطوبة لهذا الشاب البالغ الرجولة والأناقة ,وأنها سوف يدافع عنها لأنها تخصه هو وحده.
-ما الداعى لهذه البسمة ؟
-هه .
انتبهت من شرودها على صوته الآمر المسيطر ليخرجها من عالم أحلامها الوردية فأشاحت بوجهها بخجل فطرى وهى تردد كأنها تنفى عن نفسها تهمة خطيرة:
-لا شئ , فقط كنت أفكر أن الله أرسلكما بالوقت المناسب لنجدتنا , شكرا مرة أخرى , هيا يا مها ألن ننصرف ؟
كانت مها بعالم آخر واقفة تحملق فى عينى سيف الآسرتين لها وهى ما زالت غير واعية لسؤال صديقتها الزاجر فجذبتها بيعدا عنه وهى تحثها على الاسراع للمغادرة فحاولت مها الاحتجاج قائلة:
-ولكننا لم نبدأ السهرة بعد يا هديل !
تصرف كريم بسرعة بديهة قبل أن تضيع منه الفرصة التى قدمت له على طبق من فضة فقام بسؤالهما:
-هل كنتما تنويان قضاء السهرة هنا ؟
أجابته مها بصراحة :
-نعم ,لقد فكرنا أنه يمكننا أن نسهر ولو ليوم واحد بهذا المكان الراقى.
ورنت بنظرها الى المبنى الشاهق الارتفاع من خلفهم.
قامت هديل بتعديل جملة صديقتها:
-ولكن يبدو أن الوقت قد تأخر ,هيا يا مها لننصرف , لا نريد أن نعطل السيد كريم والسيد سيف عن سهرتهما.
قلّد كريم لهجتها الرسمية ضاحكا:
-السيد كريم !
ثم اقترب ليهمس بأذنها بطريقة مازحة لا تتناسب مع الوقار الذى حاول اظهاره وهو يقول:
-لقد كنت كريم فقط منذ خمسة دقائق ,ثم أنسيت أنك خطيبتى ؟ وهل يعقل أن يترك المرء خطيبته وحدها ؟
وقام بتقديم عرض لا يمكن رفضه :
-هيا بنا لنستكمل السهرة معا , الا اذا كنتما تنتظران أحدا؟
-حقا ؟ لا , لا يوجد أحد بانتظارنا , لقد قررنا الخروج بمفردنا.
اندهشت مها من عرضه الغريب وشعرت باللوم تجاه صديقتها لتسرعها بنفى وجود رفقة لهما وتمنت لو استطاعت أن تتعمد المماطلة فى الموافقة فها هما قد تورطتا بهذا الاجتماع المفاجئ.
شعر سيف بالحنق من دعوة ابن عمه للفتاتين دون استشارته , فما كان ينقصه الا الخروج مع احدى السكرتيرات اللاتى تعملن فى شركتهم ,لقد أقسم ألا يقع بنفس الفخ الذى سبق لأبيه بالسقوط فيه ,ولكنه وجد نفسه متورطا فى هذه السهرة وما باليد حيلة , فليكن اذا أردت هذه الحرب فمرحبا !
قطع الصمت أخيرا بقوله بلهجة حاسمة:
-هيا بنا حتى لا نضيع المزيد من الوقت.
ومال نحو مها ليتأبط ذراعها وهو يواجهها بقوله وكأنها تهمة:
-أتعلمين لم أكن أعرف أنكما صديقتان ؟
أجابته بلهجة ذات مغزى:
-أنت تجهل الكثير عنى.
-ولمَ لا نصحح هذا الخطأ الجسيم ؟
كانت دعوة غامضة تشى بمغامرة غير مضمونة العواقب ربما هى أكبر من طاقتها على التحمل.
وتوجه الأربعة الى الداخل وكل منهم يحس بمشاعر متضاربة.


*****************

SHELL 29-10-18 09:44 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثامن عشر


http://www.gifsanimes.fr/images/f/fl...mes-597877.gif

SHELL 04-11-18 07:26 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل التاسع عشر


http://4.bp.blogspot.com/_sI3vutchgp...255B1%255D.gif

عادت ريم الى غرفتها وهى تحث الخطى مسرعة لتتحقق من هاتفها الخلوى ,فربما يكون جاسر قد اتصل بها وهى غافلة عنه مستمتعة بحديثها المبسط النابع من القلب مع سماح , تلك الفتاة البسيطة المتسامحة ,ان أقصى طموحاتها الغالية أن تضمها شقة صغيرة هى وسعد الذى عرض عليها الارتباط به حين تتيسر أموره ويستطيع أن يبتاع مسكنا مناسب لحياتهما الزوجية المقبلة ,وشعرت بالسعادة تغمرها لأنها وجدت فى الحياة من يتعامل بتلقائية وحسن نية , فما زالت الدنيا بخير طالما تواجد أمثال سعد وسماح ,انهما يكدان بعملهما الشاق يوميا ويحرمان نفسيهما من مجرد قسط بسيط من الراحة ,حتى يوفرا القرش فوق الآخر ,لينفقا على عائلتيهما فكما أصبحت سماح هى المسؤولة عن أمها واخوتها الصغار بعد وفاة ابيها فسعد ايضا يعد نفسه المسؤول عن أسرته على الرغم من وجود أبيه الا أنه قد أحيل الى المعاش وقل دخله الشهرى كثيرا فأصبح سعد كونه الابن البكرى مشاركا بهذا الحمل الثقيل ,ولم يمنعهما هذا العبء الذى ينوء بحمله الجبال أن تتفتح قلوبهما تتوق الى مشاعر الحب الطاهر ,وكان الشاب أكثر من مصمم على الدخول من الباب كما يقال ,فلا يحتمل أن يمس أحدهم سمعة حبيبته بحرف واحد ,ولم تملك ريم نفسها من أن تعد سماح بتوسطها لدى كريم ليفاتح صديق له يعمل بمشروعات اسكان محدودى الدخل حتى يصبح فى مقدورهما الاقتران سريعا وقد شكرتها الفتاة بحبور وهى لا تكاد لا تصدق نفسها.
يا ليت حياتها تكون بهذه القدر من البساطة والسعادة البدائية النقية التى لا يشوبها شائبة ,فالحياة جميلة تستحق أن نرتشف كل قطرة سعادة تهبها لنا , فمن يعلم ما سيأتى به الغد ؟
وجدت أن خوفها كان فى محله حاول جاسر الاتصال بها عدة مرات ويبدو أنه قد يئس من ردها فعندما عاودت الاتصال به وجدت هاتفه مغلقا.
تملّكها اليأس والاحباط فهى متلهفة لسماع صوته القوى المؤثر ,وهو يحادثها بشوق ليقص عليها ما دار من أحداث يومية ,فأصبحت تدمن على حكاياته الطريفة وهذا يعود الى أسلوبه البارع فى ادراة الحوار ,يمكنها أن تقضى ساعات تستمع اليه دون كلل أو ملل ,لقد اقتحم حياتها الخالية بدون استئذان وأصبح يمتلك كامل اهتمامها فى أيام قليلة ,أخذت تتذكر كيف تقابلا بهذا المكان الأنيق وسرحت الى حيث جلست تنتظره بلهفة غير مسبوقة ,وحيث كانت جالسة بمفردها الى منضدة بعيدة نسبيا عن الزحام والضوضاء التى تعم المكان ,سقطت سلسلة مفاتيحها من حقيبتها حيث كانت تعبث بمحتوياتها دون أن تشعر فانحنت لتلقطها ,وكانت لحظتها لم تشعر باقتراب شخص منها ليسبقها بثانيتين فيحتوى كفها والسلسلة سويا ,ارتجفت لدى اطباقه المحكم على أصابع يدها وأطراف المفاتيح الحادة تغرز بقوة فى لحمها الطرىّ ,فرفعت رأسها نحو هذا المقتحم الوقح ,سمعت صوته بدا مألوفا وهو يسألها:
-هل يمكننى أن أجلس على طاولتك أم أنك تنتظرين أحدا ؟
-أننى أنتظر صديقا ,ولكن لم لا تجلس على احدى الطاولات الشاغرة ؟
ناولها السلسلة بتمهل ويبدو عليه أنه غير متعجل للرحيل وتابع بأسلوبه الحيادى:
-كما ترين فجميع الطاولات مشغولة ,ولدى موعد هام مع فتاة رائعة ,ولا أريدها أن تأتى وترحل بدون أن أستطيع مقابلتها.
التقطت سلسلتها الفضية منه وهى تحاول أن تستعيد نبرات هذا الصوت
وسألته مستفسرة عن هويته وهى مندهشة من جرأته الكبيرة:
-من أنت ؟
شهقت وهى ترى ابتسامته الجذابة تتسع كثيرا وهو ينحنى نحوها ليلتقط كفها مرة أخرى ويلثمه برقة قائلا:
-جاسر محمود سلامة فى خدمتك يا آنستى.
سحبت يدها بسرعة وكأن نارا أحرقتها وقالت متلعثمة من أثر العاطفة المفاجئة التى غزت قلبها:
-ريم محمد عبد العظيم
قامت بالتعريف عن نفسها مقلدة أسلوبه الرسمىّ فاتخذ مجلسه على مقعد مقابلا لها وهو يقول بحبور:
-تشرفنا.
ابتسمت وهى تزيح خصلات شعرها الحريرية التى انسابت أمام عينيها بحركة عفوية ,فانقبض قلبه لرؤيتها بهذه الفتنة الطاغية ,لقد أيقن أن الأمر لن يمر بهذه البساطة ,ربما عليه أن يتراجع فعليا قبل أن يحدث ما يندم عليه ,لماذا لا يطاوعه قلبه على ايذاء هذه المخلوقة الرائعة التى لم يقابلها الا منذ بضعة دقائق وجلس محدقا بتقاطيعها الحلوة المحببة الى القلب , من يستطيع أن يراها ولا يقع صريعا لهواها ,بهدوئها وبرائتها ,بنظراتها الشغوفة ,بغمازتها التى تتراقص على جانب فمها ,تنحنحت ريم حتى تقطع الصمت المخيّم عليهما فاستوضحت الأمر منه متسائلة:
-ألن تخبرنى لماذا حادثتنى هاتفيا ؟ ولمَ طلبت مقابلتى هنا ؟
استفاق على صوتها الجذاب فأولاها كامل اهتمامه لينصت اليها وسألها مغيرا لمسار الحديث وهو يقود دفة الحوار بجدارة:
-أعتذر أولا عن تأخيرى ,واسمحى لى أولا أن أدعوك الى تناول مشروب.
ثم أشار للنادل فأقبل عليهما مسرعا وسألها جاسر بأناقة:
-ماذا تفضلين ؟
-عصير أناناس.
-فليكن اثنين من عصير الأناناس ,شكرا لك.
وانصرف النادل ليلبى نداء الزبائن.
-لماذا اخترت أن تطلب مثلى ؟
شعرت بابتسامته تنحسر لثانية ثم استعاد هيئته الباسمة بسرعة بالغة وان شعرت ببعض التهكم فى نبرة صوته:
-لأجرب ما تفضلينه أنت ,أريد أن أعرفك أكثر.
-أنت غامض جدا ,وحتى الأن لم تشبع فضولى نحو اتخاذك مثل هذه الخطوة فى علاقتنا الافتراضية على النت.
-لقد سبق وأخبرتك أننى أريد توطيد علاقتى بك.
-أننا نتحدث منذ شهور يا جاسر ولم تفكر وقتها أبدا أن تطلبنى هاتفيا , فكيف عرفت رقمى ؟
-كما يقول المثل ( لا يتيه من يسأل ) , لى صديق يعمل بشركة الاتصالات وقد أسدى لى معروفا صغيرا ردا على صنيعى معه.
أربكتها صراحته الغير معهودة ,كانت تظن أنه سوف يماطل فى اجابته أو حتى يكذب عليها ارضاءا لها.
-ترى هل أشبعت فضولك ؟
ضحكت بمرح متناسية ما تركته خلفها من أحداث جسيمة بالبيت واندمجت معه فى حوار استمر ساعة لم تنقطع خلالها الابتسامات ولا التلميحات حتى فوجئ بها تنظر الى ساعتها بقلق وهى تعتذر منه بدبلوماسية:
-حقا لقد أمضيت معك وقتا طيبا , ولكننى تذكرت أنه علىّ الرحيل الآن.
-هل أضجرتك بحديثى الممل ؟
-لا , أبدا , أنت محدث لبق ,ولا يشبع من الاستماع اليك ,يمكننى أن أبقى معك لساعات طوال دون أن يخطر ببالى كلمة ملل ,ولكننى مضطرة حقا الى الانصراف.
-حسنا ,لن أواصل الحاحى المزعج عليك ,لأنه أول لقاء لنا ولا أريد أن أترك لديك انطباعا أوليا غير مستحب , الا أننا فى لقاءاتنا المقبلة لن أسمح لك بالهروب منى.
-وهل سنلتقى ثانية ؟
هل كان فى صوتها رنة أمل أنه يتمنى مواصلة رؤياها ,كانت بداخله رغبتان تتصارعان الأولى أن يتركها وشأنها , والثانية أن يواصل ما بدأه ,حسم هذا الصراع الداخلى فى لحظتها ليقرر أنه لن يقوى على اخراجها من دائرة حياته , ليس بعد أن رآها وتملكه فضول قاتل ليعرف لماذا وافقت على مقابلته وهى لا تدرى عنه شيئا سوى أنه صديق وهمى فى عالم التواصل الاجتماعى الغير حقيقى , هل هى متهورة بطبعها ؟ أم أنه قد استطاع أن يثير فضولها لتتعرف عليه ؟
-طبعا , الا اذا رفضتى أنت , فلن أستطيع أن أفرض عليك رفقتى.
-لماذا تشعرنى وكأننى كنت مجبرة على هذا التصرف ,اذا أردت أن أرفض مقابلتك فمن كان ليقنعنى بالعكس ؟
-ربما ما حدث هو سوء تفاهم ,لقد التبس عليك الموقف ... ما أردت قوله هو ... أننى بعد أن رأيتك الآن لن أستطيع مقاومة مشاعرى التى تغلبت علىّ ,بيد أننى لم أعرف ما هو رأيك بى , هل توافقين على مواصلة صداقتنا ولكن فى عالم الواقع ؟
اختار كلمة ( صداقة ) بعناية شديدة ليوحى لها بأن غرضه بعيدا عن أى شبهة ,فاطمأنت بعض الشئ الى لهجته وأومأت برأسها موافقة ,فما كان منه الا أن تناول كفها ليطبع قبلة صغيرة وهو يقول بثقة:
-اتفقنا يا ريم.
-عن اذنك.
-هل يمكننى أن أقلّك الى المنزل ؟
-لا داعى لذلك , أرجوك دعنا نتعرف أولا على بعض قبل أن نقرر خطوتنا التالية.
بدأت تسلك منهج التعقل حتى لا تفضحها مشاعرها ,وعلى الأقل لا تفقد احترامها لذاتها ,وابتسم لها مؤمنّا على رجاحة عقلها فتركته وانصرفت لبعاود هو جلوسه الى المنضدة وهو شارد الذهن مشتت الفكر ... لقد قلبت هذه الفتاة موازينه من أول نظرة ,هل يتراجع أم يكمل مسيرته ؟
أيا كان قراره فلن يكن سهلا عليه أن يفصل العاطفة عن هذا القرار ,وهذا ما لم يضعه فى الحسبان.


***************

SHELL 04-11-18 07:34 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 


اتخذوا طريقهم الى الداخل حتى يبدأوا سهرتهم , وشعر الجميع بالانسجام فى ظل جو هادئ من الموسيقى الخافتة التى تنبعث من المرقص البعيد نسبيا عن طاولتهم التى اختارها كريم بعناية حتى يستطيع تجنب الازدحام ,وقد سحب مقعدا لهديل حتى تجلس عليه وقد رمقته بنظرة شكر وامتنان رقيقة اخترقت شغاف قلبه ليتملكه احساس جديد نحوها ,فهو يراها بصفة يومية فى مكتبه تعمل الى جانبه تتلقى أوامره لتنفذها فى طاعة عمياء ,لم تجرؤ مرة واحدة على مناقشته مهما كلفها بأعمال لا طاقة لها بها ,وها هو الآن يراها بعيون جديدة بعيدا عن الشركة ,كأنه على موعد مع فتاة جميلة ,ما الذى دهاه ؟ كيف شطح بأفكاره لتسلك هذا الاتجاه الخطر ؟
لا بد أن ينتبه لمسار تفكيره والا أغرقه ببحر هائج لا قرار له.
فيما أزاحت مها المقعد المجاور لصديقتها قبل أن يحاول سيف أن يحذو حذو ابن عمه فنظر لها بسخرية مقيتة وهو يرفع حاجبا بطريقة استفزت مشاعرها وكاد لسانها أن يفلت بما يستحقه هذا المغرور المتعالى ,بيد أنها تغلبت على طبعها المتهور باللحظة الأخيرة مكتفية بالرد عليه بذات الابتسامة الهازئة على شفتيها.
بعد أن جلس الرجلين على مقعدين مقابلين لهما ,هرع ناحيتهم النادل ليتلقى طلباتهم وهو يرسم على وجهه ابتسامة دافئة قائلا:
-مرحبا,المكان ازداد نورا بقدومكم.
بدا عليه أنه يعرفهما جيدا ,وقد خمنت هديل أنهما يترددان على هذا المكان كثيرا ,انتبهت على صوت مديرها يسألها بلطف:
-ماذا تشربين يا هديل ؟
-أأ ... عصير أناناس.
والتفت سيف يحدث صديقتها بلهجة أقل ودية:
-وأنت يا مها ماذا تفصلين؟
تطلعت نحوه بنظرة ناعسة وهى تلقى باجابتها بصوت منخفض :
-سأترك لك الاختيار, ماذا تفضل أنت؟
حينما ألقت الكرة بملعبه لم يتردد باحراز الهدف قائلا بطريقة مباشرة:
-حسنا , ما دامت هذه هى رغبتك ,فلتجربى عصيرى المفضل ,أحضر لنا اثنين من عصير الفواكه الخاص.
وأعطاه كريم طلبه الخاص هو الآخر.
انكسر حاجز الصمت بينهم حين بدأت مها فى توجيه الحوار الى موضوعات عامة بلباقة تحسد عليها ,وشعرت هديل بنفسها تتجاوب مع الرجل الجذاب الذى كان يتأملها بوضوح محاولا استكشاف الجانب الغامض من شخصيتها ,وتخلى سيف عن صمته المقصود بعد فترة قصيرة ليدير دفة الحديث بشخصيته القوية موزعا اهتمامه على الجميع بلا استثناء .
بعد أن انتهوا من احتساء المرطبات ,صدحت الموسيقى بلحن غربى شهير ينتمى الى النوع الرومانسى الحالم ,فبدأت مها تنقر بأطراف أصابعها على المائدة متناغمة مع اللحن وجسدها يهتز ببطء وئيد مغمضة عينيها ,فوجئت بلمسة دافئة على ذراعها العارى ,فتحت عينيها متأملة سيف الذى وقف مبتسما بالقرب من مقعدها مادا يده الأخرى ليدعوها الى الرقص ,فبادلته البسمة بصفاء وهى تنهض لتلحق به فى استجابة فورية بدون أدنى تردد.
فيما لاحقتها نظرات صديقتها الحاسدة لها على انطلاقتها الودود بدون تحفز ,لم تغب هذه النظرات عن عينى كريم الثاقبتين ولكنه ظل يراقبها بكسل عاقدا ذراعيه أمام صدره دون أن يبد عليه أى رد فعل ,سألها بتراخٍ:
-أتودين أن ترقصى ؟
-لا ,فأنا لا أجيد الرقص مثل مها.
-حقا ؟
كان متعجبا من ردها الصادق وشعر بواجب نحوها فتملكته رغبة طائشة فى التسرية عنها ,تابعته وهو يتجه اليها ليسحبها من مرفقها مشجعا:
-اذن دعيى أعلمك , هيا.
حاولت الامتناع باصرار الا أنها أمام الحاحه المستمر انصاعت له دون أية مقاومة ,فما الجدوى من محاولة الجدال مع هذا الرجل الذى يبدو عليه أنه ينفذ ارادته دون التأثر بمن حوله.
انضما الى رفيقيهما الآخرين وقد غمزه سيف حين لمحه الى جانبه قابضا على كف هديل الرقيق فيما ذراعه الأخرى تحيط بخصرها النحيف بلمسة تملك ,ارتجف جسدها من جراء لمسته القوية فأشاعت موجات من المشاعر المتحررة من معقلها ,لتجتاح كل كيانها ,فأكثر أحلامها طموحا لم يكن ليصور لها مشاركته بالرقص فى مكان كهذا ,واستجابت لخطواته الخبيرة التى ترشدها بصبر وتأنٍ ,فوجدت نفسها تتقن الحركات فى فترة قصيرة.
أما سيف فقد شدد من احتضانه لرفيقته الفاتنة وقد وجدت مها نفسها مسجونة بين ذراعيه القويتين اللتين أسرتا خصرها بقبضة حديدية ,فأحاطت عنقه بيديها الناعمتين لتلمس الخصلات العسلية الناعمة أسفل رأسه ,شعرت بجسده يتصلب فجأة حين تلاعبت أناملها دون وعى منها بخصلة من شعره ,فحاولت الابتعاد قليلا عن أنفاسه الحارة المتسارعة التى لفحت جانب وجهها القريب من شفتيه ,كان يفوقها طولا ببضعة سنتيمترات على الرغم من ارتدائها لحذاء ذى كعب عالٍ ,منعها بتسلط من التحرك بعيدا عن حضنه الدافئ هامسا بأذنيها:
-اهدأى ولا تخافى , فلن يصيبك أذى من مجرد رقصة.
لم تتمالك نفسها من الاجابة ببرود حاد ,يتناقض مع خفقات قلبها المجنونة:
-ومن أخبرك أننى خائفة؟
شعرت به يبتسم ساخرا:
-ارتجافة جسدك ,أو ربما أنت ترتعشين لسبب آخر.
شعرت به ينتصر عليها مجددا ,ولم تكن تريد لغلبته أن تدوم فقالت بطريقة مدروسة:
-ربما هذا من تأثير نسمات الهواء الباردة.
كانا يدركان سويا أنها كاذبة ,ولكنه فضّل مجاراتها فى لعبتها حتى النهاية فأزاح يديه برفق عن خصرها , ليحيط بكتفيها مصطحبا اياها فى اتجاه طاولتهم بعيدا عن حلبة الرقص.
حينما لمحتهما هديل مبتعدين عن المرقص حاولت أن تنسل هى الأخرى الا أن كريم قد انتبه لمحاولتها اليائسة فأعادها الى جواره وهو يقول متسائلا:
-ماذا حدث ؟ ان الرقصة لم تنتهِ بعد.
أجابته محرجة من قربه البالغ منها وهى التى لم تخرج برفقة شاب من قبل:
-لقد رأيت مها تنصرف فأردت اللحاق بها.
-وتتركيننى وحيدا ؟
-أعتقد أن هذا القدر يكفى من الرقص.
قال لها متصنعا الأسى:
-وهل مللت منى بهذه السرعة ؟ لم أعتقد أننى معلم فاشل لهذه الدرجة.
حاولت التخفيف عنه دون أن تنتبه لمجرى حديثهما الذى جرها اليه:
-لا طبعا أنت بارع حقا فى الرقص.
-فى الرقص فقط ؟
بدت هديل حائرة لا تعرف كيف تجيبه ,فحاولت أن يكون ردها دبلوماسيا:
-أنت شخص ناجح فى حياتك العملية الى درجة كبيرة ,اضافة الى قدرتك فى التعامل مع الآخرين بطريقة استثنائية ,فلا أنسى حين استطعت بلباقتك أن تجنب الشركة خسارة كبيرة فى الصفقة الأخيرة حين نجحت باقناع الطرف الآخر بعدم جدوى الملاحقة القانونية,حينما تأخرت الشحنة بضعة أيام فى الجمارك,أنت تعمل لمدة ثمانِ ساعات يوميا دون توقف أو كلل ,ونادرا ما تحصل على اجازتك السنوية مثل الآخرين ,لم أرَ بحياتى شخصا يقدّس العمل مثلك ويتفانى باخلاص لانجازه,اضافة الى أنك تعامل مرؤوسيك بشكل محترم لائق وتقدّر الأكفّاء منهم وتعطيهم حقهم كاملا.
تأثر كريم من اطرائها الصادق ودفاعها الحار عن أسلوبه فى العمل , لم يهتم أى شخص آخر سوى والدته بالطبع بعمله يوما ما ,كان يشعر دوما بأنه مجرد ظل لابن عمه رفيق الذى يدير دفة المركب بكامل طاقته ,مجرد فرد فى طاقم الادارة يمكن استبداله بموظف عادى ,الا أنه فوجئ بسكرتيرته الفذة وهى تصوره على أنه بطل خارق يقوم بمجهود جبار لا يوازيه أى شخص آخر, لقد كان يحاول دفعها لمدحه على الصعيد الشخصى فاذا به يراها تقدر أدائه العملى الى حد بعيد.
-لم أكن أعرف أنك تريننى رئيسا جيدا.
-كيف استطيع انكار ما هو واضح كالشمس فى عين الكفيف !أنت بلا شك أفضل مدير تعاملت معه.
شعرت به يضمها متأثرا من قوة ايمانها بشخصه ,لقد كان فى أمس الحاجة الى أن يشعر بتفوقه وكفاءته ولو على الصعيد المهنى ,الا أنه أدرك أن اعجابها به يتجاوز الجزء العملى فقط متطرقا الى جانب شخصى جدا.
بعد أن انتهت الرقصة ابتعد كريم عنها فشعرت بالضياع يتملكها بعد أن لفها الأمان فى ظل وجوده الطاغى ,وأجبرت نفسها على الابتسام له دون أن يظهر عليها أثر الحرمان من دفء ذراعيه.
اتجها سويا حيث كانا ينتظرهما سيف ومها مرحبين بهما وبادرتها صديقتها بالسؤال :
-هل راقت لك الرقصة يا هديل ؟
أومأت برأسها بضعف غير قادرة على النطق حتى لا تفقد متعة الاحساس بالنشوة التى غلّفت لحظاتها الأخيرة مع كريم.
استطردت مها غير عابئة بصمت صديقتها:
-لقد أخبرتك من قبل بأنه عليك أن تتعلمى الرقص ,فهو متعة للعين والقلب.
أمّن كريم على قولها وبادرهم بطلب العشاء الذى ضم صنوفا غالية من أنواع الطعام قلما تناولتها هديل فأخذ هو على عاتقه مسؤولية تعريفها بمذاق كل نوع على حدة ,مرشحا لها أكثر من طبق لتستمتع بخبرته الواسعة فى هذا المجال , أما سيف فقد اكتفى بالنظر الى مها التى التقطت شوكتها بذوق وأناقة تنم عن تصرف سيدة من الطبقة الراقية وقد بدت أقل انبهارا من صديقتها بالجو العام للمطعم وروّاده الأثرياء.
لم تلق أيا من الفتاتين بالا لنظرات الفتيات الحاسدة لهما على رفيقيهما الجذابين ,فيما لم يعبأ سيف بنظرات الرجال المسلّطة على الفتاة الجالسة أمامه تتناول طعامها بصمت ,وان بدا عليه بعض الاهتمام حين لمح انحسار ثوبها القصير كاشفا عن ساقيها اللؤلؤيتين ,فقام بتنبيهها فى ملاحظة عابرة تعمّد أن يجعل صوته عاديا خاليا من أى تعبير:
-لمَ لا تعدّلين من جلستك قليلا حتى تصبحى أكثر راحة ؟
استوعبت تلميحه بسرعة خاطفة فيما تألقت نظراتها المتأنية على ملامح وجهه علّها تستكشف ما يوجد خلف قناع اللا مبالاة المصطنعة التى حاول الايحاء بها,وبدا أنها ستتجاهل طلبه للحظة ,فتناولت كوبا من الماء ترتشف قطراته ببطء ثم مسحت فمها بالمنديل على الطاولة لتهب واقفة تستأذنهم لاصلاح زينتها بالحمام , ثم التفتت توجه الحديث الى صديقتها التائهة فى بحر الهيام بلهجة واثقة:
-هديل ,ألا ترافقيننى الى الحمام ؟
فهمت دعوة صديقتها للابتعاد قليلا عن الرجلين فأزاحت شوكتها ونهضت مسرعة لتلحق بها:
-نعم ,هيا بنا , عن اذنكم.
أومأ الرجلين برأسيهما برشاقة فى ذات الوقت وفيما غابت الفتاتين عن أنظارهما التفت كلا منهما نحو الآخر ليتبادلا حديثا خاصا.
حينما دلفت مها وهديل الى داخل الحمام ,كان يبدو فارغا الا منهما فقامت مها باعادة طلاء شفتيها باللون الأحمر اللامع وهى تتأمل صورتها بالمرآة فى حين بقيت هديل تراقبها بهدوئها المعتاد ,سألتها صديقتها بمواربة:
-ألن تصلحى زينتك ؟ لقد أزيل طلاء شفتيك.
-هيا يا مها , أنا أعرفك حق المعرفة ,لماذا أردت أن نبتعد عنهما بهذا التوقيت بالذات ؟
كانت مها منزعجة جدا ولكنها لم تسمح لانفعالها بالسيطرة على تصرفاتها فهزت كتفيها بلا مبالاة وقالت تحاول الهروب من مواجهة هديل:
-لا شئ ,لقد أردت الذهاب الى الحمام فقط.
-هل ضايقك تعليق سيف على جلستك ؟
أطلقت ضحكة ساخرة قصيرة وهى ترتجف فعليا:
-أنه يرانى يوميا فى الشركة بثياب أقصر من هذه ,وأنا معتادة على نظرات الرجال لى فلم تعد تؤثر بى , الا أننى حقا لم أرَ نظرة احتقار كهذه من قبل فى عينى رجل !
ورغما عنها بدأت دموعها فى الانهمار لتهدد بافساد كامل زينتها فاحتوتها هديل بين ذراعيها مربتة على ظهرها لتواسى آلامها الظاهرة وقالت بموضوعية:
-ولمَ تعلقين أهمية على رأيه بك ؟
-لا أدرى , لقد ظننت أننى محصنة ضد هذه التعليقات ,وأخذت أحدث نفسى بأننى لا آبه بآراء الغير فى طريقة ملبسى وتصرفاتى ,حتى اصطدمت بهذا المتعجرف , ماذا يظن نفسه ؟
-اهدأى يا عزيزتى ,لا داعى لكل هذا التوتر ,كان يمكنك أن تتجاهليه تماما.
-صدقينى أردت أن أفعل هذا بشدة ,ولكن هناك ما يمنعنى حين أواجه نظراته الثاقبة أشعر بنفسى أعود كتلميذة صغيرة تواجه لأول مرة مشاعر الحب الأول.
-ماذا ؟ هل عدت لتتذكرى خالد ؟
اندهشت مها حينما سمعت اسم ( خالد ) يتردد على لسان صديقتها المقربة فعقدت حاجبيها مغمغمة بقلق:
-وما الذى جعلك تذكرين خالد الآن ؟
-أنت التى أوحيتى لى بذلك حين تحدثتى عن الحب الأول , ألم يكن هو حبك المراهق ؟
-هديل ... لقد سبق وأخبرتك بأننى قد أخرجت خالد من دائرة حياتى منذ زمن بعيد ,ولم يعد له مكان بتفكيرى.
-حقا ؟ ولم أشعر بأنك تتعمدين اخفاء مشاعرك ؟ ليس معقولا أن تنسيه بمثل هذه البساطة.
-بلى , لقد نسيته تماما وأخرجته من قلبى وعقلى.
لم تكن مها تكذب بهذا الشأن , فمنذ أن أخذت علاقتها تتوطد بهذا المدعو سيف رغما عنهما على اثر مواجهاتهم المتعددة والتى كانت تنتهى دوما بانتصاره عليها ,أخذ يحتل جانبا كبيرا من نطاق تفكيرها وبدأت تشعر بوجوده يطغى عمن سواه ,لا تستطيع أن تنكر ضيقها البالغ حين اضطرت الى انهاء علاقتها بخالد , حبيبها الأول الذى عرفت معه أروع المشاعر , المشاعر النقية البريئة , لقد أحبها خالد بدون أى غرض ,كل ما كان يتمناه أن يجمعهما بيت واحد ,أن تصير زوجة له مدى العمر ,ولشد ما كانت تؤمن بامكانية تحقيق هذا الحلم الغالى ,حتى أخبرها خالد ذات يوم بوجود فرصة عمل لها فى شركة الشرقاوى المعروفة ,وساندها حتى تلتحق بالعمل هناك ,ولم يعلما فى حينها أن هذه كانت بداية النهاية لقصتهما معا.
-أتمنى أن تكونى صادقة مع نفسك.
دفعتها كلمات هديل المخلصة لتتأمل حالها بمنظار جديد عليها , ما الذى سوف تجنيه من لعبة الانتقام الذى تحاول السعى اليه ؟ هل ستكون مستعدة فى النهاية لتحمل نتائجه الوخيمة على حياتها ؟ أفراد هذه العائلة ليسوا بالخصوم الذين يُستهان بذكائهم وقدرتهم الفائقة على التغلب على أعدائهم.
غسلت وجهها جيدا بالماء ثم أكملت زينتها مرة أخرى قبل أن تنظر لوجهها بالمرآة بثقة واعتداد لتطرح ضعفها جانبا وهى أشد تصميما على المضى قدما فى خطتها البديلة.
-هيا حتى لا نتأخر أكثر من هذا , لا نريد أن نسبب قلقا لسيف وكريم.
-ما أشد ما تلعبه المصادفة فى حياتنا , أليس كذلك يا مها ؟
-نعم ,بالتأكيد فأنا مؤمنة بالقدر وقدرته الغير عادية على صنع المعجزات.
وانصرفت الفتاتين عائدتين الى الطاولة وهما فى أبهى صورة.


**************

SHELL 04-11-18 07:37 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
نهضت فريال من مجلسها الى جوار ابنتها لتغطيها جيدا بعد أن استسلمت لنوم عميق وهى فى أحضان أمها المشتاقة ,وتأملتها بقلب أم عاشقة تاقت لنظرة عين من وحيدتها ,ثم أغلقت الباب خلفها بهدوء راجية من الله أن يتم شفاء أميرة على خير ثم انضمت الى مجدى بغرفة المكتب حيث كان ينتظرها بلهفة بالغة ,وما أن خطت قدماها الى الغرفة المغلقة ورأت ظل الرجل الجالس الى جوار المحامى حتى كادت أن تعود أدراجها دون انتظار فلمحها عادل الذى كان يجلس متخاذلا منكس الرأس ,وأسرع يناديها بأسى:
-فريال , أرجوك انتظرى.
واجهته شقيقته بشجاعة وقد استمدت القوة من عودة ابنتها اليها فأجابته بصوت يقطر غضبا وانفعالا أعمى:
-لا تنطق اسمى على لسانك مرة أخرى ,ماذا تريد منى ؟ ألم يكفك ما قمت به ؟
-أستمحيك عذرا ,ابقى لتستمعى الىّ.
-أستمع لك ! عجبا لوقاحتك يا أخى العزيز.
تدخل مجدى بالوقت المناسب حتى يهدئ من الوضع المتأزم بين الشقيقين فقال بأسلوبه الجاد الرزين:
-تعالى يا فريال ,عليك أن تنصتى لما يقوله ,وبعدها افعلى ما يحلو لك ,فلا يجرؤ أحد على لومك.
استدارت لتواجه الرجلين معا وهى متأهبة للهجوم فقالت باستخفاف:
-هيا ,اسرد علىّ أكاذيبك اللعينة ,وحاول أن تقنعنى بسلامة تصرفك وحسن نيتك.
تردد عادل قبل أن ينقل بصره بين أخته والرجل الآخر مستنجدا به لمساعدته فى الحديث الا أن مجدى أشاح بوجهه بعيدا رافضا أية محاولة لمد يد العون له ,صحيح أنه قد استمع لمبرراته الواهية ولكنه لم يتعاطف معه أبدا ,فهو يكره الشخص الضعيف المهزوز ولا يلتمس له العذر لما اثمت به يداه ,ولكنه مدين لفريال بهذا الحديث وبعدها سوف تقرر ما تريده ,ولن يتدخل ابدا ليضغط عليها فى اتخاذ القرار الذى تراه مناسبا.
-حسنا ابدأ , كلى آذان صاغية.
ومنحته أسوأ ابتسامة هازئة يمكنها أن توجهها نحو شقيقها الذى يكبرها بخمسة أعوام ,فأطرق برأسه نحو الأرض ساردا ما حدث بذلك اليوم المشؤوم:
-كان أبى فى قمة غضبه بعد أن علم بزواجك السرى من ناجى وأصر على اصطحابك الى البيت ليعيدك الى الأمان كما ادّعى وقتها ,مبررا ذلك بمعرفته لنية ابن أخيه لاستغلالك على نحو سيئ حتى ينال منه ويجبره على اعطائه حصته من الميراث ,ثم حدث أن وضعتى طفلتك الصغيرة ذات يوم وجن جنون أبى فطالنى باخفاء الرضيعة فى احدى دور الايتام بصورة مؤقتة لايهامك بأنها قد ضاعت للأبد حتى يحررك من وهم الحب الذى عايشته مع ناجى ,فهو يعلم نيته جيدا ولم يكن ليتركه يستغل ابنتكما للحصول على مأربه وكنت وقتها أسعى لاثبات ذاتى وأننى جدير بثقة أبى فلم أكن أبدا الابن البكرى كمحمد الذى يستأمنه على اسراره ,ولم أكن شخصا لامعا كوجدى الذى يحبه الجميع ولم أكن الابن الصغير المدلل مثلك يا فريال الذى ينال رعايته ,كنت وحيدا فسعيت لأنال الحظوة لديه ,أوهمت نفسى بأننى لا أملك من أمرى شيئا وأنه علىّ اطاعة أوامره ,وحينما عدت بعد عدة أيام الى نفس الملجأ الذى تركت ابنتك أمامه ,لأسأل عن الطفلة التى قاموا بايوائها وأقوم باستردادها مرة أخرى نفوا أى صلة لهم بهذا الأمر وقالت لى مديرة الدار بالنص:
-لم نضم أى أطفال الينا منذ شهور عديدة ,ربما اختلط عليك الأمر مع دار أخرى , وعليك بالبحث فى مكان آخر.
أسقط فى يدى وشعرت بالرعب يجتاحنى فأخذت أردد أوصاف الطفلة وملابسها المميزة كما أننا كنا قد تركنا بلفافتها سلسلتك ذات اللؤلؤة حتى تكون علامة واضحة ,كل هذا ضاع هباءا منثورا فعدت أدراجى الى أبى لأخبره بهذه المصيبة ,أخذ يلقى باللوم علىّ ويحمّلنى مسؤولية ضياع ابنتك مرددا أننى شخص عديم الفائدة ولا أمل يرجى منى.
شعرت بعدها باحساس عميق بالذنب لم يفارقنى للحظة واحدة ,وكأن الله كان يعاقبنى على فعلتى هذه بحقك فلم أعد أرغب فى الحياة زاهدا فى كل ما أملك , حتى منى التى تزوجتها بعد قصة حب مشتعلة لم أعد أطيق حتى لمسها ,وتفاقمت المشكلات بيننا الى أبعد حد ,كانت تتمنى أن ننجب أخا أو أختا لسيف حتى يؤنسا وحدته ولكننى لم أعد قادرا على ممارسة حياتى بشكل طبيعى ,أخذت حالتى تتدهور يوما بعد يوم فأصابنى اكتئاب حاد ,أخذت أتردد على عيادات الأطباء النفسيين واحدا تلو الآخر ,وكل واحد منهم يصف لى نوعا من الأدوية المضادة للاكتئاب ,جربت كافة العقاقير الموجودة بلا طائل ,صارت حياتى مجرد خيالات أراها تتحرك كالأشباح أمام عينىّ ,وعرفت أن هذا عقابى على ما جنيته بحقك وحق ابنتك التى لا ذنب لها ,ان كنت قد تعذبتى بفقدانك لها فأنا كنت أتعذب بوجود الآخرين فى حياتى ,حتى ابنى الوحيد صار يكرهنى الآن ولم يعد يطيق رؤيتى بعد أن عرف حقيقتى الشنيعة ,ولا أقول أن هذا بكافٍ ,كلا فأنا أستحق المزيد من العقاب ,أنا ... أنا لا أستحق أن أحيا ...
وانهار باكيا بحرقة ثم هرول منصرفا الى الخارج دون أن تقوَ فريال على اللحاق به فقد تهاوت على أقرب مقعد لها وهى تشهد على عذاب أخيها المرير ,مرددة بأسى ومرارة:
-كيف طاوعك قلبك على ما فعلته بى يا عادل ؟ ما الذنب الذى جنيته بحقك ؟ سامحك الله يا أخى.
اقترب منها مجدى مهدئا وهو يحاول احتوائها بين ذراعيه لتدفن راسها بصدره وهى تبكى بحرقة ,,, تبكى جحود أبيها ,ولوعة فقدان طفلتها ,وأخيرا قسوة أخيها.
-ابكى يا حبيبتى ,ولكن لا تخشى شيئا بعد الآن فلن يؤذيك أحد ,لن يمسك بسوء أيا منهم لا أنت ولا أميرة ,أنا بجانبك ولن أتخلى عنك أبدا.
-أنا متعبة جدا يا مجدى ,لا أعرف كيف أتصرف ,من هو المذنب الحقيقى ؟ أهو أبى ,أم أنه كان يحاول حمايتى حقا كما ادّعى ,وممَ يحمينى ؟ من زوجى الذى كان يحبنى وكان ينتظر مولد طفلتنا بفارغ الصبر , آه يا ناجى , لو أعلم أين ذهبت ؟ لقد قيل أنك مت.
تشنجت يداه فوق كتفيها حينما ذكرت زوجها الراحل ,وأبعدها عنه بخشونة لتنظر له متسائلة عما فعلت لمضايقته:
-ما الذى ألم بك يا مجدى ؟
نظر لها متألما من قوة جرحها:
-على الرغم من مرور كل هذه السنوات الطويلة , وكل ما مررت به من أزمات بسببه ,ما زلت تشعرين بالحنين اليه , ما زلت تذكرينه بكل هذا القدر الهائل من الحب ,لا يمكن ,كيف تقدرين على ايلامى بهذا الشكل ؟
-أنا ؟ أنا يا مجدى , أؤلمك ! أنت الذى وقف بجانبى فى كل لحظة قاسية مرت بحياتى , أنت الذى انقذت ابنتى وحفظتها من الضياع ,أنت الذى اعادنى مرة أخرى الى الحياة بعد اعترافك بوجود أميرة على قيد الحياة ,كيف أؤلمك يا عزيزى ؟
حاولت أن تلمس وجنته بيديها لتزيح عنه آثار المعاناة القاسية فأزاحها بعنف لم تعتده منه ,وابتعد قائلا بجفاء:
-أنت تصرين على العودة الى الماضى ,لن تستطيعى أبدا التخلص من شبح ناجى الذى يحوم حولك ليهدد هذه الحياة الجديدة.
-ولم تريدنى أن أنساه ؟ انه والد ابنتى , لقد كنت زوجته ,ولم يكن خافيا على أحد ما بيننا من عشق ,ولكنك أنت مستقبلى فلماذا تقارن بينكما ؟
-لا لم يكن يحبك.
صرخ بعنف محاولا اقناعها للمرة الأخيرة بأنها تعيش فى وهم ,الا أنها هزت رأسها نفيا غير مصدقة ما تفوه به من كلمات مؤلمة لها, وقالت منتفضة بحدة:
-لماذا يجب على الرجل أن يكون أنانيا ؟ أنت فقط الذى احبنى بصدق , أليس كذلك ؟ علىّ أن أمحى الجميع من ذاكرتى ووجدانى ,حتى يخلو لك الجو ,لماذا لا تتقبل فكرة أنه كان يحبنى , هه أخبرنى ! واجهنى يا مجدى , لا تدر ظهرك لى .
نظر لها بألم وهو يغرز سكين الحقيقة عميقا بقلبها:
-لم يحبك أبدا , كنت مجرد وسيلة للانتقام من عمه , نعم فهو لم يكن الشخص الجدير بك ,لم يكن الملاك الذى تقدسين ذكراه حتى الآن ,كان شخصا حقيرا عابثا يهوى ملاحقة الفتيات ,وحينما بدأ والدك يمنع عنه المال الذى اخذ يبعثره يمينا ويسارا شعر بغضب هائل يتملكه وجاء اليه ذات يوم ليهدده اذا لم يعطه حقه بالميراث كاملا فسوف يجعله يعض على أصابعه من الندم ,وكان والدك قد اصبح هو المتحكم بكل أعمال العائلة بعد أن تخلى عمك عبد الرحمن والد هناء وناجى بكامل ارادته عن المشاركة فى الادارة قانعا بمصروف شهرى كبير يغطى كافة نفقاته هو وأبنائه ,فلم يرق ما قام به لناجى بعد أن تفاقمت ديونه الناجمة عن استهتاره وادمانه للقمار ,فأخذ يسعى الى خطته القذرة باستمالتك اليه حتى يقنعك بالزواج منه دون علم ابيك ,وقد اجاد تمثيل دور المظلوم الذى استولى عمه على ميراثه حارما ايّاه من حقه المشروع.
-أنت كاذب ! لا اصدقك .
-حسنا , لقد أخفيت عنك هذه الحقيقة حتى أجنبك الألم ,ولكن اذا كنت لا تصدقيننى فيمكنك أن تسألى محمد ,أعتقد أنك تثقين به أكثر من ثقتك بى ,سيخبرك بكافة التفاصيل التى تجهلينها عن ... زوجك الحبيب ,أما أنا فأعتقد أن دورى قد انتهى فى حياتك ,فلن أسمح أبدا بأن أبقى ظل الحبيب الغائب ,أو المفتاح الاحتياطى الذى تستخدمينه وقت الحاجة ثم تهملينه بعد ذلك , وداعا يا فريال !
كانت منهارة تحرق عينيها وخزات الدموع التى انسالت على خديها وهى ترفض تصديق كلماته الأخيرة على الرغم من أنه كان دائما الصديق والسند لها ولم يكن بحاجة الى اختراع الأكاذيب لاستمالتها نحوه ,فهى تشعر بعاطفة حقيقية تجاهه كانت تتمنى لو تدوم حتى نهاية العمر ,وقد اعتقدت أنها قد طالت النجوم بيديها ,وجدت ابنتها الضائعة وحبها الوحيد ,انها تعترف لنفسها بأنه قد أحبت مجدى فيما سبق ولكنها حوّلت مشاعرها نحو ناجى الذى كان يجيد فن المغازلة واكتساب القلوب , حين استجابت لوجهة نظر أمها بأنه عليها أن تختار زوجا يليق بمستواها الاجتماعى والمادى ,ومن كان أفضل من ابن عمها الوسيم ليحتل هذا المنصب ؟ ولكن هل كان حقيقة يتلاعب بعواطفها ؟ أكان على هذه الدرجة من السوء دون أن تشعر ؟ عليها أن تسأل أخاها ,فلا يمكن أن يكذب محمد عليها.


******************

SHELL 04-11-18 07:40 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 



-اهدأى يا حبيبتى ,ودعينى أشرح لك.
كان محمد قد لحق بزوجته فى جناحهما الخاص يحاول اقناعها بالانصات له عله يستطيع التخفيف عن صدمتها التى واجهتها للتو ,فزوجها قد أخفى عنها أمرا هاما كزواج ابنهما البكرىّ ,ولم يكفِ هذا بل أنه زواجا سريا فى الظلام كما لو كانا يختلسان ما ليس حقهما ,والأنكى أن زوجة ابنها تعيش معهم تحت سقف واحد وقد عاملتها بأفضل ما يكون وما كان جزاؤها ؟
-اتركنى يا محمد ,لا أعتقد أنه بامكانك ايجاد تفسير لما قمت به ولا تحاول التأثير علىّ بطريقتك المعتادة , لقد تحمّلت فوق طاقتى طوال هذه السنوات ,كنت نعم الزوجة لك والأم المثالية لأبنائك ,أفنيت زهرة شبابى لراحتكم وتحقيق رغباتكم ,متنازلة عن حقوقى كامرأة لها متطلبات خاصة ,هل بحياتك سألتنى اذا ما كنت أفضل أن أنفصل بحياتى عن هذا المنزل ,هل استشرتنى قبل أن تورّط ابنك بزيجة كهذه , والله وحده يعلم ما تخفيه أيضا ؟
اقترب منها فى خطوات بطيئة وجلس بقربها فاتحا ذراعيه ليضمها اليه الا أنها أشاحت بوجهها عنه متصنعة عدم الاهتمام فقال لها بنعومة:
-أبدا , لم أخفِ عنك شيئا بحياتى الا موضوع رفيق ,فأنت لست فقط زوجتى وأم أولادى ,أنت تدركين أنك حبيبتى وشريكة عمرى.
-حقا ؟ أهكذا تكافئ رفيقة دربك على صبرها وعطائها بالكذب عليها ؟
أنكر التهمة الموجهة اليه بعنف:
-لم أكذب عليك ولا مرة واحدة منذ بداية تعارفنا منذ خمسة وثلاثين عاما ,كنت أنا أيضا الزوج المخلص والصديق الوفىّ لك ,لقد كان الزواج سريعا ,فاجأنى رفيق برغبته تلك فى محاولة منه لحماية الفتاة من مضايقات ابن خالتها ,ولم أكن أملك أن أفرض عليه شيئا فهو لم يعد فتى صغير وكان يمكن لهما أن يتزوجا بدون علمنا ,فأردت الاطمئنان بنفسى وحضرت عقد القران ,كنت أنوى أن أخبرك بالأمر , ولكن القدر لم يمهلنا فالحادثة التى فقدت على اثرها الذاكرة جعلت رفيق شخصا آخر وقد استأمننى على سره ,فطالبنى بكتمان الأمر حتى تسترد عافيتها ,أقسم لك أن هذا ما حدث يا سوسن ,أنا بعمرى ما أخفيت عنك أى سر حتى ولو كان متعلقا بالعمل ,فأنت الوحيدة التى الجأ اليها فى حيرتى وضيقى لأستشيرها ,أنت الصدر الحنون الذى يحتوينى وينسينى الماضى والحاضر ,معك أجد نفسى كالابن الصغير الذى يتعلق بأمه وهى لا تبخل عليه بحنانها وعطفها , هيا قولى أنك سامحتنى ,والا فلن أغفر لنفسى أبدا.
كانت كلماته كالبلسم الشافى لجراح قلبها فهى تعلم أن زوجها رجل حقيقى بكل معانى الكلمة ,وربما كان له العذر ,فلتلتمس له مئة عذر.
عاود محاولته للتقرب منها هذه المرة بجرأة أكبر وثقة أعظم فهو يعلم أن لها قلب من ذهب لا يستطيع تحمل الخصام ,واستسلمت له بدون عناد أو مكابرة على الرغم من أنها ما زالت تشعر ببعض الضيق من تصرف ابنها الكبير فأخذت تنتحب بحرقة وهى تبثه همومها:
-اذا كنت قد أخفيت عنى الأمر بطلب من رفيق , فلماذا لم يصارحنى هو ؟ والى الآن لم يأتِ حتى لرؤيتى ؟
ما أن أنهت جملتها حتى تفاجأت هى وزوجها بطرقات منتظمة على الباب فابتعدت قليلا عن محمد تحاول اصلاح هندامها ومسح دموعها التى أغرقت خديها وقالت بصوت جاهدت أن يخرج ثابتا:
-تفضل.
انفتح الباب كاشفا عن الرجل الذى كان محور حديثهما يحاول أن يستتر متخفيا بيديه حتى لا ترَ ملامح الخجل على وجهه ,ليس معقولا , ابنها رفيق ,الواثق من نفسه يتردد وهو يتساءل بقلق:
-هل تسمحين لى أن أدخل يا أمى ؟
حاولت تصنع الغضب وردت بلا مبالاة:
-ماذا تريد ؟
-اسمحى لى أولا أن أقبّل يديك.
وأقبل مهرولا ليجثو على ركبتيه أمام والدته محاولا تناول راحة يدها ليطبع عليها قبلات متتالية وهو يتمتم:
-أرجوك يا أمى أغفرى لى , سوف أخبرك بكل شئ ,ولكن لا تتركيننى هكذا , فأنا لا أحتمل أن أراك باكية فما بالك أن أكون أنا سبب آلامك .
حاولت سوسن أن تظل على جمودها لتعاقبه على فعلته بحقها الا أن قلب الأم لم يتحمل رؤية ابنها ضعيفا مقهورا حتى ولو فى سبيل ارضائها هى شخصيا ,فأحاطت رأسه بيديها لتحتضنه بقوة وهى تغمره بالقبلات وتضربه فى آن واحد لتنهره:
-ايّاك وأن تفعلها مرة أخرى , أفهمت ؟ تعالى هنا الى أمك.
ابتسم محمد وهو يشهد على هذا الموقف الملئ بالمشاعر المتناقضة ,فعلى الرغم من طيبة زوجته الا أنها أظهرت قوة شخصيتها بلمحة واحدة ,وأدرك وهو يتأملها لماذا أغرم بها على الفور من النظرة الأولى ,واستعاد فى ذهنه شريط ذكرياتهما معا على مدار خمسة وثلاثين عاما , عمر كامل انقضى بينهما مغلفا بالحب والاحترام والاهتمام المتبادل ,لم ترفع صوتها يوما فى أى جدال وقع بينهما ,لم تؤنبه على أى عمل قام به ,كانت تثق به ثقة عمياء وتركته ليقود قارب حياتهما تأتمنه على روحها وممتلكاتها.
-أعدك أننى لن أكررها , لم يعد هناك أى مبرر للكتمان ,كنت فقط أخشى من ثورتك هذه اذا ما جئتك لأعترف بذنبى , وهذا ما جعلنى أتغاضى عن واجبى نحوك يا ماما ,هل تباركين زواجنا أنا وأميرة ابنة عمتى ؟
ابتسمت بحنان وهى تشهده مرتبكا كتلميذ بيومه الدراسى الأول:
-وهل هناك فارق ؟ لقد تزوجت ووضعتنا أمام الأمر الواقع.
-لا يا أمى , فما يهمنى الآن هو رضاك ومباركتك لى , فبدونهما لن أعيد عقد القران مرة أخرى.
اندهشت من حديث ابنها وأخذت تنظر الى زوجها وكأنها تستنجد به فقلب شفته دلالة عدم الفهم وقام بسؤال ابنه عما يعنيه ,فأخذ رفيق يشرح لهما باستفاضة:
-أنسيتما أننى قد عقدت قرانى على لبنى وجدى الشرقاوى ؟ أما الآن فلا وجود لهذه الفتاة ,هذه المرة سنتزوج بعقد جديد ... سأتزوج من ابنة عمتى أميرة ناجى الشرقاوى.
-ربما علينا أولا أن نستشير عالما متفقها فى أمور الزواج ,هل يجوز أن تتزوج زوجتك مرة أخرى ؟
بدأ والده يفكر بطريقة منطقية كعادته كلما وجد نفسه فى مأزق ,وما أشد تعقيد الموقف ... فقد تزوج ابنه من فتاة ... أصبح وجودها الآن وهميا ,لتظهر باسم جديد وشخصية جديدة.
-وما الذى يمنع زواجى منها مرة أخرى ؟
-ربما عليك أن تطلقا أولا.
انزعج رفيق من كلمة الطلاق التى ذكرها والده فعقد حاجبيه مفكرا لبرهة قبل أن يتنهد وهو يقول متأففا:
-لا أعلم ما الذى يتعين علىّ فعله الآن ؟ كل ما يهمنى أن تستعيد أميرة كامل عافيتها ونطمئن على سلامتها من أثر الوقعة.
-هل أخبرك الطبيب أمرا تخفيه عنّا؟
-لا لم يخبرنى بشئ واضح , فقط علينا أن نذهب اليه غدا لنعرف نتائج الاشعة التى أجريت على المخ حتى نقطع الشك باليقين.
-هانت يا بنىّ , ان شاء الله سوف يتم شفاؤها على خير.
-دعواتك يا أمى ,استأذنكما الآن ,سوف أذهب لأطمئن عليها.
وانصرف بعد أن قام باصلاح ما أفسده فى علاقته الوثيقة بأمه تاركا والده معها ,لم يتخيل أن الأمر لن يستغرق أكثر من خمسة دقائق ,وابتسم لنفسه ... ان أمه حقا امرأة عظيمة.


*******************

SHELL 04-11-18 07:44 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل التاسع عشر

http://up.movizland.com/uploads/1398159016982.gif

SHELL 05-11-18 09:51 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل العشرون


http://files2.fatakat.com/2013/8/13777578211961.gif




خاصم النوم جفونها ليتركها مسهدة معذبة بأفكارها المتصارعة ,بالرغم من سنوات عمرها التى قاربت الثمانين عاما والتى شهدت خلالها الكثير من المآسى والمصائب التى اعتقدت حينها أنه لا فرار منها ,واليوم تتحقق أسوأ مخاوفها .. أن تتمزق أسرتها الى أشلاء متناثرة , أن يعم الشقاق أرجاء منزلها , أن يسود الجفاء بين أبنائها ,لقد سعت طوال سنوات زواجها الستين أن تبقى بيديها زمام الترابط الأسرى حتى لا تفلت الأمور من معقلها ,فقد رأت بعينيها ما طال أسرة زوجها من قبل بعد وفاة حماتها , قبل أن تصير هى كنتها بالطبع فهذا حدث قبل مولدها -وقد قصت أمها عليها الحكاية بالتفصيل فيما بعد ,وتشتت السبل بزوجها بعد زواج أبيه من امرأة أخرى ,لهذا فهى تلتمس العذر أحيانا لتصرفات زوجها القاسية ,كان يفتقد الى الحنان فى حياته وهو صبى صغير أكبر اخوته ويقع عليه عاتق مسؤوليتهم بعد وفاة أبيه بذبحة صدرية وهو بالكاد تجاوز الخامسة والأربعين من عمره ,صارحها ذات يوم وهما فى لحظة صفاء نادرة الوجود بشكوكه حول موت أبيه ,لقد شهد بعينيه التصرفات الغير أخلاقية لزوجة أبيه , تلك المرأة الفاتنة الجمال والصغيرة فى السن ,المطلقة اللعوب ,التى سلبت عقل أبيه , الرجل الرزين العاقل الذى رسم بمجهوده وكفاحه أبهى صورة لرجل الأعمال العصامىّ , فأعميت عيناه عن رؤية عيوبها وصمت أذناه عن سماع صوت الحق ,وغفل تفكيره السليم عن معرفة نقائصها ,فسقط فى شبكتها العنكبوتية وقد أحكمت خيوطها حوله .
وها قد بذلت فى سبيل هذا الترابط العائلى كل ما تملك ,حتى فقدت معانى حياتها وتناست طموحاتها وأسكتت صوت قلبها النابض بحب رجل آخر ,رجل باتت صورته تتمثل أمامها الآن واضحة جلية ,فهو يشبه زوجها كثيرا , بل وتربطه علاقة وثيقة به , عبد الله , الأخ الأوسط لزوجها من زوجته الثانية ,وما بيدها حيلة , فقد نسج الحب خيوطه الحريرية بين قلبيهما قبل زواجها من عبد العظيم بسنوات ,كانت بعمر المراهقة وكان هو شابا يافعا ,كل ما يشغل بالهما هو الاستسلام لعواطف طاغية تحكم سيطرتها عليهما ,فتعاهدا على الحب والاخلاص الى الأبد ,لم يهمها هوية أمه ولا تعنيها تصرفاتها الغير محمودة بشهادة الجميع ,كان حبهما كنبتة صغيرة تنمو وتكبر يوما بعد يوم فى ظل ظروف قاسية واحتمل هذا الحب صراعات عنيفة حتى قرر زوجها وأد هذا الحب فى مهده بطرده لأخيه الأوسط مع الابقاء على أخيه الأصغر عبد الرحمن برعايته ,وبعد فترة قصيرة تقدم لها خاطبا ولم يكن يعيبه شئ فكان مثال الرجل المحترم الدؤوب فى عمله والذى نجح فى الحفاظ على ميراث أبيه بل وساهم فى اتساع أعماله الى حد بعيد ,ولم تدرِ لمَ حتى هذه الساعة تشعر بأنها وأبنائها ينعمون بخير ليس خالصا لهم ,فلعبد الله نصيبا فى ثروتهم مما حرمه منه أخوه الكبير , كما لهناء وناجى جزءا آخر ,وهى تنوى اقناع محمد بأن يعطى لكل ذى حق حقه بهدوء وبحساب الفوائد التى تراكمت على مر السنين ,وها هما كريم وأميرة الوريثين الشرعيين لناجى فعليهما أن يقررا كيفية التصرف به , أما عن هناء فهى تدرك جيدا أنها سوف تحتفظ بنصيبها كما هو حتى يرثها ولدها بعد وفاتها ,ولكن ... ماذا عن عبد الله ؟ وارثه المؤجل ؟ كيف تستطيع الوصول اليه الآن ؟ وهل هو حى يرزق أم لقى ربه ؟ ولم تتمالك نفسها من البكاء الحارق على قلب وحيد تاه وسط زحام الحياة ,وأعادت المشهد الذى عايشته منذ قليل حين اعترف المحامى مجدى بدور ابنها عادل فى حرمان أخته من صغيرتها بأمر من أبيه ,وكيف كانت نظرة فريال المعذبة الى أخيها ,لقد تحطمت صورته المثالية بعينيها ,هى وحدها تعرف سر ابنها ,لماذا يتوارى مبتعدا عن أية مواجهة , وكيف يبدو ضعيفا متخاذلا غير قادر على اتخاذ قرار ,لم يكن هكذا أبدا حتى تزوج من منى ,تلك السكرتيرة التى كانت تعمل لديهم ,وقد جمع بينهما العشق كما اعترف لها برغبته فى الزواج منها ,وبالرغم من ممانعة أبيه على الموافقة على هذه الزيجة فقد قرر عادل أن يملى ارادته على الجميع وفاجأهم بزواجه منها بدون علمهم ,والخبر الأشد قسوة وايلاما أنها كانت حاملا بطفله سيف ,وكأنه يضعهم أمام أمر واقع ,فبدا الوالد مستسلما لما صار ,ورحب بمقدمهما للسكن فى المنزل وقد خصص لهما جناحا كبيرا وهو يبدى ودا ظاهريا ,الا أنه قد خطط للنيل من هذه السعادة التى لم تدم الا قليل ,فقد أبعده عن العمل بالشركة بهدوء ,بدأ يسحب من تحت يديه كافة الصلاحيات ببطء واصرار على تحطيم ثقته بنفسه ,معتمدا على ابنه البكرىّ واضعا تحت تصرفه كافة الأمور ,وبعدها بوقت قليل غادر وجدى المنزل بعد شجاره العنيف معه ,وتوالت الأزمات ,معرفتهم بهروب فريال من المنزل ,وزواجها من ناجى ,وحملها المؤكد ,ولم ينعموا براحة البال بعدها أبدا.


*******************

SHELL 05-11-18 09:53 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد أن انقضت السهرة فى جزئها الأخير بهدوء وليونة ,اعترفت هديل لنفسها بأنها قد استمتعت الى أقصى حد بوجود محدث لبق مثل كريم فقد تكشفت لها أوجه جديدة لشخصيته كانت غافلة تماما عنها لأنه كان يظهر فقط شغفا لا يوصف بالعمل وتفانيا واخلاصا لا يقدران بثمن ,حتى وان كان من المالكين للشركة الا أنه كان على النقيض من ابن عمه سيف ,الذى لا تشعر بارتياح بالغ ناحيته ,وقد استشعرت خطرا محدقا بصديقتها بسبب نظراته اليها ,عليها أن تحذرها منه ولكن بعد انقضاء هذه الليلة.
أظهرت مها سلوكا ناعما فيما يختص بتعليقات سيف الفظة التى لم يكف عن توجيهها اليها ,وبدت أنها تتقبل تصرفاته بصدر رحب ,فقد اعتمدت خطوتها التالية فى خطتها البديلة ,سوف تتظاهر بالموافقة على كل آرائه وتظهر استسلاما تاما له ,سوف تتركه يقودها الى حيث يشاء ,وحين يطمئن اليها ويعتقد بأنه قد أصبح المسيطر على الوضع ,سوف تفاجئه بأنه قد أصبح فى ملعبها ولن تبالغ حينها بأنه سيكون طوع بنانها.
وقالت تحدث نفسها : انتظر يا سيف ,فأنت من سعى بقدميه الى الشرك ,ولن تفلت أبدا منى.
تمثيلها لدور البراءة باتقان لم يمر على سيف المتمرس والذى أدرك بأنها تناور بمهارة ,فلم يتمالك نفسه من الاعجاب بها ,حتى ولو كانت فى نعومتها تشبه الأفعى ,التى تتحين الفرصة للانقضاض على فريستها ,وقرر لحظتها أنه سوف يدفعها نحو السعى فى مخططها حتى تشعر بانتصارها الوهمى ,وفى ذات اللحظة سيكون قد أحكم القيد حولها فلن تفلت منه الا بعد أن يقرر هو مصيرها.
قام كريم بايصال هديل الى منزلها وقد سبق له الذهاب الى هناك مرة واحدة حينما توجه لاصطحاب والدته فى يوم الحادث المشهود ,وحين أوقف سيارته قامت هديل بشكره وهى تتعثر فى كلماتها الخجول الا أنه استوقفها بيده ,فتأثرت للمسته الحانية التى بثت قدرا هائلا من المشاعر الغامضة فى قلبها ,فابتسم لها بجاذبيته المعهودة ,فتاهت بين أروقة عينيه وشعرت كالغريق الذى ينتظر قشة يتعلق بها وسألها بجدية تتناقض مع نظرته الآسرة:
-أخبرينى يا هديل ,ماذا يعمل والدك ؟
-هه ؟ ماذا تقصد ؟
-لا شئ , فقط مجرد استفسار فأنا لا أعرف وظيفته !
اعتدلت ساحبة يدها بعيدا عن تأثير لمسته الحارقة وأجابت ببساطة وتلقائية:
-انه يعمل مستشارا قانونيا لاحدى الشركات.
بدا عليه التفكير العميق وهو يحاول أن يتذكر اسم والدها كاملا الا أن ذاكرته لم تسعفه فواصل استجوابها بنعومة أكثر هذه المرة:
-لحظة , ما هو اسمك بالكامل ؟
شعرت بالاندهاش لفضوله المفاجئ , فلم تعهده مهتما بشؤونها الخاصة الا أنها لم تملك الا أن تجيبه:
-هديل صلاح أحمد السنهورى , هل يكفى الاسم الرباعى , أم أذكر لك جدى السادس ؟
رفع حاجبيه تعجبا من لهجتها الساخرة ,فهى أبعد ما تكون عن مثل هذا التصرف ,ثم ما لبث أن ردد الاسم متجاهلا سخريتها عن عمد :
-صلاح .. أحمد السنهورى .
ثم خبط بيده على رأسه كمن تذكر شيئا مفاجئا وهو يهتف غير مصدق:
-صلاح السنهورى , كيف نسيته ؟ ألم يكن والدك أستاذا بجامعة عين شمس ؟
-بلى ,ولكنه قدم استقالته منذ .. فترة.
ازدادت دهشته وهو يقول بصوت ينبعث منه شعور جارف بالبهجة والمرح:
-يا الهى ! كيف نسيته ,لقد درس لى مادة القانون التجارى لفصل دراسى واحد , ولكن مهلا لقد تغير شكله تماما عما أذكره.
بدا أنه قد مس وترا حساسا بحديثه التلقائى فى نفسها فأشاحت بوجهها بعيدا وهى تحاول اخفاء انفعالها ,لم يخفَ عليه تصرفها الغير مبرر فلامس وجنتها بأنامله الحانية وهو يجبرها على الالتفات اليه وانعقد حاجبيه غضبا حين لمح العبرات المتواترة بعينيها الجميلتين ,ظنا منه أنه قد تضايقت من أسئلته فاستفسر منها بعنف:
-ماذا بك يا هديل ؟ هل ضايقتك بفضولى لمعرفة المزيد عن حياتك ؟
هزت رأسها نفيا وهى تجيبه بصوت متقطع من البكاء الذى ازداد نشيجه :
-لقد صارت حادثة لأبى منذ ثلاثة سنوات ,تأثر بفعلها مركز حيوى من مراكز المخ ,كان خاصا بالنطق والكلام والذاكرة ... واحتاج وقتا طويلا ليتعافى تماما ,فقد استغرق العلاج مدة طالت لأشهر عديدة ولم يكن ممكنا استمراره بالتدريس فى الجامعة , كما أن علامات التقدم فى السن قد ازدادت بشكل مرعب ,ولكننا نحمد الله ونشكر فضله على تمام شفائه.
-هل كانت هذه الحادثة وقت أن التحقت بالوظيفة فى الشركة لدينا ؟
أومأت برأسها ايجابا وهى تتحسر على ما فات ,فقد أثر مرض أبيها على حياتهم المستقرة وأتى على معظم مدخراته ليكمل علاجه بأفضل المستشفيات والبقية ذهبت ثمنا للأدوية الباهظة التى كان عليه أن يتكبدها شراءها شهريا ,ولم يبقَ أمامها حلا سوى أن تلجأ للعمل باحدى الشركات الكبرى حتى ولو كان بوظيفة سكرتيرة متخلية عن شهادتها العالية فى مجال السياسة والاقتصاد ,كل ما شغلها هو الراتب المرتفع الذى سوف تتقاضاه كل شهر حتى تستطيع تحمل مصروفاتهم المتعددة الأوجه.
تذكر أنه فى حينها قد سألها مرة واحدة عن مؤهلاتها وقد أثار انتباهه اختلاف تخصصها عن سائر السكرتيرات ولكنه لم يهتم وقتها لأنه كان يراها مجرد موظفة عادية ,وها هو الآن أصبح شغوفا بمعرفة كافة تفاصيل حياتها هى ووالدها ... الذى لن يهدأ حتى يعرف طبيعة علاقته بأمه.


****************

SHELL 05-11-18 09:54 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لم يكن هناك مفر من أن يقلها هو بسيارته بعد أن انصرف كريم وهديل معا ,عليه أن يلتمس جانب الحذر فى معاملته معها ,فتح لها باب السيارة بحركة أنيقة لم تعتدها منه فى معاملتها ,وحين استقرت مها بمقعدها ,أخذت تتأمل السيارة من الداخل بتمعن وهى لا تملك نفسها من الغيظ والحسد لأنه يقود سيارة يتعدى ثمنها مئات الآلافات من الجنيهات فى حين أنها كانت تحتاج الى نصف هذا المبلغ لتنقذ حياة أمها أو حتى تخفف عنها وطأة آلامها القاتلة ,وبسرعة بالغة أخفت نظراتها عن عينيه الثاقبتين كعينى صقر ,وهو يدير المحرك بثقة منطلقا بأقصى سرعة فى الشوارع الشبه خالية بعد أن سألها أين تقطن ,فأعطته عنوانها بعد لحظات تردد ,ولم تجد بدا من ايفائه بهذه المعلومة ,شردت بذهنها ولم يحاول اخراجها من حالتها حتى وجدت نفسها أمام منزلها المتواضع بالحى المتوسط الذى يشهد على عراقته الكثير.
همت بأن تترجل من السيارة بعد أن شكرته ببرود وقد استشعرت حرجا بالغا لأنه رأى بعينيه أين تسكن ,فاجأتها كلماته المنمقة بعناية:
-ألن تدعيننى الى فنجان من القهوة بمنزلك ؟
-لا أعتقد أن هذا سيكون مناسبا ,فالوفت متأخر وأنا أعيش بمفردى فى المنزل.
-حقا ؟
-نعم فوالدىّ متوفيين.
-أليس لك أى أقارب ؟
لماذا يهتم بها , وما شأنه هو اذا توفى والديها أو كانت بلا أقارب
-لا.
كلمة باردة مقتصبة أطلقتها بخشونة متناسية لدورها الذى تلعبه ,ثم أكملت بلهجة أقل تعاليا:
-وكما ترى فالمكان هنا هادئ ,واذا رآك أحدهم تصعد الى شقتى فى مثل هذا الوقت من الليل سوف يساء تفسير هذا التصرف , ولن أسلم من ألسنتهم الحادة.
ابتسم لها مجاملا وهو يهز رأسه مؤمنا على صحة كلامها:
-اهتمى بنفسك يا مها,تصبحين على خير.
-تصبح على خير , وداعا.
-بل الى اللقاء ,غدا .
وابتعد بسيارته بذات السرعة الجنونية فأفزعها صوت صرير الاطارات وهى تشعر بقلق بالغ عليه ,فماذا يمكن أن يحدث له اذا وقعت حادثة من جراء تهوره فى القيادة , ونهرت نفسها عما آل اليه تفكيرها الجامح ,وما شأنى أنا اذا أصيب أو حتى مات , وأخذت تصعد الدرج المتآكل نحو البيت القديم المتهالك وهى تشعر فى قرارة نفسها بأنها كاذبة .. لأنها باتت تهتم لأمر هذا الشخص ... أكثر مما تصورت.


********************

SHELL 05-11-18 09:55 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
استفاقت أميرة من نومها على همسات رقيقة تتناغم بجوار أذنيها ولمسات ناعمة تداعب خصلات شعرها وتغازل بشرة وجهها بجرأة , كانت الأصابع القوية تعرف طريقها جيدا وكأنه حقها الأصيل فى ذلك ,انسجمت باستمتاع حقيقى بصوت رخيم مسيطر يقص أجمل قصة غرام على مسامعها وهى بعد بمرحلة النعاس الذى يداعب جفنيها مغريا بعودتها الى عالم الأحلام الجميلة ,فتأوهت ببطء وهى تبتسم مستسلمة لذراعين تحيطان بها بحركة تملكية ظاهرة وتمتمت باسم فارسها بصوت حالم رقيق:
-رفيق.
-أنا بجوارك والى الأبد لن يفرقنا شئ.
غالبت سطوة النوم وقد تنبهت حواسها دفعة واحدة بعد أن تعرفت على الصوت الذى طالما تمنت سماعه وفتحت عينيها مرفرفة برموشها الكثيفة فوجدت نفسها أسيرة حضنه وهو يرمقها بنظرات عشق وهيام طال كتمانهما الى أن فاض به الشوق فلم يطق صبرا حتى يتم شفاؤها وهو الذى أقسم ألا يمسها حتى تعود الى سابق عهدها ,فتتذكر طيف حبيبها الأول والأخير.
حاولت أن تعتدل فى فراشها لتلف ذراعيها بخجل ملح حول عنقه فتتلمس بأناملها الرقيقة منبت شعره الغزير وتنسل مستكشفة قوة تأثيرها عليه ,فقبضت يداه على خصرها وهو يدفن وجهه بين خصلات شعرها البنية يقبّلها قبلات متفرقة متسارعة وأنفاسهما تتسارع لاهثة من أثر اللهفة المكبوتة ,وحينها قرر أن يجاهد مشاعره العنيفة فابتعد منتشيا حتى لا يؤذيها وهى بعد فى طور النقاهة فصدرت عنها أنّة اعتراض وهى تستشعر برودة فى أطرافها بعد أن كان يغمرها بدفء عواطفه المتدفقة كشلال منهمر يهدر بقوة من ارتفاع مئات الأمتار ,فهدهدها كطفل ما زال بعد بمهده وهو يطمئنها الى قربه منها حتى ولو كان هذا على حساب نفسه ,فاضطرب صوته مهتزا وهو يمسد أطراف أصابعها حتى شاعت فيهم حرارة منبثقة من جحيم مشاعره :
-قريبا يا حبى ,حينما يكتمل شفاؤك لن يبعدنى عنك الا الموت , هذا وعد أكيد.
ترقرقت دموع فرح فى عينيها اللوزيتين وهى تلقى برأسها على صدره رافضة الافتراق عن ضلوعه التى خرجت منها روحها فى بداية الوجود وأجابته بنفاد صبر وجسدها يرتعش من الانفعال:
-لمَ لا ننسَ ما صار ونتظاهر بأن كل شئ على ما يرام ,أننى بخير , أؤكد لك هذا.
اتسعت ابتسامته وهو يرى محاولاتها الجهيدة لتثنيه عن قراره ,والله وحده يعلم كم يود الاستسلام لاغراء عينيها ويدفن نفسه بين ثناياها ليصبحا كيانا واحدا ,الا أنه أصر على الحفاظ على قسمه حتى لا يخسر احترام الذات أمام ضميره الحى ,فما أسهل ألا نقاوم رغبات النفس وننساق وراء متعة لحظية ,ولكن ماذا بعد ؟ عليه أن ينهى كافة التزاماته تجاه العائلة ويعيد لم الشمل مرة أخرى ,وبعدها فقط لن يقف بينهما أى حائل ,وسوف ينهل من نبع عشقها الذى تملّكه ويعيشا بسعادة أبدية.
-علينا أن نتحلى بالصبر قليلا ,ألا تثقين بى يا حبيبة عمرى ؟
-بلى ,لقد عادت روحى الىّ مجددا بعد أن وجدتك ,فلا يحلو لى العيش بدونك.
-وكيف تعرفين وقد كنتى فاقدة للذاكرة لمدة طويلة ,لقد نسيتنى تماما وحتى خيالى لم يخطر لك على بال.
كانت فى كلماته نبرة لوم وعتاب خارجة عن ارادته فهو يعلم أنها كانت بحالة مرضية ولم يكن بيديها الشفاء.
قالت له بهمس فى اعتذار برهن على صدق مشاعرها نحوه:
-ربما كان السبب فى هذا أننى أحببتك بشدة ولم أصدق أننا تزوجنا حقيقة ,كان الواقع أكبر من قدرتى على الاستيعاب ,ولهذا قرر عقلى أن يدفن ذكراك فى ركن قصىّ بعيد حتى لا تتشوّه صورتك المثالية وأنا بعد فى عالم الغربة الجبرية التى عايشتها لسنوات.
-أتدركين كم تألمت وأنا مضطر الى الابتعاد عنك والبقاء فى الظل بينما ينعم غيرى برفقتك و... مشاعرك .
لم يجرؤ على مجرد التخيل بأنها أحبت زميلها ,وقصر الأمر على مجرد مشاعر اعجاب.
-أعرف يا حبيبى ,ولا أصدق كيف حدث هذا لى , حينما أفكر بالأمر أجده غير مستساغ ,ولست اذكر أبدا أننى تفوّهت بكلمة حب واحدة لشخص سواك ,ربما .. ربما ما حدث هو مجرد .. رد فعل طبيعى , لا أدرى كيف اشرحها لك ,شخص ما أعجب بى وحاول التقرب منى , فلم أستطع ابداء رفض ازاء مشاعره الا أننى ,, أف من هذه الفوضى !
-لا عليك يا لؤلؤتى فكما سبق وقلت ما حدث صار جزءا من الماضى ,ولا نريد له أن يؤثر على حاضرنا ومستقبلنا , أليس كذلك ؟
أشرق وجهها البيضاوى بابتسامتها المنيرة وهى تربت على كفه الأسمر لتؤمّن على كلماته وقالت له بانبهار:
-مستقبلنا ؟
-أنسيت أننا متزوجين أم ماذا يا حبى , هل عاد التشوش لرأسك مرة أخرى ؟ اذا كان ...
قاطعته بلهفة عاشقة متيمة:
-وهل أجرؤ على النسيان ثانية ؟ ألم يكفنا أن ضاعت السنوات من عمرنا وكل واحد منا فى مكان بعيد عن الآخر ؟
-صدقينى يا حبيبة الروح والعقل أنك لم تفارقيننى لحظة واحدة ,كانت صورتك تداعب خيالى أينما ذهبت لتشتت فكرى وتعيدنى الى الماضى.
ثم ابتسم بمكر وهو يغمز لها بعينيه فى لفتة أربكتها للغاية وهو يضيف باستمتاع :
-كما أننى لم أنسَ ... ذكرى قبلتنا الأولى والوحيدة ... أتذكرين هذا اليوم ؟
أطرقت بحياء فطرىّ وقد اشتعلت وجنتاها احمرارا وغمغمت بخفة:
-لا ... لا أذكر.
كان واضحا أنها تدّعى الكذب لتهرب من حصار عينيه الفضيتين ,فأجبرها على مواجهته ليمازحها قائلا:
-اذن , علىّ أن أقوم بتذكيرك .
واقترب بوجهه من شفتيها الورديتين وانحنى ببطء متعمد ليمسهما بحنان متدفق فيما أغمضت أميرة عينيها لتهمس من بين شفتيه باعتراف صريح:
-لم أنسَ .
-يا لكِ من متلاعبة ماكرة ,لقد جررتنى الى هذا متعمدة.
كان بصوتة رنة مرح وهو يداعب أرنبة أنفها بعد أن انسلت مبتعدة لدى انكشاف خطتها الهجومية لاستدراجه الى ما تلهفت نفسها اليه ,وكان رفيق أسعد ما يكون لانقشاع الغيوم التى غلّفت سماء حبهما ,وهتفت أميرة بزهو:
-كنت فقط أسعى نحو معرفة ما اذا كنت محافظا على مستواك ... أم أنك بحاجة الى اعادة ...
ولم يمهلها لاكمال عبارتها فقد اندلعت بعينيه نظرة شيطانية وهو يأسرها بين ذراعيه حتى انحبست أنفاسها ,وانبلج الصباح من عتمة الليل.


*****************

SHELL 05-11-18 09:57 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
كانت تنتظر عودته بفارغ الصبر ولم تصدق عينيها عندما رأته يدخل من باب الفيلا متسللا على أطراف أصابعه ,وقررت أن تفاجئه على حين غرة فأطلقت نداءها بقوة:
-لماذا تأخرت هكذا يا كريم ؟
كان يعتقد أن جميع من بالبيت قد أخلدوا الى النوم فالظلام الدامس كان يسيطر على المكان مثيرا جوا من الهدوء والسكينة ,أفزعته صيحتها العالية فأجفل قليلا قبل أن يجيبها بضيق واضح:
-ريم ! ما الذى يجعلك مستيقظة حتى هذا الوقت ؟
اقتربت منه ببطء وكأنها شبح فى الظلام يحاول النيل منه فمد أصابعه نحو قابس الكهرباء حتى يضئ المصباح القريب منه ,وبالفعل نجح فى آخر لحظة حينما وجدها على بعد سنتيمترات قليلة تقف منتصبة بملابس النوم الفضفاضة ,ويبدو على وجهها دلائل الحيرة وهى تسأله بلهجة استجواب:
-أين كنت حتى هذا الوقت ؟
عقد حاجبيه بقوة وهو يزم شفتيه دلالة على استيائه الذى جاهد لاخفائه وهو يجيبها باستهتار لم تعتده مشيحا بيديه فى الهواء:
-وما الذى يجبرنى على اجابتك ؟ هل أصبحت ولية أمرى ؟ على حد علمى لقد بلغت سن الرشد منذ فترة طويلة ...
واستكمل عبارته الهازئة:
-على ما أعتقد قبلك بخمسة سنوات , أليس كذلك يا صغيرة ؟
تراجعت خطوة الى الوراء وهى على ذهولها من طريقته المتغيرة فى معاملتها ,لقد كان دوما لطيفا معها على عكس سيف الذى طالما أذاقها مرارة التجاهل وحرقة سخريته المستمرة تجاه تصرفاتها واهتماماتها ,ففغرت فاها وهى تحاول السيطرة على غضبها من جراء حديثه الغير لائق فأسرعت تخبره بما تريد بصوت خفيض متقطع:
-لا ... شئ , مجرد طلب صغير ... هل لنا أن نجلس قليلا ؟ أم أن هذا ممنوع فى عرف الكبار الذين يتسللون بعد منتصف الليل حتى لا يراهم ذويهم؟
أصابه تساؤلها فى الصميم فاشاح بوجهه بعيدا وهو يغمغم بتوتر وكأنه يخفى شيئا ما :
-أنا لا أتسلل يا ريم , كل ما فى الأمر أننى لم أرغب بازعاج أحد , ثم ما مشكلتك أنت اذا تأخرت الى الفجر ؟
عاد لمواجهتها وقد استعاد سيطرته على نفسه فأصبح هادئا لدرجة أغاظتها وهو يستطرد بضيق:
-ما هو الشئ الذى تريدينه ولا يحتمل التأجيل حتى الصباح ؟ هلمى فأنا أريد أن أنام.
فأشارت بأصبعها نحو الأريكة وهى تسبقه:
-سأجلس أنا ما دمت مصرا على الوقوف ,وأعدك أننى لن أؤخرك أكثر من خمسة دقائق فقط ,لن تؤثر على عدد ساعات نومك !
زفر بقوة حارقة وهو يستغفر الله فى سره وفتح ذراعيه مستسلما وهو يقول:
-أمرى الى الله , تفضلى وهاتى ما عندك.
ابتلعت ريقها وهى تحاول أن تجد طريقة لبدء الحوار من جديد دون التطرق الى السخرية التى ترتسم على ملامحه تهدد سلامها النفسى ,ورنت بنظرها نحو الداخل لبرهة وقالت وهى مطرقة برأسها:
-أنت تعرف سعد ... ذلك الشاب الذى يأتى لمساعدة عم مصيلحى فى بعض أعمال المطبخ ؟
رفع حاجبه بتعجب منتظرا أن يسمع جملة مفيدة من بين شفتى ريم القلقة ,وقد أخذت تحرك أصابعها بحركة عصبية مستفزة فلم يملك نفسه من الرد بغضب:
-ما له سعد ؟
-يريد أن يتزوج ... وأنت تعرف ظروف الشباب هذه الأيام ...أنا ...أريد منك أن تساعده لتحقيق حلمه .. فالفتاة التى يرغب بالاقتران منها ليست بغريبة عنك ...
هنا لم يستطع كبح جماح غضبه المستشيط وهو يقترب منها بتهديد وهو يردد بعدم تصديق :
-هل يريد سعد هذا أن يتزوجك يا ريم ؟ أجننت ؟
فجأة لم تعد ريم قادرة على السيطرة على ضحكاتها التى انبعثت مجلجلة وهى لا تعرف كيف توصل كريم الى مثل هذا الاستنتاج الخاطئ وأخذت تحاول افهامه الحقيقة ولكنها أخفقت بسبب نوبة السعال التى أصابتها وأخذت تشهق محاولة أن تعب الهواء الى رئتيها بقوة فاندفع كريم ليجلب لها كوبا من الماء , تناولته منه بلهفة وهى تجرع منه شربات متسارعة خففت من نوبتها ,وبعد أن أتت على ما تبقى بالكوب وضعته برفق على المنضدة وهى تتمتم بالشهادتين.
-ما الذى يحدث هنا بالضبط ؟
توجهت العيون نحو القادم من الطابق العلوى مندفعا لدى رؤيته للأنوار المضاءة وسماعه الأصوات العالية ,فأجابه كريم بهدوء واتزان:
-لقد انتاب ريم فجأة سعال حاد فشرعت أجلب لها كوبا من الماء لتهدئتها فقط.
ردد سيف كلمته الأخيرة بعدم تصديق:
-فقط ؟ وما الذى يجعلكما مستيقظين حتى الآن , والأهم ماذا تفعلان هنا بينما الجميع نيام ؟
استعادت ريم قدرتها على القتال مجددا فأجابته حانقة:
-وما شأنك أنت يا سيف ؟ هل تحاسبنا ؟
-ها هى القطة الشرسة قد سنّت مخالبها ,وبدأت تحاول تجربتها .
-اذا كنت تريد معرفة السبب , فما عليك سوى الانتظار حتى تسمع بنفسك , ولكن أجبنى أولا ما الذى جعلك تعود متأخرا الى المنزل قبل كريم بدقائق معدودة ؟ أين كنتما أنتما الاثنين ؟ هاه !
تبادل الشابين النظرات فيما بينهما وكلا منهما يحاول ايجاد تبرير مناسب على استفسارها العادى ,ولكنها لم تترك لهما مجالا للتفكير فأسرعت تقول:
-لا داعى لمحاولة اختلاق أكاذيب , فأنا لا يهمنى حقيقة ماذا تفعلان بحياتكما .... طالما أنكما لا تتدخلات بحياتى فى المقابل , أعتقد أننى قد أوضحت لكما الأمر , والآن اسمحا لى فأنا أريد أن أرتاح.
استوقفها كريم بحدة وهو يمسك بمرفقها ليسألها عما اذا كان ما تفوهت به صحيحا:
-لم ينتهِ الأمر بعد يا ريم , أجيبينى بصراحة أين وصلت علاقتك بسعد بالضبط ؟ وكيف تجرأ على طلب الزواج منك ؟
أسقط فى يد سيف بعدما تناهى الى مسامعه هذا الحديث ,وتحول الى نمر هائج فصاح وهو ينقض على فريسته من الجهة الأخرى:
-ما هذا التخريف ؟ كيف يتجرأ هذا الحيوان على مجرد التفكير بك ؟ هل قمت بتشجيعه يا ريم ؟
انتفضت ريم محاولة الخلاص من قبضة كريم وهى تتراجع للوراء قائلة بغضب عنيف:
-ما بالكما ؟ لقد أثر السهر على عقليكما ؟ هذا لم يحدث طبعا ... لم أقل أنه يريد أن يتزوجنى أنا ....
تابعها كريم ببصره وهو ما زال على اعتقاده حتى بعد انكارها فسألها بحيرة:
-اذن ما معنى كلامك أنه يريد مساعدتى للزواج بواحدة غير غريبة عنى ... فلا يوجد لنا قريبات سواك ... الا أميرة ,و...
وقبل أن يتسع خياله أكثر أطلقت ريم رصاصة الرحمة وهى تقول بسرعة:
-أنه يريد الزواج من سماح.
-سماح ؟ الخادمة ؟
قالها سيف بانبهار فهتفت به ريم فى سخرية ممزوجة بمرارة:
-نعم يا ذكىّ , سماح الخادمة.
-وما شأنى أنا يموضوع كهذا ؟ هل يريد وساطتى لينال موافقتها مثلا ؟
بدأ كريم يثوب الى رشده ويفكر بمنطقية ولو قليلا , فنفت ريم هذا الاقتراح وأضافت قائلة بملل:
-هل لكما أن تصمتا لمدة دقيقة واحدة , فأشرح لكما ملابسات الأمر.... ان سعد وسماح متحابان ويريدان الزواج فى أرسع وقت ممكن ولكن بسبب ضيق الأحوال هما لا يملكان ثمنا لشقة صغيرة يستقران بها , فأردت منك هذه الخدمة.
وأشارت لكريم مرة ثانية بيدها ليمتنع عن الرد وهى تستطرد بطريقة تقريرية:
-كنت قد أخبرتنى سابقا أن لك صديقا يعمل بمجال التسويق الxxxxى ,وأن له علاقات متوسعة مع بعض المسؤولين فى وزارة الاسكان , هل يمكن أن يساعدهما لايجاد شقة صغيرة فى المساكن المخصصة لمحدودى الدخل ؟
-هل انتهيت يا ريم ؟
-نعم.
-تصبحين على خير.
قالها كريم باشمئزاز وهو يتجه نحو الدرج تاركا الفتاة والشاب الآخر واقفين يحدقان بظهره بذهول.
سألته ريم بعد انصراف كريم بدهشة:
-هل أخطأت بشئ ؟
-لا أدرى , ولكنك بلا شك أفسدت اليوم تماما ,لديك قدرة رهيبة على ازعاج الآخرين ,فليكن الله بعون من ستتزوجينه يا ابنة عمى ,فسوف يعنى الأمرين ,تصبحين على خير.
ولم يدرِ أنه ربما قد أطلق نبوءة قابلة للتحقيق.
ثم انصرف مثلما فعل كريم منذ لحظات بينما ظلت على حالها جامدة كتمثال حجرى وهى تحدث نفسها:
-بم أخطأت ؟
ضربت كفا بالآخر وهى تحذو حذوهما تاركة البهو فارغا مضاءا وكأنه لم يشهد على مثل هذا الموقف الغريب.


***********************

SHELL 05-11-18 09:59 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 



-أين كنت يا هديل ؟ ولمَ لا تجيبين على هاتفك النقال ؟
أيقظتها لهجة والدها الصارمة من عالم أحلامها الوردية بعد أن أولجت المفتاح بباب المنزل فنظرت فجأة الى ساعة يدها الجلدية الرقيقة لترى أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل بقليل ,وكانت هذه هى المرة الأولى لها فى العودة الى البيت بمثل هذا التوقيت ,فأجفلت لدى رؤيتها نظرات أبيها الغاضبة وهو يقف مترقبا اجابتها وهو يضيف بحزم:
-لم تتعودى على هذا التأخير.
حاولت أن تلّطف من الوضع المشتعل فرسمت ابتسامة واهنة على شفتيها وهى تقول ممازحة:
-هل شعرت بالقلق علىّ يا أبى ؟ لقد كنت برفقة مها زميلتى بالعمل.
-أين كنت ؟
كرر سؤاله بنبرة أعلى وأكثر حدة مما جعلها تعترف ببساطة:
-كنا بأحد المطاعم نتناول العشاء ,أنت تعرف أننى لم أخرج منذ مدة طويلة ,كل يوم أذهب للعمل وأعود فأبقى بالبيت ...
شعر صلاح باحساس بالذنب تجاه ابنته ,فهى وحيدته ومضطرة للعمل بوظيفة مرهقة حتى تتكفل بتأمين مصروفاتهما المتزايدة وعلى الرغم من عمله الجديد الا أنه غير قادر على توفير حياة كريمة لها ,فهى فتاة بعمر الزواج وتحتاج الى تجهيزات عديدة حتى تكون مستعدة لدى الزواج ,وهى لا ينقصها الجمال ولا حسن الأخلاق ,فجميع معارفهم وجيرانهم يتمنونها عروسا لأبنائهم ,الا أنها ترفض العريس تلو الآخر بدون حتى أن تراه ,منتحلة كافة الأعذار المعقولة والغير معقولة ,فهو بحاجة الى وجودها الى جواره بعد اصابته فى الحادث ,وها هو الآن يقسو عليها وهى التى تحملت فوق طاقة عمرها الذى لم يتجاوز السادسة والعشرين عاما ,ولا بأس لو قامت بالترويح عن نفسها ولو لمرة واحدة ,كانت بالعادة ملتزمة الى أقصى الحدود لا تتأخر دقيقة واحدة عن موعدها الا اذا انشغلت بالعمل ,وفى وقتها تتصل به هاتفيا لتعلمه بغيابها.
فتح ذراعيه ليضمها بين جوانبه وهو يربت على رأسها بحنان ويغمغم بنبرة اعتذار:
-لا بأس يا هديل ,أعرف أنك بحاجة الى بعض الفسحة ,والخروج من جو المنزل الخانق ,تحتاجين الى رفقة من هم بمثل عمرك وليس قضاء الوقت جالسة مع رجل عجوز ممل مثلى.
اندفعت هديل لتخفف عن والدها وهى تقول بصدق:
-لا تقل هذا يا أبى , أنت عندى أغلى من فى الدنيا ,ولا يسعدنى أكثر من قضاء الوقت برفقتك ... ولا تقل ثانية على نفسك أنك رجل عجوز ممل ,ما زلت فى نظرى أوسم الرجال وأكثرهم شبابا وأناقة ,أى واحد ممن تعرفهم من الشباب الصغير يمكنه أن يفوقك ... هه لا أحد طبعا .
غاب ذهنه قليلا وسرح فى اسم معين:
-كريم.
-من ؟
-كنت أقول كريم ... الشرقاوى ,مديرك بالشركة.
ارتبكت بشدة لدى ذكره لاسم مرافقها الذى قضت معه السهرة بدون موعد سابق ,فقد كان القدر هو من جمعهما ,وخشيت أن يكون والدها قد انتبه لصوت سيارته حينما أقلها الى المنزل وحاولت أن تدارى توترها فقالت مستفسرة:
-ما الذى جعلك تتذكره الآن ؟
-والدته ... هناء ,أنت تعرفينها.
-نعم يا أبى.
لم يكن يطرح سؤالا على ابنته بل يقرر واقعا.
-لقد سبق وأن سألتنى عن صلتى بها , أليس كذلك ؟
-ماذا بك يا أبى ؟
-لا شئ , فقط اجلسى الى جوارى لأقص عليك الحكاية كاملة.
كان فضولها قد اشتعل ولم تعد قادرة على الصبر حتى يتحدث والدها فجلست كما طلب منها وهى تحثه على الكلام:
-كلى آذان صاغية.
وبدأ صلاح يروى قصته.


************

SHELL 05-11-18 10:02 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل العشرون


قراءة ممتعة



https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...60d6a05b28.gif

SHELL 06-11-18 09:49 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الحادى والعشرون


http://lh5.ggpht.com/_rqJshYdRc1M/Sh...we9ms/rov-.png

مرت عدة أسابيع منذ تواجهت فريال مع مجدى متهمة ايّاه بالكذب ومحاولة النيل من ذكرى زوجها ناجى ,حاولت أن تتلّهى عن وجيب قلبها الذى علا وأحال لياليها نهارا مؤرقة من كثرة التفكير ,لم يخفف عنها سوى قضائها معظم الوقت بجوار ابنتها أميرة التى تعافت تماما من أثر الحادثة ,وصارت بحالة أفضل من الأول ,كانتا تخرجان سويا لشراء ملابس جديدة فقد أغدقت فريال على ابنتها بالكثير من المال ,وكأنها تعوّضها به عن سنوات الحرمان القاسية ,وبعدها تتناولان الافطار باحدى المطاعم القريبة ,تجربان كل ما هو جديد ,وتجدّد الروتين اليومىّ لهما بذهابهما الى النادى لممارسة رياضة الجرى فى المضمار ,وكل من يراهما معا .. يبتسم لوضوح مدى التشابه بين روحيهما فعلى الرغم من أن أميرة لا تشبه والدتها كثيرا فقد ورثت عينى خالها وجدى ,أما بقية الملامح فقد تباينت ما بين ما أخذته من أبيها ناجى وأفراد العائلة الآخرين ,ببساطة تتصرف أميرة وأمها بنفس الكيفية ,تسيران بنفس طريقة المشية المعتدة ,وحتى اشارات اليد للتعبير عن الانفعالات واحدة ,كما يتطابق ذوقيهما فى تناول الطعام ,فلم تجدا صعوبة فى التقرّب من بعضهما البعض ,والأدهى أن فريال لم تكن تسمح لرفيق بالانفراد بزوجته وحدهما ,فلا بد أن تكون ثالثهما ,وكانت حجتها الغير مقنعة أنها توّد استخراج فتوى من مشيخة الأزهر بجواز علاقتهما الجديدة على أساس أن صفتها قد تغيّرت اضافة الى اسمها ,مما دفع رفيق الى الاسراع لحل هذه المعضلة حتى ينعم بالسعادة مع حبيبته التى طال فراقه عنها.
بدأ أولا اجراءات اثبات البنوّة الى عمته وزوجها الراحل ,ولم يكن هذا الاجراء مستحيلا حيث أن الطرفين موجودين وكلاهما موافق على عمل تحليل البصمة الوراثية -أى فريال وأميرة - فكانت خطوتهم الأولى فى طريقها نحو التنفيذ.
كانت اللحظات التى تفصلهما عن معرفة النتيجة قاتلة ,أما فريال فكانت تشعر بترقب لما يمكن أن تصير اليه حياتها اذا أكّد التحليل غير ما تشعر به من رابط قوىّ تجاه هذه الفتاة التى اتضح أنها ابنتها الضائعة ,ولم تكن متأهبة للقاء مجدى فى هذا الوقت ,الا أن وجود محامٍ الى جانبهم كان ضروريّا لانهاء الاجراءات القانونية المتعلّقة بالموضوع ,حينما تلاقت أعينهما بالقرب من الغرفة المعدّة للتحاليل حيث تم سحب عينتى دم من كلا المرأتين منذ عدة أيام ,فيما وقفت أميرة تستند الى ذراعى زوجها رفيق وهو يحاول مساندتها حتى ترتاح بعيدا عن هذا المكان فحينما رنت ببصرها نحو أمها ووجدتها شاحبة ترتجف كأنها رأت شبحا لتوها فأصرّت على الرفض ,فيما اقترب مجدى من فريال بخطوات بطيئة متأنّية وهو يلقى عليها التحية ببرود:
-مرحبا فريال , كيف حالك ؟
حاولت أن ترسم ابتسامة واهنة على طرفى شفتيها وهى تجاهد لتجد صوتها فتخرج الكلمات متعثّرة على لسانها الجاف :
-مرحبا ... أنا بخير.
-أرى هذا.
أجفلتها لهجته الخشنة وهو يرمقها بنظرات ناريّة محاولا تجنّب الحديث معها بعد ذلك ,ثم أخذ ينظر الى ساعته الغالية الثمن ذات الماركة العالمية وهو يعد الدقائق متأففّا من التأخير,فما ملكت نفسها لتستثيره بقولها بلهجة متعالية:
-لم يكن ضروريا أن تزعج نفسك بالحضور الى هنا ,كان يمكنك أن ترسل أى محامى لديك فى المكتب ينوب عنك بهذه المهمة, وهذا بالتأكيد لن يقلّل من قيمة أتعابك المرتفعة.
كانت تلمّح الى ارساله لمحامٍ صغير يعمل بمكتبه حينما جاءت هى وابنتها أول مرة لاجراء التحليل وحينها كانت مشتاقة لرؤيته هو بالذات بعد مقاطعتهما الطويلة ,وأخذت تتبّع كافة تفاصيله من رأسه حتى أخمص قدميه بدءا من تصفيفة شعره الأنيقة , مرورا بملامح وجهه التى تغيّرت وكأن خطوط التجاعيد قد ازدادت حول عينيه فى هذه الفترة وانتهاءا ببزته الداكنة الباهظة الثمن وحتى حذائه الأسود اللامع وكأن لم يمر عليه ذرة غبار واحدة.
تأملها بنظرات متألمة من اهانتها المتعمدة له ولكنه أخفى هذا بلمحة خاطفة وعاد لبروده وهو يجيبها بمهنية مضيّقا عينيه:
-كان علىّ أن أنجر أعمالى بنفسى حتى أتأكد من أننى أستحق الأموال التى أتقاضاها نظير خدماتى لكم ,فأنا مضطر لكسب لقمة عيشى ولست كبعض الناس أعتمد على أموال ورثتها دون قطرة عرق ,وعلى هذا فأنا أستحق كل قرش يُدفع لى.
-اذا لم تكن تطيق وجودك هنا فالأفضل لك أن ترفض مثل هذا العمل.
وأشاحت بوجهها بعيدا عنه فباغتها بأن أمسكها بقوة من ذراعها وهو يشدّد من قبضته عليها مجبرة ايّاها على الالتفات اليه وهو يهدر منذرا:
-لا عليك يا سيدة فريال ,فقط كونى متأكدة أن هذا هو لقائنا الأخير فقد تحمّلت منك ومن عائلتك ما يكفى عمرا بأكمله ,فأنا بالفعل كنت قد اعتذرت عن أية قضايا تخصكم منذ فترة اذا غاب هذا عنك ,ولكن رفيق هو من أصرّ على وجودى الى جانبكم الآن ,ولم أستطع أن أرفض طلبه فهو صديق لى قبل أن يكون موكّلى ,وليست من عاداتى أن أخذل أى شخص يعتمد علىّ ,كما أننى لست بالرجل الذى يهرب من مسؤولياته ليلقيها على كتف غيره.
ثم تركها فجأة وابتعد متجها نحو رفيق قبل أن تجد ردا مناسبا على هجومه الرادع ,فعضّت على شفتيها بقوة حتى كادت تدميهما نادمة على سوء تصرفها ,قالت تحدث نفسها بأنها تستحق أكثر من هذا ,ولو لم يكن مجدى شخصا مهذبا لتصرف معها بطريقة مغايرة أشد قسوة وايلاما.
ما الذى جعل لسانها ينفلت بهذه الاتهامات الجارحة ,لقد قصدت اهانته حتى ترد على تجاهله التام لوجودها ونفوره من الحديث معها ,يمكنها أن توهم الجميع بأنها فى قمة سعادتها حيث عادت ابنتها لأحضانها ولكنها ليست مكتفية ,قلبها النائم أيقظه من سباته عودة مجدى الى عالمها ومساندته لها أذابت الطبقة الجليدية السميكة التى كانت تغلّفه ,أما رقته وحنانه فقد أصابا عقلها بدوار شديد ,وأعاد لحياتها معانى الحب والمشاعر الجميلة الأخرى التى ظنّت أنها قد نسيتها الى الأبد , لم يكن يستحق منها أبدا هذه المعاملة المتطرفة من جانبها , فليس ذنبه أنها أساءت الاختيار من قبل حين ارتبطت بناجى مفضلة ايّاه على مجدى ,الرجل الدمث الخلق الذى وقف بجانبها دون تردد ودون مقابل ,كل ما كان يرجوه منها أن تعطيه قدرا من اهتمامها و... حبها,نعم انها تعشقه الى حد الجنون ,وليس هذا العشق وليد اللحظة ,فقد كانت تهيم به منذ أيام مراهقتها الأولى حين تفتّحت زهرة أنوثتها ومعها انبثقت مشاعر الحب الطاهر الذى لا يعرف حدودا ولا يميز الفوارق ,فقط لو لم تستسلم لاغراء ناجى القوىّ ,كان ساحرا بكل ما فى الكلمة من معنى ,لم يكن فقط وسامته الشكلية هى ما جذبتها اليه ,بل حديثه المعسول الكلمات ونظراته الدافئة ,وقدرته على جذب اهتمام الآخرين بسرعة الصاروخ ,فات أوان الندم .
لم تكن أميرة بأقل توترا من أمها القلقة ,ومالت الى زوجها تستند الى جسده القوىّ وقد أحاطها بساعده يلفه حول كتفها مشيعا بنفسها الاطمئنان والأمان ,وهو يهمس لها بعشق:
-لا تقلقى حبيبتى , فكلها بضعة دقائق وينتهى هذا الاشكال تماما.
ابتسمت وهى ترفع رأسها نحوه ,ممتنة لوجوده الى جوارها تمتمت :
-شكرا لوجودك معى ,لا أعرف كيف سأتصرف اذا أظهر التحليل شيئا غير ما نتوقع.
داعب أنفها بقوة مؤنبا وهو يحذرها بلهجة قوية:
-لا أريد أن أسمعك تتحدثين هكذا مرة أخرى ,كما لا أريدك أن تكونى متشائمة ... ثم تعالى هنا ما موقع كلمة شكرا من الاعراب بيننا ,هل توجد امرأة فى العالم تشكر زوجها لأنه يقف بجوارها ,هذا مكانى الأصلى يا حمقاء ,واذا كنت قد ابتعدت مسبقا فلم يكن بخاطرى ,كنت مضطرا لمصلحتك أنت ,وحتى لا أغضب السيدة مديحة فقد وعدتها بالحفاظ عليكِ ...
ثم توقف فجأة ليسألها باهتمام:
-صحيح ... منذ فترة لم أسمعك تحدثينها ,ترى ما السبب ؟
-ألم أخبرك أنها قد سافرت ؟
رفع حاجبيه مندهشا وهو يغمغم:
-سافرت ! الى أين ؟
اعتدلت أميرة وهى تعيد على مسامعه ما دار بآخر مكالمة لها مع السيدة مديحة:
-لقد أخبرتنى أن ابنها حسام قد وجد فرصة عمل باحدى دول الخليج ,وكان عرضا لا رفضه فسافر الى هناك مصطحبا معه زوجته ووالدته ,وأصرّت على توديعى فرحت أقابلها بناءا على رغبتها و... قد أعطتنى هذه قائلة أنها كانت تحتفظ بها الى أن يحين الوقت المناسب.
-ما هذه؟
سألها رفيق وقد أثارت فضوله بهذا الحديث الذى يسمعه للمرة الأولى فأشارت الى سلسلة باللون الفضىّ معلقّة بجيدها مخرجة ايّاها من مخبئها لتعرض اللؤلؤة البيضاء المتوسطة الحجم أمام عينيه المنبهرتين والتى يحيط بها من جوانبها فصوص صغيرة لامعة تشكّل منظر وردة ,فلامسها بأنامله بوجل وقد انفرجت أساريره قليلا ليقول بغموض:
-ها هو دليل آخر على بنّوتك لعمتى .
كشّرت أميرة وهى تنظر له بتساؤل:
-ماذا تعنى ؟
-ليس هذا وقته يا حبى , سأخبرك فيما بعد.
وبهذه اللحظة قاطعهما مجدى الذى تفاجآ لوجوده ,فيما قام بمعانقة رفيق بقوة وقد أخذ يربت على ظهره ,مد يده الى أميرة يصافحها بحرارة وهو يسألها عن حالها فأجابته بعفوية:
-بخير , بأفضل حال وأنا الى جانبكم.
ونقلت نظراتها بين الرجلين المتشابهين فى تصرفاتهما ,ولم يخفِ عليها دلائل الاهتمام فى علاقته بأمها ,وقد تكّهنت أن الأمر يتجاوز مجرد صداقة ومعرفة قديمة كما أوهمتها فريال ,فباتت تأمل لو أن الأمر يتطور بينهما الى حب وزواج ,فهذه السيدة التى تعرّفت عليها حديثها على أنها عمتها ثم اتضح أنها الأم التى تبحث عنها منذ زمن تستحق مكافأة على صبرها وتحمّلها لمأساتها المبكرة ,ومن أفضل من رجل حقيقىّ مثل هذا المحامى اللامع ... مجدى العمراوى.
انتحى مجدى جانبا برفيق معتذرا من أميرة بضرورة ملحّة لحديث شخصى ,فأومأت لهما برأسها واندفعت الى حيث كانت أمها تترنح بوقفتها فألقت بنفسها بين ذراعيها وهى تعانقها بقوة قائلة:
-ماما ... مهما كانت النتيجة فأنا أشعر بأنك أمى حقا ,ولا يهمنا الاثبات بمجرد ورقة عليها ختم لا قيمة لها أمام ما نشعر به فى قلبينا.
كانت محاولتها لالهاء والدتها عن عبء انتظار النتيجة ناجحة فقد اشتعلت وجنتاها باحمرار غزير وهى متأثرة لدرجة أن دموعها قد بدأت تتساقط على شعر ابنتها لتبلله فهزت أميرة رأسها رفضا وهى تقول بفخر:
-ماما ... كفكفى دموعك ... فنساء عائلة الشرقاوى تتحمل هموما كالجبال لا يقوَ عليها أعتى الرجال ,وكما سبق واتفقنا لن يغيّر هذا التحليل حقيقة ما نحس به.
مسحت على رأس ابنتها بمحبة وهى تتماسك من جديد مرددة كلماتها:
-نعم حبيبتى لن يغير من حقيقة ما نحس به , وأنا أكيدة أنك ابنتى ... فقلبى يستشعر احساسا مألوفا للغاية حينما أحتضنك وكأننى أضم مولودتى الصغيرة لأرضعها.
كان مجدى متجهما وهو يتحدث الى رفيق:
-انصت الىّ جيدا ,حينما ينتهى الأمر وتصبح ورقة الاثبات فى أيدينا ,أريد منك أن تسدى لى معروفا.
-تحت أمرك يا مجدى.
-أتوافق هكذا دون أن تعرف نوع المعروف الذى ستؤديه الىّ ؟
ربّت رفيق على كتفه وهو يجيبه متلطفا:
-علنا نرد لك جزءا بسيطا من جمائلك العديدة يا متر.
-أريدك أن تعفينى هذه المرة نهائيا من أية خدمات أو استشارات قانونية تخص عائلتك.
تجهّم رفيق بدوره وهو يستفسر منه بضيق:
-ما هذا الكلام الذى أسمعه ؟ وهل هذا يشمل عمتى فريال أيضا ؟
-بالأخص عمتك فريال ,أما عنك أنت فأنا حاضر دائما لأفديك ولو بعنقى.
حاول رفيق أن يجادله فيما يطلبه بلا جدوى فأذعن بنهاية الأمر لرغبة المحامى الذى عرفه منذ نعومة أظفاره الشخص المؤتمن على أسرار جده والموثوق به من جانب أفراد العائلة جميعهم.



*********************

SHELL 06-11-18 09:51 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
مهما حاولت تجاهل ذلك النداء الخفىّ الذى يغزوها كلما لمحت اسمه متصلا بها ,فهى واقعة حتما تحت تأثير قوى سحرية غامضة ,فما الذى يدعوها للاستجابة له بمثل هذا الانجذاب الفورىّ ,كيف غادرها التعقّل بل وفقدت القدرة على التحكّم بمشاعرها ,لماذا هو دونا عن الآخرين ؟
ولكن أين هم هؤلاء الآخرون ؟ لا يوجد رجل واحد فى حياتها ,حتى زملائها بالكلية لم ترقَ علاقتها بأحدهم لأكثر من مستوى الصداقة العادية التى تفرضها الدراسة عليهم ,وأقاربها ... أبناء عمومتها ... كريم ... انه مجرد أخ تشعر نحوه بذات المشاعر التى تكنّها لرفيق ,أما عن سيف ... فحدث ولا حرج , ربما انجذبت له وقتيا فهو شخص رائع لا تملك الواحدة نفسها الا وهى مشدودة لشخصيته الجذابة وتأثيره العميق حينما يتحدث واثقا عن شئ ما ,بيد أنهما دائما يتنافران كقطبين متشابهين ,ويحلو له استفزازها باستمرار ,لم يعجبها ما توّصلت اليه من استنتاج مؤكد بأنها لم تشعر ببوادر الحب أو الاعجاب القوىّ بأى واحد من قبل الا عندما التقت جاسرا ,يتيه عقلها منها وتفقد آخر ذرة من التفكير السليم اذا طالبها بشئ غير معقول كما صار معها منذ لقائهما الأول ,وقد تعددت هذه اللقاءات حتى صارت بنمط شبه يومى وهى منجذبة له كالمنوّمة مغناطيسيا لا تحاول ولا تريد الفكاك من جاذبيته الهائلة ,ما ينغص عليها فرحتها الوليدة بهذه المشاعر هو اخفائها الأمر عن أهلها فهى لم تستسغ فكرة كتمانها لأمر هذه العلاقة الجديدة ,وهى التى تعوّدت على الصراحة وسلوك الطريق القويم.
تجاوبت بلهفة مع اتصاله وهى تتشبث بهاتفها وكأنها تمسك بيديها طوق النجاة أو الذى سوف يغرقها لا محالة بدوامة:
-آلو ... جاسر.
-ريم , ما أخبارك ؟
-أنا بخير , وأنت ؟
-لست بخير على الاطلاق.
هتفت بجزع لم تستطع اخفائه:
-ماذا حدث لك ؟ هل أصابك مكروه ؟
-لقد أصابنى منذ وقت بعيد ,ولكن ...
-تكلّم , أرجوك ماذا بك ؟
-هل أنت قلقة علىّ ؟ أم أننى أتوهم هذا الاحساس ؟
-بالطبع قلقة فأنت ..
وصمتت وقد تغلّب عليها الخجل مما كانت فى طريقها لقوله دون وعى.
-أنت ماذا ؟ لماذا بترت عبارتك فجأة ...ريم أما زلت معى ؟
أغمضت عينيها وهى تلقى بنفسها على فراشها حتى تستجمع شتات روحها التى تمزقت وتجيبه بصوت مرتعش:
-أنا .. معك.
-حقا ؟ ولمَ أشعر بأنك قد ابتعدت آلاف الأميال عنى ؟
تعجبت من حديثه وهى ترد بطريقة منطقية:
-وكيف يكون هذا ونحن نسكن بذات المحافظة ؟ أليس هذا صحيحا ؟ أنا لم أسألك أبدا أين تقيم !
تناهى الى أذنيها صوت قهقهة مرحة تخرج من القلب وهو يجيبها بطريقته الساحرة:
-لا أتحدث عن المسافة التى تفصلنا على أرض الواقع يا عزيزتى ,أنا أقصد ... عقلك ... مشاعرك ... كلك.
تهرّب بذكاء من سؤالها عن مكان اقامته ولفّها باجابة نقلتها الى عالم آخر ,انه يتحدث عن مشاعرها نحوه , ألم يدرك بعد ما الذى يعنيه لها ؟
-ها قد عدت للصمت مرة أخرى ,يبدو أننى أثقل عليك باتصالاتى ,أعتذر منك على الازعاج.
وقبل أن ينهى الاتصال قالت بلوعة:
-انتظر يا جاسر ,لم أقصد هذا ,أعنى أننى فقط مترددة وغير متأكدة مما يتوجب علىّ أن أقوله لك.
-لا يوجد فى الحب واجب ... فقط اتركى قلبك يقودك حتى النهاية ,وهوالذى يملى عليك خطواتك ...
الحب ؟ ابتلعت ريقها بصعوبة فمهما بلغ بخيالها أقاصى السماء لم تكن لتصدّق أن يعترف بمثل هذه البساطة ,كان رابط الجأش ثابتا لا يتزحزح وهو يحدّثها عن الحب.
-هل أفهم من صمتك ,أنها قد أصبحت عادة لديكِ ,أم أننى أضجرك بكلامى ؟
-كلا , فقط تفاجأت .. أنت تحدثت عن الحب !
كانت تتساءل بأمل هل يوجد لعلاقتهما مستقبلا ,فأجابها مؤكدا:
-لقد اشتقت اليكِ , أود مقابلتك اليوم على وجه السرعة.
انه لا يمنحها أى فرصة للتفكير فهو يعاجلها بالصدمات الواحدة تلو الأخرى ,وعادت لتقول بشرود:
-لقد أخبرتنى فى البداية أنك لست بخير فما الأمر ؟
اعترف صراحة:
-بالطبع ,فأنا لا أكف عن التفكير بك ,ولا تبرحنى ذكرى ابتسامة عينيك الجميلتين ,فأردت لقاءك حتى أستعيد قدرتى على التنفس من جديد.
-............ لا يمكن أن يكون هذا حقيقيا.
-ولماذا ؟
-أبهذه السرعة ؟
-حينما تتلاقى الأرواح التى تعرف بعضها منذ قديم الأزل ,لا يعود للوقت أى قيمة.
-هل ستعود الى هذا الحديث العجيب مرة ثانية ... تلاقى الأرواح ... وأننا تقابلنا فى عالم آخر من قبل ,انك تهذى بلا شك.
-وما الحب الا هذيان يا طفلتى ,لاقينى لأخبرك عن الدليل على صدق كلامى ,وأتحداكِ أن تنكرى بعدها تلاقى الأرواح.
-حسنا , حسنا لقد ربحت مجددا ,سوف أقابلك فقط لأثبت لك خطأ ظنك.
-وأنا لا أريد سوى هذا.
وكان يعنى أنه يتمنى رؤيتها ,فتواعدا على اللقاء.


******************

SHELL 06-11-18 09:53 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-ما لك تجلس شاردا ويبدو على وجهك دلائل التعاسة ,لم يكن ما حدث نهاية العالم.
كانت منى تلوم زوجها على بؤسه واستسلامه للهموم ,فيما أخذ يحدجها بنظرات نارية من شدة الغضب ولم يرد عليها بل نظر من زجاج النافذة المفتوحة حيث يجلس على مقعد قريب يتأمل لون السماء الزرقاء التى تمتلأ بالسحب تبدو كمن ينادى على أحد ليلحق بها ,ولكم تمنى لو استطاع الهرب من هذا المحيط الخانق , فقد تكالبت عليه جميع مصائب الدنيا لتحط فوق رأسه وحده دونا عن الآخرين ,ففريال محقة بحقدها عليه ,لقد خذلها فى السابق على الرغم من وقوفها دوما الى جواره ومساندته فى أزماته ,أما عن ابنه سيف ... فلا شك أنه يحتقره الآن ,وله كل الحق فى ألا يفخر بوالد مثله ضعيف الشخصية حقير ,يندى لأفعاله الجبين ,انغمس ولده فى العمل وأخذ يسهر خارج المنزل فلا يعود الا متأخرا للنوم فقط ,أخذ يفكر كيف سيصلح ما انكسر بينه وبين ابنه الوحيد ,أنه أغلى ما يملك بهذه الحياة ,لقد صبر وتحمّل زوجته طوال هذه السنوات فقط من أجل خاطره ,لم يضحّ بسعادته وراحة باله هباءا ,فسيف نشأ وتربّى فى بيت العائلة كأقرانه فى ظل أسرة تبدو مترابطة ومتماسكة ,ولم يخطر بباله يوما أنه سيعرف حقيقة أبيه البشعة.
سمعها تسخر من استكانته وعدم اتخاذه لأية خطوة جديّة فى حياته ,فما
لبث أن انتفض ثائرا على ضعفه وقلة حيلته متهما ايّاها بأفظع التهم وهو يشير باصبعه مهددا:
-كله بسببك أنت ,لا أدرى كيف احتملتك طوال هذه المدة ؟
أشارت الى نفسها مندهشة وهى تقول بتصميم:
-أنا ؟ ولماذا تلقِ عليك باللوم ؟ ما ذنبى أنا فيما حدث ؟
-بسببك أنت خسرت أختى الوحيدة وابنتها.
-وهل أنا التى دفعتها لتتزوج سرا دون موافقة أبيها وتحمل أيضا ؟
نظر لها غير مصدق لما تتفوّه به فى حق شقيقته الغالية فأخذ يضحك منها ساخرا:
-أنسيتِ يا امرأة ... قصتنا ... انها تتكرر , يبدو أن التقدم فى العمر قد أثّر على ذاكرتك ,لقد سبقناها فى هذه الفعلة ,والغريب أنها كانت تؤيدنا ولم تذهب الى أبى لتشى بنا , هه ؟
ازدردت منى ريقها وهى تجده يلمّح الى دورها الخبيث فى فضح فريال ,فهى من قام بالوشاية بها بعد أن أستأمنتها على سرها ,كانت بحاجة الى المساعدة ولم تجد سوى زوجة أخيها لتبوح لها بمكنونات صدرها ,فكان جزاؤها ما نالته على يدى أبيها من عذاب أوصلها الى حافة الجنون بعد أن فقدت صغيرتها ولكن رعاية الله أنقذتها بمعجزة.
وثقت فريال بمنى ولم تشك باخلاصها فهى التى وقفت تؤازرها عندما اقترن بها عادل ضد رغبة العائلة ,عرف عادل مصادفة دورها القذر حينما رآها تخرج من غرفة مكتب أبيه وهى تتلفت يمنة ويسرة خشية أن يراها أى فرد من العائلة ,ثم خرج على اثرها من المنزل وعاد بعد ساعة واحدة مصطحبا ابنته الهاربة معه.
-أنا لا أعرف عما تتحدث بالضبط.
-فريال التى وضعت سرها لديك ,وقمت ببساطة ببيعها بأبخس الأثمان ,نعم فالخائن لا أمان له , هل صدقتِ يوما أن أبى قد غفر لكِ زواجك منى دون ارادته وانجابك لحفيده ؟ هل هيّأ لك خيالك الجامح أنه سيرد لك الجميل بعد أن حطمت أمامه صورة ابنته المثالية وأشعرته بالانحطاط ,هل تحبين أن أذكرك بكمال الراوى أم أنك لا تحتاجين مساعدتى ؟
أصابها الهلع وهى تسمع هذا الاسم مجددا بعد أن اعتقدت أنها قد محته من حياتها نهائيا ,لا تتصور أن زوجها ما زال يحمل لها كل هذا الكم من مشاعر البغضاء والكراهية ,بعد أن فاجأها بمكتب خطيبها السابق كمال الراوى ,ذلك الرجل الذى عشقها يوما ما أكثر من روحه ثم شعر نحوها بالاحتقار بقية عمره ,تذكرت ذلك اليوم الذى لن تغفل ذاكرتها تفاصيله الدقيقة ,سمعت حماها يتحدث الى رجل لا تعرفه ولكنها شعرت أنه غير جدير بالثقة على الاطلاق بخصوص أمر يتعلق بأعمال كمال الراوى ,الذى صار منافسا قويا فى السوق بعد زواجه من ابنة أحد رجال الأعمال البارزين ,شعرت بحيرة بالغة ... هل تذهب لتحذيره ؟ أم تبقى ببيتها متناسية ما كان ,وتغلّبت عليها صحوة مفاجئة للضمير فاذا كانت قد تخلّت عنه سابقا فهى مدينة له بهذا ,غادرت المنزل خفية عن الأعين واتجهت نحو شركة كمال التى أسّسها بمساعدة زوجته -الوريثة الثريّة - وضع فيها كل ما تملك من مال ,شعرت باحساس غامض بأنها منساقة وراء فخ ,ولم تعِ ما يحدث معها الا حينما فوجئت برؤية زوجها مندفعا الى مكتب كمال وهو يرمقها بنظرات احتقار ثم أمسك بتلابيب الرجل المصدوم مما يحدث أمامه ,فأخذ يرغى ويزبد وكاد أن يجهز على غريمه حتى تدخل أفراد الأمن لمنعه ,فاستسلم بعد مقاومة عنيفة ثم جذبها من ذراعها يجرّها خلفه وهو يطلق تهديداته المخيفة ,لم يمنحها فرصة للتبرير أو التفسير ,فما رآه بعينيه كان دليلا دامغا على خيانتها ,وان لم يتعد الأمر مجرد مقابلة بريئة بينهما ,لم تجرؤ على اجابته حينما سألها عما كانت تفعله بمكتب خطيبها السابق ,واصل محاولاته المستميتة لدفعها حتى تتحدث ,وهى أرادت من كل قلبها الدفاع عن نفسها وتبرئة ساحتها أمام زوجها الذى أحبته بصدق ,فعادل هو الشخص الوحيد الذى لم ينظر لها باستعلاء على أنها تعمل سكرتيرة لديهم ,وعاملها كأميرة بعد زواجه منها ,فأوغر صدر أبيه من هذه المرأة التى استطاعت أن تطوى ابنه تحت ابطها كما تصوّر .
تذّكرت الشهور المتتالية وهو يواصل الضغط عليها حتى تحاول الدفاع عن نفسها ,فخشيت لو أخبرته بالسبب الحقيقى أن يخبر حماها بموقفها تجاه كمال ,ويحطم هذا الرجل حياتها الى أشلاء ,أغفل عادل ذكر ما حدث بينه وبين زوجته عن العائلة ما كان بيده أن يفعل ... هل يذهب ليبكى تحت قدمى أبيه ويخبره بأنه وجد زوجته المخلصة فى مكتب حبيبها السابق ,هل يطلب منه السماح والغفران لأنه خبّر حقيقتها قبل الجميع ,وهو الذى انساق نحو شركها مخدوعا معميّا عن مساوئها ,أخذ يسألها محترقا بنار الشك والغيرة : ما الذى كان ينقصك معى ؟ بمِ قصّرت ؟ ولكنه كان يعى حرمانها من حقها الطبيعى فى أن تنجب أخوة لابنها الوحيد ,كانت هذه هى نقطة الضعف الوحيدة ,فبعد اقصاء فريال الى مكان بعيد , أصابته حالة نفسية سيئة ,أثّرت على سير حياته الزوجية ,فحينما واجه منى بدليله القاطع على خيانتها ثارت بوجهه متهمة ايّاه بتقصيره المخذل فى حقها ,مما اضطره الى السكوت والتسامح مع موقفها أو لنقل على وجه الدقة التعايش ... فقط تعايش معها ومع ذكرى عدم الاخلاص ... لم ينسَ قط ما فعلته ولم يغفر لها معايرتها له ,فانهار زواجهما فعليا وقتها وصار مجرد زواجا اسميا اكراما لصالح سيف.
-أنت ما زلت حاقدا علىّ لهذا السبب , لا تستطيع النسيان أو الغفران ... حسنا ,ولو أن هذا لن يفيدنا لكننى سأخبرك بالحقيقة كاملة , فلم يعد هناك من أخاف تسلّطه , ولم يعد لدىّ ما أفقده, ولكن أخبرنى كيف عرفت أننى ذهبت الى شركته فى هذا التوقيت ؟
ضاقت عيناه وهو يتمزق كليا بسبب سيل الذكريات المؤلمة فاندفع قائلا بمرارة:
-والدى ... هو من أرسلنى الى كمال حتى يتفاهم معه بأمر الصفقة المشتركة بينهما ,ولم أصدّق عينىَ حين لمحتك تتسللين الى مكتبه بعيدا عن الأنظار ,كنت مغفلا لأقصى درجة , أليس كذلك ؟
انبرت تدافع عن نفسها وعن زوجها الذى اتسعت الهوة بينهه وبينه على مدار الأيام سامحين للحب الكبير الذى ربط قلبيهما أن يتحول الى حقد دفين ,فأخذت تهز رأسها بعنف وهى تنفى هذا الاتهام:
-لم تكن مغفلا وحدك , فقد وقعت فى الشرك مثلك .
وبدأت تعيد أحداث هذه الليلة البعيدة حيث فقدت كل معانى السعادة الصادقة على اثرها ,واندفن معها قلبها ومشاعرها ... خلف قناع من الجمود والحقد الذى سيطر على تصرفاتها تجاه عائلة زوجها.


***********************

SHELL 06-11-18 09:54 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد انتهاء موعد العمل الرسمى بشركة الشرقاوى ,وبدأ الموظفون يتأهبون لمغادرة المكان ,تلّقت هديل استدعاءا من مكتب رئيسها بالعمل ,فتعجبت لاختياره هذه الساعة بالذات ليطلبها ,وما بيدها الا الانصياع لرغبته ,نهضت من أمام شاشة الكمبيوتر الذى أغلقته للتو وأخذت تسوّى من ملابسها التى تجعّدت بفعل جلوسها الطويل على المقعد المريح ,وألقت نظرة سريعة على وجهها فى مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبة يدها وعدّلت من بضعة خصلات شاردة وكانت قد تركت شعرها منسدلا على كتفيها بنعومة ودلال ,تنفست بعمق وهى تستعد لمواجهته ,فبعد سهرتهما الوحيدة تغيّرت معاملته لها تماما , أصبح يعاملها بطريقة شبه رسمية ,وكأنهما لم يتشاركا أمسية جميلة بقيت ذكراها تؤرق لياليها ,تسافر بها فوق سحب وغيوم لتحلّق عاليا فى سماء حلم صعب المنال ,ستبقى بنظره مجرد سكرتيرة لا أكثر فلا حاجة بها الى العيش فى أوهام ,يكفيها وجع القلب الذى لن يفارقها مدى الحياة ,جرّاء حبها المستحيل لرب عملها.
طرقت على الباب مرتين بخفة قبل أن تدلف الى الداخل ,كان كريم مشغولا بقراءة بعض الأوراق على سطح مكتبه ,وبدا عليه أنه لم ينتبه للفتاة الجميلة الواقفة تراقبه بشغف واضح وهى تعتقد أنه غافل عن رؤية مشاعرها الجليّة فى نظرات عينيها الولهى.
-لقد طلبتنى يا سيد كريم.
ترك الأوراق من بين يديه لتستقر باهمال على المكتب وهو يتابعها بنظراته الثاقبة لترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يرفع حاجبيه عاليا بتساؤل واضح:
-سيد كريم ! آخر مرة كنا فيها سويّا كنت فقط كريم ... ما الداعى لهذه الرسميات المفاجئة ؟
هزت كتفيها بعدم فهم وهى تشير الى المكان باصبعها موضحة:
-نحن بالعمل , وأنا لست سوى سكرتيرتك ,فكيف أدعوك باسمك مجردا ؟
نظر الى ساعته باهتمام ثم رفع بصره اليها يحدجها بنظرات ذات معانٍ كثيرة ,ثم ما لبث أن قال بخفة:
-لقد انتهى الوقت الرسمى للعمل ,ونحن الآن نجرى حديثا عاديا بين اثنين أصدقاء.
-أصدقاء ! أنا وأنت ؟
وأشارت باصبعها نحوه ثم الى نفسها وهى تحاول استيعاب ما يحاول ايصاله لها ,فقام مقتربا منها وهو يلتقط سترته الملقاة على الأريكة الجانبية وهو يقترح متبسطا:
-هل لديك مانع أن أدعوكِ الى الغداء ؟ فلا رغبة لى بالعودة الى المنزل , فهل تشاركيننى ؟
-هل تدعونى لأنك تريد ذلك أم مجرد أنك بحاجة الى رفقة ؟
حك رأسه مفكّرا بطريقة فكاهية ثم زم شفتيه وهو يهمس فى أذنها باغراء:
-لا تنقصنى الرفقة اذا شئت ,وأنا لا أكرّر عرضى مرتين ,اذا وافقتِ فما عليكِ سوى أن تتبعيننى حتى المرآب ,أما اذا قررت الرفض ... فلن يصبح أمامى خيار آخر سوى أن ... أحاول اقناعك ... بطريقة أخرى.
حتى وهو يدعوها الى مرافقته يتعمّد احراجها بهذا الأسلوب ,وساورتها الشكوك هل يعرف بحقيقة لهفتها لوجودها معه حتى ولو كانت مجرد دعوة بسيطة للغداء ,ولكنها تراها فرصة عظيمة بعد تجاهل دام أسابيع ,فالتفتت لتجده فى طريقه الى الخارج ,هرعت ورائه لتحضر حقيبتها وهى تطالبه بانتظارها دقيقتين حتى تجرى مكالمة هاتفية ,فنظر لها متأملا وقد أدرك غايتها , لا بد أنها تريد اخبار والدها بغيابها فأومأ لها مجيبا وهو يردد بانذار:
-فقط دقيقتين ,ثانية واحدة زيادة ... لن تجديننى.
ثم غمز لها بعينيه فذاب قلبها لهذه اللفتة المتبسطة تجاهها,وسبقها منصرفا وهو يصفّر بشفتيه لحنا سريعا.
ما الذى دفعنى للموافقة ؟ لا ينقصنى المزيد من الألم والوجع ؟
كانت تخاطب نفسها ثم اتصلت بوالدها لتعتذر عن الانضمام له متعللة بحجة كاذبة ,وهى تواجه ضميرها : الى أين سيوصلك السيد كريم ؟ الى انتحال الكذب ببساطة وكأنه حق لك ؟ أتخونين ثقة والدك الكبيرة بكِ ؟
أخرست هذا الصوت الضعيف وخرجت مندفعة لتلحق برجل أحلامها.

******************

SHELL 06-11-18 09:57 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
سارت مها بتمهّل وهى تعرج بشكل واضح بعد أن تعثّرت بحجر صغير ملقى باهمال على جانب الطريق مما أدى الى كسر كعب حذائها العالى ,فأخذت تسب وتلعن حظها السيئ وكانت تقف بين الحين والآخر متلفتة عليها تجد سيارة أجرة خالية حتى تقلّها الى منزلها وهى فى قمة الاحباط.
قاد سيف سيارته ببطء على غير عادته فكان منشغلا عن متابعة الطريق باتصال والدته الهاتفىّ ,نظر الى هاتفه بضيق وهو يضغط على انهاء المكالمة مرتين متتاليتين وهو يلعن بغضب:
-ألا تفهم ؟ لا أريد أن أسمع أيا منهما .
مجرد التفكير بأن هذين الشخصين الأنانيين هما والداه يشعره برغبة فى تحطيم هذا الهاتف الى قطع صغيرة حتى يتخلّص من الحاحهما المزعج ,فقد بات يتجنّبهما بعد معرفته بالدور القذر الذى لعباه لتحطيم حياة عمته ,رفع بصره نحو الطريق فوجدها تتلفت حولها باحثة عن شئ ما وكانت مشيتها غريبة جدا وأثارت لديه رغبة مفاجئة للضحك ,أوقف سيارته بهدوء قاطعا عليها الطريق.
فوجئت بمن يحاول ايقافها فلم تملك نفسها الا وهى تصيح بغضب والشرر يتطاير من عينيها بعد أن كادت تقع للمرة الثانية فى نفس اليوم:
-ماذا تظن نفسك فاعلا يا هذا ؟ ألا ترى أمامك ؟
انقطعت أنفاسها وهى تشاهده يخرج من وراء مقعد السائق , طيف ذلك الرجل الذى أصبح يشغل أيامها ولياليها تفكيرا , مجسّدا أمامها يكتم ضحكاته لعصبيتها المفرطة ,وهو يشير نحوها بتساؤل:
-ما الذى صار معك ؟ لماذا تعرجين بمشيتك ؟
كان سؤاله فى ظاهره اهتماما مبطنّا ببعض السخرية وربما الشماتة فرفعت رأسها عاليا بكبرياء جريحة وهى تجيبه وكأن الأمر لا يخصها:
-لا شئ , فقط انكسر كعب حذائى بعد أن اصطدمت بحجر.
-اركبى اذن لأوصلك.
أجابت بشمم:
-لا داعٍ لأن تزعج نفسك من أجلى , فسوف أستقل سيارة أجرة.
تلفت حوله بمغزى وكان الطريق خاليا الا من بضعة سيارات ملاكى تذهب بطريقها غير عابئة بالمارة الواقفين ,وأخذ يتتبع بنظراته ثوبها القصير نزولا حتى كعب حذائها المكسور وهو يضيف متبرما:
-هيا يا مها , سوف تنتظرين ساعات حتى تمر سيارة أجرة خالية ,ولا يمكنك البقاء واقفة هكذا بفردة واحدة ,كما أن المشى سوف يؤلم قدميك.
شعرت بكرامتها تنسحق تحت وطأة منطقه البسيط وكانت تعرف أنه محق ,لماذا لا تنتهز هذه الفرصة التى جاءتها على طبق من فضة بدون سابق تخطيط منها ,فتحركت بوجل نحو المقعد المجاور له بعد أن شعر باستكانتها عاد الى مكانه خلف المقود وهو يأمرها بربط حزام الأمان ,استجابت لطلبه وهى تحاول أغلاق القفل بأصابع مترددة فأخفقت مرتين مما أثار ضجره فمد يده ليحكم القفل حول خصرها فتلامست أناملهما بلحظة خاطفة ,ثم تلاقت نظرات أعينهما فانتقل تيار كهربائى سرى بجسدها ,حاولت أن تزيح يده عن جسدها فأسرع يسحبها ملامسا ركبتها بطريقة عرضية زادت من ارتباكها الواضح ,أدار المفتاح بمرونة وقاد سيارته مسرعا ليحاول التغلّب على عواطفه التى كادت أن تخونه فى لحظة ضعف , لماذا تثير فيه هذا الفتاة احساس الحماية لدى الرجل ؟ لماذا يشعر بأنه تحت هذا القناع المتماسك تقبع روح أنثى ضعيفة تحاول الاعلان عن قدرة مزيّفة على المقاومة ؟
سألها بلا مبالاة وكأن الأمر لا يعنيه:
-لماذا لم تتزوج فتاة جميلة مثلك حتى الآن ؟
-أنه النصيب ,لم يأتِ بعد.
-لا يمكن أن تقصدى أنه لا يوجد رجل يرغب بالاقتران بكِ حتى هذه اللحظة ,فلا بد أنهم قد أصيبوا بالعمى.
-الزواج يتطلب أكثر من مجرد وجه جميل ,فلأن معظم الرجال الذين قابلتهم يفكرون بمثل طريقتك ولا ينظرون الا الى الشكل الخارجىّ للفتاة ,بينما يهملون جانبا هاما وهو أن المرأة أيضا كيان عاطفىّ يحتاج الى التفهّم والمشاركة .
-أنا لم اقل أبدا أنك مجرد وجه جميل ,وهذا يعتبر تواضعا من جانبك فأنت رائعة الحسن ,وتملكين عقلا لامعا حتى استطعتِ التكيّف بالعمل مع شخص مثل رفيق ابن عمى , فهو غول حقيقىّ.
ابتسمت لدى ذكره لكلمة ( غول ) وهو يصف مديرها بدقة متناهية ,ولا يعرف أنهم يطلقون عليهم لقب ( الوحوش الثلاثة ) نظرا لتشابههم الواضح فى تعاملهم مع الموظفين ,الصرامة والحزم اضافة الى المباشرة والوضوح ,مع عدم التهاون مع المقصّر أو اغفال أى خطأ ولو كان بسيطا.
-السيد رفيق يتعامل معى بطريقة أراها أكثر من عادلة بالنسبة لى ,فطبيعة العلاقة هى عمليّة بحتة بلا أوهام ولا مناورات.
كانت تشير بوضوح الى السمعة المعروفة عن معظم السكرتيرات وعلاقاتهن برؤسائهن ,والتى لم تترك مجالا للشريفات بهذا المجال ألا تلوك سيرتهن الألسنة لمجرد اهتمامهن المبالغ به فى مظهرهن وزينتهن.
-أعرف أن رفيق صريح وواضح ,ومن يضمن لك أن كل من تعملين معهم مثله ؟
-ومن أخبرك أننى أرغب برب عمل جديد ؟
زفر بتنهيدة وهو يقول بلهجة العارف ببواطن الأمور:
-الحياة ... لا تستمر على وتيرة واحدة , ربما استجدت بعض الأمور التى ان عرف بها رفيق فلن يتوانَ عن استبدالك بأخرى ؟
اعتدلت بجلستها وهى تتطلع اليه بمزيج من الحيرة والقلق:
-ما الذى يعنيه حديثك ؟ هل أخطأت بعملى ؟ أننى حتى أرفض أخذ اجازاتى المستحقة ,وأعمل بكفاءة يشيد بها الجميع وأولهم رئيسى المباشر والريّس فى نفس الوقت الذى يدير الشركة كلها.
ضغط على مكابح سيارته بقوة حتى توقفت بحركة مفاجئة وهو يواجهها بعنف:
-أنا لا أتحدث عن عملك ,بل أتحدث عما تحاولين اخفائه.
-وما هو الشئ الذى أحاول اخفائه ؟
كانت تتحدّاه بتهوّر ولم تكن على قدر هذا التحدّى فقد استهانت بقدرته على كشف الخبايا والأسرار التى اعتقدت أنها دفنت مع موت ذويها.
-سأخبرك بالتفصيل الممل ,اذا كنت غير متعجلّة العودة الى المنزل .
-لا بد أن أذهب الى البيت حتى أبدّل حذائى.
-اتفقنا , سوف نمر على منزلك أولا ,أو أنك قد غيّرتِ رأيك وسوف تقومين بدعوتى الى فنجان من القهوة هذه المرة ؟ أرى أن الوقت ليس متأخرا كالمرة السابقة , فلا عذر لديكِ.
أشعرها حدس صادق بأنها منساقة نحو فخ لا تدرى أين ينصب لها ,ومع ذلك فهى تسقط فيه بسذاجة مذهلة.


**************

SHELL 06-11-18 10:31 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-انتظرى يا ليلى.
استوقفها زميلها خالد بينما تسرع لمغادرة المكتب بعد أن طلبت من السيد فهمى بأن يعطيها اجازة لمدة يومين أخبرته أنها بحاجة ماسة اليها ,وانضم لها يرافقها فى سيرها الى الخارج وهو يسألها بفضول:
-لماذا أنت متعجلة للرحيل ؟
بسطت يديها باشارة لا معنى لها وهى تجيبه بعدم اهتمام:
-لقد حان موعد الانصراف ,ومن يحب البقاء ثانية واحدة فى مكان عمله بعد انقضاء يوم شاق جدا ؟
-لديك كل الحق ,فمع غياب لبنى عن المكتب أصبح العمل مكدّسا فوق كتفىّ أنا وجاسر ,هذه الفتاة كانت جبلا تحمل عنّا الكثير من الشغل.
-ما زلت تناديها بهذا الاسم ؟
نظر لها باستفسار وهو يقطّب جبينه متسائلا:
-وبأى اسم تريدين منى أن أناديها ؟
-اسمها الآخر ؟
-على حد علمى لا يحمل المرء أكثر من اسمين والا كانت هذه جريمة يعاقب عليها القانون.
ضحكت على جهله بالحقيقة وهى تنظر له باشفاق محاولة توضيح الأمر له:
-ألم يخبرك جاسر بعد بما حدث ؟ كنت أظنه لا يخفى عنك أمرا.
-اسمعى يا ليلى اذا أردت اخبارى بالأمر فلا تحاولى لعب الاستغماية معى ,أما اذا كنت تمزحين فلا طاقة لى ...
قاطعته وقد هالها مزاجه المتغيّر وهى التى لم تعتد من خالد على هذه الطريقة فى معاملتها ,دائما يحدّثها بأسلوب فيه الكثير من الاحترام والتقدير ,باختصار كان يراها بصورة غير ما يستنتجها الآخرون عنها ,مسيئين اليها ,فتلاشت ابتسامتها ليحل محلها العبوس وهى تعتذر له:
-أنا آسفة , لم أكن أقصد مضايقتك.
-لا عليكِ ,ان ضغط العمل يثير أعصابى هذه الأيام , كما أن حال جاسر لا يعجبنى أبدا.
-دعه وشأنه يا خالد ,فهو يعرف طريقه بدون الحاجة الى ارشادك ونصحك.
-لا يمكننى أن أتخلّى عن صديقى ,فالصديق وقت الضيق.
-وها قد انفرجت الأزمة ,وتحسنّت أحواله الى الأفضل ... بعد أن انكشفت حقيقة أميرة له.
-أميرة من ؟ عمن تتحدثين بالضبط ؟ صرت تتكلمين بالألغاز.
حاولت أن تشيع جوا من المرح فأضافت بهزل:
-نعم صرت أشبه المس ماربل فى قصص أجاثا كريستى ,هكذا كان يحدث فى قريتى.
وأخذت تقلّد طريقة الروايات البوليسية التى تهوى قراءتها.
-أننى أتحدث بجدية , من هى أميرة هذه ؟
-أنها هى بذاتها لبنى من كانت تعمل معنا.
-لا يمكن , وكيف بدّلت اسمها ؟ وما الداعى لذلك التحوّل ؟
-بل قل أنها استعادت شخصيتها الحقيقية ,فهى كانت فاقدة للذاكرة طوال السنوات التى عملتها بالمكتب حين تعرّفنا عليها ,والبقية تطول شرحها ,لماذا لا تعزمنى على الغداء وسوف أقصّ عليك الحكاية بأكملها.
كان الاغراء قويا ولم يكن خالد محصنا من الاستجابة لمثل هذه الدعوة الغير منتظرة من جانب ليلى ,فتأبطّ ذراعها منتشيا متناسيا كل أحزانه ومتاعبه.


******************

SHELL 06-11-18 10:33 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الحادى والعشرون


http://files2.fatakat.com/2013/7/13734083981992.gif

SHELL 07-11-18 10:57 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثانى والعشرون

https://i.skyrock.net/5249/102845249...5_P4WkZOpE.gif


وجدته جالسا بركن قصىّ يتأمل المشهد الرائع لنهر النيل فى ذلك المطعم الشهير المطل على الكورنيش والذى يقع فى الطابق العلوىّ ,وما أن اقتربت من منضدته حتى التفت اليها ناهضا من مقعده ليستقبلها بترحاب ,وهو يمد كلتا يديه يحتضن كفيها بين راحتيه الدافئتين ثم يزيح لها مقعدا مقابلا له حتى تجلس عليه وعاد الى مجلسه بحركة رشيقة,
تطلّع الى عينيها الباسمتين وهو يبثها شوقه الواضح:
-اشتقت لكِ كثيرا.
أخفضت عينيها حياءا وهى تتصنّع الانشغال بهاتفها بينما وجد فى نفسه الجرأة ليسحبه من بين يديها ويضعه جانبا ليضيف بتأنى:
-لا أريد أن يشغلك عنّى أى شئ ,وأنت معى انسِ العالم بأكمله.
ناظرته متطلعة وهى تحاول سبر أغوار عينيه الغامضتين مرددة بتعجب:
-لم أتخيل ابدا هذا ,أكاد لا أصدق ما يحدث لى.
شعر بصدق اعترافها العفوىّ فطعنته براءتها بالصميم وهو يؤكد لها:
-أنا أيضا أكاد لا أصدق حظى السعيد .. فقد تحقق حلمى الغالى أخيرا ,وها أنا أراكِ أمامى ولا أعرف ما الذى قمت به فى حياتى حتى أنال اهتمام انسانة رائعة مثلك ؟
احمرّت وجنتاها خجلا من اطرائه المنمّق فأجابته محدقة بوجهه:
-ليس الى هذه الدرجة , أنت تبالغ كثيرا ,أنا مجرد فتاة عادية جدا ,أحيا مثل الكثيرات على هامش الحياة بلا فائدة حقيقية ,ربما أنتمى لعائلة عريقة ومعروفة ... بيد أننى لا أمثّلها على الاطلاق.
استند بمرفقه الى الطاولة وهو يشعل سيجارا ليدخنّها مدققا النظر الى الفتاة الهادئة أمامه وهى تعترف ببساطة أنها مجرد نكرة فأجابها بحدة :
-لا أعتقد أنك تعرفين قيمتك الحقيقية , ولا ما كنتِ تفوّهتى بهذه الحماقات.
انتفضت خوفا من نبرته الحادة الغير متوقعة فقالت متوترة:
-ما الذى يضايقك فى اعترافى ,أنها الحقيقة مجرّدة من أى تزويق ,لقد تخرجت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ أربعة أعوام بتقدير جيد جدا وحتى الآن لا أعمل شيئا سوى متابعة بعض المسلسلات التافهة التى تعرض على شاشة التلفاز ,وربما أتسلّى قليلا بقراءة الروايات الرومانسية حتى أغرق نفسى فى عالم وهمىّ لا وجود للشر بداخله ,فقط مجرد خيالات لا نسمح بها على أرض الواقع .
لم يرق له تقليلها من شأن نفسها ,الا أنه أدار الحديث جانبا بعيدا فسألها:
-هل تقرأين لاحسان عبد القدوس ؟
زوت ما بين حاجبيها وهى تتساءل عن كيفية تحويله لمسار الحوار بهذه القدرة الفائقة وهى تجيبه:
-نعم ,انه أحد الكتّاب المفضّلين لدىّ.
-قرأت معظم رواياته.
-ليس معقولا ,فغالبية متابعيه من النساء والفتيات.
أشار بيده نافيا وعيناه تلمعان بغموض:
-هذا تقدير خاطئ لقدر الرجل ,لقد اشتهر عنه أنه أفضل من جسّد مشاعر المرأة فى قصصه ولا يعنى هذا أن قرّاءه من الجنس اللطيف فقط
-كلما تعمّقت معرفتى بك أجدنى أكتشف عنك اشياء جديدة لا أتوقعها منك.
-مثل ماذا ؟
-لقد فاجأتنى بأنك تدّخن.
وأشارت الى السيجارة بين شفتيه يمتص تبغها المحترق مثيرا ضبابة كثيفة من الدخان حوله زادت من الغموض الذى يلّف شخصيته ,فقام بسحقها على الفور فى المنفضة بعد أن سحب آخر نفس بها فى حركة أثارت قلقها على الرغم من بساطتها فها هو قد تخلّص منها بعد أن أنهى متعته.
تقلّص فمه المتصلّب وهو يقول:
-فى الحياة مفاجآت كثيرة ,عليكِ أن تعتادى على تقبّلها بصدر رحب حتى لا تتألمى.
ممِ كان يحاول تحذيرها ,أو ربما ينذرها من تعلّقها به ,فغيّرت مجرى الحديث حينما سألته:
-لقد أخبرتنى أنك تعمل بمكتب للتسويق الـعقـارى , أليس كذلك ؟
هز رأسه موافقة فى انتظارها لتكمل حديثها:
-هل يمكنك أن تسدى لى خدمة ؟
اتسعت ابتسامته وقد اثارت فضوله بشدة:
-أنا تحت أمرك فى أى طلب.
-هل لديك معارف بوزارة الاسكان ... أعنى هل لكم اتصالات بهم ؟
فكّر قليلا قبل أن يجيبها متمهلا:
-هذا يتوقف على نوع الخدمة ,ونوع المعرفة .
-أريد وساطة للحصول على شقة باسكان محدودى الدخل.
-هل تنوين الانتقال اليها ؟ ولكننى أحذرك فأنت لا يمكن اعتبارك من محدودى الدخل أبدا.
همّت بالرد عليه بحدة حينما أدركت من لهجته ونظرة عينيه أنه يمزح معها فتألقت ابتسامتها من جديد وهى تضحك بفرح غامر:
-لا ليس لى , أنا أسكن مع عائلتى ولا أعتقد أنهم ينوون طردى قريبا , انها لسعد وسماح.
قاطعهما وصول النادل لاستلام طلباتهما فصرفه جاسر متعجلا بعد أن سأل ريم عما تفضله ,وطلب لنفسه مثلها ثم تابع استفساره:
-سعد وسماح !!
أومأت برأسها ايجابا وهى تستفيض فى الشرح:
-سماح .. الفتاة التى تقوم بشؤون المنزل ,وسعد ... انه شاب مكافح يساعد أحيانا الطبّاخ فى بعض الأعمال ... انهما يحبّان بعضهما وينويان الارتباط عن قريب ,ولكنهما ... أعنى ظروفهما المادية كما خمنّت أكيد لا تسمح لهما بامتلاك شقة فى أى مكان ولو كان شعبيّا ,كما أنهما لا يقويان على أسعار الايجارات المرتفعة ,ففكرت أنه يمكنك أن تساعدهما اذا كان هذا ممكنا طبعا ولا يضايقك.
كان يتطلّع نحوها منبهرا ولم يخفِ اعجابه بمحاولتها مد يد العون لأشخاص قد يمر الجميع أمامهم ولا يلفتوا النظر اليهم ,واسترعى انتباهه أنها لم تشر الى سماح على أنها خادمة فهتف مشدوها بها:
-لا يضايقنى بالتأكيد , هذا أمر بسيط للغاية ولا يحتاج أصلا الى وساطة فاذا كانت ظروفهما كما تقولين فالأمر سوف يتم بالطرق الشرعية .. ولن يحتاج الى تدّخل من جانبنا.
-أعرف ولكنهما ... متعجلان .. احممم ... أنت تعرف هما شابين صغيرين و...
أعفاها من حرجها وهو يكمل عبارتها:
-وهما غارقان فى العشق فلا داعى للانتظار لاتمام الزواج ,أنت محقة يا ريم.
قارنت بين ردة فعله وردة فعل كريم حينما طالبته بالمساعدة فظهر الفارق شاسعا , لشتى ما تظلم المظاهر أصحابها ,كان يمكن لكريم بمنتهى البساطة وبدون أدنى مجهود أن يساعدهما ولكنه تكبّر حين علم بأن صاحب المصلحة هو مجرد مساعد للطبّاخ ... سعد المسكين ... يا لها من نظرة دونيّة للبشر ,فهم بالنهاية أرواح تستحق الحياة ... الفقراء كالأغنياء ... يمتلكون ذات الحقوق.
-كل ما أحتاج اليه من أوراق سوف أبلّغك بها فى الوقت المناسب حتى يتقدم بالطلب ,وأعتقد أنه مستوفي لجميع الشروط المطلوبة ما دامت ظروفه المادية كما تقولين.
-نعم هو شاب لطيف ومكافح ولا يشكو أبدا من ضيق حاله ولا يتذمر من كثرة الأشغال ,كما أن سماح فتاة رقيقة للغاية ولها قلب صافٍ ,شخصية وديعة ستحبها حتما اذا تعرّفت عليها , أننى أعتبرها صديقة لى.
هزّ رأسه بعدم تصديق من الأريحية التى تتحدث بها عن مجرد خادمة تعمل لديهم واصفة ايّاها بالصديقة فتغيّرت تعابير وجهه كليا وهو يخبرها هامسا:
-يكفينى أن أحب صديقتها ,فهى لا تقل طيبة عنها بل أنها تمتلك قلبا من ذهب ,لقد أذهلتنى بجد.
أخذت تحاول الهرب بعينيها بعيدا عن تطلعات عينيه التى سيطرت على مشاعرها بعد اعترافه الصريح وغمغمت:
-أعتقد أننى قد تأخرت ,لا بد أن أرحل ...
ونهضت تلملم أغراضها فتلمست الطريق نحو هاتفها ,فلم يحاول جاسر استبقاءها ككل مرة بل أشار الى النادل حتى يأتى بالفاتورة ,ولم يلحّ عليها حتى يقلّها هذه المرة بل تركها تغادر حرة.

***************

SHELL 07-11-18 11:04 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
تكلّل مشوارهم بالنجاح أخيرا ,وقد صدق من قال أن الصبر مفتاح الفرج ,شعرت فريال بأن هذه هى مكافأة الله لها على صبرها وتحمّلها ,ما شعرت يوما بفرحة غامرة مثل اليوم ... أصبحت تملك ورقة موّثقة بأن هذه الفتاة الرائعة هى ابنتها ... أميرة ,اعترفت الدنيا بأسرها بأمومتها المفقودة واعتلت السعادة عرش قلبها فباتت لا ترجو من الحياة أكثر من هذا القدر الذى جادت به عليها بعد سنوات عجاف من الشقاء والبؤس ,لم تعد وحيدة فأميرة ملأت عليها فراغ حياتها وجعلت لكفاحها معنى ,ولم يفارقهم مجدى حتى أنهى كافة الاجراءات المتعلّقة باستصدار شهادة ميلاد باسم أميرة ناجى الشرقاوى ,احتاجوا فى مسعاهم نحو اظهار الحقيقة وثيقة زواجها من ناجى واقرار من هناء حيث أنها القريبة الوحيدة الباقية لناجى ,والحق يقال أنها لم تقصّر أبدا بل مدت لهم يد العون عن طيب خاطر كما توقعّت بالضبط فابنة عمها مثال على طيبة القلب وصفاء النية ,ثم توجهوا لاستخراج بطاقة الرقم القومىّ لها بالاسم الجديد ,ولم يبقَ أمامهم سوى معضلة زواجها من رفيق ,وقد وعدها ابن اخيها بسعيه لاستصدار فتوى شرعيّة حتى يتأكد من جواز العقد القديم أو اضطرارهم الى تجديده.
ما أن اجتمعت بأمها وأخيها محمد وزوجته سوسن فى البهو الكبير ,وألقت اليهم بالمفاجأة السارّة حتى كانت تتلقى التهانى والتبريكات القلبية منهم على حد سواء والفرحة تتقافز فى عيونهم لتمحى لمسة الحزن التى خيّمت على أجواء المنزل فى الفترة الأخيرة.
وانضمّت اليهم هناء ودلائل السعادة بادية على محياها ,ثم قبّلت ابنة أخيها على وجنتها وهى تحتضنها بحب حقيقى وتقول لها:
-حمدا لله على عودتك الينا يا ابنة أخى.
فطبعت أميرة قبلة على جبين عمتها وهى ترد مبتسمة:
-الله يسلمك يا عمتى.
-الله ! ما أحلاها كلمة , عمتى , تعالى فى حضن عمتك.
ثم ضمتها بقوة مرة اخرى حتى شعرت فريال ببعض الغيرة تعتريها وهى التى لم تتعوّد بعد على أن يشاركها أحد آخر فى حب ابنتها.
أشفق رفيق على زوجته وهى ضائعة بين المباركات التى انهالت على رأسها والأحضان المتزايدة التى تلقفتها وهو يقف مراقبا لكل ما يدور منتظرا أن يحين دوره ,ولكنه لن يقف مكتوف اليدين بينما أميرة مستسلمة بلا حول ولا قوة فاقترب من اللمّة العائلية ليفضها بدبلوماسية وشعور بوجوب حمايتها:
-نشكركم حقا على شعوركم الطيب ,ونحن نقدّر اهتمامكم ,دعونا لا ننسَ أن أميرة لا بد وقد أرهقتها كثرة المشاوير وقد استيقظت مبكرا فهى تحتاج قسطا من الراحة ,هيا يا حبيبتى اصعدى الى غرفتك.
وأمسك بيدها يقودها نحو الدرج وهى تمنحه أجمل ابتساماتها امتنانا وعرفانا على صنيعه معها ,قبل أن يفيق الجميع من ذهولهم.
وحينما توقف أمام باب غرفتها ليدعوها الى الدخول ونيل قسط من النوم ,تذمّرت كطفل صغير حرم من متعة اللهو فقالت تحثّه باستعطاف:
-ألا يمكن أن تبقَ معى قليلا ,لا أحبذ البقاء وحيدة.
كانت فى عيونها دعوة صريحة لا يمكن أن يخطأها ,وهو لم يكن بحاجة الى تشجيع منها فقربها منه سيطر عليه يؤجج مشاعره الملتهبة لتحرقه بنار كاوية ,تنهد بقوة وهو يداعب خصلات شعرها البنية النى لا يمل ملامستها بل يتمنى لو يدفن نفسه فيها طوال العمر ويغفو بين ذراعيها لا يقطع عليهما خلوتهما متطفل ,لكنه يريد أن يتأكد من أن ما يقومان به سوف يكون صحيحا بنسبة مئة فى المئة بدون الوقوع فى أية أخطاء مرة أخرى ,عليه أن ينتظر وهو يعد نفسه بأن المسألة برمتها لن تستغرق وقتا طويلا.
-حبيبة قلبى , أرجوكِ ساعدينى لنبدأ من جديد صفحة بيضاء لا تشوبها شائبة ,أنت تعرفين أنه ليس أحب علىّ من أبقى الى جوارك الى الأبد ومنذ هذه اللحظة بل منذ وقت طويل ,وأنا أتوق الى لمساتك ونظراتك وأن أجعلك ملكى بكل ما فى الكلمة من معانى حتى نذوب سويا فلا يبقَ بيننا مجالا للشك .
-أعرف يا عزيزى ,فمشاعرنا متبادلة وخاصة أننى أريد أن أعوّضك عن السنوات الماضية التى قاسيت فيها وحدك بعيدا عنى ,وكنت السبب فى عذابك و...
قاطعها بضمة الى صدره وهو يغلق عينيه يتنسم عبق عطرها الفوّاح ليستكين كل كيانه بعد عودته الى روحه التى سحبت منه ,ويتمتم من بين أنفاسه المتقطعة:
-لا تفكرى حتى فى الأمر ,لقد ولّت هذه الايام الى غير رجعة ,ولن يلبث الوضع أن يعود الى مجراه الطبيعىّ بيننا ,سأذهب بنفسى الى مشيخة الأزهر لأطلب فتوى بجواز العقد القديم ,أو نضطر الى تجديده ,وفى كلتا الحالتين ... ستصبحين زوجتى اسما وفعلا.
تهدّج صوتها وهى متأثرة بهذا الفيض الهائل من العواطف الذائبة ,لا تريد الخروج من الجنة ,فمكانها الأصيل بين أحضانه ,ولن يخفق قلبها أبدا الا لصوته الحنون فابتسمت وهى تبذل قصارى جهدها حتى تتحرك منتزعة نفسها من بين ذراعيه ,فان بقيت لدقيقة أخرى لن تسمح له بالرحيل واستعادت عقلانيتها فأكدت على كلامه:
-أنت محق يا رفيق , علينا الانتظار لآخر مرة .
-نعم يا ملاكى , فقط مرة واحدة ,وبعدها ....
غادر المكان تاركا جملته معلّقة فى الهواء ... لتملأ هى فراغاتها بما تشتهى نفسها.


**************

SHELL 07-11-18 11:06 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عندما انطلقا فى طريقهما حيث المطعم الذى دعاها للغداء فيه ,تصوّرت أنه نفس المكان الذى تقابلا به أول مرة الا أن كريم فاجأها من جديد وفاقت مفاجأته كل توقعاتها ,فكان مطعما للوجبات السريعة مما اعتادت هى ومها تناول طعامهما فيه ,شعرت بالمتنان نحوه لأنها لم تكن ترتدى شيئا لائقا ليصطحبها الى مكان فاخر يعج بعلية القوم ممن يختلط هو بهم فى حياته ,نظرت له بصمت وقد أظهرت مشاعرها بوضوح متجليّة فى ابتسامة خفيفة وهى تتأمل وسامته المشعة وحلته الباهظة الثمن والتى تكشف عن ذوق راقٍ جدا ,والهالة المحيطة به كلها مظاهر تتناقض بقوة مع بساطة ملبسها وتواضع هيئتها,وأحست أنها تشوّه صورته الاجتماعية على الرغم من اعتدادها بنفسها فلم تقدر على خداع عقلها ,الذى ما فتأ يذّكرها بالفارق الشاسع بينهما ,ماذا تفعلين يا بلهاء بنفسك ؟لماذا تتركينه يقودك الى مصير مظلم حينما يملّ من صحبتك وهذا آتٍ لا محالة ستكونين قد غرقتِ فى حبه حتى أذنيك ؟ وصاح قلبها بصوت يقاتل جاهدا ليخرس عقلها: فلتتمتع بيومها وتدع الغد الى رب العباد يدبّره لها كيفما يشاء.
واعترفت بجرأة أنها لم تكن قادرة على رفض دعوته ,بينما كانت حائرة تحاول اخماد الصراع الدائر بين عقلها وقلبها ,تمكّن كريم من مراقبتها عن كثب ,شعر بالمعاناة التى تجلّت فى نظرات عينيها دون أن تنبس ببنت شفة ,صار يفهمها أكثر من قبل ,ولن ينكر أنها تثير فضوله ,وابتسم لنفسه هازئا : أنت تحاول انكار الحقيقة ... أنها تثير مشاعرك أيضا ,وما دعوتك لها اليوم الا لتقضى معها وقتا أطول بعيدا عن أجواء العمل المزدحمة والتى تفرض نوعا خاصا من المعاملة بينهما ,ليس بالشخص الذى يخلط الجد بالهزل ,يا ترى ما السر وراء عائلة السنهورى ؟ بداية ... علاقة صلاح بأمه والتى تبدو مريبة ,لقد حاول استجواب والدته أكثر من مرة وهى تتهرّب من الاجابة بذكاء ومراوغة ,لو فقط يرتاح قلبه ليتفرّغ لهذه الجميلة التى أصبح يراها بمنظور جديد دون ارادة منه.
-تفضلى.
لم تنتبه هديل الى ايقافه للسيارة ولا نزوله وها هو يفتح لها الباب كأميرة تستحق معاملة خاصة ,لم تصدّق عينيها هل من يتصرف بهذه الرقة والأناقة هو نفسه مديرها القوى الشكيمة الذى يثور اذا ما اشتم رائحة اهمال بسيط أو تجاوز عن أوامره الصارمة.
-هل سنتناول الغداء هنا ؟
هبطت من السيارة وهى تشير نحو المطعم الذى يقع فى الناحية الأخرى ,أساء كريم فهم اشارتها ,ظنا منه أنها قد استاءت لاختياره ,فقلب شفتيه ممتعضا وهو يوجهها بيده:
-أستمحيك عذرا يا آنستى ,اذا كان المطعم غير لائقا لكِ ,ربما تفضلين عليه ( ... ) وذكر اسم مطعم معروف أنه لا يرتاده الا أغنى الأثرياء
شهقت هديل لمجر تخيّل أنها تجلس برفقته فى هذا المكان ,وتبعته طائعة غير منتبهة لرنة السخرية الواضحة بصوته ,تباطأت خطواته حتى تلحق به وما أن مرّت الى جواره حتى انتظمت خطواتهما سويا ليتجها الى الداخل حيث انتقى طاولة تتسع لفردين وتقع بزاوية بعيدة عن القاعة الرئيسية التى تعج بالزبائن .
تشاغلت هديل بالتطلّع الى قائمة الطعام ,حتى لا تفضحها نظراتها الشغوفة ,ولم تكن بحاجة لانتقاء الصنف الذى سوف تتناوله فهى تحفظ جميع الأطباق عن ظهر قلب ,وتبيّنت نوعا جديدا تمت اضافته الى القائمة فقررت أن تجرّبه دون تفكير,وحين ألمح كريم الى أنه يبغى رأيها فيما يختار أشارت عليه بتبسط وتلقائية ألا يبالغ فى التمعّن فى المكونات لكل طبق فغالبا ما تتشابه جميعا فى المذاق ,راقت له دعابتها فابتسم متناسيا مشاغله وهمومه وقال:
-أنت ما زلت تتذكّرين ,كان مزاجى يومها معتلا ,ولم يكن بسببك أبدا ,أعتقد أنك قد تحملتنى كثيرا يا هديل ,ترى هل أنت دائما هادئة الأعصاب ومطيعة كما تتعاملين معى أم أن لكِ وجها آخر أجهل وجوده ؟
تأثّرت للذكرى البعيدة وتساءلت لماذا يذكر تفاصيل بسيطة مرّت بعلاقتهما ,هل حقا يهتم بها ؟ شعورها أنبأها بأن الأمر يتعدى الاهتمام العادى ,لقد انتقلت علاقتهما الى مرحلة جديدة ولن تعود كالسابق مهما حاولا اخفاء تطلعاتهما نحو بعضهما البعض ,فانفرجت أساريرها اعجابا وردت مؤكدة:
-لا أنسَ حدثا يتعلّق بك.
شعرت بخطئها بعد فوات الأوان فقد انزلق لسانها بما يهتف به قلبها طوال الوقت ويرفض عقلها الاعتراف به ,فاستدركت سريعا:
-أقصد أننى أذكر كل التفاصيل التى تخص العمل وما يحدث خلاله.
نظر لها بوجه خالى من التعبير وهو يشير الى النادل ليأتى قبل أن تنبهه الى أن نظام الطلب فى المطعم يختلف عن غيره من المطاعم المعروفة وهى ( اخدم نفسك ) ,قبل أن تتهوّر لمنعه من هذا التصرف ,كان كريم يملى عليه رغباتهما بدون ذرة تردد أو تراجع .
استغربت مما حدث وكان النادل ينصت له باهتمام بالغ وكأنه يستمع الى نشرة اخبارية ,وفى النهاية انحنى له احتراما وهو يقول:
-عشرة دقائق فقط يا سيدى.
أومأ له كريم برأسه فيما عاد ليصب كامل اهتمامه على الفتاة الجالسة أمامه تتابع كل حركة وسكنة يقوم بها فى انبهار.
-كيف جعلته ينفذ أوامرك بهذه البساطة ؟ أنهم لا يقومون بالخدمة على الطاولات ,كان عليك التوّجه الى الخزينة.
ابتسم بطريقة العارف ببواطن الأمور وبدأ يشرح لها ببساطة:
-أنا زبون دائم هنا ,لذا فهم يعاملوننى بطريقة مختلفة.
كان يعنى أنه زبون مهم جدا وبالتالى ينال معاملة خاصة.
أخذت تجول ببصرها فيما حولها وهى تقول بحماس:
-كنت أظن أننى ومها من الزبائن الهامة لديهم فنحن نتردد على هذا المكان بصفة شبه دورية ,اليوم عرفت المعنى الحقيقى لكلمة فى آى بى
v.i.p
كشر ما بين حاجبيه استياءا من لهجتها الانهزامية وهو يحاول الرفع من روحها المعنوية التى انخفضت:
-عليكِ أن تتحلّى بالروح الرياضية يا هديل ,فأنا أعترف بأنه ليس هيّنا عليكِ أن تعيشى حياة مليئة بالعمل والكثير من الكفاح متنازلة عما تطمح به الفتيات فى مثل عمرك.
-وما الذى تعرفه عن الكفاح ؟لقد ولدت وبفمك ملعقة من ذهب ,سبق وأخبرنى أبى عن عائلتك حينما التحقت بالعمل فى شركتكم ,عائلة الحيتان ... ذات الصيت والغنى والسلطة.
استشاط غضبا من لهجتها المستخفة فانتفض منزعجا وهو يهدر بصوت حاول الحفاظ عليه منخفضا قدر الامكان:
-ليس لمجرد أننى ولدت لعائلة ثرية ومعروفة ,يكن لك الحق لتحكمى علىّ بدون معرفة حقيقية ,فلم تكن حياتى وردية كما تتصورين ,ولم أصل لمنصبى هذا الا بعد جهد وكفاح ,قد لا تصدّقين أننى مررت بما هو أسوأ ,لقد تدرّجت منذ كنت أدرس بالجامعة فى عامى الأول .. بوظائف متدنية للغاية فى الشركة التى تعملين بها سكرتيرة , بدأت كموظف صغير تحت التمرين .. يرأسنى من هم يعملون تحت امرتى الآن ,ولم أكن الوحيد الذى تمت معاملته على هذا الأساس فرفيق وسيف استغرقا وقتا أطول منى حتى يصلا الى هذه الغرف الأنيقة المتسعة بعد أن كنا ... نتشارك غرف أصغر وأكثر ازدحاما مع الآخرين.
رسخ لديها اعتقاد بأنه يخفى فى جعبته الكثير من الأحداث الأكثر غرابة ,صراحة لم تتوقع أن يكون قد عانى فى حياته مثلها فاعتذرت له رافضة التكبّر عن الاعتراف بالغلط:
-أنا آسفة حقا ,لم أكن أعلم.
ابتسم ساخرا وهو يهز كتفيه العريضتين بعد أن علّق سترته على مقعده وأظهر القماش الرقيق لقميصه عضلاته المتصلبة وهو يقول بأسى:
-لا يعرف الناس سوى الظاهر فقط ,كم واحد قد يتمنى لو كان مكانى بينما أنا أحسد هذا الرجل العادى الذى يجلس الى جوار زوجته حاملا طفله الصغير بحجره يطعمه بنفسه ولا يشغل بالا للغد ,فقط يعيش يومه باستمتاع بعيدا عن أعين الفضوليين.
هل تراه يلمح الى أنه يشتاق الى حياة بسيطة خالية من التعقيد برفقة امرأة عادية يشاركها حياته وينجب منها أطفالا بدلا من حياة الترف والرخاء التى ينعم بها.
شعرت هديل بالتعاطف مع الرجل الشديد البأس الذى تهفو نفسه الى لمحة من التصالح والعيش بأريحية دون الاهتمام بالمظاهر الكاذبة التى تخدع البعض.
قام النادل بوضع الأطباق أمامهم على الطاولة الصغيرة وهو يسأل بأدب عن تقديم أى خدمة لهما ثم ابتعد منصرفا.
بدأت هديل فى التقاط شطيرتها ذات الصلصة الغنيّة والرائحة التى تثير الشهية ,وتناولت أول قضمة بنهم ,كانت تشعر بالجوع يجتاح معدتها الصغيرة فهى قد أغفلت تناول أفطارها صباح اليوم واكتفت ببضعة قطع من البسكويت المملح ,وأحسّت بالطعم الحارق يلسع حلقها منتشرا بفمها كله فبدأت تشعر بالاختناق يهددها ,بدأت تسعل بقوة عليها تخفف من احساسها بأن الهواء ينسحب من رئتيها ,وهب كريم لمساعدتها فصب لها كوبا من الماء وقرّبه من شفتيها وهو يسقيها منه رشفات متتالية ,على اثرها تحسنّت قليلا بينما يستحثها على تجرع المزيد حتى تهدأ تماما ,وزفر متنهدا بعد انتهاء نوبة السعال الحادة وهو يقول ملطفا:
-ألا تفضلين الطعام الحار ؟
أشاحت بوجهها نفيا وآثار الدموع تلتمع بعينيها المحمرتين ,لا تعرف لمِ شعرت برغبة حارقة لتجهش بالبكاء فقد أظهرت نفسها غبية أمام ناظرى الرجل الذى تهيم به ,استوعب سريعا ما الذى انتابها فربّت على يدها بحنان متفهما وهو يضيف بمرح:
-سوف أطلب لك شطيرة عادية بلا بهارات ؟
هزت رأسها نفيا وهى تجاهد لتتحدث بصورة طبيعية:
-لا داعى لذلك ,سوف أكمل طعامى.
سحب الطبق من أمامها بدون أن تجرؤ على الاعتراض عارضا عليها طبقه:
-اذن يمكننا أن نتبادل الطبقين
-ما ذنبك أنت لتتناوله؟
- لا تشغلى بالك فأنا أهوى الشطة ,عليك أن تنتبهى بعد ذلك ... قبل أن تتورطى بما لا يمكنك انهائه.
أخفضت بصرها نحو المنضدة وهى تلتقط شطيرته التى أكل جزءا منها ,وارتعشت حينما لامست شفتيها أثره وهى تؤنب نفسها على انفلات أعصابها ,فيما كريم يشاهدها باعجاب وقد تخلّصت من أثر الحادث واستعادت ملامحها الابتسامة الغائبة ,وبقى تحذيره لها قائما : عليك أن تنتبهى بعد ذلك ... قبل أن تتورطى بما لا يمكنك انهائه.
هل كان حديثه اعتباطيا أم أنه يحمل انذارا معلنا لا يمكن اغفاله , لا تتورطى معى يا صغيرة , فلا قبل لك بمواجهتى.

***************

SHELL 07-11-18 11:07 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

أوقف سيف سيارته الفارهة أمام منزل مها القديم فى تناقض متباين, وقد استرعى انتباهها أنه قد تذكر العنوان منذ المرة الماضية ولم يستفسر منها عن الاتجاه على الرغم من أن الطريق يمتلئ بكثير من المنحنيات يمينا ويسارا ,قاد الرجل ببراعة منقطعة النظير أظهرت خبرة واضحة فى قيادة السيارات فى طرقات وعرة ,لم تكن مها بحاجة الى مساعدة لتدرك أنها قد قطعت شوطا لا بأس به نحو تقدم علاقتها بهذا الرجل الثرىّ الذى ينتمى للعائلة التى تكن لها أشد مشاعر الحقد والكره قسوة .
-ألن تنزلى من السيارة ؟ لقد وصلنا .
وأشار لبيتها الذى يربض منتظرا لدخولها ,فشعرت بخيوط المصيدة تضيق شيئا فشيئا لتحكم الحصار حول جسدها الخائف ,ممِ تخشى ؟ من ردة فعله الغير متوقعة اذا ما أدرك نواياها السيئة ؟ أم أنها تخشى من افلات السيطرة على قلبها ,فهى ليست محصنّة ضد سحره الرجولىّ الطاغى ,قررت بعد تردد دام لحظات أن تهبط من السيارة شاقة طريقها بصعوبة نحو مدخل المنزل ,ولم تلتفت الى مقعد السائق الذى كان شاغرا من وجوده فى ثانية واحدة.
تبعها ببطء وهى ترتقى درجات السلم ,كانت تجد مشقة بالغة فى التقدم وكعب حذائها مكسور فاضطرت الى خلع فردة الحذاء الأخرى والا كان مصيرها السقوط لا محالة ليدق عنقها الجميل ,شعرت بانزعاج مما هى مقدمة عليه فكيف تسمح لنفسها بالتمادى فى لعبتها التى سوف تحطمها وحين تنتهى منها لن يصبح لحياتها أدنى قيمة ,أخذت تفتش حقيبتها مطولا بحثا عن المفتاح وأخذت تلعن وقد تناثرت بضعة أغراض وافترشت الأرض التى بهت ملاطها من كثرة جريان المياه فوقها ,تدّخل سيف باللجظة الحاسمة وهو يلتقط المفتاح من بين أصابعها المرتعشة قائلا بثقة :
-اسمحى لى.
وأولجه بالقفل ثم أداره بحنكة فأصدر تكتين وانفتح الباب مصدرا صريرا قويا أجفلها ,أفسح لها مجالا حتى تتقدمه وكأنه بيته هو الخاص لا بيتها مشيرا لها :
-تفضلى.
كانت تجر قدميها جرا نحو مفتاح النور حتى تضيئه ليتغلّب على العتمة المغلّفة للمكان ,فانتشر الضوء ساطعا ليكشف عن صالة ضيقة تعج ببضعة قطع من الأثاث البالى ,أريكة تتسع لفردين ,وأربعة مقاعد يشكلون نصف دائرة .
أجال سيف بصره فى أنحاء القاعة بنظرة حادة ثاقبة ولم يغفل ملاحظة القماش البالى الذى اهترأ كاشفا عن الجزء الداخلى من الأثاث.
-لقد حاولت تحذيرك بأن المكان لن يعجبك من قبل , آسفة ان كنت قد خيّبت آمالك.
نبرتها الهازئة وهى تحاول مواربة مشاعرها الحقيقية التى أخفتها بمهارة ,فالخجل يجتاحها من مجرد التفكير فى أنها تسكن بهذا المكان القذر بينما هو وعائلته ينعمون بالعز والجاه ,أيقظت بداخله الوحش النائم ,فانقضّ عليها قابضا على رسغيها بيد واحدة بينما يده الأخرى حرة لترتفع الى عنقها الأبيض الرخامىّ ,وهو يهددها بنعومة:
-لسانك السليط هذا سيورطك بمشكلات لا قبل لك بها ذات يوم .
شلّ الرعب حركتها وحاولت أن تصرخ مستنجدة الا أن صوتها قد انحشر بحلقها وهى تجاهد لتخلّص نفسها من قبضته الفولاذية .
شدد من احكامه حولها فشعرت بالحائط البارد ملامسا لظهرها يتغلغل الى جلدها من خلال قماش ثوبها الرقيق ,فيما واصل سيف تهديده:
-أنت مجرد فتاة مغفلة حقا ,هل اعتقدت أنك استطعت خداعى بمثل هذه البساطة ؟ كل تصرفاتك كانت واضحة تشى بغباء لا حدود له ... والآن أجيبينى صراحة ما الذى تسعين نحوه ؟
هزت رأسها بخوف مغمغمة:
-لا أفهمك .
داعبت ابتسامة صغيرة ركن شفته وقد تراقصت الغمازة بالقرب منها وهو يقهقه بلا مرح:
-ما زلت تلعبين دور البريئة , أليس كذلك يا آنسة مها كمال الراوى ؟
لم تفهم تلميحه واشارته الى اسمها الكامل ,وكان جسدها قد بدأ ينتفض بقوة تحت ضغط جسده فوقها فتلامسهما أثار بها اضطرابا واضحا كادت تشعر بالاغماء وهى ترجوه بمذلة:
-أرجوك يا سيف , دعنى فأنا أشعر ... بدوار رهيب.
سخر من محاولتها اليائسة للهروب:
-لا مجال لأن أتركك الآن ,أنت تريدين الفرار منى.
هزت رأسها بحركة عنيفة جعلت خصلات شعرها الذهبية تتمايل لتلامس بشرته الخشنة حيث ذقنه النامية لم تحلق ,وهى تجاهد لتتنفس بصورة طبيعية ,بدأ الدوار يتملّكها شيئا فشيئا حتى كادت تهوى أرضا لولا أن تلقفّتها الذراعين القويتين اللتين حملتاها بسهولة فهى خفيفة الوزن لدرجة مذهلة , كما أخذ يحدث نفسه وهو حائر الى أين يتوجه ,لا يعرف أين تقع الغرف فى هذا المنزل الصغير ,سار وراء حدسه نحو الممر القصير الذى وجده يمينا ودفع أول باب صادفه بركلة من قدمه ليجدها غرفة نوم كما كان يأمل ,فأزاح عن كاهله الحمل وأراحها على الفراش الكائن بوسط الغرفة ,أخذ يفتش حوله عن عطر يمكنه أن يرشه على أنفها حتى تستفيق ,فوجد ضالته المنشودة قابعا على منضدة الزينة ذات المرآة المكسورة من جانبها فاختطف الزجاجة وضغط عليها عدة مرات حتى تأكد من اختوائها على سائل ذى رائحة نفّاذة ,تنبهت حواسه الى هذا العطر ,انه خاص بها ,يميّز وجودها ويدير رأسه كلما مرت بالقرب منه تسير بدلال ,فأبعد ذهنه عن مسار التخيلات الذهنية التى باتت تشكّل خطرا على سلامة عقله ,وقلبه ,ورشّ عدة مرات على منديله ثم قرّبه نحو أنفها الدقيق ,ليترك لها مجالا للاستنشاق ,بينما يربّت بيديه بحركات عنيفة على خديها ,كانت دقات قلبه تتسارع كأنها فى سباق عالمى ,ناداها باسمها ملتاعا عدة مرات:
-مها , مها , أرجوكِ أفيقى ,مهااااااا...
لمح جفونها تتحرك ثم بدأت ترفرف برموشها عدة مرات قبل أن تعود الى وعيها كاملا وهى تتمتم بضعف:
-آآآه .. آآآه ..
صاح هاتفا يحمد الله وهو يباشرها حتى رأت الاهتمام والقلق باديين بوضوح على محياه فقلما تخطئ هذه اللهفة الحارقة وهو يعترف بصدق:
-لقد أرعبتنى حقا ,مضت لحظات رهيبة اعتقدت أنك لن تفتحى عينيك مجددا ,رحماك يا ربى !
نظرت له بوميض من الفرح ,فهى وان كانت بموقف لا تحسد عليه الا أنها المرة الأولى منذ وقت طويل التى تشعر فيها بأن هناك من يهتم لأمرها ويعتنى بها ,انها بحاجة اليه ,لم يعد هناك مدعاة للشك ,هل يمكن أن يتجلّى خلاصها على يد معذبها ,همست باسمه:
-سيف ...
اقترب منها أكثر وهو يجيبها بحرارة:
-نعم ...
-لا تتركنى وحدى ,هل يمكنك أن تبقى قليلا ؟
وكأنه يستطيع الابتعاد عنها خاصة وهى فى حالتها تلك ,البلهاء الجميلة لا تملك ذرة واحدة من العقل فى رأسها الصغير ,أنها بحاجة ماسة الى رعايته ,تهيب به أن يرعاها ويحنو عليها ,وهو سيكون ملعونا اذا ما أنكر وجود هذا الرابط الخفىّ بينهما ,الذى يتسلل رويدا حتى يقبض على روحه ,هل يعيد الزمن نفسه ؟ ألم تلقنه الحياة درسا قاسيا دفع ثمنه غاليا ؟
ربّت بيده على كتفها مهدئا بلمسات حانية آسرة فيما بدأ يستجوبها بخشونة تسللت الى صوته رغما عنه وقد انحسر ثوبها القصير عن ركبتيها فعمد الى النظر بعيدا:
-ما سبب هذه الاغماءة ؟ هل كنت تشعرين بالخوف منّى ؟ ألهذه الدرجة تهيّأ لكِ أننى وحش مفترس ؟
هزّت رأسها نفيا ببطء بينما تحاول ستر جسدها المكشوف بغطاء خفيف على مقربة منها وهى تسارع لتوضيح الأمر له بصوت خفيض يفوح منه رائحة اليأس:
-أنا ... مصابة بفقر حاد فى الدم ,وعلى فترات متباعدة تصيبنى حالات اغماء ... كل ما فى الأمر أنه حين ينخفض مستوى الأكسجين بالمكان أشعر بأعراض الدوخة ... فقط.
لم تغب عن عينيه المتقدتين شررا حركتها وأجابها شاعرا بالاختناق لدى استعادته للمشهد السابق:
-ينخفض مستوى الأكسجين ! ليس الى هذه الدرجة من المبالغة فالبيت وان كان ضيقا فهو جيد التهوية .
كانت تفكر برويّة أنه لا يعى مقدار جاذبيته المغناطيسية فوجوده فى ذات المكان أشعرها بأن الهواء قد سُحب تماما ولم تعد قادرة على التقاط أنفاسها.
عاد الى حدته فى الحديث معها وهو يقول:
-ولماذا لا تتعالجين من فقر الدم ؟ وأرجوكِ لا تخبريننى قصصا عن غلاء أسعار الدواء والقصة القديمة المستهلكة منذ عشرات السنين ,فمرتبك يكفى لتغطية نفقات أسرة بأكملها ,خاصة بعد المكافأة التى نلتها قريبا بتوصية من رفيق.
تراقصت ابتسامة متلاعبة على شفتيها المكتنزتين ولم تستطع مقاومة رغبتها فى الاندفاع للرد عليه فانبرت تقول على الرغم من شعورها بالوهن:
-لا يا سيد سيف لا أشكو الآن من ضيق ذات اليد ,وأعرف جيدا أن المال متوفر لشراء الأدوية المطلوبة ,ولكن لتنظر حولك ... لمن أعيش ؟ ولمِ أكترث بالحياة ؟ أننى وحيدة كما ترى ... فلا أسرة لترعانى ولا زوج ليحبنى ..
وترقرقت الدموع فى عينيها تجاهد لكبحها والسيطرة عليها بعد أن فضحت مشاعرها الدفينة فى لحظة ضعف ,وهى التى تتقن تمثيل دور المرأة القوية المسيطرة التى لا تحتاج الى أحد ,وخاصة الرجال ...
ضرب كفا بكف وهو يقول منفعلا:
-استغفر الله العظيم , ألا يمكنكن أن تتعاملن بدون سلاحكن الفتّاك هذا , لماذا الدموع الآن ؟ وما هذا الهراء الذى تتفوّهين به ؟ اذا كنت وحيدة الآن فلا يمكن أن يطول بك الحال على نفس المنوال ,ذات يوم ستتزوجين وتؤسسين أسرتك الصغيرة , زوج محب وأبناء صغار يحيطون بك ,والسعادة تغمرك من كل جانب ,فما حاجتك لمقاومة العلاج ؟ انصتى الىّ ... هل زرت الطبيب من قبل ؟ أم ..
قاطعته سريعا مجيبة :
-نعم , منذ ما يقرب من ستة أشهر وقد وصف لى عقــارا لعلاج الأنيميا.
-عظيم ,وأين هى التذكرة ؟
-لماذا تسأل عنها ؟
أجابته بغباء يتنافى مع التفكير السليم فشخر ساخرا:
-لأننى أريد زيارة هذا الطبيب ليعالجنى أنا أيضا ,أف .. طبعا لأشترى لكِ الدواء المطلوب .. مها ... ألن تخبريننى ؟
أجابت مترددة وهى تتلفت حولها لتجد ضالتها المنشودة بلا جدوى:
-أنها بحقيبة يدى .
حاولت القيام لتبحث عنها فأدرك نيتها بلمحة البصر وأسرع يمنعها من مغادرة الفراش ,فأسندها بقوة حيث أعادها الى مكانها الدافئ فى الفراش وهو يعيد ترتيب الغطاء على جسدها.
-لا ترهقى نفسك ,سوف آتيك بها.
أغمضت عينيها استسلاما وهى تسمع وقع خطواته المبتعدة ,ثم عادت الخطوات الرجولية الواثقة ليستقر بجانبها مادا يديه بحقيبتها ففتحتها لتخرج من محفظتها ورقة بيضاء مطوية ,ناولته ايّاها بدون أن تغفل عن تأمله لوجهها بغموض وكأنه يفكر فى خطوته التالية .
-هل توجد صيدلية قريبة من هنا ؟
اومأت برأسها موضحة بصوتها الذى أصبح يتغلغل فى أعماقه مخترقا كافة الحواجز التى بناها على مر السنوات بعد انهائه لعلاقة الحب التى جمعته بليلى ,وهى تصف له المكان بدقة واختتمت قولها:
-وان كنت أظن أنه لا داعٍ لأن تتعب نفسك معى ,فاذا شعرت بتحسن لن ...
-هل تعرفين كيف تبقين فمك الجميل مغلقا ؟ أم أن أتصرف أنا بطريقتى ؟
رمقها بنظرات مقيّمة أشعرتها برغبة فى الفرار من حصاره حيث تهدلت خصلات شعره العسلية على جبهته العريضة فقاومت اندفاع طائش لتعيدها الى مكانها ,وحاولت الالتهاء عن مراقبته التى لم تدم فيبدو أنه هو أيضا كان يصارع رغباته الداخلية ليوجّه اهتمامه نحو حقيبتها فسألته باندهاش عما يريده ,فأجابها ببساطة:
-مفتاح الشقة اذا لم تمانعى ,فلا أريدك أن تنهضى من الفراش لأى سبب كان حتى آتيك بالدواء.
ومد يده اليها بسلطة مؤثرة ,ما نفع المقاومة مع مثل هذا الرجل القوىّ الشكيمة الذى اعتاد أن يأمر فيطاع ,ناولته سلسلة مفاتيحها التى لا تزيد عن ثلاثة مفاتيح معلّقة بها وأشارت الى الوحيد المختلف الشكل بينهم وهى تقول:
-هذه هو المفتاح.
-حسنا , لن أتأخر عليكِ.
وكافأها بابتسامة ساحرة هذه المرة فيما هى تتطلع الى ظهره الذى أولاه لها منصرفا ,وقد أظهر قميصه الناصع البياض المفصّل بدقة عليه عضلاته المقسّمة بتناسق وكان مثالا للرجل الرياضىّ الذى يحافظ على رشاقة جسده اضافة الى قامته الفارعة فأخذت تلوم نفسها على تسرعها فى التفكير به وهى تلتقط هاتفها المحمول لتجرى مكالمة مستعجلة قبل أن يعود سيف ,لديها مساحة لا بأس بها من الوقت فقد أرسلته الى أبعد صدلية تقع بالحى المجاور لهم ,وهو بدوره لم يشكّ بها على الاطلاق.


************

SHELL 07-11-18 11:14 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لحقت به فريال وهى تحث خطاها على الاسراع محاولة أن تتوازن فى مشيتها على الممر الحجرى الذى يصل الفيلا بالفناء الخارجىّ حيث أوقف سيارته الحديثة الى جوار سيارات العائلة ,فأطلقت نداءا يائسا لتستوقفه:
-مجدى ... مجدى.
توقف فجأة وقد تصلبّت عضلاته بفعل ملامستها لكتفه وهى تحاول التماسك قبل أن تتعثر بفعل حجر صغير فى مرمى طريقها فأنقذها باحاطته لخصرها قبل أن تفهم ما يحدث بالضبط كانت بين أحضانه معانقا لها بعنفوان وقوة غاضبة لم تعتدهما من قبله فأطلقت العنان لعواطفها الحبيسة وقد تعلّقت بعنقه سامحة لكل مشاعرها المكبوتة أن تنفلت من عقالها مرددة بهيام:
-شكرا .. شكرا يا مجدى.
-لا شكر على واجب يا سيدتى.
وأزاحها بعنف بعيدا عنه لتقف ملاصقة له ولكنها محرومة من دفء ذراعيه ومساندته لها ,وقد تألمت من طريقته الرسميّة بعد المشهد العاطفىّ الذى تشاركاه منذ لحظات فقالت باندفاع:
-الى أين أنت ذاهب ؟
-الى بيتى , الى حياتى التى أهملتها وأنا أحاول ترميم حياتك أنت ,لقد انتهى دورى بالنسبة لكِ ,وها هى ابنتك الحبيبة عادت الى أحضانك ,فلا حاجة الىّ بعد الآن.
-أنت مخطئ يا مجدى.
قال متشنجا وقد ابيضت مفاصله بفعل ضغطه على حقيبته السوداء التى يحمل بها أوراقه الخاصة بالعمل :
-لقد كنت مخطئا طوال هذه السنوات ,انتظرت وهما وسعيت نحو تحقيق المستحيل ,,, فكان نصيبى الفشل الذريع.
-لا , أرجوك لا تقل هذا ,فأنا ,,, بحاجة اليك ,ما زلت ...
قاطعها بحدة:
-وفّرى على نفسك المجاملات التى لا طائل منها ,أنت لا تحتاجيننى بعد الآن ,لقد كنت رجلا معك حتى النهاية ,,, لا يمكنك اتهامى بالتقصير ,أو أننى قد أخذت أكثر مما أستحق.
كان يذكّرها بعنف باهانتها السابقة له ,فأطرقت بوجهها أرضا محرجة من مواجهة نظراته القاسية ,فأجهشت بالبكاء وهى تقول بتردد:
-ألا يمكن أن تمنحنى فرصة ثانية ؟
ورفعت بصرها اليه تستجديه بضعف فهزّ رأسه نفيا وهو يجيبها بلا رحمة:
-لا أستطيع يا فريال ,لقد أعطيتك أكثر من فرصة ,ولكنك كنتِ تتبارين فى اظهار مهارتك فى اهدارها الواحدة تلو الأخرى , لم أعد أتحمّل طريقتك المتعالية ولا أسلوبك الجارح ,كنت ألتمس لكِ الأعذار بالماضى وأقول لنفسى انها مجروحة ويائسة فلتكن أنت الكتف الذى تبكى عليه ,والآن ... لم أعد مناسبا لكِ ,فليس من العدل بعد انتظار سنوات وحيدا بلا حب بلا زواج مضحيا بكل ما أملك من وقت وجهد حتى أصبح رجلا يليق بكِ وبمستواك الاجتماعىّ ,عملت ليلا نهارا لم أنعم بأية راحة محاولا الوصول اليكِ ,أن تكون مكافأتى على يديك أن تطعنيننى بسمعتى وشرفى ,فاتهامك لى بالكذب ومحاولة السعى وراء المال أصابنى فى الصميم ,اذا أردت أن أبيّن لكِ حقيقة زوجك الراحل منذ وقت طويل كنت فعلتها ,ولدىّ كافة الدلائل على وضاعته وحقارته ,أنه مجرد شخص مستهتر يهوى القمار أراد التلاعب بمشاعرك البريئة حتى يصل الى غرضه الدنئ ,وقد تورّط بعمليات نصب بعد أن أصبح غارقا بالديون حتى أذنيه ,فأنهت العصابة التى كان يعمل معها حياته بعد أن دفعها ثمنا رخيصا لأفعاله الغير شرعية ,وصار مجرد كارتا محروقا بالنسبة لهم فكان أن هدّدهم بكشف أمرهم للشرطة فاستحق العقاب للخيانة ولم يكلفهم سوى رصاصة واحدة فى القلب ,وهذه هى نسخة من التقرير الذى أصدرته دائرة التحقيق بوقتها.
-لا يمكن ...هل .. هل يمكننى الاطلاع عليها ؟
فناولها ورقة أخرجها من حقيبته فالتقطتها منه مرتعشة وهى تنهب سطورها مصدومة مرعوبة مما تره بعينيها فما كان منه بعد أن أنهت قراءتها الا أن قال مشمئزا:
-ويمكنك الاحتفاظ بها أيضا , فلم تعد تهمنى ,كنت فقط أحاول أن أجنبك الألم ,كما لا أريدها أن تقع بيدى أميرة ,فما جدوى معرفتها لحقيقة أبيها القذرة ؟ اتركيها لخيالها .. تراه بصورة مثالية جميلة.
حتى فى أكثر اللحظات ايلاما له يفكّر بغيره ,يهتم بشؤون ابنتها ,لا يريد أن يسبب لها المزيد من الوجع , يضحى بسعادته من أجلها ,وهى ردّت له الجميل مضاعفا بخذلانها لمشاعره المتأججة التى لم تنطفئ برغم البعاد, لو فقط منحته الثقة التى يستحقها ؟
-أنا آسفة.
-وما نفع الأسف الآن؟
واستطرد يائسا:
-وداعا يا فريال ,اهتمى بنفسك وبأميرة.
خشيت أن يكون مقدما على الرحيل فعلا وهى تقف كالمتفرجة تشاهده يعتلى مقعد القيادة ,فتشبثت بيديها على مقبض باب السيارة وهى ترجوه مذهولة:
-أرجوك يا مجدى ’ لا تتركنى وترحل ,,, أنا لا يمكننى الحياة بدونك.
نظر لها مرة أخيرة قبل أن يقول بمرارة وأسى:
-بل يمكنك يا فريال , لقد فعلتها من قبل ,ولا تنسى أن أميرة قد عادت الى حياتك ,وبالتأكيد ستعوّضك عن الحرمان الذى قاسيتِ كثيرا بسببه ,أتمنى لك من قلبى كل السعادة ,وداعا.
أبعدت يديها وقد أدركت أنها خسرت جولتها الأخيرة ,وانطلق مجدى مسرعا ليخرج من حياتها نهائيا.
ظلّت متعلّقة بالورقة التى تكرمشت بفعل قبضتها وهى تتمنى لو تستطيع تمزيقها اربا اربا كما تمزّقت حياتها من قبل ,ولكن هل يكفى هذا لمحو الذل والعار ؟ ارتسمت دلائل الشعور بالاحباط والانهزام على وجهها وقد وعت الحقيقة الغائبة عنها : لم يكن أبوها ذلك الرجل الظالم الذى كرهته ,كان يعرف بحقيقة ابن أخيه المتجليّة بوضوح كالشمس ,حاول حمايتها من انتقامه وسعيه ورائها من أجل ميراث هو حق له أراد أن يبعثره هباءا بعد أن سيطر عليه داء المقامرة ,هل أحبّها حقا ؟ وهل استحق حبها له ؟ ظلت أسئلة بلا اجابات ... فوالدها وزوجها ... كلاهما مات ... ولن تعرف ابدا الحقيقة كاملة ,لكنها لن تيأس سوف تسعى باحثة عنها .
جرجرت قدميها عائدة الى الفيلا وهى تنفض عنها آثار الحزن البادية بجلاء على وجهها ,شامخة باستعلاء يليق باسم عائلتها.


******************

SHELL 07-11-18 11:15 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثانى والعشرون

http://www.7lwthom.net/up/uploads/1459430526432.gif

SHELL 08-11-18 07:18 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثالث والعشرون

https://spbarchives.ru/documents/101...=1495023612178

-أين كنت يا ريم ؟
استقبلتها أمها مقطبة حاجبيها تترصد التغيرات التى طرأت على حياة ابنتها وجعلتها تتغيّب كثيرا خارج المنزل ,فى البداية ظنّت أنها تروّح عن نفسها مع بعض صديقاتها الا أن شرودها الدائم وتفضيلها البقاء وحيدة بغرفتها على صحبتهم أثار القلق بنفسها ,فأرادت أن تقطع عليها السبيل باستجوابها الغاضب الذى أشعر ريم بالتربص للقادم وهى تجيبها بمرح فيما اقتربت من أمها تحتضنها بسعادة وتطبع قبلة على راحة يدها:
-ألا يوجد حمدا لله على السلامة أولا ؟ ألم تفتقديننى يا ست الكل ؟
-لقد سألتك أين كنت يا ريم ؟ هل من جواب على سؤالى ؟
-ما هذه الطريقة الغريبة فى معاملتى يا أمى ؟ لقد كنت بالخارج , فى نزهة مع أصدقاء لى.
-أعرف فلدىّ عينان كما ترين ,كما أملك عقلا ما زال يعمل بكفاءة لأرى أنك قد أصبحتِ كثيرة التردد على النزهات ... مع .... أصدقائك.
لم يغب عن ريم أسلوب أمها حين تلفظت بكلمة أصدقائك ,وكان واضحا أنها قد انتظرتها منذ فترة ليست بقصيرة لتفتح معها موضوعا للنقاش ,وها قد أصبحت أسيرة لنظرات عينيها اللائمتين بعتاب ودىّ ,ابتلعت ريقها بصعوبة وقد تملكتها رغبة فى المصارحة والبوح بمكنونات صدرها ,ومن لديها تأتمنه على اسرارها سوى والدتها الحبيبة المتفهة لطبيعتها دائما ,واصلت سوسن الضغط على ابنتها ولكن بطريقة أكثر لينا فقالت متأثرة:
-أرى أنك تخفين عنى الكثير.
-ماذا أخفيه عنك ِ؟
-من هم أصدقاؤك هؤلاء ؟ ولماذا لا تعرفيننى عليهم ؟ أهم زملاء الدراسة القدامى ؟
ارتمت ريم على الأريكة الوثيرة بجوار والدتها وهى ترمى بحقيبتها باستهتار أثار انزعاج سوسن على المنضدة الرخامية وهى تجيبها بصوت حالم منخفض وكأنها بعالم آخر:
-ليسوا زملاء دراسة.
دققت سوسن النظر اليها فى انتظار تصريح أكثر شفافية وحين طالت الدقائق صاحت بابنتها مؤنبة:
-ريم , أننى أحدثك يا بنتى ,فيمَ شرودك ؟
فزعت ريم وسارعت تخفى نظرات عينيها حتى لا ينفضح أمرها فقد كانت شفافة الى درجة لا يصدقها عقل ,وخمنت بأن أمها قد تشككت بأمرها ,فاقتربت ببطء من أذنيها وهى توشوشها بصوت خفيض :
-الحقيقة يا أمى ,أننى تعرّفت على شاب و...
بترت عبارتها بغته فى انتظار ثورة أمها بيد أن الأمر مر بسلام ووالدتها تتابع اعترافها بشغف وترقب ,فلما وجدتها صامتة قالت تستحثها برفق:
-ها .. أكملى , من هو هذا الشاب ؟
وكأن الأمر عاديا ,تعجبت ريم من تصرف أمها وقد ظنت بأن الحرائق ستشتعل فى المنزل ولن تخمد نيرانها أبدا فاستطردت بتقرير:
-لا شئ , كان مجرد تعرف على النت تحدثنا كثيرا فقد كنت أشعر بالملل من وحدتى ,وبعد فترة فوجئت به يطلب مقابلتى ,فى البداية كنت مترددة وحسمت أمرى بعدها لأوافق على رؤيته ... ماما , هل أنت بخير ؟
لما وجدتها منصتة لها باهتمام عميق دون أن تحاول مقاطعتها ظنت أنها مصدومة فلا تستطيع التحدث ,تنهدت سوسن بملل وهى تبتسم بتلقائية فى وجه ابنتها العابس وقالت بهدوء:
-أنا بخير , ويبدو أن ابنتى قد شبت فجأة فى غفلة من الزمن وصار لديها معجب غامض ,أكملى حكايته فقد بدأت أشعر بفضول رهيب لمعرفة من هو هذا الشاب الذى شغل تفكير صغيرتى .
أراحتها لهجة أمها الناعمة فبدأت تروى لها القصة بتفاصيلها الدقيقة دون أن تغفل أية لمحة صغيرة انتهاءا بمقابلتها الأخيرة له.
-وما هو شعورك نحوه يا حبيبتى ؟ أعنى هل تحبينه ؟
فوجئت الفتاة بتقبل أمها لهذه العلاقة فأخذت تحاورها صراحة فى تفاصيل مشاعرها نحو جاسر وبدأت تقول بتردد لا تدرى مصدره:
-هكذا مرة واحدة يا ماما ,لا أعرف حقيقة فمشاعرى نحوه غير محددة ,أشعر بانجذاب عميق نحوه ,يأسرنى بحديثه الممتع ,وشخصيته الجادة وثقته بالنفس ,أشعر بأشياء كثيرة نتشارك فيها ,ولكننى ..
-ولكنك ماذا ؟ ألا تثقين بمشاعره نحوك ؟
-أحيانا يبدو لى مهتما للغاية بكل ما يخصنى ,يدللنى بطريقة لا أجرؤ معها على انكار العلاقة المتينة التى جمعتنا فى وقت بسيط ,وفى أحيان أخرى اشعر بقلق تجاه تصرفاته فيبدو وكانه يحاول اخفاء شئ ما ,كأنه صراع بينه وبين نفسه ... أنا لست متأكدة مما بيننا.
ربتت الأم على كتف ابنتها بحنان مشجعة بحزم:
-انصتى الىّ يا بنيتى ,لقد أحسنت تربيتك أنت وأخيك ,وأفنيت عمرى من أجلكما ,وفى ذات الوقت أعرف أنه لا بد سيجئ اليوم الذى تتفتح فيه مشاعر حب بريئة من ناحيتك طبعا تجاه شخص ما ,مهما حاولنا ايهام أنفسنا بأن أبناءنا ما زالوا صغارا ,فهم يكبرون وسريعا نكتشف أننا توقفنا بالزمن فى مكان بعيد ,أنا لست ضد هذه المشاعر ,فلا يسعدنى أكثر من أن أراك عروسا جميلة الى جوار زوج مناسب يحبك ويرعاكِ ,الا أننى أرى أن تتروي بعض الشئ حتى تتعرفى عليه بصورة أفضل وأكثر عمقا ,فالارتباط ليس لعبة نتسلى بها ,أفهمتِ ؟
شهقت ريم متعجبة وهى تهتف:
-ومن تحدث عن الارتباط ؟ لم أقل أنه يريد خطبتى ؟
اتسعت ابتسامة سوسن وهى تقول بلهجة خبيرة:
-أنا أفوقك عمرا يا ابنتى ,وقلبى يحدثنى أن جاسر هذا سوف يفاتحك قريبا بأمر الزواج , الأهم هو قرارك أنت ,احذرى التسرّع فى اتخاذه, كما أنه لا بد من استشارة أبيك ورفيق طبعا فى الأمر.
-ماما ! ايّاك أن تخبريهما !
-اهدأى يا حبيبتى , ليس الآن بالطبع ,حينما يفاتحك الرجل أولا بهذا الشأن ,وحينها لكل حادث مقال.
-نعم أنت محقة.
-لن أعاتبك فى هذه اللحظة على اخفائك هذا الأمر عنى ,ولكن لا تعيدى الكرة مرة ثانية ,واذا كنت ذاهبة للقائه فعليك استئذانى أنا أولا ,هل أوضحت لك كلامى ؟
-نعم , يا أمى , أنا آسفة ,بالتأكيد كنت سأخبرك ,فى الوقت المناسب.
وشعرت ريم بأن هما ثقيلا قد انزاح عن كاهلها ,فهى على الأقل تتشارك السر مع أمها , السيدة الأمينة المتعقلة والتى تمتلك ذهنا متفتحا وبصيرة أقدر منها هى عديمة الخبرة.


*****************

SHELL 08-11-18 07:22 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-لا تشغلى بالك ,سأكون حاضرة لديك فى غضون دقائق ,الى اللقاء.
أنهت هديل مكالمتها الهاتفية التى قطعت عليهما الانسجام التام فى جلستهما البسيطة ,بينما تتابعها نظرات كريم المدققة وهو يعبث بذقنه مفكرا ,لتبادله هى النظرات شاعرة بالأسى لانتهاء هذه الدقائق الثمينة من عمرها فقالت بصوت مرتجف:
-أعتذر بشدة منك ولكن علىّ أن أرحل الآن.
لم يصدق كريم ما سمعه بأذنيه وظن أنه يحلم فلم يصادفه فى أى من المرات القليلة التى خرج بصحبة فتاة أن تقوم هى باتخاذ قرار الرحيل ,أيعقل أنها قد شعرت بالملل من صحبته ؟ هو يدرك أنه لم يكن يوما شخصا لطيفا جدا ,بل يتسم بالصرامة والقسوة أحيانا فى تصرفاته ,هل أساء تفسير رؤيته للفرح يتقافز فى عينيها الجميلتين حينما دعاها الى الغداء ؟ هل تتلاعب به هذه الفتاة الغريبة ؟ كان ما يزال مصدوما وهو يسألها عابسا:
-لماذا تتعجلين الرحيل ؟ فنحن لم نطلب التحلية بعد ؟
استقامت برشاقة لتمهد لانصرافها وهى تشكره بأدب مبالغ فيه:
-أنا آسفة ,علىّ الذهاب ,لا تجبر نفسك على الحرمان من التحلية ,يمكنك البقاء كيفما شئت.
أمسك بمرفقها وهو ما زال جالسا على مقعده وأجبرها على الجلوس مرة أخرى مهددا وهو يكز على أسنانه غاضبا:
-انتظرى يا مجنونة ,سوف أدفع الحساب وننصرف سويا.
آلمتها قبضته المكبّلة فى عنف حتى بعد أن انسحب بعيدا عنها ,ظلت تعانى من الوجع ففركت ذراعها بقوة بينما أشار هو للنادل فهرول اليه مسرعا ليتناول منه الأوراق المالية التى وشت باكرامية سخية ,فلا عجب أنه يتمتع بمثل هذه المعاملة الخاصة أينما ذهب ,هذا ما يفرضه المال مع السلطة وقوة الشخصية.
أشار لها بأن تتبعه منصرفا دون أن يهتم بمراعاة قواعد اللياقة هذه الآونة فى معاملتها ,يبدو أنه قد أساء تفسير رغبتها بالرحيل ,لو فقط تستطيع أن تمحو تلك النظرة القاتلة التى تشع من عينيه الحادتين.
تبعته وهى مطأطئة الرأس لا تعرف كيف تتعامل مع غضبه السريع ,لقد أفسدت يوما بدا لها رائعا وكانت ذكراه ستبقى حيّة حتى ولو بعد عشرات الأعوام ,بعد أن اعتلت مقعدها الى جواره ,حاولت أن تلفت انتباهه باشارة من يديها فلم يعيرها أدنى انتباه ,حاولت أن تتغلب على الصمت المطبق عليهما بطريقة خانقة ,فتنحنحت مترددة وقالت:
-كريم ... كريم.
كانت الاشارة قد تحولت فى هذه اللحظة الى اللون الأحمر فتوقف بغتة بعد أن أثاره ندائها الملح فالتفت اليها معاتبا وهو يصرخ:
-ماذا هناك يا هديل ؟
-أردت أن ألفت انتباهك الى أن هذا الطريق الذى تسلكه خاطئ.
-نعم ؟ لا أفهمك , أليس هذا هو طريق منزلك ؟ هل انتقلتِ الى مسكن آخر ؟
-لا لم أنتقل الى مسكن آخر ,,, ولكننى ... لن أعود الى المنزل.
-لماذا ؟
-علىّ الذهاب الى ... مكان .. أعنى لدىّ موعد هام.
-موعد ؟
فجأة تحولت الاشارة الى اللون الأخضر وهو غافل عما حوله وقد صارت ملامحه متوحشة يحاول كبح جماح غضبه الذى أشعلته هذه الحمقاء باعترافها اللا مبالى ... هل تجرؤ على اخباره عن مواعيدها الغرامية وهى التى كانت برفقته منذ قليل ,فانفجر هادرا:
-موعد مع من ؟ لا يمكن أن تكونى جادة , أتتنقلين من رجل الى آخر بهذه البساطة ؟ وفى نفس اليوم ؟ على الأقل اتركى لنفسك مساحة من الوقت لالتقاط أنفاسك.
تضايقت من هجومه المفزع ,وكادت أن تبرر له موقفها فاستوقفتها لتهاماته الباطلة بأنها تنتقل من شخص الى آخر ,لقد نال من كبريائها وكرامتها فتحوّلت الفتاة الوديعة كالحمل الى قطة شرسة تدفع بمخالبها فى وجهه فبدأت تجابهه بينما أبواق السيارات خلفه تعوى باعتراض على توقفه ,فانطلق بسيارته تتبعه لعنات السائقين المتبرمة ,فيما هديل تندفع معترضة بحدة:
-كيف تجرؤ على مثل هذا القول الوضيع ؟ ثم بأى حق لديك تحاسبنى على أفعالى , أنا حرة.
-لا لست حرة , فأنت الآن فى حمايتى ولن أسمح لكِ بهذه التصرفات المستهترة , لا أصدق أنك تحتفظين خلف قناع البراءة المزيفة بمثل هذا الوجه البشع.
-من فضلك , لا تتوسع فى اهاناتك أكثر من ذلك ,فأنت مخطئ جدا فى تفكيرك ,لقد سارعت الى الاستنتاج بأننى على موعد مع رجل ,دون أن تنتظر تفسيرى ,اطمئن يا سيد كريم فأنا ذاهبة الى بيت صديقتى .. مها ... أنك تعرفها فهى سكرتيرة ابن عمك.
دونا عن ارادتها بدأت العبرات تنساب على خديها بصمت وهى تحاول كبتها دون جدوى ,ولم تطاوعها يديها لتمسحها خشية أن تلفت انتباه الرجل الى جانبها فيتمادى الشعور بالاذلال ,فاجأها بأن التقط منديلا ورقيا من علبة أمامه وأخذ يمسح دموعها المتساقطة برفق ولين ,وبدا على وجهه أمارات الندم والتردد فقال بوجوم:
-أعتذر منك يا هديل , على تسرعى وانفعالى الغير منطقى , لا أدرى حقا ما الذى أصابنى ,أعتقد أننى كنت على حافة الجنون حينما اعتقدت أنك على موعد مع رجل غيرى ولست أفهم كيف توصلت الى هذا الاستنتاج الغبىّ.
لا تدرى لمَ وصفه لتفكيره بالغباء جعلها تضحك منه فهذه هى المرة الأولى منذ عملت معه تراه يعترف بالتقصير ,بل وينطق بكلمة اعتذار ,, لها دونا عن الفتيات جميعهن .
-هل راق لك ما قلته لهذا الحد ؟
حاولت أن تتصنع الغضب مشيحة بوجهها الى الناحية الأخرى وهى تقول بتمرد ملحوظ:
-لا , فكلامك جارح للغاية حتى بحق نفسك.
-هل أفهم أنك قد سامحتنى اذن ؟
-وهل يهمك الحصول على الغفران ؟
أجابها بلا تردد هذه المرة:
-طبعا ,سوف أعوّض عن خطئى الفظيع بأن أنفذ لك ما ترغبين به فى هذه اللحظة.
كاد لسانها أن ينفلت بأمنيتها الغالية ... كادت أن تخبره بأنها ترغب فى البقاء معه الى نهاية العمر ,هو وحده فقط ,تسارع ذهنها للعمل لتجيبه بمنطقية:
-حسنا ,أريد أن أذهب لبيت مها.
-تحت أمرك يا سيدتى ,فقط أعطنى العنوان وفى غضون دقائق تصبحين هناك.
تغلبت عليها الابتسامة الصادقة النابعة من القلب وكيف تستطيع البقاء غاضبة من هذا الرجل الذى يحتل عقلها وقلبها ,فأعطته العنوان تفصيليا,وهى تشعر بأنهما مقدمان على مفترق طرق فى علاقتهما الناشئة حديثا ,وتساءلت : هل حقا لديها الحق فى أن يتجدد الأمل منتعشا بأن يبادلها مشاعرها العميقة نحوه ؟


*******************

SHELL 08-11-18 07:24 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عاد سيف الى منزل مها حاملا معه كيسا يحتوى على الدواء المطلوب وأكياس أخرى تحمل شعارا لمطعم ,وتوقف أمام باب الشقة يفكّر مليّا فيما تورط فيه بدون سابق تخطيط ,لقد جاء من أجل غرض معين ... كان يحاول الوصول الى الحقيقة بدون تجميل ,أرادها أن تخرّ أمامه معترفة بذنبها ,وسيتم انتصاره الساحق عليها بأن يوقع عليها العقاب كاملا ,لم يتخيّل أن قلبه سيرق خافقا لرؤيتها فاقدة الوعى بين ذراعيه واهنة بلا حول ولا قوة ,متناسيا كل أفكاره المرتبة بعناية لينساق وراء قلبه ,الذى دفعه بقوة نحو هاوية عميقة ,أسيقع بنفس الخطأ مرة أخرى ؟ هل يترك قلبه يقوده نحو الهلاك ؟ لماذا رأف بحالها وتراءت له صورتها ممدة على فراشها البسيط تنتفض كعصفور جريح فى انتظار الصيّاد لينقض على فريسته كاسحا أية مقاومة ممكنة ,بينما انقلبت خطته الى مساعدتها بشتى الوسائل حتى تجتاز محنتها ,وبعدها ... سيقدم على ما أراد تنفيذه باصرار لا يتزحزح.
دس المفتاح فى قفل الباب وأداره مرة واحدة فانفتح محدثا صريره المعتاد ,وتعمّد أن يحدث جلبة صارخة بعد دخوله حتى تعرف مها بقدومه ,وصاح بصوت جهورىّ:
-مها ,لقد عدت.
اعتدلت الفتاة بعد أن تناهى الى مسمعها الضجة الصادرة من اتجاه الصالة حيث أجابته بصوت حاولت جاهدة ليصل اليه:
-حسنا.
-أيمكننى المجئ ؟
وكأنه يطلب منها الاذن فهى موقنة بأنه لا يتقبّل كلمة لا كرد على استفساره التقريرى ,ولا بد أن تتأهب لاستقباله بذهن صافٍ بعد أن استردت بعضا من قواها الخائرة ,انها تحتاج الى مساندة حتى لا تضعف أمام نظرات عينيه الثاقبتين فتشعر بأنهما تعريّا روحها بداخل جسدها ,كاشفتين عما يجول بداخلها ,أصبحت تخشى من مخططاتها للانتقام التى سعت نحوه بكل طاقاتها فهى من ألقت بنفسها فى أحضان التنين وعليها أن تتحمل لسع نيرانه النفاثة.
-أرى أنك قد أصبحت أفضل حالا ,أليس كذلك ؟
ومد يده يناولها علبة الدواء بينما تجرى عيناه بحثا شاملا عن شئ ما فسألها عما تناولته من طعام فأجابته نافية وهى تقضم أظافرها بحركة عصبية اشعلت من غضبه الأعمى وهو يهتف بها :
-كيف يمكنك أن تكونى بهذا الاستهتار بصحتك وحياتك ؟ لقد أحضرت طعاما جاهزا لأننى بصراحة لا أعرف اذا كان بهذا البيت شيئا صالحا للأكل ؟
تصاعد غضبها هى الأخرى من ازدرائه الواضح لحال منزلها المتواضع فأجابته بدفاع مستميت:
-ليس الى هذا الحد يا سيد سيف ,فحتى لو لم نكن نسكن أفخم القصور ,فما زلنا نملك قوت يومنا ... وكرامتنا ... هذا المنزل الذى لا يعجبك حتما ولا يليق بمستواك العالى ,هو كل ما تبقى لى بعد أن ... توفى والدى.
كاد كبرياؤها أن يثور معلنا ببساطة الحقيقة ... كادت أن تقول بعد أن جردتنا عائلتك من كل أملاكنا.
حدّجها سيف بنظرات شديدة الغضب وعقله يعمل بسرعة ليجد نفسه غارقا فى شعور بالشفقة على ما آلت اليه أحوال هذه الفتاة الباهرة الحسن ,أنها لا تستحق المعاناة التى تعيشها ,ربما سيتهور مجددا اذا واصلت النظر اليه بهذه الطريقة المتربصة ... لماذا هذه الحساسية المفرطة تجاه سؤال عادى أطلقه ليجد ردا منطقيا عن مكان المطبخ بهذا المنزل ,فقاوم رغبته بأن يسكتها بطريقته الخاصة حتى لا تعود قادرة على المقاومة واستفزاز مشاعره بهذا الأسلوب المنمق ,هذا ما يعرفه جيدا بالابتزاز العاطفىّ ,أن أمه واحدة من النساء الخبيرات بهذا المجال ,استغلّت عواطف والده العميقة نحوها ورباطها بالزواج منه وانجابها له حتى تنجو بفعلتها من ورطة محققة كادت تقضى على حياتها الزوجية وعادت تحتل مكانها بمنتهى البساطة ,زوجة وأم على مرأى الجميع.
-أين يوجد المطبخ ؟
توردت وجنتاها خجلا من سؤاله الذى طرحه بامتعاض ,خيّم صمت ثقيل عليهما قطعته بايماءة من رأسها الى اليسار قائلة بنبرة جافة:
-بعد أن تنتهى الردهة ستجده مقابلا لك.
حملق بوجهها لحظات بتأثر شديد وهو يحاول رسم ابتسامة على شفتيه لتلطيف الأجواء وقال متناسيا المجابهة بينهما:
-سوف أحضر صحونا وملاعق فلا تستطيعين تناول الدواء على معدة فارغة ,هكذا نبهّنى الطبيب الصيدلىّ.
وكاد أن ينصرف الا أنه تذكر شيئا فعاد لمواجهتها متسائلا:
-صحيح ,ألا توجد صيدلية أقرب من تلك التى وصفتها لى؟
-كلا ...
سارعت الى النفى بقوة خشية انكشاف حيلتها والتى لم تنطلِ عليه فلا بد أنه أدرك خداعها له ,كانت ملامح وجهه جامدة لا تعبر عما يعتمل بنفسه ,ثم أومأ لها موافقا واتجه مبتعدا عنها نحو الردهة , فاستوقفه رنين جرس الباب الذى انطلق مدويّا فعقد حاجبيه مفكرا وأكمل طريقه ليضع الأكياس التى يحملها بيديه على أقرب طاولة ثم عاد أدراجه ليفتح الباب.
أطلّ وجه هديل مصعوقة من شدة الصدمة التى تلقتها برؤيتها لسيف واقفا وكأنه سيد المكان الذى يمتلك كافة الحقوق ,وتفهمت لما أصرت عليها هديل أن تلحق بها على وجه السرعة ,وتناقلت النظرات بينهما باردة حتى رأى الرجل الواقف خلفها والذى وقف مشدوها ,كان كريم الذى أقلّها الى حيث تقطن رفيقتها عارضا عليها مرافقتها الى البيت ولم يكن منتظرا لموافقتها ,صاح وكأن مسا قد اصابه:
-سيف ؟ ما الذى تفعله هنا ؟
أفسح لهما الطريق بشكل مسرحى وهو يجيبه ساخرا:
-لست وحدك المندهش هنا ,فلم أكن أتوقع رؤيتك هنا أيضا ومع من ؟ هديل !
تركتهما هديل واقفين يتواجهان بموقف غريب ,وأسرعت تلحق بمها للاطمئنان عليها وقد ساورتها الشكوك تجاه نوايا سيف الغير بريئة نحو صديقتها ,اضافة الى محادثتها الهاتفية المبتورة بضرورة اللحاق بها فى منزلها.
-تفضل يا ابن عمى ,اعتبر البيت بيتك.
وأشار سيف نحو كريم ليتخذ مجلسا وهو يستأذنه بلهجة هازئة:
-اسمح لى فقط سوف أجهز المائدة ولن أستغرق كثيرا ,هل ترغب بمشاركتنا الوجبة أنت و... هديل.
-لا , شكرا سبق وتناولنا الطعام, خذ راحتك.
-تناولتماه معا على ما أعتقد.
أشار باصبعيه متجاورين وهو يتكهّن بما حدث ثم استطرد ساخرا:
-لن أتأخر عليك.
شعر كريم بأنه لا يعى ما يحدث أمام عينيه ,يبدو على سيف أنه يتصرف كما لو كان صاحب البيت بل ويأخذ حريته بالتجوّل فيه الى حد أنه يتباهى متشدقا باعداد مائدة الطعام ,الى أى مدى تطورت علاقته بمها ؟ أيمكن أن يقع سيف بشرك جديد أعدّته تلك الفاتنة بمهارة ؟ ألا يتعلم ابن عمه من أخطائه السابقة حينما تعلّق بواحدة تشبه مها كثيرا وكان نصيبه جرح غائر بقلبه الفتىّ ما زال يلعق آثاره الى هذا اليوم.
-ما الذى يحدث بالضبط ؟ أصبحت أشعر كأننى أشاهد فيلما سينمائيا سخيفا ... سيف ومها ... معا ... بمنزلها
حدّث كريم نفسه وهو ينتظر ظهور مها أو هديل فى أية لحظة عله يجد لديهما تفسيرا منطقيا لهذه الأحداث المتداخلة ,أنها تفوق قدرة عقله على الاستيعاب.


*******************

SHELL 08-11-18 07:25 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
واقفة تتخبّط بحيرتها وشاعرة باحساس عارم بالذنب ,لاستجابتها لطلبه لمقابلتها بعد الحاح منه ,شعرت بوجوده فجأة وذلك الاحساس يتسلل مجددا على الرغم من مرور السنوات ,لقد صارت أكثر نضجا وانتشر الشيب فى خصلات شعره ,مضفيا عليه لمسة رجولية ساحرة ,شعرت بنفسها تعود مراهقة صغيرة تتعلّق بمشاعر بدائية تغزو قلبها ,اقتربت بخطوات مضطربة من صلاح الذى كان جالسا ينتظر قدومها بفارغ الصبر ,فما أن لمحها بطرف عينه حتى هبّ واقفا يستقبلها بترحاب بالغ:
-مرحبا يا هناء , كيف حالك ؟
صافحته بطريقة حاولت جعلها رسمية:
-مرحبا يا صلاح ,أنا بخير.
-تفضلى بالجلوس ,ماذا تشربين ؟
-فنجان من القهوة ...
-سنأخذ فنجانين من القهوة التركية (سادة) بدون سكر.
أنهى طلبه وانصرف النادل الذى لم تعرف من أين جاء بهذه السرعة ليزيد من ارتباكها تطلّع صلاح اليها باعجاب ظاهر وهو يتنهد مشيرا الى منظر النيل الساحر الذى يشرف عليه المكان:
-هل تتذكرين يا هناء هذا المكان بالذات ؟
تألقت بعينيها نظرات الألم والوجع ,فعادت تطالعه بأسى ومرارة:
-بكل تأكيد , وكيف لى أن أنسى ؟
-كنا نجتمع سويا للقاء هنا بعيدا عن عيون أهالينا ,أنا وأنت ,وجدى ,فريال ,كمال ,منى ومجدى.
-أنها أيام مضت لحال سبيلها ,ومعظم من تتحدث عنهم رحلوا عنّا أو على الأقل من تبقى منهم تغيّر للأبد.
-لديك كل الحق فى قولك ,تراودنى أحيانا الذكريات واضحة جليّة وكأننى لم أنسها يوما ,ما أعجب العقل البشرىّ ,يبقى على ما يؤلمه ويقضّ مضجعه ,وينسى ما يفرحه ويبعث فى نفسه البهجة.
فهمت أنه كان يقصدها بهذا الحديث خاصة ,فهى لا تفتأ تتذكر زوجها الراحل الذى هجرها من أجل امرأة أخرى ,وحتى ولو كانت مخطئة فى تصرفاتها تجاهه ,وان كان اللوم يقع عليها فيما آل اليه زواجهما الغير مستقر الا أنها ما زالت تشعر باحباط مرير كلما فكّرت فيه ,تتجرع هذه المرارة بصبر ونفس راضية ,وتساءلت هل تتمتع بالاحساس بالألم الداخلى الذى يمزقّ روحها اربا ؟
-لماذا أردت رؤيتى يا صلاح ؟ لا أعتقد أنك تسعى نحو تذكيرى بالماضى ,فأنا أعيش به لا أجرؤ على الخروج من دوائره التى تجذبنى كدوامة ,تحاول اغراقى كلما جاهدت للفرار منها ,فقررت الاستسلام لها بهدوء متناسية أبسط حقوقى لأحيا سعيدة مرتاحة البال.
-لقد ضحّيت بسعادتك هذه من أجل غرض نبيل للغاية ,من أجل كريم ابنك ,وكما أرى فتضحيتك لم تذهب سدى.
لمعت نظرات الفرح بعينيها حينما ذكر اسم ابنها ,وأطلّ الفخر والزهو منهما فهو أغلى من فى الحياة ,ابنها هى وحدها ,لم يشارك وجدى فى تربيته ولا رعايته ,اختار البقاء بعيدا حتى مع رفضها لفكرة الطلاق التى كان عمها مصرّا عليها ,قلومته حتى النهاية لتبقى زوجة له حتى آخر يوم فى عمره ,مجرد زوجة على الورق.
-هل رأيت المصادفة الغريبة .. أن تعمل ابنتك مع ابنى .... بعد هذه السنوات الطويلة ,ما يجمعنا هو حادث سيارة.
تراقص شبح ابتسامة على شفتيه وهو يشكر الله على هذه الحادثة التى أعادت هناء الى حياته دون توقع منهما.
-أننى أشكر حظى الحسن على هذه المصادفة ,كنت أعرف أن هديل تعمل بشركة الشرقاوى الا أننى لم أعرف ابدا أن رئيسها هو ابن وجدى.
كان يهزأ من جهله بمرارة واضحة ,فشعرت بتعاطف بالغ وهى تقول بصدق:
-أنه ابنى أيضا يا صلاح فلا تنسَ هذا.
-ما يزيح الهم عن صدرى أن كريم هو ابنك يا هناء.
-كيف حال هديل ؟ لم تتصل بى منذ فترة وأنا التى اعتدت على سماع صوتها بصورة شبه دائمة.
غامت عيناه قليلا وقد شردت أفكاره وقال بلهجة بدت أشد قلقا:
-هذا ما أردت محادثتك بشأنه ,هديل لا تعجبنى هذه الأيام ,صارت تتصرف بغرابة شديدة ,وتتأخر كثيرا بحجج واهية ,حتى أنها اعتذرت لى اليوم عن تناول الغداء معى ,ولهذا فقد انتهزت الفرصة لأقابلك.
صارت أكثر انتباها لحديثه وقد شدّها أنه قد اختارها ليشكو اليها همّه فأخذت تشجعه على الاستمرار متساءلة:
-هل ترتاب بشئ معين ؟ أهناك شخص ما فى حياة ابنتك ؟
-نعم بكل أسف وهى تخفى عنى الأمر.
-أوووف ,لا يعقل أن أصدق هذا الأمر عن هديل ,فحينما تعرفت عليها وجدتها فتاة متعقلة رزينة يبدو عليها الجدية والالتزام , لا بد أنك مخطئ فى ظنك هذا ,أعنى هل تأكدّت ؟
-يمكنك أن تؤكدى لى الأمر بنفسك.
نظرت له متعجبة وهى تهز كتفيها عدة مرات:
-وما شأنى أنا بهذا الموضوع ؟
ألقى بالقنبلة فى وجهها وهو يقول بحزم:
-لأن الشخص الذى يشغل بال ابنتى ,والذى يعتبر السبب الوحيد لتبدّل أحوالها هو كريم ... ابنك.
شهقت هناء وهى تضرب على صدرها بعنف مرددة بغير تصديق:
-لا يمكن , لا يمكن !


*******************

SHELL 08-11-18 07:27 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عاد رفيق مرهقا منهك القوى من مشواره الخاص الذى رفض أن يخبر أى فرد من العائلة حتى زوجته ,على الرغم من أنها هى الوحيدة التى يعنيها الأمر والتى يخصّها بأسراره دونا عن الجميع ,ولكنه وجد البيت هادئا ساكنا بلا حركة ولا صوت ,قطّب حاجبيه مفكّرا وهو يتساءل أين ذهب الجميع ؟ تغيّرت عادات كل قاطنى المنزل ,وتحوّلت لمتهم وتجمعهم الى تفرق وتشتت بينما كان من المفترض أن يترابطوا أكثر بعد انكشاف الحقائق كاملة وعودة أميرة الى حضن أمها والى ... حضنه , هز رأسه نفيا وهو يؤكد على أنها لم تعد بعد الى مكانها بين ذراعيه ,لقد نفد صبره هذه المرة فمشاعره تشتعل نارا حينما بشعر بقربها منه ,بمجرد تواجدها فى نفس المكان تتلاعب به الأفكار والظنون مشيرة الى الرابط الخفىّ الذى يقيّد مصيريهما سويا ,يتمنى لو يستطيع أن يلقى بكل أعبائه وراء ظهره ليتفرّغ لحبيبته الغائبة التى عادت مجددا اليه ,أبعد كل هذا العناء والسنوات الطوال التى انقضت وهو بمنفى بعيدا عنها يظل محروما من متعة اللقاء ,يحاول كبح جماح أحاسيسه المتقدة بحبها ... ما زالت الظروف التى تمنعهما عن ممارسة أبسط حقوقهما قائمة الى الآن.
تنهّد بحرقة وهو يحلّ أزرار قميصه بحركة مضجرة فيما يصعد الدرج نحو غرفته التى تشهد على وحدته ليلا ,الى متى تجرفهما هذه الدوامة اللعينة ,, دوامة الماضى الذى لا يكف عن ملاحقتهما ,عمته فريال تصر باستماتة على التمسّك بالفتوى الشرعية التى قضت بامكانية عقد قران جديد باسم زوجته الجديد وهويتها الحالية كابنة لناجى الشرقاوى ,لماذا لا تنظر الى الجانب الآخر فالشيخ الجليل أباح له حرية التمتع بكافة الحقوق التى يكفلها له الشرع على اعتبار أنها زوجته اعتمادا على العقد القديم ,فالزواج صحيح ما دام قد استوفى شروطه وأركانه ، ولا أثر لتغيير الاسم على صحته.
أصبحت عمته تتدّخل بصورة مجحفة فى أى حوار بينهما لا تترك له فرصة للانفراد بابنتها الى أن ضاق به الحال ,أيعقل أن يعيش هو وزوجته تحت سقف بيت واحد وكلا منهما ينام بغرفة منفصلة ؟أى شخص يملك ذرة من التفكير السليم لم يكن ليمنعه من مشاركته لحياتها بكل حذافيرها.
توقّف قليلا أمام باب غرفتها يتلصص علّه يسمع شيئا ليرى ان كانت مستيقظة وحينما رأى الظلام يتسلل دون أى أثر لاضاءة المصبح شتم فى سره ,لأنها تغفو هانئة البال غير شاعرة بالجحيم الذى يتقلّب فيه ,فهى لا تمانع فى الاستجابة لرغبات أمها التى تدس أنفها فيما لا يعنيها ,لهذا فهو لا يفضّل زواج الأقارب ,أنها لعنة أبدية عليه فعمته هى حماته وقد بان تسلّطها وجبروتها الذى تمارسه بحرية غير عابئة بما يريده.
اندفع نحو غرفته التى كانت غارقة فى ظلام دامس ,لم يجد داعيا لاضاءة زر المصباح فهو يحفظ تفاصيل الغرفة جيدا وعليه أن يأخذ دشا باردا ليهدئ من فورة أعصابه ,توجه نحو الحمام الملحق بالغرفة بعد أن خلع قميصه وبنطاله وألقاهما باهمال ,ترك قطرات الماء المنعشة تنساب فوق جسده الخائر القوى وأخذ يفرك فروة رأسه بعنف حتى شعر بالدماء تندفع اليها لتعطيه احساسا بالاسترخاء هو فى امس الحاجة اليه ,أغلق صنبور المياه وخرج يلف جسده بمنشفة صغيرة بعد أن مشّط شعره الأسود بعناية ,لم يكن بحاجة الى تجفيفه فالجو يميل الى الحرارة ,لم يشعر بميل الى تشغيل مكيف الهواء ولكنه عاد ليشعر بضيق من مجرى أفكاره الذى تسلل رغما عنه الى حبيبته التى تغطّ بنوم عميق فى غرفتها غافلة عن غضبه المتأجج ,فضغط على زر الجهاز ليعمل بأعلى كفاءته وقد أزاح منشفته بعيدا وارتمى على سريره الموحش ليحاول الشرود بعيدا عما يشغله لينال قسطا من النوم الذى يجافيه كل ليلة.
فى البداية لم ينتبه للجسد الطرىّ الذى لامسه بطرف أصبعه حينما أمسك بالوسادة الصغيرة ليضعها تحت رأسه ثم تناهى الى أذنيه صوت تنفس منتظم ,فتحفزّت عضلات جسده القوية وشعر بنفسه يتردد منقطعا من شدة الاثارة حينما أعاد يده للموضع السابق فتأكد من الحقيقة التى ظنها وهما ... هناك من يرقد بسريره ,أو على وجه الدقة هناك من ترقد الى جانبه ,فتباطأت أنامله حول خصرها متسللا ببطء مثير الى الأعلى حتى اصطدم برأسها الصغير وتلاعب بالخصلات الناعمة ,كان يشتم عطرا نفاذا يعشق رائحته التى تشى بزهور الياسمين ,كيف لم يستوعب لدى دخوله وجودها الطاغى بغرفته , هى معذبته وفتاة أحلامه البعيدة ... أنها نائمة بسريره على قيد سنتيمترات قليلة من جسده المتصلب ,ماذا تظن نفسها فاعلة هذه الحمقاء الصغيرة ؟ ليعينه الله على ما ينوى فعله ,احتاج أن يبذل جهدا خارقا ليوقظها بأقصى درجة من اللطف استطاع أن يتعمّدها .
-أميرة ,,, أميرة ... استيقظى.
وأخذ يهزّها برفق محاولا ألا يفزعها فما كان منها الا أن شهقت رعبا وهى تقول مرتجفة:
-ماذا هناك ؟ من ؟
-اهدأى أنه أنا رفيق ... حبيبتى ما الذى جاء بك الى غرفتى ؟
-رفيق , لقد تأخرت فشعرت بالقلق عليك ... قلت لنفسى أنتظرك بالغرفة لأننى أرغب بمحادثتك ضروريا , يبدو أن النعاس قد غلبنى.
كانت عيناه قد بدأت تعاد على الظلام رويدا رويدا فلمح أصابعها تتسلل لتضئ المصباح الجانبى ( الأباجورة ) ,كان تصرفه اسرع منها بكثير فقبض على رسغها بخشونة يمنعها صائحا:
-كلا.
انتفضت متأثرة من حركته العنيفة الغير مبررة وهى تسأله بصوت لائم:
-لماذا لا تريدنى أن أضيئه ؟
تسلل صوته خشنا بفعل الشوق البالغ الذى تمكّن منه:
-عليكِ أن تغادرى الغرفة حالا , هيا اذهبى الى غرفتك.
استدارت لتواجهه فى الظلام وكيانها كله يرتجف بفعل العاطفة المتسللة بجرأة تنهشها لتجيبه بصوت متهدج:
-لماذا تبعدنى عنك ؟ كل ما أردته أن أتحدث اليك , على الاقل اتركنى أنام الى جوارك ,وأعدك بأننى لن أزعجك.
أفلتها من قبضته وهو يحك ذقنه بقوة منفعلا يحاور نفسه :
-هذه المجنونة تظن نفسها بأمان تام معى ,هل تظن أننى صنعت من حجر ؟
-انصتى جيدا يا أميرة ,عليكِ بالذهاب قبل أن أقدم على فعل سوف نندم عليه غدا.
-وأنا لن اذهب قبل ان أفهم ما الذى يجعلك ترغب فى اقصائى عنك , ولماذا لا تريدينى أن أبقى معك.
شعرت به يقترب منها محيطا خصرها بيد واحدة فيما يده الأخرى تمتد لتعبث بشعرها مشيعة بنفسها الظمأ للارتواء بما حُرما منه طويلا فأطلق رفيق نفسا عميقا وهو يضمها اليه بشوق بالغ فتحركّت ذراعاها بطريقة لا شعورية لتمسك بكتفيه واعية للمشاعر المتصاعدة بينهما فيما همس لها بصوت متوتر:
-يا ربى ! أنت تدفعيننى نحو الجنون يا ميرا .. لن يكون هناك مجالا للتراجع بعد ذلك , هل أنت متأكدة من رغبتك بالبقاء معى ؟
-الى الأبد.
-وأمك ؟
ابتسمت بخفة لأنه يذكّرها بعمته التى أصبح يناديها بهذه الصفة مؤخرا كلما تكلمّا بشأنها ...
-ما شأنها بنا ؟
-حقا ؟
-أننى زوجتك شرعا , أليس كذلك ؟
تنهّد زافرا وقد فقد آخر قدرة له على السيطرة على نفسه وهو يطبع قبلة حملت كل مشاعره المحبطة على شفتيها اللتين انفرجتا مستقبلتين طعم الشهد بصدر رحب ,فأجابها بتمتمة:
-لقد طال انتظارى لهذه اللحظة وقد ظننت أنك تتعمّدين تعذيبى بتجاهلك لى ,يا لها من أيام!
انتظر قليلا ثم أعاد احتضانها فوبخته متلطفة وهى تربت على كتفه:
-أنا التى تجرعت المرارة يوما بعد يوم وأنت تنفذ رغبات أمى بحذافيرها دون أن تسألنى رأيى.
قال بارتباك:
-أتعنين أنه كان علىّ أن أختطفك دون مراعاة لشعورها ؟
-لم أقل هذا , لقد عنيت ...
أسكت اعتراضها بقبلة أخرى متملكة ,وأكثر عمقا ... شعرت بأن روحها تنسحب منها وانسحقت عظامها تحت ثقل جسده الذى تهاوى وهو يغمغم من بين أنفاسه المتلاحقة:
-حينما أضمك الى صدرى , اشعر كأن روحى قد عادت الى جسدى...
ثم استطرد مردفا بحماس:
-لقد عدت الى حيث تنتمين منذ الأزل.
منذ استعادت ذاكرتها ,وها هى تنهل من نبع حبه الجارف وتشعر أخير بالأمان الذى افتقدته بموت الرجل الذى قام بتربيتها متكفّلا برعايتها هو وزوجته على أكمل وجه لتتبين بعدها أنه أقرب اليها مما تتخيل , خالها ... ذلك الرجل الذى لم يبخل عليها بأى شئ ... حافظ على الأمانة التى تعلّقت بعنقه وردّها سالمة الى أمها ... حتى بعد وفاته ,ظلت تشعر بروحه تحلّق حولها وتمنحها نفس التشجيع كما كانت عادته كلما أقدمت على اختبار جديد ,قالت فى سرها :
-فلترقد بسلام مرتاحا ,لقد أدّيت دورك على أكمل وجه يا والدى الحبيب.
لم ولن تقلها لغيره أبدا ... سيظل هو الأب الوحيد الذى عرفته طوال حياتها بحنانه المعهود.


***************

SHELL 08-11-18 07:30 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثالث والعشرون

قراءة ممتعة



http://files2.fatakat.com/2013/6/13702077711648.gif

SHELL 09-11-18 11:07 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الرابع والعشرون

https://i.gifer.com/VZhs.gif


بعد عناء طويل فى الجدال مع أمها نجحت أميرة أخيرا فى اقناعها بأن تسمح لها بمساحة من الحرية مع زوجها الذى ضاق ذرعا بتدخل عمته فى كافة شؤونهما الخاصة متعللة بحجج واهية فى كل مرة ,الا أن ابنتها لمست منها تصميما واصرارا عجيبين على تحطيم حياتها الزوجية قبل أن تبدأ خاصة بعد أن تكهنت أمها بقضائها الليلة السابقة فى أحضان زوجها حينما استجوبتها بعد عثورها على دليل الادانة من وجهة نظرها بخيانة رفيق لثقتها والأمانة التى حمّلتها له بحفظ ابنتها حتى يٌعقد قرانهما من جديد ,كانت عينا أميرة تلتمعان بصورة غامضة تبوحان بشتى الأسرار التى تشاركتها مع رفيق فى ليلة عشق جامحة انحرما منها منذ سنوات ,وجاءت أمها الآن لتنغص عليهما هذه السعادة المنشودة ,أحست أن رفيق قد أصبح على قيد أنملة من الانفجار غضبا حينما قابلته عمته بوجه جامد وهى ترمقه بنظرات فاضت بكافة المشاعر السلبية وقالت بتلميح تعاتبه:
-صباح الخير يا رفيق ,لماذا لم تمر على غرفتى بالأمس كما طلبت منك؟ أود محادثتك بأمر ضرورى.
-صباح الخير يا عمتى ,أستمحيك عذرا فأنا قد تأخرت على موعد العمل ولدى أشغال كثيرة اليوم.
أجابها بصوت متعب وهو يضع ظهر يده على فمه منعا لاظهار تثاؤبه ,وأميرة تتبادل معه النظرات المليئة بالحب حتى انتبهت على صوت أمها التى لم تتراجع عن استفزازها قائلة:
-عليك أن تنام مبكرا يا عزيزى اذا أردت ألا تتأخر فى الاستيقاظ هكذا ,ولتعلم بأن السهر سوف يؤثر على صحتك سلبيا.
فرك رفيق كفيه ببعضهما دلالة على استيائه الظاهر وهو يقول محاولا أن يبدى ولو قدرا ضئيلا من اللباقة :
-أتعلمين يا عمتى بما هو أسوأ من السهر ؟ الفراغ القاتل الذى يصيب الانسان بشتى أنواع الأمراض ,من راقب الناس مات كمدا ,عليك أن تحاولى ملء وقت فراغك ... لمَ لا تستثمرين وقتك ومجهودك لتجديد الديكور الخاص بجناحنا أنا وأميرتى الحلوة.
نظرت لها فريال ببلاهة وهى لا تصدق ما تسمعه من ابن أخيها فنقلت بصرها الى ابنتها تستنجد بها الا أن أميرة ابتسمت محاولة تصنع المرح وهى تؤكد على حديث زوجها:
-صح يا ماما لماذا لا نأخذ بعين الجد اقتراح رفيق ؟ أريد أن أستغل خبراتك الواسعة فى هذا المجال لتحويل الجناح الى جنة صغيرة تجمعنا أنا وحبيبى.
كادت فريال أن تتميز غيظا فعلى ما يبدو أن هناك اتفاقا خفيا بين هذين الاثنين على اصابتها بجلطة فورية أو على الأقل رفع ضغط دمها الى ما فوق المائتين ... هذا ما كان ينقصها أن تزيّن بيديها له عشه الهادئ حتى ينعم بابنتها كزوجة له ,ولكن ما باليد حيلة فأميرة تقف الى صفه تؤازره ضدها هى أمها التى حرمت منها عمر بأكمله ويأتى هو ليجهز عليها بابعادها عن أحضانها ,ارتسمت ابتسامة صفراء على محياها وهى تقول من بين أسنانها:
-ان شاء الله ,سيكون أمامنا متسع من الوقت لتجديد الديكور وابتياع الأثاث الجديد على ذوق أميرة فما الداعى للعجلة ؟
-لقد طال انتظارنا كثيرا ويكفينا ما ضاع من العمر , أليس كذلك يا حبى ؟
واقترب رفيق من زوجته ليضمها بين ذراعيه مقبّلا مفرق رأسها بعطف بالغ ليؤكد لعمته شكوكها بينما هزّت أميرة رأسها ايجابا متلهية عن رؤية ضيق فريال المتزايد.
-طبعا يا حبيبى.
-حسنا ,والآن أستودعكما الله الى اللقاء.
-لا تنسَ يا ابن أخى بأننا لم ننهِ حديثنا بعد.
ذكّرته فريال بقسوة فقال وهو يبتعد فما استطاعت رؤية تعابير وجهه:
-عندما أعود يا عمتى باذن الله.
-الى اللقاء يا رفيق ,صحبتك السلامة.
كان صوت زوجته الرقيق يرافقه وهو يتأهب لهبوط الدرج فتوقف ليلتف مواجها لها وقام بطلع قبلة على طرف اصبعه وطوح بها فى الهواء مرسلا ايّاها نحو أميرة التى كوّرت أنفها بحركة مداعبة ملوحة بيديها لتوديعه ,فاستدار مرة أخرى معاودا لمسيرته وهو يصفّر بشفتيه لحنا أثار حنق الحماة المتأججة بنيران الغيرة.
سحبتها أمها من ذراعيها وهى تقول بصوت كالفحيح:
-تعالى يا حبيبتى أريد أن أحدثك بشأن خاص.
ودفعتها نحو غرفتها حيث كان فراشها مرتبا دلالة على بقائه خاليا بالأمس.
-أريد أن أعرف ما الذى يدور بينكما بالضبط ؟
تصنّعت أميرة الدهشة وهى ترفع كتفيها استسلاما معلنة حالة من الصمت بينما عينا فريال تتابعان كل حركة وسكنة علها تصل الى الحقيقة فواصلت استجوابها:
-هل قضيت ليلتك بهذه الغرفة ؟
ازدردت أميرة ريقها وقد تصاعد بداخلها غضب وليد تجاه تصرفات أمها المتملكة لم تدرِ أن للأمومة جانبا مظلما أيضا بجانب الحنان والمودة ,بدأت تئن بخفوت معلنة عدم رضاها عن هذا التدخل السافر بشؤون حياتها الخاصة مع زوجها ,وقالت بقهر:
-لا أرى داعيا لكل هذه الاستجوابات يا أمى ,فأنا زوجة لرفيق وبعلم الجميع ,واذا أردت البقاء الى جوار زوجى وقضاء الليل فى أحضانه فلماذا تعتبين علىّ تصرفى هذا ؟
شعرت فريال بأنها قد تمادت فى اظهار عاطفتها المشبوبة نحو ابنتها وهى لا تريد لعلاقتهما المتنامية أن تتعثر بعقبات خارجية ,هذا كل ما فى الأمر وبالنهاية فما يهمها سوى سعادة ابنتها وراحة بالها ,فاقتربت منها لتصالحها وهى تجذبها الى أحضانها وتمسّد على شعرها الحريرى قائلة بنبرة أهدأ:
-أنا لا أعاتبك حبيبتى ,كل ما يعنينى فى هذه الحياة أن تنعمى بحياة سعيدة ,أنت ابنتى الوحيدة ولا أرغب فى أن أراك تتعذبين مثلى.
اعترضت أميرة بضعف:
-ماما ,لكن رفيق ليس مثل أبى ,أقصد أنه يحبنى حقيقة ولا يرغب بايذائى.
انغرست كلماتها كنصل سكين حاد فى صدر فريال وشعرت الأخيرة بأن أنفاسها تتلاحق مختنقة فلم يخطر ببالها أن تكون ابنتها على علم بحقيقة زواجها من ناجى , هل تعرف بأنه كان يستغلها لمصالحه الشخصية ؟ ومن الذى أمدها بهذه المعلومة ؟ أنها حريصة جدا على اخفاء هذه المسألة عنها ,انسابت العبرات من عينيها بألم فشعرت بها أميرة وانتفضت تحاول أن تمسح دموعها التى أغرقت وجنتيها وقالت بنبرة اعتذار تحاول التخفيف عن أمها بعد أن أدركت مدى قسوة هذا الاعتراف الذى أدلت به:
-ماما أنا آسفة لم أتعمّد ازعاجك بحديثى ,وأعرف جيدا أنك تحاولين اخفاء الحقيقة عنى , الحقيقة التى بات يعرفها الجميع ما عداى أنا...
ضحكت بمرارة مستطردة:
-لم يعد هناك سببا واحدا يجعلك تبكين بعد الآن ,أنا بجانبك ولن أبتعد عنك طوال حياتى ,فلا تخشى شيئا ,كما أريد منك أن تتروى فى حكمك على رفيق ,أنه رجل بكل ما فى الكلمة من معانٍ ... لم يتخلّ عنى لحظة واحدة حتى وأنا فاقدة للذاكرة وقد نسيت ذكراه تماما ظل يتبعنى من بعيد لحمايتى ,وأنا واثقة بأن مشاعرنا قوية وعميقة ,بمقدورنا أن نتغلّب على آلام الماضى وجراحه ,فقط أعطه فرصة ليثبت أنه على قدر المسؤولية ,من أجلى يا أمى العزيزة ... ممكن ؟
أومأت لها فريال برأسها وهى تشعر بالامتنان أن تساندها ابنتها فى محنتها الحالية ... لا تشعر بأنها على ما يرام ,فمجدى ومنذ وداعهما الأخير قد نفذ وعده بالخروج من حياتها نهائيا حتى أنه قطع جميع صلاته بأية أعمال تخص العائلة ,ألهذه الدرجة صار يكرهها ويتجنّب رؤيتها ؟ هل يمكن للحب العظيم أن يتبدّل بمثل هذه القسوة الشديدة ؟ ربما تفرغ شحنات غضبها المتنافرة بالكيل لرفيق ,وعليها أن تعيد تفكيرها كما طالبتها أميرة ... فلا تريد أن تحيل حياة ابنتها الى جحيم ,اتخذت قرار حاسم بعدم التدخل فى حياتهما الا فى الاطار المسموح به لها كأم ,ترقب من بعيد كافة الاحداث وتكتفى برسم بسمة على شفتيها ... هل تستطيع الابتسام من جديد ؟


*******************

SHELL 09-11-18 11:08 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
كانت ريم قد وعدت سماح بتقديم المساعدة لها ولسعد حتى يستطيعا الحصول على شقة تصلح للزواج ,ولكنها حين تأخرت فى الرد عليها لم تشأ أن تفاتحها هى فى الموضوع ظنا منها أنها قد نسيت أو انشغلت بشئ أكثر أهمية ,واصلت الفتاة القيام بأعمالها المنزلية العديدة تحاول أن تتلهى عن هذا الشئ الذى يزعجها ,هى تعلم أن هذه المساعدة كانت من باب الشفقة بحالهما وأنه ليس واجبا عليها أن تمد لهما يد العون ,ومع ذلك لا تملك الا أن تشعر بالضيق لانهيار أحلامها فى هوة سحيقة ,فالزمان وحده كفيل بمداواة جراحها ,يا ليت والدها كان حيّا الآن لوقف الى جوارها واستمدت منه الشجاعة والقوة لمواصلة الطريق الطويل.
-بماذا تفكرين يا شقية ؟ ألهذا الحد يشغل بالك حبيب القلب ؟
انتفضت سماح وقد ارتبكت حركتها وهى ترص الأطباق الخزفية الثمينة بالدرج الخاص بها والتفتت نحو مخدومتها التى كانت تفكر بها قبل ثوانٍ قليلة فاتسعت ابتسامتها بارتعاش واضح تحاول أن تخفى ضيقها عنها:
-لا شئ ,أفكر بالحياة ... والظروف.
اقتربت منها ريم وهى تغمزها بمودة وتقول بصوت مرح:
-ما لها الحياة ؟ انها وردية كما تقول سعاد حسنى فى أغنيتها الشهيرة.
وأخذت ترقص بخفة ورشاقة وهى تدور حول سماح مقلدة حركات الفنانة الراحلة فى أغنية الربيع ,ارتفع حاجبا الخادمة بدهشة وهى تتعجب من السبب وراء هذا التفاؤل والاشراق الواضحين على تصرفاتها كما أن وجهها كان ينضح بالسعادة التى تعتمل فى نفسها ,بقيت سماح فى مكانها منتظرة أن تنتهى ريم من وصلتها الغنائية فيما عادت هى لتنتبه الى عملها ,فاجأتها الفتاة أمامها بأن سحبتها من مكانها لتشاركها فى الرقص وقد تناغمت خطواتهما سويا فيما انتقلت عدوى البهجة بسرعة البرق الى سماح فرمت ما يشغلها وراء ظهرها وأخذت ترفع صوتها بالنغم الذى غطى على صوت اغلاق الباب الخلفى للمطبخ معلنا عن وصول القادم الذى أخذ يراقب ما يحدث بصمت مطبق بينما فغر فاه ببلاهة شديدة وأخذ يفرك عينيه بقوة لعله يحلم أم ترى أن ما يراه مجرد هلاوس بصرية ولكنه يسمع صوت غنائهما العالى ,هل تصاحبه هلاوس سمعية أيضا ؟
-سماح.
نجح سعد أخيرا فى أن ينطق باسم حبيبته بصوت خفيض مصدوم وتنحنح بقوة حتى تنتبه ريم الى وجوده ,فتوقفت بغتة وقد شعرت بالخجل يحاصرها فهذه هى المرة الأولى التى تتصرف بطيش وتهور فى مكان غير غرفتها التى تحوّلها الى مكان خاص بها لتظهر مواهبها الدفينة فى الرقص والغناء أمام جهاز التلفاز ,وقالت تحاول جذب انتباهه بعيدا عنها:
-أهلا يا سعد , كنت سأخبر سماح حالا بأن تهاتفك.
-أهلا بك يا آنسة ريم ,خير ان شاء الله.
أجابها الشاب بتهذيب بالغ وهو يطرق برأسه نحو الأرض حياءا وليس انكسارا ,طوال مدة تواجده بالخدمة لم يبدر منه أى تصرف طائش أو حركة غير لائقة.
نقلت سماح نظرها بينهما وهى مشدوهة بما تفوّهت به ريم أحقا أرادت منها أن تحادثه.
-انصتا الىّ أنتما الاثنان ...
وأشارت باصبعها نحوهما بالتتابع واستطردت بجدية:
-ألا تنويان الزواج قريبا ؟
ازدرد سعد ريقه بصعوبة وقد بدأت قطرات العرق تتسلل خفية الى جبينه معبرة عن حالة الارتباك التى سيطرت على أفعاله وأخذ يبحث فى جيبه عن منديل ورقى بلا جدوى ,لم يكن يعرف أن ريم على علم بنية الزواج من سماح ,وتيقن أنها لا بد قد أخبرتها والا فأن أمرهما بات مكشوفا للجميع.
أشاحت سماح برأسها بعيدا وهى تقول بقهر:
-كنا ... ولكن الظروف .. أنت تعرفين يا آنسة ريم ,وقد ... سبق وتحدثتى الى السيد كريم ,لكن ...
توترت الفتاة فلم تستطع انهاء جملتها , فبادرتها ريم وأكملت بحنو:
-أعرف أنه تأخر كثيرا فى الرد علىّ ,ولكننى أحمل لكما خبرا سارا للغاية ,اسمع يا سعد عليك أن تجهّز هذه الأوراق المطلوبة منك على وجه السرعة لتقدّم فى مشروع الاسكان لمحدودى الدخل.
وناولته ورقة صغيرة مطوية مدوّن عليها البيانات المطلوبة بخط يد جاسر ,وكان قد أعطاها لها فى آخر مرة قابلته بها ليؤكد عليها ضرورة اسراعه باحضار الأوراق المطلوبة وهو سيتكفل ببقية الاجراءات.
-لا أصدق نفسى يا أنسة ريم ,ولكن ...
عاد مرة أخرى الى تخاذله فاستطرد مترددا:
-ولكن ... هل سأنجح بالحصول على شقة فعلا فى وقت مناسب ؟ أم أنه علينا أن ننتظر أنا وسماح سنوات طويلة لنستطيع الاستقرار فى بيت صغير يضمنا سويا ؟
-لا تشغل بالك يا سعد ,لدىّ صديق مقرّب على استعداد لمساعدتك فى استكمال بقية الاجراءات لتحصلا على شقة أحلامكما فى وقت قياسى ,كل ما عليك أن تحضر أوراقك بسرعة حتى لا نضيع وقتا أكثر من ذلك.
-سوف تكون هذه الأوراق بحوزتى غدا ان شاء الله.
-حسنا فلتحضرها وسوف أخبر سماح حينما أتفق معه على الموعد لتقابله وتنهى هذه المسألة ,حتى تتفرغا للاعداد لعشكما الجميل.
انهمرت دموع الفرحة غزيرة من عينى سماح وفاضت منهما آيات الشكر والامتنان وقالت تثنى على تصرفها:
-لا نعرف حقا كيف نشكرك أنا وسعد , أنت ملاك حقيقى يا آنسة ريم.
فأسرعت ريم لتضمها بين ذراعيها وهى تربت على ظهرها وتقول:
-أنتما تستحقان كل خير.
-لولاك حقا ما كنا لنحلم بالزواج قبل مرور عدة سنوات.
-لا تقولى هذا ,كلنا مسخّرون لمساعدة بعضنا البعض , كما أننى لم أفعل شيئا يستوجب كل هذا الشكر.
-أنت تهتمين بنا أكثر من الاخوة بذاتهم.
اندفع سعد مؤكدا على كلام سماح ليهتف بحماس:
-ربنا يوفقك لما فيه الخير ويرزقك بأطيب الحلال.
فيما رفعت سماح يديها نحو السماء داعية من قلبها:
-ربنا يرزقك بابن الحلال الذى يقدرك ويسعدك قادر يا كريم , مثلما أدخلت السرور الى نفوسنا.
احمرّ وجه ريم بشدة وقد اندفع تفكيرها ليرسم وجها وسيما لرجل أشقر احتل أحلامها ليصبح الفارس المتوّج على عرش قلبها ... ونبض قلبها بخفقان شديد حينما استكملت الصورة بخيالها وهى ترفل فى ثوب زفاف أبيض فيما يتأبط هو ذراعها بتملك وثقة وعينيه الزرقاوين تقسمان بأروع العهود ... للعشق والسعادة الى الأبد.


*****************

SHELL 09-11-18 11:09 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بدأت العلاقة المتجمدة بينهما فى التغير بصورة وئيدة للأفضل ولو قليلا بعد مصارحتها له بحقيقة الأمر الذى أثار بنفسه الشكوك التى لا ترحم منذ سنوات طويلة ,وعكّر صفو حياتهما بل وامتد ليشمل تدمير حياة ابنهما الوحيد ,عليهما أن يستعيدا التوازن المختلّ فى حياتهما الأسرية قبل فوات الأوان ,ليحاولا معا مد جذور الثقة مجددا ليعيد سيف الى أحضانهما مرة أخرى ,هل سينجحان أم لا ؟ كانت منى أكثر من راغبة باصلاح ذات البين فقد تضررت كثيرا من جراء عنادها ,وعادل ... ماذا عنه ؟ أيعقل أنه كان صادقا معها حينما أخبرها بأنه هو الآخر يتمنى لو تعود المياه الى مجاريها ؟ أما زال يكن لها عاطفة أو حتى بقايا منها بعد كل مت حدث بينهما ؟ لقد أضفت الأحقاد والضغائن جفاءا ظاهرا فى تعاملهما البارد بينما الرماد يشتعل نارا من جديد ... تاقت روحها الى ملامسته ومعانقته كما كانا فى السابق ,هل تجازف بأن تبادر هى بالخطوة الأولى ؟ أخبرت نفسها ولمَ لا ؟ أنها على أتم استعداد لأن تدفع ما تبقى من عمرها حتى تنال نظرة واحدة من عينيه العاشقتين لها بجنون ,لو فقط لم يتدخل حماها بطريقة متلاعبة ليدفعها نحو الخطأ ... لما آلت حياتها الى هنا ,منبوذة من زوجها ومرفوضة من ابنها.
ابنها سيف الذى تغيّر كليا فى هذه الفترة القصيرة ,لم يعد نفس الشخص الذى تعرفه كظهر يديها ... تبدّلت أحواله الى النقيض تماما ,أصبح يهوى الخروج كثيرا ,ويمكث بالخارج ساعات طويلة لا تدرى أين يقضيها فهو كان معتادا على مرافقة أبناء عمومته أينما ذهبوا ,والحق يقال ... لم يكن سيف وحده الذى ذاق من هذه الكأس , أن أحوال الجميع انقلبت رأسا على عقب ... رفيق صار متباعدا بأميرته التى لم يعد خافيا على أحد أنهما صارا يتشاركان ذات الغرفة على الرغم من الاعتراض الواهن الذى أطلقته فريال بحجة انتظار العقد الجديد ,فقد أقنعها ابن أخيها بأن ابنتها زوجته شرعا ولا يجوز لها أن تفرقهما عن بعضهما ,أخيرا استسلمت لارادتهما ... أنها تراها طوال الوقت تجلس شاردة وحيدة حتى وهى وسط الآخرين ,نظراتها زائغة كمن تبحث عن شئ ما أو شخص ما ,وكريم ... هو الآخر زاد تغيبه عن المنزل بصورة مكثفة حتى أمه هناء صارت تتحضر بين الحين والآخر لقضاء الوقت بعيدا عن المنزل دون أن تهتم باعلام أيا منهم عن وجهتها ,وريم ... الفتاة المتعقلة المتزنة التى لم تكن تغادر المنزل الا لماماً ,كانت تأمل بأن تتزوج واحدا من اثنين سيف أو كريم ولكن يبدو عليها أن لها خططا خاصة بمستقبلها فقد أعلنت فجأة أنها تبحث عن فرصة عمل وقد بررت بهذا خروجها المستمر يوما بعد يوم ,فبعد خلافها الحاد مع رفيق بخصوص مسألة العمل بشركة العائلة أغلقت هذا الموضوع نهائيا ولم تعد تلمح له ولو من بعيد ,وحماتها السيدة شريفة .. لجأت الى مخدعها تجلس طوال النهار تائهة بعالم آخر ,ربما تستعيد ذكريات شبابها الهاربة ... وربما بدأت تستشعر أنه لا أهمية لوجودها بحياة أبنائها وأحفادها , فكل مشغول بحاله الخاص .
ترى ما الذى يدور فى حياتهم ؟ وكيف وصلوا لهذا الحال المرير ؟
لا تنكر أنها كانت تتسلّى بمناوشاتها مع هناء التى كانت تنتهى دوما بانتصارها عليها بعد أن تصل الى استفزازها بصورة مقيتة ,أصحيح أنها تفتقدها الى هذه الدرجة ؟ وتذكرت القول المأثور ( أن القط يحب خنّاقه ),هل تبادلها هناء هذا الشعور أم أنها تكن لها العداء والكراهية ؟ لا تملك أن تلومها اذا فعلت ,فهى كانت أبشع مثال للقسوة والأنانية المجردة من أية رحمة حينما اعترفت لحماها بزواج ابنته السرى دون علمه ,لم تدرِ أنها بهذا التصرف تؤذيها بدلا من أن تنقذها من براثن هذا الوحش الناعم الذى تسلل خفية ليلتف حولها مدمرا حياتها ,هى أدرى واحدة بأن فريال كانت واقعة تحت تأثير مخدر للمشاعر ,لم تقوَ على مقاومته وربما هى من سعت بقدميها نحو حتفها , كالهاربة من نار تلاحقها ألقت بنفسها فى الجحيم المستعر ,فى البداية تسترت على علاقتها بابن عمها ناجى كانت هى موضع سرها وائتمانها , وحينما فاجأتها بأنها قد تزوجت منه ولن تعود مجددا الى منزل العائلة أقسمت لها بالكتمان ,وعبثا حاولت أن تجادلها بشأن استقرارها فى منزل زوجها بعيدا عن العائلة فقد طالبتها مرارا أن تعود وتحاول اقناع والدها حتى لا يغضب عليها ,بيد أنها كانت متشددة فى انفعالها وأخبرتها حاقدة ( أنه لن يتزحزح قيد أنملة عن موقفه الرافض من اقترانها بناجى ) ,فاستسلمت منى وقد يئست من اقتناعها بالمنطق السليم فى هذا الوقت ,لقد غلبتها فورة الحب الذى أغرقها به ناجى بحديثه المعسول ومحاولاته للتصرف كرجل مهذب ابهر الشابة الصغيرة فى مقتبل عمرها والتى كانت تفتقر الى الخبرة الكافية لتفرّق بين الذهب النفيس والمعدن الرخيص ,هل كانت منى الوحيدة التى لاحظت اهتمام مجدى الواضح بفريال فى ذلك الحين كانت نظراته تلاحقها أينما ذهبت ,تراه يتلعثم فقط فى حوراه معها ,لماذا يا فريال تخليت عن هذا الحب الصادق البرئ ؟ لترمى بنفسك فى أتون الكذب والخداع ؟
لن تغفر لها فريال هذه الوشاية التى كانت بقصد الخير ,الجميع بمن فيهم عادل زوجها يعتقد أنها تحب اثارة الفتن والوقيعة بين أفراد العائلة الواحدة ,لا يعلم أنها تقدّر الجو الأسرى وتقدّس صلة الرحم ,هل يتذكر كيف كان مقدار سعادتها حينما أعلمها بعد شهور قليلة من زواجهما أنهما بصدد الانتقال الى فيلا العائلة ,انشرح صدرها أول ما وقع نظرها على حماتها .. تلك السيدة الفاتنة الأنيقة التى استقبلتها بترحاب بالغ وكأنها ابنة غائبة ,وقبّلتها هناء بحرارة وهى تحتضنها بقوة مؤكدة على قوة الصلة التى سوف تجمعهما مع الأيام ,ناهيك عن مؤازرة فريال لهما ومساندتها لاعلان هذا الزواج ,باختصار ضمتها نساء العائلة الى كنف الأسرة ولم يقض مضجعها وينقص من راحة بالها الا نظرات حماها الباردة تجاهها ,ببساطة تعمّد أن يقلل من شأنها بألا يوجه لها أى كلمة ,وظل على هذا الحال حتى أنجبت صبيا جميلا اعتقدت معه أن قلبه سيرق لها بعد أن أمّنت لعادل وريثا ,ولكن هيهات أن ينخ الجبل ... لم يسامحها طيلة عمره على خطيئتها من وجهة نظره ... استولت على لب ابنه الأصغر ... المدلل ... وكانت تمثّل له أسوأ ما يمكن أن يتجسّد بامرأة ... لأنها كانت تعمل لديهم كسكرتيرة ... تلك الفئة التى يحتقرها الى النخاع ... ولم تعرف حتى مماته ما السر وراء هذه الكراهية العمياء لها ؟
فجأة رفعت رأسها عاليا وقالت بصوت متقطع من البكاء:
-سامحك الله يا حماى ,وغفر لك ,لقد دمرتنى وحطّمت حياتى وزرعت بذور الشك بينى وبين زوجى بدون ذنب حقيقى جنيته سوى أننى وقعت فى حب ابنك وأردت أن أكون زوجة له وأما لأبنائه ,كنت أناشد أن نحيا جميعا سعداء بسلام.
تناهى الى مسامع زوجها نشيج بكائها المتزايد وسط ابتهالاتها الى الله ,كانت فى حالة صدق تام فهى وحيدة تناجى ربها ,أكان ظلمه لها بهذه القسوة محض صدفة أم هو مخطط مسبق من والده حتى يباعد بينهما لينتقم منها , وليته ما فعل هذا فانتقامه طاله هو شخصيا ومسّ سيف أيضاً.
تحركت رغبته ليخفف عنها بعضا من حزنها المتنامى ,فقد كان صوت نهنهاتها يقطع نياط قلبه يحرقه بسياط من لهيب ,أيمكن لهما أن يبدآ من جديد ؟
كانت منى جاثية على ركبتيها على الأرض تستند بمرفقيها على المقعد المخملى الوثير فيما تدفن رأسها بينهما ,اقتربت خطوات عادل منها دون أن تشعر به فصوت حذائه امتصه البساط السميك الذى يحتل الغرفة بأكملها ,وجدت من يفترش الأرض الى جوارها يحتضنها من الخلف وهو يربت على شعرها بحنان بالغ ,ارتعش جسدها بانتفاضة فقد أيقظها هذا الشعور الذى ظنت أنه قد ولّى الى الأبد ,هناك من يساندها ويقف بجانبها فى وقت محنتها ,ومن غيره ؟ أيمكن لها أن تنسَ دفء أحضانه ؟ أيمكن لها أن تتوه عن لمساته المميزة ؟ أيمكن لها أن تغفل رائحة أنفاسه العطرة ؟
-عادل ... أنت هنا.
شدد من ضمه لجسدها الهش بين ذراعيه القويتين لتستكين الى جوار نبضات قلبه الصارخة بعشق لا يمكن أن يموت ,وهو يهمس لها مؤكدا:
-ومن غيرى ؟ أنا هنا الى جانبك ,ولن أتخلّى عنك مرة أخرى.
شهقت بخوف وقالت:
-أتعدنى ؟
مسحت راحته على وجنتها برفق وهو يرسم ملامحها المحببة الى نفسه بطرف أنامله ليحدد كل معلم انحفر بذاكرته منذ لقائهما الأول وأخذ يقبّل يدها قبلات خفيفة متتالية :
-هذا قسم ,لن أعيد تكرار خطأى بحقك , كان علىّ أن أثق بك أكثر.
عانقت ذراعاها مؤخرة عنقه وهى تقول بوعد:
-وأنا لن أخفى عنك أى شئ مرة أخرى مهما كان ,لقد أخطأ كلانا.
وهكذا كان اعترافهما بالخطأ المشترك بداية جديدة لعلاقة كاد أن يجعلها الشك والحقد تذبل نهائيا ... وبقى فقط أمر اقناع سيف ابنهما بتجديد ثقته بهما وأنهما جديران بفرصة أخيرة لوصل حبل الوداد المقطوع.



*****************

SHELL 09-11-18 11:11 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
حينما تتلاقى الأرواح لتحلّق فى سماء الحب لا يعود هناك معنى لقيود الجسد ,هذا ما أدركته أميرة أخيرا بعد أن تكلّل حبها العميق الأبدى لرفيق بالتنفيذ الفعلىّ ,ولأول مرة تستشعر حلاوة الاحساس بالأمان والألفة التى عادت تتغلل فى نفسها بعد أن استعادت كل الأجزاء المفقودة من ذاكرتها ,أجلى ذهنها بوضوح أحداث الماضى البعيد منذ شعرت بمرارة اليتم بعد أن فقدت أبويها فى حادث أليم ,واتسع الشرخ فى جدار حياتها بانتقالها الى منزل خالتها فهى لم تكن تعلم وقتها بأن السيدة مديحة لا تمت لها بصلة قربى حقيقية وان لم تشعرها ولا أحد من أفراد أسرتها بأنها دخيلة على حياتهم ,صارت الأمور على خير ما يرام ... حتى توفى زوج خالتها ذلك الرجل الوقور المحترم الذى عاملها كابنة غالية ولم يفرّق فى معاملته بينها وبين ابنه من صلبه ... حسام ذلك الشاب المغرور الذى احال أيامها الى جحيم فيما بعد ,حيث أحس بأنه قد صارت له السلطة المطلقة لتقرير مصيرها كيفما يشاء ,كان تودده اليها باصرار يثير اشمئزاز فى نفسها ,لم تملك أن تحبه ولا أن تشعر نحوه بأية عاطفة حتى الأخوة كانت مفقودة بينهما ,لم يرحم ضعفها وقلة حيلتها واستغل بدناءة حاجتها الى البقاء فى منزله حيث لا أهل لها سواهم ,حاولت التملّص من محاولاته المستميتة ليلين قلبها نحوه ,لم تدرِ لمَ كلما حاول التقرّب منها ازداد نفورها منه بشكل عجيب ,وكانت الطامة الكبرى يوم أعلن رغبته الصريحة فى الزواج منها ,لم تملك الا أن تسرح بخيالها تفكر فيمن أسر قلبها دونما استئذان ... رفيق ... كانت تعرف بأنه ابن عمها الذى يودها ويصل رحمها ,لكن مشاعرها الهادئة ثارت لتتحول الى حب نارىّ ,احتل كيانها بسرعة خيالية , أصبحت تقارن بينه وبين أى شاب تلقاه ,ولم تكن بحاجة الى مساعدة لتعرف بأن الغلبة كانت من نصيبه دوما ,تربّع على عرش قلبها البرئ الذى صار يخفق بقوة كلما مرّ طيفه بخيالها ,لم تكن متأكدة من استجابته لمشاعرها اذا ما أظهرت شيئا لتلمح له بعاطفتها الوليدة التى طغت على أى مشاعر أخرى تكنّها له ,بيد أنها حينما أعلمته بالورطة التى وقعت فيها برغبة حسام فى الاقتران بها ومطاردته المستمرة لها حتى ضاقت بها أرجاء المنزل ,كانت مجرد فضفضة لشخص ترتاح اليه وتثق به ثقة عمياء .. أرادت أن تزيح عن كاهلها هذا الجبل من الأعباء ... ففاجأها بعرض الزواج فقط بغرض انقاذها من هذا السمج الذى يلتصق بظلها أينما توجهت ,اعتبرت تصرفه هذا منبعه الشهامة والرجولة الطاغية التى يتمتع بها فكرامته أبت عليه أن يتخلّى عن قريبته اليتيمة ,حمل مسؤوليتها على عاتقه مؤكدا على اهتمامه الشديد بها فأملت أن يكون هذا دليلا على مشاعر من نوع آخر وربما تعمّقت نحوها أحاسيسه مع مرور الوقت ,ولكن القدر لم يمهلهما هذه الفرصة الذهبية فقد تعرّضا لحادث اصطدام وهما معا فقدت على اثره ذاكرتها القريبة وتلاشى كل أثر لوجوده بحياتها ... استعادت قدرتها على المواصلة واقترن حسام بأخرى أما هى فالتحقت بالعمل فى مكتب السيد فهمى للتسويق الـعـقارى ,وتذكرت كيف تعرفت على زميل العمل ... جاسر ... لا تذكر جيدا من الذى بدأ بالخطوة الأولى فى هذه العلاقة الغريبة ... ربما كان هو من سعى فعليا الى التقرب منها حتى احتل جزءا كبيرا فى حياتها , أما هى فقد استسلمت مشاعرها لم تعد تقاوم رغبتها بالهروب منه كما كانت فى بداية الأمر ,ربما كان عقلها الباطن يحذرها من مغبة توطيد علاقتها بهذا الرجل ,وتلاشت هذه النبضات التحذيرية مع لطفه ورقته فى معاملتها وكأنها أميرة مدللة ,حتى كان يوم صارحها برغبته فى الزواج منها ... وقتها لم تطر فرحا كما اعتقدت بل تقبّلت طلبه بعقلانية وأخذت تدرس هذا القرار عدة أيام فهى طالبته بمهلة للتفكير ,بعد ذلك ... تباعد عنها جاسر بصورة مفاجئة أثارت شكوكها وبدأ يعاملها بجفاء واستعلاء ,تأوّه كبرياؤها مطالبا بألا تعيره انتباها ... غريب كيف تقبّلت ابتعاده الغير مبرر وعدائيته الغير معلنة ,فقط مجرد نبضات ضئيلة من الشعور بجرح فى كرامتها والخزى ... نعم الخزى ممَ ؟ لم تعرف حينها لمَ هاجمها هذا الشعور الغريب ,باتت تعرف الآن ,,, فهى امرأة متزوجة ولكن بلا زوج الى جوارها ,قام عقلها بمحوه كليا من ذكرياته ,, رفيق كان مجرد سراب يتردد عليها بين الحين والآخر ساورتها الظنون به وأخيرا ارتاحت لتفسير .. أنه كان يتلاعب بعواطفها متعمدا ,ربما كان شخصا مستهترا سيئا ,ولكن جاسر كان مثال للأخلاق الطيبة والجميع يشهد له بحسن السلوك ,تألمت بعض الوقت ثم اعتادت على رؤيته يوميا دون أن يطرف لها جفن وان شعرت بأنها مدينة له .. ترى هل من الممكن أن تحاول مقابلته الآن لتفهم سر فتور مشاعره نحوها بذلك الوقت ؟ يكاد الفضول يقتلها لتفهم سر هذا التحوّل بين ليلة وضحاها ,طاف اسم ليلى برأسها متجليا ... هى همزة الوصل بينهما ... اتخذت قرارا متسرعا بمهاتفة صديقتها لتستشيرها فى نيتها باللقاء.
-آلو ليلى ,كيف حالك ؟
-بخير ,وأنت ؟
-فى أفضل حال ,الحمد لله.
-ما كل هذه الغيبة ؟ ألم تفتقديننى ؟
-طبعا يا ليلى , اسمعى أريد مقابلتك لأمر ضرورى ,هل أنت مشغولة ؟
-كلا يا عزيزتى وهل أستطيع الانشغال عنك !
-حسنا ,هل يمكننا أن نتلاقى بالكافيتيريا القريبة من المكتب , هل تذكرينها ؟
-بالتأكيد ,المهم أننى سعيدة للغاية باتصالك هذا فقد أثبتى أنك لم تنسى أصدقاء الماضى ,كما أننى أرغب باعلامك بأمر ما ...
وشعرت بارتباك ليلى الغير معتاد منها فهى منطلقة منفتحة على الدوام تتعامل بجرأة قد تصل أحيانا الى حد اعتبارها وقاحة فأجابتها بصوت ينم عن عاطفة حقيقية:
-وهل أجرؤ على النسيان مرة أخرى ! أراك بعد نصف ساعة.
-الى اللقاء يا أميرة.
وأنهت المكالمة , يا له من هم ثقيل انزاح عنها ,كانت تشعر بالتوتر الشديد وهى تحادث ليلى فهى مقبلة على خطوة لا تعرف مدى صحتها ,هل كانت حكيمة لاتخاذ مثل هذا القرار المتهوّر ؟ ستثبت لها الأيام ... صواب ما فعلته أو خطئه.


****************

SHELL 09-11-18 12:01 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
أخيرا اجتمعوا معا مرة أخرى بعد طول غياب ,لم تكن صلة القربى وحدها من تجمع سيف وكريم برفيق بل رابطة صداقة متينة وحب أخوىّ صافى ,دعاهما رفيق الى الخروج سويا كما اعتادوا فى الأيام الخوالى ,لم يتردد أيا منهما ولو لثانية واحدة فكأنما طال انتظارهما لمثل هذه الدعوة منه ,كان يبدو متباعدا فى الفترة الأخيرة بعد أن استقر مع أميرته الغائبة التى عادت من جديد لتحتل كيانه فسلبته من رفيقي صباه اللذين احتارا ماذا يفعلان وكلا منهما هو الآخر كان لديه ما يشغله فى هذا الوقت ,تاقت أنفسهم للحظة صفاء بعيدا عن الفوضى التى قلبت حياتهم رأسا على عقب.
ما أن استقر الثلاثة على الطاولة التى سبق وقام رفيق بحجزها بعيدا عن الأعين الفضولية بركن جانبى تتيح لهم حرية الحديث بدون أن يزعجهم أحد ,حتى قام رفيق بسؤالهما فى شبه استجواب:
-هيا أخبرانى بما صار معكما فى الفترة الماضية ,أشعر بأن كلا منكما يخفى سرا عظيما.
تبادل سيف وكريم النظرات المعبرة فيما ابتسم رفيق بخبث وهو يلوّح بسبابته أمام وجهيهما محذرا:
-واياكما والكذب أو محاولة الانكار فأعينكما تفضحان السر.
قهقه كريم ضاحكا من أسلوب ابن عمه وقد راقه أنه سيعرف أخيرا بما يدور مع سيف بخصوص علاقته بمها وقال مشيرا نحوه بلهجة هازئة:
-ليبدأ الأصغر سنا ,هيا يا سيف اعترف ولا تخفِ عنا شيئا.
رفع سيف كفيه معلنا عن استسلامه وهو يقول بهدوء أغاظ كريم:
-حسنا سأبدأ أنا ,ولكن أحذركما من أننى لن أتنازل عن اعترافاتكما أنتما الاثنان .... اتفقنا ؟
أومأ كلاهما برأسه موافقا ,ثم سأله رفيق مستفسرا باهتمام بالغ:
-أين اصبحت تختفى هذه الايام ,فلم نعد نراك فى البيت كما كنت فى السابق.
قبل أن يهم سيف بالرد قاطعه كريم مستفزا:
-أنه مشغول البال هذه الايام ... فتاة جديدة.
وغمز بعينيه بوقاحة فاحتقن وجه سيف احمرارا فيما تعالت ضحكات رفيق ابتهاجا وهو يقول منتشيا:
-حقا ؟ ومن هى سعيدة الحظ هذه المرة ؟ أرجو ألا تكون كحبيبتك الأولى ... ماذا كان اسمها ؟
ثم أخذ يحك جبهته مفكرا بعمق وقال بعد برهة:
-آه ... تذكرت ليلى , أليس كذلك ؟
زفر سيف ضيقا وقد أصبح مثارا لسخرية كريم ورفيق ,فأخذ نفسا عميقا قبل أن يغمغم :
-والآن هل اكتفيتما ؟ أغلقا أفواهكما قليلا ريثما أنتهى من حديثى.
أشار رفيق بالصمت لكريم فقام هذا بغلق فمه ووضع يده فوقه دلالة على السكوت وقد أعاراه كامل انتباههما ,فابتلع ريقه بصوت مسموع قبل أن يبدأ فى الكلام:
- أولا الموضوع ليس كما يصوره كريم فأنا لم أسعى خلفها ,أنها ... حسنا , لا أنكر أنها فائقة الجمال وتؤثر بى أحيانا ولكنها ليست حبيبتى كما تتصوران ,لا أعرف بالضبط كيف أصف لكما طبيعة علاقتى بها ...
رفع كريم حاجبيه تعجبا وهو يحدجه بنظرات مقيمة وما لبث أن قال باتهام:
-وماذا تسمى علاقتك بمها اذن ؟
هنا ارتفع صفير خافت من بين شفتى رفيق الذى صاح بذهول:
-اسمها مها ... يا له من اسم رقيق ,لا بد وأن صاحبته حقا بروعة جمال اسمها ,ولكن انتظر يا كريم أنت تعرفها ؟
اندفع كريم قائلا قبل أن يفهم اشارة سيف له بأن يتروى فى حديثه:
-وأنت أيضا تعرفها جيدا يا رفيق , كلنا يعرفها.
-من هى تلك التى نعرفها كلنا ؟
-سكرتيرتك الخاصة.
-سكرتيرتى !! أنت تقصد مها التى ...لا أصدق.
قام سيف بتأنيب كريم بحدة هاتفا بحنق:
-أنت لا تحتمل حقا يا كريم ,ألم يكن يجدر بك الانتظار قليلا قبل أن ينفلت لسانك بالكلام ..اسمعنى يا رفيق ليس الأمر كما يبدو.
انتفض رفيق غاضبا وهو يلعن:
-لا يمكنك أن تفعل هذا يا سيف ,فالفتاة ليست من هذا النوع الذى تتسلى معه ... كما أنه لا يصح أن تخلط العمل باللهو.
-تمهّل يا ابن عمى فى حكمك علىّ ,ثم أن هذا الذى يتظاهر بالبراءة هو الآخر على علاقة وطيدة بسكرتيرته الآنسة البريئة جدا ... هديل.
هوى اعترافه على رأس رفيق كالمطرقة ,فأصبح محتارا ينقل بصره فيما بينهما وهو يهز رأسه بعدم تصديق ,وقال موجها حديثه الى كريم:
-أهذا صحيح ؟ أنت على علاقة بهديل ؟
ثار كريم فى وجه سيف وهو يكيل له الاتهام:
-ايّاك وأن تمس سمعتها بكلمة ,أنها انسانة محترمة وشريفة ,, وليست كمها خاصتك.
-اخرس ,لا تصنع من نفسك قاضيا على الناس وتصرفاتهم ,قبل أن تحاسب نفسك أنت وحبيبة القلب.
-كفا عن الصياح وتبادل الاتهامات هكذا, اسكتا أنتما الاثنان , لا أريد أن ينطق ايا منكما بحرف واحد قبل أن تسمعا ما أريد قوله.
انصاعا لأمره وان أخذا ينظران الى بعضهما والشرر يتطاير من أعينهما.
شبك رفيق يديه ببعضهما فوق الطاولة ومال الى الأمام قليلا ليقترب بوجهه منهما وهو يقول بصرامة:
-بداية أود أن أعرف كافة المعلومات عن هذه العلاقات ... المحترمة بالسكرتيرات اللاتى تعملن لدينا ,ولا تغفلا عن ذكر أدق التفاصيل حتى ولو بدت صغيرة أو تافهة ,ولتبدأ سيادتك أولا يا سيد كريم ... يا مدير الشئون القانونية ... بشركتنا ... كيف بدأت علاقتك بالآنسة هديل ؟
تلاعب كريم بخصلات شعره القصيرة مبعثرا اياها بفوضوية دلالة على توتر أعصابه فقد انقلب السحر عليه وصار هو موضع الاستجواب ,فلم يجد بدا من الاعتراف بالحقيقة كاملة:
-الى وقت قريب لم أكن أنظر الى هديل بشكل مختلف عن السابق ,فقط مجرد سكرتيرة مجتهدة نشيطة تعمل لدىّ ,وأراها يوميا دون أن ألتفت اليها ,اعتدت على تواجدها مثل أى شئ يتواجد بمكتبى ,حتى كان اليوم الذى صارت فيه الحادثة لأمى ,أنتما طبعا تذكران هذا اليوم جيدا حينما ذهبت لأصطحب أمى من منزل الرجل الذى استضافها بعد الحادث حتى يطمئن على سلامتها ,فوجئت بأنه والد هديل ... سكرتيرتى الهادئة الوقور فاسقط فى يدى , ظننت حينها أنه ملعوبا مدبرا منها بالرغم من أنها تظاهرت بالاندهاش لرؤيتى ,ولكن الأدهى أننى اكتشفت أن والدتى ... تعرف هذا الرجل.
قطع حديثه بغتة فلم يجرؤ على اكمال عبارته ,الا أن رفيق استحثه بفروغ صبر:
-وكيف تعرف تنت هناء هذا الرجل ؟ ومن هو ؟
-هذا هو بيت القصيد ,قررت أن أعرف بنفسى من هو هذا الرجل ... ومن هى ابنته ,أردت اكتشاف الحقيقة ... فبدأت أدعوها الى الخروج بعد سهرتنا أنا وأنت يا سيف معها هى وصديقتها مها ,أتذكرها ؟
ألقى الكرة فى ملعب صديقه الذى تأفف متذمرا وهو يشيح بوجهه بعيدا ,فقام رفيق بسؤاله:
-عن أية سهرة يتحدث ؟
أدار سيف رأسه ليواجه فضول رفيق المتزايد بعد أن قرر مشاركتهما بسره عله يجد المساندة التى يبحث عنها فقد ضاق به الحال وحيدا وهو الذى قاطع والديه فلم يعد أمامه سوى هذين الصديقين ليبوح لهما بما يعتمل فى نفسه ,السر الذى أبقاه سنوات طى الكتمان ,فقال موضحا:
-قبل أن أعترف لكما ,أريدكما أن تقسما على أن ما سيقال فى هذه الجلسة لن يعرفه أحد حتى ولو كان أقرب الناس اليكما ,,, ولا حتى زوجتك يا رفيق.
-لك هذا ,نقسم على ابقاء هذا الحديث سرا.
قالها كريم بثقة ,وأعادها رفيق مجددا باصرار.
اعتدل سيف فى مقعده وقد اتخذت هيئته الجادة موضعها قبل أن يبدأ حديثه بصوت خفيض:
-بدأ الأمر منذ أن التحقت مها بالعمل فى شركتنا, أنتما تعرفان أنه بحكم منصبى فى ادارة شئون العاملين فلا بد لأى متقدم لوظيفة عندنا أن يمر بمقابلتى أولا ,وكانت مها قد سعت لنيل وظيفة سكرتيرة لمكتب رفيق ,وقمت أنا باجراء المقابلة الشخصية لها بنفسى حتى أتأكد من كفاءتها وجدارتها بهذه الوظيفة ,فى البداية لم التفت الى اسمها كاملا .. وبالفعل نجحت فى الاختبار بامتياز وهكذا نالت المنصب ,وفيما بعد حينما قمت بتوقيع الأوراق الخاصة بتعيينها قرأت الاسم الثلاثى جيدا ... مها كمال الراوى ...
صمت قليلا ليرى تأثير ذكر هذا الاسم عليهما ,فلما وجد انطباعهما محايدا بدون انفعال تأكد من جهلهما التام بالموضوع ,فاستطرد موضحا:
-ألا تعرفان من هو كمال الراوى ؟
أشار كلاهما بالنفى فأكمل حديثه وقد شعر بأهمية ما يعرفه فقال بلهجة الخبير ببواطن الأمور:
-كمال الراوى ... كان شريكا لجدنا -رحمه الله- فى بعض الأعمال ,ولكن على ما يبدو أن الطمع قد استبد به فحاول التلاعب بقذارة وكان أن كشفه جدنا فقام بمعاقبته وانسحب من صفقة مشتركة بينهما مما أدى الى خسارته كافة ممتلكاته واضطر هو فيما بعد الى اعلان افلاسه ,ومها هذه هى ابنته الوحيدة ... وقد جاءت بعد كل هذه السنوات لتعمل بشركتنا ,فثارت شكوكى فيها ,وقررت مراقبتها عن بعد حتى أعرف اذا ما كانت تسعى لتخريب عملنا أم أنها مجرد مصادفة .
-ولماذا انتظرت كل هذه المدة قبل أن تخبرنا بأمر هام كهذا ؟
عاتبه رفيق بحدة وقد استشعر بالقلق يتملكه لفكرة أنها كانت أقرب واحدة له بالعمل ,سكرتيرته الخاصة وهو المدير التنفيذى بالشركة , أى أن كل الأوراق الهامة تقع بين يديها ... وتعالى صوته وهو يستطرد:
-لا يمكنك أن تخفى شيئا بهذه الخطورة عنّا , أنت شخص أرعن.
تحمّل سيف اللوم بصبر وجلد وكل ما يهمه ألا ينكشف الجزء الأكثر دقة من السر والذى أخفاه عنهما ببراعة ,فكيف يصارحهما بأن والد هذه الفتاة هو السبب وراء الجفاء الواضح فى علاقة أبيه بأمه ,هو الشخص المسؤول عن هدم الاستقرار المفقود فى علاقتهم الأسرية الخاصة , أنه على أتم استعداد لأن يدفع نصف عمره مقابل ألا يعرف اى أحد بهذا الأمر حتى ولو كان أقرب الناس اليه, فوالدة رفيق التى ترقى لمستوى فوق أى شبهات يكن لها كل احترام وتحيا مع عمه وفق نظام أسرى مترابط وليس كحال والده ,ووالدة كريم سيدة عظيمة قامت بتقديم أروع الأمثلة على التضحية بالذات والتفانى من أجل تربية ابنها وحيدة حتى بعد تخلّى زوجها عنها فكيف به أن يكشف ستر هذه الفضيحة التى تمس شرف أمه وأنّى له أن يرفع عينيه فى وجهى صديقيه اذا ما توصلا الى معرفة الحقيقة المرّة فاعترف بذنبه صاغرا:
-أنا أستحق التأنيب فعلا.
كان اعترافا متخاذلا وقد شعر بنظرات كريم المتعاطفة معه بعد أن كان متحاملا عليه لكشفه عن أمر مقابلاته مع هديل ,فضرب رفيق كفا بكف وهو يصيح متعجبا:
-لا أدرى ما الذى أصابكما ؟ أحفاد الشرقاوى يتصرفون بطيش وتهور !
نظر له سيف بقسوة وقال باندفاع غير محسوب:
-أنت أيضا يا رفيق ,وباعتبارك الحفيد الأكبر سنا والأرفع شأنا قمت بتصرفات متهورة وبدون علم أحد من العائلة ,,, مثل زواجك السرىّ من أميرة أو كما كان اسمها لبنى ,ما الفارق بينها وبين مها أو هديل ؟
هب رفيق قائما وقد أمسك بتلابيب سيف ليجذبه بقوة وهو يهتف بحزم:
-ايّاك وأن تشبّه زوجتى بأيا منهما ,كما أننى لا اسمح لك بأن تقول عن زواجى منها أنه كان سريّا .
أسرع كريم بالحيلولة بينهما محاولا تهدئة رفيق الذى ثارت أعصابه بشدة وقام بجذب سيف بعيدا عن قبضته وهو يقول معنفا:
-اهدآ , لا يصح أن تنفعلا هكذا فلا تنسيا أننا بمكان عام.
وقام سيف بتعديل هندامه وقد شعر بالاهانة من تصرف رفيق الذى ابتعد وهو متسارع الأنفاس من شدة انفعاله ,ثم أقنعهما كريم بالجلوس مرة ثانية .
استعاد رفيق سيطرته على أعصابه التى انفلتت سريعا وقال مكملا حديثه السابق:
- لعلمكما لقد كان زواجنا شرعيا معلنا لدى مأذون موثق وقد كان والدى عالما بالأمر بل وكان وليّها أيضا ,كما أنه قد تم لأسباب .. ولو أنها لا تخصكما الا أننى سأخبركما بها ,فقد كانت أميرة وقتها واقعة فى مشكلة عويصة ...
وقصّ عليهما ما كان من مضايقات حسام المستمرة لها ,وكيف أنه كان ينوى أن يطلب منها الزواج حتى ولو لم تكن بورطة الا أنه كان يتحين الوقت المناسب لاعلان حبه لها بيد أن الفرصة لم تسنح له ,وكانت الظروف جميعها تقف ضده معاكسة لرغباته.
-أنا أعتذر عما قلته لك ,فأنا لم أكن أعنى سوءا.
تمتم سيف معتذرا لرفيق الذى تقبّل موقفه وقام بالاعتذار بدوره بهدوء:
-أنا أيضا آسف لأننى انفعلت عليك ,ولكنك تعرف أننى أعتبر كل ما يمس أميرة خطا أحمر لا يمكن تجاوزه ,ولا تنسَ أنه مهما كان فهى ابنة عمتنا.
-نعم ,ويا له من خبر وقع علينا كالصدمة القاتلة ,أن نعرف أنها قريبة لنا ,وزوجتك بنفس الوقت ,لقد آثرت ان تخفى عنّا الأمر بالرغم من صداقتنا القوية ...
كان هذا شبه لوم موّجه بعناية الى رفيق الذى تفهّم الموقف جيدا فهز رأسه موافقا وقد قال بهمهمة غامضة:
-امممم ... لديك حق ,, ولكن لم يكن بيدى حيلة ,كان يتعيّن علىّ بوقتها اخفاء الأمر حتى لا يتسرب الى جدى ,كنت أخشى من فورة غضبه أن يؤذيها لو عرف بأمرى معها... يا لها من أيام ّ!
-حسنا والآن قد عرف كل منّا بسر الآخرين ,ماذا سنفعل ؟
ألقى كريم بتساؤله وهو يحاول أن يستنبط ردة الفعل لدى سيف ورفيق ,بقى الأول صامتا فيما وشت ملامحه بالحيرة أما الثانى فظلت تعابير وجهه جامدة الا أنه قال مصمما:
-سنتعاون معا ليحل كل واحد أزمته الخاصة ,وننعم جميعا بالراحة.
وافق كلاهما على رأيه وقاموا بمد أيديهم ليتصافحوا مجتمعين بعهد شفهى أقوى من أى توثيق.


****************

SHELL 09-11-18 12:03 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الرابع والعشرون

http://i.imgur.com/HjS92KE.gif

SHELL 11-11-18 03:00 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الخامس والعشرون

https://dorar.at/imup2/2015-10/58562.the-than800.gif

-لا بد أنك قد فقدت عقلك تماما يا مها ! كيف سمحت لسيف بالتواجد فى منزلك وأنت بمفردك ؟
صيحة هديل الغاضبة والتى لم تعتد صديقتها هذه النبرة منها أبدا أزعجتها للغاية ,فشعرت بانكماش داخلى لأحاسيسها وفجأة هربت منها الكلمات فتاهت فى بحار حيرتها محاولة الوصول لتبرير معقول فأجابتها بعد عدة محاولات جهيدة حتى لا يخونها لسانها فى آخر لحظة اندفعت تفسّر لصديقتها المقربة ما رأته منذ يومين وهى تنأى عنها مشيحة بوجهها:
-لقد انكسر كعب حذائى و...عرض علىّ أن يقلنى الى المنزل فلم يكن من المجدى انتظار سيارة أجرة فى مثل هذا التوقيت من ذروة الزحام.
لم تبدر من هديل أدنى محاولة لتسهيل الأمور على مها فالتزمت الصمت مكتفية بأن عقدت ذراعيها أمام صدرها تراقبها بذهول فرض عليها الاستطراد:
-كنت مضطرة فكيف كنت سأعود وأنا أعرج بشكل مزرى ,و...
بترت عبارتها بغتة عندما وقفت أمامها هديل وهى تضع اصبعا تحت ذقنها لتجبرها على مواجهة نظراتها المقيّمة وقالت بانفعال:
-هل تحاولين الكذب علىّ أم على نفسك ؟ فقط أخبرينى ما السبب الحقيقى لسماحك له بالدخول الى شقتك ؟
رفرفت برموشها شاعرة باستحياء من انكشاف موقفها المحرج أمام صديقة تكن لها مشاعر الود والمحبة فانبرت تدافع عن موقفها بلهجة غير واثقة:
-ألم أتصل بك لتأتى حتى لا أبقى معه بمفردى ؟ والآن تعالى هنا ... كيف صادف أنك جئت أنت والسيد ... كريم سويا ؟
ترددت هديل قليلا قبل أن تجيبها محاولة تصنّع عدم المبالاة:
-وماذا فى هذا ؟ شئ عادى لقد كنا نتناول الغداء سويا ... بمكان عام.
وضغطت على حروف آخر كلماتها ربما لتوضح لها الفارق الشاسع بين موقفيهما على الرغم من تشابههما الظاهرى.
رفعت مها احدى حاجبيها تعجبا وهى تتساءل :
-منذ متى وأصبح هذا أمرا عاديا يا آنسة هديل أن تتناول سكرتيرة الطعام مع رئيسها ... بمكان عام بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية ؟
قالت هديل متضايقة من رنة الاتهام بصوت صديقتها فابتعدت عنها قليلا مولية ظهرها للفتاة الحانقة غضبا:
-أليس هذا أفضل من موقفك أنت والسيد سيف المبجل ؟ على الأقل لا تربطك به صلة عمل مباشرة فهو ليس مديرك.
-أتعنين أن السيد كريم قد دعاك للغداء حتى تتناقشا بأمور الشغل ؟
تلمست يدا هديل المقعد القريب منها وهى تجلس بخجل مطرقة برأسها الى الأرض ثم قالت بصوت مهزوز:
-أنت لا تعرفين كل شئ حتى تحكمى على علاقتى بكريم.
-وأنت أيضا لا يحق لك اطلاق الأحكام على تصرفاتى جزافيا دون أن تستمعى الى دفاعى.
-وما حاجتك للدفاع عن نفسك اذا لم تكونى مخطئة ؟
قالت هديل وقد عادت لمواجهتها الأولى بصورة سريعة وهى تهز رأسها بعنف ثم استطردت:
-مها ... لا يصح الا الصحيح ,تصرفك هذا فى منتهى الطيش والتهور ,ماذا لو لم أكن قريبة منك وقت اتصالك بى ؟ ماذا كنت ستفعلين معه ؟
-لم أكن لأفعل شيئا ,أساسا هو لم يكن ينوى أن يلحق بى أى ضرر ,لقد أحسست أنه كان خائفا علىّ حينما فقدت الوعى بين يديه , حينما أفقت وجدته يتنفس الصعداء فيبدو أننى باغماءتى قد سببت له الرعب على حد قوله.
-وهل صدّقته بمثل هذه البساطة ؟
أنكرت هديل سذاجة صديقتها فأجابتها هذه بثقة كبيرة:
-لم ترى نظرات عينيه القلقة ,رنة صوته المتوترة ,لقد سارع لاحضار الدواء من أجلى ,اذا لم يكن مهتما مثلما تظنين ما الذى يدفعه نحو مساعدتى ؟
-ربما أشفق عليك.
-فقط من أجل الشفقة يكلّف نفسه كل هذا العناء !
-أنت تضخمين الأحداث وتصنعين من الحبة قبة.
-ربما ,ولكن حدسى قلما يخطئ ,أشعر بالحركة تحت المياه الراكدة.
أضافت جملتها الأخيرة بفخر واعتزاز وهى تستعيد تفاصيل الموقف بأكمله منتشية بالاحساس الجديد بالأمان والدفء الذى استشعرته برغم محاولة سيف الامتناع عن اظهار أية مشاعر ودية بعدها حينما رآها مصادفة فى الشركة فى اليوم التالى فكأنما استعاد شخصية الرجل القاسى اللا مبالى ,أيكون هذا مجرد قناع يستبدله وقت الحاجة ؟ اذا كان هذا صحيحا وله أغراضا دنيئة مثلما تحاول هديل اقناعها لماذا لم يستغل الفرصة حينما تهيأت له كل الظروف المواتية ضدها هى ؟ لقد تصرف بتهذيب بالغ وحنان واضح ,لا يمكنها أن تغفل عن رؤية الاهتمام متسللا فى نظرات عينيه العسليتين ,أذابتها نظراته المتأملة التى تغلّفت بشئ من الاعجاب ,بينما يقف بينهما الماضى سدا منيعا يحول دون التمتع بهذه المشاعر الوليدة.
قالت هديل تحذرها وقد تنبهت الى شرودها الواضح:
-احذرى من سيف فهو ليس بالشخص الذى يمكنك التلاعب به بسهولة فهو محنك.
ابتسمت مها باستخفاف وقالت ساخرة:
-هاه من التى تتحدث ؟ احذرى أنت يا عزيزتى فكريم ليس بالرجل الساذج ,لا تتورطى معه بما لا يمكنك تحمله.
كان الأولى بها أن توجه هذه النصيحة لنفسها الا أنها لن تسمح لضعفها بالتغلّب عليها ,ضحّت بالكثير من أجل الوصول الى هذه النقطة الفاصلة ,محت كافة الأسطر السابقة فى حياتها بما فيها علاقتها القديمة بخالد ... والآن لا هدف أمامها الا سيف الشرقاوى ,سوف تخطّ بيديها كلمة النهاية المناسبة من وجة نظرها ,ولم تدرِ أنها ليست الوحيدة التى تمتلك خططا فى طور التنفيذ.

**************

SHELL 11-11-18 03:01 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
احتجّت هناء بقوة حينما رفض كريم الانصات لها وهو يطوّح بذراعيه فى الهواء ضاربا بكلامها عرض الحائط وهو يصيح منفعلا:
-ما الذى تسعين اليه هذه المرة يا أمى ؟ وماذا تعنين بأن أبتعد عن هديل ؟ ألا تدركين أنها سكرتيرتى الخاصة ؟
حاولت الأم أن تهجئ من غضب ابنها الغير مبرر وهى تلتقط كفه الكبير بين أصابع يدها الضئيلة مقارنة به وتجبره على الالتفات لها قائلة برجاء:
-أتمنى منك هذه المرة أن تسمعنى بقلبك وليس بعقلك ,أنت تعرف كم أحبك يا بنىّ وكم أتمنى أن أراك سعيدا.
-لا أفهمك يا أمى , رجاءا تحرّى الصدق والصراحة فى حديثك معى , ما الذى يجعلك تفكرين بهذه الطريقة ؟
أفلتت يده وهى تجلس على مقربة منه بيهنما غطّت وجهها بكفيها وقالت من بين أنفاسها المتلاحقة:
-أعرف أن علاقتكما فد تجاوزت كافة الخطوط الحمراء بين رئيس وسكرتيرته الخاصة ,أنا لا أشكّك فى أخلاقك يا كريم فأنت ولدى الوحيد الذى أفنيت زهرة شبابى من أجل تربيته وتنشئته حتى صرت رجلا محترما ذا شأن عظيم ,ولكننى لن أسمح لك أن تضعنى بهذا الموقف أبدا , أفهمت ؟
ضرب كريم كفا بكف متعجبا وهو يجلس الى جوارها ويزيح برفق يديها ليتأمل ملامحها المتغضنة وعينيها الدامعتين شاعرا بأسى بالغ من أجلها وسألها محاولا دفعها الى الكلام:
-ما زلت لا أفهم شيئا ,ما علاقة هديل بهذا الحوار ؟ وكيف عرفت أصلا ما يدور بيننا ؟
أسقط فى يد هناء فهى تدرك أن لحظة المواجهة آتية لا ريب فيها ,كانت تأمل فى أن ترجئ هذه الصدمة فلا تريد أن تتسبب بالأذى لوحيدها الغالى على قلبها والذى ضحّت من أجله حتى بسعادتها وكرامتها وما زالت على أتم استعداد لبذل النفيس والغالى من أجله ,وضعت يدها على فمها لتمنعه من الارتجاف وهى تقول بمرارة:
-يجب أن تعرف القصة كاملة منى أنا ,ولكن أرجوك يا حبيبى أن تسمعنى للنهاية بدون أن تقاطعنى ... اتفقنا ؟
ربّت بحنان على شعرها وهو يضمها الى صدره كأنها هى ابنته التى تحتاج الى عطفه لا أمه التى أنشأته صغيرا وساندته شابا ونصحته رجلا وقال بحرارة:
-كلى آذان صاغية لك يا ست الكل ... خذى راحتك بالحديث.
حاولت أن تتمالك نفسها لتقص عليه ما فات وعلى الرغم من أن مرور السنوات الطويلة كان كفيلا بمحو التفاصيل الصغيرة الا أن ذاكرتها استعادت الحدث بأدق تفاصيله وكأنه صار بالأمس فقط ... قالت هناء بصوت مرتجف خائفة من ردة فعل ابنها:
-الأمر يتعلّق بوالد هديل ... صلاح ...
سكتت عن عمد لترى تأثير ذكر اسمه على وجه كريم الذى تقلّص فمه ضيقا وقد شعر بانقباض فى صدره لا يعلم مصدره الا أنه بدا على والدته التردد بشأن مصارحته فلزم الصمت كما وعدها وقد تنبّهت كافة حواسه تحسّبا للقادم ,وأشار لها باصبعه لتستطرد وقد استمدّت بعضا من الشجاعة من حركته البسيطة:
-صلاح ... كان صديقا لنا , أعنى للعائلة ... كان يعرفنى و ... كانت تربطه بأبيك - رحمه الله - صداقة وطيدة ,باختصار كنا نتلاقى كثيرا ... وهذا قبل ارتباطى طبعا ,وحينما تم الزواج ,, ابتعد صلاح عن نطاق العائلة بأكملها ,وانشغل بحاله فأصبحنا لا نراه كما أننى أنجبتك أنت ...
توقفت وعيناها تشعان فخرا واعتزازا حينما تراءت لها ذكريات ولادتها لكريم وكيف أنها طارت فرحا بوجوده حتى وجدى بدا عليه أنه قد امتلك الدنيا بما فيها بعد أن صار أبا ,ولم يبخل على ابنه بأى شئ ,والحق يقال أنه أيضا أغدق عليها بالحب والحنان بدون حساب الا أنها قابلت عواطفه المتأججة بالصد والتمنّع ,استعادت تعقّلها المفقود بعد أن هجرها وجدى الى الأبد ,كانت كمن تلقّى ضربة قوية على رأسه فأفقدتها التوازن كليّا , وعادت لتكمل حديثها بصوت حزين:
-وانقطعت صلتنا به نهائيا ثم .... أنت تعرف تزوّج والدك بأخرى ,وتفاقم الشقاق بينه وبين جدك فقام بحرمانه من المكوث بالمنزل ولم أعد أراه بعد هذا اليوم الذى جمع فيه كل أغراضه ورحل عن البيت الى غير رجعة.
تسللت المرارة الى صوتها فهى لم تتعافَ بعد من قسوة فعلته هذه ,كانت تتمنى لو أعطاها فرصة أخرى للبدء من جديد بدلا من البحث عن الحب فى أحضان امرأة أخرى غيرها حتى ولو كانت زوجة له , أنها ملامة ومدانة بشهادة الجميع حتى نفسها فلا تجرؤ على الكذب أمام ضميرها الحىّ الذى أخذ يحاسبها بقسوة على اهمالها لزوجها ومعاقبته على ذنب لم يأتِ به ,كانت تنتقم من عمها الذى ساومها بدون أن يطرف له جفن فآذت أقرب الناس اليها وسقته من كأس العذاب ألوانا شتى ,فدرات لها الأيام وتجرعّت منه هى الأخرى .
-اذن هذا هو السبب فى أنه قد اعتنى بك فى يوم الحادث واصطحبك الى بيته لأنك زوجة صديقه ... أليس كذلك ؟
تساءل كريم بلهفة ممنيا نفسه بأن يكون هذا هو الدافع الوحيد لما رآه بينهما من انسجام واتفاق ,فارتعش جسد هناء لا اراديا وهى تتقن الكذبة على ابنها حتى لا تصدمه بالحقيقة:
-بالتأكيد هذا هو السبب ... كما أننى أعتبره صديق له معزّة خاصة.
-معزّة خاصة ! لماذا يا أمى ؟
-لا ... لا شئ ,مجرد أنه كان رفيقا لنا فى أيام الصبا , أتعرف أنه كان يودّ عمتك أيضا و ,,,, ومجدى ... المحامى , كنا جميعا أصدقاء.
ارتفع حاجباه دهشة وقد اندفقت المعلومات الجديدة تنحفر بعقله صانعة لوحة مجمّعة بقطعها الصغيرة المتكاملة ,قال وقد شعر بأن أمه لم تفرغ بعد كل ما فى جعبتها:
-ما زلت لا أرى لهذا علاقة بحديثك عن هديل ,هيا يا أمى أريد أن أعرف كافة التفاصيل.
ابتلعت ريقها بصعوبة وقد اقتربت من اللحظة الفاصلة فقالت بتوتر:
-ابتعد عن هديل يا كريم ,فهى ليست من هذا الصنف من الفتيات.
انعقد حاجبا كريم بشدة وهو يشعر بالضيق من تلميحات أمه فيما استطردت هى بتصميم:
-احذر فهى ليست للتسلية ,كما أن صلاح لن يسمح لك بأن تتلاعب بمشاعر ابنته.
-هل هذا ظنك بى يا أمى ؟ هل تعتقدين أننى من الرجال الذين يأخذون هذه الأمور بغرض التسلية ؟ أشكرك جدا على تقديرك لى.
هدر كريم عاصفا وهو يهب واقفا فيما ظلت نظراته مسلطة على وجه أمه التى اضطرت الى أن ترفع وجهها حتى تستطيع مواجهته فقالت نادمة على تسرعها:
-لم أقصد هذا المعنى يا حبيبى ,أنا أعرفك أكثر من نفسك ... ولكن أتنكر أنك تقابلها وتقضى معها وقتا خارج نطاق العمل ؟
أشاح كريم بوجهه هاربا من مراقبة عينى أمه التى لم تغفل عن حركته هذه فهو لا يتوانَ عن النظر اليها الا اذا كان يخفى عنها أمرا جللا ,فنهضت بدورها تقبض على ذقنه بطرف يدها وهى تواصل استجوابها بصوت حازم:
-لم ترد علىّ ,هل أنا مخطئة ؟
لم يفلت هذه المرة من حصار عينيها القوى فتنهد بحرقة وهو يهز رأسه نافيا ليؤكد على ظنها:
-لست مخطئة يا أمى , ولكن ... الأمر ليس كما تتصورين ,فأنا لا أتلاعب بعواطف أية فتاة مهما كانت.
انشرحت ملامح وجهها وهى تربت على ظهره بحنان ورقة قائلة بلهجة الناصح الأمين:
-حسنا ,ولكن احذر فوالدها لن يمرر هذه العلاقة ببساطة ... أنه ماذا أقول ؟ ليس من النوع المتخاذل بحق ابنته ,لن يهدأ حتى يبعدك عنها ... فالأفضل لكليكما أن تأخذا هذا القرار بمحض ارادتكما.
-لا أفهم ... هل تعنين أنه على علم بما يدور بيننا ؟
نظرت له بمكر وهى تقول بمغزى:
-ها قد اعترفت بنفسك ,هناك ما يدور فى الخفاء يا كريم.
-انصتى الىّ .. لم أكن أحاول اخفائه , فقط لمجرد أننا فى بداية العلاقة ... لم أشعر بهذه الأحاسيس من قبل ... كنت أراها يوميا دون أن أفكر بأى شئ سوى أنها سكرتيرتى التى تجتهد بعملها ولا استطيع الاستغناء عن مساعدتها لى ,صدقينى لم تتغير نظرتى لها الا بعد الحادث الذى صار لك ,وكأننى كنت معميّا عنها فرأيتها للمرة الأولى بمنظور مختلف تماما ,هناك دافعا لا أعرف كنهه يجعلنى أسعى لمعرفتها أكثر ...
-هل تعنى أنك تريد التودد اليها ؟
-لا يا ماما , مشاعرى أعمق من مجرد هذا ... وكأنها أميرة أحلامى ...
-أميرة أحلامك ! يا الهى ! كنت أظن أن الأمر لا يتعدى حدود الاعجاب بينكما ... هل تبادلك هديل هذه العواطف ؟
-ليتنى أعرف ,لست متأكدا بعد.
كان صوته يعكس حيرته وانعدام ثقته فعادت لتسأله من جديد بشكل مختلف:
-هل تحبها يا بنى ؟
-أحبها ؟ وما هو الحب ؟ أهى تلك المشاعر التى تتغلل فى أعماقنا لتكبلنا بالشخص الذى نحبه ,واذا كان هذا صحيحا فهل أضمن ألا تتغير هذه الأحاسيس بمرور الزمن ,أنك وأبى أكبر دليل على صدق كلامى ,فحتى هذا الحب الكبير الذى طالما سمعت الجميع يتحدث عنه تغيّر وتحوّل الى فتور وعداوة الى درجة أنه قد آثر أن يقترن بأخرى ؟ فما الذى يدعمنى لأرتبط بأية امرأة بحب أو زواج ؟ ربما تتغير مشاعرها هى الأخرى وتفضّل رجلا آخر.
تأوهت والدته هل يشعر ابنها بالضياع ؟ هل فقد ايمانه بوجود مشاعر الحب السامية بسبب انفصالها عن والده ؟ انه ليس فقط بحاجة الى يد حانية تربت على كتفه بل تؤازره وتأخذه الى بر الأمان ,قالت له على الرغم من آلام جراحها التى تأبى الالتئام:
-اسمعنى يا بنىّ ,ليس الجميع مثلى أنا وأبيك ,نحن نعد حالة منفردة بذاتها ,ربما حان الوقت لأشرح لك ما أخفيته عن الجميع ,انهيار علاقتى بوالدك لم تأتِ من فراغ ولا بين ليلة وضحاها ,ولم يكون هو المذنب الوحيد بالقضية فأنا أشاركه بالاثم ,ربما أحببته بشدة وكان هو فارسا لأحلام أية فتاة ولست أنا فقط ,ولكن الحي وحده لا يكفى لاستمرار العلاقة ,لا بد من وجود التفاهم والاحترام فلا غنى عنهما لانجاح الزواج.
-هل افتقرتما الى الاحترام المتبادل بينكما ؟ هل أهانك أبى ؟
هزت رأسها نفيا بقوة رافضة تحطيم صورة والده المثالية بنظره فقالت متلهفة لازالة سوء الفهم:
-كلا , لم أقصد هذا المعنى الذى توصلت اليه ,الذنب لم يكن من نصيبى هذه المرة ,فهذا خطأ جدك ... كنت أحب وجدى ولكنه هو من أجبرنى على الاقتران به حتى أنال نصيبى من ميراث أبى ,قالها صراحة : اذا أردت التمتع بحقك كاملا فلا بد وأن تصبحى واحدة من أسرتى ,عليك أن تتزوجى بابنى وحينها بصفتك كنّتى ستنالين كل ما تتوق له نفسك .
قال لها كريم بعدم تصديق وهو يردد بعنف:
-أتعنين أن جدى قد ابتزك للحصول على حقك الشرعى ؟
حاولت تهدئة انفعاله وهى تخشى عليه من أثر غضبه الأعمى فقالت بصبر وتأنٍ:
-ليس الأمر كما يبدو , فوالدى أيضا شارك من قبل بايذائنا أنا وأخى ,حينما تخلّى بارادته الحرة عن نصيبه بالميراث لأخيه الأكبر واكتفى بمصروف شهرى يحصل عليه بدون أن يبذل جهدا ,كنت أتعجب كثيرا حينما أعقد مقارنة بينه وبين عمى ,وأتساءل كيف اشتركا بالجينات الوراثية من أب واحد واختلفا كليا فى تكوينهما وتصرفاتهما ,لقد يئس أبى لدرجة أنه بات يطلب الموت كل يوم بعد وفاة أمى ,فزهد فى الحياة بما فيها ومن فيها على حد سواء ,لم يعد شغوفا بما يخصنا أنا وأخى الأصغر وترك أمر تربيتنا لزوجة عمى ... جدتك شريفة ,أننى أعتبرها بمثابة أمى الحقيقية فهى من تولّت رعايتنا ولم تفرّق بيننا وبين ابنائها ,
اذا بقيت بمنزل العائلة هنا فاكراما لها ولأجلك أنت.
-وما ذنب أبى فيما قام به جدى ؟
تساءل كريم وهو مصدوم فأصر على نكأ الجرح من جديد ,وأجابته هناء بتفهم:
-لم يكن مذنبا ولكننى بهذا الوقت كنت صغيرة السن عديمة الخبرة فأسأت التقدير ,نعم أخطأت بحق أبيك وبحق نفسى ,اعتقدت أننى بتدميرى لهذه الزيجة التى أرغمت على اتمامها بأننى أنتقم من عمى ,فى حين أننى انتقمت من شخص لم يجرم بحقى ولم يحاول حتى رد الاساءة ولو مرة واحدة ,كان أبوك نعم الرجال ... لن أعوّض حبه وحنانه مدى الحياة ولكننى أستحق هذا العقاب ... أنا أعترف لك بأننى المسؤولة عما وصل اليه حال زواجى ,وحين عدت الى رشدى كان الأوان قد فات ,تحوّلت مشاعره الى امرأة أخرى ... وجد لديها ما كان يفتقر اليه فى هذا المنزل ... الاستقرار والتفهم والمودة ,ولم أجد مفرا من الاعتراف بالهزيمة ... خسرت حبه وخسرته للأبد.
فى نهاية جملتها أجهشت بالبكاء تنتحب على مصيرها الذى صنعته بيديها ,معترفة بخطئها لعل الله يغفر لها ويتوب عليها ,فيما بقى كريم مذهولا بمكانه لا يعرف كيف يتصرف ويفكر : ما الذى يتعيّن عليه قوله فى هذه اللحظة الحرجة ؟
اندفع نحو أمه بجزء من الثانية ,لم يأخذ وقتا للتعمّق بالتفكير , تكفّلت غريزة البنوة بداخله باتخاذ القرار دون الرجوع الى عقله ,هى بأمس الحاجة لمن يتفهّم موقفها ويساندها بغض النظر عن صواب قرارها من عدمه ,وأخذ يضمها بين ذراعيه القويتين وهو يهدهدها كالطفل الصغير:
-كفى يا أمى ,بالله عليك لا تبكِ ,كفانا آلاما ودموعا , الماضى صفحة وانطوت الى الأبد ,وما نفع الندم بهذا الوقت ؟
-أيعنى هذا أنك لست ناقما علىّ يا كريم ؟ ألا تلومنى لحرمانك من حضن أبيك بينما كنت فى أشد الحاجة له ؟
-ومن أنا حتى أقف هنا لأنصب لك محاكمة ؟ أنت لست مجرد أم بالنسبة لى , أنتِ أمى وأبى والشخص الوحيد الذى يعنينى بهذه الحياة ,أتنفس عطرك وأحيا ببسمتك ... لا أريد للبسمة أن تفارق شفتيك بعد الآن ,ولا أريد أن نفتح صندوق الذكريات هذا مجددا ,فلينحصر تفكيرنا فى الحاضر فقط ,ولنخطط للمستقبل دون أن ننظر الى الخلف.
-هل يمكننا حقا أن نترك الماضى دون أن يلاحقنا ؟
اغتصب كريم بسمة على وجهه وقال مكرها:
-وماذا نملك سوى أن نحاول يا أمى ,لن يعيد العتاب ما دوّن فى الكتاب.
أشرق وجهها أملا وبهجة وقد هالها الأمر ... شبّ ولدها الوحيد وصار رجلا حكيما يٌعتمد عليه ,أنها تستند الى كتفه الآن دونما الآخرين ,وكانت هذه هى مكافأة صبرها ... وتضحيتها بسنوات عمرها ...
-فلنعد اذن لموضوعنا السابق يا كريم , ماذا تنوى بشأن هديل ؟
بدت ملامحه غامضة دون أن يأتى بأدنى خلجة تدل على ما يدور بذهنه ,وقال بثقة بالغة:
-لا تشغلى بالك بهذا الأمر ,فأنا لم أعد صغيرا وأستطيع تولّى أمر نفسى.
-لست قلقة بشأنك أنت يا حبيبى ,ولكن الفتاة ... أنها ابنة صلاح ولن أسمح لك باستغلال براءتها ...
-اطمئنى فلا أتمنى لها سوى الخير ,ولكن أخبرينى كيف عرفت بأمرنا ؟
تهرّبت هناء من نظرات عينيه المدققة وأطرقت برأسها تتأمل الأرض من تحتهما وأخيرا قالت معترفة:
-صلاح ... يعرف بأمركما وهو من فاتحنى بهذا الأمر.
-هل تعنين بأنك قد قابلتى هذا الرجل ؟ ماما واجهينى بالله عليك ,لا تتركيننى أتخبّط بحيرتى.
صاحت به منفعلة:
-نعم يا كريم , لقد رأيت صلاح وتحدثت اليه ...
-ماما ... لا أصدّق أنك فعلت هذا ...
-وما الذى فعلته ؟ لقد تقابلنا بمكان عام على مرأى ومسمع من الجميع ,كان قلقا على ابنته من جراء تصرفاتك الطائشة ...
قال لها مستهزئا:
-وهل كان يشكونى اليكِ ؟ كتلميذ صغير يتم استدعاء ولىّ أمره ...
أجابته معنّفة وهى تجذبه من ذراعه ليقف أمامها:
-نعم ألست أنا أمك ؟ وهل تظن لأنك قد أصبحت رجلا ألا أوجهك للصواب حينما أراك تقدم على الخطأ ؟
-ليس هذا هو لب الموضوع ,أننى لا أرتاح لهذه المسألة ... كيف تذهبين لمقابلة رجل غريب عنك ودون أن تعلمينى بالأمر ؟ وماذا لو رآك أحد من معارفنا وأخبر العائلة ؟
-لقد سبق وأخبرتك بما كان من لقائنا وأنا لا أخجل من تصرفاتى ومستعدة لمواجهة الجميع بمن فيهم العائلة الكريمة ,ثم اذا كنت معنيّا هكذا بأمرى وأنا على لقاء مع صديق قديم وأعرف تماما حدود اللياقة الأصول المتعارف عليها فماذا بخصوص تصرفك المتهور بمقابلة ابنته ومن وراء ظهره ؟ لقد أخبرنى بأنها أصبحت تتفنن فى اصطناع الكذبة تلو الأخرى بعد أن كانت مثالا يحتذى به فى الصدق والاستقامة ,وكل هذا بسببك أنت ,,, أنه لن يتوانَ عن الدفاع عن ابنته بشتى الطرق ,فالأفضل لكما أن تكفّا عن هذه اللقاءات فلن أسمح لا أنا ولا هو بأن يتطوّر الأمر عن هذا الحد ... أفهمت ؟
ضحك بأسى وهو يتشدق ساخرا:
-ولماذا تقفان فى طريق سعادتنا اذا اخترنا أنا وهى العكس ؟
-ماذا تقصد ؟
-أقصد يا أمى ما فهمته للتو وتصرّين على انكاره , ما العيب اذا أردت الزواج بها ؟
-لاااااااااا !
قالتها صائحة بعلو صوتها وهى مهتاجة لدرجة أنها قد ارتمت على أقرب مقعد لها بانهيار تام وشهقاتها تتلاحق فاضحة توترها الذى تفاقم الى درجة مزعجة فأخذ كريم يواجهها بنفاد صبر وهو يسألها بمرارة:
-ولمَ لا ؟
احتقن وجهها احمرارا وهى تقول بصوت تخنقه العبرات :
-لأن ... لأننى لن أسمح لك بأن تنبش الماضى حيث دفن وانتهى أمره , لن ترتبط عائلة الشرقاوى بعائلة السنهورى بأية صلات نسب ...لا يمكن.
لم تأخذه رأفة بحالها المزرى ولم يرحم ضعفها الواضح فواصل ضغطه على أعصابها بعنف صائحا:
-وما دخل الماضى بنا ؟ تكلمى يا أمى .... أخبرينى بالحقيقة ...
-حسنا أنت أردتها فلك ما تشاء ,لن يوافق صلاح على ارتباطك بابنته أبدا...
-لماذا ؟ ألم تقولى بأنه كان صديقا لأبى ؟ ألم تقولى بأنكما على معرفة سابقة ؟ لماذا يرفضنى صلاح زوجا لابنته ؟
-لأنك ابننا أنا ووجدى ,هذا هو السبب ... كيف يتحمّل أن تقترن ابنته بابنى ؟
ارتجف صوته وهو يسألها هذه المرة بخفوت:
-ما الذى يدفعه لرفض هذه الزيجة ؟ ماذا تخفين عنى أيضا ؟ هل لكِ علاقة برفضه ؟
-نعم يا بنى ,كان صلاح يحمل لى بعضا من المشاعر ... حينما كنا ...
لم تقدر على مواصلة اعترافها , فكيف تخبر ابنها وهو يفوقها طولا وحجما أنها كانت محبوبة من رجل آخر غير والده حتى ولو كان هذا قبل زواجها منه ,فغر كريم فاه بذهول وهو يقول بصوت كالفحيح مهددا:
-أكملى يا ... أمى العزيزة ... رجاءا لا تخجلى من قولها صراحة ... كان صلاح يحبك , أليس كذلك ؟
أشاحت بوجهها بعيدا وهى لا تجد بدا من الاعتراف وان كانت تعلم جيدا الثمن الذى ستدفعه غاليا جراء ظهور الحقيقة التى ينشدها ابنها فقالت ببطء:
-كان يود الارتباط بى ولكننى رفضت.
-وهل كان أبى على علم بهذا , أم أنك قد أخفيتِ الأمر عنه ؟
-أنك تقلب الحقائق .. تجعل الأمر يبدو كما لو أننى قد تلاعبت بأبيك.
تمسّك كريم باصرار على اتهامها بأقذع التهم وهو يقول متنمرا:
-ألم تفعلى هذا متعمدة ؟ هل كنت السبب فى الوقيعة بين الصديقين ؟ أم أنك قد فضلّت أن تختارى أبى حتى تحصلى على الثروة التى تكفل لكِ البقاء فى هذا النعيم ؟
وأشار بيديه الى ما يحيط بهما من مظاهر الثراء الفاحش ثم أكمل طعنه القاتل بلهجة مزدرية:
-ولكن أخبرينى من منهما كنتِ تحبينه ؟ أو بطريقة أخرى من كنت تفضلينه حقا زوجا لكِ ؟
-اخرس ! لا تحادثنى بهذه الطريقة الوقحة فأنا والدتك.
ورفعت سبابتها محذرة فى وجهه بعد أن شعرت بالمهانة من اتهامه لها , بدا عليه أنه لم يسمعها فأخذ يدور حولها كالصيّاد الذى يتحيّن الفرصة من أجل قنص فريسته الحبيسة وقال بشماتة:
-يبدو أن أبى قد عرف بالحقيقة أليس كذلك ؟ ألهذا السبب قرر الارتباط بامرأة أخرى مخلصة ؟
هوت صفعتها على وجهه بقوة ,فأخذ ينظر لها بذهول ثابتا بمكانه لا يتزحزح وهى تهتف به غير مصدقة:
-اخرس ! لا أريد أن اسمع صوتك , يا ليتنى ما أنجبتك ويا ليتنى ما عشت لهذا اليوم ,لكم أتمنى لو مت واندفنت قبل أن أراك تتهمنى بعدم الوفاء ... أتصدق عن أمك شئ كهذا ؟
بينما أصابعه تتلمس وجنته المشتعلة بفعل ضربتها قال متخاذلا:
-لقد اعترفت أنت بالحقيقة ... كان صلاح هذا يرغب بكِ وقد نال أبى ما كان يسعى اليه ,فما هو موقفك أنت من كل هذا ؟
كانت هناء ما تزال مصدومة مما قاله ابنها ومما فعلته هى فأخذت ترغى وتزبد:
-ما هى الحقيقة , أتريد أن تعرفها ؟ حسنا يا بطل اليك ما حدث وعلى لسانى أنا الوحيدة التى تملك كافة الاجوبة عن أسئلتك ... نعم لو عاد بى الزمن الى الوراء ما كنت رفضت صلاح ... كنت رضيت بالزواج منه ,على الأقل كنت سأعيش فى هدوء وراحة بال ,لم أكن لأعانى وأتعذب كما كان حالى فى هذا البيت , أتراه النعيم كما تتخيّل ؟ لا والله كان أشبه بالجحيم ,مجرد سجن بلا قضبان ,روحى حبيسة جوانبه مقيّدة بأغلال من حرير ,رضيت بالذل والهوان ونظرات الشفقة والحسرة على حالى ,مجرد امرأة منبوذة وحيدة هجرها زوجها من أجل واحدة أخرى أصغر سنا و... أنا التى عرّفته عليها ,كنت همزة الوصل بينهما دون أن أدرى ,بيدى سلمته اليها دون أن أنتبه لما يدور فى السر ,حتى فاجأنى ذات يوم بزواجه منها ... لم يدرِ ماذا صنع بى وهو يخيّرنى ببرود ما بين الموافقة على الجمع بينى وبينها أو تسريحى باحسان , هه وأى احسان هذا ؟ لم أعد أشكّل فارقا فى حياته مجرد خيال باهت لأننى والدة ابنه ,وابنة عمه قبل أن أكون زوجته وحبيبته السابقة ,هل تعرف كيف ذبحنى بنصل سكين بارد ؟ نعم يا كريم ,لو عاد بى الزمن للوراء ما تزوجت بأبيك ,ومستعدة لأكررها للمرة العاشرة ... حياتى مع صلاح كانت لتصبح مختلفة عما أنا فيه ,على الأقل كنت سأحيا بروحى ولو كانت مجرد عيشة بسيطة بدون هذه الرفاهية التى تمنّ بها علىّ ,ما فائدة المال بلا آمال ؟
-يا لقسوة الحياة ّ! لماذا تصر بعناد على تحطيم كل الذكريات الحلوة المتبقية ؟ اذن فلكِ ما أردتِ فى السابق ... لقد مات الرجل الذى كان يمثّل عقبة بينكما , هيا اذهبى لتتزوجيه , هيا يا أمى , افعلى ما شئتِ ... فلم يعد مهما أبدا ...
قالها وابتعد مهرولا دون أن يلتفت الى صياح المرأة خلفه وهى تحاول اللحاق به :
-لاااا كريم , انتظر يا بنىّ , لم أقص عليك ما حدث حتى أصبح قادرة على الزواج به ... كريم , كريم , أنت كل ما يهمنى ... كريم.
وتعثّرت بحافة البساط السميك الذى يغطّى الرواق فسقطت والتوى كاحلها تحت ثقل جسدها , صرخت من شدة ألمها النفسى قبل الجسمانى ,وقد توارى طيف ابنها تماما بعد أن طوى درجات السلم مسرعا وسمعت بوضوح صوت باب الفيلا وهو يرتطم بقوة محدثا رجة واضحة وصوتا مجلجلا.
-ماذا هناك ؟ هنااء ... ما الذى حدث لكِ ؟
كان صوت عادل يتناهى الى أذنيها قبل أن يتثاقل جفنيها بفعل الدوار الذى اصابها وهى تحاول أن تصارع غيبوبتها بصوت متألم خافت:
-كريم ... الحق به أرجوك , لا .... تتركه.
-منى , منى , تعالى فورا.
نادى على زوجته بصوت مرتفع وهو يقوم بمحاولة لافاقة زوجة أخيه وهو يربت بخفة على خديها بدون فائدة فقد غابت بظلام سحيق ,ولحقت منى بزوجها وهى تشهق مصدومة مما تراه فصاحت بدورها:
-ماذا حلّ بهناء ؟ ولماذا كانت تصرخ باسم كريم ؟
- ليس هذا وقت الاسئلة ,هيا يا منى تعالى ساعدينى لنحملها الى غرفتها , يبدو أنها قد سقطت وغابت عن الوعى.
أطاعته زوجته بدون نقاش وقد راعها شحوب وجه هناء وأسرعت نحو قدمها تحاول تعديل وضعها حتى لا تصاب بكسور بليغة ,وقامت بمساعدة عادل حتى يحملها بين ذراعيه بسهولة , وكان على تقدّم عمره قويا ذا جسد عضلىّ فهو ما زال محتفظا بلياقة الشباب , وقد سارت ورائه زوجته تدعو الله أن يسترهم ويفرّج كروبهم.


************

SHELL 11-11-18 03:03 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
ذهبت أميرة الى لقاء زميلتها السابقة بالعمل ليلى فى مكانهما المعتاد منذ أن كانتا تختطفان الدقائق القليلة المخصصة لفترة الراحة لتنعما باحتساء مشروبا باردا فى أيام الصيف الشديدة الحرارة ,وكلها ترقب ولهفة لسماع أخبار صديقتها فقد اشتاقت لرفقتها وهى التى حرمت من وجود أقارب أو أصدقاء لها طوال عمرها ,كانت باختصار وحيدة ... بكل ما فى الكلمة من معانٍ ... حتى بعد معرفتها لحقيقة نسبها وبقائها الى جانب أمها ( الجديدة ) فلم تفلح فى أن تنسيها وحدتها ,فرفيق مشغول للغاية هذه الأيام حتى أنه تكاسل عن اتمام عقد قرانهما الجديد وصار يؤجله يوما بعد يوم ,هى تعلم بأنه لديه العذر وعليها أن تتفهم وضعه ومركزه فى العائلة باعتباره أكبر أحفاد الشرقاوى سنا وادراته للشركة الكبرى التى تضم معظم ثروة العائلة اضافة الى اشرافه على سير بقية الأعمال الأخرى ,ما أدركته أن عمها محمد ينوى التقاعد قريبا مفسحا المجال للجيل الثالث من العائلة حتى يقوموا بدورهم بعد أن أدّى واجبه على أكمل وجه ,اتسعت ابتسامتها حينما تذكرت كيف كان يحيط زوجته برعايته واهتمامه البالغين وقد أطلّت من أعينهما نظرات الحب والشغف الذى لم يخبُ بمرور الوقت وانما ازداد اتقادا ,تساءلت هل ستكون هى ورفيق نسخة مكررة من هذا الثنائى العاشق ,ينمو حبهما وتتوطد الصلة بينهما كلما مر بهما الزمن ,تتوق نفسها بشوق الى أن تحمل بذرة رفيق بداخلها ترويها بروحها حتى تكبر....
-مرحبا أميرة , ما بالك تسيرين شاردة بلا هدى ؟
استفاقت من أحلامها الوردية على صوت صاحبتها التى تألقت باشراق وأناقة فائقتين كما أن عيناها تلتمعان ببريق غريب وكأنها ترى ليلى للمرة الأولى فأسرعت تجلس الى جوارها بعد أن احتضنتها وقبّلت خديها لتجيبها بمرح:
-أوحشتنى يا ليلى , أوحشتنى كثيرا
-لو كان هذا صحيحا , كنت سألت عن صديقتك الحميمة ولو مرة واحدة طوال هذه الفترة الطويلة ... أم أن صاحب العينين الرماديتين قد استأثر بكامل اهتمامك ؟
كانت ليلى تمازحها بخصوص رفيق ولكنها شعرت بانقباض مفاجئ لم تعرف سببه ,فتلاشت ابتسامتها سريعا وحل محلها عبوس قاتم ,ثم حاولت مجددا أن تستجمع قواها لتفاتح صديقتها بما يقض مضجعها قائلة بصوت متردد:
-اسمعينى جيدا يا ليلى ,ما أريد محادثتك بشأنه الآن موضوع شخصى للغاية ويتعلق باكتمال سعادتى, ولا أريد أن يعرف أى مخلوق به ,وخاصة أننى الآن امرأة متزوجة ,وليس زواجى عاديا , أنت تعرفين ... ارتباطى برفيق سابقا ,,, وعودتنا ... أعنى أنها ما زالت محفوفة بالمخاطر...
قطبت ليلى جبينها وهى تشعر باحباط أميرة متجليّا فى صوتها ونظرات عينيها فاندفعت تواسيها باخلاص قائلة:
-لا تشغلى بالك حبيبتى , سرك فى بئر عميق بلا قرار ,ولكننى لا أفهم ما الذى يجعلك متوترة وقلقة الى هذا الحد ,رفيق وقد زال بينكما سوء التفاهم وعدتما سويا ,وأمك ... وقد أصبحتى بجانبها ليلا نهارا لا يفرقكما أحد ,فما الذى ينقصك لتنعمى بالسعادة ؟
قالت أميرة بثقة تامة:
-جاسر ... حينما كنا ... أنت تعرفين طبعا قصتنا القديمة ,لماذا تخلّى عنّى ببساطة وسهولة وأصبح يتجاهل وجودى فجأة ويتعامل معى بمنتهى البرود ,على الرغم من أن هذا يتعارض تماما مع طبيعته المرهفة الحساسة ,هل تعرفين سر هذا التغيّر الذى أصابه بدون سابق انذار ؟
كانت ليلى تنصت لها باهتمام مقيّمة لملامح وجهها الشاحبة وقد ظهرت الهالات السوداء تحت عينيها دليلا دامغا على الارهاق الذى تعانى منه ,فتراجعت قليلا بمقعدها وقد عدّلت من تنورتها القصيرة لتغطّى ركبتيها فى اشارة الى ارتباكها ثم قالت بصراحة تامة:
-لماذا تنبشين فى الماضى ؟ دعيه يمضى الى حال سبيله فكلاكما قد تغيّرت أحواله وتبدّلت تماما ,ما نفع أن تعرفى الحقيقة وقد أدركتِ أنك زوجة لرجل آخر .. ماذا أقول عنه ... رجل رائع تتمنّاه كل فتاة ,ألا يكفيكِ هذا ؟
-لا تسيئى فهمى وتأخذى فضولى على محمل آخر ,أنا طبعا غير مهتمة بجاسر أو غيره ,أقصد أننى لا أفكر فى رجل سوى زوجى فهو يحتل كل كيانى ,ولكن هذه النقطة ما زالت غامضة بالنسبة لى حتى بعد استعادتى لذاكرتى كاملة ,آآآآآه أشعر بقلبى ينقبض كلما تذكرت طريقته فى الابتعاد عن طريقى ... ألا يعنى لكِ ما أقوله شيئا ؟
تظاهرت ليلى بعدم الفهم متعمدة فهى أكثر واحدة تملك التفسير الذى ربما سوف يشبع فضولها النهم ولكن ... هل سترتاح بعد المعرفة ؟ أم ستبدأ فى البحث مجددا عن المزيد من الأسباب والتفسيرات.
-أنا بالتأكيد أشفق عليكِ من مسار أفكارك التى لن تؤدى بكِ الى خير أبدا ,هل تصدقيننى لو أخبرتك أننى سابقا قد تعرّضت لذات الموقف مثلك ,وسعيت لمعرفة الأسباب التى جعلته يهجرنى فجأة بعد قصة عشق وهيام فاقت كل القصص الخيالية التى نقرأها ,لكننى أدركت الآن أنه لا جدوى من محاولة اجترار الذكرى المريرة ,وقررت أن أحيا من جديد بدون أن أنظر خلفى ولم أندم حتى وقتنا هذا على قرارى.
-أتذكر أنكِ قد أخبرتنى من قبل عن قصة حبك القديم لشاب ثرى من عائلة معروفة ... ولكنكِ لم تقصّى علىّ كافة التفاصيل , فقط مجرد بضعة كلمات متناثرة هنا وهناك ... أحببته وكان دنياى , ثم افترقنا ... ولم أعد أراه ... هذا هو كل ما أعرفه.
ترقرقت العبرات بعينى ليلى وهى تستعيد ذكرياتها الحلوة مع سيف ... قبل أن يفاجئها بقطع صلته بها لأنها فتاة انتهازية لا تليق به ,ولم يفسح لها مجالا لتسأل ... أو تفهم .. نطق كلمة ( وداعا ) وانطلق فى طريقه بدون تردد ,بينما هى تتمزّق بلوعة الفراق ,وحينها قررت أن تمضى بحياتها دون أن تسمح لأى رجل بعده أن يمس شغاف قلبها ,تراهم فقط مجرد وسيلة للحصول على مبتغاها ... تريد أن تقترن برجل فاحش الثراء ليكفل لها كافة تطلعاتها ... لن تقع فريسة لمشاعر الحب ثانية.
-لهذا أنا أعطيكِ خلاصة خبرتى بهذه التجربة لا تفتحى بابا سبق وقد أغلقته بل أوصديه بمئة مفتاح ,هذه نصيحة من صديقة مخلصة.
-ربما تكونين محقة ,ولكن ما باليد حيلة ... فلتخلصيننى من هذا الهم الكامن على صدرى ,هل تعرفين ما حدث وقتها ؟
لم تستطع ليلى أن تنكر معرفتها بالحقيقة عن صديقتها ,عضّت بقوة على شفتيها مترددة بأن تبوح بالسر الذى ائتمنها عليه جاسر وفكّرت : هل هى بذلك تخون ثقته بها ؟ وعادت لتقنع نفسها بأنها لا بد وأن تعرف ذات يوم ما الذى أدّى بهما الى مثل هذه النهاية .
قررت بعد صراع طويل مع ضميرها الذى لم يفتأ يؤنبها بين حين وآخر أن تكتم صوته لتقول بصراحة مطلقة:
-الحقيقة ببساطة أن جاسر قد عرف وقتها بأنكِ متزوجة ولهذا السبب ابتعد عنكِ بهذه الطريقة الجافة ...
شهقت أميرة من صدمتها ... وغطّت فمها بيدها تحاول أن تمنع ارتجافة شفتيها تتنازعها شتى المشاعر من خجل وضيق ,ثم قالت بعدم تصديق:
-وكيف نما الى علمه أمر كهذا اذا كنت أنا شخصيا فاقدة للذاكرة ولم أعرف به الا منذ فترة بسيطة ؟
أطرقت ليلى بنظرها الى الأرض وحاولت أن تتشاغل عن النظرة الملحة فى عينى صديقتها تطالبها بالمزيد من التفسير فقالت أميرة تستحثها على الكلام:
-ليلى ... أنتِ تخفين عنى شيئا ... أفهمك من نظرة واحدة .... هاتِ كل ما بجعبتك ...
تنهدت الفتاة وهى تتطلّع الى ساعتها الذهبية التى تزين معصمها فى عصبية وغمغمت:
-هناك من أخبره بهذا الأمر ,,, بل وأطلعه على وثيقة الزواج ...
-من هو ؟
-ومن يكون سوى زوجك !
-رفيق !
-نعم.
-لا أدصّق أنه قام بذلك , يا له من رجل !
-ألست متضايقة ؟
-ولمِ ؟ من البديهى أن يدافع الرجل عن امرأته اذا حاول شخص آخر أن يحظى بها من وراء ظهره ,ما أتعجب منه هو كيف تجشم هذه المشقة لمجرد أن يحافظ علىّ ويحمينى دون أى مقابل يجنيه.
-كلمة السر هى الحب , أليس كذلك ؟
تعالت ضحكاتهما سويا كالأيام الخوالى وقت أن كانت البهجة ذات ثمن زهيد ثم استعادت أميرة رزانتها وقالت متأثرة:
-لا يمكن أن اصف لكِ مدى انسجامنا وتناغمنا معا , أنا حسنة الحظ لدرجة كبيرة باقترانى برفيق.
-مسكين يا جاسر !
وتصنّعت ليلى مشاعر الأسى على وجهها بينما نهرتها رفيقتها برقة وهى تقول محذرة:
-دعينا من هذا الحديث الذى لا طائل من ورائه ,واحكى لى كل شئ عمّا يدور بحياتك ,اذا لم أكن أبالغ لقلت بأنكِ قد وصلتِ الى غاية آمالك , صوتك بالهاتف أخبرنى بما تحاولين كتمانه.
فاض وجهها اشراقا وحيوية وهى تزّف الى صديقتها الخبر السعيد قائلة بسرور:
-يمكنكِ باختصار أن تباركِ لى ... فأنا على وشك أن أتزوج.
-هل تتحدثين جديا يا ليلى ؟ ألف مبارك لكِ يا حبيبتى .
واحتضنتها بألفة ومودة والقبلات تنهمر على خديها فيما اعتدلت أميرة وهى تغمزها بعين واحدة قائلة بخبث:
-ومن هو سعيد الحظ ؟ أهو عميل ثرى ممن يترددون على المكتب ؟
هزّت ليلى رأسها نفيا ولمعت عيناها ببريق الحب وهى تجيب ببساطة:
-ليس عميلا ولا ثريا , أنه شخص أنت تعرفينه حق المعرفة.
-أنا ؟ هل أعرفه حقا ؟
-أنه يعمل بذات المكتب معنا.
-لا تقولى ... جاسر ؟
شعرت ليلى بالذهول لوهلة وقامت يتصحيح الخطأ الجسيم بقولها:
- ليس هو , أننى أقصد خالد.
وران عليهما الصمت.

**********

SHELL 11-11-18 03:04 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
قررت فريال بعد أن خرجت أميرة متعللة بموعد مقابلتها لصديقة قديمة أن تستجمع شجاعتها لتقوم بأمر ضرورى تأخر كثيرا ,وأسرعت ترتدى ثيابها على عجل وان كانت قد انتقت أفضلهم وتعطّرت جيدا ,ثم هبطت الدرج مسرعة ولم تنتبه الى الصمت المخيّم على المنزل فى مثل هذا التوقيت حيث يكون الجميع مستيقظا وحاضرا ليتشاركوا فى موعد احتساء الشاى المقدّس ,أخذت تتأمل بروية التغيّرات التى طرأت فى الفترة الأخيرة على سلوكهم بلا استثناء ,أكان البيت شعلة من النشاط كخلية نحل ذات يوم ؟ كيف أصبح مقفرا خاليا كبيت تسكنه الأشباح ,أصبحت والدتها متعلقة بالبقاء وحيدة فى غرفتها لا تغادرها الا لماما ,هل يتهيأ لها أن أمها قد أصبحت تميل الى الانطواء على نفسها ,زفرت بحرقة وهى تودّع البيت الساكن فى طريقها الى مكتب مجدى ... لا بد أنه يتواجد فيه بهذا الوقت من النهار ... تتضرع الى الله ألا يكون منشغلا بمرافعة فى المحكمة ,فهى لا تجرؤ على الاتصال به مسبقا قبل أن تلقاه ,لن تتحمل أن يتركها بلا اجابة تتعذب بالانتظار المرير لكلمة تأبى أن تسكن أوجاعها المتقرّحة ,أو يغلق هاتفه بعد أن تسهب فى اتصالاتها العديدة ,عليها أن تفاجئه فلا تررك له فرصة للتهرّب منها كما أصبحت عادته مؤخرا ... لن تتراجع هذه المرة ... سوف تناضل من أجله .
حينما خطت بقدميها عتبة الباب شعرت بالحماس يختفى وشجاعتها الواهية تتلاشى بسرعة مخيفة ,ولكنها أقدمت على هذه الخطوة فلتكمل سعيها الى النهاية , أنه يستحق منها أكثر من هذا بكثير ,رسمت بسمة شاحبة على وجهها وهى تحيي سكرتيرته التى تراها لأول مرة ... وجدتها شابة صغيرة السن ... جميلة تشى ملامحها بالطيبة والهدوء ... ترتدى ملابسا محتشمة بأناقة رائعة ... لا تدرِ لمَ شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها حينما أدلت باسمها اليها حتى تستطيع مقابلة المحامى كانت الفتاة تعاملها بمهنية بحتة وهى تسألها بحيادية:
-ما هى قضيتك يا سيدتى ؟
-أنا أفضّل أن أحادث الأستاذ شخصيا ...
-يمكنك الانتظار قليلا ... فهو مشغول الآن.
انتابتها حالة من العصبية المفاجئة وهى ترى الفتاة تعاملها ببرود فأجابتها باستعلاء:
-لا يمكننى الانتظار , فقط أبلغيه أننى أريد أن أراه لأمر عاجل.
رفعت الفتاة حاجبيها دهشة والمرأة أمامها تواصل القاء أوامرها وكأنها صاحبة الحق بذلك:
-هيا ,اذهبى الآن لتخبريه ... لا وقت لدىّ لاضاعته بهذا الكلام الفارغ.
-سيدتى ... من فضلك ...
قاطعتها صيحة غاضبة من فريال التى استشاطت غضبا:
-أخبرتك أننى لن أنتظر ...
-اهدأى ... أرجوكِ
- ما هذا الصياح ؟ ما الذى يجرى هنا بالضبط يا ندى؟
صوتا رجوليا صارما أخرس الاثنتين اللتين كانتا على أتم استعداد لاكمال هذه المواجهة العارمة ,اندفعت السكرتيرة تدافع عن نفسها ببراءة:
-لا أدرى يا سيدى , هذه السيدة أرادت مقابلتك لأمر ضرورى وقد أخبرتها أنك مشغول فأبت الانتظار وأصرّت على ما تريد.
قبل أن تستدير فريال مقابل ملامح وجهه الغاضبة المحتقنة أحس بها قلبه الخائن فانتفض بين ضلوعه خافقا بقوة ,يستحيل عليه أن ينسَ ولو لمحة منها ... صوتها المرتفع أثار انتباهه وعطرها الذى لفحه بصدمة عاتية أيقظ حواسه الكامنة ,فحين أصبحت أمامه مباشرة تلاقت الأعين بنظرات طويلة صامتة وان كانت معبّرة تماما عما يجيش بداخلهما من انفعالات ومشاعر متأججة ,هى ترجوه باستعطاف ألا يرفضها وهو ... يصارع بين رغبة قلبه وسيطرة عقله ,وحسم أمره سريعا باشارة من يده نحو السكرتيرة ليقول بحزم:
-لا عليك يا ندى ,تفضلى يا سيدة فريال ...
وأشار لها حتى تتقدمه الى مكتبه تاركا الفتاة متخبطة بحيرتها ... كيف عرف اسمها فهى لم تخبره بعد ؟ لا بد أنه يعرفها جيدا ... فتنهدت لا عجب أنها تتعامل بغرور يليق بها ,يبدو عليها الثراء الشديد والأناقة المفرطة ... سيدة ارستقراطية بحق كما كانت تشاهد بعض الممثلات وهن يؤدين هذا الدور, ولكنها تفوقت عليهن جميعا .. يا لها من امرأة جميلة !
سبقته خطواتها المرتبكة وهى تلوم نفسها كيف تجرأت على القدوم الى عرينه بمثل هذه البساطة ؟ وعادت لتشد أزرها مرددة لنفسها قول ابنتها : ان بنات الشرقاوية لا تحنين قامتهن ولا تكسرهن الرياح.
وهى أقوى دليل على صدق هذه المقولة ... حياتها السابقة ومعاناتها وصبرها ... فلتنهِ ما جاءت من أجله ولتتحلَّ بالصبر والأناة حتى تنال مبتغاها ... وهو وحده من ترغب برضاه وحبه.
أغلق الباب باحكام خلفه وهو بتجه خلف مكتبه الأنيق ليجلس بعد أن تأكد من جلوسها أولا ,لا يفوته أدق قواعد اللياقة فى معاملتها حتى وهما متخاصمان ... لا تشكّ بأنه يتصرّف هكذا مع سائر النساء من عملاء مكتبه ,فهو يعد مثالا حيا على الرقى والذوق.
-والآن يا سيدة فريال ... ما هو الأمر الهام الذى لا يمكن تأجيله والذى أثرتِ بسببه كل هذه الضوضاء ,بدون مراعاة لأنك بمكتب محامٍ شهير وعليك اتباعه القواعد المتعارف عليها ,كلى آذان صاغية .. وان كنت سبق وأخبرتك أننى لن أقبل أية قضايا تتعلق بكِ أو بأى فرد آخر من عائلتك.
حديثه الجاف الخالى من أدنى لمحة من التعاطف أو المشاعر ,جعلها تجفل فهى لم تحسب لهذا حسابا , وهل ظنّت أنه لمجرد رؤيتها سوف يتهاوى تحت قدميها ,طالبا الوصال ... أنها واهمة فمجدى هذا غير الشخص الذى طالما عرفته طوال حياتها ....
-أنا لست هنا من أجل أية قضية ..
-ولكنك جئت الى المكتب ,وهنا فقط من اجل مناقشة أمور العمل.
-مجدى , أرجوك فقط اسمعنى ... أعرف أننى قد أخطأت بحقك كثيرا ,وأنك قد تحمّلت منى الكثير ,,,أنا آسفة حقا.
كل كلامها الذى أعدّته جاهدة تبخّر من ذهنها ,نظر لها متكدرا وهو يقول ساخرا:
-هل عذاب الضمير هو الذى أحضرك الىّ ؟ لا تقلقى فلقد نسيت كل شئ.
-مجدى ... أنا لا أنام ... لا أستطيع ..
قاطعها محتدا:
-حسنا يمكنك أن تنامى ملء جفنيك يا سيدتى ... لا شئ يهم.
-مجدى ! أنت تسيئ فهمى متعمدا ,فأنا لا أقصد هذا...
-وماذا عنكِ حينما كنتِ تتعمّدين التهرّب منى واساءة فهم تصرفاتى نحوك ؟
أهذا أمر عادى بالنسبة لكِ ؟
-أخبرتك أننى كنت مشوشة التفكير أشعر بالخوف بسبب الماضى الذى عشته فى آلام وجراح .. لقد عانيت كثيرا.
قهقه ساخرا وقال بأسى:
-ألهذا جعلتنى أتذوق مما عانيته أنت ؟ أسقيتنى المر كؤوسا واحدا تلو الآخر ولم تكتفِ ... تماديت نحو الأسوأ .. أنتِ يا عزيزتى كنتِ تنتقمين من ناجى وأبيك وكل الرجال الذين ظلموك فىّ أنا ,الوحيد الذى كان يحبك باخلاص دون النظر الى مقابل ,فقط كنت أريد أن أرى بسمتك المشرقة فوق وجهك ,أردت أن أجعلك سعيدة ... يا لها من خسارة فادحة كل هذه السنوات التى مضت من عمرى وحيدا .. أنتظر عودتك ...
-كنت تحبنى ؟ أتعنى أنك لم تعد ... هل أصبحت تكرهنى الآن يا مجدى ؟
هز رأسه نافيا وهو يعترف مكرها:
-يا ليتنى استطعت أن أكرهك , صدقيننى لقد حاولت مرارا ... وفشلت.
ازدردت ريقها وقد هالها ما وصلا اليه بسببها فقالت تحاول أن تتمسّك بضوء الأمل الخافت:
-لم يكن ذهنى صافيا حينما اتهمتك ظلما ... كنت أشعر بمرارة الغدر والخيانة , لقد تلاعب بى الجميع من أجل مصالحهم حتى أقرب الناس الىّ ... أبى وأخى كلاهما تصرّف على هواه وتشاركا بحرمانى من ابنتى ... أنها مأساة حقيقية.
-وأنا ؟ ما ذنبى ؟ هل أجرمت بحقك يوما ؟ على العكس كنت دائما الى جوارك أنحاز الى صفك ولم أتخلّ عنك أبدا فماذا كان جزائى !
نهض واقفا بثبات غير حقيقى وهو يعلن انتهاء المقابلة بدون تراجع فقال متصنّعا القوة:
-والآن أتمنى أن تتفهمى أننى بمكان عملى وأنتِ تأخذبن من وقت أشخاص آخرين هم بأمس الحاجة لمساعدتى ...
قامت فريال بدورها وهى تقترب منه فيما هو صامدا وملامح وجهه كجلمود صخر ,وقالت فى شبه رجاء:
-أنا أيضا بحاجتك ,لا يمكننى أن أعيش من دونك ...أنا ...
-لا جدوى من حديثك ,فقد انتهينا يا فريال ,وأنت بكل تأكيد تستطيعين الحياة من دونى فقد فعلتها سابقا وعشتِ خمسة وعشرين عاما بدون وجودى ,والآن لديكِ ابنتك فهذا تعويض كافٍ عن أحداث الماضى ...
لامست بأناملها أصابعه المتكوّرة وهى تستجديه من جديد قائلة بصوت هامس تتضرع اليه:
-مجدى , لقد عرفت الحقيقة التى كانت خافية حتى عنى ... أنا ... أحبك.
تنفّس بعمق محاولا ألا يتأثر بنبرة الاستجداء فى صوتها وانتزع يده من بين أصابعها الحانية فكأنما طرد من الجنة التى لم يهنأ بها الا ثوانٍ معدودة ,وقال مشيحا بوجهه حتى لا ينتابه الضعف أمام عينيها المتوسلتين كدأبه المعتاد قائلا بصرامة:
-أشكرك على مشاعرك هذه يا سيدتى ,أنها لفتة طيبة منك أن تحاولى مواساتى ...
ثم أعاد النظر اليها وهو يشدّد على كلماته محذرا:
-ايّاك والكذب علىّ مرة أخرى يا فريال , فعاقبة فعلتك هذه لن تعجبك أبدا ...
-أنا لا أكذب يا مجدى , أنا أحبك حقا ... بل لقد أحببتك منذ كنت بعمر المراهقة حينما كنت أراك وقتها كصديق لأخى ... تعدّى اعجابى بك كل الخطوط ..
-اخرسى ... كيف تجرؤين على اختلاق مثل هذه الأكاذيب بسهولة ويسر ,أكنتِ تكنين لى المشاعر بوقتها ؟ كيف أمكنك أن تخفيها اذن عنى ؟
-لقد كنت متباعدا وأنا كنت أشعر بالخجل من عواطفى ... وناجى ..
-لا تذكرى اسمه أمامى , هيا اذهبى من هنا ,لا أريد أن اراكِ مجددا , ألا تفهمين ؟
-أنت الذى يكذب الآن على نفسه ,لا يمكنك أن تنسانى ببساطة ... لا يمكن !
-أستطيع وبغمضة عين.
وطرقع بأصبعيه اشارة على انتهاء الأمر,شعرت بكبريائها الجريحة تئن ألما فنظرت له مرة أخيرة بتوسل وهى تملى عينيها من قسمات وجهه المحببة الى قلبها وقالت منتحبة:
-آسفة ان كنت قد عطّلتك عن أشغالك ,وأعدك بألا أزعجك بعد الآن ... وداعا يا مجدى.
ألقت بكلمة النهاية هذه المرة وقد تملّكها اليأس من أن يلين رأسه العنيد ويتراجع عن موقفه المتشدد منها ,وأدركت فريال بأنها قد خسرت المعركة هذه المرة ... بعد أن هزمت بالجولة الاخيرة.

**********

SHELL 11-11-18 03:06 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد أن اطمئن عادل الى استعادة هناء لوعيها ,تركها بعناية زوجته منى وانطلق خارجا من الغرفة ليقوم بمهاتفة ابنه وأخذ يحدث نفسه : يا ليتك تجيب على اتصالى هذه المرة يا سيف ,فالأمر أخطر مما تتصوّر ,ولدهشته فقد سمع صوت ابنه على الجانب الآخر يتسلل الى أذنيه باردا:
-آلو ... ماذا هناك ؟
أثارت لهجته الخالية من المشاعر ألما خفيّا فى صدره الذى شعر به يضيق ولكنه نفض عنه هذا الاحساس وسأله بلهجة عمليّة:
-أين أنت الآن يا بنى ؟
-... أنا بالخارج كما تعرف ...
-هل أنت بمكان بعيد ...
-الى حد ما ..
كانت اجاباته مقتضبة باختصار شديد وكأنه مكره على الرد فقاوم عادل رغبة دفينة بتأنيبه وقال بصوت أجش:
-أريم منك أن تحضر على وجه السرعة الى البيت ومعك طبيب فقد وقع حادث ل...
قاطعه صوت سيف ملهوفا على الرغم منه:
-هل صار مكروها لأمى ؟
-لا يا بنى حمد لله أمك بخير ... أنها زوجة عمك هناء ...
تنهّد سيف مرتاحا لأنه اطمأن على صحة أمه ولكنه استفسر قلقا:
-ماذا حدث لتنت هناء ؟
واستمع الى صوت أبيه المتوتر مستطردا:
-يبدو أنها قد تعثرت وكاحلها متورم بعض الشئ ... ربما أصيبت بالتواء
-وأين كريم ؟ لقد تركته بالبيت , هل خرج ؟
-يبدو أن مشادة قد وقعت بينهما واندفع على اثرها خارجا بدون أن يلتفت ورائه ... هيا يا سيف أسرع بالله عليك.
-حاضر يا أبى , حالا لن أستغرق أكثر من عشرة دقائق.
اندفع عادل محذرا ابنه:
-لا يا بنى تمهّل يا حبيبى ولا تكن متهورا فى قيادتك
تأثر سيف قليلا من لهجة أبيه العاطفية التى لم يعتدها منه ,فقد كان دوما قليل الاهتمام به وكأنه منسيّا فقال بهدوء:
-لا تقلق علىّ ,فمهارتى فى القيادة لا يختلف عليها اثنان.
-لا حاجة للاستعجال ,وانتبه لنفسك فلا يقع سوى الشاطر ... تصحبك السلامة يا سيف.
هل كان يتكلم عن قيادته للسيارة أم أنه يعنى أمرا آخر ؟ وابتسم لنفسه بسخرية : كيف يعرف بالأمر الثانى الذى بشغل باله فهو كتوم وحريص للغاية على اخفاء علاقته بمها وانطلق صوته مدويّا:
-مع السلامة يا بابا.
وأنهى الاتصال ليلحق بالطبيب فى طريقه الى المنزل وهو مشغول البال بما حدث بين كريم وأمه ,ترى هل لعلاقته بهديل شأن بهذا الخلاف بينهما ؟ زفر بحرقة وهو يئن :آآآآآآآآآه منكن يا بنات حواء , لا يسلم المرء من أذيتكن ولا يستطيع العيش بدونكن.
فيما أخذ عادل يفكّر بعمق لماذا اقدم على الاتصال بابنه دون اللجوء الى رفيق كالعادة ,فهو لا يمل الاعتماد عليه فى كل صغيرة وكبيرة تخص شؤون العائلة , فرفيق هو الحصان الأسود الذى يراهن عليه الجميع ,ترى هل كانت هذه هى غريزة الأبوة التى انطلقت من محبسها الطويل ؟ فبعد مرارة دامت سنوات ومعاناة استمرت طويلا هل يمكن لشمل أسرته أن يلتئم مجددا ؟ ان طريق الألف ميل يبدأ بخطوة وهو قد خطا بالفعل نحو المصالحة مع زوجته ,مستبشرا بالخير متفائلا بأن قلب ابنه بدأ يلين ولو قليلا له.


http://www.playcast.ru/uploads/2015/05/29/13779014.gif

SHELL 11-11-18 03:07 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الخامس والعشرون

https://upload.3dlat.com/uploads/3dl...3943899341.gif

SHELL 12-11-18 05:23 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل السادس والعشرون

https://www.fbimages.net/image/img_1399417084_805.gif

عادت الأم وابنتها الى المنزل بذات اللحظة ربما تفصل بين خطواتهما المتباطئة أجزاءا من الثانية ,كانت فريال تجر قدميها جرا وهى تشعر بأن عالمها قد تهاوى وتحطّم مجددا الى آلاف القطع المتناثرة غربا وشرقا ,أبعد ما شعرت بنبض الحب يتجدد فى حياتها ليغمرها بطيفه الظليل فتحتمى به من وهج الجحيم الذى عاشته طويلا ,تشعر بالنبذ مرة أخرى ... كان لرفضه طعما مرا كالعلقم ... وأدركت بعد فوات الأوان أنه لا بد من الاستسلام للهزيمة التى لقيتها على يد الحبيب الوحيد بحياتها ,نعم اعترفت من قبل لنفسها بهذه الحقيقة الواضحة كقرص الشمس ,والآن ستكتفى بالبقاء قريبة من ابنتها الغالية ... ودون اثارة أية مشكلات مرة أخرى ... تريد لها أن تنعم بالاستقرار الأسرى الذى حُرمت منه ... عليها أن تتفرّغ لمستقبلها المهنى فهى من أفضل مصممى الديكور ... وستبدأ بتنفيذ رغبة أميرة ورفيق بتجديد جناحهما ليليق بشرف استقبال العروسين الجديدين ,سوف يحصلان على أحلامهما مجسّدة بلمسة فنانة أصيلة ... ستغرق نفسها بالعمل لتسعد أقرب الناس اليها وما أحلاه من مجهود ذلك الذى يبذل من أجل الأحباب.
اخترق نداء أميرة لها غياهب عقلها التائه بقسوة لتستفيق محدقة ببلاهة فى وجه ابنتها التى اندفعت اليها بفعل خوفها وقلقها ثم أحاطت كتفيها بذراعيها وكأنها تحتوى طفلتها الصغيرة لا أمها فيما قالت بصوت يفيض عذوبة:
-ما بكِ يا أمى ؟ والى أين ذهبتِ ؟
أجابتها فريال بشرود ذهن:
-لا شئ , لا شئ ... هيا بنا لندخل.
وسارت المرأتان متعانقتين وكلتاهما مشغولة البال بما يزعجها ,فريال ونيران الهجران تلتهم قلبها الملتاع ... لقد زلّت قدمها على حافة الهاوية لتسقط دون أن تجد منقذها هذه المرة , بل لقد تحوّل الى جلّاد قاسى القلب لا تأخذه بها أدنى شفقة ,رمى اعترافها المذل بالحب فى وجهها وطالبها بالخروج من حياته نهائيا ,وهل تملك أن تلومه على ما فعله ؟
فقدت كافة حقوقها الحصرية التى منحها لها سابقا ,ربما الفراق هو مصيرهما الأبدى ... يوما تفضلّ سواه عليه , ويوما آخر يقرر الابتعاد عنها ...
أما أميرة فبعد أن ظنت أنها بمعرفة الحقيقة ستنعم براحة البال .. وتتمتع بلحظات سعادتها مع رفيق ,الى أن ألقت ليلى بقنبلتها الموقوتة فى وجهها ,أحقا سترتبط بخالد كما أخبرتها اليوم ؟ أنها لا تحمل ضغينة ضد صديقتها الحميمة الا أنها غير واثقة من قناعتها التامة بالاقتران برجل عادى مثل خالد ... مجرد موظف يكدح مثلها طوال اليوم من أجل راتب شهرى لا يكاد يكفى احتياجاته ومتطلبات الحياة المتزايدة ,كان حلمها دوما أن تتزوج رجلا ثريا ,يتلاعب بالنقود دون أن يرف له جفن ,منذ عدة سنوات خلت عندما التحقت بالعمل فى مكتب السيد فهمى ... وتعرّفت الى ليلى كانت تتعافى من تبعات علاقة حب آلت الى الفشل كانت تربطها بشاب ينتمى الى واحدة من العائلات الثرية العريقة ,هل كانت ليلى تكن له فعلا مشاعر عميقة أم أنه كان بالنسبة لها مجرد سبيل للوصول الى غايتها ... هى تعلم أنها ليست بهذا السوء الذى تبدو عليه للوهلة الأولى ... ولكنها طموحة تتجاوز أحلامها حدود السحاب عاليا فى السماء ,أخبرتها ذات مرة فى جلسة صفاء ... أنها تستحق الأفضل ولمَ لا وهى جميلة بل فاتنة الجمال ,ليس غرورا من جانبها ولا استغلالا لهبة من الله ,أنها ذات شخصية جذابة ... تشد الرجال اليها كالمغناطيس .. هكذا كان الحال على الدوام .. كم من عميل مهم قد حاول نيل رضاها وكم من رجل رأته مدلها بحبها ... وللحق ليلى لم تكن تمانع أبدا من هذه الهالة من الاهتمام الملحوظ التى تحيط بها فهى مولعة بالمظاهر ,لن تنسَ يوم اصطحبها رفيق الى المكتب حتى تقدم استقالتها فتراقصت نظرات الاعجاب تجاه رفيق فى عينيها الواسعتين ,وعندما عرفت بحقيقة زواجها منه باركت لها بقلب صافٍ كأية صديقة مخلصة ,لا تنكر خصالها الحميدة ... ولكن خالد !! أنه شاب لطيف المعشر حسن الخلق ورقيق الحال ,لا تفلت العيبة من لسانه ,ولم يحاول اخفاء اعجابه الشديد بالسكرتيرة الفاتنة ... فكانت نظرات عينيه دليلا دامغا على ادانته بتهمة الحب ,الا أنه ظل على صمته ... هل قررت صديقتها أن تكتفى بالزواج من خالد دون النظر الى التطلعات المادية ,أم أن هناك سببا وراء هذا التغيير ؟تتمنى لها السعادة من كل قلبها ولكن ليس على حساب مشاعر خالد اذا كانت تتسلّى بها ,ماذا سيؤول اليه الحال اذا ما قررت ليلى أن تهجره فى وقت ما ؟
لماذا تشعر بأن حزن والدتها العميق له علاقة وثيقة بغياب المحامى عن محيط الأسرة ,يبدو أنه كان هناك لهيبا مشتعلا متواجدا تحت الرماد ,أما آن الأوان لهذه المرأة أن تُرحم من العذاب ... هل كُتب عليها الشقاء والتعاسة مدى الحياة ؟ هل هو عقاب تدفع ثمنه جراء ذنب اقترفته ؟ وبحق من أخطأت ؟

**************

SHELL 12-11-18 05:24 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
اصطحب سيف الطبيب معه بسيارته الخاصة بعد مروره الخاطف على عيادته وكان قد سبقه اتصال هاتفى ليعلن حاجتهم الضرورية لاجراء كشف منزلى سريع ,قاد بتهور جامح حتى كادت عينا الطبيب تخرجان من محجريهما وهو يتوّسل له أن يخفف من سرعته الجنونية حتى يصلا بسلام آمنين ,وبالفعل مرت أقل من خمسة عشرة دقيقة وكان يوقف سيارته قريبا من مدخل الفيلا ودون ابطاء ترجّل منها وسار يتبعه الطبيب الخمسينى ذو الشعر الأسود الذى غزته خطوط فضية كثيفة فأشار له بيده نحو باب الفيلا:
-تفضل يا دكتور.
كانت سماح واقفة أمام المدخل متأهبة للانطلاق فما أن لمحت سيف قادما ومعه رجل يبدو عليه سيماء العلم والرزانة حتى أدركت أنه الطبيب المختص فاستقبلتهما ملتاعة:
-أستاذ سيف , الجماعة بانتظاركما فى الأعلى.
أشار لها حتى تلتزم بالصمت مكتفيا بأن ألقى أمرا حازما:
-اصعدى لتعلميهم بقدوم الطبيب حتى تستعد تنت هناء.
هرولت الفتاة صاعدة الدرج بخفة ورشاقة واختفت داخل احدى الغرف الأنيقة بعد أن طرقت بابها عدة مرات .. وعادت أدراجها ملهوفة لتقول بصوت يهتز انفعالا:
-تفضل يا دكتور ...
بقى سيف منتظرا خارج الغرفة حتى فوجئ بمن يربت على كتفه بقوة قائلا بصوت أجفله:
-سيف , هل حضر الطبيب ؟
كان هذا هو صوت والده فالتفت ببطء متجمد الملامح ليجيبه بلا مبالاة:
-نعم , أنه بالغرفة للفحص.
-عفارم عليك يا بنى ,لقد أنقذتنا من ورطة محققة ,كانت هناء تتألم بشدة من وجع قدمها ,ولم تكن لتحتمل أكثر.
هل كان هذا هو والده الذى يثنى عليه ؟ أنه لا يتذكر يوما أنه قد نال استحسانا منه على أي عمل جيد قام به ,حتى وهو ينجح بتفوق على الدوام بجميع صفوفه الدراسية وصولا الى المرحلة الجامعية ... بم تطرق أذنيه كلمة تهنئة منه ,فوقف أمام عادل يراقبه متأهبا كأسد يوشك على الانقضاض بأية لحظة اذا ما استدعى الامر ,قطع سيف الصمت المخيّم عليهما وهو يتساءل باهتمام حقيقى:
-ما الذى صار بالضبط لتقع الحادثة ؟ وأين هو كريم ؟
كان عادل عاقدا لذراعيه خلف ظهره وهو يقول بصوت يشوبه القلق:
-لا أعرف بالضبط أية تفاصيل ,كل ما فى الأمر أننى كنت مع أمك حينما سمعنا صوت جسد يرتطم بالأرض مصحوبا بأنّة ألم ففوجئنا بهناء تفترش الأرض وهى تنادى كريم صارخة الا أنه كان مندفعا بدون أن يلتفت ولو مرة واحدة خلفه ,والى الآن هاتفه مغلق.
مرر سيف أصابعه بخصلات شعره الناعمة يمشطّه الى الخلف بحركات منتظمة تدل على توتره وعصبيته ثم هتف حانقا:
-يا الهى ! ألا يوجد شخص واحد عاقل هنا , كل ما يدور حولنا من أحداث تتسم بالجنون , لم أعد أحتمل , أوه ...
قاطعه نداء أبيه ونظرات الأسف تطل من عينيه على حال ابنه:
-سيف ... أريد أن أتحدث اليك بأمر ضرورى.
-ليس هذا بالوقت المناسب لاجراء أية أحاديث.
-أعرف , ولكننى بأمس الحاجة لأن أكلمك .. أرجوك يا بنى.
كاد سيف أن يرفض طلب أبيه بصلف وعناد كعادته حتى تنازعته غصة فى حلقه منعته من النطق ,فأعاد الوالد رجاءه مرة ثانية وهو يمد يده نحو ابنه الراشد فى لمحة واضحة تبين حاجته للمساعدة ,وعيناه تحملان أملا وليدا ,وببطء شديد استجاب لنداء الواجب .. وقبض على يده ليعتصرها بين راحتيه وهو يتمتم:
-حسنا يا بابا , لا بأس.


************

SHELL 12-11-18 06:07 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
حينما وطأ رفيق بقدميه أرض المنزل شعر بحركة مريبة بالداخل ,وأصوات متداخلة تتقاطع مشكّلة معا سيمفونية غاضبة ..
أسرع بخطواته ينهب درجات السلم حتى تراءت له زوجته الحبيبة جالسة برفقة عمته وأمه بالبهو الفسيح على أريكة صغيرة أمام غرفة زوجة عمه هناء ,وما أن لمحته حتى هبّت واقفة تسعى الى لقياه وكأنها تبحث عن ملاذها الأمين ,فارتمت بحضنه وهو يضمها بشوق معتصرا جسدها الرقيق بين ذراعيه القويتين وقبّل مفرق شعرها بلمسة عاشقة هامسا فى أذنيها (حبيبتى , اشتقت لكِ ) ثم قال موجهّا حديثه نحو المرأتين الأكبر سنا:
-مرحبا أمى , مرحبا عمتى ... ما الذى يدعوكم الى الجلوس هنا بهذه الطريقة ؟
انتفضت أميرة مرتعبة:
-أنها عمتى هناء ... لقد ...
لم تستطع أن تتم جملتها بعد أن انتحبت متشنجة فهتف بها رفيق بنفاد صبر:
-ماذا بها تنت هناء ؟ فليخبرنى أحد بما يدور.
قالت أمه التى كانت تتمالك نفسها حتى لا تقع فريسة للانهيار مثل كنتها:
-لقد سقطت والتوى كاحلها.
-هل حالتها سيئة ؟
-يبدو أن عظامها لم تتحمل أثر الوقعة ,والطبيب ما زال بالداخل يجرى فحصا لها.
-وهل تركتماها وحدها بالغرفة ؟
هزت أميرة رأسها نفيا وهى تجيبه بلا تمهل:
-لا طبعا ,تنت منى معها .
-تنت منى !!
-نعم فهى من اكتشفت الحادث وكان خالى عادل معها ومنذ ذلك الحين لم تفارقها.
ربّت على كتفيها مهدئا وقال بصوته العميق ذى الرنة المميزة التى تثير بنفسها موجات من الراحة والطمأنينة:
-لا تشغلى بالك , ان شاء الله سليمة ..
ثم استطرد بصوت أكثر انخفاضا:
-وما لها أمك ... يبدو عليها كمن تتلقى عزاءا لفقيد لها.
نظرت له بلوم فهذا ليس بالوقت الأمثل للمزاح الا أنها لم تتمالك نفسها من الضحك بخفوت ,فابتسم لها بدوره قائلا:
-هكذا أفضلك أميرتى , باسمة الثغر ,, رائقة البال ,لا أحب أن أراكِ مقطبة الجبين ,فهذا لا يليق بكِ.
ثم توجّه بالحديث نحو المرأة الغافلة عن وجوده:
-مرحبا عمتى ... حماتى العزيزة... كيف حالك ؟
رنت فريال ببصرها الى ابن أخيها بوجه خالٍ من أى تعبير لترد بوجوم:
-بخير ... ألا ترى كيف هو حالنا جميعا ! الحمد لله على كل شئ.
-وما له حالنا ! علينا أن نرضى بالمقسوم لنا يا عمتى.
-أنت محق ... فلا ينقصك أى شئ ,تنعم بما لا يملكه أيا منا.
هل يلمح نبرة الحسد أم السخرية فى صوتها الحاد ,لو تعرف كيف يحمل جبلا من الهموم المتراكمة على كتفيه ؟ أنها لمسؤولية جسيمة ملقاة على عاتقه ,وهو يرزح تحت وطأة حملها الثقيل .
قالت أميرة فى محاولة منها لتلطيف الأجواء بينهما كدأبها فى الآونة الأخيرة:
-كان الله بعونك يا حبيبى ,فكلنا نعتمد عليك .. أليس كذلك يا ماما ؟
التزمت سوسن بالصمت ازاء دفاع كنتها عن ابنها وان أمطرتها بوابل من نظرات الامتنان العميق لمؤازرتها لرفيق ,أما فريال فراقبتها بعناء ولسان حالها يقول ( من يشهد للعروس ) وقالت أخيرا بصوت مرير:
-فلتهنآ سويا ,,,, أنا بغرفتى سأذهب لأستريح ... أميرة ... وافينى بالأخبار بعد انصراف الطبيب ,أستمحيكِ عذرا زوجة أخى فأنا مرهقة.
ونهضت لتغادر مقعدها دون أن تكلف نفسها عناء القاء نظرة واحدة على وجه الرجل العابس الذى كان واقفا يتلظى بنيران حمم غضبه البركانية الا أنه ملك زمام نفسه بآخر لحظة لئلا ينطق لسانه بكلمة خارجة عن حدود الذوق واللياقة ,فأشاح بوجهه بعصبية ,بينما رفعت سوسن حاجبيها تعجبا مما حدث وهى تغمغم:
-ماذا بها فريال ؟ أنها المرة الأولى التى تناديننى هكذا ... زوجة أخى ... هل صدر منى أى تصرف اثارها؟
أخذت أميرة تهدئ من غضب زوجها وهى تلامس وجنته بأصابعها الرقيقة لمسات حانية خفيفة كانت لجروح نفسه كالبلسم الشافى وهى تقول بلطف:
-لا تتضايق من أمى يا رفيق ,أنها لا تقصد اغضابك ... كل ما فى الأمر أنها تمر بظروف نفسية سيئة هذه الأيام ...
ثم التفتت نحو حماتها تعتذر لها برقة بالغة:
-أرجوك يا تنت ألا تضيق نفسك من تصرفها ,أنا أعتذر لكِ نيابة عنها ,كل ما فى الأمر أنها متوترة بعض الشئ ..
اندفع رفيق صائحا:
-لا أفهم ما الذى بدّلها من ناحيتى لهذه الدرجة , لقد صارت لا تطيق وجودى على ذات الأرض ... وكأننى أنازعها التنفس ...أظن أحيانا بأنها باتت تكرهنى.
قاطعته أميرة نافية التهمة عن أمها بصبر وتفهم:
-لا يا حبيبى ,لا يمكنها أن تكرهك ,لا يستطيع أحد أن يقاوم الوقوع فى حبك ... فقد التمس لها العذر ... لأجلى.
وكأنها نطقت سحرا ( لأجلى ) ,فماذا يمكنه أن يقول بعد ذلك , لأجلك أنتِ وحدك أتحمل النار وعذابها وأتمتع بكل لحظة ألم ,فابتسم لها بخفة وهو يقول بعطف:
-لا يهمنا الآن سوى الاطمئنان على زوجة عمى المسكينة ... بالمناسبة أين كريم ؟ أننى لا أراه ...
-أنه ليس موجودا ...
-ألم يعلمه أحد بعد بالحادثة التى وقعت لأمه ؟ لا بد أن أهاتفه حالا.
واتصل فعلا بهاتف كريم وفوجئ به غير متاح فاندفع يبحث عن ابن عمه الآخر قائلا بعصبية حارقة:
-وأين هو سيف أهو غائب هو الآخر ؟
استوقفته يد أمه بلمحة سريعة وهى تقول بصوت متعب:
-لا ترهق نفسك بما لا طاقة لك به يا رفيق ,سيف هو الذى أحضر الطبيب الى هنا أما كريم ... فعلى ما يبدو أنه قد صارت بينه وبين هناء مشادة كبيرة قبل أن يتركها مغادرا وهى تحاول اللحاق به ,سقطت أرضا.
تأفف ابنها بحرقة وهو يتساءل بعدم تصديق:
-أنها لعنة أبدية تلك التى اصابتنا جميعا ,لا يمر يوم علينا الا وحادثة تقع أو شجار حاد بيننا ...رحماك يا ربى !
وفجأة انفتح باب الغرفة ليخرج الطبيب بصحبة السيدة منى وهو يمليها تعليماته الخاصة فتومئ له برأسها متفهمة حتى قاطعهما صوت رفيق القلق وهو يسأله عن حال المريضة:
-كيف وجدت اصابتها يا دكتور ؟ من فضلك أخبرنا.
-لا أخفيك سرا أن اصابتها تبدو سيئة وربما لا أبالغ اذا ما قلت بأنها قد تحتاج الى اجراء عملية جراحية ,, ولكن أولا علينا اجراء عدة أشعات قبل أن أقرر أخيرا.
ثم استأذن للانصراف تصحبه سماح التى جاءت لتوها حتى تقوم بواجبها على أكمل وجه بعد أن أمرها رفيق بأت تخبر عم ( رياض ) السائق الخاص بهم ليقل الطبيب الى وجهته ,ثم أولى السيدات الى جواره كامل اهتمامه حيث قال لهن:
-حديث الطبيب لا يبشّر بالخير ؟ أليس كذلك ؟ علينا أن نبقى الى جوارها حتى لا نثير قلقها فيكفيها ما تعانيه من آلام من جراء اصابتها البليغة ... هل أنتن على استعداد لكتمان الأمر عنها ؟
أومأت النساء برؤوسهن موافقة على كلامه الدقيق ,فيما تأبّطت أميرة ذراعه قائلة:
-هيا لنطمئن على عمتى ونواسيها فى مصابها.
ولحقت بهما سوسن تتبعهما والدموع تتلألأ فى مقلتيها دون ارادة منها ,أما منى فقد سارت نحو جناحها المشترك مع زوجها ,وقبل أن تمتد اصابعها نحو مقبض الباب لتديره سمعت صوتا مرتفعا من الداخل يصيح:
-وما الذى تريد أن تصحّحه ؟ هل تريد أن تنفى عن أمى تهمة الخيانة البشعة التى ألقيتها بوجهها منذ عشرين عاما .. كيف تطالبنى بالنسيان فجأة ؟وهل تمحى الذكريات بين عشية وضحاها ؟
تصلبت مفاصلها دفعة واحدة ,وانقبض قلبها داخل ضلوعها مجزوعا ,أنه صوت ابنها ... سيف ... هل كان يظن طوال هذه السنوات أنها امرأة خائنة ؟ هل تبادر الى ذهنه أنها ملوثة السمعة ... وقبل أن تعى ما تقوم به امتدت يديها مجددا نحو الباب لتفتحه على مصراعيه ,بصورة أجفلت الرجلين المتواجهين ليقع نظر عادل على زوجته شاحبة اللون كالأموات تتطلع اليه بنظرات زائغة .. تصرخ بصمت مطالبة بالرحمة والشفقة ,مغيبة عن الواقع الأليم لا تنبس ببنت شفة تستند الى الباب متمسكة بمقبضه اللامع ... أشارت بأصابعها المرتجفة اندفع عادل نحوها ليحتضن جسدها المرتعش فأزاحته بحركة عنيفة لم تعرف مصدر قوتها رافضة لأية مواساة من جانبه , أما للظلم من نهاية !
-منى ... ليس الأمر كما تتصورين حبيبتى ...
لأول مرة تخترق هذه الكلمة السحرية ذات الرنين المميز ( حبيبتى ) مسامعه منذ سنوات طفولته البعيدة ,كان سيف قابعا بمكانه ينتظر مترقبا بينما تمر الدقائق بطيئة كالسلحفاة ووالده يعترف بذنبه بحق هذه المرأة الوفيّة ,والتى لم يعرف الشك طريقه يوما الى عقلها .. ربما أظهرت بعضا من الطباع السيئة ربما دفاعا عن نفسها ضد الظلم الذى اجتاح عالمها ليقوّضه بمعول حديدى ,فكانت بداخلها نقيّة كينبوع ماء صافٍ ينبثق من العدم ليروى ما حوله فيخضرّ مزدهرا .
قال عادل بصوت متألم يعتصره الاحساس بالذنب:
-عليكما أنتما الاثنان أن تنصتا لى جيدا ,فأنا لم اخطئ بحقك فقط يا منى بل أجرمت فيما يختص بابننا سيف ... حينما خذلته بهروبى المستمر من مسؤولياتى تجاهه كأب ومربٍ ,وصديق وسند ,دمّرت سعادتنا بيدى ... وها قد حان الوقت للاعتراف بالخطيئة ... أنا المجرم الحقيقى .. سيف , أمك سيدة شريفة مخلصة ,كان ما حدث مجرد سوء فهم للأمور التى اختلطت علىّ وهى التزمت الصمت لم تدافع عن نفسها أمام قسوتى وانجرافى لمحاكمتها ,أعترف بأننى أخطأت خطأ شنيعا , لا أدرِ ان كان متاحا لى التكفير عنه.
قاطعته زوجته بصوت حاد وهى مندفعة لتهاجمه بضراوة:
-وكيف أردت منى أن أقبل باهانتك لى ؟ لقد جررتنى من يدى على مرأى ومسمع من جميع الموظفين فى الشركة بذلك اليوم وكأننى مجرمة حقيرة أدينت بالجرم المشهود ,لقد صممت أذنيك عن سماع توسلاتى باذلال مهين ,واذا حاولت أن أخبرك بالحقيقة هل كنت مستعدا لتصديقى وتكذيب الطرف الآخر ,أم أنك كنت لتقف ضدى حتى لا تستسلم بمشاعر الضعف نحوى ,ألم يحذرك والدك من مغبة الرضوخ للحب حتى ولو كانت المرأة زوجتك وأم ولدك ؟
كان عادل مطرق الوجه خجلا من نفسه ومن سوء تصرفه وحكمه المتسرع على الأمور ,ها قد أفسد حياتهم ولوّث سمعة زوجته الناصعة البياض أمام ابنهما ,فيما واصلت منى دفاعها المستميت عن نفسها بقوة امرأة مقهورة قبعت فى مستنقع الذل والخنوع لسنوات طوال:
-لم أكن يوما آثمة يا بنى ,أتسمعنى ؟
-خطأ من هذا ؟ من هو الجانى ؟
تساءل سيف بذهول وانشداه بعد أن تحوّل تفكيره الى محاسبة المخطئ الذى أذاقه الأمرين ,شاعرا بالمرارة والاحباط وهو يجفن وجهه بين كفيه منهارا لا يصدق ما يحدث ,احتقاره لأم لم تجرم ,افتقاره لوجود أب غائب وهو حاضر ,آلام الوحدة تنغزه مجددا ... والتى طعنت بداخله مشاعر التعاطف معهما ,طفت الى السطح مرارات الأعوام الماضية يوما وراء يوم مخلّفة طعما مرا غير مستساغ فاستطرد قائلا بعصبية ملحوظة:
-لا يهم ... حقا لم يعد بوسعى أن أتحمل المزيد ,لقد اكتفيت بهذا القدر ,, فما انكسر لا يمكن اصلاحه ... هل ستكفيك كلمة آسف يا أمى ؟ هل ستعوّضك كفاية ؟هل ستعيد سمعتك المشوّهة بنظرى الى سيرتها الأولى النقية ؟لا ... هذه هى الحقيقة العارية ... لاااااااااااا .
وغادرهما شاعرا بدماء الخجل تحقن وجهه فما جرؤ على أن يرفع بصره فى مواجهة عينى والدته الممتلئتين دموعا ,, دموع القهر والذل ,غير قادر على هبة الغفران .. ولا يتمنى الا هبة النسيان ... لعل الله يمن عليه باحداهما أو كلتاهما.


*************

SHELL 12-11-18 06:08 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
جاءت الجدة شريفة تستند الى ذراعى حفيدتها الأثيرة ريم الى غرفة كنتها هناء ,تلك الابنة التى لم ينجبها رحمها وانما تولّت رعايتها بمحبة أم صادقة لم تبخل عليها بالحنان وظلّت على حالها حتى بعد انتهاء زواجها من ابنها وجدى فعليا ,بقيت أما لحفيدها الغالى كريم الذى كان يذكّرها بابنها المتوفى ,وكرما لذكراه أحسنت معاملتها ... كما أنها كانت تود أمها كشقيقة .. سمية زوجة عبد الرحمن الأخ الأصغر لزوجها ,والتى وافتها المنية بعز شبابها تاركة طفلين يعانيان مرارة اليتم أكبرهما هناء وأصغرهما ناجى ,والاثنين - ويا للمصادفات العجيبة - تزوجا من أبنائها وللأسف لم تنجح أيا من الزيجتين بل وانتهتا بمأساة مفجعة.
-حمدا لله على سلامتك يا هناء.
قالتها الجدة بصوت واهن يتسلل الضعف واليأس من نبراتها ,بينما حاولت هناء أن تعتدل بجلستها وهى ممددة بلا حول ولا قوة على الفراش فتسببت لنفسها بآلام لا طاقة لها وهى تقول متحاملة الوجع الذى سرى كالنار فى الهشيم :
-الله يسلمك يا ماما , لم يكن هناك داعٍ لأن ترهقى نفسك بصعود الدرج.
-وهل هذا كلام يٌعقل يا ابنتى ! وكيف يمكننى ألا آتى لأطمئن عليكِ ,أهذا صحيح هل أصابك دوار فسقطتى يا هناء أم أن هناك شئ آخر ؟
ارتبكت هناء وهى تحاول جاهدة ألا تظهر ما يعامل بداخلها من احباط ومرارة خلفّتها لها قسوة ابنها الوحيد ,فحتى الآن لم يعد ولم يتحدث ,ألا يهتم ولو مثقال ذرة لما أصابها ,وصرخ قلبها نازفا : يا للخسارة الفادحة ,أكان عليها أن تخفى عنه الحقيقة .. ربما كان عليها أن تتحلى بالصبر والحكمة فلا تضغط عليه بهذا الشكل المكثّف ,وعذرها الوحيد أنها لم تحب أن تراه متألما اذا ما رفض صلاح علاقته بأى حال بابنته ,ودفعت هى الثمن غاليا ,قالت بصوت ثابت وهى تتقن حبك الكذبة:
-نعم يا ماما شعرت بدوار خفيف وأسأت تقدير المسافات فالتوى كاحلى ... لا يوجد شئ آخر.
قالت شريفة بينما تستند بظهرها الى المقعد المخملى الوثير بنبرة استجواب:
-وأين هو كريم حتى الآن ؟ لماذا لم يحضر؟
سارعت هناء تدافع عن ولدها بحرارة:
-هاتفه مغلق , أو ربما بمكان خارج التغطية ... الغائب عذره معه.
وكأنها كانت ترسل اشارات تحذيرية الى منى الواقفة قرب الباب تراقب ما يحدث وهى صامتة ,كانت تحذرها من أن تعترف بالحقيقة فهى بغنى عن استجوابات من نوع آخر كما أنها لا تريد أن تسئ الى ابنها ... فهزت منى رأسها بحركة واهية وهى تؤمن مصدّقة على الكلام:
-سوف يجده سيف ان شاء الله , لا تقلقوا.
ثم سارعت الى الاستئذان بالانصراف بأدب جم متمنية الشفاء العاجل لهناء.
-يا رب !
صوتها المتألم اثار الرجفة بأوصال النساء المجتمعات حولها وهن يتطلعن نحوها مشفقات.
كان رفيق وأميرة قد غادرا الجناح على وجه السرعة قبل حضور الجدة أما سوسن فقد بقيت الى جوار المرأة المصابة لمساعدتها اذا ما احتاجت شيئا ,وحتى ريم عرضت خدماتها بسخاء شديد الا أن أمها صرفتها بهدوء متعللة بمرافقتها الى جناح جدتها التى شعرت بارهاق مفاجئ لم يكن خافيا عليهن تدهور حالتها الصحية باستمرار, قبل أن تغلق الباب ورائها حتى تنفرد بالحديث مع هناء التى كانت مشيحة بوجهها تنظر من زجاج النافذة الى الخارج بأمل يخبو تدريجيا ,هل كانت تنتظر سماع صوت سيارته ؟ ربما تلهفت الى وجوده حتى وهو ثائر يتلوى من شدة غضبه ويجابهها بوقاحة لم يكن لها مثيلا.
-هناء ... ما الذى جعلك تختلقين هذه الكذبة حتى تبررى اختفاء كريم بهذا الشكل ؟
-أتتهميننى بالكذب يا سوسن ؟ سامحك الله.
-لا أقصد والله ,مجرد قلق عليكِ وعلى كريم أيضا ... أنا شاهدته مندفعا الى الخارج وقد كان وجهه محتقنا من شدة الانفعال حتى أنه لم يلتفت الىّ حينما ناديته ,وهذه هى المرة الأولى التى يأتى فيها بتصرف مماثل .
-أنا بورطة حقيقية يا سوسن.
وشهقت المرأة ببكاء حار ,فاسرعت نحوها سوسن تحتضن جسدها المرتجف بقوة وهى تقول بصوت رؤوف:
-ماذا بكِ يا هناء ؟ أرجوكِ لا تثيرى فزعى ,ما الذى لا أعرفه ؟
-كريم ... أعتقد أنه لن يرغب برؤيتى ثانية ,وأخشى أنه ربما لن بعود مجددا الى البيت.
-كيف صار هذا ؟
كانت هناء تثق بها ثقة عمياء فاعترفت لها بكل ما دار بينها وبين كريم من حوار حتى وصلت الى النهاية.


***********

SHELL 12-11-18 06:10 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انضم رفيق الى زوجته وهى فى طريقها الى غرفة أمها ولم يأبه لاعتراضها الواهن قائلا بتبرير منطقى:
-أريد أن أتحدث مع عمتى , فلا تتدخلى أنتِ.
تصنعت الحزن وهى تكشر مقطبة جبينها بتعمّد أثار حفيظته وهى تقول:
-هكذا اذن ! عمتك !
فقال مؤنبا وهو يمسح عن وجهها آثار التقطيب بأصابعه القوية:
-ألم أخبرك من قبل ألا تفعلى هذا ؟ لا أريد أن أرى وجهك الا مبتسما .. فأنا لا أفضل النساء النكديات.
كان يمازحها بانفتاح شاعرا برغبة فى اثارة المرح وسط هذه الأجواء المشحونة بالتوتر جعلها تضحك مستعيدة البهجة المفقودة وهى تتأبط ذراعه بتملك قائلة:
-اذن هيا بنا سويا , فلنواجه أمى معا ,أعتقد أنها لن تستطيع الانفراد بك وأنا الى جانبك لأدافع عنك اذا ما اقتضى الأمر.
شاركها الضحك وهو يقول متذمرا:
-لم أكن أظن أن لصلة القربى وجها آخر غير حميد ... فأمك تعاملنى كند لها لا كابن أخيها الذى كانت تكن له المحبة سابقا.
-هذا فقط بعد أن صرت زوجا لابنتها ..
ابتسم وهو يقول بعاطفة صادقة:
-من أجل عينى ابنتها أنا على أتم استعداد لأن ألقى نفسى من فوق الشلال.
كان يغازلها بجرأة وأصابع يديه تتلاعب ببشرة ذراعها الحريرية فيما يضمها بعنفوان الى صدره وهما يتوجهان سويا لتقرير مصيريهما ...
طرقت أميرة على باب غرفة فريال قبل أن تدير مقبض الباب لتفاجئ أمها مبتسمة:
-ماما ... لقد جئت ومعى ... شخص يريد أن يحادثك بأمر ضرورى.
وانزاحت مبتعدة ليطل رفيق بقامته المديدة من ورائها وبعينيه تتراقص نظرات ماكرة فيما قال بحيوية واندفاع:
-هل تسمحين لى يا حماتى بالدخول ؟
-وهل تركتما لى فرصة للرفض ؟ ادخل أيها الخبيث , أما أنتِ فلى معكِ حساب خاص فيما بعد أيتها المتآمرة.
تعالت ضحكاتهما عاليا فيما انتقلت العدوى الى وجه فريال بفعل السحر فلم تتمالك نفسها من الابتسام وقد انهارت مقاومتها بلحظة واحدة وقد مدّت ذراعيها اليهما فى اشارة الى ترحيبها بقدومهما.


*************

SHELL 12-11-18 07:07 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
حدقت ببلاهة فى شاشة الهاتف الخلوى بعد أن استمعت الى الرسالة المسجلة ( الهاتف الذى طلبته غير متاح الآن ) ,للمرة العاشرة تحاول الاتصال به بدون أى فائدة ترجى ,لماذا تصاعد وجيب قلبها ليخبرها بأن أمر خاطئ يحدث ,ليس من عادته أبدا أن يغلق هاتفه الخاص ... ولا تدرِ لم شعرت بالقلق عليه فى هذه اللحظة بالذات ؟ أرادت فقط أن تطمئن عليه , أن تسمع صوته المتناغم يخترق أذنيها ليطربها ,بمجرد كلمة واحدة منه تسعد مثل طفل صغير يحتفل ليلة العيد بملابسه الجديدة ,قامت بالقاء الهاتف بحقد وهى تنفث جام غضبها عليه ,فالتقطته أصابع يد رجولية بمهارة بحسد عليها وهو يتساءل محتدا:
-لماذا ترمين بهاتفك يا هديل ؟
انتفض جسدها لا اراديا وقد تنبهت الى مراقبة أبيها الصارمة لكل سكنة وحركة منها وقالت تشير بيدها بلا مبالاة مصطنعة:
-لا شئ , لقد ألقيته فقط وكان سيسقط لا محالة على الأريكة الى جوارى ان لم تلتقطه يا أبى.
-لم أعهدك مهملة الى هذه الدرجة حتى تفسدى عدة باهظة الثمن كتلك بمثل طريقتك فى القائه.
غمغمت بشرود ذهن:
-آسفة يا بابا ,أنا أشعر ببعض التوتر.
-لماذا ؟ هل هناك مشكلة ما بالعمل ؟
أكان هذا هو كل ما يشغلها بالنسبة اليه ؟ فقط متاعب العمل هى ما تسبب الضيق ,هذا جائز ولكنها لا تجعلها فاقدة للشهية ولا تتركها فريسة للأرق والسهاد.
-كله تمام ,العمل يسير على أفضل ما يكون.
-وما أخبار مديرك ... كريم الشرقاوى ؟
شعرت الفتاة بالحيرة من فضول والدها الغير معتاد بخصوص عملها ومديرها ,فأخذت نفسا عميقا قبل أن تزفره ببطء وهى تتصنّع التثاؤب قائلة بلهجة ممطوطة بينما أصابعها فوق فمها تغطيه:
-هاااااه ,بخير ,أعتقد أننى سأخلد الى النوم ,هل تأمرنى بشئ يا أبى ؟
رفع صلاح حاجبه متعجبا وهو ينظر الى الساعة المعلقة على الجدار مقابل نظراتها المتفحصة بعناية لا تتلاءم مع احساس النعاس قائلا بهدوء:
-هكذا مبكرا يا هديل ؟
-لا أعرف يا أبى , ربما أصابنى ارهاق شديد اليوم ... كما أنه لدى يوم عمل طويل فى الغد ... ولا أريد أن أتأخر ..
نهضت تسير بخفة ورشاقة وهى تبحث عن خفيها بجوار الأريكة حتى دسّت قدميها الضئيلتين فيهما ومالت نحو والدها لتقبّل وجنته بحب ومودة قائلة:
-تصبح على خير يا بابا.
-وأنت من أهله يا حبيبتى ... نامى ملئ جفنيك ولا تشغلى بالك بالتفكير ...
أهذه رسالة خفيّة منه ؟ ربما صارت تتوهم الكثير من الأشياء بسبب حساسيتها المفرطة ,فقط مجرد اهتمام طبيعى من أب تجاه ابنته الوحيدة.
-حاضر.
قالتها ببساطة شديدة وهمّت بالانصراف ال أن والدها استطرد قائلا:
-هديل ,ألن تأخذى هاتفك معك ؟
-آه , صحيح كدت أنساه.
ومدت يدها تلتقطه من بين أصابع أبيها وقد شدد قبضته عليه لحظات قبل أن تتراخى سامحة لها أن تأخذه بسهولة ويسر ,وقال أخيرا:
-تنبهى جيدا لئلا تنسى أمورا أكثر أهمية يا بنيتى.
ورمقها بنظرة مقيّمة عميقة وبداخله يتلاعب الشك ... هل أخطأ بحق ابنته عندما صارح هناء بما يدور بينها وبين كريم ,كان يأمل أن تأتى اليه لتصارحه كما هى عادتها لا أن تخفى حيرتها بقوقعة من الصمت المطبق , ألا تفهم هذه الصغيرة أنه ملاذها الدائم والناصح الأمين لكافة تساؤلاتها ,فالأب هو الرجل الوحيد بحياة ابنته الذى يضحى من أجلها بدون انتظار لمقابل يجنيه.


*************

SHELL 12-11-18 07:22 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل السادس والعشرون


http://vb.shbab7.com/shbbab/1462088117_314.gif

SHELL 16-11-18 09:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل السابع والعشرون


https://i.skyrock.net/6946/51606946/...3_Qtoo1PQS.gif

هائما على وجهه يقود كريم سيارته على غير هدى بلا خطة محددة برأسه ,لا يدرِ أين سيذهب ؟ ولا يعرف أين سيبيت ليلته ؟ كل ما يتردد بذهنه الآن كيف يهرب من شلال ذكرياته المريرة الذى يتدفق بعنف بلا توقف ,لا تفارقه كلمات والدته تلازمه نظرات عينيها كظل ملاصق له ,أين المفر ؟
لم يخطر له ببال أن يكون صلاح عاشقا لأمه ومنذ صغرهما يرتبطان بعلاقة وثيقة ,والأنكى أنه كان صديقا لوالده الراحل ,وما زاد الطين بلة ... علاقته الحديثة العهد بابنته هديل ,الجيل الثانى ينضم الى قافلة الحب .. وأى حب هذا الذى يغلّفه البؤس والاحباط بشريط لاصق لا يسمح له بالتحرر من معقله ,أيعترف لنفسه بأنه قد انجذب لسكرتيرته اللطيفة التى كانت عيناه لا تلتفتان اليها الا لماما ,وسمح لغبائه أن يقوده الى الفخ سائرا مغمض العينين الى حتفه ,صرخ صوت بداخله مدافعا بقوة : وما ذنبها هى ؟
طبعا هى مذنبة هتف يكتم هذا الصوت المزعج ,هى تعرف من هو ؟ ولا بد أنها على علم بعلاقة الآباء حينما زقعت الحادثة لأمه ,بل ربما كانت تعرف منذ زمن أبعد وتخطّط بمهارة لنيل اهتمامه وربما تسعى لشئ أكبر ,ما أدراه بأنها بريئة النوايا ؟ كل الدلائل تشير الى ادانتها مع سبق الاصرار والترصد.
حاكمها بدون أن يترك لها خيار الدفاع عن نفسها أو حتى معرفة التهمة المنسوبة اليها ,وأصدر قراره الأخير ... لا بد وأن يدفع صلاح وابنته الثمن ... ثمن الخيانة والتآمر ... لن يشفى غليله الا بعد أن يحطمها الى أشلاء متناثرة ولن تأخذه بها أية شفقة أو رحمة ... ولكن عليه أن ينتظر قليلا ليستعيد شتات نفسه ويفكّر كيف ينتقم ممن أساءوا اليه والى والده على حد سواء .. وشملت أفكاره هذه الأم الغير مثالية .. كيف يعاقبها وهى من دمه ,كيف يحاسبها وفى حكمه عليها ادانة لسمعته ,ربما تأجل دورها لبعض الوقت ,ولكنه آتٍ لا محالة.


*******************

SHELL 16-11-18 09:21 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
أطلقت ريم نداءا بصوت منخفض لتفيق سماح من شرودها وهى جالسة فى المطبخ الفسيح تقشّر بعضا من حبات البطاطس لتعد حساءا خفيفا من أجل هناء المصابة ,فقامت ناهضة لترى القادمة وهى تقول مرحبة:
-أهلا يا آنسة ريم ,تفضلى.
-ما بك يا سماح ؟ ولمَ أنت حزينة هكذا ؟
-ألا ترين معى أنه ليس مكتوبا لأهل هذا البيت أن يفرحوا ؟ هل من المقدر عليهم فقط التعاسة ؟
-حبيبتى يا سماح , كل هذا من أجل اصابة تنت هناء ,لا تشغلى بالك فالطبيب أكّد لنا أن الأمر لن يطول باذن الله بعد اجراء الأشعة ومعرفة مدى الضرر الذى أصاب العظام ,ربما لن تحتاج الى اجراء العملية.
مصمصت الفتاة شفتيها بصورة مستفزة وهى تقول وكأنها خطيب مفوّه:
-ألا تعلمين ؟ لم يحدث هذا فقط للست هناء ,بل رأيت الأستاذ كريم وهو مندفع الى الخارج وكان ... يبدو على وجهه سيماء الغضب الشديد ,أما الأستاذ سيف ...
قاطعتها ريم مضجرة من حديثها الذى سوف يتحول فى لحظة الى غيبة ونميمة:
-سماح ,توقفى عن سرد الأحداث أمامى , فأنا لم آت الى هنا من أجل سماع الأقاويل ,واحذرى أن يعرف أحد بأنك تعلمين بما أخبرتنى به من قبل ,المهم الآن لقد أردت رؤيتك من أجل اصطحابك أنتِ وسعد لمقابلة الشخص المعنى بتسهيل الاجراءات من أجل حصولكما على الشقة.
تهللت أسارير الفتاة التى كانت مقطية الجبين تنعى سوء الطالع لأفراد العائلة التى تعمل فى خدمتهم ,وقالت منتشية بسعادة وحبور:
-أتتحدثين جديا يا آنسة ريم ؟ أشكرك ... أشكرك من كل قلبى , لن ننسى معروفك معنا أنا وسعد ,سنظل مدينين لكِ الى آخر العمر ,ولو ظللت طوال حياتى أدعو لكِ فلن أوفيكِ حقك ,كيف يمكننى أن أرد لكِ جميلك؟
ربتت ريم على كتف الفتاة السعيدة وهى تقول بصوت مهتز من أثر العاطفة التى تملكتها من جراء الشعور بالارتياح لأنها مدت يد العون لمن يحتاجها:
-اذا أردتِ حقا أن تشكريننى بعمل ما ,فعليكِ أنت وسعد أن تحافظا على حبكما وأن تسعدا بحياتكما.
انطلقت الفتاة مغردة بصوت جميل:
-افرح يا قلبى لك نصيب ...
ثم استطردت بمرح وهى تتعهد لريم قائلة بعد أن غزا الاحمرار وجنتيها:
-اذا ما رزقنا الله بفتاة .. أنا وسعد سوف نسميها على اسمك ( ريم ).
ابتسمت ريم متنهدة وهى تخاطبها بلهجة جدية:
-اذن لا تضيّعى وقتا واتصلى بسعد حتى يعد نفسه للقاء غدا ,هيا أسرعى يا كسول.
-تحت أمرك سيدتى.
وانحنت ممسكة بمريولها تبسطه فى حركة مسرحية وتناست أحزانها لتجرى اتصالها الهاتفى بحبيبها تبشره بالأخبار السارة.


*****************

SHELL 16-11-18 09:34 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لم يجد من يلجأ اليه بوحدته خاصة وبعد اعتراف أبيه الصادم بخطئه فى حق أمه طوال هذه المدة ... ظل يحاسبها بداخله على ذنب لم تقترفه يداها ,كانت مثالا للزوجة المخلصة الشريفة وهو نبذها كأم محبة وأذاقها الأمرين باحتقاره لها وابتعاده عنها ,, كان ابنا عاقا ,, ولكن هل يلتمس لنفسه الأعذار ؟ منذ ما يربو الى عشرين عاما ... وفى يوم صيفى حار كان يلهو بحديقة الفيلا مع أقرانه .. ثم شعر بالارهاق والتعب فقرر الصعود الى غرفته لينال قسطا من الراحة كأى طفل صغير يلجأ الى جناح والديه اذا ما استبد به الشوق الى أحضان أمه ,فوجئ بأن الجناح خاليا منهما فاعتلى الفراش الوثير المتسع والذى طالما كان يحلم بأن ينام فيه الى جوار أمه بيد أن والده كان دوما ينهره ليصرفه الى غرفته الخاصة بحجة أنه قد كبر ولا يصح أن ينام مع والدته ,كان فقط مجرد طفل فى التاسعة من عمره ,كان النعاس يداعب جفنيه وبمجرد سماعه لضجة آتية من باب الجناح بالخارج أدرك ورطته فهذا هو صوت أبيه واذا ما رآه فسوف تثار المشكلات التى لن تنتهى فهب من رقاده يبحث عن مكان يختبئ فيه فلم يجد نفسه الا وهو قابع تحت الفراش يكتم أنفاسه مع شعور غامر بالترقب والاثارة.
-ادخلى ,وايّاكِ وأن تحاولى اثارة الفضائح يا امرأة.
كان صوت والده الممتلئ قسوة وغضبا بينما اخترقت أذناه أنّة متأوهة تصدر بضعف من أمه التى قالت متضرعة:
-أرجوك ,فلتهدأ قليلا ,واترك ذراعى فأنت تؤلمنى .
-أؤلمك ؟ وهل رأيت ألما بعد ؟ ماذا سيحدث أكثر بعد أن ضبطتك مع هذا الفاسق اللعين , أتستغفليننى يا منى ؟
-أنا ... أنا ...
ترددت كثيرا وهى لا تعرف بمَ تبرر لزوجها وجودها بمكتب خطيبها السابق كمال ودون علمه ,فأخذ عادل يكرر مهددا وهو يلوى ذراعها بصورة أشد:
-هيا اعترفى بذنبك ... ربما يغفر الله لكِ خطيئتك ,ولكن عليكِ أن تعرفى أننى لا يمكن أن أسامحك أبدا ,ستتمنين الموت كثيرا قبل أن تدركى أن للعفو ثمنا باهظا لن تكون حياتك كافية تسديدا له.
وصفعها مرتين قبل أن يدفعها جانبا لترتطم بحافة السرير الخشبية فتصيح متألمة وهو يقول بصوت كالرعد:
-من حسن طالعك أن لكِ ابن أخاف عليه ولا أريد لحياته أن تنهار بسبب فعلتك الدنيئة.
قالت منى وقد استعادت بعضا من كبريائها الجريحة لتواجهه بضعف ملحوظ:
-اذن فلتطلقنى ... طلقنى يا عادل.
قهقه عادل هازئا وهو يقول بحقد:
-ولن أطلقك يا منى , هل تسمعيننى ؟ لن تنالى حريتك حتى تزحفى اليه مجددا ,كما أننى سأضطر الى تبرير سبب الطلاق الى عائلتى ,وبالطبع لن أكون فخورا باعلان خيانتك لى على الملأ , أيتها الخائنة ... ستنالى ما لا تستحقينه حقا من احترام فى هذا البيت ,ولكن أنا ... لن يكون لكِ أى وجود حقيقى فى حياتى.
وخرج صافقا الباب خلفه فيما جرت هى نحو الباب المغلق تضربه بكلتا يديها تنوح منهارة:
-ومنذ متى ولى وجود بحياتك ؟ لقد أخرجتنى منها منذ سنوات ... هل تسمعنى ؟ أنا زوجة بالاسم فقط.
وتكومت على الأرض تجهش ببكاء يمزق نياط قلب ابنها الا أنه برغم صغر سنه فقد فهم بادراكه العفوى أن أمه أتت بفعل مشين للغاية ,فقد تلفّظ والده بكلمة ( الخيانة ) وهى كلمة معيبة فى عرفهم ,سمعها عدة مرات عندما شاهد فيلما قديما بالأبيض والأسود وكان الرجل يضرب امرأة بقسوة وهو يردد هذه الكلمة مرارا حتى وقعت المرأة فاقدة للوعى.
تذكر سيف كيف ظل مستكينا بمكانه حتى انفتح الباب محدثا صوتا عاليا ليسمع صوت دقات كعب حذائها مبتعدة فى خطوات مترددة حتى شعر بنفسه حرا طليقا ليبتعد عن هذا المكان الكريه والذى شهد أسوأ موقف يمكن أن يراه طفل بعمر الزهور ليتهاوى على فراشه يتلمس احساسا مفقودا بالأمان وبرغم ازدياد درجة الحرارة ارتفاعا فقد مد يديه الصغيرتين نحو الغطاء الخفيف يبسطه على كامل جسده المرتجف خوفا وألما عله يهدئ من روعه ,وغفا بعد وقت طويل ,وحينما استيقظ من نومه لم يعد عالمه كما كان من قبل ,شعر بشرخ عميق فى نفسه ولم يلتئم الجرح من يومها.
تأهب للذهاب الى المكان الوحيد الذى طالما شهد أكثر أوقاتهم فرحا وترحا ,لم يذهبوا الى هناك منذ مدة طويلة ولا بد أن البيت الريفى غير مهيأ لاستقباله ولكن ما باليد حيلة لا يجد مكانا آخر يلجأ الى فى ضيقه ,عليه أن يقود بأقصى سرعة حتى يصل قبل أن ينتصف الليل فالطريق الداخلى الى العزبة غير ممهد ,كما أن الأجواء تنبئ بوجود شبورة كثيفة لن تزول الا مع أنفاس الصباح ...
واتصل بكريم للمرة التى لا يعرف عددها وقد جاءته نفس النتيجة , ما زال هاتفه مغلقا , ألقى بهاتفه الخاص على المقعد المجاور بحركة طائشة وقد تصاعد القلق بداخله : ترى أين أنت الآن يا كريم ؟


*****************

SHELL 16-11-18 09:35 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
كان محمد جالسا بغرفة المكتب متوسدا المقعد الجلدىّ خلفه وهو يتحدث بالهاتف الأرضىّ قائلا بلهجة جدية:
-لا يمكنك أن تخاطر الآن ,عليك أن تنتظر بعض الوقت ... فات الكثير وما تبقى الا القليل كما يقولون.
استمع لبرهة الى محدثه على الجانب الآخر ثم انعقد حاجبيه بشدة وهو يردد محذرا:
-أنا لا أتهرب منك أبدا ,ولكن كل ما فى الأمر أننا نمر بظروف صعبة هذه الايام ,وحتى رفيق مشغول للغاية بمسائل شخصية فليس فى وسعى مطالبته بالمزيد.
تطلع الى الهاتف بنفاد صبر وكأنه يلومه بدلا من محدثه ,ثم هزّ رأسه وهو يقول بصوت محايد:
-حسنا , اتفقنا , مجرد مهلة يومين لا أكثر , لا أريد لأحد أن يتضرر ... طبعا أنت محق ,مع السلامة.
وأغلق الهاتف وهو يطلق زفرة عميقة أودعها كافة همومه وأحزانه ,ما كان ينقصه هذا الا الآن ؟ ماذا ستكون ردة فعل ابنه على حديثه هذا ؟ وكيف سيطالبه بما يريد من الاساس ؟
وما هى الا دقائق حتى قطع عليه خلوته صوت زوجته الحنون التى دلفت الى الغرفة لترى زوجها دافنا لرأسه بين يديه وهو مستند بذراعيه الى المكتب :
-محمد ... ما لك ؟
-هه ؟ سوسن ؟ متى أتيتِ ؟
-حالا لقد طرقت الباب عدة مرات ولما لم أتلقّ اجابة منك ... قررد الدخول.
-لم أسمعك ... كنت شاردا.
توجهت نحوه وهى تقف وراء مقعده لتمسّد عضلات عنقه المرهقة بيدين شافيتين لهما تأثير السحر عليه ,وهى تقول باشفاق:
-لقد تأخرت بالمكتب فانتابنى القلق عليك ,ما بك يا حبيبى ؟ أخبرنى ما الذى يزعجك بهذا الشكل ؟
صاح عاليا وهو يتأوه:
-آآآآآآه يا سوسن , آآآآآه أننى متعب للغاية ,وبرأسى تضج آلاف الأفكار تتضارب وتتصارع فيما بينها ... أشعر بأننى بحاجة الى الراحة , راحة طويلة ابدية.
انتفضت زوجته وهى تقول مؤنبة بينما أصابعها ما زالت تقوم بعملها على أكمل وجه:
-بعد الشر عنك , أدامك الله لنا وأطال فى عمرك يا حبيبى.
ابتسم لها مترفقا بحالتها المنزعجة وهو يوضح شارحا:
-لم اقصد هذا المعنى , ألا تتمنين معى أن نستريح ؟ أن نذهب الى مكان بعيد أنا وأنتِ فقط لنتمتع بهذه الفترة المتبقية من حياتنا فى هدوء وسلام؟
قالت بمنطقية تجيدها:
-وكيف سنترك أولادنا ؟ ألا ترى معى أنهما بحاجة لنا ؟
أمسك بيديها فى قبضته الفولاذية ليطبع قبلات متعددة على أطراف أناملها وهو يقول مغازلا:
-وأنا بحاجة اليكِ يا حبيبتى ,لقد اشتقت لجلوسنا سويا نحتسى الشاى الساخن بالشرفة كالأيام الخوالى دون أن يقاطعنا أحد .. أليس كذلك ؟
ارتعشت سوسن تأثرا وهى تردد بصوت حالم:
-طبعا أتمنى من كل قلبى أن أتفرغ لك فقط ونقضى معا أحلى الأوقات كالسابق ,ولكن ما زال أمامنا واجبات تجاه رفيق وريم.
أجابها محمد وقد شدها الى حضنه بالرغم من اعتراضها وتمنعها وهو يقول دافنا وجهه فى صدرها:
-رفيق وقد تزوج واستقر ,فما ينقصه أما عن ريم فلا بد أن يأتيها نصيبها قريبا وتتزوج هى الأخرى فلا يعد لك أى حجة يا حبيبة القلب.
ابتسمت خجلة وهى تقول بعد أن أراحت خدها على رأسه:
-لا أدرى لمَ أشعر بالقلق نحو زيجة رفيق من أميرة ,فأختك لا يهنأ لها بالا الا اذا أزعجته بتعليق قاسٍ أو تصرف غير معقول.
ابتعد فجأة عن حضنها وهو يتأملها لثوانٍ قبل أن يكرر مردفا بعدم تصديق:
-فريال ! هل فعلت هذا ؟
-لن تصدق أيضا أنها دعتنى بزوجة أخى حينما كنا بانتظار الطبيب وهو يفحص هناء لنطمئن عليها.
استقام محمد بجلسته وهو يسألها باهتمام قلق:
-وما هى أخبار صحتها ؟ ماذا قال الطبيب ؟
ارتسمت معالم الضيق والحزن على محياها وهى تجيبه بعد أن سارت مبتعدة لتجلس على مقعد آخر مقابلا له من الجهة الأخرى من المكتب:
-طالب باجراء العديد من الأشعات قبل أن يتخذ قراره النهائى باجراء العملية من عدمه.
تأسف محمد لحال زوجة أخيه وهو يقول بأسى:
-مسكينة يا هناء , لا تفتأ تقع بحوادث غريبة .
استطردت سوسن بلهجة مريرة:
-وليس هذا فقط ... فكريم ... لقد تشاجر معها وترك المنزل منذ ساعات ولا يعرف أحد له طريقا.
-ماذا ؟
هب محمد على الفور هائجا وهو يصيح بانفعال:
-كيف يحدث كل هذا دون علمى ؟ لماذا لم تخبريننى مبكرا يا سوسن ؟
حاولت هى أن تهدئ من ثورته العارمة بصوتها اللطيف الحنون قائلة:
-لم أعرف الا منذ قليل , هى بنفسها أخبرتنى بخلافهما الحاد ورجتنى أن أفاتحك بهذا الشأن قبل فوات الأوان .
-ماذا تعنين ؟ أوضحى.
-سبب الخلاف بينهما .. شخصى للغاية ,وهى تخشى أنه ربما لن يرغب بالعودة مجددا الى المنزل.
-ألهذه الدرجة وصل الخلاف ؟ أيترك بيته من أجله ؟ وما هو هذا السبب الشخصى للغاية ... هيا يا سوسن لم أعد أحتمل أكثر.
-سأخبرك بكافة التفاصيل , فقط اجلس واسمعنى بهدوء ,,, وأتوسل اليك ألا تنفعل ,فالطبيب حذرك مرارا من ارتفاع ضغط دمك ,أرجوك.
تنهد محبطا وهو يجلس مضطرا بناءا على نصيحة زوجته وقال:
-ومن يمكنه العيش هنا ولا تصيبه أمراض الدنيا جمعاء ؟ تحدثى كلى آذان صاغية.
وبدأت سوسن تعيد على مسامعه كل كلمة وحرف تفوّهت بها هناء ,وفى كل لحظة يزداد ارتفاع حاجبيه تعجبا واندهاشا مما يقال.


*****************

SHELL 16-11-18 09:37 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
قال رفيق مخاطبا المرأتين اللتين تنصتان له باهتمام وترقب:
-ان شاء الله يعد أن نطمئن على صحة تنت هناء وتستقرالأحوال بعض الشئ ,سوف أحضر المأذون حتى نعقد القران الجديد ,ما رأيكما ؟
اتسعت ابتسامة أميرة وهى تناشده بعينين يملأهما الامتنان والسعادة فقالت لا تخفى سعادتها :
-أنه خبر جيد جدا بل أفضل خبر سمعته على الاطلاق منذ مدة طويلة , أليس كذلك يا أمى ؟
كشرت فريال قليلا حتى سقط قلب ابنتها فى قدميها وهى تنظر لها بتساؤل عميق فانفرجت أساريرها مرة واحدة وهى تقول منتشية بحب:
-طبعا أفضل خبر على الاطلاق ,فما ينقصنى سوى أن أراكما سعيدين تنعمان بالحب سويا وقلبى مرتاح لشرعية وقانونية هذه الزيجة.
صفقت ابنتها بجذل وهى تصيح مرددة:
-تعيش ماما , تعيش ماما ...
وأحاطهما رفيق بذراعيه معا وهو يضمهما الى أحضانه الدافئة ليقول بلين مقلدا زوجته:
-تعيش حماتى , أقصد تعيش ... عمتى ,تعيش ...
ثم انفجر ضاحكا عندما لكزته أميرة برفق فى خاصرته بينما فريال تبتسم ملء فيها كما لم تشعر من قبل بهذه السعادة العارمة ونسيت كافة مرارات السنين وعذابها المهين ... لم تعد تهتم سوى بهذين الزوجين المتلاءمين الى حد بعيد وهى ترمقهما بنظرات العطف والحنان فيما استأذن منها رفيق وهو يقول محاذرا اغضابها من جديد:
-يا عمتى , سوف أصطحب زوجتى معى ,, اذا لم يكن لديك مانعا طبعا ... تصبحين على خير.
قالت فريال وهى تعتمد محاولتها الأخيرة قبل أن تعلن استسلامها التام:
-أأنت مطمئن لما تفعله قبل عقد القران ؟ أعنى أنت متأكد من أنه لا توجد شبهة حرام بـ ...
قاطعها رفيق حتى لا تتأذى أميرة من تساؤلها الحائر وهو يقول متيقنا :
-قطعا لا توجد أدنى شبهة حرام فى زواجنا , فهو فعلى الآن , كل ما ينقصنا هو توثيقه من جديد ,لا تقلقى لم أكن لأغفل عن أمر كهذا ... ولا أجرؤ على الحاق الأذى بحبيبة قلبى وروحى أميرة عمرى.
وقبّل أرنبة أنفها مداعبا حتى زحف الاحمرار يغزو وجهها وهى تشاهد أمها مرتاحة قانعة البال بما اتخذاه من قرار بشأن حياتهما سويا فتنهدت فريال أخيرا وهى تشير بيدها استسلاما قائلة:
-حسنا فلتذهبا ...
واستطردت بينما تؤشر بسبابتها بتحذير واضح:
-هيا ... قبل أن أغيّر رأيى.
أمسك رفيق بمرفق زوجته وهو يدفعها أمامه بقوة حائلا بجسده بينها وبين أمها قائلا باندفاع:
-هيا يا حبيبتى قبل أن تستعيد قدرتها على المجادلة ,وحينها لن يغمض لنا جفن قبل شروق الشمس.
قالت أميرة بسرعة:
-ماما تصبحين على خير.
-تصبحان على خير أنتما أيضا.
لأول مرة تشملهما معا بردها فى اشارة واضحة نحو تغير مجرى الأحداث نحو الاستقرار بينهما بعد حرب ضروس كاد فتيلها ان يشتعل بينها وبين زوج ابنتها.


**********************

SHELL 16-11-18 09:38 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
جلس الصديقان خالد وجاسر بمنزل الأخير يتسامران سويا وقد انتهزا فرصة أن يوم الغد هو اجازة رسمية من العمل فطفقا يسهران دون أن يحسبا حسابا لانقضاء الوقت متسربا ,وكان خالد ممددا على فراش جاسر الصغير والذى بالكاد يكفى لفرد واحد بينما جلس الأخير على المقعد الدوار أمام شاشة الكمبيوتر ينهى بعض الأعمال المتراكمة حتى قاطعه صوت خالد معترضا:
-ماذا تفعل يا جاسر حتى هذا الوقت ؟ كفى يا رجل بالله عليك.
أجابه جاسر بلهجة رادعة وأصابع يديه تجرى فوق لوحة المفاتيح بسرعة خيالية:
-لن أتركه قبل أن أنهي ما بدأته ,فأنا لا أترك عملا بمنتصفه.
شخر خالد ساخرا:
-ألا تمل من الأعمال ؟ ثم أخبرنى .. الام وصلت بموضوع ريم ؟
ضاقت عيناه فوق شاشة الجهاز وهو يستمع الى اسمها منطلقا من بين شفتى صديقه الودود فشعر بغيظ عارم يجتاح كافة جوارحه ,لم يتخيل مطلقا أنه سيتضايق يوما اذا ما تفوّه باسمها رجل غيره وتساءل بداخله :هل وصل الى هذا الحد من العشق ؟ أنه يغار عليها من مجرد ذكر اسمها على لسان صديقه ... كان اعترافا حارقا كالحمض يلسع جوفه ,ثم تظتهر بالتشاغل عن الاجابة الا أن خالد لم يقنط فأعاد السؤال كرة أخرى بصورة مغايرة:
-أليس من الأفضل لكليكما لو أوضحت لريم الحقيقة أنت بدلا من أن تصطدم بها فى المستقبل ؟
تنهد جاسر وهو يضع آخر لمساته مغلقا للجهاز وهو يقول محنقا:
-أعتقد أنه من الأفضل لك أن تضع لسانك داخل فمك ولا تنطق باسمها مجددا , كما اتمنى ألا تتدخل فى هذا الأمر فهو ليس من شؤونك الخاصة.
قهقه خالد ساخرا وهو يستفزه بقوة:
-يبدو أنك قد وقعت يا صاحبى ,وقعت وبشدة هذه المرة فلا منقذ لك يا ويلك يا مسكين ,أننى أشفق عليك.
وقبل أن يتم جملته كان جاسر يلكمه فى فكه ليخرسه بممازحة متعارف عليها فيما بينهما وقد نجح خالد فى أن يتفادى الاصطدام بقبضته المندفعة وقال مستطردا:
-اسمع ... أنا فقط أنصحك كصديق مخلص .. لا تخفِ عمن تحب أية اسرار قد تسبب لكما مشكلة فيما بعد.
قال جاسر مقلدا للهجة صديقه:
-وهل فعلت أنت بالمثل مع ليلى ؟ ألم تخبرها بعلاقتك السابقة بمها؟
أشاح خالد بوجهه جانبا قبل أن يقول بتردد:
-كلا ,لم أخبرها بعد , أننى أنتظر الفرصة المناسبة لأفاتحها بالأمر وان كنت أظن أن هذا الموضوع تافه لا يستحق على الاطلاق.
اشار جاسر بأصبعه نافيا أمام وجه صديقه وهو يحدثه بلهجة الناصح الأمين:
-لا يوجد شئ بالحب اسمه تافه ,كل صغيرة وكبيرة لها اثر بالغ على علاقتكما.
-وماذا ستفعل أنت بخصوص ريم ... عفوا أقصد الفتاة التى لا أجرؤ على نطق اسمها .
سكت جاسر وبدت على وجهه دلائل التفكير العميق بينما ارتسمت الحيرة واضحة فى عينيه وهو يقول متمتما:
-الأمر هنا يختلف عنك ,اذا أخبرتها الآن فسوف أفسد الأمر كليا.
-وان لم تخبرها ... سوف تصاب بصدمة قوية.
-مع مرور الوقت يصبح الأمر أكثر سهولة ,وحينها لن تتألم كما سيحدث الآن بلا شك اذا واجهتها باعترافى.
-ربما عليك اعادة النظر فيما تفعل ,فهى لا تستحق منك هذه المعاملة.
-أعرف يا صديقى , أتظن أننى سعيد بما أفعل ؟ كلا ,فأنا مجبر على المضى قدما فى هذا الطريق الملئ بالأشواك ,حتى نستطيع أن ننعم فيما بعد برائحة الورد.
ثم استطرد قائلا بخفة:
-صحيح ماذا ستفعل بخصوص طلبات خالتى المتواضعة فيما يتعلق بالمهر والشبكة وخلافه ؟
-لا أعرف , العبد فى التفكير والرب فى التدبير ,ان شاء الله نجد حلا وسطيا يرضى جميع الأطراف وخاصة خالتك هذه ستصبح حماة رهيبة بجدارة ,
صحك جاسر وهو يقول مؤكدا:
-كان الله بعونك , أنا نفسى لا أجرؤ على مجادلتها ولا أقوَ على رفض طلب لها , أنها تقيم الدنيا ولا تقعدها لأتفه الاسباب وهى مشهورة بلقب ( الاعصار المدمر ) ,وخذها منى نصيحة حتى لا تقع فى مصيدة الخطأ .. لا تحاول الاحتماء بحماك ,فزوج خالتى رجل مسالم لا يحب الوقوف بوجه العاصفة .
وتشاركا الضحكات مجلجلة بينما الساعة تدق معلنة انتصاف الليل يشق صوت بندولها الرنّان قاطعا السكون.


******************

SHELL 16-11-18 09:39 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
قررت مها أن تتعامل بصورة طبيعية فى حياتها متجاهلة الموقف الصاخب الذى جمعها بسيف الشرقاوى ,وحمدت الله فى سرها أنه لولا وصول هديل بالوقت المناسب لتنقذها من أية حماقة قد تقدم عليها ولربما حدث ما لا يحمد عقباه ,رغم أنه قد تصرف بشكل مهذب لائق دون أن تصدر منه أية اشارة خارجة عن حدود الذوق واللياقة بعد أن استعادت وعيها ,لقد مد لها يد العون دون أن تطلبها منه ولأول مرة تتذوق هذا الشعور بالأمان حتى ولو كان مؤقتا مرهونا بحالتها الصحية التى تدهورت فأشعرته بالشفقة أو العطف عليها ,بقد شعرت بأنها ليست وحيدة كالعادة فى هذه الحياة رغم أن المساعدة قد جاءت من معسكر العدو ,يفترض بها أن تشعر نحوه بالكراهية والحقد الا أن قلبها الخائن أصبح يتصرف على هواه , لقد تعلّقت به على الرغم منها ودون ارادتها ,ولكنها مجرد أوهام زائلة سرعان ما تفيق من سباتها العميق لتجد نفسها واقفة بذات النقطة التى توقفت لديها من قبل ,ما زالت تسعى نحو الانتقام وان كانت بدأت تعيد النظر فيمن تنتقم منه ,كما أنه لا يعقل أن يفكر يها شخص فى مثل مركزه ووضعه الاجتماعى علاوة على قسوته وصلابته وقوة شخصيته التى لن تتوافق مع رقة حالها ووضاعة مركزها نسبة الى عائلته الثرية ذات المستوى الرفيع ,أنها مجرد سكرتيرة ... نعم هى الحقيقة لن تغمض عينيها عنها حتى تبتلعها دوامة الأحلام المستحيلة فتفيق على صفعة اقوى من القدر المكتوب لها ,وماذا عن مشاعره هو ؟ هل يشعر نحوها بشئ أكثر من الاحتقار ,هو يريد اذلالها فقط حتى تعرف حجمها الحقيقى ,وما كان غرضه من اصطحابها الى منزلها , بالتأكيد لم يكن ليهتم بمظهرها وقلة حيلتها كما ادّعى , وجدت أفكارها تتجه بشكل تلقائى لتعقد مقارنة ظالمة بكل المعايير بين معذبها وحبها الأول ,لم تفهم لمَ يميل قلبها الى الرجل المتسلط المستبد الذى يتفنن فى اهانتها كلما حانت له الفرصة ولمَ بدت شخصية خالد مجرد نسخة باهتة غير محددة المعالم الى جانب صورته الطاغية ,لن تنكر حسن أخلاقه ولا لطفه وكرمه بيد أنها لا تتذكر كيف كانت تهفو نفسها اليه ذات يوم ما ,تراءت لها صورة الرجل الحديدى بارادته التى لا تنكسر فتطغى على جميع الذكريات الأخرى لتمحوها بجرة قلم وهى تسطر من جديد عنوانا مختلفا حمل توقيعه بتوحش بالغ .
شعرت برجفة تسرى فى بدنها وهى تتذكر رفيق مديرها المباشر وهو يجبرها على الحصول على اجازة لمدة ثلاثة أيام فرضت عليها فرضا دون الالتفات لاعتراضها فهو شخص اعتاد ان يؤمر فيطاع بلا جدال أو نقاش فقد أخرسها باشارة من يديه بمعنى انتهاء وقتها المسموح به ,هل لمح بعينيه الثاقبتين رؤية حالتها الصحية المتدهورة أم لاحظ الهزال الذى اصاب جسدها الضعيف ,ومنذ متى وهو يهتم الى هذه الدرجة بها ,أنه شخص عادل ومحايد فيما يتعلق بشؤون موظفيه لا يميز أحدا دون سبب واضح ,كما أنه لا يقبل بأدنى لمحة من التقصير فيما يخص العمل ,ولكن هل هى أخطات بشئ ما ؟ على كل حال هى لم تتمتع بأى لحظة من هذه الاجازة الاجبارية التى قضت معظمها بمحاولة التكهن بالأسباب الخفية وراء قراراه الآمر هذا , كما أن حدسها ينبئها بأن ثمة أمر خاطئ فيما يجرى لها ,فيا ترى ما الذى ينتظرها هناك فى شركة الشرقاوى ؟ لقد سعت نحو عرين الأسد بقدميها ..... فلتتحمل زئيره.

*****************

SHELL 16-11-18 09:53 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل السابع والعشرون

https://upload.3dlat.com/uploads/135747359520.gif

SHELL 18-11-18 12:43 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثامن والعشرون

http://faylyukle.com/sh/narxozfoto/a...cb51_L.jpg.gif


حينما وصل سيف الى مدخل البيت الريفى الذى تمتلكه العائلة باحدى محافظات الوجه البحرى توقف بسيارته على مقربة من بوابته الضخمة بعد أن أطلق نفيرا عاليا فانتبه الحارس اليه فقام متوجها ليفتح البوابة الحديدية على وجه السرعة وانطلق يدقق النظر فى القادم بهذه الساعة حتى تبيّن ملامح السائق فألقى عليه التحية قائلا:
-سيدى سيف بك , أهلا وسهلا ... تفضل.
وهرول يجرى وراء السيارة التى صفّها صاحبها بجوار أخرى تشبهها فى اللون وان اختلفت فى الطراز ... سيارة يعرفها جيدا ,وحمد الله على نعمه فقد جمعه بابن عمه الذى كان فاقدا لكل أمل فى أن يجده.
-حمدا لله على السلامة ... لقد سبقك كريم بك وهو بالداخل.
هتف الحارس متبرعا بالاجابة دونما سؤال فهز سيف رأسه وهو يقول واثقا:
-أعرف يا على ... هلم بنا الى الداخل.
كانت درجة الحرارة تزداد انخفاضا كما أن الشبورة قد تكاثفت بسرعة لتجعل الرؤية شبه مستحيلة فأسرعا الى داخل المنزل ,وأكمل الحارس على سرد روايته وكأنه لم ينتبه لضيق سيده الواضح من ثرثرته العقيمة:
-لقد أتى كريم بك منذ ساعة واحدة وقد جلس مع الضيف الذى تفاجأ بوجوده ,والبنت سعدية قامت تعد لهما العشاء فهل أسرع فى طلبها من أجل تحضير وجبة ساخنة لأجلك ؟
قطب سيف جبينه متسائلا عن هوية هذا الضيف الموجود بالمنزل , فعلى حد علمه أن البيت خاليا من أى اشخاص سوى سعدية وزوجها على اللذين يبقيان هنا للاعتناء بالمنزل وحراسته ,وكاد أن يبوح باستفساره على الحارس الشغوف بالأخبار الا أنه كتم فضوله حتى لا يبدو بمظهر الشخص الجاهل أمام من يخدمهم وقال يسكته عن المزيد من الحديث:
-لا داعٍ لأن تبعث فى طلبها مرة اخرى فأنا لست جائعا ويمكنك أنت أن تعد لى كوبا من الشاى ,هذا فقط كل ما أحتاجه فى الوقت الحالى.
قال الحارس بخضوع:
-أمرك يا سيف بك ,خلال ثوانٍ معدودة وبكون لديك أفضل كوب شاى على الاطلاق.
كانا يتقدمان من المنزل وهما يتحدثان ,فتوقف سيف بغتة وهو يحذره بنعومة:
-ولا تجعل الشاى ثقيلا كعادتك والسكر ...
قاطعه على متلهفا الى ارضائه:
-السكر باناء خارجى , أعرف طلبك جيدا يا بك .
-ممتاز , لقد أصبحت سريع التعلم يا على منذ آخر مرة رأيتك فيها.
ضحك الحارس بخشونته المعتادة:
-يااااه يا سيف بك , لقد مضت سنوات منذ آخر مرة جئتم فيها الى هنا , أيام جدك عبد العظيم بك رحمه الله وغفر له ,,, كان رجلا عظيما بحق.
وتهدج صوته برعشة وقد أدرك سيف أن هذا الرجل كان يحب جده حقا فقد استطرد على متحسرا:
-كان رجلا ولا كل الرجال , لقد افتقدناه ..
بينما توجه ليفتح الباب الخشبى الكبير بمفتاح أخرجه من جيب جلبابه الواسع ,وهو يكمل رثائه لسيده الراحل:
-ولكن البركة أيضا فى السيد عبد الله ... أنه ..
قطع عليه استرساله فى حديثه دخولهما الى البهو المتسع بمدخل البيت ,وقد توقف الرجلان الجالسان قبالتهما عن الحديث حينما لمحا القادمين فنهض احدهما مسرعا نحو سيف ليحتضنه وهو يعتصر خاصرته بقوة هاتفا:
-سيف ... ما هذه المصادفة السعيدة ...
فربت الأخير على ظهره بكفه وهو يقول معاتبا:
-يا رجل ... لقد اقلقتنا جميعا عليك , فهاتفك مغلق منذ الصباح ... ماذا حدث ؟
-لا تشغل بالك الآن ,وتعال أعرفك الى شخص هام جدا ...
-من يكون ؟
-سوف تعرف !
وانصرف الحارس ليعد لسيده كوبا من الشاى كما أمره بالضبط.


*************

SHELL 18-11-18 12:46 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انبلج الصبح مشرقا على فيلا الشرقاوى بعد ليلة مضنية طويلة تركت آثارها الدامغة على الوجوه التى يظهر عليها علامات القلق والأرق ,فحتى سماح لم يغمض لها جفن طوال الليل ,مضت تفكر بترقب فيما سيحدث اليوم وقد طال انتظارها هى وسعد حتى يصلا لهذه اللحظة الفاصلة فى حياتهما ,فهل يتحقق الحلم أخيرا وتجتمع مع حبيبها تحت ظل عش صغير آمن يربطهما وثاق الزواج المقدس القائم على الحب والتعاون بينهما ,هى واثقة تماما لقدرة ريم على تنفيذ وعودها التى لم تخلفها مرة واحدة من قبل ,حينما كانت تستحى أن تطلب اجازة من أصحاب المنزل كانت هى الوحيدة التى تفهمها من نظرة عينيها بدون أن تتحدث ولم تتردد يوما فى مساندتها فتقوم هى بالمبادرة حتى تنال ما تريده ,وهى ممتنة لتصرفها الشهم هذه المرة الى أقصى درجة.
ما أن رأت ريم تهبط الدرج وهى ترتدى أبهى ثيابها وتظهر بطلة ساحرة للغاية حتى صدرت عنها شهقة اعجاب لم تملك كتمانها ,واقتربت منها بعد أن ألقت تحية الصباح عليها:
-صباح الخير يا آنسة ريم ,ما هذا الجمال وهذه الروعة , ما شاء الله ,حتى لا تأخذك الظنون الى أننى أحسد ...
تبسمت ريم بسعادة وهى تقول متلاعبة بحاجبيها:
-صباح النور يا سماح , وأنت أيضا أرى أنك على أتم استعداد , أكل هذا من أجل سعد ؟
انتشرت حمرة الخجل على وجه الفتاة الأقصر طولا وهى تقول بحياء:
-لا تخجليننى يا آنسة ريم , أنا لم أرتدِ شيئا مناسبا منذ فترة فأنتِ تعرفين أننى نادرا ما أخرج فى نزهة ... وقد انتهزت هذه الفرصة لـ ...
قاطعتها ريم مبتهجة بهذه الفتاة المحبة:
-لتظهر لسعد أنك فتاة رائعة وأنيقة , وما الداعى اذن لخجلك , ألستما فى حكم المخطوبين ؟
أومأت سماح برأسها ايجابا وقالت مؤكدة حتى لا تظن بها ريم شيئا سيئا:
-لقد قرأنا الفاتحة من قبل , وقد أتى هو ووالدته لمقابلة أمى واخوتى وتم التعارف ... ولكننا لم نشترى خاتم الخطبة بعد ... أنتِ تعرفين الظروف ؟
طمأنتها ريم بلهجة حاسمة:
-لا تشغلى بالك ... فقط لننتظر ماذا سيجرى اليوم ,وسوف نتدبر أمورنا فيما بعد.
صيغة الجمع التى تحدثت بها أثّرت فى نفس الفتاة الواقفة الى جوارها وقد شعرت باحساس بالعرفان نحوها فهى قد وضعت قضيتها الشخصية نصب عينيها ولم تدخر جهدا ولا وقتا لمساعدتهما ,فدفعها هذا الشعور لتحيط ريم من خصرها محتضنة اياها بعفوية خالصة .
قاطعهما صوت رنين جرس الباب فأسرعت سماح لتفتح الباب وقد أطل من ورائه وجه أسمر متردد تحفظ ملامحه جيدا بل وتعشقها فأفسحت له مجالا للدخول وهو يقول بتهذيب بالغ:
-السلام عليكم ورحمة الله .
أجابته الفتاتان بصوت واحد :
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فيما اندفعت ريم نحوهما قائلة بعجلة:
-هيا بنا , فلا وقت لنضيعه أكثر من هذا.
كان حماسها غير عاديا للقاء جاسر الا أن سماح ترددت برهة وهى تشير نحو الأعلى بمغزى:
-آنسة ريم ... انتظرى ... وكيف سأتغيب عن العمل اليوم ؟
ربتت ريم على كتفها مطمئنة اياها وهى تقول بصوت عادى:
-لا تشغلى بالك , لقد أخذت لكِ اذنا بالتغيب ساعتين كاملتين , ولا أعتقد أن مشوارنا سيستغرق كل هذا الوقت ...
نظرت لها بامتنان واضح وهى تدعو لها من قلبها:
-ربنا ييسر لك كل أمورك ويفرح قلبك مثلما تدخلين البهجة والسرور لكل من حولك.
-هيا فعم (رياض) ينتظرنا بالخارج ...
واندهشت سماح فهذه هى المرة الأولى التى تركب فيها سيارة فاخرة من أحدث طراز وقالت فى نفسها : فلأتدلل لمرة بحياتى ,ونظرت الى سعد بهيام وقد بادلها النظرات بافتتان ظاهر مما جعل ريم تمازحهما قائلة :
-هيا يا سعد فلتصعد الى المقعد الأمامى , وانا وسماح سنكون سويا بالخلف ... صباح الخير يا عم ( رياض ).
تهلل وجه السائق الأشيب الرأس والذى بدا عليه سيماء الوقار فى بذلته الرسمية وهو يقول بمرح:
-صباح الياسمين والفل والنرجس لأحلى زهرة فى الوجود كله.
ابتسمت له بمحبة فهذا الرجل فى خدمتهم منذ سنوات طويلة ربما قبل أن تولد هى وقد كان يدللهم كثيرا فى طفولتهم ولم يكن جدها يعامله كأى عامل لديهم بل كان يوده ويحدثه باحترام بالغ فانتقلت اليهم هذه العدوى حتى يظن من يراهم أنه فرد من العائلة ,وارتقت برشاقة حتى استقرت بالمقعد الخلفى وبجانبها سماح المذهولة بعينيها المفتوحتين بانبهار وفمها الذى لم تغلقه فصار شكلها مثارا للضحك حتى نبهتها ريم يصوت منخفض:
-سماح ...
أفاقت الفتاة وكأنها فى حلم لا تريد أن تستيقظ منه قائلة ببلاهة:
-هاه .. هل وصلنا ؟
ضربت ريم كفا بآخر وهى تحوقل:
-استيقظى يا فتاة ... لم نتحرك الا منذ دقائق قليلة فكيف سنصل بمثل هذه السرعة ؟ أين ذهب عقلك ؟
ألجمت سماح عن الرد فهى محقة بكلامها أنها تتصرف بغباء واضح والتزمت الصمت حتى وصلا الى بناية أنيقة وقامت ريم باعطاء السائق تعليماتها بانتظارهم حتى ينتهوا من مشوارهم.
انطلقت ريم تسير باعتدال يتبعها سعد وسماح حتى وصلوا الى طابق به مكتب للتسويق الxxxxى فدلفت ريم أولا للداخل وهى تبحث بعينيها عمن تسأله حتى اصطدمت بفتاة حسناء ذات قوام رشيق فاعتذرت هذه منها بلباقة ثم بادرتها بالاستفسار عما ترغب:
-آسفة لم أنتبه , عم تبحثين ؟
أجابتها ريم بحيوية:
-مكتب السيد جاسر ... لدينا موعد معه.
تابعتها بنظراتها المتأملة من رأسها حتى أخمص قدميها بصورة استفزت ريم الى أقصى الحدود فمن هى هذه الفتاة حتى تتصؤرف هكذا , لا بد أنها مجرد عاملة هنا أو سكرتيرة ,فعاجلتها بنبرة واثقة :
-هل يمكنك أن تدليننى على مكانه ؟
وقبل أن تجد ليلى ردا مناسبا على سؤالها , وجدت جاسر يسرع للقائها وهو فى قمة حماسه لرؤيتها وقال مرحبا دون أن ينتبه للثنائى خلفها :
-مرحبا ... كيف حالك يا ريم ؟ متى جئتِ ؟
شعر بخفقات قلبه تدق متسارعة داخل ضلوعه مطالبة بالتحرر وهو مبهور بطلتها الملائكية الساحرة ولاحظ زينتها الهادئة ببعض لمسات جديدة عليها وتساءل بداخله وكله أمل : هل قامت بهذا من أجله هو فقط ؟ أم أنه هذا هو روتينها العادى ؟
أما هى فقد أسعدتها لهفته الواضحة وبردت من نيران غضبها على تلك الواقفة مسمرة أمامها تقيّمها بنظراتها المتكبرة .. ثم أجابته بطريقة مغايرة لطبيعتها الدافئة المحبة:
-جئت منذ عشرة دقائق .. وسألت عنك ولكن يبدو على الآنسة أنها مهتمة أكثر بالتمعن فى وجهى أكثر من اهتمامها بعملها.
قالت ليلى بتلقائية:
-من هذه يا جاسر ؟
تأففت ريم من طريقتها العفوية فى التلفظ باسمه وسؤالها الأكثر استفزازا وكأن لديها الحق لاستجوابه ,ولماذا ينظر لها جاسر بصورة حميمية وكأنها تعنى له شيئا مميزا فلا بد أن ما تجمعهما هى أواصر الزمالة فقط ...
أجابها جاسر بحيادية وهو يشير بذراعه لريم حتى تتقدمه وهو متعجب من عدائيتها المفاجئة:
-أنها الآنسة ريم ... وقد جاءت من أجل انهاء بعض الاجراءات المتعلقة بالعمل ,ليلى .. لو سمحتى أبلغى العامل ليحضر لنا القهوة فى المكتب.
رفعت ليلى حاجبا وهى متذمرة من الطريقة التى صرفها بها ولكنها قالت بطريقة عادية:
-حاضر.
سار الركب حتى وصلوا الى غرفة أنيقة بالغة الاتساع تدل على أنها الغرفة الرئيسية بالمكتب فواصل جاسر ترحيبه الحافل بهم مشيرا لهم بالجلوس فى الجزء الملحق بالغرفة والذى كان مفروشا باثاث جلدى فاخر بينما اتخذ لنفسه مجلسا مقابلا لهم ومجاورا لريم وابتدرهم بقوله:
-نورتوا المكتب كله ...
وتوجه بالحديث نحو الشاب المطرق برأسه أرضا وهو يقول فاتحا مجالا للحوار بشكل عفوى بعد أن رحب بشريكته الخجول:
-مرحبا آنسة سماح .. كيف حالك يا سعد ؟
هزت سماح برأسها وهى تتطلع نحو ريم بنظرات ذات مغزى أما يعد فاتسعت ابتسامته الفطرية الجذابة وهو يرد على سؤاله:
-بخير والحمد لله , سعيد لتعرفى اليك يا سيدى.
فى ذات اللحظة دلف فتى البوفيه حاملا صينية عليها فناجين القهوة الساخنة ذات الرائحة المنعشة بالبهارات والتوابل الفواحة ,ووضعها على المنضدة الزجاجية القريبة منهم فقام جاسر واقفا ليأخذ فنجانا ويقدمه لريم فى لمحة رقيقة وهو ينظر مباشرة الى عينيها الكحيلتين بلون أسود وهو يقول هامسا:
-تفضلى قهوتك يا ريم , أعرف أنك تفضلينها ساخنة لترتشفى أول قطرة من رغوتها.
مدت يدها لتمسك بالفنجان الخزفى ,فالتقط بادراك ارتجافة أصابعها النحيلة وهى تتمسك بالفنجان حتى لا يسقط من بين يديها وهو ما زال يوجه لها نظرات راسخة تنم عن مشاعر جلية لا تخفى على أحد ومنحها أجمل ابتسامة خاصة قبل أن يعتدل جالسا مرة أخرى وهو يقول بأدب:
-تفضلا ... ماذا كنا نقول ؟
أجابه سعد بلهفة:
-كنت أخبرك بأننى قد تشرفت بمعرفتك ..
-وأنا أيضا سعيد بالتعرف اليك , ريم حدثتنى كثيرا عنكما فهى مهتمة للغاية بأن تصلا لغايتكما وبأسرع وقت , يبدو أنكما متعجلان , أليس كذلك ؟
التهبت وجنتا سماح بعد تلميحه الى لهفتهما لاتمام الزواج وتقبل سعد قوله كأمر غير قابل للنقاش وهو يؤكد مصرحا:
-نعم يا سيدى , فالمرء لا يجد كل يوم من يرتاح لها قلبه ويشعر بالسعادة لأجل أن تشاركه حياته بحلوها ومرها ,,, وأنا وسماح عشرة سنوات لسنا مجرد معرفة سطحية ...
كان سعد يتحدث بحرية على سجيته غير واعيا لما انطلق على لسانه من كلمات تصف بدقة طبيعة علاقة جاسر بريم التى شرقت حينما ارتشفت جرعة كبيرة من قهوتها المرة ,فأخذت تسعل بقوة علها تجلى بلعومها فأسرعت سماح تربت على ظهرها برفق عدة مرات فيما عبس جاسر متضايقا وقام ليناولها كوبا من الماء قائلا بحزن:
-سلامتك .. ارتشفى جرعة كافية من الماء سوف تهدئ من نوبة السعال.
أجابته باقتضاب:
-شكرا ... أنا بخير ,فقط لم أحسب أنها ما زالت ساخنة لهذه الدرجة ,عذرا ... فلنبدأ بالمهم ...سعد , هل تفضلت باعطاء السيد جاسر كافة الأوراق المطلوبة ؟
قطب جاسر حاجبيه غير راضيا عن لهجتها الرسمية فى مخاطبته كما لم يرق له انهائها لهذا الحديث الودى وكأنها قد ضجرت وتريد المغادرة أما هى فاستطردت :
-أرى أنك مشغول للغاية ولا نريد أن نعطلك عن عملك ,فكما يبدو لى أنك بمركز أرفع مما توقعت ... أليس كذلك ؟
هل كان فى صوتها رنة اتهام له ؟
بينما أجالت هى البصر فى أنحاء المكان وقد توقفت عند المكتب الكبير واللائحة المعدنية التى تزين مقدمته وكتب عليها بخط عريض ( المدير )
فقام جاسر بالشرح دون أن يرف له جفن قائلا بتواضع:
-هذه هى غرفة مالك المكتب ... السيد فهمى ... وأنا هنا أنوب عنه لفترة من الوقت حيث أنه مسافر ...
-اذن أصبحت نائبا للمدير ؟
-مؤقتا .. الى حين عودته , والآن فلنعد لحديثنا الهام ... سعد أعطنى أوراقك.
نهض سعد وهو يحمل معه مظروفا مقوى يحمل بداخله الكثير من الأوراق وناولها لجاسر باجلال فقال الأخير بجدية بعد أن اطلع عليها:
-يبدو أنك لم تنسَ شيئا ...
ابتسم سعد مجاملا وهو يرنو بنظره نحو ريم قائلا بامتنان:
-البركة فى الآنسة ريم ... هى من أخبرتنى بكافة البيانات المطلوبة ... أكثر الله من أمثالها.
نقل جاسر نظره بينهما واستقر أخيرا على ملامح وجهها الجميلة والتى تلونت بحمرة الخجل جراء اطرائه الغير متوقع:
-لا يوجد الكثيرون مثل ريم ... أنها فريدة من نوعها ...
-حسنا يا سيدى , ماذا يتوجب علىّ أن أقوم به بعد ذلك ؟
سأل سعد قاطعا عليهما سيل النظرات الهائمة فجذب انتباه جاسر اليه وهو يتوجه نحو مكتبه ليشير للشاب حتى يلحق به الى هناك ,وحينما ابتعدا بمسافة كافية حتى لا يكون بمقدورهما سماع الحوار بين الفتاتين , قالت سماح بتهور:
-يا له من رجل ! كيف تعرّفت اليه يا آنسة ريم ؟
فاجأها هذا السؤال الغير متوقع وظلت تحدق بالفراغ أمامها لتجيب بشرود ذهن:
-أنه صديق قديم.
غمزتها سماح بعين واحدة لتسأل متبجحة:
-وهل هو مرتبط ؟
-ماذا ؟؟
-أعنى لم أرَ بأصابعه دبلة تشير الى أنه متزوج أو خاطب , ولكنه ربما يكون مرتبطا ... هذه الفتاة بالخارج ,,, لم أشعر بالارتياح لنظراتها له , وكأنها تود التهامه ,,, هل بينهما علاقة ما ؟
-كفى يا سماح ! اصمتى.
نهرتها ريم بحدة وهة ترفع يدها فى الهواء عاليا ثم استطردت بعنف مكبوت:
-منذ أن فتحت فمك لم تغلقيه لثانية واحدة ,,, أسئلة أسئلة وما يهمنا من اجاباتها ؟ هل تنوين التخلى عن سعد الآن ؟
شهقت سماح وهى تتراجع بمقعدها غير مدركة لما تثيره فى نفس ريم من غيرة لهذه التساؤلات عن الفتاة التى قابلتهم وكأنه لا يكفيها رؤيتها للبساطة والتلقائية التى يتعاملان بها سويا , وتساءلت هل تتعمد تلك الفتاة أن تتدلل هكذا وهى تتحدث الى زملائها فى العمل ؟ أم أنها تخص جاسر وحده بهذه المعاملة ؟
قالت الفتاة الى جوارها وهى تعتذر بصوت ضعيف:
-آسفة يا آنسة ريم ان كنت أزعجتك بأسئلتى , ويكفى أنكِ قد أضعتِ الكثير من وقتك لمساعدتنا , أعتذر منك.
تراجعت ريم عن تأنيبها المبالغ فيه حينما رأت سماح نادمة على حديثها وعادت لتنكمش فى مقعدها صاغرة فأشفقت عليها من لهجتها القوية وقالت بصوت معتدل لتطيّب خاطرها:
-لا يوجد داعٍ لاعتذارك يا سماح , كل ما فى الأمر أننى لا أعرف اجابات على أسئلتك الفضولية , ثم ماذا يعنينا من أمره اذا كان مرتبطا أم لا ؟
ارتبكت سماح وترددت قليلا قبل أن تقول بمكر:
-بدا لى أنه ... أنكما ... ربما ,أعنى أنه ينظر لك كمن يرى نجمة عالية بالسماء أو كأنه معجب بك.
-هذا غير صحيح.
سارعت لتنفى هذا الاعتقاد وكأنه تهمة خطيرة وقالت بصوت جاهدت لتجعله ثابتا:
-أنه مجرد شخص عادى بالنسبة لى , مجرد معرفة كما سبق وأخبرتك.
تراجعت سماح وهى تقول بلهجة الخبيرة:
-اذن فما سمعته عنكِ أنتِ والأستاذ سيف صحيح ,لقد قالت السيدة منى أنكما سوف تتزوجان بعد....
وقف جاسر متصلبا جامد الملامح وقد وصله آخر ما تفوهت به وقال ببرود وهو يقف الى جوار سعد الذى بدا فى قمة سعادته:
-لقد انتهينا.
لم يغب عنها كلماته المقتضبة التى أطلقها بعد أن كز على أسنانه بقوة وهو يراها تستعد للانصراف بعد أن نظرت لسماح شزرا وقامت بشكره على حسن صنيعه ومدت أصابعها لتصافحه فاحتواها بين راحتى يديه وقد استشعرت دفئهما الذى اثار بجسدها المشاعر العنيفة مجددا فحاولت أن تسحب يدها من بين قبضته بعد أن راعها لهجته القاسية لأول مرة منذ تعرفا تراه غير مراعيا لمشاعرها بهذه الصورة الفظة لأنه شدد عليها أكثر حتى كادت تصرخ ألما وفجأة تركها حرة فودعته بدون اهتمام قائلة:
-وداعا يا سيد جاسر.
ضاقت عيناه متفرسا فى ملامحها المتجهمة وهو يقول متوعدا:
-لنا لقاء قريب ان شاء الله يا ريم ,وسوف أحادثك لأطمئن عليكِ عندما تصلين الى المنزل.
أصر على مخاطبتها بذات الطريقة الحميمية والتى تدل على عمق معرفتهما كاشفا عن كذبها الغير متقن أمام عيون سماح وسعد اللذين ابتسما بخبث ولم تفتهما حركته المقصودة حينما أمسك بمرفق ريم ليودعها بالخارج وهى غير قادرة على الاعتراض لئلا تثير انتباههما الى ما يدور فى الخفاء .
كانت متلهفة للهروب من حصاره القوى الذى أحاطها به فاستشعرت بضعفها وخاصة حينما وجدت نفس الفتاة تنظر لها باستعلاء وتكبر بينما تغادر هى قائلة بصوت مغناج:
-وداعا يا آنسة ريم.
وكأنها تخرج لسانها وتقول : أنت راحلة بينما أنا باقية الى جواره.
فاشاحت ريم بوجهها وهى تستحث الثنائى على الاسراع حتى لا يتأخروا أكثر وكادت أن تخطو نحو الدرج فاستوقفها جاسر بعد أن سبقها مرافقاها وقال بضيق واضح:
-ريم ... لنا حديث لا يمكن تأجيله , هل أراكِ اليوم بمكاننا المعتاد بعد انتهاء العمل ؟
توقفت مضطرة لأن تجيبه وقد أنذرتها لهجته بأنه قريب من الانفجار :
-حسنا , سوف نتحدث لاحقا , على الهاتف ... باى.
وانطلقت تفر منه كمن يفر من وباء معدى أما هو فقد عاد أدراجه الى المكتب وهو يتوجه نحو ليلى متسائلا بعنف:
-ما الذى دفعك لمثل هذه التصرفات الصبيانية يا ليلى ؟
قالت ليلى وهى تكتم ضحكاتها الطفولية بينما تصفق بجذل:
-وااااااو أهذه هى ريم اذن ؟ لقد وقعت واقفا هذه المرة يا ابن خالتى العزيز ؟ أنها ماذا اقول عنها ... فتاة رائعة ومختلفة.
قال بدون تفكير:
-أنها شخصية استثنائية جدا ولا مثيل لها.
ثم استطرد مهددا وهو يلوح بيديه عاليا:
-وأنتِ ؟ ألن تكفى عن هذه الحركات المكشوفة ؟ ما الغرض من ورائها ؟
قالت وهى تلتف مديرة ظهرها لتتناول ملفا من جارور خلفها :
-كنت أحاول اكتشاف مشاعرها الحقيقية نحوك , والحق يقال : أعتقد أنها تغار عليك بجنون.
-ليلى , لا تتدخلى فى شؤونى واهتمى بنفسك فقط.
قالت وهى تضع يديها على خاصرتها:
-أنا التى أستحق اللوم , لقد أردت مساعدتك يا عزيزى ؟
-ومن طلب منك مساعدة ! أم هل تريديننى أن أشكوكِ الى خطيبك ؟ أنه الوحيد الذى يستطيع كبح جماح تهورك .
هتفت بانبهار:
-خالد !
وأكملت تحاول تقليد لهجته:
-أنه شخصية استثنائية ولا يوجد له مثيل.
وانطلقت ضحكاتها مجلجلة بينما طالعهما وجه من كانا يتحدثان بشأنه من احدى الغرف المجاورة وهو يقول مازحا:
-من ينادى باسمى هنا ؟
-اذهبا أنتما الاثنين الى عملكما.
قال جاسر بسلطة واضحة وهو يؤشر بيديه نحوهما, فقال خالد يمرح:
-هل معنى أنك قد تسلمت ادارة المكتب أن تتنمر على أصدقائك القدامى ؟
ألا يكفيك أنك تجعلنا نعمل بأيام العطلات الرسمية ؟
وتصنّع الحزن فاستطرد جاسر بحزم:
-لا تحاولا استغلال طيبة قلبى واعلما أنه لا شفيع لكما عندى الا العمل , لن أرضخ لعاطفة القربى أو الصداقة بيننا , وأنت ألا يكفيك أننى قد تغاضيت عن عدم حضوركما فى المواعيد المحددة.
ضرب خالد الأرض بقدمه كما يفعل المجندون ووضع أصابعه بجانب وجهه مقدما التحية العسكرية وهو يقول بصوت مرتفع:
-تمام يا أفندم.
بينما اختفى جاسر داخل مكتبه صافقا الباب خلفه بقوة وهو يفكر فى تلك التى خطفت أنفاسه حتى الانبهار ثم تركته محطم الفؤاد دون أن تشعر بما فعلته.

**************

SHELL 18-11-18 12:49 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لم تكن منى بأفضل حالا من الجميع , فقد باتت الليل بطوله تفكر فى ابنها وها هو قد عرف بالحقيقة الا أنه ما زال متمسكا بمقاطعتها هى وأبيه ,ترى أمن الممكن أن يغفر يوما ؟ تتمنى أن يأتى ذلك اليوم الذى تستطيع فيه ضمه الى صدرها مرة أخرى دون أن تقف شوائب الماضى حائلا بينهما ,وأخذت تدور حول نفسها بيأس وضيق قبل أن تجد زوجها مقبلا من الخارج ليقول بنبرة اسف:
-لا أعرف اين ذهب ذلك السائق الأخرف ؟ لا أصدق أنه قد خرج بالسيارة دون اذن.
-هل كنت تنوى الخروج الآن ؟
-لا فأنا يمكننى قيادة سيارتى القديمة ولكننى كنت بحاجة اليه ليقضى غرضا ولكنه غير موجود لا هو ولا السيارة.
قالت منى تهدئ من ثورة غضبه:
-ربما بعثه رفيق أو محمد الى مشوار قريب ,لماذا لا تسألهما ؟
ضرب عادل كفا بكف وهو يصيح بانفعال متزايد:
-وهل تظنين أننى لم أبحث عنهما , لا أعرف أين ذهبا على الرغم
من أن اليوم هو عطلة رسمية ولا يوجد ما يستوجب خروجهما باكرا هكذا ...
طفقت منى تنادى على سماح لتطلب منها أن تساعدها فى الاعتناء بهناء الا أن الصمت المطبق كان هو سيد الموقف ,فسارعت نحو المطبخ لتجد عم مصيلحى هناك واقفا يعمل على قدم وساق وهو يرغى ويزبد متوعدا هذه الفتاة المهملة فسألته منى عنها:
-اين هى سماح ؟
-لا أعرف يا سيدتى , لقد جئت فى موعدى بالضبط ككل يوم الا أننى فوجئت أنها غير موجودة , ربما تأخرت لظرف ما ...
-هكذا دون أن تتصل لتعتذر منا , يا ويلها عندما تأتى اذا لم يكن لديها عذر مقبول ... أمرى الى الله ...
وتركته متوجهة نحو غرفة هناء بعد أن طرقت الباب بخفة سمعت صوتا واهنا يسمح لها بالدخول فدلفت الى الداخل وهى تلقى عليها تحية الصباح باشراق مفتعل:
-كيف حالك يا هناء الآن ؟ هل استطعت أن تنامى جيدا ؟
حاولت هناء أن تعتدل فى فراشها دون اللجوء الى مساعدتها فتألمت بعد أن ضغطت على كاحلها المتورم فهمت منى الى جوارها تمسكها من تحت ذراعيها لتزيحها الى الخلف واضعة خلف ظهرها بعض الوسائد لتشعر براحة أكبر وهى تحذرها من هذه الحركة:
-اياك وأن تحاولى الضغط على نفسك مرة أخرى , لقد حذر الطبيب من اجهادك لهذا المفصل المصاب حتى لا يزداد سوءا.
أشاحت هناء بوجهها شاعرة بالعجز والاحباط فأنّت متأوهة وهى تقول:
-لا أريد أن أزعج أحدا معى .
ضربت منى بقبضتها على صدرها بانزعاج وهى تجلس بالقرب منها على حافة الفراش قائلة بعتاب:
-وهل أنا أى أحد يا هناء ؟ أنسيتى أننا كنا أصدقاء فيما مضى ؟
قال هناء بحسرة واضحة وهى تقاوم سيل الدموع الذى يغالبها :
-أنت قلتِ بنفسك يا منى ... فيما مضى أما الآن فـ ... أنتِ تعرفين.
ورفضت أن تتم جملتها حتى لا تجرح مشاعرها فقامت منى بمحاولة اتبتسم الا أنها باءت بالفشل فقالت باستسلام وهى تنظر الى الأثاث من حولها هربا من مواجهة عينى صديقتها :
-أعرف أننى قد صرت مصدرا للازعاج مؤخرا , الا أنه لم يكن بيدى يا هناء ... صدقينى .. لقد مررت بظروف قاسية لا يعلمها الا الله .. والآن أعدك بأننى قد تغيرت للابد ولن أعود مجددا الى مثل هذه التصرفات التى تضايقك , هل أنت مرتاحة الآن ؟
حملت هناء نفسها على الابتسام مجاملة لها وكان قلباهما مثقلين بهموم تزن جبالا .. وقالت تؤيد وجهة نظرها:
-أنا ايضا أمر بظروف عصيبة , فلا يخفَ عليكِ ما حدث لى مع كريم .. لقد ترك المنزل بسببى أنا يا منى ... أنا الملامة فى مغادرته .. لو يعلم فقط كيف اشعر وكم أتمنى لو عاد بى الزمان للوراء حتى لا أتفوه بكلمة واحدة تغضبه ...
-لا يهم هذا الآن , عليكِ أن تهتمى بنفسك من أجله , هيا سوف أقوم بعمل الكمادات الدافئة والباردة كما أمر الطبيب .. ويجب أن تتناولى طعامك حتى تتحملى العقاقير التى وصفها لكِ ... كما أنه علينا أن نجرى الاشعة المطلوبة على وجه السرعة ... سوف أحادث عادل حتى يصحبك الى مركز الأشعة القريب من المنزل.
تساءلت هناء بهدوء:
-ولماذا عادل بالذات ؟ اين هو رفيق أو سيف ؟ بمكن لأيا منهما أن يقلنى الى هناك فلا تزعجى زوجك بهذا المشوار المرهق.
تأوهت منى متحسرة وهى تقول بمرارة:
-سيف ؟ لا أعرف أين ذهب هو الآخر , هل تعرفين أنه وكريم يتشابهان كثيرا فى تصرفاتهما ...
-أليسا أبناء عمومة ؟ فما الذى يدعو الى العجب فى ذلك ؟
هزت منى رأسها نفيا وهى تشير الى الخارج:
-كلا , فرفيق لا يشبه أيا منهما على الاطلاق , دوما يتصرف بطريقة مغايرة لهما ,كانت له اليد العليا طوال الوقت حتى وهم أطفال صغار .
قالت هناء بمنطقية تدافع عن رفيق:
-نعم فهو الأكبر سنا منهما ...
-والحفيد الأول والمفضل من جانب جده وجدته ... والمحبوب من جميع أعمامه وعمته ...
قاطعتها هناء ممازحة:
-لا الا عمته ... فريال الآن تتعامل معه كحماة ,وهى تذيقه الأمرين من أجل أميرة ...
-لن يدوم الأمر طويلا حتى تعتاد على فكرة أن ابنتها متزوجة وترضخ للأمر الواقع الا أننى وعن تجربة .. أرى أن الحما والحماة يمكن أن يتشبثا برأيهما الى الممات ..
عرفت أنها تشير الى حماها الذى لم يرضَ عن زيجتها يوما وظل يعاملها بتكبر وصلف ... أما هى فلم تتخيل أن يكون له يد فى خلافها العميق مع زوجها بل اتضح أنه قد استغل الوضع لصالحه ودفعها نحو حتفها المقدر ,وكانت هى كالساذجة التى انخدعت بلطفه ومهادنته حتى سقطت فى الحفرة التى أعدت لها ببراعة منقطعة النظير .
-لم تخبريننى أين رفيق ؟ يمكنه هو أن يقلنى الى المركز وهو لن يتأخر عنى ... دوما يعرف قواعد الذوق واللياقة ومراعيا لمشاعر الآخرين .. هنيئا له صراحة بأميرة ابنة أخى فهو الأحق بها ...
-ليس موجودا لا هو ولا أبيه ... ولا تسأليننى أين ذهبا , فالغموض قد غلب على تصرفات الجميع هنا حتى سماح ... صارت تتغيب دون مبرر واضح أو حتى تحصل على اذن ..
رفعت هناء كتفيها كمن لا حيلة له وهى تقول متأثرة:
-ومن منا لم تتغير تصرفاته يا منى ؟ أنها لعنة أبدية تلك التى توصم كل من ينتمى الى عائلة الشرقاوية ..
واضافت منى مقررة:
-أو يقترب منها ... سأحضر الاناء الدافئ من الحمام وآتى اليكِ على الفور.
ثم أخذت تدلّك قدمها المصابة برفق ولين غير متأففة أو متضايقة على العكس كانت رحبة الصدر ومبتسمة على الدوام تلقى على هناء نظرات كلها دعم وتشجيع ...
ما أعجب ما يحدث الآن فقد انعكست الآية تماما وقالت هناء فى سرها : سبحان مغير الأحوال من كان يصدق أن منى هى من تساعدها وتؤازرها بصبر وثبات ... وتأملت فى نفسها أن يغير كريم من رفضه لها ويعود عن قراره ليرجع الى منزله والى أحضانها.

***************

SHELL 18-11-18 12:51 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
نهض صلاح من فراشه مبكرا فى موعده المضبوط ككل يوم وقد قرّر أن يعدّ طعام الافطار لابنته حتى لا يوقظها فى يوم عطلتها ثم تثاءب فى كسل وارتفع الى ذهنه ما صار بينهما بالأمس وحوارهما العاصف وقد انتبه الى جملة ألقتها على مسامعه وهو شارد , فهى أخبرته أنها لديها يوم عمل طويل .. تساءل كيف يكون وجميع العاملين بالشركة فى عطلة رسمية اليوم ؟ ألهذه الدرجة هى غير واعية لما تقول أم أنها بالفعل لديها عمل ؟ أم أنها على موعد معه ؟
نفض هذه الافكار المتخبطة عن ذهنه ,وهو يتأهب للدخول الى الحمام ,خلع ملابسه واندفع تحت شلال المياه الدافئة ليزيح عن رأسه الخيالات السوداء التى تتصارع حتى تكاد تفتك به ,حينما أنهى استحمامه شعر بأنه قد اصبح أفضل حالا ,وقادرا على التفكير بعقل صافٍ غير مشوش ,لا شك فى أنه قد تسرّع بمواجهته لهناء ,ولماذا يحملها هى الذنب فيما تفعله ابنته ؟ أنها هى الملامة .. ما الذى يجعلها تستسلم لمثل هذه المشاعر المراهقة نحو رئيسها بالعمل خاصة وأنه ابن وجدى .. لقد صارحها ببعض الحقيقة ولم يجرؤ على الاعتراف بمشاعره نحو هناء ,هديل لا تعرف سوى أنه كان صديقا لوالد كريم ,ربما هذا ما شجعها أكثر لتوطيد صلتها به .
توجه نحو المطبخ لاعداد الطعام فوجد ابنته قد سبقته الى هناك وقد ارتسمت على وجهها الملائكى القسمات بسمة مشعة وهى تقول:
-صباح النور على أفضل أب فى هذه الدنيا.
قبّل وجنتها قبل أن يجيب بزهو:
-وصباح الفل على أفضل ابنة فى الدنيا.
-هاه ماذا تحب أن تفطر اليوم ؟ بيضا مسلوقا أم مخفوقا ؟
-ومنذ متى وأنت تخيريننى يا ست هديل ؟ ألم تمنعيننى نهائيا من أية مقليات ؟
كشرت بأنفها وهى تداعب اباها قائلة بمودة:
-من أجل صحتك يا أحلى بابا ,, ولكن اليوم يمكن أن نقوم باستثناء صغير
-حسنا , فليكن بيضا مقليا , صحيح يا هديل ... هل أنتِ ذاهبة للعمل اليوم ؟
اندهشت هديل وقالت لوالدها تصحح له:
-ماذا جرى لك يا بابا ؟ اليوم هو اجازة رسمية للجميع فلماذا اذهب أنا ؟
-لا شئ , لا شئ مجرد سؤال أحمق , هيا فلأساعدك سأقوم أنا بتقطيع الخضروات.
وأزاحها برفق ليجلب السكين ويقوم بعمله فيما هى تعد له البيض بحرفية عالية.
تناولا افطارهما سويا وكلاهما مشغول البال لا يتبادلان الأحاديث الا فيما ندر ,وبعد أن انتهيا من تناول الطعام ساعدها لازاحة الصحون الفارغة فيما قامت هى باعداد كوبين من الشاى الساخن بنكهة النعناع الطازج ليحتسياه معا فى شرفتهما الصغيرة ,لم يجد بدا من مفاتحتها بالأمر هذه المرة وقد انتوى أن يصارحها بكل شئ دون أن يخفى أى تفصيلة ولو صغيرة حتى لا تتأذى بسببه واستمعت له بآذان صاغية وقد أدركت لتوها لماذا لن يجيب كريم على اتصالاتها الهاتفية مرة أخرى ؟
وتساءلت بقهر :
-هل كنت تعرف يا بابا كل هذا الوقت ؟
أومأ لها ايجابا ثم قال بلهجة حانية خالية من التأنيب:
-يؤسفنى انكِ لم تثقى بى كفاية لتحكى لى كما تعودتِ منذ صغرك لا تخفين عنى أى حدث ولو كان تافها بسيطا فما بالك بهذا ؟
قامت تدفت رأسها بصدر ابيها متوارية خجلا من نظراته العميقة وقالت من بين عبراتها المنسابة على خديها:
-لم تكن مسألة انعدام ثقة يا أبى , لم أكن بعد واثقة من مشاعره نحوى , أردت أن أنتظر لأتأكد وحينها كنت سأعلمك بالطبع , لم أشأ أن ترانى صغيرة فى نظرك ... آسفة يا بابا سامحنى.
ضمها الى حضنه وهو يقول:
-لا عليكِ يا صغيرتى , أنتِ تعرفين يا هديل أنه ومنذ وفاة أمك وأنا أحاول لعب الدورين الا أنه قد أفلتت منى بعض التفاصيل الصغيرة , لم أدرك أن ابنتى الصغيرة قد شبّت وصارت فتاة حلوة ومن حقها أن تشعر بالحب والعاطفة الصادقة ... ولكن يا ابنتى أن ماضىّ أنا وعائلته لا يبشر بأى خير ...
-هل تعلم يا بابا أنه قد تذكرك وأخبرنى بمعرفته لك ؟
-كيف هذا ؟ من أين له أن يعرفنى ولم أقابله من قبل ؟
-لا قابلته , هو بنفسه أخبرنى أنه يقدرك كأستاذ فقد درست له من قبل بالجامعة ...
-آه , هكذا الأمر اذن ...
-أنه يقدّرك ويحترمك ...
-لم يكن هذا واضحا فى لقائنا الأول , ألا تتذكرين كيف كان يعاملنا ؟
-لقد عرف بعدها .. أنا أخبرته حينما سألنى عنك.
قال وقد انتابه الفضول لمعرفة المزيد:
-وهل اهتم بمعرفة كافة هذه التفاصيل عنى ؟ لماذا يا ترى ؟
-ليس هذا فقط , بل سألنى عن الظروف التى دفعتنى لقبول هذا العمل بالرغم من دراستى لتخصص أعلى ... أرأيت أنه كان مهتما ؟
قالتها بصوت يقطر مرارة وندما على ما ضاع منها بسبب ماضٍ لم يكن لهما يد فيه ,فـجابها والدها بحزم:
-لا يهم الآن , انتبهى لنفسك فقط ولا تشغلى بالك بأى شخص آخر .. وتأكدى بأنه يستطيع تدبر أمر نفسه جيدا.
-أتمنى هذا يا أبى

**************

SHELL 18-11-18 12:52 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
حينما استيقظت أميرة ضربتها البرودة بعنف فى أنحاء جسدها بعد أن حرمت من دفء جسده الذى كان يحتضنها طوال الليل حتى أثناء غفوته , لم يبتعد عنها بل شدّد من ضمه لثنايا جسدها وكأنه يذود عنها من أى خطر خارجى ,واستفاقت تتنسم هواء الصباح العليل وقد انتبهت الى غياب زوجها ,فنهضت لتغيّر ثيابها على وجه السرعة بأخرى مناسبة فانتقت سروالا قطنيا باللون الكحلى متسعا عند الكاحل وقميصا باللون الأصفر يصل طوله الى ردفيها وانتعلت حذاءا خفيفا مناسبا ومشطت خصلات شعرها البنى الناعم وربطته بشريط مطاطى من الخلف .
خرجت من غرفتهما المشتركة والتى هى فى الأصل غرفته الا أنها فى الآونة الأخيرة قد نقلت اليها بعضا من ثيابها وأغراضها ,بعد أن حصلت على رضا أمها وموافقتها الضمنية على ما تفعل ,بعد أن كانت تتسلل فيما مضى عندما تطل الشمس باشعتها متجهة الى غرفتها دون أن تثير انتباه أحد.
اتجهت الى غرفة الجلوس بالطابق الأرضى وقد وجدت منى جالسة هناك وهى تضع يدا على خدها ,قدّرت حزنها الدفين من أجل ما يحدث فتسللت على أطراف اصابعها برشاقة محاولة ألا تزعج المرأة الشاردة الا أنها قد حانت منها التفاتة فرأتها وقالت تحييها:
-صباح الخير يا أميرة.
-صباح الخير تنت منى , يا له من نهار !
-نعم أنه يشى بيوم حافل بالأحداث.
-ألم يستيقظ أحد غيرنا بالمنزل ؟
-كلا ,أمك ما زالت نائمة الى الآن وجدتك أيضا.
-وأين ذهب الباقون ؟ ألم ترى رفيق اليوم ؟
زمت منى شفتيها وهى تقول بتعجب:
-ألا تعرفين ؟ لقد خرج زوجك ووالده هذا الصباح ,فسيارته ليست بالخارج كما أن السيارة التى يقودها عم رياض اختفت هى الأخرى.
قالت أميرة بينما تجلس الى جوارها وهى تقلّب بجهاز التحكم الخاص بجهاز التلفاز تشاهد مختلف القنوات بملل واضح :
-أين ريم ؟ وتنت سوسن ؟ هل خرج الجميع فجأة ؟
- لا يا حبيبتى أنا باقية هنا عالقة مثلكما.
قالت سوسن التى توجهت هى الأخرى الى الأريكة المقابلة لهما وهى تهز رأسها اسفا:
-لا أعرف بالضبط الى اين ذهب رفيق ومحمد ,فقط أخبرنى بأن لديهما أمرا طارئا يستوجب الخروج مبكرا ...
قاطعتها أميرة بنفاد صبر :
-ولماذا لم يخبرنى رفيق بالأمر ؟
أجابتها حماتها بلهجة رقيقة:
-لا بد أنه أشفق عليكِ ولم يشأ أن يقلقك صباحا.
-ولماذا لا يتعامل معى مثلما يفعل خالى محمد معك ؟
كانت تتذمر الآن بطفولية مما أثار رغبة فى الضحك لدى المرأتين الأكبر سنا فقالت سوسن باشفاق:
-يا حبيبتى تحتاجين الى سنوات من العشرة حتى تصلى الى هذه المرحلة مع زوجك ,ولا تقلقى فهو يشبه أباه الى حد بعيد ... عندما كنا فى بداية زواجنا لم يكن محمد يثق بأى أحد على الاطلاق وكان سره لنفسه , أما الآن ...
وأكملت تشير بزهو فخورة الى نفسها:
-لا يخفى عنى شيئا ..
قاطعتها منى ولم تتمالك نفسها من تذكيرها:
-الا فى موضوع زواج رفيق من أميرة ... فقد أخفاه عنكِ كما فعل معنا جميعا.
ران الصمت عليهن ,بينما شعرت هى بمدى تهورها فلا بد أنها قد آلمتها دون قصد , حقا هذه المرة لم تكن تعنى اغاظتها فأخذت تسترضيها بشتى الطرق قائلة:
-أعنى أنه لا يخفى الا الأمور الخاصة جدا والتى قد تتسبب فى اثارة قلاقل ومشكلات.
كانت محاولتها سيئة فقد زادت الطين بلة كما يقولون ,وحينما اشاحت سوسن بوجهها غير راغبة فى تبادل الحديث معها التزمت بالصمت التام ,وحاولت أميرة أن تلطف من الأجواء المتأزمة فقالت عارضة بصفاء نية:
-ألا تريدان تناول الافطار ؟
خرجت سوسن عن صمتها موضحة:
-سماح ليست هنا ...
سألت منى باهتمام:
-أين راحت ؟
-لقد خرجت مع ريم.
قالت أميرة حتى لا تبدو فضولية:
-حسنا , سأذهب أنا لاعداد الطعام ,وبعدها سأصعد لأوقظ جدتى وأمى حتى نتشارك بالوجبة ,وأنت يا تنت منى هل يمكنك أن تبلغى خالى عادل حتى تكتمل لمتنا.
-لا أعتقد أن هذا ممكن فعليه أن يقل عمتك هناء الى مركز الأشعة ,وقد اتصلت بهم وحجزت موعدا فى حدود الساعة العاشرة.
-اذن سأرافقهما.
عرضت مساعدتها بصدر رحب الا أن منى أشارت لها نافية وهى تقول بلباقة نادرة:
-ابقى أنتِ مع سوسن لتتناولا الافطار سويا وأنا سأذهب معهما.
قامت أميرة لتتوجه نحو المطبخ وفى نيتها الانفراد بعيدا حتى تستطيع مهاتفة زوجها دون أن يسمعها أحد.



**************

SHELL 18-11-18 12:54 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عادت ريم وسماح الى المنزل بينما استأذن سعد للانصراف فلم يكن لوجوده داعٍ فاليوم اجازة والعمل بسيط بالمطبخ وخاصة مع غياب معظم أفراد الاسرة عن البيت ,قررت ريم أن ترافق سماح وتدخل من الباب الخلفى للمطبخ وقد راق لها أن تفاجئ الجميع بعودتها ,وحينما خطت بقدميها نحو البهو وجدت أميرة منتحية بركن قصى تتحدث بصوت منخفض يكاد يصل الى حد الهمس:
-أنا لست غاضبة منك ,ولكننى كنت افضل لو تعلمنى بذهابك يا حبيبى.
أجابها رفيق بصوت ينم عن الارهاق:
-لم يطاوعنى قلبى أن أوقظ الملاك النائم الى جوارى , فتسللت خارجا دون أن اصدر صوتا.
-ولكن .. لا تكررها مرة أخرى والا ...
-والا ماذا يا اميرتى ؟ ماذا ستفعلين بى ؟ هل ستوقعين بى عقابك ؟
أجابته ممازحة بلهجة عنيفة:
-نعم ,سأكون قاسية جدا.
-لا تبالغى فى التحدى , فقد يروق لى نوع العقاب.
تنحنحت ريم فهى لم تعتد أن تتنصت على أحاديث الآخرين فى غفلتهم مما جعل أميرة تلتفت نحوها فابتسمت تلقائيا ,وهى تشير بيدها نحو الهاتف هامسة باسم رفيق ,فأشارت لها ريم أن تبلغه تحياتها فأومأت برأسها ايجابا فى حين أكملت ريم طريقها نحو غرفة الجلوس.


************

SHELL 18-11-18 12:56 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
توجه عادل برفقة زوجته الى غرفة هناء حتى تقوم بعمل الأشعة التى طلبها الطبيب وحينما دلف الى الداخل اشار لزوجته حتى تهيئ زوجة أخيه ليحملها بين ذراعيه الى الأسفل وهى تشعر بحرج بالغ ولكن ما بيدها أن تعترض فلو كان ابنها موجودا لقام هو بهذه المهمة الخاصة ,قالت فى سرها : سامحك الله يا بنى حتى تعرضنى لمثل هذا الموقف الصعب ,وكانت خفيفة الوزن فلم يشعر عادل بأى جهد وهو ينقلها الى السيارة الواقفة أمام المدخل مباشرة ,وأراحها على الأريكة الخلفية بينما اعتلت منى المقعد الامامى وتوجهوا نحو المركز المشهور فى موعدهم المحدد ,وحينما وصلوا بادر عادل بالنزول أولا ليعود ومعه عامل بجر مقعدا بعجلات متحركة وقامت منى بمساعدة هناء لتجلس فوقه بأريحية حتى يتوجهوا نحو الغرفة المخصصة لاجراء الاشعة دونما انتظار.
انتظر عادل وزوجته بالخارج بعيدا عن غرفة الفحص حتى لا يتأثرا بجرعات الاشعاع الصادرة من الأجهزة بالداخل ,وانتظرا مدة ربع ساعة مرت عليهما ببطء شديد وقالت منى تفاتح زوجها بموضوع ابنهما المختفى:
-عادل .. أريد أن أحادثك بشأن سيف.
تأفف زوجها وهو يخاطبها بحدة:
-وهل هذا وقتا مناسبا بنظرك لنتحدث بهذا الشأن.
أجابته بتوتر ملحوظ وهى تغطى عينيها بيديها:
-واين أجد الوقت المناسب من وجهة نظرك ؟
-اذن تستطيعين تأجيله لما بعد حينما نكون وحدنا وليس فى مكان عام كهذا.
-وهل يمكن تأجيل موضوع يخص ابننا الغائب ؟ لن استغرق أكثر من خمسة دقائق بالضبط.
واشارت بأصابعها لتؤكد له فأطرق برأسه ليستمع اليها وهو يقول بلهجة أقل حدة:
-حسنا فلتأتِ بما لديكِ.
-ألا يمكن ان نعرف اين هو الآن ؟ يمكنك أن تتصل برفيق فلا بد وأنه على علم بمكان تواجده.
-سوف اقوم باجراء الاتصال من أجل عيونك أنتِ فقط , ولكن ألا يمكن ارجاؤه حتى نعود الى البيت بعد أن نطمئن على هناء.
كان بعينيها توسل وبعينيه رجاء هى تتوسله ليشعر باحساس الأم وقلبها المنفطر على فلذة كبدها وهو يرجوها أن تثق به وتصدق ندمه الخالص.
أشارت برأسها بايماء خفيفة تصديقا عليه وباللحظة التالية نادت عليهما الممرضة التى كانت قد اصطحبت هناء الى الداخل فتوجه عادل مسرعا تلحقه منى وقال:
-هل انتهت من اجراء الأشعة ؟
قالت الممرضة بعملية:
-نعم , يمكنك أن تنقلها على المقعد المتحرك الى قاعة الانتظار.
تساءلت منى باهتمام:
-وكم من الوقت سننتظر حتى نحصل على صورة الاشعة ؟
أجابتها الممرضة وهى متعجلة الرحيل:
-لن يستغرق وقتا طويلا قبل أن يوقع الطبيب على التقرير وتتسلموا الصور والاسطوانة معه.
شكرتها منى ثم لحقت بزوجها لتساعد هناء على الجلوس بالمقعد وقد كانت تنتظرهما بلهفة وقالت أول ما رأتهما باعياء:
-هيا يا منى تعالى وساعدينى ,فلتمسكى بالمقعد جيدا حتى لا يتحرك.
وحمل هناء بخفة الى الكرسى وعدّلت منى من ثيابها التى تجعدت بينما قام عادل بدفعها بقوة نحو الخارج.
انتظروا ربع ساعة أخرى ثم سمعوا النداء باسم هناء لتتسلم التقرير الخاص بحالتها فهرع عادل نحو موظفة الاستقبال يتسلم المظروف المطبوع عليه شعار المركز وهو يمد يده نحو الورقة بداخله يخرجها ليستعرض النتائج ,كانت مكتوبة باللغة الانجليزية التى يجيدها بمهارة ولكنه وصل الى النهاية ولم يفهم المصطلحات الطبية العسيرة النطق فعاد ليعرضها على الطبيبة المختصة التى أجرت الأشعة وكانت موجودة خارج غرفة الفحص فسألها وهو بشعر بالقلق:
-أريد فقط أن أطمأن على النتائج , هل يوجد كسر ؟ أم ان الأمر بسيط ؟
أخذت تنظر الى صورة الاشعة بدقة واتسعت ابتسامتها الجذابة وهى تشير له نحو المفصل المصاب لتشرح له ما حدث بالضبط مؤكدة على سلامة العظام والأربطة حولها الا أنها أشارت الى تجمع صغير موضحة له أن هذا ما يعرف بالأوديما وهو تورم نتيجة السقوط ,فتساءل مجددا:
-وهل له علاج ؟ فهى تتألم بشدة.
سألته الطبيبة بفضول:
-أنك تهتم كثيرا لأمرها , هل هى زوجتك ؟
أجابها نافيا:
-كلا , أنها زوجة أخى.
منحته ابتسامة أخرى أكثر جاذبية وهى تجيبه بحرفية:
-طبعا علاجها سهل وبسيط , مجرد كمادات دافئة وبعض العقاقير المضادة للالتهاب والتورم علاوة على المسكنات القوية ولن يصبح للألم أدنى وجود.
لم يكن عادل واعيا لجاذبيته الرجولية البحتة والتى تعاظمت بتأثير اختلاط شعيرات رأسه باللون الأبيض لتعطيه مظهرا ناضجا فى منتهى الروعة الا أن منى قد لاحظت أن حديثه مع الطبيبة الشابة قد طال أكثر من اللازم فتركت هناء وحدها لتنضم الى زوجها وهى مدركة لماهية هذه النظرات الحالمة التى ترمقها به الفتاة الأصغر سنا ذات القد الرشيق والذى اظهره معطفها الأبيض بدقة مفصلة ,ووضعت يدها على ذراعه بلمسة تملك واضحة وهى تسأل ببراءة مزيفة:
-لماذا تأخرت هكذا يا عزيزى ؟ ألم تفهم الطبيبة ما دون بالتقرير ؟
عقد عادل حاجبيه وهو يحدجها بنظرات متسائلة قبل أن يجيب بدبلوماسية:
-فقط كنت أطمأن على حالة هناء وأنها لن تحتاج الى تدخل جراحى , أليس كذلك ؟
-طبعا يا سيدى ,ولكن لا بد من عرض النتائج على طبيبها المعالج ليقرر الأصلح لها.
منحتها منى ابتسامة صفراء قبل أن تجيب نيابة عن زوجها:
-نشكرك كثيرا يا دكتورة ونعتذر لاشغالك عن متابعة عملك ولكنك مثل ابنتنا فأنتِ تقريبا بعمر ابننا ,فلا تتضايقى من رجل فضولى بعمر والدك.
انكمشت الطبيبة على نفسها من هجوم المرأة المباغت لها فابتلعت ريقها بصعوبة قبل أن تتمتم باعتذار هامس فأشارت لها منى وهى تقول بحماس:
-دعينا لا نؤخرك أكثر من هذا وهيا بنا يا عزيزى حتى لا نطيل الوقت على هناء فهى تشعر بالألم الشديد.
ثم أمسكت بمرفقه بحركة متسلطة تدفعه نحو هناء التى تنتظرهما على أحر من الجمر بينما هو مندهشا من تصرف زوجته المبالغ فيه بيد أنه شعر ببعض السعادة وهى تنهره بحزم:
-ألم يكن ممكنا أن تبحث عن أى طبيب لتسأله ؟ يبدو عليها عدم الخبرة فهى صغيرة السن .
-ولكنها ماهرة جدا كما أن صغرسنها يجعلها تسعى نحو اثبات ذاتها بدافع أكبر.
-أو اثبات أنها تستطيع لفت انتباه رجل يصلح أن يكون والدا لها.
-منى ... أتغارين علىّ حقا ؟
اشاحت بوجهها بحركة عصبية وهى تدافع عن نفسها قائلة:
-وما المانع ؟ ألست زوجى ووالد ابنى ؟ ألا يحق لى أن أتضايق وأنا أراها تكاد تلتهمك بنظراتها الوقحة.
-فقط ؟
-ماذا تعنى ؟
-هل أعنى لك فقط زوجا وأبا لابنك ؟
ترددت برهة قبل أن تجيبه بحرقة:
-وحبيبى , هل استرحت الآن ؟
ضحك من غضبها وهو يقول منتشيا:
-وما لك تقولينها هكذا ألا يهمك أن أكون مرتاحا.
كانت هناء متلهفة لتعرف بمحتوى التقرير فأزاح عادل الهم عن كاهلها وهو يؤكد لها أنها سليمة تماما وأن الأمر يحتاج فقط بعض الوقت لتتحسن حالتها كما أنه نصحها بالصبر وكان فى مجمل حديثه بعض التلميحات الأخرى , ربما أراد أن تتحلى بفضيلة الصبر وهى تتعامل مع ابنها الذى صار رجلا وليس مجرد طفل صغير تسيّره كيفما شاءت وقد اصبح له قراره الخاص.
توجهوا عائدين الى الفيلا وقد ملأتهم الأخبار السارة بطاقة ايجابية وانتعش الأمل مجددا فى نفوسهم.


*****************

SHELL 18-11-18 12:58 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
عندما حل المساء كانت النساء مجتمعات معا تتجاذبن أطراف الحديث حتى السيدة شريفة تخلّت عن منفاها الاختيارى بغرفتها كما اعتادت بالفترة الأخيرة كما فضلّت هناء أن تعمل بنصيحة فريال لها أن تشاركهن المجلس حتى لا تبقى وحيدة بجناحها البعيد ,وقد قامت كلا من ريم وأميرة بترتيب الأريكة الصغيرة من أجل راحتها بوضع وسائد قطنية عريضة تحت قدمها المصابة ,بينما أخذت سماح تعدّ لهن أكواب الشاى الساخنة المعززة بنكهة النعناع الطازج وقدمته على صينية من الفضة البراقة ,أنعشت ذاكرة الجدة حينما لمحتها فقالت بصوت مرتعش وقد جلبت الذكريات الدموع الى عينيها :
-هذه الصينية كانت لأمى ,أين عثرتى عليها يا سماح ؟ كنت أعتقدها قد ضاعت فلم نستخدمها منذ فترة طويلة.
أجابت الفتاة بارتباك واضح وهى تمعن النظر الى فريال حتى تتدخل لانقاذها فقالت الأخيرة تجيب نيابة عنها:
-أنا يا ماما التى بحثت عنها حتى أخرجتها من مخبئها ,أننى أعشق زخرفتها ونقوشها المحفورة على سطحها ... خسارة أن تظل مدفونة بدون استعمال.
أخذت والدتها تعدّل بيديها خصلة من شعرها أفلتت من معقلها وهى تقول بصوت ينساب منه الرقة والنعومة:
-يا لها من أيام وذكريات ,أهدتنى أمى ايّاها عندما تزوجت بأبيكِ مشيرة الى أنه علىّ أنا الأخرى أن أعطيها لابنتى بالمثل عندما تتزوج ...
وتركت الجملة معلقة فى الهواء بينما كناتها تنظرن اليها بفضول شديد وحفيدتيها تبتسمان من أجل هذه العادات القديمة المتوارثة التى لم تعد متداولة هذه الأيام .
استطردت الجدة حديثها وكأنها بعالم آخر قائلة بصوتها الذى يشبه نغما موسيقيا:
-كما أننى قد ورثت عنها طقما من اللؤلؤ الحر .. آآآآه ,أتذكر أننى قد أهديت القلادة لكِ يا فريال حتى قبل أن تتزوجى ,واحتفظت بالقرطين والخاتم المشابهين له .. ربما يحين الوقت لأهدى ما تبقى منه الى حفيداتى عندما تتزوجن.
وأشارت بأصابعها المرتعشة الى أميرة ثم ريم تباعا فقامت الأولى باخراج السلسلة التى تحيط بعنقها أمام عينى جدتها المترقرقتين بغيوم الدمع ,وهى تقول بصوت متهدج تأثرا بالموقف:
-القلادة معى يا أنّا ,لقد احتفظ بها بابا وجدى وأوصى الخالة مديحة باعطائها لى فيما بعد ,وقد أوفت هى بعهدها له قبل أن تسافر ,وها هى لا تفارقنى تستقر بجوار قلبى.
التمعت الأعين وهى تشاهد اللؤلؤة البديعة التكوين وهى تلتمع بفعل الأضواء المسلطة عليها ,رفعت شريفة رأيها ببطء ليستقر بصرها على اللؤلؤة النادرة والتى لا تتشابه مع أى لؤلؤ آخر, ودنت حفيدتها منها حتى تستطيع أن تلمسها بأطراف أناملها المتعرقة وهى تشهق من ملمسها الحريرى قائلة:
-هل احتفظ بها من أجلك يا بنيتى ؟ ياه يا وجدى ,لم يكن له مثيل أبدا فى كل شئ ... كان حساسا رقيق المشاعر ولم يظلم أحدا فى حياته ,بينما ظلمه الجميع وتكاتفوا ضده حتى أبوه الذى لم تأخذه به شفقة ولا رحمة ... يا لحسرة قلبى على فراقك !
وأجهشت المرأة العجوز ببكاء حار فما كان ممن حولها الا أن تحاولن تهدئة نشيجها المتقطع خوفا على صحتها من الانهيار ,وقالت فريال بصوت رخيم:
-فلندعُ له بالرحمة والمغفرة يا أمى ,لقد ذهب الى بارئه حيث لا مجال للألم والوجع والظلم كما فى دنيانا.
أمنّت النساء على حديثها المتعقل وهن يرفعن أكفهن بالدعاء له بالرحمة حتى هناء لم تتخاذل عما يقمن به بل زادت عليهن.
فجأة تساءلت فريال وهى تتحاشى النظر الى عينى منى:
-أين ذهب عادل ؟ لم أسمع له صوتا منذ عودتكم من المركز.
أجابتها منى بصوت منخفض وهى تعتصر أصابعها بين راحتى يديها:
-لقد خرج مباشرة بعد عودتنا.
وكأن ما قالته كافيا ليروى فضول شقيقته فهزت برأسها دون أن تنبس ببنت شفة.


*******************

SHELL 18-11-18 01:00 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد ساعة واحدة قفل الرجال عائدون الى البيت وهم بحالة يرثى لها من الارهاق والتعب ,جميعهم بلا استثناء كان حاضرا ,وقد تفجرت المفاجأة بوجوه النساء حينما اجتمع شمل الأسرة كلها مرة واحدة بعد أن تفرقت بهم السبل.
نهضت سوسن لاستقبال زوجها بترحيب حار قائلة بود:
-حمدا لله على السلامة يا محمد.
احتضن يديها بحركة حميمية بالغة وهو يقول :
-سلمك الله , يا له من يوم !
-تعال وارتاح.
وتبعه الآخرون بصمت حتى رفيق لم يكن بمزاج رائق لتبادل الحديث فقط اكتفى هو الآخر بأن ضم زوجته الى صدره ثم أفلتها سريعا وهو يرتمى على أقرب مقعد بينما وقف كلا من سيف وكريم مترددين ينقلان بصريهما بين والدتيهما الى أن أطرق كريم برأسه الى الأرض وهو يقول بخجل موجها حديثه الى أمه:
-سلامتك يا ماما ... هل تسمحين لى بأن أدخل ؟
كانت هناء ممدة على الأريكة بلا حول ولا قوة الا أنها ما أن رأت وحيدها حتى أزاحت الغطاء القطنى عن قدميها وقامت تستجمع قواها لتنهض وهى تقول بدون تردد:
-كريم .. أتستأذننى فى دخول منزلك ؟ آآآه.
صاحت بألم بالغ فهرع نحوها ليمسك بكتفيها بكلتا ذراعيه حتى تستند اليه مخففا الحمل عن قدمها المتورمة ويجلسها مرة أخرى دون أن يتركها قائلا:
-أمى ,,, أعتذر منكِ لم أكن أعرف أبدا أن هذا ما سيحدث , لو كنت ...
وضعت أصبعها على شفتيه تمنعه من الاسترسال فى الحديث قائلة:
-لا تقل شيئا , لست المخطئ يا ولدى ... المهم أنك عدت ,,, لم أكن لأستطيع الحياة دون وجودك , لقد شعرت بالرعب يجتاحنى بعد رحيلك عنى ,لم أكن لأحتمل أن أفقدك كما فقدت أبوك من قبل.
احتضنها بين ذراعيه وأسندت رأسها الى صدره تتلمس العزاء والسلوى لمصابهما المشترك ... فقدان مصدر الأمن والحنان ... زوجها وأبيه.
-أنا هنا الى جانبك ولن أبرحه أبدا ... كنت مشوشا لا أدرك الحقيقة ,شعرت فجأة بالصدمة فتصرفت بصورة متسرعة وأخطأت بحقك.
-لا عليك .
نظر الى كاحلها المصاب بتعاطف وهو يتساءل باهتمام:
-كيف تشعرين الآن ؟
-صدقنى اذا أخبرتك أننى لم أعد أشعر بأى آلام ,كان قلبى موجوعا أكثر .. والآن أشعر بتحسن بالغ ..
-ماذا قال الطبيب عن اصابتك ؟
-الحمد لله أظهرت صورة الأشعة عدم وجود كسور ,أنه مجرد تمزق بسيط بالأربطة وسيختفى التورم بمرور الوقت كما أن الألم قد خف الى حد بعيد.
بقى سيف الى جوار والده حتى ابتدره عمه محمد قائلا:
-ما لك واقفا هناك أنت وأبيك ؟ فلتتقدما الى هنا ,هيا هيا.
تحركت خطواتهما متوازيين حتى وصلا الى المقعد الذى استقرت فيه منى ساكنة لا تقوَ على مجرد الحركة تنتظر القرار الحاسم .. فخر سيف على ركبتيه بجوار قدمى والدته لتتفاجأ بحركته وهو مطأطئ الرأس قائلا بصوت عميق:
-أنا أيضا بحاجة الى غفرانك يا أمى , فهل تصفحين عنى ؟
هزت رأسها بقوة فظن عادل أنها ترفض السماح ... الا أنها سرعان ما انكفأت على رأس ولدها لتغمر وجهه بالقبلات والعبرات وهى تقول منتحبة:
-أنا ؟ هل تطلب منى السماح ؟ ألا تعرف أن قلب الأم لا يعرف القسوة مهما كانت ,لا يمكنها أن تغضب أكثر من بضعة لحظات ثم تصفو من جديد ... أنت ابنى الوحيد وقرة عينى ,فكيف السبيل الى النكران والجحود ؟ ألا تعرف أنك سر قوتى وقدرتى على التحمل.
وهنا تدخل عادل بقوة ليفرض وجوده على الجميع بعد ان فضّل البقاء فى الظل طويلا:
-من فضلكم جميعا , أتمنى منكم أن تستمعوا لى ,, لن أطيل الحديث عليكم ... فقط مجرد دقائق ,,
نجح فى أن يجتذب انتباههم جميعا وقد تسلطت على شفتيه نظرات العيون فى رغبة لمعرفة ما سيقول ,فعض على شفتيه حتى كاد أن يدميهما فهذا هو اعترافه الأصعب فاقترب من دائرة الضوء أكثر حتى لا يتراجع عن قراره مؤكدا بثقة على امتلاكه فضيلة الشجاعة:
-بادئ ذى بدء ... أنا أعترف بأننى قد أخطأت كثيرا فى حياتى ومنذ صغرى ,, فلم أكن مميزا كأخوىّ ... محمد الرزين ووجدى الحنون ولا مدللا كأختى ... فريال الأميرة ... كانوا جميعا محبوبين ولم يفضّلنى أبى يوما كونى مجرد صورة باهتة عنهم ,لم يثق يوما بقدراتى ولم يحاول تشجيعى أو حتى نصحى ... كنت كالخواء بالنسبة اليه .. لا يرانى ولا يسمعنى , وأعرف بأن هذا ليس بعذر كافٍ .. لقد ارتكبت الفظائع بحقك يا فريال وبحق ابنتك أميرة ,والمبرر الوحيد لمثل هذا التصرف أننى كنت أتبع أبانا وأنفذ خطته بدقة ,مجرد عصا يحركها يمينا ويسارا بلا ارادة حقيقية ... ولم أفلت من العقاب ,ولم أكتفِ بهذا فقط تماديت فى حق هذه السيدة المخلصة التى كانت نعم الزوجة ... منى ... التى صبرت على هجرانى لها وتباعدى عنها وأقول لها اليوم : أننى بحاجة اليكِ ,وابنى ... سيف ... لم أكن لك الأب الذى تفخر به ولم أكن قدوة يحتذى بها ... كلما أنظر لك فى هذه اللحظة ينتابنى الندم على كل ثانية أضعتها من عمرى دون أن أكون بجوارك , أراقبك تكبر يوما بعد يوم ,ولكننى ...
سكت عن الكلام بينما الجميع ينتظرون على أحر من الجمر الى أن ابتلع ريقه بصعوبة وهو يستعيد الكلمات المنمقة فى رأسه بلا فائدة ,فقد تسربت هاربة ,ولم يعد أمامه الا أن يرتجل فقال صارخا:
-أنا مذنب بحقكم ,وأطلب منكم الغفران ... ربما لا أستحقه ولن أنال الاحترام المفقود ,وها أنا ذا أجاهر بالاعتراف وأعلن توبتى على الملأ ... هل تسامحوننى ؟
تعلّقت عيناه الغائمتان بدموع أبيّة تستعصى الخروج من معقلها بعينى فريال التى شدّت على أصابع يديها وهى تكوّر قبضتيها لتضرب أخاها عدة مرات متتالية بغضب أعمى وهى تصيح:
-لماذا فعلتها بى وأنا لم أؤذك يوما ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ أكرهك , أكرهك.
وحاول رفيق أن يبعدها عن عمه قبل أن يصيبها أذى من جراء انفعالها فتراخت ضرباتها الموجهة الى صدره لتنهار وهى ترتمى بحضنه تبكى بمرارة ,فتعلّق بها دونما قوة ويهمس بصوت حانٍ:
-آسف , وان لم تكن كافية .. ولكنها كل ما أملك الآن يا أختى.
صدى هذه الكلمة ( أختى ) تردد فى أذنيها لتمحو سابق كلماته وتظل هى المحور الذى يرتكز عليه فقالت تردد متمتمة:
-ربما أستطيع أن أسامحك ,,, ولكن لا تسألنى النسيان ... لن يكون سهلا ... بعد كل ما مررت به من آلام ..
-أعرف هذا فأنا نفسى لم أنسَ ولا يمكن أن أنسى يوما ... وها قد جاء دورك يا منى .. ألا تريدين أن تردى لى صنيعى ؟ هيا انتقمى منى حتى ترتاح نفسك ...
هزت رأسها نفيا وهى تتماسك بعد نوبة البكاء الهستيرية التى أصابتها وقالت تحاول استمداد القوة من مؤازرة ابنها لها:
-لو أجهدت نفسك قليلا لتفهمنى وتصدق بحبى لك لما تفوّهت بتلك الحماقات أبدا ,كيف أنتقم منك وأنت نفسى ,كيف أرد لك اهانتك لى وأنت كرامتى ,كيف لا أسامحك وأنت ذنبى .. أذنبت فى نظر عائلتك لمجرد أننى عشقتك وأردت أن أكون شريكة لحياتك وزوجة لك وأما لولدك ,لم يسامحنى أبوك على عاطفتى نحوك .. وقد تكبدنا ثمنا فادحا .. والآن أتسألنى الغفران ؟ ألم تعرف بأننى سامحتك .. من قبل أن أدرك أنا نفسى
وأخذها سيف من يديها ليقودها نحو أبيه المذهول وهما يقفان الى يمينه ويساره محيطين به وأيديهم متشابكة بمحبة وعاطفة خالصة وقد تحررت الأنفس من أغلال الحقد والكراهية.
هب رفيق على قدميه وهو يأخذ بيد أميرة لتستقر براحة يده فى سكينة قائلا بصوته العميق:
-والآن ... وبعد أن اجتمع شملنا وأعتقد أننا جميعا سعداء وراضون بما آلت اليه الأمور ... علىّ أن أزف اليكم بشرى سعيدة ... قررت أنا وزوجتى أن نحدد موعدا لعقد قراننا الجديد وطبعا هذا بعد أن تستقر حالة تنت هناء ... وبالطبع الدعوة عامة وتشمل كل أفراد العائلة الكريمة.
تعالت الضحكات بين الحضور وسرت همهمات معترضة من سيف وكريم اللذين اقتربا من ابن عمهما وهما يتحدثان فى آن واحد:
-عقد جديد !
أخذ رفيق يشرح موضحا وهو ينظر لعمته بمغزى:
-طبعا بعد أن ظهرت الهوية الحقيقية لزوجتى الحبيبة وتأكد نسبها لعمتى العزيزة فحتى يطمأن بالها الى صحة زواجنا وقانونية هذا الاجراء كان لا بد من وجود عقد جديد باسمها الحقيقى أميرة ناجى الشرقاوى ... وتعهدت لحماتى ..
وابتسم ممازحا لها بعد أن قطبت جبينها لدى تصريحه بالصلة الجديدة التى تربطهما فاستعاد جديته قائلا:
-تعهّدت بأن نسارع بهذا العقد الا أنكم تعرفون بأن الظروف التى مرت بها العائلة وقفت حائلا دون اتمام فرحتنا .. وانتهزت هذه الفرصة النادرة التى سنحت لاجتماعنا حتى أعلن هذا النبأ ... وكما سبق وأشرت الدعوة عامة ... وشكرا لحسن استماعكم والسلام ختام.
وتعالى دوى التصفيق الحاد من الجميع ابتهاجا بخطبة رفيق العصماء وهم يتبادلون التهانئ القلبية الصادقة ,فى حين أطلقت سماح زغرودة مجلجلة وهى قادمة من المطبخ تحمل أكواب الشربات لتقوم بتوزيعها على الجميع.
أشارت الجدة شريفة لهم بالصمت حتى ينصتوا لحديثها ,وقفت بهدوء مستندة الى ذراع ريم ,شامخة الكبرياء رافعة الرأس لتقول بحكمة:
-أنا اليوم أشعر بسعادة بالغة لالتفافكم حولى وتكاتفكم سويا ,ومرتاحة البال لعودة فريال لابنتها ولبيتها ,وبعد الاحتفال ... كان لا بد من هذا الحديث .. بالطبع أنتم تعرفون أن هذه الثروة التى نملكها لم تكن من نصيب عبد العظيم فقط ,حيث أنه لم يكن وحيدا .. فله أخوة ,اثنان : عبد الرحمن , وقد توفاه الله تاركا نصيبه لابنته هناء أما عن حق ناجى فهو لزوجته وابنته أميرة من بعد موته ,والأخ الثانى : عبد الله ... والله أعلم اذا كان حيا أو ميتا ,فعليكم أن تعدوننى بأن تبحثوا عن أثره بكل جهدكم حتى اذا ما وصلتم الى أى خيط قد يقودكم الى مصيره فلتعطوا كل ذى حق حقه حتى ينعم الله عليكم براحة البال والضمير ,ولا تأكلوا مالا حراما بالباطل فتصبحوا على ما فعلتم نادمين.
تردد محمد قليلا وقد بدا على ملامحه بعض التوتر الا أنه قال أخيرا :
-طبعا يا أمى , أنا لم أكن متناسيا لمثل هذا الاعتبار ... فقد وضعت فى الحسبان أن أصل الى الحقيقة ... وسعيت اليها بكل جد ... وقد أفلح مسعاى ... وصلت اليه أخيرا.
قالت شريفة يصوت يغلب عليه الصدمة:
-حقا ! هل وجدت عبد الله ؟
أجابها ابنها البكر بثقة تامة:
-نعم ,ولن تصدقى ما حدث , فقد تقابلنا فى البيت الريفى ... بعد أن تعرّف الى الجميع ...
تهاوت الجدة على الأريكة من خلفها بعد أن خارت قواها ولم تعد قدماها تحملانها فقالت مغمغمة :
-رأيته ؟ هل هو بخير ؟
-نعم يا أمى ,ولتعدوا أنفسكم لهذه المفاجأة السارة ... فهو مدعو الى حفل عقد القران ... وليس هذا فقط بل سيحضر مع عائلته ...
-عائلته ؟ أتعنى زوجته ؟
-أبناؤه وأحفاده ... سيلتئم الشرخ الذى أصاب جدار عائلة الشرقاوى ,ونتلاقى جميعا ...
-لا أكاد أصدق !
رد عليها محمد بلهجة مؤكدة:
-بل صدقى يا أمى ,سترينه بعينيك ...
أشاحت بوجهها بعيدا نحو الفراغ وكأنها تحادث شبحا ماثلا أمامها:
-أن غدا لناظره قريب.


*****************

SHELL 18-11-18 01:03 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الثامن والعشرون

قراءة ممتعة


https://img15.dreamies.de/img/990/b/axytbtz7q5o.gif

SHELL 20-11-18 09:35 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل التاسع والعشرون

https://upload.3dlat.net/uploads/3dl...c1988fcca2.gif


أخذ الجميع ينسحب واحدا تلو الآخر حتى بقى فقط الأحفاد يجتمعون معا وكل منهم ينتظر أن يبدأ الآخر فى الكلام ,وظل رفيق صامتا يراقب أقرانه بعينيه الثاقبتين كعينى صقر يتحيّن الفرصة المناسبة للانقضاض فيما قامت ريم بالخطوة الأولى لتكسر حاجز الصمت بتلقائيتها وعفويتها لتقول ببراءة شديدة:
-هل تعرفون أننى متحمسة للغاية لمعرفة أن لنا أقرباء سوف نتعرف اليهم عن قريب , أليس هذا رائعا ؟
هكذا ببساطة شديدة التعقيد عبّرت الفتاة عما يجيش بصدرها من أحاسيس نحو أشخاص لم تعرفهم ولم ترهم قبل اليوم وكل ما يربطهم هو اسم ... مجرد انتمائهم لعائلة الشرقاوية ,أهذا يجعلهم متأهبين للقائهم واستقبالهم بصدر رحب كمن يستقبل صديقا عزيزا كان غائبا عنه لسنوات ,الأمر مختلف تماما ... ولن يكون هذا اللقاء عاديا وريما يحمل معه الكثير من المفاجأت التى حتما لن تكون جميعها سارّة ... هكذا كان يرى رفيق الأمر من وجهة نظره الشاملة , هو يعى مدى طيبة وسذاجة أخته التى تتعامل مع البشر سواسية وكأنهم جميعا ملائكة لا يخطئون ,واللوم يقع عليه حينما وافق أباه على رأيه بأن تظل ريم جليسة المنزل بعد تخرجها دون أن تصطدم بالواقع وتجرب الحياة العملية بما تمنحه لها من خبرات تؤهلها لمعرفة الصالح من الطالح ,ربما عليه أن يعيد النظر فى مسألة عملها ... فهى بحاجة الى افراغ طاقاتها بشكل ايجابى ... سوف يتناقش مع أبيه فى هذا الأمر بعد اتمام عقد القران ..
قال سيف الذى كان ينظر لابنة عمه باستهزاء:
-أنتِ ساذجة للغاية يا ريم .. فهؤلاء الاقارب الذين تودين استقبالهم بذراعين مفتوحتين لا نعرف عنهم شيئا ,وكل ما تحتاج لادراكه بالوقت الحالى أنهم سوف يشاركوننا فى كل شئ نملكه ... الميراث ... الشركة ... الأراضى وحتى هذا المنزل .. لم يعد ملكا لنا وحدنا.
قامت أميرة بطرح استفسارها بصوت مرتفع نسبيا وكأنها تحادث نفسها:
-ترى كيف تعرّفتم عليهم ؟
أجابها كريم بلهجة ممطوطة وقد شعر بالسأم يتملكه من هذا الحوار:
-الأجدر بك أن تسألى : كيف تعرّفوا هم علينا ؟ لقد ذهبت الى منزلنا الريفى ففوجئت بوجود هذا الشخص الذى ادّعى أنه أخا لجدنا ,فى البداية لم اصدّق أذنىّ حتى هاتفنى عمى محمد بنفسه وسألته عن حقيقة الأمر فأكّد لى أنه ليس شخصا كاذبا ,,, لقد اتضح لى الكثير من الأمور الغامضة بالآونة الأخيرة ,وبدأت الحقائق تنكشف تباعا ..
أمّن سيف على قوله وهو يستند بذراعه على وسادة صغيرة الى جواره ثم قام بتمديد قدميه أمامه وهو يشير لريم مشاكسا:
-عندك حق يا ابن عمى ... ريم أرجو ألا تكونى متضايقة لأننى أمد قدمىّ فى مواجهتك مباشرة.
لم تتراجع ريم عن رد الصاع صاعين له وهى تقول بعد أن أصدرت صوتا معترضا بشفتيها:
-عجبا لأمرك ! ومنذ متى كنت مراعيا لشعورى الى هذا الحد ,لقد صدّقت الآن أن هناك معجزات ما زالت تحدث فى عصرنا الحالى .
ابتسم رفيق وقد علت ضحكاته مقهقها فلم يتمالك نفسه حتى أمسك بمعدته وهو يقول ناهرا:
-كفاكما أنتما الاثنان , ألا تشبعان مشاكسة كالقط والفأر ,متى سوف تنضجان وتتصرفان كشخصين بالغين ... ونحن بوسط هذا الكم الهائل من المشاكل وأنتما لا تحسنان التصرف ... شئ لا يصدقه عقل.
رد كريم ممازحا وقد أعجبته اللعبة فأشار للثنائى العابس قائلا:
-لقد افتقدت حقا هذا الجو العائلى , شجاركما الدائم على أتفه الاسباب .. تعنيف رفيق لكليكما ...
استطرد رفيق قائلا وهو يشير نحو كريم:
-ودفاعك المستمر عنهما ... ومحاولة استرضائى حتى لا أغضب ..
شعرت أميرة بالغربة وسط استعادتهم لذكرياتهم المشتركة بالماضى حيث كانت مجرد قريبة بالاسم لا يعرفها أيا منهم ,فانكمشت على نفسها مختبئة بقوقعتها التى عادت أدراجها اليها ,لم تستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة حتى شعرت بيد تداعب كتفيها لتشدها الى أحضان دافئة وكأنما جسدها يلتقط بمؤشر حسّاس ذبذبات خاصة به وحده ,ورفعت عينيها تناجى عينيه المفعمتين بكل معانى العشق والتفهم لوضعها فقرأت بداخلهما المواساة الصامتة دون أن يتفوّه بحرف واحد وكأنه يخبرها بمعرفته لما يعتمل بنفسها بل ويؤكد على وجوده الى جوارها ثم همس لها بأذنيها بعيدا عن مسمع الآخرين:
-أين اختبأت لؤلؤتى ثانية ؟ لا أريد أن أراكِ متباعدة بهذا الشكل .. أحب أن أشعر بوجودك بكل كيانك معى ليس فقط جسدا بل قلبا وعقلا وحتى خواطرك الخفيّة لا بد أن تشركيننى فيها , اتفقنا يا حبيبة قلبى ؟
أومأت له برأسها فيما انساب الألم من كلماتها المقتضبة:
-ليس بيدى , صدقنى كلما حاولت أن أنسى وأتجاهل الماضى بكل حوادثه وآلامه أجده مجسدا أمامى بكل وضوح .. لا اعرف أين المفر ؟
قال دون أن يتراجع بحزم:
-ليس عليكِ الفرار منه بعد الآن , ربما آن أوان المواجهة يا أميرتى.
-ماذا تعنى ؟
-كلما واجهنا الحقيقة كاملة فنستطيع أن نطرد جميع الأشباح المخيّمة على ماضينا دون أن نترك الباب مواربا لعودتها مجددا ,الآن سوف نغلقه نهائيا وللمرة الأخيرة.
كانت ريم فى ذلك الوقت تتلاعب بهاتفها الخلوى فأثارت انتباه سيف الذى استشعر ارتباكها وهى تنظر الى شاشته التى أضاءت عدة مرات ولكنها كانت تضعه على الوضع الصامت فلم يلتفت غيره لتصرفها المتوتر ,واقترب منها دون أن تلاحظ ليتطلّع نحو الهاتف بتساؤل واضح وهو يقول بمكر:
-لماذا لا تجيبين على الاتصالات التى تأتيكِ ؟
انتفضت مذعورة من قربه الدانى وقد تفاجأت حقا بوجوده فأسرعت تخفى شاشة هاتفها حتى لا يلمح الاسم الذى كان ملحا باتصالاته المتتالية وكأنه لا يقبل بالرفض أبدا مهما ضغطت على زر الانهاء ,ضاقت عيناه بلمحة واعية لما قامت به لتوها فعاد لوضعه متراجعا الى الخلف بينما عقله يعمل بسرعة الصاروخ وقد تأكدت له شكوكه المتناثرة حول السبب وراء تغيّر تصرفات ابنة عمه فى الفترة الأخيرة وبدأت تتلاعب به ظنون خبيثة ... أيمكن أن يكون المتصل رجلا ؟ هل لريم علاقة بأحدهم ؟ لا يوجد تفسير منطقى لاخفائها هذا الأمر عنهم الا لكونها تعرف مدى الخطأ الجسيم الذى ترتكبه ,لم بظن يوما أن ريم قد تكون من هذا النوع من الفتيات العابثات اللاتى تتهورن بتصرفاتهن فيطمع فيهن من كان فى قلبه مرض ,فى حين شعرت ريم باهتزاز الهاتف بين يديها فقررت أن تنهى عذابها المتجدد بأن نهضت واقفة لتستأذن منهم وهى تقول بصوت ناعس متثاءبة بعمق:
-ياااااه أعتقد أننى سوف أخلد الى النوم ,تصبحون على خير ...
وهرعت نحو غرفتها بالأعلى الا أن صوت شقيقها استوقفها بعد أن قال بصوت خشن:
-ريم ... انتظرى ,,أود أن أتحدث معكِ قليلا.
أسقط فى يدها هل انتبه رفيق الى تصرفاتها الغريبة فقالت بصوت مرتعش دون أن تلتفت اليه:
-ألا يمكن للحديث أن يؤجل للصباح ؟
اتسعت ابتسامته الصافية وهو يقول بود دون أن يبدو عليه الانتباه الى تلعثمها:
-طبعا حبيبتى ... ولكن لا تنسى لن تجدى سبيلا للهرب منى غدا.
-حسنا ,أراك فى الصباح الباكر يا أخى.
واندفعت تكمل سعيها نحو ملجأها الامين بغرفتها التى ما أن وطأتها بقدميها حتى أغلقت بابها بهدوء دون أن تصدر صوتا وأدارت المفتاح مرتين حتى تطمئن نفسها ,على الرغم من أنها تدرك أنه لا يمكن أن يدخل غرفتها أيا كان دون أن يطرق الباب أولا ,ثم انتظرت دقيقة أخرى حتى تتأكد أن لا أحدا يتبعها واستلقت على فراشها تتلمس الطريق الى الهاتف حتى تجيب على المتصل لتزيح عن كاهلها هم محادثته بعد لقائهما العاصف نهارا فأسرعت تقول بصوت جاهدت لتجعله هادئا ثابتا:
-آلو ...
انطلق من الجهة الأخرى صوته الرجولىّ الغاضب وهو يصيح منفعلا:
-لماذا لا تجيبى على اتصالاتى ؟ لقد هاتفتك أكثر من عشرة مرات وأنتِ تغلقين فى كل مرة.
أجابته بلا مبالاة مصطنعة وهى تضغط أظافر اصابعها بعمق فى راحة يدها لتصنع آثارا غائرة فى جلدها الأملس تكاد تشعر بها تحرقها كما تحترق روحها من الداخل:
-كنت مشغولة فلم أستطع أن أجيب على اتصالك.
-وما هو الشئ البالغ الأهمية الذى يشغلك عنى ؟
استفزتها لهجته الساخرة والتى كانت تأكل من روحها القلقة فأجابته بصوت متألم وقد شعرت بالجرح العميق:
-ها أنت تسخر منى , طبعا لا تصدّق أنه قد يوجد أمر أكثر أهمية فى حياتى من مجرد البقاء فى انتظار أن تتكرم علىّ باتصالك.
لم تره وهو يتلاعب بخصلات شعره الشقراء بيديه شاعرا بالقنوط يجتاح كيانه من تحوّل مجرى الحديث بينهما الى هذه الدرجة ,ولكنها سمعته يزفر بحرقة قبل أن يقول لائما ايّاها:
-لا أفهم لماذا تتحدثين الىّ هكذا ؟ يخيّل الىّ أنكِ لست ريم التى أعرفها.
أجابته مؤنبة:
-وهل تعرفنى حقا يا جاسر ؟ أشعر أحيانا أننا لسنا بهذا القدر الكافى من المعرفة .. مجرد علاقة سطحية , أليس كذلك ؟
شعرت بأنه يقف على حافة بركان غضبه الذى انفجر بغتة فى وجهها وهو يقول :
-الآن أنتِ ترين أن علاقتنا سطحية ,وماذا أيضا لديكِ ضدى ؟ أفرغى ما فى صدرك .. ولا تترددى.
-لا شئ موجه ضدك ,مجرد اعادة للتفكير والنظر برويّة وتأنٍ فى مسار هذه العلاقة ,ولا أرى ما يسئ اليك فى هذا الشأن.
أتاها صوته هذه المرة ناعما وهو يقول متلطفا:
-لماذا تغيّرت تصرفاتك معى فجأة ؟ ما الذى جرى اليوم ؟
أخذت ريم تهز رأسها يمينا ويسارا عدة مرات وهى لا تكاد تصدق أنه يطرح هذا السؤال بمنتهى البساطة فأجابته باندفاع:
-أتسألنى ؟ فقط مجرد معرفة للحقيقة الواضحة أمام ناظرىّ وكنت أتغاضى عنها أو بمعنى أصح أتعامى برغبتى عنها حتى لا أصل الى هذه النتيجة.
قال بصوت يفيض سخرية مريرة:
-وهل لى أن أعرف منك ما هذه النتيجة التى توصلت اليها أيتها العبقرية ؟
-أننى لا أعرفك حق المعرفة .. تبيّن لى أننى كنت أعيش بأوهام من نسج خيالى وحاولت أن أجعلها تبدو كالحقيقة حتى اتضح أنها مجرد سراب.
صمت برهة قبل أن يستعيد هدوء أعصابه حتى يقدر على مسايرتها فقال بثبات واضح:
-لقد أردت أن أشرح لكِ .. ولكنك لم تمنحيننى الفرصة ,هربتِ منى !
-أنا لم أهرب !
اعترضت بقوة وهى ثائرة على اتهامه الظالم لها ثم استطردت قائلة بحدة:
-كما أنه قد بدا لى أنك مشغول للغاية ... بالعمل أو زملاء العمل.
أدرك أنها تعنى بكلامها أن تصل لطبيعة علاقته بليلى ,ولم يدرِ لمَ شعر بعودة الأمل مجددا لينعش قلبه اليائس فاذا كانت مهتمة بشأن معرفة الحقيقة فهى لا زالت متعلقة به ,فتنهد ارتياحا قبل أن يقول صراحة:
-أتعنين ليلى ؟
-آه تذكرت اسمها ... أنها ليلى اذن دون أية ألقاب.
ابتسم فى سره من غيرتها الواضحة التى رنت مدويّة فى أذنيه معلنة عن اهتمام بالغ تحاول انكاره فقال بغموض:
-كما سبق وأشرتِ أنها زميلة لى فى العمل فكيف تريدين منى أن أناديها ؟ من الطبيعى أن نتعامل بصورة غير رسمية ... ولا تنسى أيضا أننى أكن لزملائى كل ود واحترام.
-ومن الطبيعى أن تناديك باسمك مجردا دون ألقاب , مع العلم أنك الآن نائب للمدير ؟
-لقد أخبرتك أن هذا تم بصورة مؤقتة لحين عودة السيد فهمى وبعدها لن يعود لى مكان بغرفته.
-وأين ستذهب ؟ هل ستعود لمشاركة زملائك الذين تودهم وتحترمهم ؟
صمت عن الاجابة متعمدا فهو لم يشأ أن يكذب عليها فأساءت هى تفسير سكوته وظنته دلالة على تلاعبه بمشاعرها فأكملت تقول لتحرقه بلهجة قاسية:
-اذن هنيئا لكما ... لا اجد داعيا لاستمرار هذه المحادثة.
-انتظرى يا ريم.
قاطعها بلهجة صارمة اثارت الخوف بجسدها فهذه هى المرة الأولى التى تجده يعاملها بطريقة جافة فأجفلت لتقول مترددة:
-ماذا تريد ؟ سوف أغلق حالا.
-ايّاك وأن تفعليها يا ريم ,أريد أن أقابلك لأمر ضرورى للغاية.
أشاحت بوجهها وهى تضرب الأرض بقدميها بطريقة طفولية وكأنه يراها فقالت متحدية:
-وأنا لن أستطيع رؤيتك فلدى مشاغل كثيرة هنا.
تصلّبت قسمات وجهه وصاح أخيرا وهو يطحن بأسنانه غاضبا :
-ومن الذى يشغلك لهذا الحد ؟ كنتِ سابقا تتلهفين لمقابلتى فما الذى استجد عليكِ ؟
انتبهت الى أنه قال : من الذى يشغلك بهذا الحد ؟ وكان الأجدر به أن يقول ما وليس من ,فأخذت تفكر مليا قبل أن تقرر أن تتلاعب بمشاعره مثلما يفعل معها لترد باستهتار:
-شخص مهم جدا لدىّ ,أحبه كثيرا ويحتاج الى مساندتى له.
اعتصر بقبضته القوية الهاتف بين يديه ونيران الغيرة والشك تلهب خياله الخصب بعد أن اعترفت له دون أدنى ذرة من التردد أو الخوف ,فأعاد فى ذهنه تفاصيل الحوار الذى سمع جزء أخيرا منه وكان دائرا بينها وبين سماح حينما سألتها الأخيرة عن هذا المدعو سيف ,والذى كان مفترضا أن يتزوجها ,بحسب زعمها , أيمكن أن يكون هذا صحيحا ؟
فقال دونما تفكير:
-ومن هو هذا الشخص ؟
-وما شأنك أنت ؟ أنه أمر عائلى.
شعر بصدره يضيق غير قادر على التنفس بشكل طبيعى وتساءل : هل هذا صحيح ؟ أتها تعنى هذا الشخص فعلا فهو من عائلتها ... ابن عمها على الأرجح ,وتذكّر أنه سبق ورأى شابين يقفان معا حينما كان فى زيارة لأميرة ,وأخذ يفكر ايا منهما يا ترى هو سيف ؟ كان يحاول استعادة أدق التفاصيل عن ملامح غريمه الخفىّ ,بلا جدوى فالضباب انتشر مشوشا الصورة لتتلاعب الظلال بسخافة فى ذهنه حتى قضت على أدنى بارقة امل للتعرف على الوجه الوسيم التقاطيع ,وتضاءلت فرصته الى جانب هذا الشخص الذى تربطه بها صلة دم فى حين أنه هو الغريب عنها ,علاوة على اعترافها بقربه منها وعشقها له.
نجح أخيرا فى أن يقول بصوت متهدج على الرغم من محاولته التماسك:
-ألا يساورك حتى الفضول لمعرفة ما أود قوله لكِ ؟
-تفضل , يمكنك أن تخبرنى الآن.
-لا يمكن على الهاتف , لا بد أن أراكِ وجها لوجه.
-لا أعتقد أنه يمكن فى الوقت الحالى ,هل يمكن تأجيل هذه المقابلة ؟
-لا أستطيع ارجائها لوقت آخر فالأمر حيوى للغاية.
-حسنا , لم يعد بيدى الأمر ... تصبح على خير يا جاسر.
-أرى أنكِ قد حسمت قرارك ,وما زلتِ ترفضين الاستماع الىّ.
لم يكن قرارها هيّنا كما اعتقد بل كانت تصارع لهفة قلبها الضعيف لرؤيته والارتماء فى أحضان عينيه حتى ترتوى من نظراتهما الشغوفة التى تحتويها بجرأة بالغة ,بيد أنها اتخذت قرارا قاطعا بعدم الاستسلام لهذا الضعف ,فعليها أن تصبح قوية وقادرة على السيطرة على عواطفها حتى لا تصبح مثارا للسخرية من سذاجتها وبساطة تفكيرها كما يتهمها سيف على الدوام ,فقالت دون تراجع:
-أتمنى لك الخير فى حياتك يا جاسر ..
أقفلت بوجهه بابها الذى كان مفتوحا فيما مضى على مصراعيه فقال بقسوة مهددا:
-لا تهدرى هذه الفرصة من بين أيدينا.
-وداعا.
-لا يا عزيزتى , بل الى اللقاء وأعدك وقتها أنك ستذرفين الدموع ندما على ما فاتك ... ووقتها لن تفيدك الدموع بشئ ولن تعيد لكِ ما أهدرته من بين يديكِ.
-...........
لم تعلّق بكلمة واحدة وأغلقت هاتفها بأصابع مرتجفة من آثار الغضب والألم ,وشعرت بكيانها كله يهتز بعنف وصدى كلمات تهديده الحاقد تتردد بقوة حتى صمّت آذانها ,فانهارت باكية على الأرض الباردة وهى تشعر بلهيب حارق يجتاح جوفها ,وأخذت تنعى آمال حبها الضائعة.


****************

SHELL 20-11-18 09:36 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
قال سيف بعد انصراف ريم وهو ما زال متكئا على الوسادة بأريحية:
-أعتقد أن ريم تتصرف بغرابة هذه الايام.
عقد رفيق حاجبيه مفكرا فيما يعنيه ابن عمه قبل أن يغمغم قائلا:
-ربما ما زالت متضايقة من مسألة العمل الذى رفضته ,غدا سوف أحادثها بهذا الشأن وأعتقد أنها ستسعد كثيرا حينما أخبرها بالمفاجأة التى أعددتها من أجلها,ففى المرحلة القادمة سنحتاج الى أن نتعاون معا من أجل انجاح أعمالنا دون اللجوء الى غريب قد لا يكون مؤتمنا على أسرارنا.
تساءل كريم بتكاسل:
-هل ما زلت مصرا على قرارك ؟
أجابه رفيق باصرار وعزيمة وقد أدرك تلميحه كمن يقرأ أفكار ابن عمه :
-طبعا , اسمع أنا لست ظالما لها أو مجحفا بحقها , فهى من بدأت بالسعى وراء الأذى ... ونحن لا نتهاون بشأن الكاذب أو الخائن.
التفتت نحوه أميرة وقد استرعى انتباهها أنه يتحدث بصيغة المؤنث عن هذه الشخصية التى لا تعرفها قالت بتسرع ونزق:
-من هذه التى سعت الى الأذى ؟
تبادل رفيق وكريم النظرات الخبيرة وقد أدركا أن وراء سؤالها نبضا من الغيرة وشيئا من الفضول فأجابها رفيق بحيادية:
-أنها سكرتيرتى الخاصة مها.
أفاق سيف من شروده بخصوص ريم لدى سماعه اسم مها يتردد وكأنه يرتبط بها كالمغناطيس الذى يجذب اليه المسامير بقوة خارقة ,فسأل بشكل عرضى:
-ما لها مها ؟ أقصد ماذا بخصوصها ؟
مسح رفيق بكفيه على كامل وجهه وهو يحاول ادّعاء اللا مبالاة قائلا:
-لقد قررت أن أفصلها من الشركة نهائيا.
انزعج سيف من حديثه فحاول أن يجعله يتراجع عن قراره القاطع بقوله:
-ألا تعيد التفكير مرة ثانية بأمر فصلها ؟ ربما يمكننا أن ننقلها لقسم آخر ؟
قطّب كريم جبينه وهو يقول معترضا:
-كيف يمكن لنا أن نثق بهذه الفتاة ثانية ؟ أنأتمنها على أسرارنا ؟ لا يمكن , فهذه مخاطرة فى العمل.
أومأ رفيق برأسه موافقا وقال بثبات:
-سيف .. لا أعرف لماذا تحاول أن تثنينى عن هذا القرار الضرورى ,وبصراحة أكثر أشعر بالحيرة من أمرك , فأنت من اعترف لنا بخططها الحقيرة للانتقام منّا فكيف تدافع عنها الآن ؟
رفع سيف يديه مدافعا ليقول بصدق:
-أنا لا أدافع عنها على الاطلاق ,فبقدر ما أكره تصرفها الشائن هذا بقدر ما أجد نفسى ألتمس لها بعض العذر ... ربما تكون قد أخطأت باخفائها حقيقتها عنّا ولكننا لم نثبت عليها بدليل دامغ الخيانة الفعلية .
قاطعه كريم مهتاجا:
-وهل ننتظر هذه السافلة حتى تبيع اسرار الشغل لمنافسينا بالسوق ؟
أشار له رفيق حتى يهدأ قائلا:
-لا يمكن أن نسمح بحدوث مثل هذا الشئ , ليس فى شركة الشرقاوى.
قال سيف وقد هب واقفا من مقعده لينقض على كريم:
-لا أسمح لك أن تنعتها بالسافلة ,كما أنها قد عملت معنا فترة ليست بالقليلة ولم يشكُ منها رفيق أبدا ولا مرة واحدة , أليس كذلك ؟
قام كريم بدوره ليدافع عن نفسه صائحا:
-وماذا سوف تفعل يا ابن عمى , هل ستضربنى من أجل واحدة بهذه الأخلاق ؟
هرع رفيق نحوهما للحيلولة بين تشابكهما بالأيدى فى حين شعرت اميرة بالفزع يجتاحها وهى تنفض رأسها بقوة لتصيح بدورها :
-أرجوكما لا تفعلا , لا تتشاجرا سويا , لا يمكننى احتمال هذا ... كلاااااااا.
انتصب الثلاثة رجال واقفين وهم ينظرون اليها بحيرة بالغة فاستطردت قائلة بعنف:
-ليس بعد أن تصالحنا وعادت المياه الى مجاريها , لا تعيدا الكرة مرة أخرى ,,,, لن اسمح لكما بتجديد الصدع الذى قمنا معا برأبه ,نحن عائلة واحدة ... دم واحد ,فليعتذر كلاكما من الآخر ,,, هيا ...
انصاع الشابان لها دون أن يتجرأ أحدهما على الرفض بينما ظل رفيق متجمدا على وضعه وهو يتعجب من قوة هذه المرأة المفاجئة له ومع ذلك لا يملك سوى الاعجاب بشجاعتها واندفاعها بحب وانتماء لعائلتهما وأقاربهما ,هذه هى المرأة التى يحتاج الى رفقتها بمشوار حياته ... حنون ... شجاعة ... قوية ... شغوفة ... محبة ... غيور ... هذه هى زوجته وحبيبته وأميرة عرش قلبه.
ثم استجمع قواه محتضنا ابنى عميّه مشيدا برجاحة عقليهما حيث ثابا الى رشدهما وكلاهما يعتذر للآخر بمحبة أخوية فقال سيف مبادرا:
-أنا آسف يا كريم ,لقد انفعلت قليلا.
فتراجع كريم بدوره دونما عناد قائلا:
-وأنا ايضا لم أعنِ ما قلته , فقد انزلق لسانى دونما وعى منى.
-لا عليك.
قال رفيق وهو يشير الى أميرة لتسارع الى جانبه :
-والآن حان وقت النوم فقد كان يوما مرهقا للغاية ,, تصبحان على خير
ضمها الى صدره وهما يبتعدان معا متشابكى الذراعين ,يشيعهما كريم وسيف بنظرات تملأها الغبطة والسرور فقال الأخير بصوت يشوبه بعض الحسد:
-أن رفيق محظوظ للغاية بزوجته ... من يجد مثل هذه المرأة فى وقتنا هذا ؟
أشار كريم برأسه ايجابا وهو يستعيد فى ذهنه صورة للفتاة التى يحتار فى أمرها .. وتقف السدود المنيعة حائلا بينهما وبين السعادة المنشودة.
توّجه رفيق نحو غرفته وهو يضع ذراعه حول خصر زوجته بحب وتملك بينما يقول بلهجة فخورة مشيدا بها:
-أنتِ حقا تعرفين كيفية التصرف وقت الشدة ,لم أكن أظن أنكِ تستطيعين التعامل مع مثل هؤلاء الوحوش.
اقتربت منه باصرار وئيد وهى تلف ذراعها حول عنقه بينما تقرّب وجهها منه:
-لقد استطعت أن أروّض وحشا أكثر بدائية منهما ... ونجحت بادخاله الى القفص الذهبىّ ,فما رأيك ؟
أشار لها بسبابته محذرا بينما يتخطيان عتبة باب الغرفة المشتركة التى صارت تجمعهما ليلا:
-ولكن عليكِ أن تحتاطى من وحشيته .... فهو لم يصبح أليفا بالكامل
وفجأة دون سابق انذار رفعها فوق كتفه بخفة وكأن لا وزن لها فشهقت بابتهاج وهو يتقدم بعزيمة نحو الفراش الذى ارتج بعد أن رماها فوقه بشكل لطيف حتى لا تتأذى وهو يغمز لها بصورة جمدت الدماء فى عروقها وهو يعدها بالكثير والكثير مما تشتاق نفسها اليه بعد عناء يوم شاق وقال مرتميا الى جانبها:
-ألا يستحق هذا الوحش مكافأة على تعبه يوم الاجازة وقضائه معظم الوقت خارج القفص ؟
اتسعت ابتسامتها وهى تقول بصوت يحمل فى طياته دلالا ونعومة فائقتين بينما ترتعش أهدابها الكثيفة مرفرفة وهى تطبقهما لتغلق عينيها فى اشارة استسلام تام:
-أنا فى الانتظار لأرى ماذا يختار الوحش ؟ أيطلب الخنوع أم يحب القتال ؟
امتدت أصابعه لتتخلل فى خصلات شعرها على ضوء القمر الشاحب الذى يتسلل من زجاج النافذة وهو يتمتم بشاعرية:
-ربما يتطلب الأمر مزيجا من كليهما.


***************

SHELL 20-11-18 09:38 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
فى صباح اليوم التالى تجمع كل أفراد العائلة على مائدة الافطار كما تعودوا فى السابق وحتى هناء خرجت من عزلتها بمساعدة كريم وسيف اللذان قاما بمساندتها حتى تنزل الى البهو بسلام وهى مبتسمة بانشراح بعد أن تصالحت هى وابنها ,فيما قامت منى بمناولة زوجها صحنا من القشدة لتضعه فى متناول يده بمحبة أطلّت من نظرات عينيها اللامعتين ,وكانت فريال جالسة تراقب ابنتها وزوجها خلسة حتى تطمئن الى عودة الانسجام كاملا الى علاقتهما التى تنمو وتتوطد يوما يعد يوم كأى زوجين عاشقين ,بينما أخذ سيف يناوش ريم بحركاته المشاكسة حتى قامت هى بازاحة يده ممازحة ايّاه وضحكاتها تنطلق مجلجلة متناسية ما كان بالأمس ,بقيت الجدة شريفة تتناول طعامها بصمت وهى تفكر فى القادم وما ستؤول اليه حياتهم بعد عودة الغائب الى بيته.
مسح رفيق فمه بمنشفة الطعام الصغيرة وهو ينهض متمتما برضا:
-الحمد لله , سفرة دائمة ان شاء الله.
كانت أميرة تعترض على سرعته الفائقة فى المغادرة فقالت بتأنيب:
-لم تأكل جيدا , لماذا أنت متعجل للرحيل ؟
منحها أجمل ابتساماته على الاطلاق وهو يقول مغازلا:
-أننى اشعر بالشبع لمجرد رؤيتك الى جوارى ... ريم ,هل انتهيتِ ؟
أومأت برأسها ايجابا فأشار لها بأصبعه حتى تتبعه وهو يقول:
-بعد اذنكم ,لدىّ حديث مع ريم يجب اتمامه.
قام محمد بتأييده لابنه مشجعا:
-طبعا يا بنى , كما اتفقنا ... اذهبى مع أخيكِ يا ريم.
وربّت على ظهرها حينما مرّت بجانبه وهو يقول بصوت خفيض:
-سوف تصير الأمور على خير ما يرام باذن الله يا حبيبتى.
قالت ريم وهى تنحنى لتطبع قبلة على خده:
-طالما أنت وأمى راضيان عنّا فكل شئ آخر يهون يا بابا.
-ليكتب الله لكما كل خير.
وسارت ريم مبتعدة تتبع أخيها وهو يتجه نحو غرفة المكتب.
أغلق الباب خلفهما ثم جلس على الأريكة الجلدية وهو يشير لشقيقته حتى تجلس الى جواره مبتسما بحنانه المعهود قائلا:
-تعالى هنا يا ريم , أريدك هنا بالقرب منى.
أطاعته الفتاة بصمت فى انتظار ما يسفر عنه هذا الحوار المؤجل منذ فترة ,واقترب هو منها معدّلا من جلسته ليصير مائلا الى جانبه الملامس لها فابتدرها بقوله:
-أرى أن عاداتك تغيّرت كثيرا فى الآونة الأخيرة ,ترى ما الذى بشغل بال أختى الصغيرة ؟
تنهدت ريم بعمق وقد توترت أعصابها بفعل سؤاله البسيط وهى تتساءل فى أعماقها : هل يلمح الى خروجه المستمر ؟ أم أنه يقصد شيئا آخر ؟
فحركت كتفيها وهى تقول :
-لا شئ مجرد أننى أحاول تمضية وقتى بدلا من الجلوس فى المنزل ,أنت تعرف أننى أشعر بملل رهيب ..
قاطعها بتسرع قائلا:
-وما رأيك اذن فى أن تقومى بعمل مفيد ومسلٍّ بذات الوقت ؟
-وما هو ؟
ابتسم ابتسامة جانبية وهو يرفع حاجبيه متلاعبا ثم قال بلهجة ودية:
-ألم تطلبى منى من قبل أن تعملى ؟
أشاحت بوجهها وهى تتذكر موقفه منها وصفعته التى أهانتها فقالت بخنوع:
-وما زلت أتذكر رفضك وما فعلته يومها.
أمسك بذقنها وهو يجبرها على النظر الى عينيه اللتين امتلأتا بمشاعر العاطفة والندم قائلا بصدق:
-ريم ... أنا أعتذر منكِ مجددا ,بهذا الوقت كنا على حافة الجنون جميعا وأنت وضعتِ الوقود بجانب النيران , لا تنسى أنكِ قد أهنتِ أميرة وهى زوجتى فلا طاقة لى بأن أراكما على خلاف , أحبكما أنتما الاثنين وأتمنى أن تصبحا صديقتين علاوة على أنها ابنة عمتنا فلا يجوز ما قلته بحقها .. ولكننى تسرعت حينها فليس من عادتى أن أمد يدى أبدا لا عليكِ ولا على غيرك ,وأنت تعرفين هذا يقينا ,, أليس كذلك ؟
رنّت منها نظرة رضا وهى تقول مؤمنة على كلامه:
-لديك كل الحق ,ولكننى شعرت بأنك تعاملها بصورة أفضل منى وكأنك تثق بها ولا تأتمن أختك فتضايقت.
-حسنا ,المهم ... نحن الآن بحاجة الى مساعدتك فى العمل معنا كما كنتِ ترغبين , فهل أنتِ مستعدة ؟
صفقت بيديها فرحة كطفلة صغيرة وهى تغرقه بالأحضان والقبلات لتقول بجذل:
-شكرا شكرا لك يا رفيق.
صاح بصوت مختنق وهو يحاول ابعادها عن عنقه الذى تعلّقت به:
-اهدأى يا ريم , سوف تقتليننى ,آه.
سارعت فى الابتعاد عنه وهى تقول بامتنان:
-آسفة لم أقصد ,,, ولكننى حقا أشعر بسعادة بالغة , لا أستطيع أن أصف لك مدى حاجتى لهذا العمل وخاصة الآن.
ضاقت عيناه بصورة لا ارادية وقد استشف من لهجتها أنها واقعة بورطة فسألها بفضول:
-ولماذا الآن بالذات ؟
شعرت ريم بأنها تسرّعت وكاد اعترافها يفلت من بين شفتيها فأخذت تعض على شفتيها كمن يخفى ذنبا وتكاد عيناها تقول : كالمريب خذونى
فقالت وهى تحاول اخفاء ارتباكها:
-لأنك سوف تتزوج من أميرة وستنشغل عما قريب بحياتك الخاصة ,وأبى بحاجة الى أن يرتاح بعد عناء طويل.
ابتسم لها مجاملا وهو يقول مصدّقا:
-أنت محقة فقد ألمح لى كثيرا أن يريد أن يتقاعد تماما ,وقد سنحت له الفرصة الآن فنحن جميعا سنتشارك فى ادارة الشركة أما بقية الأعمال الأخرى فقد ظهر لنا شركاء وأعتقد أنهم سيكونون أكثر من سعداء باستلامها.
سألته باهتمام:
-صحيح ... هل قابلت فعلا هذا الرجل الذى يقول أبى عنه أنه أخا لجدنا ؟
ضحك مقهقها وهو يجيبها مقررا:
-اسمه عبد الله وعليك أن تعتادى على مناداته بجدى.
كشرت بأنفها وهى تقول بعدم رضا:
-ولماذا أناديه بجدى ؟
-لأنه بمثابة جد لنا ,وبالمناسبة هو شخص لطيف للغاية وجذاب أيضا , لا أصدق أن هذا الرجل يقترب من الثمانين فهو يمتلك طاقة وحيوية كشاب فى الأربعين من عمره ,وحينما تقابلينه ستقعين بحبه ..
-كيف تعرّفتم عليه ؟
-كان أبى هو الواسطة التى ربطت بيننا وبينه من جديد ,أعتقد مما فهمته من حديثه أنه كان على اتصال به منذ وفاة جدنا .
-ولماذا هذه الغيبة الطويلة عن العائلة ؟
-هذه أمور يطول شرحها , فهى بغاية التعقيد ونحن لا ينقصنا الاثارة بهذا الوقت , فقد مررنا بأوقات عصيبة جدا ,,, ألا تريدين أن تنالى قسطا من الراحة من هذه المشكلات ؟
-بلى ,سوف أؤجل أسئلتى الفضولية لما بعد ,منذ متى تريدينى أن أبدأ فى ممارسة عملى ؟
أشار بكفه مشجعا وهو يقول :
-منذ الآن لو أحببتِ.
-أحقا ؟ هيا اذن لا أريد أن أتأخر عن العمل بأول يوم , دقائق وسأكون جاهزة , لا تغادر من دونى رجاءا.
ابتسم لها وهو يقول باسترخاء:
-سوف أنتظرك طبعا فأميرة ايضا سوف تأتى معنا .
ثم نظر الى ساعته مضيقا عينيه ليقول بلهجة تحذيرية رافعا سبابته فى وجهها:
-ولكن لا أريد أن أنتظركما طويلا , فأنا أعرف النساء جيدا .. لا داعٍ للبهرجة والوقوف أمام المرآة لساعة كاملة ... فأنتِ ذاهبة للعمل وليس الى حفلة خاصة.
-ومن هذه التى ستقف أمام المرآة أصلا ؟ لن أستغرق أكثر من خمسة دقائق , فاضبط ساعتك على موعدى.
-حسنا يا حلوتى الصغيرة سأفعل.


****************

SHELL 20-11-18 09:40 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
التقت هديل بمها التى كانت ترتقى درجات السلم الجانبى الذى يؤدى الى هذا الجزء المعزول عن بقية أنحاء الشركة ولكن حركة جسدها افتقرت الى رشاقتها وحيويتها المعتادة وكأنما تحمل على كتفها هموم الدنيا بأسرها ,فأخذت صديقتها تناديها بصوت مرتفع حتى تنتبه من شرودها لتقف متصلبة فى انتظارها وهى تبادرها بالقول:
-مها ... انتظرى ,ماذا بكِ ؟
اقتربت منها هديل وهى تلتقط ذراعها فى حركة ودية وتدسها تحت ابطها لتستكملا طريقهما فى الرواق الضيق وهى تسألها باهتمام:
-ما الذى أتى بكِ الى هنا يا مها ؟
أجابتها مها دون أن تصدر عنها أى اشارة طفيفة لتغيّر مواجها النكد:
-أننى متوجهة الى قسم شئون العاملين.
ابتهجت هديل قليلا وهى تقول بصوت يفيض عذوبة ورقة:
-يا للمصادفة ! فأنا أيضا متوجهة الى ذات القسم.
لم تحرّك مها ساكنا والتزمت الصمت التام ,بينما قادتها هديل الى الغرفة المعنيّة وكأنها تُساق الى موتها وتوقفت كلتا الفتاتان لبرهة قبل أن تقوم هديل بالطرق على الباب عدة مرات لتسمع صوتا قويّا يدعوها للدخول.
أطلّت الفتاتان برأسيهما من فتحة الباب الضيّقة قبل أن تدلفا الى الداخل فى مواجهة للرجل القوىّ الشكيمة والذى كان مكلّفا بتولّى مهام اخبارهما بما فى انتظارهما وقد بدا على مها الاستسلام فيما استولى الذهول على ردة فعل هديل.
-تفضلّا بالجلوس.
جلجل صوت الرجل الأربعينى بوضوح فى فراغ الغرفة على الرغم من ضيقها ,فقد تردد صوته برنين الصدى فى أذنيهما وهو يتابع قوله باحترافية بالغة دون أن تهتز شعرة فى رأسه:
-بالطبع يا آنسة مها أنتِ تعرفين لماذا أنتِ هنا , هذه هى الأوراق التى تم تجهيزها لتوقّعى عليها قبل أن تغادرى.
وصمت يلتقط أنفاسه فقاطعته هديل مندهشة وهى توّجه الحديث الى صديقتها متسائلة:
-تغادرين ! الى أين يا مها ؟
أشاحت مها بوجهها حتى لا تضعف ويلتمع الدمع بعينيها الخضراوين ,فيما استطرد الموظف بلهجته العمليّة قائلا بثبات:
-لقد رأى مجلس الادارة أنه من الأفضل لكِ أن تتقدمى باستقالتك بدلا من القيام بفصلك من العمل حتى لا تتضاءل فرص حصولك على عمل بمكان آخر.
وقام بدفع الأوراق باتجاهها وهو يعد قلمه الأنيق لتقوم هى بالتوقيع دونما أية مقاومة أو محاولة للرفض , فما الفائدة من محاولة تأخير الحسم بهذه المسألة وهى تدرك أنها النهاية بلا شك ,وكانت تسخر بداخلها من محاولته جعل الأمر يبدو انسانيا بهذا البرود وكأنه آلة طرد يقذف بها كالكرة خارج الملعب ,وبدأت تضع توقيعها وصوته يرن بأذنيها منبها ايّاها حتى تقرأ جيدا التفاصيل:
-ألا يهمك أن تعرفى علام توقعين ؟ أن هذا يعد تهورا من جانبك آنسة مها .
ابتسمت له باستهزاء وهى تقول بصوت يقطر مرارة وانهزام:
-وهل هذا يشكّل فارقا ؟ فالسيد رفيق أعدّ عدّته لالقائى خارج الشركة ببساطة متناسيا سنوات خدمتى السابقة ...
حاول الرجل أن يدافع عن رب عمله بواقعية وهو يقول بآلية:
-الا أنه سوف يدفع لكِ تعويضا مناسبا بالرغم من أنه لا يحق لك قانونيا مطالبته بهذا الشئ لأنكِ أنتِ من تقدمتى بطلب الاستقالة.
أكملت ما كانت تفعله دون أن يبدو عليها التأثر لما يحاول أن يقوم به هذا الرجل ,فهى الوحيدة التى تعرف تفاصيل قضيتها ... ولا جدوى من محاولة تحسين صورتها أمام هذا الرجل فهو مأمور ليقوم بهذه المهمة بهذه الطريقة السمجة ... أنه من يقوم باجراءات الفصل والتسريح من العمل ,باختصار يتركون له المهام القذرة المتعلّقة بالموظفين ,فلا يواجهون نظرات البشر المنكسرة بذل وقهر ,حتما لسيف دوره الاساسى بكل ما آلت اليه الأمور,ولم تستطع أن تلومه بصراحة فهى تستأهل الجزء الأكبر من التأنيب ,وبينما هى على حالها ابتسم الرجل ابتسامته الصفراء وتوجه نحو الفتاة الأخرى التى بدا على وجهها دلائل الذهول والدهشة وكأنه يشعر بالسعادة لأنه يستمدها من تعاسة الآخرين قال بشكل وقح:
-أما أنتِ يا آنسة هديل ... فسوف تنتقلين الى قسم آخر ... السيد كريم قرر الاستغناء عن خدماتك كسكرتيرة خاصة له.
أسقط فى يدها ... هل ما تسمعه يمت الى الحقيقة بصلة ؟ ستنتقل الى مكان آخر لأن كريم استغنى عن وجودها الى جواره ,لماذا تضخّم من الأمر وتجعله يبدو حقيقيا ؟ لا بد أنها تعانى من هلاوس فما كان بينهما ... لا شئ باختصار شديد ,مجرد علاقة عمل وهو قد استنفذ الغرض من بقائها للعمل معه ,لم تلتفت الى بقية الحديث وهو يملى عليها تفاصيل عملها الجديد وطبيعة الظروف المحيطة به ,لم تعد تهتم ... فلن تعمل مع كريم ثانية , لن ترى ملامحه الوسيمة وهو يمنحها أجمل ابتساماته ولن تستمع الى ترنيمة صوته وهو يلقى عليها أوامره الصارمة ,لن تغرق بعالم أحلامها الوردية وهى تتصور أن اهتمامه بها يفوق حدود العمل ويتخطى حواجز الفروقات المتعددة بينهما ,عادت وبقسوة شديدة الى أرض الواقع .. لقد أزاحها عن طريقه بجرة قلم ,تراجعت الى الوراء بمقعدها لتستند على ظهره الجلدى الأنيق والذى ينم عن ذوق من طراز رفيع كما تشى كل تفاصيل الشركة من أبسطها الى أكثرها تعقيدا بدقة مالكيها ورغبتهم الدفينة فى الحصول على الأفضل فى كل شئ فهم لا يرضون الا بدرجة تكاد تقرب الكمال ,وشعرت بأنها قد استمدت قوة اضافية بجلستها المعتدلة ونظرت له بكبرياء وشموخ لتنساب الكلمات من بين شفتيها بيسر وسهولة كأنما لا تعانى من تنطق بها بأى احساس بالضعف أو التردد لينطلق صوتها على غير عادته قويا واثقا مجلجلا بأصدائه فى أرجاء المكتب:
-أرى أنه لا داعِ لكل هذه الاجراءات المعقدة ,,, فلن أنتقل الى أى قسم آخر.
نظر لها الرجل بتشفِ واضح وكأنه يعى صدمتها القوية فيبتسم ببطء وبطريقة مدروسة ليقول بطريقته الآلية:
-أعلم أنكِ ربما لا تودين مغادرة مكانك ولكن يؤسفنى اخبارك بأنه لا محالة من تنفيذ قرار السيد كريم ... فهو من استغنى عن خدماتك ...
ودنا بوجهه أكثر ليقترب منها على الرغم من عدم حاجته لمثل هذا التصرف ليستطرد بطريقة أكثر الحاحا وسماجة:
-ولكنه قد أوصى بخبرتك وحسن سلوكك حتى تستفيدى بالقسم الجديد , وهذه لعلمى شهادة تقدير لا ينالها الكثير من الموظفين لا سيما السكرتيرات.
تنهدت هديل بعمق قبل أن تغتال رغبة ملحّة بأن تنشب أظفارها فى وجه هذا المتحذلق البغيض لتضيف بعد فترة صمت قائلة:
-أظن أنك لم تعِ ما قلته للتو , فقد سبق وأخبرتك أنه لا حاجة الى انتقالى الى قسم جديد ... فسوف أغادر الشركة نهائيا.
حاول الرجل أن يكتم دهشته البالغة وقد ظهرت على ملامحه دلائل الغيظ المكتوم فقال يغالب ضيقه:
-لا ضرورة لمغادرتك للشركة فكل ما فى الأمر أنك سوف تعملين بمكان آخر ,وان لم يرق لكِ سوف نبحث عن حل وسط يرضيكِ.
هل لمحت فى صوته رنة فزع سيطرت عليه بعد أن كان يتلاعب بهما كدمى خشبية دون رحمة أو شفقة , أيقن أن خيوط اللعبة تنفلت من بين أصابعه فلم يعد هو السيد المسيطر على ادارة دفة الحوار.
رفعت رأسها عاليا بصورة سافرة للتحدى الماثل أمام عينيه الجاحظتين وهى تقول بشكل عملى:
-دعنا ننهِ الأمر بصورة أسرع وأنظف دون أن نترك آثارا وراءنا ,فلتجعل الاستقالة اثنتين واحدة لها والأخرى لى .. هكذا لا تتركون دليلا واحدا على قذارة ما تقومون له.
رأت أنها قد اثارت به هلعا وهو يحاول اثنائها عن هذا القرار الذى لا تراجع فيه وهو يقول بصوت مضطرب وقد بدأت قطرات العرق تتسلل على جبينه ليجففها بمنديل ورقى سحبه من احدى العلب أمامه:
-أرجوكِ أن تراجعى نفسك قبل اتخاذ مثل هذا القرار ,فأنا مفوّض لنقلك وليس لاقصائك عن الشركة ...
-لا تخشَ شيئا فأنا من سوف تتحمّل نتائج قرارها وليس أنت , فما الذى سوف تخسره اذا ما وافقتنى على اقتراحى ؟
-لا بد من استشارة السيد كريم اولا قبل اتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية.
ارتفع حاجباها دهشة وهى تقول بصورة ساخرة:
-وما الذى يدفعنى الى انتظار رأيه ؟ كما سبق وأخبرتنى أنه لم يعد مديرى فقد صرفنى من خدمته ,ربما عليك أن تسأل الريّس أو على أسوأ تقدير تعلم السيد سيف لأنه المسؤول الأول عن شئون الموظفين , أما السيد كريم فلا حاجة الى استشارته فهو ليس معنىّ بالأمر من قريب أو بعيد.
هزّ رأسه نفيا بشدة وهو يوضح الأمر باسهاب غير معتاد:
-لا أستطيع أنا آسف فقد كلفّنى السيد كريم بالأمر حتى يتم بالصورة التى يرغبها دون أية تعديلات واذا ما طرأ هذا التغيير فلا بد من اعلامه أولا قبل الاقدام على مثل هذه الخطوة.
هبّت واقفة وهى تنتفض غضبا لتقول بعنف:
-لن أنتظر أوامر السيد فلم أعد موظفة أعمل تحت امرته ,ولهذا فسوف أقابل السيد رفيق بنفسى لأشرح له الوضع كاملا ولنرَ قراره الأخير.
حاول أن يستوقفها قبل أن تقدم على التصرف بتهور ولكنها أفلتت منه بسرعة قبل أن يلحق بها فما كان منه الا أن أخذ يضرب كفا بالآخر وهو يتمتم باستسلام:
-لا فائدة ,علىّ أن أتصل به هاتفيا لأعلمه بالأمر ولا أعرف كيف سيتقبّل هذا الخبر.
بينما ظلّت مها ساكنة بمقعدها تنتظر التوقيع على ورقة استقالتها وكأنها بعالم آخر لا تتفوّه بكلمة واحدة تعليقا على ما حدث لصديقتها.
أخذ وجهه يتلوّن بالأحمر القانى وهو يستمع الى صوت محدثه على الطرف الآخر ويبدو أنه ينال تقريعا قاسيا فقد أخذ يحاول الدفاع عن نفسه بتخاذل وهو يقول يائسا:
-أعتذر منك يا سيدى , لا ... لم أستطع ايقافها , هى فى طريقها الى مكتب السيد رفيق ... حسنا , آسف مرة أخرى.
وبعد أن أعاد سماعة الهاتف الى موضعها فتنفس الصعداء وكأنما نجا من موقف عصيب فبدأ يستعيد ذات سمات شخصيته الباردة السمجة وهو ينظر الى الضحيّة الماثلة أمامه وكأنه يفرغ فيها شحنات غضبه المكبوت فقال بلا ابطاء:
-والآن يا آنسة مها سوف توقعّين على الورقة كما اتفقنا.
وضغط باصبعه على زر الطبع فى انتظار الورقة المجهّزة سلفا لتظهر جزءا بعد جزء ثم تستقر أخيرا فى الجارور الخاص بالطابعة وقد التقطها بخفة ومهارة ليضعها بين يدى الفتاة المسكينة وهو يخرج من جيبه قلما من الحبر ليقدمه لها وكأنه يحتفظ به خصيصا لهذه المناسبات السارّة الى قلبه وأخذ يشرف عليها من علوٍ كنسر ينتظر الانقضاض على فريسته ولكن بعد أن تخرج روحها تماما وماذا يكون قرار فصلها بهذه الصورة الوضيعة الا حكما بالاعدام صدر ضدها وللاسف لا يوجد استئناف.
خطّت بأصابعها المرتعشة على وثيقة اعدامها وقد أعمتها الدموع التى غشيت عينيها الخضراوين فسقط القلم من يدها التى خارت قواها وتسابقت دمعتان لتبللا الورقة قبل أن يسحبها الرجل وكأنها كنزه الثمين الذى لا يفرط فيه ثم قال بلا رأفة:
-الآن يمكنك أن تتسلمى هذا الشيك ,, أنه مبلغ جيد كتعويض لكِ.
ثم مدّ يده اليها لتتراقص الكلمات أمام عينيها فتلمح بصعوبة الرقم المطبوع فوقه وقد شهقت من صدمتها ثم أخذت تحرك رأسها يمينا ويسارا تعبيرا عن رفضها لاستلامه وهى تبحث عن المخرج من هذا الجحيم الذى وقعت فيه بينما تعجب هو من رفضها لمثل هذا المبلغ من المال الذى لا يحلم به أى موظف فى الشركة فأصرّ على أن تقبله وقد خفّف من حدة لهجته قليلا تعاطفا مع انهيارها ولكنها ثبتت على موقفها وهى تقول بكرامة:
-لا أقبل أن أبيع كرامتى ولا مقابل كنوز العالم , ولا أمد يدى الى احسان أبدا ,وأبلغ رؤساءك أننى لا أريد شفقتهم ولا عطفهم ولا أحتاج اليهم.
زم شفتيه غير قادر على التعليق على ما شاهده بنفسه وان كان لا يصدّق أنه يوجد شخص عاقل يرفض أن يتقبّل مثل هذا التعويض الذى يراه هو من وجهة نظره مبالغا فيه , فهى مجرد سكرتيرة بالنهاية.
لم يكن هو وحده الذى يرى مهنتها بهذه النظرة الدونية فالغالبية يحكمون على الفتاة من مظهرها دون الالتفات الى جوهرها.
ما عادت تهتم ,ولماذا تثور لكرامتها المهدرة على يد أمثاله من الرجال الذين يسعون الى اكمال عقد النقص لديهم بافراغها فى أمثالها من الضعفاء.
باختصار ... لم يعد لديها ما تخسره ,ولهذا فعودها قد اشتد وصار أكثر صلابة , وعليهم أن يحسبوا لها ألف حساب ... لن تنعموا بالراحة يا آل الشرقاوى ... بعد الآن.


************

SHELL 20-11-18 09:44 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
اندفعت هديل نحو مكتب رفيق دون أن تنتبه للفتاة الجديدة التى حلّت مكان مها وهى تنهض مسرعة لتحاول ايقافها قبل أن تنجح الأولى فى أن تتخطاها لتطأ بقدميها أرض الغرفة اللامعة بحذائها ذى الكعب المرتفع الذى يصدر رنينا متواصلا فانتبه الرجل الجالس خلف مكتبه وكان منشغلا بالحوار مع فتاتين أنيقتى المظهر ولم تلتفت الى أنها تعرف احداهما وكان كريم قد اصطحبها الى مكتبه من قبل مرة واحدة ,قطّب رفيق جبينه بشدة وهو يراقب تحركات سكرتيرة ابن عمه التى ولجت بدون أدنى قدر من اللباقة وتبدو على وجهها سيماء العواصف التى تهب منذرة فى فصل الربيع فقطع حديثه وهو يخاطبها بلهجة واثقة لا تخلُ من حزم وصرامة :
-كيف تدخلين هكذا الى مكتبى دون استئذان أو حتى على الأقل تطرقى الباب ,ألا تعرفين أبسط قواعد الأدب ؟
ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة وقد أدركت أنها قد خطت الى عرين الأسد وهو غاضب الآن بل فى قمة هياجه ولكنها ما عادت تهتم مقدار ذرة بما يمكن أن يؤول اليه مصيرها فقالت بلهجة من نُزع منه جميع أسلحته ووجد نفسه محاصرا وظهره الى الجدار:
-سيد رفيق ,,, أعتذر عن الطريقة التى دخلت بها ولكننى أشعر بحاجة الى محادثتك لأمر ضرورى للغاية.
قاطعها رفيق باشارة من أصبعه وهو يقول محذرا:
-انتبهى ,فلا يوجد عذر لديك لمثل هذا الأسلوب الهمجى فى التعامل معى ومن الأفضل لكِ أن تكون أسبابك وجيهة حتى أستطيع النظر فيما تطلبينه والا ... فلن تكون عواقب فعلتك محمودة.
كانت أميرة وريم تتابعان الموقف بصمت مترقبتين ردة فعله على تصرف هذه الموظفة الجريئة الا أن ريم ضيّقت عينيها عندما تأملت ملامح الفتاة الهادئة الجمال وهى تشعر بشئ مألوف فيها ولكنها آثرت التزام السكوت حتى لا تثير أعصاب أخيها أكثر فهى تشعر بتوتره الملحوظ وهو على وشك الانفجار فى وجه هذه المسكينة.
اعتدلت هديل فى وقفتها وهى تقول بصوت بدا فى أوله ثابتا حتى غالبها التأثر فارتعش صوتها متهدجا:
-سيدى أنت تعرف أننى أعمل سكرتيرة للسيد كريم منذ فترة ليست بقصيرة وقد أثبت كفاءة ومهارة لا بأس بهما بشهادته شخصيا فلست أحاول أن ألمع صورتى أمامك ,وفوجئت اليوم بأننى سوف أُنقل الى قسم جديد ... فجئت أشكو اليك هذا الظلم البيّن الواقع علىّ.
حينما أنهت عبارتها كانت تشهق بنشيج بكاء متقطع فزفر رفيق بحرقة كارها لاستخدام المرأة هذا السلاح المزعج فهى ان لم تصل الى مرادها لجأت الى دموع القهر والضعف فصاح بها دون مراعاة لمشاعرها:
-كفى ... لا داعٍ للبكاء ,اذا كنتِ تشعرين بالظلم من قرار النقل فيمكنك أن تلجأى الى الطريق المعروف ... أن تقدمى شكوى مكتوبة الى السيد حسن وهو سوف يتولى أمر النظر فيها ثم احالتها الى مجلس الادارة للبت فيها اذا كان القرار سليما فلا تراجع فيه أما اذا كانت هناك أدنى شبهة للظلم فتلقائيا سوف ينصفك قرار المجلس دون الحاجة الى مثل هذه الحركات الهزلية التى قمتِ بها لتوك.
كان يشرح وجهة نظره الى جانب تعنيفها بأسلوب متحضر بجعله فى مصاف الكبار حقا فهو يرأس شركة من أكبر الشركات فى مصر ويعمل لديه مئات من الموظفين ولم يُعرف عنهم يوما أنهم قد اساءوا الى أحد منهم دون وجه حق ,فبدأت هديل تهمهم بصوت مختنق وهى تضع أصابعها على طرف شفتيها لتمنعهما من الارتجاف حتى تقول ببطء:
-ولكن يا سيدى , أنا قادمة من مكتب السيد حسن وهو من أخبرنى بأنه لا مجال للتراجع فى القرار لأن ... ل..
قاطعها رفيق بنفاد صبر واضح:
-لماذا ؟ أخبريننى ... أوه , لا يمكن احتمال المزيد من البكاء ... يا فتاة كفى عن دموعك هذه التى تذرفينها بلا حساب .
كفكفت دموعها بظاهر يدها حتى مد اليها رفيق منديلا ورقيا فى لمحة بسيطة من اللياقة التى يتمتع بها على الدوام حتى فى أحلك الظروف فالتقطته الفتاة وهى تشكره قبل أن تتابع حديثها:
-لأن السيد كريم هو من اتخذ هذا القرار.
تراجع رفيق بمقعده وهو يحك ذقنه مفكّرا , وأخذ يدير الحوار كله فى رأسه ليتساءل بينه وبين نفسه :كيف فعلها كريم ؟ ولماذا دون أن يخبره بالأمر من اساسه ؟ كيف يمر قرار مثل هذا دون استشارته ؟
سعل متعمدا ليعطى لنفسه مساحة من الوقت قبل أن يقول برزانة:
-حسنا , لا بد من أن أسأله بنفسى عن الأمر , فلا بد أن لديه سببا وجيها لمثل هذا التصرف.
ثم أخذ يراقبها ويتابع أدق تعبيرات وجهها المنكمش والذى تصاعد اليه اللون الأحمر جراء بكائها المستمر قبل أن يستطرد بلهجة ذات مغزى:
-هل قمتِ بأى تصرف خاطئ ؟ أعنى هل أزعجته بمخالفتك لأمر ما ؟
ازداد انكماشها داخليا وهى تحاول دفع النهمة عن نفسها فقالت ببؤس:
-أبدا , أنا لم أخطئ فى عملى ولا مرة واحدة.
وكانت محقة فهى تعمل بجد والتزام ويشهد لها الكثيرون بهذا فلم يلفت انتباهها مرة واحدة ولم تحصل على أية جزاءات ,ثم تذكرت صديقتها مها وما حل بها على يد هذا الشخص الذى يدّعى العدل والصدق فقالت بنبرة أقوى وأكثر حدة:
-ربما هو قرار الادراة لتغيير طاقم السكرتيرات جميعهن ,,, فيبدو أننا لم نعد ملائمات للمنصب حتى سكرتيرتك الشخصية قررت طردها من العمل.
قال بنزق وقد استفزه تلميحها الصارخ وهو يهب من مقعده ليواجهها فتراجعت هى الى الخلف خطوتين وقد أرهبها رؤية الشرر يتطاير من عينيه :
-هكذا اذن , ماذا تعرفين أنتِ عن هذا الموضوع ؟ ها ,,, تكلمى .
ارتعدت فرائصها وقد ايقنت أنها تجاوزت كافة الحدود مع عقلانيته ومحاولاته للبقاء هادئا دون انفعال الا أن أميرة هبت لنجدتها فأنقذتها من هذا الموقف الرهيب بأن أمسكت بذراع زوجها لتجذبه نحوها وهى تهدئ من ثورته بلهجة رقيقة:
-رفيق , اهدأ فالأمور لا تَعالج بالانفعال , هيا ... أرجوك.
فى حين دمدمت هديل مرددة:
-أنها صديقتى هذا كل ما فى الأمر.
استسلم لها أخيرا بعد أن كاد أن يرفض الانصياع لرجائها المتوسل ,ولكنه ظل على نبرته المهددة:
-ايّاك أن تدسى أنفك فيما لا يعنيكِ , هل تسمعين ؟
أومأت هديل برأسها عدة مرات وهى فى قمة فزعها ولم تصدق أنها أفلتت من قبضته فى حيت استطرد حديثه بلهجة أخف حدة:
-ولو أن الأمر لا يخصك , الا أن صديقتك هذه خائنة لا تستحق الوثوق بها فاحذرى منها ربما تلدغك بالمرة القادمة فسم الحيّة لا يميّز بين عدو وصديق ,ويحسن بك أن تذهبى الى مكان عملك الجديد قبل أن أنظر فى شكواكِ ,ولا تجعليننى أندم على تسامحى مع تهورك .. التزمى طريق الصواب.
أومأت مرة أخرى بهزة من رأسها فلم تعد تجرؤ على النطق من شدة روعها فأشار لها برأسه نحو الباب:
-هيا اذهبى.
فغادرت الفتاة مسرعة تتعثر بخطواتها فى حين ضغط هو على زر استدعاء السكرتيرة التى جاءت تهرول الى الداخل فحذرها بلهجة متوعدة:
-وأنتِ أنكِ ما زلتِ قيد الاختبار ... اذا تكرر مثل هذا التصرف منكِ فلن أرحمك.
اعتذرت الفتاة منه وهى تنتفض قائلة:
-آسفة سيدى ولكنها أسرعت دون أن أستطيع ايقافها ثم ...
قاطع تلعثمها دون هوادة:
-لا أريد لهذا أن يحدث مجددا والا لن تجدى مكانا لكِ لا بشركتى ولا بأى شركة أخرى فى العالم العربى بأسره.
ولم يكن يطلق مجرد فقاعات فى الهواء يل كان قادرا على تنفيذ تهديده حرفيا , ثم صرفها وهو يشيح بيده.
قالت ريم بصوت خفيض وكأنها تحادث نفسها:
-أشعر وكأننى أعرف هذه الفتاة.
نظر لها رفيق دون اهتمام حقيقى وقال ببساطة:
-ربما رأيتها هنا من قبل فهى كانت تعمل سكرتيرة لدى كريم.
-لا , ليس هذا ما أعنيه ... أليس اسمها هديل ؟
-نعم.
ثم ضربت براحتها على جبهتها برفق وهى تقول بلهجة انتصار:
-نعم , أنا أكيدة أنها هديل صلاح.
سألها وقد أثارت فضوله هذه المرة:
-وكيف عرفتِ اسمها كاملا ؟
-لأنها كانت زميلة لى بالكلية , ولكنها تسبقنى بعام.
ثم اضافت بتعجب:
-حقا العالم صغير , ولكن كيف لم تنتبه لرؤيتى ؟
قالت أميرة بصدق:
-لأنها كانت مرتعبة لدرجة الموت , ألم ترى كيف كان يعاملها أخوكِ ؟
هل كانت زوجته تشكو من طريقته فى معاملة موظفيه أم أنها كانت تضخ الحقيقة واضحة أمام ناظريه ؟
تأفف رفيق بصوت مرتفع وهو يقول متبرما:
-يا للنساء ! لا بد أن تؤازر الواحدة الأخرى فقط لمجرد أنها أنثى مثلها دون أن تعى حجم الموقف.
قالت أميرة ساخرة:
-نوّرنى يا سيد رفيق , ما الذى فاتنى من هذا المشهد ؟
ابتسم بهزل وهو يقول :
-فاتك الكثير يا سيدة أميرة ,ولكن ليس هذا هو الوقت ولا المكان المناسب لايضاح الأمر , كما أننى أنا أيضا متفاجئ من قرار كريم فهو لم يخبرنى مسبقا برغبته فى استبدال سكرتيرته ,و علينا أن ننتظر سماع أقواله فلا بد أن لديه مبرر قوى لمثل هذا القرار.
قابلته أميرة بذات الحجة وهى تقول بعدم رضا:
-كما لديكِ مبرر قوى لطرد مها ؟
حدجّها بنظرة غاضبة دون أن يحاول شرح موقفه ورفع سماعة الهاتف ليطلب رقما داخليا قبل أن يلقى التحية على محدثه على الطرف الآخر ثم يضيف بجدية:
-أريد أن أراك بمكتبى حالا يا كريم , لا , لا يمكن للأمر أن يؤجل .. نعم أنا فى انتظارك.


********************

SHELL 20-11-18 09:51 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل التاسع والعشرون

http://forum.hawahome.com/nupload/134473_1269525171.gif

SHELL 22-11-18 03:56 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثلاثون والأخير ج1

http://dl3.glitter-graphics.net/pub/...bue9oj7pi4.gif


حينما أنهى رفيق اتصاله السريع وضع سماعة الهاتف بعنف مما أصدر ضجيجا مزعجا أثار توتر ريم التى رأت أن الأمر لن يمر بسلام حتى وهى جاهلة بالتفاصيل كلية فيبدو على شقيقها معالم نفاد الصبر بجلاء شديد ,بينما أصرّت أميرة على فتح النقاش مرة أخرى دون أن تنتبه لأنها تضغط على أعصاب زوجها المنفعل فقالت بصوت عالِ تحادثه معلنة عن رأيها الخاص:
-أظن أن كليكما قد تسرّع بقراراته فمثل هذه الأمور لا تُعالج الا بالصبر والحكمة بدلا من التهوّر ...
قاطعها رفيق بصيحة غاضبة وهو يزفر بضيق:
-أميرة .... كفّى عن هذا الحوار , فلا طاقة لى بمناقشة مثالياتك التى لا تُمسّ مهما أخطأ من حولك تصرّين على تجاهل هذه الأخطاء ...
أردفت أميرة بحدة وهى تقوم من مجلسها لتتمشّى فى غرفة المكتب الفسيحة حتى تعطى لنفسها مجالا من الحرية حتى لا تستلم لغضبها من طريقته اللا مبالية فى معاملة موظفيه من وجهة نظرها:
-هذا ما يٌسمّى بالتسامح والغفران , ألا تعنى لك هذه الكلمات شيئا فى قاموسك؟
قال محاولا السيطرة على انفلات أعصابه الوشيك وهو يعاملها بهدوء كمن يهدّئ طفلة صغيرة غير راغبة فى التفاهم:
-أميرة ... لا يوجد لهذه الكلمات مرادفا فى مجال عملنا , من يخون أو يخطئ عن عمد فعليه تحمل وزر عمله ,وقد سبق وأخبرتك مرارا أننا لا نظلم أحدا أو نسئ الى موظف لدينا أبدا , ويمكنك أن تسألى بنفسك لتتأكدى.
لم تتوقف عن هذا الحد بل تمادت بارادتها القوية لتمس وترا حساسا فى القضية بسؤالها المترفع عما قامت به هديل لتستحق مثل هذا التعسّف فى قرار نقلها فأشاح هو بوجهه بعيدا عن نظرات عينيها اللائمتين وهو يغمغم بصوت خفيض:
-لا أعرف سبب قرار كريم ,ولهذا فقد استدعيته لأفهم الموضوع برمته قبل أن أتخذ أى قرار بشأن الفتاة , أرجوكِ أميرة كونى فقط موضوعية وعادلة حين توجهّين لى أصابع الاتهام بدون وجه حق.
استشعرت مدى الألم الذى ينضح فى صوته العميق بالرغم من قوة شخصيته وسيطرته على الموقف فقد استشفت حساسيته الواضحة لأى تصرف يبدر منها تجاهه ,هو يهتم حقا برأيها الخاص فيما يفعل حتى ولو كان قرارا يتعلّق بادارة الشركة فهما الآن ليس مجرد زوجين أو قريبين بل شريكين فى الحياة بكل تفاصيلها ,,, وانتقلت نبضات الألم تلقائيا الى قلبها فهى لا تتحمّل رؤيته هكذا ,وتساءلت فى قرارة نفسها : هل تسرّعت حين اتهمته بالقسوة حين اتخذ قراره بانهاء عمل السكرتيرة الخاصة به , ونفت أن يكون ظالما لها , هو أعلم بما فعلت ... ابتسمت له ابتسامة أذابت ثلوجه المتجمّدة على وجهه الحاد القسمات فأشعّ الدفء مطلا من نظرات عينيه الفضية وهو يلمح اعتذارها الصامت بعينيها فرقص قلبها طربا لتفهمه السريع لها ,هو من بين جميع الرجال ... رجلها الواثق المحب العطوف الذى يمكنها أن تلجأ اليه فى كافة حياتها ومهما كان اختلافهما فهو لا يتنمّر عليها بل يحاول جاهدا أن يجعلها ترى ما يفوتها ببصيرته الحادة وخبرته الواسعة ,وثقا به فى الماضى وسلمته زمام ادارة حياتها حين وافقت على الزواج منه ,وقد أثبت لها بالقرائن العملية أنه رجل أفعال وليس مجرد أقوال ,تولّى حمايتها ووقف الى جانبها حتى استعادت عافيتها وميراثها المستحق دون أن ينتظر مقابلا وهو الذى تخلّى عن كافة حقوقه عليها لسنوات طوال راضيا بالبقاء فى الظل حتى تهم هى بالخطوة الأولى نحوه دون أن يتعجلها أو يتأفف مللا ,, أنه رفيقها ,, رفيق دربها الى آخر العمر.
-من فضلكما أنتما الاثنان , هل يمكن ارجاء أية مناقشات مصيرية تتعلّق بالصراع الدائم بين الرجل والمرأة حينما أغادر أنا فأعصابى لم تعد تحتمل هذا الاستفزاز.
قالتها ريم بتوتر ملحوظ حتى بعد أن لمست الهدوء الذى سيطر على الموقف بينهما مما جعل رفيق يرفع حاجبا متسائلا وهو يراقب وجه أخته الصغيرة بتمهل وامعان قبل أن يعلن هجومه قائلا:
-وهل لنا أن نتشرف بمعرفة السبب الذى يجعلك حساسة تجاه مثل هذه المناقشات العادية ؟ ثم ما علاقة حديثنا هذا بالصراع بين الرجل والمرأة يا ريم ؟ هل تريننى أنا وأميرة نتقاتل لاثبات شئ ما ؟
هزّت ريم برأسها نفيا وهى تقول بصراحة:
-كلا لم أقصد هذا المعنى , أعرف أنكما متفاهمان بدرجة كبيرة بل أحيانا أشعر وكأنكما خلقتما الواحد للآخر بتناغم رهيب فى ردة الفعل ولا يخفى علىّ مدى اهتمامك بها ودفاعك المستميت عمّا يخصّها ,الأمر وما فيه أننى أشعر بترقب لما سوف يحدث الآن حينما تتبارز أنت وكريم شاهرين أسلحتكما الفتّاكة فى النقاش حتى ليصل الأمر بى الى درجة الرعب مما يمكن أن يؤول اليه الوضع بينكما.
اقتربت منها أميرة وهى تعود الى سابق جلستها قبل أن تطلق سؤالا فضوليا:
-ألهذه الدرجة يمكن أن يشتعل الوضع هنا ؟
أومأت لها ريم بأسف وهى تقول معترفة:
-لقد سبق لى أن شهدت على شجاراتهم المنزلية وقد كانت كارثية بحق فما بالك حين بتعلّق النقاش بأمور العمل ؟ فأخى كالقطار ... لا يرى أمامه فى الحق.
وأشارت بحد يدها علامة السير المستقيم فهزّت أميرة رأسها تفهما وخصلات شعرها الحرة تتراقص بأريحية ما جعل رفيق يحاول جاهدا أن يظل على تركيزه بدون أن يسمح لوجودها أن يشتت انتباهه عن متابعة العمل بنفس الأسلوب الحازم والجاد ,ولم يعلّق على حديث شقيقته فهو يدرك أنها لم تتفوّه سوى بجزء يسير من الحقيقة العارية ... لن يفلت كريم من تأنيبه لعدم استشارته قبل الاقدام على هذه الخطوة ما سوف ينقذه من غضبه المتصاعد بأعماقه أن يكون لديه سببا قويا.
فى اللحظة التالية كان الشخص المنتظر حضوره يدخل الى اجتماعهم بعد أن طرق على الباب مرة واحدة ودلف بهدوء وثقة وخطواته المتمهلة تشى بمحاولته لمنع التهوّر من افساد الأمر ,وزرع بسمة مجاملة قبل أن يقول مرحبا للفتاتين:
-أهلا وسهلا بكما يا بنات الشرقاوية فى عرين الأسد وأخيرا سوف نجتمع سويا لنضع العمل نصب أعيننا بدلا من البحث عن غرباء لا يسعنا وضع الثقة فيهم , لا بد أن نحتفل قبل أى شئ.
كان حواره موجهّا نحوهما الا أن رفيق قد التقط طرف الخيط فكريم سعى نحو هذه البداية وقد كان مقصده أن يصل بالمعنى الى ابن عمه دون أن يتعمّد مخاطبته فقال مقاطعا ترحيبه الحار بهما فى لهجة قاسية بعض الشئ:
-هل لنا أن نرجئ هذه الاحتفالات لبعض الوقت ريثما ننتهى من مناقشة أمر هام يخص ادارة هذه الشركة يا ابن العم.
نفض كريم يديه مستسلما وهو يقول ببساطة:
-أمرك يا ريّس كما تشاء , أنا طوع بنانك.
فانتحى به رفيق جانبا قصيّا بعيدا عن مجال السمع للفتاتين وان كان مهيئا لهما أن تشاهدا ملامح وجهيهما واستشعرت أميرة بمدى التوتر الغاضب الذى يغلب على ملامح وجه زوجها بينما كان كريم متخذا لهيئة المدافع عن نفسه الذى قال بصوت هامس:
-ولماذا تتضايق من مثل هذا القرار ؟ ألم تتخذ أنت قرارا أشد قسوة بطرد مها ؟
أخذ رفيق يحاول أن يهدئ من غضبه بحوقلة وهو يتمتم:
-يا بنى آدم ما علاقة هذا بذاك ؟ ثم لماذا تتخذ أنت موقفا مماثلا , هل أخطأت الفتاة فى شئ ؟ أخبرنى لأعاقبها بما تستحق , وربما تنال مثل معاملة صديقتها اذا لزم الأمر.
سارع كريم بنفى هذه التهمة عنها فان كان غير قادر على تحمّل رؤيتها لأسباب ليس لها ذنب فيها فعلى الأقل عليه أن يدفع عنها سوء الظن فيها ... هذا ما هو مدين لها به بعد ما قام به من اقصائها من حياته حتى ولو مجرد وجودها بمكتبه للعمل فقد حرم نفسه قبلها من هذه المتعة الجميلة وحرّم على نفسه التعلّق بها فقال بثبات:
-لا , لم تقم بشئ خاطئ حتى تفصلها , أنه مجرد استبعاد من محيط عملى أنا ... لا شئ أنا فقط لا أستريح لوجودها ولا أرغب برؤيتها فقررت نقلها الى قسم آخر وربما تنال به ترقية تستحقها أو تجد عملا أخف وطأة فهذا يعد مكافأة لماذا تتعامل مع الأمر وكأنه عقاب لها ؟
فرك رفيق جبينه براحة يده ببطء وهو يمعن التفكير فيما قاله ابن عمه حتى بادره بسؤال لم يكن متوقعا:
-هل للأمر علاقة بأية مشاعر تكنها لهذه الفتاة ؟
قطب كريم حاجبيه بشدة وهو يقول بلهفة:
-لماذا ؟ هل عرفت شيئا أو رأيت منى ما يدل على هذا ؟
ارتخت قسمات وجه رفيق المتصلبة فجأة وقد ضربته معرفة الحقيقة فقال متبسما:
-اذن فالأمر كما خمّنت بتعلق بالعواطف وليس بالعمل يا سيد كريم.
ثم لكزه بمرفقه فى جانبه بمرح جعل كريم يتصنّع الدهشة وهو يسارع لينفى:
-كلا , ثم ما الذى يجعلك ناقما هكذا علىّ بسببها , ألأنها لجأت اليك لتشكونى ؟
أجابه رفيق بهدوء:
-نعم , فهى تعترض على مثل هذا الظلم الواقع عليها ...
ثم أضاف بمكر:
-الفتاة لا ترغب بترك العمل معك , فلماذا تحرمها من هذه النعمة , هه ؟
قال كريم بعبوس واضح:
-لا أريدها بمكتبى , ولن أبدى اسبابا مرة أخرى ولن أوضح لها شيئا , عليها أن تلتزم بالقرار اذا أرادت أن تكمل عملها بشركتنا والا ...
قاطعه رفيق بضيق:
-والا ماذا يا حضرة المحامى ؟ والا طردتها ! أنا لا أفهمك لماذا تتعامل معها وكأنها مجرمة وأنت تقاضيها , على الرغم من اعترافك السابق بأنها لم تخطئ , اذن هى محقة بشكواها منك.
-لااا , هى كلمتى واحدة لن أعيدها ولن أتراجع فلن تجبرنى على استخدامها كسكرتيرة خاصة مجددا , كما أننى أرسلت فى طلب واحدة أخرى.
لم يشأ رفيق أن يزيد الأمور تعقيدا مع ابن عمه بدون داعِ فحتى ولو كانت مظلومة بقراره هذا فهو لن يجبره على اعادتها الى موقعها , فبالنهاية مسألة نقلها لن تضرها أبدا على الأقل من الناحية العملية وان كان للقلب رأي آخر فهو لا يحب خلط أمور اللهو بالجد , عليها أن تتحمّل وجع قلبها بل ربما هذا أفضل لكليهما حتى لا يتورطا أكثر بمسألة العواطف ,وقد استقر رأيه على أن يخطرها بضرورة تنفيذ الأمر وقرر أن يضيف لها مكافأة مالية سخيّة حتى لا تظن أنها معاقبة منهم , ثم تنهد ارتياحا بعد أن استقر على ما يفعله ولكنه ظل حائرا قلقا فيما يتعلق بكريم نفسه ... لم يعجبه حين رآه فقد ظهر على محياه علامات الارهاق الواضح اضافة الى بعض الدوائر السوداء التى تحيط بعينيه مما فضح قلة نومه ...
-حسنا والآن يمكننا متابعة أمر الاحتفال يا كريم بعد أن انتهينا من أمر هديل .
كان رفيق قاصدا للممازحة مع ابن عمه حتى يخرجه من مزاجه النكدىّ الا أن الأمر انقلب عليه حينما رأى زوجته تقلب شفتيها امتعاضا وهى تقول بمرارة:
-هكذا اذن اتفقتما على المسكينة , كان علىّ أن أعرف أن الرجال يقفون الى جانب بعضهم.
- الأمر ليس كما تتصوين عزيزتى , لقد فهمت حقيقة الوضع وتأكدت بأنه لا يوجد شبهة ظلم لها.
بقيت ريم على صمتها وهى تتلاعب بأصابعها على شاشة هاتفها الذى قبع ساكنا هو الآخر بدون أى اتصال قادم ,الا أن جملة رفيق الأخيرة التى أطلقها أخرجت الشيطان من معاقله الحبيسة بداخلها حين قال:
-ألا تدعوننا لديك بمكتبك يا كريم ؟ على الأقل حتى نتأكد أن السكرتيرة الجديدة على قدر من الكفاءة لتتولّى عملا هاما كهذا ؟
انتفضت ريم غاضبة وهى تهب على قدميها بصورة خرقاء لتقول مشيرة بأصبعها نحو كريم:
-لماذا تؤذى فتاة رقيقة مثل هديل بهذه الصورة المجحفة ؟ ماذا فعلت بحقك ؟
ضرب كريم كفا بالآخر متعجبا وهو يجيبها :
-وما شأنك أنتِ بها ؟ هل تعرفينها ؟
-وهل يجب أن أعرفها حتى أدافع عنها ؟ حسنا يا سيدى الفاضل , الاجابة هى نعم أعرفها فقد كانت زميلة لى بالكلية.
-لهذا أنت تقاتلين من أجل الدفاع عنها , ولكننى أحذرك فأمور العمل لا تتم بهذه الصورة , ولا وجود للمجاملات هنا .
اتجهت بنظرها نحو أخيها باستفسار واضح ما جعله بهز رأسه ببطء وهو يقول موضحا:
-هذا صحيح يا ريم , ولا تغضبا هكذا لأمرها فسوف أتأكد بنفسى أنها لن تعانى من أى مشكلات بمكانها الجديد.
-حسنا قرر السيدان وعلى الجميع السمع والطاعة.
ثم انحنت ريم بحركة مسرحية ساخرة قبل أن تتراجع مطلقة الرياح لستاقيها حتى تهرب من رؤية نظرات الانتصار والتشفّى فى أعينهما كما كانت تخشى ,هبّ كريم مندفعا ليلحق بها وقد ساءه ما رآه من علامات البؤس مرتسمة بحدقتى عينيها المتسعتين فلم يحاول رفيق أن يمنعه وقد بدأت ظلال الشكوك تتلاعب بخياله بحرية وفوضوية ... ماذا ألم بأخته ؟ ولماذا صارت حساسة الى هذه الدرجة تجاه أية كلمة تصدر عنه أو عن أبناء عمومتهما؟
لا بد أن يعرف اجابة لحيرته ... سينتظر حتى تهدأ وتستعيد صفاء ذهنها قبل أن يواجهها , ولن تفلت من استجوابه ... هكذا وعد نفسه.
-ما بالها ريم ؟ أراها شاردة على الدوام كما أنها تتضايق لأتفه الأسباب ؟ هل تعرف ما بها ؟
أسئلة زوجته المتتالية أكّدت على ضرورة الاسراع نحو معرفة الحقيقة فكما يبدو أنه الأمر بات واضحا للجميع ,, فزفر بضيق قبل أن يستعيد جموده وثباته الانفعالى بلمح البصر قائلا:
-سوف أعرف , أعدك بذلك ... فلنتركها حتى تهدأ , ولا تخشى شيئا فكريم لديه قدرة سحرية على اذابة جمودها وتليين عقلها الحجرى ,سوف تكون بخير.
وتمتم لنفسه : أرجو ذلك.


***********************

SHELL 22-11-18 03:57 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
لمحها وهى تستعد لمغادرة الشركة بينما تحمل صندوقا كرتونيا صغيرا مغلقا , كانت تسير الهوينى وعلى محياها ابتسامة متجمدة كمن لا روح فيه استقبلته بهذا الترحاب المصطنع وعيناها ترسلان نظرات مؤنبة بحدة فى حين لا تملك أن تشكو حتى لمعذبها ,ولكن هل تعلم أنه بات يتألم أكثر منها لمجرد أن يتخيّل رحيلها النهائى عنه والشعور بالحرمان يتغلغل فى أعماقه يحرّك كافة حواسه حتى يمنعها من الذهاب ,ولكنه اكتفى بجملة واحدة أطلقها فى لحظة ضعف أدرك أنه سيندم عليها لاحقا:
-أتمنى لكِ التوفيق وأن تنعمى براحة البال بعيدا عن دوامة الصراعات الانتقامية التى علقتِ بها ,وربما يوما ما تتقبّلين الحقيقة كما هى دون تزييف أو تجميل.
شمخت بأنفها فى تحدٍ واضح وهى تجيبه بعدائية:
-بالطبع أنتم آل الشرقاوى تتمتعون بهذه الطباع المتوارثة جيل بعد جيل ,تظنون أنكم فوق مستوى البشر , ولكننى أعدك بأن يوم الحساب آتٍ لا محالة ... مهما تأخر أو تأجل ,,, فلن أترك حق أبى وأمى.
ابتسم لها باشفاق على غير عادته فأذهلتها رقته الغير متوقعة حينما اقترب منها بهدوء ليربت على ذراعها بحنان وهو يهتف محترقا بنيران حقدها الظاهر فى زمردة عينيها:
-مها ... خذيها منى نصيحة لوجه الله ... اتركِ الماضى يرحل ولا تنبشى فى قبور الأموات ... ربما لن تعجبك الحقيقة الكاملة اذا عرفتها وستؤلمك أكثر ,ولن يعيد انتقامك الوهمىّ من رحل الى الحياة مجددا ...
-هل تنصحنى حقا لوجه الله ؟ أم لأنك تخشى على عائلتك ؟
نظر لها آسفا على حالها ليقول بصوت مهيب استرد كامل قوته وثقته:
-لا يٌعقل أن أخشى منكِ أنتِ يا حلوة ,أنا أخاف عليكِ مما تورطين نفسك فيه , فلن يجلب لكِ سوى التعاسة والشقاء ... ارحلى بهدوء دون اثارة مشكلات.
انتفضت بقوة وقالت بشراسة بينما عيناها ترسلان شررا نحوه:
-سأرحل الآن ,وأعدك بأننى سأعود ولن يردعنى أى شئ بعد اليوم فكما ترى لم يعد لدىّ ما أخسره .
-وداعا ...
وراقبها وهى تغادر عالمه الى الأبد كما كان يظن واستطرد لنفسه بصوت غير مسموع :
- يا ... غاليتى.
والتف على عقبيه متوجها نحو مكتب كريم , أنه بحاجة اليه ليبثّه همومه وضيقه ,لقد رحلت مها أخيرا بيد أنها أخذت جزءا منه لن يقدر على استرداده ,ولم يعد هناك مفرا من الاعتراف بأنها سرقت نبضات قلبه الخائن بعد أن أقسم على ألا يعيد الدخول فى هذه التجربة مرة أخرى ,ألم يكتفِ من وجع الفراق بعد ليلى ؟ وحينما تراءت لها صورتها الى جانب صورة مها بدت لها باهتة متضاءلة حتى ليخيّل اليه أنه لم يعد يذكر ملامحها بوضوح ,فقط احتلت الفاتنة ذات العينين الخضراوين ساحة ذكرياته وكأنها صاحبة الحق الوحيد فى ذلك.


*****************

SHELL 22-11-18 03:59 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
كان جاسر حانقا بشدة لسبب مجهول لديها فقد صارت تصرفاته فى منتهى الغرابة بالنسبة لها وهى التى تعرفه حق المعرفة منذ نعومة أظفارهما بحكم صلة القربى بينهما ونظرا لأنهما نشآ سويا ببيت العائلة وحيث كان لجدهما أكبر الأثر فى تربيتهما على الرغم من وجود آبائهم على قيد الحياة , هذا الرجل الذى زرع فيهما الكبرياء وغرس نبتة وليدة ترعرعت واشتد عودها بمرور الأيام وها قد حان الوقت لجنى ثمار مجهوده بعد طول انتظار ... ولكنها تساءلت لمَ يبدو عليه هذا الوجوم الرهيب ,باتت تتجنّب الاصطدام به خشية أن ينفجر غضبا بوجهها ,صار على حافة الهاوية بانفعاله المنذر بالشر ,لجأت الى زوجها المستقبلى كما تفعل دوما فى الآونة الأخيرة ,ما أشد الاختلاف بينهما فهو صبور حليم لا يؤنبها بكلمة واحدة مهما كان رافضا لأفعالها ,وابتسمت لنفسها بسعادة قبل أن تدلف الى غرفة مكتبه الجديد وهى تتمايل باغراء واضح تجيده ببراعة ... وتعالت ثقتها أكثر حينما ارتسمت على وجهه دلائل الارتباك الواضح وهو يشاهدها بثوبها الأنيق الذى يحتضن جسدها الممشوق ترنو اليه بنظرة تجعل الطنين مرتفعا بأذنيه فتلعثم وهو ينهى مكالمته الهاتفية بسرعة قياسية حتى يتفرغ بكليته للقادمة ثم قال بترحاب بالغ:
-أهلا وسهلا , أشرقت الأنوار متأخرة هذا الصباح , ترى ما الذى عطّلها حتى هذا الوقت ؟
ازدادت ابتسامتها اتساعا باشراقة جميلة وهى تقول بدلال بينما تقترب من مقعده:
-كنت أنتظرك حتى تفرغ من عملك , فلا أريد أن أتسبب فى اثارة مشكلات بينك وبين السيد جاسر , يكفينى ما نلته منه حتى الآن.
كانت تشكو اليه بمهارة دون أن تشعره بهذا ,ويبدو أنها نجحت فى مسعاها فقد ضاقت عينا خالد تلقائيا وهو يتأملها بروية قبل أن يسألها باهتمام بالغ:
-ماذا فعل جاسر ؟ هل ضايقك بكلمة ؟
ترنحت قبل أن تجلس مقابلا له وتمسكّت بذراع المقعد وهى تعدّل من خصلات شعرها المنسابة لتزيحه عن عينيها قبل أن ترفع بصرها نحوه فى لمحة حب وهى تتصنّع البؤس قائلة:
-بل قل كلمات , يبدو أنه نافد الصبر هذه الأيام ولا يطيق أن تمر الى جواره ذبابة ,فما بالك بى وأنا التى أصطدم به يوميا عشرات المرات ,يبدو أنه علىّ أن أشكوه الى جدى ,فهو الوحيد الذى يملك زمام السيطرة على غضبه المنفلت , أم أنك سوف تقوم بهذا الدور نيابة عنه ؟
أسقط فى يده فهى تستحثه على الاقدام على خطوة جريئة غير محسوبة العواقب .. هل يملك أن يجابه صديق عمره من أجلها ,والأهم أنه يعد الآن رئيسه بالعمل , تزايدت دقات قلبه مع كل لفتة مقصودة منها .. أنها تتدلّل عليه واعية لما تثيره من مشاعر جمّة فى نفسه وهى الآن أقرب اليه من ذى قبل ,لا ينقصهما سوى الاعلان الرسمى وتبادل خاتمى الخطبة ليصبح الأمر واقعيّا تماما ,يعرف أن ارجاء هذا الأمر جاء تلبية لرغبة الجد لغرض فى نفسه ,وهو كبير العائلة الذى لا يجرؤ أحد على تخطّيه أو محاولة معاندته ,فاستسلم مضطرا على الرغم من شوقه الحارق الى الاستحواذ على كامل اهتمامها وأن تصبح زوجته فى أسرع وقت , كفاه ما ضاع منه منذ سنوات وهو بالانتظار ,,, لن يكرر خطأه فى المرة السابقة حينما ترك لمحبوبته الحرية فى الانفلات من قيد الارتباط به سامحا لها باتخاذ القرار فى الوقت الذى يناسبها فما كان منها ال أن طعنته بالصميم .
حينما وجدته ليلى ساهما متخلطا فى حيرته أشفقت عليه من ضغطها المتواصل عليه ليتغيّر ويصبح شخصا آخر ,فتنهدت بمرارة وهى تنعى حظها فى الحب والزواج ... خالد ... لا يمكنه أبدا أن يتغيّر فينقصه الطموح الزائد وعدم القدرة على التسلّط أو المراوغة ,ولكنها تعشق بساطته ونزاهته وشفافيته الواضحة.
تنحنح خالد مجليا لحنجرته وهو يقول بتردد بينما أصابعه تقبض على سماعة الهاتف مجددا:
-سوف أحادث جاسر حتى لا يضايقك بعد الآن.
هبّت من مقعدها لتتجه اليه على الفور تختطف من بين يديه السماعة وهو مذهول من تصرفها بينما اندفعا أصابعها تعمل بجد لتعيد الهاتف الى وضعه الثابت قبل أن تقول بمماطلة مقصودة:
-لم أقصد أن تفعل هذا , سيعتقد أننى جئت أشكوه اليك , وعليك أن تحزر بأن الأمر لن يروق له أبدا.
نظر لها بحيرة واضحة وهو يتساءل بخيبة أمل:
-وكيف ترين اذن التصرف الملائم ؟
ابتسمت له باغراء قاتل وهى تتمايل نحوه لتلفحه رائحة عطرها النفّاذ المثير للأعصاب قائلة بغنج:
-ننتظر حتى تحين الفرصة ,فلنصبر قليلا ... أنت تعرف أن الأمر يعد مسألة وقت , سينشغل حينها عنّا بعمله الجديد ونتفرّغ نحن لهذا المكتب.
تراجع مرغما الى الوراء حتى لا يستسلم لضعفه وهو يزدرد ريقه بصعوبة قبل أن يغمغم مستفسرا:
-نحن ؟
أرخت جسدها على ذراع مقعده متحاشية أن تلمسه وهى تقول مضيفة:
-نعم أنا وأنت.
وأشارت بسبابتها الى صدرها ثم اليه وهى تغمز بعينيها بشقاوة مرحة ,فانتقلت اليه عدوى الابتسام على الرغم من توتره البادى على ملامح وجهه فتنشق الهواء بعمق وهو يقول بارتياح:
-أنتِ محقة على الدوام , يعجبنى تفكيرك السليم.
زوت ما بين حاجبيها بضيق وهى تقول مغضبة:
-تفكيرى فقط ؟
سارع الى تصحيح خطئه فقال متلهفا:
-كل شئ فيكِ يعجبنى , كل شئ.
هتفت بسعادة:
-أعرف , وأنا أيضا معجبة جدا.
وقررت فى ذات اللحظة أن تبتعد وهو يتحرك بجسده ليعدّل وضعيته فتلامسا سويا لثانية أو أكثر كانت كفيلة باحداث ارتباك لكليهما فحاولت أن تحرّك ساقها بعيدا الا أن طرف كعب حذائها المرتفع اشتبك بشئ ما مما جعلها تنجذب نحو جسده وهو يجاهد حتى ينهض فوقعت فوقه بينما ذراعاه تحاولان امساكها من خصرها حتى لا تصبح فوق حجره.
دلف جاسر الى الداخل وهو يدير عينيه فى أرجاء المكان قبل أن تجحظا باندهاش وعدم قدرة على التصديق فصاح حانقا:
-ما الذى يدور هنا ؟
نظر له خالد مصدوما بدوره وبدلا من أن يزيح يديه عن جسد ليلى المتشنّج وجدهما تشددان من تطويقها بردة فعل لا ارادية عكسيّة ,بينما ألجمت الصدمة لسان ليلى ففتحت فاها لتنطق بشئ ما قبل أن تغلقه عدة مرات دون جدوى ,فاتخذ جاسر وضعية الهجوم رافعا ذراعيه قبل أن يتعالى صوته بأمر صارم:
-ابتعدى عنه على الفور يا ليلى .
ثم أردف محنقا:
-يبدو أنكما كنتما منشغلان للغاية فلم تسمعا صوت طرقاتى على الباب.
حاولت ليلى أن تخلّص كعب حذائها من اشتباكه وهى تجاهد فسمعت صوت تمزق لقماش قبل أن تقع فردة حذائها على الأرض فقامت لتبتعد عن خالد وهى تعرج نظرا لسيرها بفردة حذاء واحدة بينما اقترب جاسر مهددا وهو يحادث صديقه بغضب جارف قائلا:
-هيا انهض أنت الآخر , وتعالَ لتواجهنى.
نظر خالد الى أسفل حيث بنطاله الذى تمزّق جزءا كبيرا منه وهو يصدر حركة امتعاض واضحة قبل أن ينهض بدوره محرجا وهو يتجنّب النظر الى عينى صديقه قائلا بتلعثم:
-ليس الأمر كما تظن يا صديقى , أقسم لك.
هزّ جاسر رأسه عدة مرات وهو يهتف بسخرية مريرة:
-نعم , نعم ... وأنا أصدقك يا صديقى , هل هذا جزاء أننى أئتمنتك على عملى وعلى ابنة خالتى ؟
-أكررها مرة أخرى لم أفعل شيئا ولا هى , هذا كله فقط سوء تفاهم كبير.
وسبقته لكمة قوية الى فكه أسقطته فوق مقعده مرة أخرى فأخذ يصيح متألما وهو يقول لجاسر برجاء:
-اهدأ يا صديقى ...
ولكن جاسر عاجله بلكمة أخرى فى أنفه جعلت الدم بنزف بغزارة وهو يزيح ذراع ليلى بخشونة بعد أن حاولت منعه هاتفة:
-جاسر , توقف عن ضربه فهو ليس مذنب.
التفت اليها ينظر باحتقار قبل أن يقول بصوت كالرعد:
-خطأ كهذا يستلزم اثنين ,وأنتِ دورك قادم لا تقلقى , فلن تفلتى من عقابى ولكن ليس الآن ,يكفينا ما أثرتماه من فضائح.
كان خالد ممسكا لأنفه المتورم يحاول ايقاف نزيفه المتجدد بمنديب ورقى وهو يهتف فزعا:
-اهدأ يا رجل ... لم يحدث أى ضرر أقسم لك.
استفزه أكثر محاولته لتبرير الموقف بعدم حدوث أضرار فاقترب مجددا منه وهو يمسك بتلابيبه فقام خالد بوضع يديه أمامه لحماية وجهه من تلقى المزيد من الضربات من صديقه الهائج دون أن يحاول الافلات من قبضته بينما قامت ليلى باجراء مكالمة هاتفية عاجلة دون أن ينتبها لها ثم قالت بصوت مهتز تخاطب ابن خالتها:
-جاسر , جدى على الهاتف يود محادثتك.
تطاير الشرر غضبا من عينيه وهو يتوعدّها بصمت قبل أن يختطف الهاتف الخلوى من بين أصابعها المرتعشة وهى كل همها أن تخلّص خالد من بين براثنه وسارعت لتطمئن على حاله فيما أخذ جاسر يتكلم بصوت خفيض وهو بهز رأسه عدة مرات قبل أن يلجم غضبه وهو ينفّذ أوامر جده باحترام , فقال أخيرا باستسلام:
-حسنا , نرجئ الحديث لما بعد , لا تقلق.
ثم رفع نبرة صوته متعمّدا لتصل الى مسامعهما:
-حسنا سنؤجل وقت الحساب , ولكن لن يفلت من عملته هذه على خير.
ثم أردف بتقدير:
-الى اللقاء يا جدى.
ثم قذف بالهاتف على سطح المكتب فانحدر حتى كاد يقع على الأرض ال أنه استقر على الحافة بالضبط وهو يشير الى ليلى بسلطوية وأمر نافذ قائلا :
-اذهبى من هنا , اغربى عن وجهى الآن والا أقسم أننى لن أصبح مسؤولا عن تصرفاتى.
نظرت الى خالد وكأنها تستأذنه للانصراف فأومأ لها برأسه لتطيع جاسر المستشيط غضبا وهو يطمئنها:
-لا تشغلى بالك فكل الأمور ستصير على خير ما يرام.
-حسنا , اهتم بنفسك.
ورنت بنظرة خاطفة نحو ابن خالتها قبل أن تنصرف مسرعة وهى تحمل فردة حذائها المخلوعة بيدها فلم تنتظر حتى ترتديها أمام نظراته القاتلة ,وحينما أغلقت الباب خلفها أطرق خالد برأسه أرضا وهو يتمتم:
-ألن تسمح لى حتى بالشرح ؟ والله لم يصدر منى أى تصرف خارج , ألا تهدأ وتنصت الىّ ؟
حينما لم يتلقّ ردا على سؤاله رفع نظره ببطء نحو صديقه الذى كان يجلس على مقعد قريب محاولا استعادة هدوءه وتنظيم أنفاسه المتلاحقة ,وهو يقول نافيا:
-لا يمكن أن يمر هذا الموقف بسلام . ثم ماذا تنتظر منى وقد رأيتكما بعينىّ ,لم يخبرنى أحد بما شاهدته لكان أهون وأبسط ... كنت سأكذب ايا كان اذا تجرّأ وألمح الى وجود شئ كهذا بين صديقى وابنة خالتى , أيها الأبله ألا تستطيع أن تلجم نفسك لتنتظر , فقد كان زواجكما وشيكا ...
-أقسم لك ثانية أننى لم أقدم على هذا الأمر , على الأقل أنا لم أتحرك قيد أنملة من مكانى هذا منذ دخلت هى.
أخذ جاسر يمرر يديه على وجهه عدة مرات يستغفر الله وأخيرا صاح:
-أتعنى أنها هى التى ؟؟
ثم بتر عبارته بغتة وهو غير قادر على الاستيعاب.
-أرجوك لا تقفز الى مثل هذه الاستنتاجات الغير منطقية , لم أقصد شيئا سيئا عنها.
ثم أردف محاولا استعادة ثبات صوته وهو ما زال ممسكا بأنفه الذى ينبض بألم صارخ:
-لقد اشتبك كعب حذائها ببنطالى وهذا ما جعلها تتعثر فى خطواتها لـ . تسقط وكأنها ..... فى أحضانى كنما رأيت أنت.
قطب جاسر جبينه قبل أن يطلق سؤالا منطقيا:
-وما الذى جعلها قريبة منك الى هذه الدرجة من الأساس ؟
ابتلع خالد ريقه وهو يقاوم رغبة فى تعنيفها فى هذه اللحظة على تهورها وما آلت اليه الأمور بسببها فقال مترددا:
-كانت ... كانت تخبرنى بأمر ما.
رفع جاسر حاجبا بطريقة ساخرة قبل أن يقول هازئا:
-فهمت الآن ... لم تتغير ليلى ولن تتغير , تحب أن تدير اللعبة بطريقتها الخاصة وتصرّ على الاستمتاع حتى ولو ألحقت الأذى بالآخرين.
ثم أردف بلهجة أقل حدة:
-وأنت ... هذه المرة صرت ضحيتها , لقد وقعت فى شرك يا صديقى ولن تخرج منه أبدا سالما .. كان الله بعونك.
نظر له خالد محاولا تقييم عبارته وهل هو جادا فى حديثه ؟ أيعنى هذا أنه قد صدّقه ؟
فقال بصوت خفيض وكأنه لا يصدق حسن طالعه:
-هل أنت متأكد من كلامك ؟ ألا تسخر منى ؟
ابتسم له ببطء وهو يحاول تجنّب الاعتذار الصريح لصديقه فقال مؤازرا:
-هل تتألم كثيرا ؟ أعنى هل يوجعك أنفك ؟
قال خالد بمرح مصطنع:
-يا لها من لكمة قوية , احذر يا صديقى فأنت لا تعى مدى قوتك فلا تحاول المزاح مع أحد , أعتقد أن أنفى لم ينكسر ولكنه يضج بالألم ... لا تبتئس فقد توقف النزيف ويكننى أعتقد أنه سيكون علىّ المكوث بالمنزل لأسبوعين على الأقل حتى يخفّ هذا التورم الرهيب.
-لا بأس ... يمكنك أن تضع بعضا من الدهانات المخففة للتورم وسوف تصبح أفضل حالا.
-هكذا ببساطة ... تنهال علىّ باللكمات ثم تنصحنى فينتهى الأمر ,, يا لها من صداقة عميقة !
ثم أخذ يضحك بهستيرية وقد شاركه جاسر نفس الانفعال حتى دمعت أعينهما قبل أن يتلفّظ جاسر صراحة:
-أنا آسف حقا يا خالد , ولكن الأمر خرج عن سيطرتى فالموقف ما زال يستفزنى حتى الآن.
وكوّر قبضته مجددا حتى تراجع خالد بمقعده لا اراديا وهو يهتف:
-كفاك ضربا يا رجل , لن أتحمل لكمة أخرى,, آى.
بسط جاسر كفه وهو يقول بأسى:
-لا أعرف حقا ماذا دهانى , أصبحت أتصرف بغرابة شديدة ,ويبدو أننى لم أعد أتعرّف على نفسى حتى حين أنظر لوجهى بالمرآة أتعجّب كثيرا من نظرات عينىّ.
قال خالد بلهجة ذات مغزى:
-أنه الحب يا صاحبى , فهو يصنع المعجزات ,,, أنت عاشق !
حدّق جاسر بوجهه للحظات مرت بطيئة وكأنه يتعرّف على السبب لأول مرة ,ثم اشاح بوجهه بعيدا ينظر للفراغ من حوله ... نعم الفراغ منذ لقائهما الأخير وهو يشعر بخواء نفسىّ رهيب وكأنه لم يعد كما كان من قبل ,عليه أن يتهيّا للأسوأ فى حياته منذ الآن فصاعدا ... وغابت بسمة الأمل عن شفتيه.



***************

SHELL 23-11-18 02:50 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثلاثون والأخير ج2

https://cur.glitter-graphics.net/pub...ux2wq41y7o.png

لحق بها كريم وهو يحث الخطى مسرعا بأقصى جهده ليصل اليها ,وقد انفطر قلبه من أجلها ... ابنة عمه , آخر العنقود الأميرة المدللة , ريم ... لا يصدق أنه يراها تبكى بحرقة لأسباب مجهولة بالنسبة له ... أكل هذا الانتحاب من أجل نقل سكرتيرة من موقع عملها الى آخر , ثم ما دخلها بالأمر ؟ لا بد أن يفهم ما يدور حوله , أحاط بكتفيها بحركة أخوية بريئة وقرّبها اليه لتدفن رأسها فى حضنه وهو يسألها باهتمام:
-ما الذى يجعلك تتأثرين هكذا بموقف عابر يا ريم ؟
أجابته دون أن ترفع رأسها نحوه لتقول بصوت متقطع :
-ربما لا تشعر مثلى أنت أو رفيق فأنا أميل الى الضعفاء مثلى وهديل فتاة رقيقة لا تستحق ما يحدث معها.
زوى كريم ما بين حاجبيه وهو يدير كلماتها فى عقله مفكرا اذا كانت ريم تبالغ فى ردة فعلها من أجل هديل ولكنه فضّل أن يتم استجوابه بهدوء حتى يحصل على الاجابات النموذجية التى ترضى فضوله فقال يستحثها متلطّفا:
-وكيف تعرفين اذا كانت تستحق أم لا ؟ عزيزتى ,,, كما سبق وقلنا فالقرارات التى تتعلّق بالعمل لا تؤخذ بالعاطفة ,ولا يمكنك أن تنظرى للأمر على أنه ظلم لها ,كما أنكِ تجهلين تفاصيل علاقتى بها , يجوز أنها تصرفت بشكل خاطئ لا يرضينى ... أليس كذلك ؟
أدارت رأسها لتواجهه وبقايا دموعها ما زالت عالقة برموشها الكثيفة لتقول ببطء وتصميم:
-أنا أعرفها جيدا وموقنة من أنه لا يمكن أن يصدر عنها تصرف مشين عن عمد فلا داعِ لمحاولة تشويه صورتها أمامى يا كريم , وأنت بنفسك قد اعترفت أنها تجيد عملها على أكمل وجه ..
كان الحوار دائرا بين الاثنين سجالا يتناقشان بموضوعية وتحضّر دون أن يعى أيا منهما لزوج العيون الذى يراقبهما مصدوما مبهوتا وقد تساءلت وهى تتراجع للخلف بذهول تام : لماذا يا كريم تصر على ابعادى عنك بهذه الصورة ؟ ومن هذه الفتاة التى تضمها اليك فى محبة دون أن تعبأ بالمكان ولا نظرات المحيطين بكما ؟
دفنت وجهها ببؤس بين يديها وهى تستجمع قواها المنهارة لتحادث نفسها بمرارة : ألهذا لم تعد تهتم بى كما فى السابق ؟ هل تربطك بها علاقة جديدة أم ربما هى حب قديم بحياتك دون أن أدرى ؟
يا ربى ! رحماك من هذا العذاب وهذا الألم النابض بقلبى ؟ كيف يمكننى أن أحتمل كل هذا ؟
تراجعت للخلف بخطوات متعثرة قبل أن تطلق لساقيها الرياح دون أن تجرؤ على اعادة النظر الى الثنائى المنسجم فقد بدا لها أنهما يتناجيان بهمس عاشق ,فعادت أدراجها محبطة الى قسمها الجديد وقد أيقنت أنها خسرت حربها مرتين فالأولى حينما طردها من جنة قربه والثانية بعدما تأكد لها أنه مشغول البال بغيرها.
تناثرت أشلاء قلبها الممزق وقد آلمها بشدة أن تفكر به ليلا نهارا حتى أنها باتت نفسها تعاف الطعام وقد لاحظ والدها انعدام شهيتها الملحوظ الا أنه قد آثر التزام الصمت حتى تهدأ جراحها قبل أن يفاتحها بالأمر كعادته ,هل تستسلم لرغبته المعاندة فى اقصائها ببساطة دون قتال وما بيديها أن تفعل ولمَ لا وهو فهو صاحب الأمر والنهى هنا ,ولاحت لها كلمة النهاية مشتعلة بنيران الغيرة تتآكلها جزءا بجزء ... ولكنها لن تحتمل رؤيته عاشقا لفتاة أخرى أمام عينيها أبدا .


**************

SHELL 23-11-18 02:53 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
توقف كريم عما يفعله للحظة وهو يزيح ريم عن صدره برفق فشعوره بأنهما مراقبان كان ينغز صدره وأجال ببصره يمينا ويسارا عدة مرات قبل أن يتأكد من أنه كان واهما فى تصوره , الا أنه ارتأى ضرورة استكمال حديثهما بمكتبه حيث يمكنه أن يستجوبها بحرية فى خلوة دون أن يكونا مثارا للعيون الفضولية والأحاديث الغير اعتيادية فقد انفلت زمام الأمر من بين يديه , هل فقد عقله ليحتضنها بهذا الشكل دون أن يهتم باثارة الأقاويل حولهما , على الرغم من أنهما أصحاب الشركة ولا يحق لأى موظف مهما كانت درجته أن يعلّق بحرف واحد أمامه الا أنه لا يملك القدرة على منع تداول الهمسات بعيدا عنه فأمسك بمرفقها ليقودها نحو مكتبه القريب فيما نفضت عنها أية محاولة لمقاومته فهى تحتاج الى الفضفضة معه شخص موثوق به ومقرّب منها ,لا تستطيع أن تبوح بمكنونات صدرها الى أخيها ,لقد صار منشغلا عنها هذه الفترة منذ ظهرت أميرة بحياتهم وسيف لن يتفهم مشاعرها أبدا فهما متضادان كالماء والنار ,,, كريم هو الشخص الأقرب اليها.
ما أن أغلق باب غرفته حتى أشار لها لتجلس فأطاعته بصمت فيما اقترب منها عاقدا ذراعيه ليسألها بفضول لم ينجح فى اخفائه:
-قلتِ أنكِ تعرفين هديل جيدا ... أريد ان اعرف كافة التفاصيل , هيا تكلمى.
تلاعبت ريم بخصلات شعرها وهى تلفها على اصبعها تارة ثم تزيحها للخلف تارة أخرى قبل أن تنظر للأمام وكأنها لا تراه قائلة:
-كما سبق وقلت أنها كانت تسبقنى بعام فى الكلية ,كانت فتاة رائعة فالجميع يتسابق لخطب ودها ...
سكتت لبرهة قبل أن تنظر اليه مستنجدة وهى تقول بخجل:
-أنت تفهم طبعا الشباب فى مثل هذا السن يتأثرون بالجميلات ,ويحاولون أن يرتبطوا بهن فى علاقات واهية ..
قاطعها بحدة وهو يشعر بعدم راحة لمجرد تصوره أن هديل كانت محط أنظار زملائها:
-وهى ؟ أعنى هل كانت توافق على مثل هذه العلاقات ؟
نفت ريم بشدة وهى تحرك رأسها بعنف:
-كلا , هديل كانت ترفض باصرار فهى ذات شخصية جادة ملتزمة , كانت تعرف كيف توقف أى شاب عند حدوده بمنتهى الأدب واللياقة دون أن تجرح مشاعره.
خفّت ثورته قليلا ليقول بعناد:
-ولكن هذا لا يمنع أنها بالتأكيد كانت فخورة بما يحدث.
نظرت له ريم غاضبة من قوله لتصيح:
-أنت تتجنّى عليها الآن , ما ادراك أنها كذلك , ومن أنت لتحكم عليها , تبا لكم أيها الرجال ,تسمحون لأنفسكم أن تنصبوا لنا المحاكمات وتقيّدون تصرفاتنا أما أنتم فأحرار تتصرفون كيفما تشاءون دون أن يجرؤ أحد على محاسبتكم ,واذا حدث فالمبرر الوحيد الجاهز .. هو أننى رجل فأنا حر أفعل ما أريد ... أف , لم أكن أظن أنك منهم يا كريم.
منحها ابتسامة عذبة محاولا تلطيف الأجواء فقال مازحا:
-لم تكن تظنيننى منهم ! أتقصدين أننى لم أكن رجلا مثلا ؟
حاولت كتم ضحكتها الا أنها انسابت من بين شفتيها لتقول بأريحية:
-أنت تفهم مقصدى يا كريم فلا تحاول تشتيتى عما أقول , كنت أعتقد أنك تختلف حتى عن رفيق وسيف , فهما من هذا النوع من الرجال ,,, أما أنت ... أنت رجل مختلف بكل معانى الكلمات يا كريم ,,, حنون متفهم متحضر , ما الذى جعلك تتغيّر بهذا الشكل ؟
حادث نفسه قائلا : آه لو تعرفين يا ريم , أن ذات الفتاة التى تتبارين فى الدفاع عنها هى نفسها السبب فيما تشكين منه الآن.
أعاد رسم البسمة على شفتيه قبل أن يشير لها أن تقترب كمن لديه سرا لا يرغب بأن يسمعه غيره ,وهمس فى أذنها بمودة:
-أنتِ السبب يا عزيزتى.
ابتعدت عنه قليلا لتحدّق بوجهه بذهول وهى تتساءل:
-أنا ؟ كيف ؟
-أنا أيضا أراكِ تتصرفين على غير طبيعتك المعهودة , لم أعد أعرفك كما كنتِ يا ريم ,ما سبب عصبيتك المبالغ فيها فأنتِ تثورين لأتفه الأسباب كما أن دمعتك صارت قريبة للغاية ,ماذا بكِ يا غاليتى ؟
نظرت له بامتنان واضح ثم أطرقت نحو الأرض لتعترف بخجل ووجها قد تلوّن بالوردى:
-أتعرف أنك الوحيد منهم الذى سألنى مباشرة عما بى ,فالجميع مشغول بحياته الخاصة دون أن يبدر منهم أدنى قدر من الاهتمام أو على الأقل الفضول تجاهى.
لم يفته احمرار وجنتيها فأيقن أن بالأمر شيئا خفيّا ,استعاد هيئته المبتسمة قبل أن يسألها بحنان:
-هل أفهم من حديثك أنه قد طرأ شيئا ما على حياتك أو لنقل شخصا ما ؟
اعترفت دون مواربة بحزن:
-نعم ,كان هناك شخص ما.
زفر بعمق وهو يتمسك بالصبر قبل أن يقول لائما:
-ولمَ تخفين الأمر عنا يا ريم ؟ ولماذا ألمح فى صوتك رنة حزن ؟
ابتسمت دون رغبة حقيقية لتهتف بحرقة:
-لا يستحق الأمر كل هذا العناء , فقد انتهت العلاقة.
-وهل كان شخصا جادا ؟ أعنى هل شعرت بأنه يحبك حقا أم كان يتلاعب بمشاعرك ؟
ثم استطرد بحدة بالغة وهو يكوّر قبضته:
-لأنه ان كان قد أذاكِ فسوف ألقنه درسا لن ينساه بعمره ؟
شعرت ريم بتعاطفه الواضح ودغدغت كلماته وترا حساسا بنفسها فاستعادت بسمتها وهى تقول بسعادة:
-لا تشغل بالك يا كريم , فكما أخبرتك لقد انتهى الأمر قبل أن تتطوّر العلاقة لأكثر من مجرد صداقة عادية ومقابلات بريئة.
هتف بها بحنق:
-مقابلات !! ريم ,,, أكنتِ تقابلينه ؟ وعدة مرات , أين ؟ ومتى كان يحدث هذا ؟
قلبت شفتيها اعتراضا وهى تهتف:
-ها قد عدت لمنصب القاضى يا عزيزى ,لا يمكن أن تستمر فى الادّعاء بأنك رجل ذى تفكير راقِ ,نعم كنت أقابله بمكان عام ...
قاطعها محتدا بغضب بيّن:
-وكيف تعرفتِ عليه ؟
-كنا نتبادل الحوار على برنامج المحادثة الالكترونية و...
-ماذا ؟ تعرفتما على النت ؟ لا أصدق يا ريم تهورك هذا , كان يمكنه أن يستغل محادثاتكما معا لغرض دنئ , كان يمكنه أن يخطط لاختطافك مثلا , ألا تملكين ذرة عقل واحدة تفكرين بها ؟
استشاطت هى الأخرى غضبا فهبت واقفة لتصيح بوجهه المنتفخ:
-فلتهدأ قليلا واترك لى مجالا لأوضح لك الأمر بصورة صحيحة ,ما حدث أنها كانت مجرد صداقة عابرة وأحاديثنا كانت فى منتهى البراءة , أقسم لك لم نتطرق لأى موضوع خارج ,كما أننى قد قابلته كثيرا ولم يصيبنى مكروه فأنا أقف أمامك سليمة معافاة تماما.
ضرب قبضته فى باطن يده وهو يتوعد شخصا مجهولا:
-آه لو يقع تحت يدى ذلك الحقير , فلن يفلت حيا منى.
اقتربت ريم منه تحاول تخفيف ثورته لتقول ببطء ودون اقتناع حقيقى:
-أنا لم أتأذى ,,, وسأظل كما أنا ريم ابنة عمك التى تعرفها .
ولكنها بداخلها صاحت : كاذبة يا ريم , أنتِ تعرفين أنكِ قد تألمتِ كثيرا ولن تعودى أبدا كالسابق , فلا تدّعى البراءة.
التمس منها عدم التصديق بادعائها الكاذب قال بتصميم:
-أخبرينى من هو يا ريم , ما اسمه ؟
أشاحت بوجهها تنظر للفراغ دون أن تجرؤ على اجابته فهزها بعنف وهو يقبض على كتفيها حتى صاحت ألما فتركها مجبرا ,بينما قامت هى بفرك موقع لمسته لتخفف من نبض الألم الذى أخذ ينتشر فى ذراعيها وهى تحاول المماطلة فى الرد لتقول بصوت خفيض:
-وما تفيدك المعرفة الآن ,لقد انتهى الأمر , لم أعد أراه.
كانت تتألم بشكل مزعج من جراء اعترافها فأخذته بها الرأفة ليقول ببراءة مزيفة:
-حسنا يا ريم ,سأصدقك ولكن بشرطين.
نظرت له تستجديه أن ينقذها من هذا العذاب فأضاف بجدية:
-أن تعديننى بأنكِ لن تقدمى على مثل هذا التصرف ثانية ,وألا تخفى عنى أى شئ يحدث لكِ يا ريم.
نبرة الرجاء التى رنت بأذنيها وهو يهتف باسمها ارتجف لها كيانها كله فهو على الرغم من ثورته البالغة وحدته فى معاملتها تعرف بأنه يحبها ويبالغ فى حمايتها لذلك فقد انصدم باعترافها ,فقالت بأسى:
-أعدك ,وأرجوك ألا تخبر أحدا بما سمعت ولا حتى رفيق ,هل تعدنى ؟
ربت بحنان بالغ على ذراعها وهو يقول بحماية:
-لا تخشى شيئا من الآن فصاعدا لن تغيبى عن ناظرىّ ,ولا تقلقى فلن يعرف أى مخلوق سواى هذا الأمر.
واستطرد بحماس فاتر:
-هيا الآن الى مكتب أخيكِ ,فلنبدأ بمباشرة العمل ... لم يعد لدينا ما يشغلنا سواه.
أطاعت رغبته دون أن تبدى أية مقاومة وان كانت قد شعرت براحة كبيرة بعد أن انزاح عن كاهليها ثقل هذا الاعتراف ,وقد وجدت أخيرا من تستند اليه وقت الحاجة.


********************

SHELL 23-11-18 03:00 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
اجتمع الخمسة بمكتب رفيق وقد اتخذ كل منهم مقعدا على طاولة الاجتماعات المستديرة وقام رفيق بشرح تفاصيل العمل بدقة متناهية وايجاز بليغ حتى تفهم كلتا الفتاتين طبيعة عملهم ,وللحقيقة أنهما قد أظهرتا ذكاءا غير محدودا وألمحية نادرة ,حتى أن ريم قد التقطت طرف الخيط من شقيقها لتكمل حديثه مما جعلت أوداجه تنتفخ فخرا بها وأشعت من عينيه نظرات الحنان والمودة حينما علّقت أميرة بتفهم على نقطة اثارها كريم تخص ادارة الشركة التى يتولاها رفيق بالكامل على عاتقه متيحا الفرصة لتقاعد أبيه كما كان يأمل فى الآونة الأخيرة.
حينما انتهى الحوار الخاص بالعمل استقبل الرجال الثلاثة سيل الاستفسارات المنسابة من بين شفتى الفتاتين والتى كانت تشف عن حماس غير عادى وروح مقاتلة لا تستسلم بسهولة , وأجاب كل منهم بما يختص به فى مجال عمله حتى عم الصمت بينهم , فابتسم رفيق متنحنحا وهو يقول بمرح:
-حسنا اذا كنا قد أنهينا الاجتماع المتعلق بمسألة العمل فاسمحوا لى لأنها فرصة نادرة لا تتكرر كثيرا أن أستشيركم فيما يخص حفلة عقد قراننا أنا وحبيبة قلبى.
ثم أشار بسبابته اليمنى الى قلبه ثم الى أميرة الواجمة أمام ناظريه فهذه هى المرة الأولى التى تراه مظهرا لمشاعره الخاصة نحوها على مرأى ومسمع من أقاربهم وفى مثل هذا المكان ,,, غمز سيف بعينيه بشقاوة مرحة ليقول بغيرة:
-يا سيدى على الحب , ربنا يوعدنا زيك.
فهتف كريم متحمسا:
-وخاصة أن الاثنين ينتميان لعائلة الشرقاوى فهو حب أسطورى.
وشاركتهما ريم الضحك دون أن تنسى آلامها الداخلية ووجع قلبها فقالت منتشية بسعادة من أجل أخيها وزوجته:
-اتركا لى أمر تنظيم الحفل فهذه لعبتى ... كنت مسؤولة عنها منذ أيام دراستى بالكلية.
منح رفيق زوجته ابتسامة جذابة أذابت عظامها وهو يقول بحبور:
-وقد سبق ووعدنى عمى عادل برحلة شهر العسل ,وهو رجل خبير بالسفر فتأكدى منذ الآن بأننا سنقضى أحلى أوقات فى البلد الذى اختاره لنا.
قال سيف مؤمنا على حديثه بفخر واعتزاز حديثين عليه:
-نعم أبى هو ملك التنقل والسفريات , فقد أخبرنى أنه قد لف نصف العالم وما زال يحاول استكشاف النصف الآخر.
قالت أميرة بابتسامة صافية تنبع من القلب:
-يحق لخالى هو الآخر شهر عسل جديد مع تنت منى.
فأضافت ريم ببراءة:
-وحتى أمى فهى تنتظر تقاعد أبى بفارغ الصبر حتى يعوّضها عن الايام الماضية ,,, أعتقد أنهما سيجددان حبهما مرة أخرى.
غرق رفيق فى الضحك وهو يقول يصوت متقطع :
-ربنا يستر من هذا الكم من شهور العسل , واحذرى يا ريم فقد يتصادف وأن يأتى لنا شقيق صغير من جراء هذا.
علّق كريم بخبث وهو يشير اليه:
-لا يا صديقى فنحن ننتظركما أنتما الاثنين ... فلا تجعلا انتظارنا يطول.
التهبت وجنتا أميرة من هذا الحوار العلنى الذى أصاب صميم خصوصياتهما ولكنها تقبّلت الأمر بصدر رحب لتقول بهدوء يتناقض مع اشتعال قلبها:
-حسنا اذن علينا أن نمد اجازتنا لفترة طويلة ,وسيلقى بكامل المسؤولية على عاتقكم فهذا تحذير منى ألا تتعجلا عودته للعمل.
ابتسم سيف حتى ظهرت أسنانه البيضاء ليلكز رفيق فى خاصرته قبل أن يهتف:
-يا لك من شخص محظوظ ! فها قد قامت زوجتك بأخذ اذن لك بالتغيّب عن العمل لفترة طويلة ,سوف تنعم بالراحة والاستجمام فيما نحن نعانى من ضغوط العمل .
قالت ريم باندفاع:
-اذا كنت تغار منهما فعليك بتقليدهما.
نظر لها سيف متعمدا وهو يحيطها باهتمامه البالغ قبل أن يقول بمغزى:
-اذا فهل تسعدين قلب رجل وحيد حزين بالموافقة على المساعدة فى تقليدهما ؟
احمرّت أذنيها وقد فهمت مقصده وعلى الرغم من معرفتها بأنه يشاكسها بغرض المزاح الا أنها فوجئت بنفسها تقول بصوت ثابت لا يهتز:
-وهل أعتبر هذا عرضا للزواج ؟
انتبه كريم للحوار الدائر بينهما وهو يتساءل ما الذى جعل الأمر يتطوّر الى هذا الحد فقد فوجئ بسيف يقول بجدية لا يمكن أن تخطئها أذن:
-واذا كان فهل توافقين يا ابنة عمى ؟
قطب رفيق جبينه ليستعلم بفضول:
-ما هذا الكلام ؟ هل أنت جاد يا سيف ؟
أدار سيف وجهه اليه بيقول ببطء:
-وهل فى هذا الحديث مزاح ؟ أننى أتقدم طالبا ليدها وعلى مرأى ومسمع من الجميع , فهل توافق على زواجى من أختك ؟
تطلّع رفيق اليه بعدم تصديق قبل أن ينقل بصره نحو شقيقته باستفسار ذاهل , ثم يقول بثبات:
-ريم , ما قولك فيما يعرضه عليكِ سيف ؟
انتبهت لتحديق أربعة أزواج من العيون نحوها فى انتظار ما ستنطق به شفتاها ثم تطلعت بترقب نحو سيف لتحاول أن تستنبط اذا ما كان يعنى كلامه أن أنه يبالغ فى سخريته منها كعادته لتوجه له سؤالا بعينه:
-هل تعنى فعلا أن تعرض علىّ الزواج ؟
هز كتفيه باستسلام ليقول بتصميم:
-ولماذا لا أعنى كلامى ؟ هل تريننى أمزح فى أمور كتلك ؟ أنا رجل جاد جدا فى عرضى وأنتظر اجابتك يا ريم.
سحبت ريم نفسا عميقا لتدفع الهواء الى رئتيها بعد أن شعرت بتوتر بالغ أثار ضيقا فى تنفسها , ثم قالت بتلعثم ظاهر:
-لا أدرى , فهذا العرض مفاجئ لى ,,, ولا يمكننى اتخاذ قرار متسرع كهذا ...
ابتسم سيف بدبلوماسية لردها الرزين وهو يقول براحة:
-لا يهم ,, فلتأخذى وقتك كاملا للتفكير بروية ,,,أما أنا فسوف أكون بالانتظار ... وستكون موافقتك هذه من حسن طالعى .
رنت ريم بنظرها نحو كريم حتى لا يتهوّر بنزق ليفسد هذا الجو العائلى بعد أن شعرت به يكاد ينفجر فى وجه سيف وهى تقول بمغزى حتى لا يفهم الأمر سواه:
-سوف أفكر بهدوء وروية كما قلت , ولن أتخذ قرارا متسرعا ,فعلى الجميع أن يتصرف دائما هكذا فى مثل هذه الأمور , أليس كذلك ؟
هزت أميرة برأسها علامة الموفقة على حديثها وهى تقول فى تناقض:
-هذا ينطبق على التفكير السليم ولكن حينما يتعلّق الأمر بالمشاعر فاسمحى لى أن أعارضك.
قالت ريم وهى تشبك اصابع يديها فى حضنها حتى لا تفضح توترها أو ارتباكها:
-حتى لو كان الأمر يخص مشاعرنا , فعلينا ألا نسير على هداها دون أن نستمع لصوت العقل.
قالت أميرة بمثابرة عنيدة:
-لو كنت فعلت بالمثل حينما عرض علىّ رفيق الزواج ما كنا وصلنا لحالنا هذا الآن , فربما كنا افترقنا للأبد وذهبت مشاعرنا أدراج الرياح.
رفعت ريم حاجبا باعتراض ولكتها قالت ببساطة:
-ربما.
قال رفيق مقاطعا حوارهما لينهى هذا الجدل القائم:
-لكل قاعدة استثناء يا أميرة ... ونحن كنا هذا الاستثناء.
التزم الجميع الصمت وكأنهم شعروا بمدى التوتر المسيطر عليهم يتملّك فألجم ألسنتهم عن الرد ,وظل كريم حائرا :ما الذى جعل ريم توافق على التفكير بأمر الزواج من ابن عمه ؟ كيف تفعل هذا وجرحها ما زال غائرا ؟ عليه أن يقنعها بالرفض ليس لأنه لا يحب الخير لهما ولكن لأنه لا يريدها أن تتهوّر بقرار تندم عليه لاحقا ,كما لا يريد لابن عمه أن يقع بين مطرقة مها وسندان ريم,, والقلب حينما يكون متألما فلا وجود للمنطق باتخاذ القرار , والأمر ليس بهذه البساطة ,,, فهو قرار بالارتباط مدى العمر.

***************

SHELL 25-11-18 01:50 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثلاثون والأخير ج3

https://www.gabitos.com/DETALLITOSCR...uquet_izq..gif

حينما عادت مها أدراجها نحو منزلها المتهالك وصعدت درجات السلم لتصل الى شقتها الصغيرة , كادت أن تسقط مغشيّا عليها من هول المفاجأة التى وقعت على رأسها كالصاعقة ... فهكذا انتهى أمرها الى الطرد وكأنها حشرة لا قيمة لها ... أمسكت بين أصابعها بالشيك لتجرى عينيها فوق سطوره قبل أن ترفع حاجبيها اندهاشا فهذه هى المرة الأولى التى تقرأ بها المبلغ الذى قررت الشركة صرفه لتعويضها ... عدّت الأصفار أمام الرقم القابع فى سكون وحيدا ... خمسة ... أنه ليس مبلغا بسيطا , لقد تصوّرت أنهم سوف يسكتونها ببضعة آلاف أو على أقصى تقدير عشرة ,تنهدت بحرقة وهى تتساءل : لماذا يعطيها رفيق مثل هذا المبلغ ؟ هل استشعر مدى اجحافه بحقها لأنها كانت له طوال الأعوام الماضية نعم السكرتيرة فلم يشكُ منها مرة واحدة ولم يؤنبها الا مرة واحدة ... أنها تتذكرها كأنها بالأمس ... حينما طالبها باحضار هاتفا خلويا حديثا وأعطاها المواصفات المطلوبة دون أن يخبرها بأية تفاصيل سوى أنه هدية لشخص ما حتى لا تضيفه على حساب الشركة بل تضمه الى قائمة مصروفاته الشخصية وكانت لا تتأخر بأية خدمة له فامتثلت لأمره وقامت بلف العلبة الكرتونية بورق مفضض ملوّن ثم وضعت لمستها الخاصة النهائية بشريط من الساتان وقد خمّنت هوية المتلقى بأنها لا بد وأن تكون امرأة ,فلا يعقل أن يهدى شخصا مثل مديرها هدية كهذه الى رجل أو الى صديق ,حينما وقع بصره على الشكل النهائى انزعج بشدة ولكنه أخفى ضيقه ببراعة ثم اكتفى بتمتمة لا معنى لها ,ولكنه عاد فى اليوم التالى بوجه يفيض غضبا ليلقى على مسامعها أشد كلمات التأنيب قسوة واستفزازا كلما مرت الى جواره وكأنه يعاقبها على تصرف ما ,وقد أرجعت سلوكه هذا الى انشغال باله بكم المسؤوليات الهائلة الملقاة على عاتقه , ولشدة ذهولها فقد أحست بالاشفاق على حاله ... وحيدا فهو كان العازب العتيد بالعائلة وقد سار الرجلان الآخران على دربه ولأنه أكبرهم سنا ومركزا فكان بديهيا أن تحيطه الأنظار من كل جانب وهى بنفسها شهدت على مدى قوة جاذبيته وتأثيره على الجنس الآخر.
كان يطلق عليه فى ريعان شبابه الأول حينما استلم زمام العمل وهو بعد فى أوائل العشرينات من عمره لقب (( الفتى الذهبى )) ربما لأنه ينتمى لأكثر العائلات ثراءا ونفوذا ,وربما يعود ذلك لسبب آخر : ذكائه الحاد وقوة بصيرته اضافة الى شخصيته الفذة المعقدة ... أما كريم فهو نموذج للشخص المثالى بتصرفاته وطريقة ادارته للمواقف ... ثم سيف ... يا له من رجل ! رجل التناقضات ... يبدو ودودا ولطيفا ثم ينقلب بلمح البصر الى مخلوق شرس لا يأبه بأحد , للوهلة الأولى حينما استلمت وظيفتها بالشركة وكان لا بد أن تجرى مقابلة معه لاختبار مدى جاهزيتها للعمل لديهم كادت أن تهرب من حصار عينيه القوى فقد بدا لها أنه يراقبها بشكل مريب أثار القلق فى نفسها حينما توقف أمام اسمها الثلاثى وصارت أنفاسها حبيسة بصدرها لا تجرؤ على اخراجها حتى أخذ يسألها باستقصاء عن مؤهلاتها وخبراتها على ارغم من أنها قدمت كافة الأوراق المطلوبة والتى تحتوى على سيرتها الشخصية فأجابته دون تردد حتى نطق بالموافقة على توظيفها بكلمات مقتضبة دون زيادة أو نقصان : يا آنسة مها كمال الراوى ... لقد حصلتِ على الوظيفة.
يا له من زمن طويل , تتذكر هذه الأحداث بأصغر تفاصيلها , لا تجرؤ أن تنسى شيئا يتعلّق به , فى كل مرة تراه أو تتحدث اليه لا بد وأن ينتهى الأمر بكارثة محققة ,ولكنها آثرت أن تغمى عينيها عن الحقيقة الواضحة ... انكشف أمرها وربما منذ وقت أطول مما تتخيّل ,كان يدبّر لها فى الخفاء بطريقة ذكية حتى يتخلص منها دون أن تأخذ حذرها من كيده ,وها هو الآن يطالبها بمنتهى البساطة أن تنسى وتعيش حياتها دون أن تنظر للخلف , وابتسمت لنفسها بسخرية وهى تقول بصوت مسموع : وهل تركت لى ما أعيش من أجله يا ابن الشرقاوى ,ماضىّ وقد تم تشويهه وحاضرى وقد حطمته أما مستقبلى فسوف أحيا لأجعلك تدفع الثمن نيابة عن عائلتك الظالمة المتكبرة ,, أعدك بأن تندم كثيرا يا سيف.
وأخرجت هاتفها الصغير من حقيبة يدها لتقلّب بسجل المكالمات بأصبعها الرشيق حتى وصلت الى مبتغاها ... أجرت الاتصال وحينما سمعت صوت محدثها قالت بهدوء:
-نعم أنا مها ... أريد لأمر ضرورى ولن ينفذه سواك ... حسنا ألقاك بعد نصف ساعة ... نعم بذات المكان , سوف أحضر لك المبلغ الذى سبق أن طلبته , لا لن أتراجع هذه المرة , صدقنى هذه كلمة شرف ,,, الى اللقاء.
وأغلقت الهاتف بحركة عنيفة قبل أن تنظر الى الشيك بحقد وهى تدمدم بكراهية شديدة:
-اذا كانت لنقودكم اللعينة فائدة واحدة فسوف أستخدمها لتدميركم ,,, أنت لم تترك لى خيارا آخر يا حبيبى.
وانسابت عبرة خائنة على وجنتها قبل أن تمد يدها لتمسحها بعنف وهى تقول لنفسها : لم تعد هناك فائدة من الدموع , وفات أوان التراجع يا مها.



******************

SHELL 25-11-18 01:52 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
أشار عادل لزوجته خفية حتى تتبعه فقد كانت منهمكة بالحديث مع النساء فى غرفة الجلوس المتسعة ,وفجأة لمحت ابتسامته المحببة تتراقص فى عينيه قبل أن يغمز لها وهو يحرك سبابته نحو الأعلى دون أن تلمحه غيرها كما توهمت فتنحنحت لتقطع حديث فريال المتحمسة وهى تقص عليهم كافة التعديلات الى قامت باجرائها على جناح العروسين الذى يجرى تجديده فقالت بتردد:
-آسفة يا فريال للمقاطعة , أستمحيكم عذرا فلا بد أن أصعد الى غرفتى الآن.
نظرت لها هناء التى كانت تتكأ بقدمها على وسادة بالرغم من أن حالتها قد تحسنت كثيرا وقد اندهشت من سرعة تغيّر مزاجها قبل أن تسألها الجدة شريفة باهتمام:
-ما بك يا بنيتى ؟ أتشعرين بتعب ؟
قالت منى تتصنّع الاجهاد لتهرب من حصار الأعين المحيطة بها:
-لا شئ يا ماما , مجرد ارهاق بسيط , سوف أذهب لأستريح قليلا.
رفعت فريال حاجبا قبل أن تقول بمكر:
-اتركيها يا أمى لتذهب وترتاح , فهى ترهق نفسها كثيرا هذه الأيام ,,, مشغولة بمتابعة أعمال البيت اضافة الى مساعدتى فى الاشراف على العمّال ...
ومنحت زوجة أخيها ابتسامة خاصة وهى تقول بمغزى:
-كما لا بد وأن تكون فى أبهى صورة حينما يعود عادل من الخارج.
ضيّقت منى عينيها فى نظرة ادراك واضحة لما تشير اليه فريال ففهمت أنها قد رأت زوجها ,بينما قالت سوسن باشفاق وحنو:
-طبعا عزيزتى , هيا اصعدى الآن ونحن سنتكفل بالمتابعة ومساعدة فريال حتى نهاية اليوم.
ابتسمت منى باشراق للسيدات وهى تهب واقفة بسرعة وحماس يتناقض مع ما كانت تزمع من اظهاره من تعب وهى تتمتم بكلمات الشكر للجميع مع اعتذار واهِ قبل أن تنهب درجات السلم برشاقة ولهفة حتى وصلت الى غرفتها المغلقة فسحبت المقبض الى أسفل قبل أن تدفع الباب برفق لتجد الغرفة غارقة فى ضوء خافت ينساب من اضاءة جانبية وقد كان هذا هو وقت مغيب الشمس ثم تناهى الى مسامعها صوت موسيقى هادئة كلاسيكية يتسلل ببطء حتى يتوغل فى أعماقها , هذا الشعور الذى بدا وكأنها لم تعد تتذكره عاد ليدغدغ حواسها برقة ,ثم فاجأها عادل بظهوره من الباب الجانبى وهو فاتحا ذراعيه ليستقبل جسدها اللين فى أحضانه وقد مد ذراعه ليستقر على خصرها بينما أمسك بيده الأخرى أصابعها المرتعشة ببهجة وليدة وهو يهمس بحب فائق:
-حبيبتى .. طال انتظارى لهذه اللحظة منذ سنوات.
ثم أخذها بين ذراعيه يراقصها بمهارة على أنغام الموسيقى وهى ترمى برأسها على كتفه مغمضة العينين ,لا تصدق ما تشعر به فى هذه اللحظات الثمينة من عمرها الذى ضاع فى الأوهام والضلالات حتى قررات استعادته كاملا فقد أصبح زوجها شخصا مختلفا يحاول تعويضها بشتى الطرق عما مضى وهى سعيدة راضية بين يديه.
حينما توقف صوت الموسيقى أبعدها عادل بحنان عنه قليلا ليتأمل فى عينيها بشغف فصدرت عنها أنة اعتراض واهن على حرمانها من دفئه قبل أن يقول بوله:
-حبيبتى ... انتظرى فقد أعددت لكِ مفاجأة ,, أتمنى أن تنال اعجابك.
ثم أمسك بمرفقها ليقودها الى جانب الفراش ثم انحنى بقامته المديدة ليفتح جارورا فى الخزانة الصغيرة قبل أن يخرج منها بطاقتى سفر ويلوّح بهما أمام ناظرى زوجته التى أذهلتها المفاجأة فابتسم لها ملء فيه قبل أن يتشدق بعنجهية أمامها:
-ما رأيك باجازة طويلة لندور حول نصف العالم ... سويا ؟
ارتعشت أهدابها وهى تهز رأسها عدة مرات كمن لا يصدق نفسه قبل أن تغمغم :
-أنا وأنت ؟ فقط ؟
سحب يدها الى صدره ثم لثم أطراف أناملها بشفتيه وهو يعيد تأمل ملامحها وجنتها المتوردة فكأنها عادت عشرات السنين الى الوراء ,,, بأول يوم وقع بصره عليها ... كانت مرتبكة تنظر حولها بخجل ... أسرت قلبه من يومها ولم يعد ملكه أبدا ... تنهد ارتياحا وفخرا قبل أن يؤكد لها ببساطة:
-نعم ,وهل نحتاج الى أحد آخر معنا ؟
كادت أن توافق الى أنها توقفت بآخر لحظة لتهتف ملتاعة:
-وسيف ؟ هل سنتركه وحيدا ؟
قهقه عادل عاليا وهو يحيطها بذراعيه قبل أن يصيح:
-أنه ليس طفلا صغيرا يا حبيبة قلبى , لقد صار رجلا.
وأشار الى شاربه مؤكدا ,فأشاحت هى بوجهها بعيدا وهى تتحسّر بحرقة:
-أعرف أنه بات رجلا ,ولكن قلبى لا يطاوعنى على تركه ,أنذهب لنتمتع بالسفر وهو هنا منهمك بالعمل ...
قال عادل باصرار:
-لا تعتقدى أننى سأتركك تفلتين منى , سوف نذهب وفورا بعد عقد القران ,,, لقد تم تأكيد الحجز ولن أتراجع.
وضعت يدها على صدرها قائلة:
-كما أن قلبى ليس مرتاحا فأنا أراه كثير الشرود هذه الأيام لا أعرف ما الذى أصابه ؟
انتفض ضاحكا من سذاجة زوجته الواضحة وهو يشير بأصابعه صانعا شكل قلبين قبل أن يقول:
-ماذا به يا امرأة ؟ أنه الحب ,ألا تذكرين أول نبضات القلب حينما يقع غارقا فى العشق ؟
شحبت وجنتاها وهى تشهق بقوة قائلة:
-الحب ؟ أتقصد أنه عاشقا لفتاة ما ؟
-بالتأكيد , لن يكون ولدى ان لم يحب حتى الآن ... فأنا وقعت غارقا حتى أذنىّ بحبك وتزوجتك وأنا أصغر منه عمرا بكثير ,لقد تأخر هذا الفتى وعليه أن يسرع حتى لا يفوته القطار.
عقدت جبينها قبل أن تتساءل ببلاهة:
-أى قطار ؟
-قطار الزواج بالطبع , ألا تتوقين لرؤية أحفادنا يملأون علينا البيت فرحا وسعادة ؟
سرحت بأفكارها وقد بات قلبها يخفق بشدة حينما تخيّلت طفلين صغيرين يشبهان ابنها يقفزان من حولها بمرح ووجدت نفسها جالسة تراقبهما بسعادة وحبور يملأها الفخر والاعتزاز ,فقالت هامسة:
-أتمنى من كل قلبى أن يعثر على ابنة الحلال التى تناسبه وتسعده وتكون من عائلة , أتكون واحدة نعرفها ؟
قاطعها زوجها باستياء:
-ما هذا الكلام ؟ تناسبه ومن عائلة ! كلا ,المهم أن تسكن قلبه وتجعله يشعر بالحياة الى جوارها ,,, أن تكمل روحه ,,, ولا يهم من تكون ولا ابنة من ,هذا حديث لا جدوى منه.
قالت مؤمنة دون أن تكون لديها رغبة باثارة المشكلات بينهما:
-لديك كل الحق , المهم أن تريحه و... ولكن كيف تكون واثقا هكذا من الأمر ؟
غمز لها بعينه قائلا:
-أنا رجل ذو خبرة , أم نسيتِ ؟
-كلا , لم أنسَ ,ولكن لا بأس ان ذكرتنى .
وتصاعدت ضحكاتهما سويا آملين فى أن تتحقق أمنيتهما ... باستقرار ابنهما بالزواج , دون أن يعرفا بنيّته مطلقا.


*******************

SHELL 25-11-18 01:54 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بالطابق الأرضى عادت النسوة لثرثرتهن المرحة بعد انصراف منى عنهن فقالت فريال بابتسامة صافية وان ظلت عيناها تعكس حزنا دفينا :
-أرى أن هذا البيت قد عاد الى ازدهاره فصار الحب مرفرفا بأنحائه ,ويبدو أن عادل ومنى قد تصالحا أخيرا.
قالت أمها بثقة بينما تلتمع فى عيونها نظرات الامتنان والثناء على ابنتها:
-كل هذا بفضل الله ثم بفضلك عزيزتى ,,, فقد أعدتِ الحياة الى أخيكِ بتسامحك وغفرانك ... ليتكِ تفعلين بالمثل مع أبيكِ - رحمه الله - حتى تكتمل فرحتك وتستأنفين حياتك مجددا ,فالدنيا لا تتوقف على أحد ... من ذهب فقد ارتاح وأراح ,دعى الماضى ورائك يا فريال.
نظرت لها فريال بصمت غير قادرة على الكلام فقد اختنقت الحروف بحلقها مشكّلة حاجزا منيعا بينما قالت سوسن لتخفف من أحزانهما المتجددة:
-ماما لديها كل الحق يا فرى ,فالوضع الآن صار مختلفا ,فقد التم الشمل والأولاد جميعهم باتوا فى أحضاننا ,ومن يراهم معا يدرك مدى الترابط بينهم فلن يفرقهم أحد بعد اليوم كما أننا نحتفل بزفاف ابنتك وابنى فلا تجعلى شيئا ينغص علينا سعادتنا التى نحمد الله عليها ونسأله أن تدوم .
لا تدرى لمَ ذكّرتها بلفظة التدليل الخاصة بوجدى فهو الوحيد الذى كان يحلو له أن يناديها ( فرى ) فهذه وحدها كفيلة باثارة الذكريات المريرة ,بينما عادت لتسترجع موقفها الأخير من أبيها قبل أن يرسلها بعيدا الى منفاها الاجبارى فقد ظلت ترجوه مرارا وتكرارا أن يجعلها ترى ابنتها ولو لمرة واحدة بل لقد سقطت راكعة على قدميها تلثم أصابع يده القاسية تغرقها بدموع اللوعة التى تحرق ضلوعها أسفا على فراق رضيعتها وهو على شموخه وكبريائه اللذين لا يفارقانه حتى فى أحلك المواقف ,ظل متماسكا بهدوء وثقة حتى النهاية وهو يلقى على مسامعها بالكلمة التى لم تفارقها ليلا نهارا بل ظلت ترن فى أذنيها بصوته العميق :
-انسيها.
أخذت تذرع الغرفة ذهابا وايابا كليث جريح وهى تردد بصوت يكاد يكون مسموعا:
-أسامحه ... أسامحه ... نعم ... نعم ولمَ لا فقد سامحت أخى من قبل , لا , لا ... ولكننى لا أستطيع حتى ولو من أجلك يا أمى , لااااااا.
وانهارت باكية تبتعد لاهثة لا تريد لأحد أن يشهد على عذابها بينما حاولت سوسن أن تلحق بها الا أن شريفة قد منعتها باشارة متسلطة من يدها المتعرقة وقالت بترفع:
-اتركيها تنفث عن غضبها بعيدا عن العيون ,فهى تحمل كبرياء آل الشرقاوى ولن ترحب بوجودك شاهدة على ضعفها.
ثم غامت عيناها مشيحة بوجهها الى الصورة المعلّقة على الجدار تحتل جزءا كبيرا منه بينما استقرت شارة الحداد السوداء على ركن الاطار المذهب وهى تخاطبه بسرها: سامحك الله على ما فعلت بى وبأخيك وبأبنائك وبأحفادك أيضا ,,,
استسلمت سوسن لارادة حماتها برضا نفسى وليس قسرا فهى تحبها كأم لها وتحترم قراراتها بينما أشارت لها هناء بمعنى أن تنسحب الواحدة تلو الأخرى تاركتين السيدة العجوز مبحرة فى غياهب الذكريات.
انسلت كلتاهما بالتوالى لتباشرا الاشراف على الأعمال فى المنزل فتوجهت هناء الى المطبخ بينما ارتقت سوسن للطابق العلوى حيث الجناح المجهز حديثا لابنها وعروسه.



*****************

SHELL 25-11-18 01:58 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

هكذا انتهت الفصول وبقى فقط الخاتمة

ان شاء الله أنزلها فى أقرب وقت

http://www.geocities.jp/guajian77/GJXIN103.gif

bluemay 26-11-18 10:09 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

مباااااارك انتهاء الرواية


بتقدم لك بالشكر الجزيل لإنتظامك وإحترامك لقرائك رغم انعدام الردود

وبتمنى لك التوفيق والسعادة دايماً


*تم تثبيت الرواية*



لكِ ودي

SHELL 30-11-18 04:09 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
http://files2.fatakat.com/2017/4/pos...08803_1239.gif

الخاتمة

https://i.gifer.com/6237.gif

جرت الاستعدادت على قدم وساق من أجل الاعداد لحفل مميز يليق باسم عائلة الشرقاوى بما لها من نفوذ واسع يتغلغل فى أعماق الطبقة العليا فى المجتمع المخملى ,وقد أصرت أميرة على الاقتصار على دعوة الأقارب والأصدقاء المقربين بدرجة كبيرة فقط كما امتثل رفيق لرغبتها بعدم السماح للصحافة بافساد بهجة هذا اليوم الهام فى حياتهما فخلت الفيلا الا من بعض المصورين الخاصين لتسجيل هذه اللحظات السعيدة بصورة احترافية عالية ... بينما تولت ريم مهمة تنسيق وتنظيم الحدث بمهارة أشاد بها الجميع ما جعل ابتسامتها تشرق من جديد فتناست هموم قلبها المثقل للحظات وتنسمت متعة الشعور بالأهمية لدى أفراد عائلتها وخاصة سيف الذى كان ملاصقا لكل خطوة من خطواتها يتبعها كظلها الذى لا يفارقها دون أن تشعر بأى تقييد لها ,كان مراعيا لشعورها الى أقصى درجة بل وتحوّل الى رجل فائق التهذيب بتخيّر كل حرف يتفوّه به حتى ظنت أنه لا بد وأن يكون مريضا حتى لا ينفلت لسانه الزلق بحديثه المشاكس الذى يثير دوما أعصابها ,وحينما كانت تبتعد عنه لتلقى بتعليماتها الى أحد أعضاء الفريق الذى يتولّى اعداد برنامج الحفل وترنو بنظرها اليه خلسة تجده مراقبا لها باهتمام بالغ قبل أن ينضم لها مجددا وكأنه يعلن للجميع أن هذه الفتاة تخصه حتى دون أن تعطيه الرد المناسب لعرضه السابق ,لم ترفض التصاقه بها على العكس ... تمتعت بكل ثانية من هذا التسلط الذكورى الذى كانت تضيق به ذرعا بالماضى وغفلت عن الهمسات الدائرة بين زوجة عمها منى وأمها والتى كانت تتمحور حول الثنائى الجديد بالعائلة أى ريم وسيف وكم أنهما متناغمان سويا بملاءمة رائعة.
فى حين قامت فريال بالوقوف الى جوار أخيها محمد لتشاركه استقبال المدعوين كما تقتضى الأعراف بتواجد والدى العروسين لتلقى التهانئ من الوافدين ...
ولم تتردد سماح التى كانت تدور كالفراشة هنا وهناك فى أن تتوقف لبرهة حتى تطلق زغرودة مجلجلة تعلن بها عن مولد فرحة بهذا المنزل بعد طول غياب ثم تنسل الى المطبخ حيث يتواجد خطيبها سعد والذى يبذل أقصى جهده لمد يد العون لهم فى هذا الاحتفال الضخم عن رغبة حسنة فى مشاركتهم السعادة وليس من أجل عمله الذى ينال منه مرتبه فكانت سماح تبدأ عملا وهو يكمله أو العكس بينما يراقبهما العم ( مصيلحى ) بشغف وهو يتصنّع الضيق فيوبّخ أحدهما بصوت مرتفع حتى ينتبه الآخر اذا شرد ذهنه , وبالطبع كان هناك بعض العمال المأجورين الذين انضموا الى الثلاثى الأساسى فى العمل وهم يتلقون الأوامر من الطبّاخ العجوز بتأفف من أسلوبه المزعج فى الصراخ ... وكان أحدهم شابا فى مقتبل العمر على قدر من السذاجة يبدو وكأنها المرة الأولى له فى هذا العمل فانبهر بجمال سماح الأخّاذ وحيويتها الفائقة حتى أنه كاد يفلت كأسا تناوله من يد زميل آخر أكثر حنكة فأسرع الأخير بالسيطرة على الموقف فى اللحظة الأخيرة ,فوقوع مثل هذا الكأس وتحطمه كان سيتسبب فى كارثة لهما ثم لكزه بمرفقه فى خصره حتى ينتبه لما يمسك به وتتبّع بعينيه نظراته الى الفتاة الوحيدة فى هذا المكان وحينما التقت عيناها بمن يحدّق بها بهذا الافتتان الواضح تخضبت وجنتاها احمرارا وابتعدت لتختبئ بسعد دون أن تدرى أنه على دراية بما يحدث , فما كان تصرفه الا أن وضع ذراعا متملكة على كتفها ليدفعها بعيدا عن مجال رؤية الشابين اليافعين وهو يكاد يتميز غيظا ويتساءل بقرارة نفسه : متى ينتهى هذا اليوم الطويل قبل أن يرتكب حماقة قد يندم عليها أو يتسبب لفتاته بمشكلة هى فى غنى عنها ,,, تنفس أخيرا الصعداء حين غابت هى عن نظر الجميع فى طريقها الى الخارج.
وفى تمام الساعة الثامنة مساءا فى الموعد المحدد بالدقيقة حضر المأذون الشرعى والذى تم تكليفه باتمام عقد القران الجديد ,,, كان تقليديا للغاية بقفطانه الواسع وعمامته الملفوفة بحزم حول رأسه وهو يحمل كتابه تحت ابطه ,,, استقبله كريم بالمدخل وقاده نحو البهو الداخلى ... حينما رأته ريم لأول مرة شهقت منبهرة وهى تهتف برفيقها:
-انظر يا سيف , أنه المأذون قد حضر ,وها هو يرتدى تماما كما كنا نشاهده بالأفلام القديمة ,,, يا له من مشهد !
نظر نحوها مصعوقا من جاذبيتها التى تمددت بفعل سحر ابتسامتها الطفولية وقال لنفسه : ألا توقع نفسك بورطة كبرى اذ تقدمت بطلب الزواج منها ؟
نفض عن ذهنه مثل هذه الأفكار المحطمة للآمال وهو يجيبها بلين:
-ما رأيك لو تعلنى موافقتك فى هذه اللحظة حتى نلحق بالمأذون الذى نال اعجابك فيعقد قراننا أيضا.
رفعت ريم حاجبيها باستغراب وهى تقول بتوتر:
-أتعنى الآن ؟
أومأ لها برأسه متلاعبا بحاجبه وهو يقول مغازلا:
-نعم الآن , وهل هناك مانع فخير البر عاجله ,وها أنا أعمل بنصيحتك لى فى تقليد رفيق.
أشاحت بوجهها بعيدا قبل أن يلمح العبرات اللامعة فى عينيها وقالت تتصنع المرح:
-كلا ... عليك أن تنتظر.
-ألا تترفقين بى يا ابنة العم وترحمين قلبى المسكين من عناء الانتظار ؟
التفت أصابعه تحكم قبضته حول ذقنها ليدير وجهها نحوه باصرار فاستسلمت مرغمة قبل أن تتمتم:
-ربما لا تضطر الى الانتظار طويلا , من يدرى !
تراقصت ابتسامة ماكرة على شفتيه قبل أن يقول هامسا:
-أتعنين كلامك هذا حقا يا ريم , أم أنكِ تتلاعبين بمشاعرى ؟
حركت يدها لتصارع رغبة داخلية فى أن تبقى على هذا الوضع وأخرى تحثها على الابتعاد قبل أن تتأذى ,فالتقط كفها الحائر فى الهواء وقرّبه من فمه ليطبع قبلة حانية بطيئة متحاشيا النظر الى أعماق عينيها حتى لا تنكشف حقيقة احساسه بهذا الوقت ,لم يكن متأكدا من ماهية مشاعره تجاه تلك الرقيقة الهشة التى كان يحلو له سابقا أن يثيرها فتجابهه بقوة وثبات لا مثيل لهما حتى تثبت تفوقها عليه.
تسمّرت عيناه على نقطة ما خلف ظهرها وقطّب جبينه بشدة الا أنه لم يفلت يدها من بين براثن يده المحتضنة بل شدد من قبضته القوية حتى كادت تشعر بعظام أصابعها اللينة تتحطم فاعترضت بهمهمة ضعيفة وهى تستدير بنصف التفاتة لترى فيما يحدّق متجاهلا محاولتها المستميتة للافلات منه فاصطدمت بزوج من العيون الزرقاء يغزوان كيانها المشتعل ليتعرّى ما بداخلها من أحاسيس متضاربة متناقضة فقد بانت الحيرة على وجهها المصدوم ,,, ما الذى يفعله هنا بهذه اللحظة العائلية جدا ثم وقع بصرها على ذراعه المستكينة بحماية على كتف الفتاة الشقراء التى لن تنسّ ملامحها أبدا فهى دوما تشكّل لها مصدر عذاب وهى تتخيّل الحميمية التى يتشاركان بها فالتمست بدورها باحثة عن الأمان لتجد ابن عمها يشدها الى جواره محيطا خصرها بذراعه الأخرى ليتقدم بضعة خطوات من عمهما محمد الذى كان يشير لهما حتى يقتربا وقد كان مشغولا بتحية رجل يبدو عليه سيماء الكبرياء والقوة وقد غزا الشيب محيط رأسه ,بدت ملامحه مألوفة لريم وكأنها قد سبق أن رأته بمكان ما ولكن لم تسعفها ذاكرة السمكة التى تتمتع بها وما أن وصلا الى غايتهما حتى ابتدرهما محمد بالقول بحفاوة وترحيب بالغين:
-هيا اقتربا لتلقيا التحية على جدكما ... عبد الله أنه عمى ...
ارتسمت ابتسامة مرتجفة على شفتى ريم وهى تحاول السيطرة على انتفاضة جسدها حينما مدت يدها لتسلم عليه فاستقبلها بمفاجأة حيث ضمها اليه ببساطة وهو يقول بصوت رخيم:
-لا بد وأنك ريم ,,, ابنة محمد أليس كذلك ؟
عقدت المفاجأة لسانها فأومأت برأسها ببطء وهى تجذب نفسها من بين أحضان الرجل العجوز الفاتن فقد تهيأت لها الفرصة لتتأمل تقاطيعه المليحة التى كشفت عن وسامة مدمرة قديمة وعينيه ,,, شعرت بأنها تعرفهما حق المعرفة ,,, ولكن هيهات أن تدرك قبل أن يحذو حذوها سيف مرحبا بالجد الغائب بدبلوماسية وصوت محمد يرن فى أذنيه :
-هذا هو سيف ابن عادل.
قبل أن يشير عبد الله الى الثنائى المجاور له وهو يقول بفخر:
-اسمحوا لى أن أعرفكما على حفيدىّ ... جاسر وليلى , ليلى هذا هو عمك محمد وهذه عمتك فريال أم العروس.
ضاقت عينا ريم فيما مد جاسر يده فى اشارة ودية للتحية الا أن عيناه أخبرتها بالنقيض تماما وهو يضغط بتعمّد على مفاصل أصابعها التى انسحقت تحت وطأة أصابعه المؤلمة قبل أن يغمغم بصوت خفيض:
-مرحبا ريم سعدت بلقائك وكم وددت لو كنا قد التقينا فى وقت أقرب من ذلك.
صرفت على أسنانها بغيظ وهى تشعر بالاهانة من طريقته الغاضبة فى تحيتها وتساءلت : كيف يجرؤ هذا السافل على مجاملتها بهذه الطريقة الباردة وكأنه يراها للمرة الأولى متغاضيا عن التفاف تلك الحية الرقطاء بنعومة حوله والتى سعت نحو سيف بابتسامة أنيقة لتقول بمغزى:
-تشرفنا يا سيف ... منزلكم رائع حقا ,ولكننى لم أتوقعه بهذه المساحة.
اعتصر سيف يدها الممدودة دون أن يأبه لشهقتها المكتومة ليجيبها باحتقار:
-أنه يبدو من الداخل أفضل بكثير من الخارج ,فالمظاهر الخارجية دائما ما تخدع أليس كذلك ؟
وافقته ريم بايماءة من رأسها وهى تعود لتلتصق بابن عمها تتلمس حمايته فعاد الى وضع ذراعا متملكة على كتفها بينما قالت باستخفاف:
-أنت على حق دوما يا سيف.
بينما أشار سيف متسائلا ببرود:
-معذرة ,,, ولكننى لم أفهم بعد صلة القرابة بينكما هل أنتما أبناء عمومة ؟
أجابه جاسر بخيلاء وهو يضع يده فى جيب بنطاله:
-كلا ... ليلى هى ابنة خالتى ,فجدى عبد الله هو جدى لأمى.
قالت ريم بنزق:
-آآآه لهذا أعتقد أنكما تخفيان صلة القربى هذه بمنتهى البساطة.
انعقد حاجبا جاسر بانزعاج قبل أن يهتف متسائلا:
-أرجو معذرتك ... لم أفهم ماذا تعنين ؟
كان يمثل دورا رخيصا بنظرها فهو لدية كامل الجرأة ليأتى الى زفاف أخيها منكرا معرفته بها وعلى مرأى من تلك الأفعى التى اتضح أنها ابنة خالته فواتتها الشجاعة لتستكمل انتقامها البارد قائلة بابتسامة قاتلة:
-أعنى أنكما لستما مثلى أنا وسيف مثلا , فنحن لا نخفى قرابتنا .. أقصد بسبب الاسم فنحن نمتلك ذات الكنية ... عبد العظيم الشرقاوى.
استدرجه تفاخرها بنسبهما الى أن يسألها متألما:
-اذن فهذا هو ما يجمعكما سويا ؟
التقطت مغزى سؤاله فأكملت فى طريقها المقرر حتى النهاية لتقول بتحفز:
-كلا , ليس هذا فقط ما يربطنا ببعضنا اضافة الى أنه ابن عمى وصديق طفولتى فأنا وسيف سوف نتزوج قريبا .
ثم التفتت باغراء الى ابن عمها الذى كان مسمّرا يتابع تفاصيل لعبتها قبل أن تلمح شبح ابتسامة متسلية تتراقص على زاوية فمه المزموم ليؤكد على صدق حديثها بجدية:
-نعم , ألست محظوظا لأنال موافقتها على الزواج منى ؟
ارتخت ذراع جاسر الحانق ليتخلّى عن ابنة خالته وهو ما زال محدّقا فيهما بنظرات ناريّة اخترقت قلبها المتوجع ليقول متمتما ببطء:
-اذن فالفرح انقسم لاثنين ... تهانىّ القلبية لكما ,هل ننتظر اعلان خطبتكما قريبا ؟
واتجهت أنظاره نحو أصابعهما الخالية من أية خواتم فأجابه سيف متسرعا:
-لا تسمح للمظاهر أن تخدعك كما قلنا فيما سبق ,فنحن لا نقيم وزنا لهذه الشكليات التافهة ,,, وخير البر عاجله كما يقال ... ربما ندعوك لعقد قراننا بأقرب ممما تتخيّل.
قالت ليلى بشماتة واضحة وقد شعرت بأن ريم قد خطفت منها دائرة الأضواء باعترافها المذهل:
-وأنا أيضا ألا تباركان لى فأنا على وشك أن أخطب.
ابتسم سيف دون رغبة حقيقية بزواية فمه وهو يقول محاولا اخفاء فضوله:
-هل أنتما الاثنان أيضا مخطوبان مثلنا ؟
كادت ليلى أن تتفوّه بكلمة الا أن جاسر أسكتها بلفتة بسيطة حين أسر فى أذنها ببضعة كلمات بدت وكأنها همسات عاشقين قبل أن يلتفت اليهما جاسر من جديد قائلا بثقة زائدة:
-تستطيع أن تقول هذا ,,,
لم تستطع ريم أن تمنع غصة رهيبة بحلقها حينما رأت زوجي العيون يتفاهمان بطريقتهما الخاصة بصورة فريدة ,, واعترفت لنفسها كارهة أنهما يشكلان ثنائيا مثاليا ,,, ليلى وجاسر ,,, يا للعجب فهما يعدان أبناء عمومة لهما وان كانت صلة القرابة بعيدة الى حد ما ,,, كيف ستتحمل رؤيتهما ثانية على هذا الحال وقد فهمت من حديث أبيها من قبل أن عائلة الجد الغائب سوف تشاركهم بميراثهم ,,, بمنزلهم ,,, بعملهم ,,, بحياتهم ,ماذا فعلتِ بحياتك يا ريم لتستحقى مثل هذا العقاب الشنيع ؟
جاسر ,,, حبيب القلب وتوأم الروح ,,, اعترفت لنفسها بجرأة غير مسبوقة وها هو هنا فى بيتها مدعوا حفلهم الخاص قريبا وبذات الوقت أبعد ما يكون عن منالها ,يتشدّق بخطبته لابنة خالته ... ذلك المنافق الحقير ,, أخفى صلة قرابته لها ببراعة يحسد عليها ثم سعى ليتعرف اليها ويوقعها بحبائله , ما الذى كان سيجنيه من هذا التصرف ؟ أكانت مجرد وسيلة لتحقيق هدف الانتقام من عائلتها ؟ وهى بغبائها وسذاجتها أعطته الفرصة على طبق من فضة بل من ذهب ,, ولكنها فكّرت على الأقل أنا من قطع العلاقة المريبة التى لم تكن معروفة التفاصيل ولا الملامح ,ولماذا يبدو غاضبا منها هكذا وكأنه المجنى عليه وليس الجانى , لا ... لن تستسلم لهذا الشعور الجارف بالاحساس بالذنب نحوه , بل كيف تشعر بأدنى قدر من التعاطف معه ؟ أنه شخص نذل وكاذب ادّعى البراءة وتودد اليها لغرض دنئ ,,, لن تعود لسابق عهدها ,,, لن تكون ريم الخانعة التى تصدّق كل من هب ودب بحسن نية ,,, الحياة صعبة.
كانت فريال الوحيدة التى تعرفت الى عمهم سابقا ولكنها أخفت هذه المعرفة ببراعة حتى لا تثير التكهنات حولها فحيّته بمودة وبساطة الا أنه همس فى أذنها قائلا:
-لدىّ حديث خاص معك.
أجابته فريال بارتباك:
-حسنا يا عمى ,ولكن ألا يمكن أن نرجئه لما بعد , فاليوم هو زفاف ابنتى كما تعلم ولست مستعدة للنبش فى الماضى الآن.
أرسل لها نظرة أبوية دافئة تشع حنانا وحبا قبل أن يغمغم باستسلام:
-كما تفضلين يا غاليتى ... مبارك لها ومبارك لكِ عودتها.
-شكرا يا عمى ...
وبترت عبارتها بغتة حينما تناهى الى مسامعها صوت دافئ اشتاقت لصاحبه طويلا يقول:
-مبارك لكم يا محمد ,,,
فاحتضنه محمد بقوة وهو يربت على ظهره قائلا:
-كنت سأغضب منك ان لم تأتِ.
-وهل يعقل أن أرفض دعوتك ؟ لم أكن لأسامح نفسى ان فاتتنى هذه المناسبة.
ارتعشت أهدابها مرفرفة وهى تمتّع نظرها بالنظر الى كل خلية من ملامحه التى افتقدتها الى أن توجه اليها بخطوات ثابتة مديدة ومد يده يتهذيب يقول برسمية:
-مبارك لكم يا فريال هانم.
احتاجت الى كل ذرة تعقّل حتى لا تلقى نفسها بين ذراعيه وهى تقول لائمة:
-الله يبارك فيك يا مجدى ,أكان لا بد أن يدعوك محمد بنفسه لتحضر ؟
-وماذا أفعل يا سيدتى اذا لم أكن فردا من العائلة ,فلهذا أنتظر دوما دعوة أحدهم.
كان يؤنبها ببساطة لعدم تلقيه الدعوة مباشرة منها الا أنها أشاحت بوجهها مطرقة الى الأرض قبل أن تقول بهمس:
-لم أستطع أن أهاتفك ,,, أنت تعرف انشغالـ ...
قاطعها محتدا:
-نعم بالتأكيد كنت مشغولة للغاية , لكِ عذرك سيدتى .
وقبل أن يهم بمغادرتها أمسكت بمرفقه تستوقفه وهى تقول محرجة:
-لم تفهم ما عنيته حقا , قصدت انشغالك أنت ... أعنى لقد سبق وهاتفتك ...
استدار بكليته ليواجهها باستطلاع قبل أن يتساءل باهتمام ملحوظ:
-هل تحدثتِ الىّ وكان الهاتف مشغولا ؟
نفت برأسها وهى تقول:
-كلا ,,, لم أتصل بهاتفك الخاص فأنت لم تجب على اتصالاتى السابقة ,لقد اتصلت بمكتبك وقد ردت سكرتيرتك علىّ ,,,
أشار لها بيده فى عدة دوائر اشارة لتكمل حديثها بينما قالت تتذكر كيف شعرت بالضيق والاهانة وقتها :
-قالت أنك مشغول للغاية ولن تستطيع مكالمتى فأخبرتها بابلاغك بالدعوة ,,,وكنت أنتظر ردك ,,, انتظرت طويلا الا أنك على ما يبدو لم تجد وقتا أو ربما لم ترغب فى ...
قاطعها بأن سحبها من ذراعها بعيدا عن بقية الحضور وهو يتخيّر ركنا قصيّا حتى يتفرد بالحوار معها بعيدا عن الأعين والآذان الفضولية أما هى فكانت ترتجف كورقة فى مهب الريح أمام نظراته الغاضبة قبل أن يقول بحرقة وهو يحرك أصابعه بقوة فى خصلات شعره:
-ربما أكون قد عاملتك بفظاظة وخشونة فى أخر مرة رأيتك فيها ولكننى أبدا لم أتلق أية افادة باتصالك هذا....
ظلت تحدّق به ذاهلة غير مصدقة أنه واقفا أمامها بشحمه ولحمه بعد طول غياب فأضاف بأسى وحسرة:
-لا أفهم كيف تتصرف هكذا ؟ لقد انتظرتك طويلا جدا حتى أستمع الى صوتك .. انتظرت أن تخبريننى بمدى أهميتى فى حياتك وأنك لا تقوين على الاستغناء عنى ,,,,
تنهّد بحرقة وهو يستطرد :
-كنت أنتظر اتصالا واحدا منك ,,, وبعدها لم أكن لأتردد اذا طلبت منى الذهاب حتى الى الجحيم ...
ضحك ساخرا من نفسه قبل أن يعطيها ظهره حتى لا ترى ضعفه الواضح فى عينيه قبل أن يقول بمرارة:
-نعم فقد كنت أحيا بالجحيم منذ فارقتنى ..
ثم التفت نحوها بغتة ليقبض على ذراعيها ويهزها بمنتهى القسوة مدنيا وجهه بأنفاسه اللاهثة من وجهها ليسألها:
-أتصدقيننى ؟ أتفهميننى ؟
تحمّلت عنفه القوى بمنتهى الصبر والجلد فهو بحاجة الى أن تفهم كنه مشاعره بهذه الفترة العصيبة من حياتهما وأخذت تقول بينما الدموع تترقرق فى مقلتيها مرددة:
-نعم أصدقك ,وأفهمك يا مجدى.
أخذ يعيد على مسمعها سؤاله مرارا وتكرارا وهى تعطيه ذات الاجابة قبل أن ترتمى بحضنه وهى تهمس بعشق:
-اشتقت لك يا مجدى ,,, افتقدتك لأقصى درجة ... نعم آذيتك كثيرا لأننى لم أفهم مشاعرى بشكل صحيح , لم أكن قادرة على اتخاذ أى قرار منطقى بحياتى ,,, أنت تدرك أنها كانت حياة متخبطة متشابكة ,لم أحيا أبدا الا بقربك منى , أنت وحدك من جعلنى أقدّر قيمة الحياة والحب والتسامح والغفران ... أتصدق أنه بسبب ابتعادك عنى ونكرانك لاعترافى بالحب جعلتنى أعيد النظر فى حياتى وفى ,,, علاقتى بأبى وأمى وأخوتى ... أنا .. أنا غفرت لأبى ما جناه علىّ ,,, بل لن تصدّق هذا ... ناجى ...
شعرت بعضلاته تتصلّب بعد أن ذكرت اسم زوجها السابق ,,ولكنها قدرت أنه لا بد أن يطردا أشباح الماضى مرة واحدة والى الأبد ,وحاول هو جاهدا أن يبعدها عنه الا أنها تمسكّت بذراعيه بطاقة وحيوية لم تعرف مصدرهما وقالت باصرار مؤكد:
-لا لا تتركنى ,, فقط استمع لى ,,, لقد سامحت ناجى على فعلته , نعم ليس لأننى أحمل له أدنى قدر من المشاعر وليس لأنه والد ابنتى ,,, بل لأننى أحبك أنت , نعم يا مجدى أحببتك منذ تفتحت براعم الحب فى قلبى للمرة الأولى ولولا ما حدث لى وزواجى من ناجى لما أدركت قوة حبى لك ,ولكنت ليومنا هذا غافلة عن السعادة التى تنتظرنى معك.
قبّل مفرق رأسها بحنو بالغ وهو يسألها غير واثقا مما يحدث له على الرغم من احساساه بمدى صدق اعترافها :
-هل أنت متأكدة مما تقولين يا فريال ؟
ثم أمسك برأسها يزيحه قليلا حتى يمعن النظر الى عينيها الجميلتين بلهفة واشتياق لا حدود لهما قبل أن يضيف بصوت مهتز:
-لأنك اذا كنت واثقة يا سيدة فريال من كلامك هذا ... فيسعدنى ويشرفنى أن تقبلى الزواج منى يا حبيبة العمر ؟
وضعت يديها على شفتيها تكتم شهقة سعادة وعدم تصديق ثم اغرورقت عيناها بالدموع .. دموع الفرحة التى غمرتها بمجرد أن عاد مجدى الى محيط حياتها ,, فاكتملت السعادة فى جوانح قلبها الذى كان يقتات على الحزن والتعاسة الى أن قام مجدى بمداواة جراحها فعاد قلبها ينبض بقوة بالحياة ... فتطلّع لها مجدى برجاء يستحثها على الاجابة التى
طال انتظاره لها سنوات وسنوات حتى أراحت قلبه المتأمل ونطقت بكلمتها الأخيرة:
-نعم طبعا أوافق يا حبيبى.
-لن ننتظر دقيقة واحدة ,سوف نعقد قراننا الآن.
-اذا كنت مصرّا.
-هذا من دواعى سرورى.



http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:10 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
التف الحضور على شكل نصف دائرة يتوسطهم رفيق الذى كان مرتديا بزة سوداء أنيقة وربطة عنق بنفس اللون مخططة باللون الفضى بطريقة مائلة تدريجية فوق قميص أبيض اللون فى انتظار العروس التى تنزل الدرج الرخامى ترفل فى ثوبها الكريمى الطويل بحمالات عريضة ... كان ينساب حول كاحليها باتساع بسيط بقماشه الناعم بينما نصفه العلوى مطرز بتناسق وروعة من الدانتيل الرقيق والذى تولى تصميمه واحدا من أشهر دور الأزياء فى الخارج تتأبط ذراع خالها عادل المنتشى بسعادة وحبور حيث قدمها الى عريسها المتلهف ,,, قبّل جبينها برقة وهو يهمس لها بعيدا عن الجميع:
-وأخيرا يا حبى ستصبحين زوجتى الآن والى أبد الأبدين.
منحته أفضل ابتساماتها والتى تشع جمالا وأنوثة جعلت الدماء تسرى فى عروقه حارة وكاد أن يتهوّر الا أن خطوة عمته الفاصلة بينهما لتمنح ابنتها قبلة المباركة منعته من الاقدام على أى خطوة قد تفسد جو الود الذى ساد بينهم أخيرا وقالت فريال بتمعن:
-هيا ,,, الى القاعة لنتم عقد القران .
وسط الزغاريد المجلجلة والصيحات الفرحة أخذت سوسن ترش على العروسين بتلات الورد الزهرية بينما قام كريم بتفجير اسطوانة القصاصات الملونة فوق رأسيهما بعد أن أصدرت صوتا صاخبا أضاف بهجة فوق بهجتهم الأصيلة ,,, وشيّعهما كلا من ريم وسيف بغناء دويتو على أنغام الموسيقى التى صدحت بقوة من حولهم وكانت هذه هى فكرة ريم التى تفنّنت لتجعل هذا الحفل لوحة فنية بديعة لا تٌنسى أبدا.
بمنتصف الأريكة المخملية الواسعة قبع المأذون فى انتظار العروسين حيث جلس عادل الى يمينه ترافقه العروس واستوى كلا من رفيق ووالده على الجهة المقابلة بينما ظل الشاهدان واقفين يتابعان بالقرب منهم ... مقابلا لهم رنت الجدة شريفة بطلتها المشرقة الارستقراطية والى جانبها ابنتها التى بدا وكأنها عادت الى الوراء عشرين عاما وقد أبدى بعض المدعوين اندهاشهم وعدم تصديقهم أن هذه المرأة الفاتنة هى والدة العروس الشابة ,بينما كان الجد عبد الله يراقبها بصمت دون أن يجرؤ على مواجهة عينيها الغائمتين بعبرات تخنقها حتى لا تفسد فرحة الجميع وحينما حانت منها التفاتة تلقائية نحوه تظاهر بالانشغال فى الحديث مع حفيدته الأثيرة التى ابتسمت بتكلف لمن حولها وهى تتمتع بكونها محط أنظار العديد من الحضور رجالا ونساءا على حد سواء.
أنهى المأذون اجراءات اتمام العقد الجديد وقام كلا من العروسين بتوقيع اسميهما والبصمة بالابهام ثم تبعهما كريم وسيف حيث شهدا على زواج رفيقهم المحبوب من أميرة قلبه ... وقفت سماح تراقبهم بعيون دامعة ثم أطلقت زغرودتها المدويّة لتشق سكون القاعة فتبعتها التبريكات والتهانئ من الجميع ...
ما أن أُعلن أنهما قد أصبحا زوجا وزوجة حتى قام رفيق من مقعده وانحنى نحو عروسه الخجول ليمسك بخصرها يرفعها لتقف الى جواره وبيده الأخرى تناول من أمه علبة مربعة صغيرة الحجم فتحها بلمسة خفيفة فأطل من داخلها خاتما لامعا تزينه لؤلؤة كبيرة الحجم تحيط بها بضعة فصوص صغيرة مشكّلة وردة ,أخرجه بحرص شديد من مخبئه ليدخله بخنصرها الأيسر بنزعة تملكية فى منتهى اللطف متحاشيا أن يؤلمها ولو بأدنى قدر طفيف ,وما أن استقر فى أصبعها حتى رفعت بصرها نحو زوجها لتتطلع نحوه بتساؤل وأمل يتضاعف فى كل ثانية فأومأ لها برأسه ,,, يفهمها دون أن تتكلم ,,, يشعر بما تحسه دون أن تشير ,,, وقال هامسا:
-أنه خاتمك الذى أهديتك ايّاه بيوم زواجنا الأول.
قالت بحشرجة وهى تتمتم:
-كيف وجدته ؟ لقد ظننت أننى فقدته للأبد.
-كان معى منذ سنوات حينما صارت الحادثة ... وظل مرافقا لى يذكّرنى بأجمل ابتسامة خطفت أنفاسى ,وها هو قد عاد لموطنه.
طوّقته بذراعيها بشغف وهو أخفاها بأحضانه من نظرات الفضوليين كأنما يود لو استطاه الهروب معها دون أن يتعرضا لمثل هذه المراقبة الصارمة ولكن ما باليد حيلة ... كانت هذه هى رغبة عمته فلم يشأ أن يقف بوجهها اكراما لخاطر حبيبته ,,, وان كان يفضل أن يكون بمكان آخر بعيد هو وعروسه حتى يعبّر بحرية عما يجيش بصدره والذى دام كتمانه لسنين حتى أعياه الصبر وأضناه الانتظار ,,, ثم تلقّى لكزة فى كتفه تبعته أخرى بالكتف الآخر التفت متذمرا وفى داخله تشتعل رغبة للشجار حتى هتف به سيف متخابثا:
-هاه يا عريس اترك لنا فرصة لتهنئة العروس.
واقترب منها كريم بذات الوقت مهنئا وقد تظاهر بأنه ينحنى ليطبع قبلة على خدها قبل أن يجد نفسه مجرورا الى الخلف بقبضة فولاذية من حديد وكان رفيقا يهدده بمزاح قائلا:
-ماذا تظن نفسك فاعلا يا صاح ؟
أجابه كريم ببراءة مصطنعة وهو يهز كتفيه:
-كنت أهنئ ابنة عمتى وابنة خالى ,,, أنها بمثابة الأخت لى ... أليس كذلك ؟
قهقه رفيق عاليا وهو يقول بجرأة:
-كان هذا بالماضى يا حبيبى ,,, الآن هى لى أنا فقط ويكفى أننى سمحت لكما بمصافحتها ...
أخذ المدعوون يتوافدون واحدا تلو الآخر لتقديم المباركة للعروسين السعيدين وهما يقفان متلاصقين تتشابك نظراتهما سويا بلغة لا يفهمها سواهما حتى اقترب منهما الجد عبد الله مصافحا فتناول كف أميرة بين يديه ليلثمه قائلا :
-مبارك لأميرة عائلتنا ... الزواج السعيد.
ثم شد على يد رفيق بحرارة وهو يضيف منشرحا:
-مبارك لك يا رفيق وبالرفاء والبنين ان شاء الله.
هتف الاثنان بنفس اللحظة:
-شكرا يا جدى.
ثم تشاركا الضحك وهما متشابكى الأيدى قبل أن يقول جاسر بجرأة وقحة والذى كان مختبئا خلف جسد جده الفارع الطول وهو يمد يده بكبرياء:
-مبارك لكما أميرة ورفيق.
شهقت أميرة فزعا بينما التف رفيق بجذعه الضخم ليواجه هذا الدخيل الصفيق صائحا بغضب شديد:
-أنت ؟ ما الذى جاء بك الى هنا ؟ وكيف دخلت أصلا ؟
وكاد أن يفلت معقل غضبه ليضربه فى وجهه قبل أن يتدخل كريم بالوقت المناسب ليحد من ثورة ابن عمه وهو يقف حائلا بين الرجلين المتواجهين ... رفيق يعميه الغضب ... وجاسر يرنو له بتحدٍ واضح ولسان حاله يقول : لن تصدق أننى مدعو الى حفل زواجك.
قال الجد عبد الله بهدوء أعصاب يَحسد عليه معرفا:
-أنه حفيدى يا رفيق ... جاسر.
قال رفيق مرددا بحنق وهو يزيح كريم من طريقه بحركة خشنة دون قصد:
-حفيدك ؟ كيف وهو لا يحمل اللقب ؟
هتف جاسر أخيرا ببرودة صعقته:
-أنا جاسر محمود سلامة وأنتمى أيضا للعائلة العريقة مثلك ... عائلة الشرقاوى ولكن من جهة الأم ...
أضاف عبد الله مؤمنا على كلامه:
-أننى جده لأمه ,,, ابنتى شريفة.
قالت أميرة بعدم تصديق مغمغمة:
- ابنتك اسمها شريفة ؟
ابتسم عبد الله لها بجاذبية ساحرة قبل أن ينادى على ليلى التى انشغلت بحوار جانبى مع سيف فهرولت نحوه مسرعة وهو يقدمها ببساطة:
-وها هى حفيدتى الجميلة ليلى ... ابنة ابنتى الثانية فريدة.
ظلت أميرة تحدق بها وكأنها ترى شبحا ماثلا أمام ناظريها قبل أن تشهق باكية:
-شئ لا يصدقه عقل ,, أنتما الاثنان.
أحاطها رفيق بذراعه مؤازرا قبل أن يهمس لها مشجعا :
-لا تبكِ حبيبتى , ولا تدعِ شيئا أو أحدا يزعجك الآن فهذه لحظة تاريخية فى حياتنا ولن نسمح لأى كان بافسادها , هل فهمتِ ؟
نظرت له ببؤس وهى تنتحب ببطء:
-ولكن يا رفيق ...
قاطعها بقوة وارادة:
-لا يوجد لكن ... ماذا قلنا , أنت فتاة قوية عانت كثيرا ومررتِ بنجارب أشد قسوة وايلاما , فتحلّى بالصبر والجلد .. وهيا خذى نفسا عميقا ,, نعم هكذا وابتسمى فالجميع يحدق بنا ظنا منهم أن هذه هى دموع الفرح ,, هيا فلنعطهم ما يرغبون برؤيته .
وقبل أن تعِ ما يحدث لها غمرها بقوة وعزم قبل أن يحملها من خصرها ليدور بها حول نفسه عدة مرات حتى شعرت هى بالدوار العنيف يجتاحها قبل أن يتوقف رفيق بغتة الا أنه لم يفلت جسد زوجته المترنح بل شدد من احتضانه لها.
كانت ممتنة لوجوده الى جوارها ومساندته لها فبدونه تشعر بأن العالم ينقصه الحياة تشعر بأن روحها معلّقة بكينونته هو ,,, فمن أجله خلقت ولأجله ستحيا ,ستفعلها من أجله لن تجعل أعداءها يشمتون بهما فرفعت رأسها عاليا بكبرياء عنيد ومنحت كاميرا المصورين أكثر ابتساماتها اشراقا وروعة وقد أظهرت يدها التى يمسك بها زوجها لمعان اللؤلؤة الثمينة الفريدة فى مقابل الاضاءة المتوهجة لتتوّج صورة زفافهما.


http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:12 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
قبل أن يغادر المأذون قاعة الاحتفال بعد انتهائه لحق به محمد وهو يحث الخطى وأخذا يتبادلان حوارا غير مسموعا فارتفع حاجبا المأذون بدهشة قبل أن يطأطئ برأسه موافقا ويعود أدراجه نحو القاعة مرة أخرى.
صمت جميع الحاضرين حينما لمحوا المأذون عائدا من جديد الى الأريكة وسرت الهمهمات بينهم كالهشيم فى النار وكان الجميع يتساءلون ما بين فضول ومكر ما الذى يحدث ؟
تولّى محمد مهمة الاعلان عما يصير فناوله أحد المساعدين مكروفونا صغيرا ليتحدث الى الحضور مطالبا اياهم بالتزام الصمت والانصات قائلا برزانة :
-لقد كان اجتماعنا اليوم من أجل حضور عقد قران ابنى رفيق وابنة أختى أميرة ,,, والآن أيها السيدات والسادة اسمحول لى أن أعلن لكم خبرا سارا ... فبمناسبة هذه اللمة التى قد لا تتكرر قريبا قررت أن أعلن لكم عن زفاف آخر فى عائلتنا ...
تعالت الأصوات المتهامسة فيما بينها مرة أخرى حتى ضجت القاعة بصخب ما بين ضحك وصياح حتى قاطعهم محمد من جديد بدبلوماسية :
-أستمحيكم عذرا ,,, بالطبع أنتم تتساءلون عن هوية العروسين الجديدين ..
فجأة عم الصمت مخيما على القاعة وجميع العيون متعلقة بشفتيه اللتين تتحركان ببطء وجميع الآذان منصتة لكل حرف بنطق به والقلوب تدق مترقبة باثارة لمعرفة هوية أصحاب الزفاف الثانى.
استطرد محمد وهو يشير نحو رجل وامرأة يقفان منسجمين سويا لا يبدو عليهما دلائل الاهتمام بما يدور من حولهما :
-لقد تقدم السيد مجدى العمراوى محامى العائلة المعروف للزواج من شقيقتى كريمة عائلة الشرقاوى السيدة فريال ... والآن لنبارك وندعو لهما بالتوفيق.
هتفت أميرة وهى تصفق بجذل:
-أمى ... ستتزوج أخيرا ,,, رفيق لا أصدق .
رفع حاجبيه وهو يتمتم بمرح:
-أنا أيضا لا أصدق ,,,
ثم استطرد بصوت لم تسمعه زوجته:
-شكرا لك يا مجدى ,, فقد أوحت عن كاهلى هما ثقيلا ,لم تكن لتتركنا بحالنا اذا ظلت وحيدة دون زواج.
تساءلت أميرة وهى تتطلع نحو زوجها بمحبة:
-ماذا كنت تقول يا حبيبى ؟
- لا شئ يا حياتى أنا سعيد من أجلهما .
وبسرعة فائقة سرت الهمهمات : والدة العروس ستتزوج فى نفس يوم زفاف ابنتها ... أم العروس تبدو صغيرة السن وجميلة كما أنها أرملة منذ سنوات فلمَ لا تتزوج هى الأخرى ؟
تم اتمام عقد القران الثانى بشهادة عم العروس السيد عبد الله ورفيق زوج الابنة والذى راق له ما حدث كثيرا فأخذ يغمز لصديقه المحامى مازحا قبل أن يقترب منه مهنئا وهو يربت على كتفيه بحرارة قائلا:
-نحن السابقون وأنتم اللاحقون
فهمس له مجدى بخبث:
-ها أنا ذا استحق مكافأة منك ,ألم أنقذك من بين براثن حماتك التى كانت ستحيل حياتك أنت وعروسك الى جحيم محقق ,فأنا أعرف مدى تعلّق فريال بأميرة.
قال رفيق متلاعبا بحاجبه وهو يشير نحو عمته:
-أخفض صوتك والا سنرى الجحيم ماثلا أمام أعيننا الآن.
بينما قبّلت العروس الجديدة ابنتها والأخيرة تهتف بسعادة بالغة:
-مبارك لى يا ماما , حقا أنتِ تستحقين أن تتمتعى بحياتك وتنعمى بالراحة مع رجل يقدّرك مثل العم مجدى.
رددت فريال بتعجب:
-العم مجدى ؟
-نعم سأناديه منذ الآن فصاعدا بعمى مجدى , لولا أننى أخشى عليه من التأثر للقبته بأبى .
فرت دمعة وحيدة من عينى فريال تعبّر عن مدى ألمها من معاناة ابنتها مع افتقاد الأب بحياتها ال أنها تذكرت أخاها الراحل لهذه اللحظة فدعت له بالرحمة والمغفرة شاكرة له حسن صنيعه مع ابنتها التى تولى تربيتها حتى شبّت وصارت فتاة ناضجة واعية تدرك حقائق الحياة وقادرة على مواجهة الصعاب هى مصدر فخر واعتزاز لأى أم ... ما أشبه ابنتها بها فى هذه اللحظة الا أنها قد أساءت الاختيار من قبل وتضرعت الى الله أن تكون ابنتها فى منأى عن هذا الخطأ حتى لا تتكرر مأساتها.
وقفت ريم تصفق بيديها متأثرة من هذه اللحظة العاطفية المليئة بمشاعر الحب والألفة الصادقة ,أيمكن لها أن تحظى بهذه الهبة الغالية ,, قلب صادق أمين يحبها لذاتها دون أى تظاهر أو غش أو خداع كما حدث معها فى علاقتها القصيرة بجاسر والتى انتهت بفاجعة مؤلمة لها.
همس لها سيف الذى لم يتركها تغيب عن ناظريه ثانية واحدة بعد أن أدرك بحنكته وخبرته أنها لا تتصرف على طبيعتها منذ رأت جاسر هذا الوقح الذى اتضح أنه منتسبا لعائلتهم :
-اذا كان ممكنا أن تتزوج عمتى بهذه السرعة والبساطة فما رأيك بأن نحذو حذوها ؟
انتفضت ريم بضيق وهى تواجهه برفضها القاطع بحدة:
-كلا يا سيف , لا ضرورة للتسرّع فيجب علينا أولا أن نأحذ وقتا أطول للتفكير بالأمر ,ألم نتفق على هذا مسبقا ؟
انعقد حاجباه بغضب والشرر يتطاير من عينيه فقال مؤنبا بقسوة:
-اذن كان عليكِ أن تفكرى هكذا قبل أن تجريننى معكِ الى هذه اللعبة والتى وافقت على تمثيل دورى بها على أكمل وجه.
تراجعت مصعوقة للوراء وهى تهتف بغضب مماثل:
-ماذا تعنى يا سيف ؟ وأية لعبة تعنى ؟
عقد ذراعيه أمام صدره قبل أن يقول مقلّدا لصوتها:
-اضافة الى أنه ابن عمى وصديق طفولتى فأنا وسيف سوف نتزوج قريبا , أليست هذه كلماتك التى ألقيتها فى وجه ذلك المتحذلق منذ قليل ؟ أخبريننى يا ريم بصراحة هل كنت تعنين حديثك هذا أم أنكِ كنتِ تسعين فقط نحو اثارة غيرته ؟
أنكرت بحدة وهى ما زالت غاضبة منه:
-ولماذا أسعى نحو اثارة غيرته ؟ بمَ تتهمنى بالضبط يا ابن العم ؟
-هذا هو ما أود سؤالك عنه , لماذا أشعر بأنكِ تهتمين لأمره بشكل خاص ؟
-لا علاقة لى بشعورك هذا ولست مسؤولة عن هلاوسك , أنا لم أره الا منذ لحظات.
-أشعر بأنكِ تخفين عنى الكثير يا ريم فنظراته اليكِ توحى بأكثر من مجرد معرفة منذ لحظات ... وكأنه يحاول أن يبعث لكِ برسالة أجهل مضمونها.
صاحت بضعف:
-أنت واهم يا سيف ,لا وجود لمثل هذه الرسائل ,, لا شئ ابدا.
جذبها من مرفقها بخشونة قبل أن يرفع أصبعه فى وجهها بتحذير قائلا بصوت كالفحيح:
-احترسى يا ريم من الكذب علىّ فأنا أعرفك كظاهر يدى واذا اتضح لى أنكِ تتلاعبين بى من أجل أى غرض فى ذهنك فسوف أجعلك تدفعين الثمن غاليا ,وابتعدى عن طريق هذا الأحمق ,,, والا فلن أرحمك ولن أرحمه ,,,وهذا كلامى النهائى ,,,
ثم أفلت ذراعها بحدة , فشعرت بنبض الألم ضاربا على جلد ذراعها الذى أخذ الاحمرار يزحف عليه ببطء حيث كانت آثار أصابعه القوية مرتسمة بتوقيع واضح ,أما هى فلم تأبه لألمها الجسدى بل انحسرت مشاعرها كاشفة عن قوة ألمها النفسى ,,, وهى تحدّث نفسها : ما الذى أوقعكِ بهذه الورطة يا ريم ؟ وتراءت لها الاجابة واضحة كالشمس الساطعة : هى من فعلت هذا بنفسها ,وسوف تجنى ثمار تهورها.
وقف جاسر يتطلّع نحو ما دار بينها وبين سيف دون أن تراه ثم تجرّع ما تبقى من عصير فى كأسه دفعة واحدة وهو يتساءل : ما الذى يجعل هذا المدعو سيف يعامل فتاة رقيقة مثل ريم بمثل هذه الطريقة الفجّة ,لقد لاحظ أنها قد تألمت من قبضته وود لو يحطّم وجهه بقبضته العارية , ذلك التافه المغرور ... من يظن نفسه ليذل حبيبته هكذا ,وعاد لتفكيره السليم فقال ساخرا : ومن أنت يا جاسر لتسأل ؟ ألم تفعل المثل بها وبعواطفها ؟ لا بد أنها تكرهه الآن ,,, عادل لينفى عن ذاته الاتهام ويقول مدافعا عن تصرفه : لم أكن أريد لها الأذى أبدا ,حاولت أن ابتعد عنها بقدر الامكان , حاولت التزام التعقّل فى كل خطوة معها الا أن قلبه قد أعلن العصيان على أوامر العقل وتخطّى كافة الحدود المعقولة فى علاقته بها , عاد ليبرّر لنفسه وقلبه ينزف دما من أجل رؤيته لها مصدومة حينما عرفت بحقيقة هويته : لقد حاولت جاهدا أن اشرح لها الأمر ,, هى لم تترك لى فرصة لأمهّد لها بهدوء حتى تتقبّل الأمر ؟ وصاح صوت ضميره مغالبا : وهل كان يكفى اعلامها بالأمر حتى تكون قد أخليت مسؤوليتك عما يحدث لها ,عاد ليقول باقتناع واهٍ : كانت هى الأخرى تخدعنى مرتدية قناع البراءة المزيفة والطهارة الكاذبة , لقد ثبت أنها على علاقة وطيدة بابن عمها وهى قد اعترفت بلسانها أنهما أكثر من مجرد أقرباء وأصدقاء طفولة بل وتجرّأت على التشدّق أمامه بأنهما على وشك الزواج ... سيكون ملعونا ان لم يمنع هذه الزيجة بل أكثر من هذا ستنال عقابها على يديه ,وبالنهاية فقد حصل على أرثه المستحق بعد عودة جده الى دائرة العائلة التى طُرد منها سابقا وسيكتمل بحصوله عليها أيضا ,لن تتزوج ريم من رجل سواه فهى له مهما طالت الايام.



http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:13 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-مبارك لفريال وابنتها ,فقد تزوجت الاثنتان معا.
صوت عبد الله الرنان ما زال لديه القدرة على التوغل بداخل بحار ذكرياتها لتردد جملته الأخيرة : أنا هكذا ولن أتغيّر من أجل أى شخص.
التفتت اليه شريفة متطلعة بنظرات مقيّمة قبل أن تقول بتأنٍ:
-العقبى لأحفادك ان شاء الله ,,, لماذا لم تحضر ابنتيك معك ؟
ابتسم ببساطة وتلقائية قبل أن يجيبها بهدوء:
-أردت أن يتعرف الأحفاد أولا قبل أن يكتمل اللقاء بنا جميعا ,, أردت بعض الخصوصية حينما تلتقين بهما.
تساءلت بجرأة ندمت عليها بعد فوات الأوان:
-وأين هى زوجتك ؟
ظهر الأسى واضحا على محياه فقال مشيحا ببصره عنها:
-لقد توفت نور الهدى منذ بضعة سنوات.
آلمها قلبها لأنه قد نكأت جراحه دون قصد فقالت بأسف:
-أعتذر منك فلم يكن لدىّ علم بهذا.
ثم أخذت تعدّل من خصلات شعرها الذى ضمته على شكل كعكة أعلى رأسها قبل أن تقول بمرارة:
-لماذا عدت يا عبد الله ؟
-ألم تكونى ترغبين برؤيتى ؟ أحتى بعد مرور كل هذه السنوات ؟
أمعنت النظر الى عينيه الثاقبيتن كعينى حفيده الذى ورثهما عنه قبل أن تقول بتأنيب:
-لهذا أنا أتساءل لماذا بعد هذا العمر الطويل ؟ لقد أخرجتنا من دائرة تفكيرك منذ زمن بعيد فلماذا تعود لنبش الماضى بألامه وجراحه ؟ ولماذا الآن , لقد مات عبد العظيم ولم يعد ممكنا أن تتم انتقامك منه فهو بين يدى رحمة الله ... لقد رحل.
اعترف لها بصدق:
-لم أخرجك أبدا من دائرة تفكيرى , لم أنسك قط يوما ... ربما هذا ما كان يعذبنى أكثر ,فأنتِ أصبحتِ زوجة أخى حتى ولو لم أكن راضيا كما أننى قد تزوجت أنا الآخر فلماذا لا أنساكِ , لا تبرحين خيالى متربعة على عرش قلبى مهما طال الزمن.
قاطعته وهى تتلفت حولها خشية أن تتناثر كلمة هنا أو هناك:
-اسكت ,,, لا تكمل ... لم يعد لدينا الحق بذلك.
استطرد بعنف معاتبا:
-أتسأليننى لماذا عدت الآن ؟ لأنه مات ,,, رحل كما قلتِ ,,ولكن بعد فوات الأوان ,, بعد أن ألحق الأذى بنا ,,, لا تظنى أننى قد سامحته على تفريقه لنا ,,
-لم يفعل شيئا , أنت من قرر الرحيل ..
-كلا , هو من قام بطردى يا شريفة .. أنا وأمى والأنكى أنه رفض مرافقة أخى الأصغر لنا , استولى عليه لنفسه لينشئه كيفما يشاء , يملأ رأسه بالافتراءات الكاذبة حتى يكرهنا .. كما أنه استولى على حبك وهذا ما لن أغفره أبدا.
-لم ...
لم تستطع أن تدافع عن زوجها الراحل فهى تعلم بالحقيقة وتنكرها حتى لا تفتح بابا مغلقا فتنبعث من ورائه رائحة الذكريات العفنة التى تطاردهما ...
قال عبد الله باصرار:
-لن تجرؤى على انكار ما هو واضح ... لنا نحن الاثنين ... لقد فعل هذا من أجلك , أرادكِ لنفسه بالرغم من أنه كان على علم بحبنا , استغل الموقف لصالحه حتى يجبرنى على الرحيل ...
سألته بلومٍ واضعة كرامتها نحن قدميه بهذه الصورة المقيتة:
-ولماذا لم ترفض الرحيل وأصررت على قرارك بالارتباط بى ؟
نظر لها متأملا لتقاطيع وجهها الجميلة التى طالما حلم بها فى ليالى غربته ووحدته قبل أن يقول بحزن دفين:
-خيّرنى بينك وبين أمى ,,, لم أكن لأجرؤ على تركها وحيدة بين براثن حقده عليها وكرهه لها ,,, ولم يكن سهلا علىّ التخلّى عنك باتخاذ هذا القرار ,,
-كنت أخبرتنى فى حينها بالحقيقة وهل كنت تظن أننى سأتخلّى عنك لأى سبب كان ؟ هل اعتقدت اننى أهتم بالمال أكثر منك ؟
-أخشى بأن هذا كان هو رأى والدك يا عزيزتى أيضا.
-بابا ؟
-هل تظنين أننى قد رحلت بهدوء متخليّا عنك دون قتال , لا يا شريفة أن مخطئة كليّا.
-لماذا لم تخبرنى ؟ كنت سأسعد بمرافقتك الى أى مكان تختاره حتى ولو كان هذا ضد رغبة أبى.
هز رأسه بعناد واصرار:
-لم أكن لأقبل بأية كلمة تقال فى حقك ولم أكن لأسبب لكِ أولعائلتك العار ...
-أتسمى حبى لك فيما مضى عارا ؟
-لا لم أقصد هذا المعنى وأنتِ تعرفين كيف أفكّر ,العار الذى كان سيجلبه رحيلنا بهذه الكيفية لوالدك الفخور بنفسه وبابنته الوحيدة ,, لم يكن ليحدث ولم يكن عبد العظيم ليمرر لنا هروبنا بهذه السهولة , كان يعرف أنه سيؤذيننى اذا ما قيلت كلمة واحدة تمس سمعتك ,ولم أكن لأسامح نفسى ... تغاضيت عن الأمر لأحميكِ أنتِ ,فلم أكن مهتما بسواكِ.
أفلتت منها تنهيدة ارتياح وهى تقول بدون توتر:
-يا الله ! لو تعلم كم عانيت وحيدة أشكو اليك دون أن تسمعنى.
-كنت أشعر بوجودك حولى فى أى مكان أذهب اليه , لم تفارقنى صورتك بضفائرك الذهبية المتدليّة على كتفيكِ وابتسامتك الرائعة التى لا تفارق ثغرك الجميل ... يا لها من ايام !
-اذن عدت من أجل هذا ,لم تأتِ لتنتقم من أبنائه.
كانت تسأله لتطمئن نفسها ليس الا فنظر لها بعتاب وهو يقول مؤكدا:
-أنهم ابناؤك يا شريفة , هل تظنين اننى بقادر على الحاق الأذى بك أو بأى شخص تربطه صلة بكِ ؟
هزت رأسها نفيا فاستطرد بعناية:
-أن أبناءك بمثابة أولادى تماما ولا تنسِ بأننى عمهم أولا وأخيرا ... وكما يقولون بالأمثال الشعبية : لا يمكن أن يصير الدم ماءا ,,ونحن جميعا تجرى دماء الشرقاوية بعروقنا يا شريفة.
قالت ساخرة وهى تكوّر أنفها:
-أنا الاستثناء هنا من الانتماء لهذه العائلة.
-كلا بل أنتِ الشخصية الاستثنائية فى العائلة بأسرها.
تطلعت بحنان وحب الى أحفادهما المجتمعين وهى تتساءل:
-هل تظن بأنهم قادرين على الانسجام معا ؟
رفع حاجبيه عاليا وهو يزم شفتيه دلالة عدم المعرفة قائلا:
-من يدرى ؟ ربما هم من يعيدون الانسجام لحياتنا كما فى الايام الخوالى !





http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:14 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

- سيد سيف ,, هناك من أحضر هذا الظرف المغلق من أجلك.
كانت سماح تهرول لتلحق به قبل أن تمد يدها لتعطيه ظرفا كبير الحجم فاستلمه منها متسائلا:
-من الذى احضره يا سماح ؟
-قال أحد العمال أن امرأة قد جلبته على البوابة ثم انصرفت دون أن تترك اسمها.
-حسنا يمكنك الانصراف يا سماح.
أخذ يقلّب الظرف بين يديه لبرهة وكان قد قرر أن يفتحه بعد انتهاء الحفل الا أن الفضول قد غلبه لمعرفة محتواه وخاصة حينما انضم اليه كريم وهو يطلق بشفتيه صفيرا حادا قائلا بتهكم:
-ما هذا يا أيها السيد المحترم ,, جواب غرامى , ألم تكبر على مثل هذه الحركات الصبيانية ؟ ثم ما هو قول ريم اذا ما شاهدتك الآن ؟
هتف به سيف مستهزءا:
-اخرس يا كريم ,,, ما هذا الهراء الذى تتفوّه به يا حضرة المحامى اللامع , ألا تمل من مشاهدة الأفلام العربية القديمة ؟
صاح كريم بتهوّر بينما سيف يفض الظرف بأطراف أصابعه ويمرر عينيه على الورقة المطوية بداخله:
-ربما هو جواب تهديد أو رسالة من امرأة مجهولة .
وانفجر ضاحكا قبل أن يلاحظ الوجوم الذى حل على ابن عمه فأخذ يلكزه بمرفقه فى جانبه ليشتركه المزاح قائلا:
-لماذا لا تضحك يا ثقيل الظل ؟
لمح ورقة صغيرة كادت أن تقع من الظرف الذى ظنه خاليا فقرأها سريعا قبل أن يعتصرها بين يديه هاتفا بحنق:
-الحقيرة , المبتزة ... يا لها من منافقة.
-اذن هناك امرأة حقا فى الموضوع ؟
-ولكنها لم تعد مجهولة !
-ماذا هناك يا سيف ؟ ما الذى تحويه هذه الورقة ؟
ضحك سيف باستهزاء قبل أن يناوله الورقة المطبوعة ليقرأها قبل أن يهتف بانكار:
-ما هذا المكتوب ؟ هل وصلت بها الجرأة والبجاحة الى حد تزوير وثيقة زواج من أجل ابتزازك ؟
ابتلع سيف ريقه يصعوبة قبل أن يقول بتردد:
-ليت الأمر بمثل هذه البساطة التى تتكلم بها.
أضاف كريم باندفاع:
-هيا لنبلغ الشرطة حالا , لا تأخذك بمثل هذه الفتاة رحمة أو شفقة فقد أظهرت باطنها الخبيث.
حاول سيف أن يمنعه قبل أن يصل للهاتف وهو يقول هامسا:
-اهدأ يا كريم ولا تثير فضيحة علنية , ألا ترى كل هؤلاء المدعوين , ماذا يقولون حينما تستدعى الشرطة الآن ؟
نظر له كريم بتمعن وهو يقول بضيق:
-ما الذى تخفيه عنى يا سيف ؟ فلا أعتقد أن ما يهمك هو اثارة فضيحة أو غيرها ... هل هناك شيئا أجهله ؟ أرجوك أخبرنى.
أشاح سيف بنظره بعيدا وهو يضرب الجدار بقبضته بقوة غير عابئ بالألم الذى كاد يحطم أصابعه قبل أن يغمغم يتوتر:
-أنه بخصوص التوقيع الخاص بى المذيّل بالورقة ...
ضاقت عينا كريم وهو يستحث رفيقه على الحديث قائلا ببطء:
-ما له لا بد أنه مزوّر , لا شك بذلك.
نفض رأسه نافيا وهو يردد وكأنه يحادث نفسه غير مصدق:
-أنه مألوف بدرجة كبيرة لى , أعتقد أنه توقيعى الاصلى بدون تقليد.
-لا تخبرنى أنك قد فعلتها حقا , هل تزوجت تلك الحيّة الرقطاء ؟
وأمسك بتلابيبه يهزه بعنف حتى يعترف فحاول التملص من قبضته وهو يتلوى حتى انزلق على الأرضية اللامعة والى جواره كريم بينما يردد مذهولا:
-كلا , كلا طبعا لم أفعلها كيف تظن بى ذلك ؟
-اذن ما الذى يجعلك تهتم بها بهذا الشكل , فلتمزق هذه الورقة الى نصفين ثم ترسلها لها مجددا حتى تبتلعها مع كوب من الماء ,,,
-يا رجل ألم تفهم بعد ؟ لا بد أن هذه مجرد نسخة من وثيقة أخرى .
-لا يهم فهذه ليست وثيقة قانونية معترف بها .. لن يعترف بها أى أحد.
أخذ سيف يمسح بكفيه على وجهه وهو يقول بصبر وكأنه يحادث طفلا صغيرا:
-افهم أنها تدرك جيدا أنه لا قيمة لهذا الزواج من الناحية القانونية , وهى لا تحلم حتى بذلك ... المشكلة أنها قد كتبت رسالة صغيرة تهددنى فيها بأنها سوف تعلن الورقة للصحافة وأمام شتى وسائل الاعلام ,وسوف تمثل دور الضحية البريئة التى غرّر بها الابن المدلل لعائلة ثرية فتزوجها عرفيّا ثم تخلّى عنها وطردها من وظيفتها ... وخمّن ماذا سيحدث بعدها ... سينقلب الرأى العام ضدى وضد العائلة بأكملها ... وحتى ولو ثبت كذب ادعائها فيكفى البلبلة التى قد أثارتها لتدمّر سمعة العائلة ... سيرة عائلة الشرقاوى ستصبح علكة فى أفواه الجميع وسيستغلّها منافسونا أسوا استغلال ... سيقضى علينا يا كريم ان لم نسرع بالتصرف.
-وماذا تطلب تلك الحقيرة مقابلا لصمتها ؟ هل تريد مالا ؟
رن جرس هاتفه الخلوى بذات اللحظة وكان الرقم غير مسجل مما يدل على أن صاحبه مجهول الهوية بالنسبة اليه , كاد أن يغلق بوجهه وهو يزفر حانقا:
-وهل هذا وقتك ؟
أشار له كريم بألا يغلق الهاتف وقال آمرا:
-أجب على الهاتف.
-ماذا ؟
-قلت لك استقبل المكالمة ,, لا بد أنها منها.
قطّب جبينه قبل أن يجيب بحدة وانفعال:
-نعم ؟
-مساء الخير يا زوجى العزيز.
هتف بها شاتما:
-وهل تجرؤين على الادّعاء بها أمامى يا أيتها اللعينة ؟
قالت ببرود:
-لا يصح يا حبيبى أن تسب زوجتك , هل تريدنى أن أضيفها الى قائمة الاتهامات التى تنتظرك بعد أن تزوجتنى سرا ثم هجرتنى ؟
-ماذا تريدين يا مها ؟
-هكذا يكون الحوار عمليّا ومجديا يا ابن الشرقاوى ... أريد لزواجنا أن يخرج الى النور وأن تعلنه أمام العالم.
صرخ بها هاتفا بغضب أعمى:
-هل جننتِ يا امرأة ؟ لا بد أنك قد فقدتِ صوابك.
-كلا يا سيد سيف أنت لم ترَ بعد ذرة واحدة من جنونى ,, فلا تستفزنى رجاءا حتى لا أتهوّر ,, ما قولك يا زوجى ؟
-أريد أن أعرف كيف حصلتِ على توقيعى ؟ هل قمت بتقليده ؟
انطلقت ضحكاتها مجلجلة على الجانب الآخر من الهاتف قبل أن تقول باستمتاع:
-هل تظن ذلك ؟ أنه توقيعك الأصلى وأنت تعرف هذا جيدا.
فقال بضيق:
-هل تتمتعين لهذه الدرجة على حسابى , حسنا أنه لمن دواعى سرورى يا زوجتى الغالية ... لقد أوقعتنى هذه المرة ,, لك ما تريدين.
-حسنا بهذه البساطة تستسلم , كنت أظنك محاربا عتيدا ؟ على العموم لقد اتفقنا .. سأتصل بك لاحقا لأبلغك بطلباتى , فلا بد وأنك مشغول الآن بحفل زفاف الريّس لا أريد أن أعطلك عن استقبال ضيوفك.
-طلباتك ؟ ظننت أنكِ تريدين اعلان الزواج بشكل رسمى ؟
-نعم , أريد زواجا علنيا قانونيا ,,, بالاضافة الى بعض التفاصيل الصغيرة التى لا غنى عنها فى أى عرس ...
-فهمت ,سأكون بانتظارك على أحر من الجمر يا حبيبتى.
وكأنه كان يعنيها بالفعل وليس لمجرد السخرية منها ... هتفت فى أعماقها به : يا ليتك تعنيها يا حبيبى ,,, قالت بصوت مرتجف على غير العادة:
-وأنا لن أطيل انتظارك يا حبيبى , الى اللقاء.
أغلق هاتفه ثم كاد أن يلقيه أرضا ليتحطم الى مئات القطع المتناثرة الا أنه منع نفسه بصعوبة بالغة وهو يهتف ثائرا:
-الغبية ... تظن نفسها أكثر ذكاءا منى ...
-هل أفهم أنك لن تنفذ طلبها ؟
تراقصت ابتسامة ماكرة على شفتيه قبل أن يضيف بغموض:
-وهل أجرؤ أن أرفض لزوجتى طلبا ؟ ستحصل على ما سعت نحوه وسأنال أنا ما أريد , هذا وعد منى يا ابنة الراوى.
واستدار عائدا نحو قاعة الاحتفال رافعا رأسه عاليا راسما ابتسامة مجاملة طالما أجادها فى الحفلات التى لا تروقه بينما ذهنه دائرا لا يتوقف عن التفكير فى الخطوة التالية.
تبعه كريم مطأطئ الرأس وهو يتساءل بينه وبين نفسه : أيمكن أن تصل مها الى هذه الدرجة المنحطة من التخطيط والتدبير ؟ ولمَ لا ان كيدهن عظيم حقا , فالنساء اذن قادرات على المكر ولكن لسن كلهن على ذات الدرجة من الاندفاع للتنفيذ ,تخيّل صورة هديل فى موقع مها وهى تنفذ مخططها القذر بدم بارد ,, ولمَ لا أليست صديقتها فهى بالتأكيد على شاكلتها.




http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:17 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد انتهاء الحفل وتوديع جميع الضيوف الذين غادروا فى وقت متأخر من الليل حتى الجد عبد الله كان قد استأذن لينصرف هو وحفيديه ولم تفلح محاولات محمد المستميتة باصرار حتى يبتوا ليلتهم بالفيلا بدعوى أن الوقت متأخر جدا للقيادة الا أن عبد الله قد اعتذر بلباقة لأن ابنتيه لا بد فى انتظارهم فحتى لا يثير قلقهما كان لا بد من عودته هذه الليلة على وعد بالمجئ غدا لانهاء جميع المسائل المتعلّقة بتقسيم الميراث كما ينبغى وقال مضيفا:
-لا تخشَ علىّ فلست أنا من سيتولى القيادة , أنه جاسر ,,, ما شاء الله عليه سائق ماهر جدا ولديه العديد من المواهب الأخرى.
كانت ريم قد حل بها التعب من جراء وقوفها منذ الصباح الباكر للاشراف على تنظيم الحفل حتى يبدو بهذا الشكل اللائق فأخذت تنقل ثقل جسدها من قدم لأخرى فى انتظار رحيل آخر المدعوين لتصعد الى غرفتها وتلقى بنفسها على الفراش الوثير تمنى نفسها لحمام ناء دافئ يزيل عنها الارهاق والتعب الجسدى والنفسى على حد سواء .. كانت ترتدى ثوبا مكون من طبقات من الشيفون يصل الى ما بعد ركبتيها بلون وردى فاتح مكشوف الذراعين ومعقودا برباطين فوق الكتفين ,وصندالا بنفس اللون عالى الكعبين ما منحها طلة ملائكية بريئة وهى تضع باطن يدها على شفتيها فى محاولاة لاخفاء تثاؤبها اللا ارادى اصطدمت بعينى جاسر الثاقبتين واللتين لم تتركا شبرا واحدا من جسدها الا وفحصته بتمعن وقح فقالت فى نفسها : نعم يمتلك العديد من المواهب فلا شك اضافة الى القيادة هو ناجح فى تمثيل دور العاشق المخلص والرجل الشهم الذى يمد يد العون للمحتاجين ...
سمعت صوت والدها المنتشى بسعادة لا حدود لها وهو يقول فخورا بها:
-وريم أيضا قد بذلت جهدا جبّارا من أجل أن تخرج هذه الحفلة الى النور بهذا الشكل المشرف اللائق باسم العائلة ,,, شكرا حبيبتى فأنتِ قد أدخلتِ البهجة الى قلوبنا جميعا.
توالت عبارات الثناء والاطراء منهالة على ريم التى ابتسمت بخجل عذرى وهى تنحنى بصورة مسرحية وكانها تحيى الجماهير على خشبة المسرح قائلة برقة بالغة:
-هذا من دواعى سرورى أن أضيف ولو لمسة بسيطة من أجل أخى العزيز وزوجته ,, أسعدهما الله ورزقهما بالذرية الصالحة.
بهذه اللحظة كان جاسر مشدوها ببرائتها الواضحة وتصرفها التلقائى بفطرة لم تفسد بعد فالتمعت عيناه ببريق اعجاب واضح وقد سمح لنفسه أن يتأملها بعناية دون أن تلحظه قبل أن تحرك رأسها نحوه فجأة ولديها شعور محقق بأنها قيد المراقبة فعاد وجهه لجموده الصخرى وهو يشيّعها بنظرة ساخرة وكأنه يقول لها : لن تخدعيننى بتمثيلك لهذا الدور الزائف.
-حسنا ,تصبحون على خير جميعا.
قالها الجد عبد الله بصفة عامة قبل أن يخص السيدة شريفة بتحية مهذبة وهو يتمنى لها الخير قبل أن يحيط حفيديه بذراعيه متوجها الى الخارج يصحبه ابنى أخيه محمد وعادل ,بينما كان رفيق متأففا ينظر للرجل الذى كان ينافسه على حب زوجته شذرا وقد اجتمعت فى رأسه الأفكار المتزاحمة لتكوّن رأيا معقولا عمّا حدث ... لا يجرؤ على الافصاح عن حقيقة مشاعره تجاه هذا القريب المنضم حديثا الى العائلة ,,, وبمَ يخبر ذويه ؟ أيقول لهم بمنتهى البساطة .. هذا الرجل كان معجبا بزوجتى ويريد أن يقترن بها قبل أن تعرفوا بحقيقة زواجى منها , ولا تظلمونها فهى كانت فاقدة للذاكرة وكل ما يربطها بى ... لا يمكن طبعا , عليه الآن أن يتكتم عن الأمر ويقضى شهر العسل مسافرا برفقة حبيبة قلبه الى حيث المتعة والسحر والجمال ,,, وليتأجل أى قرار بخصوص هؤلاء الوافدين الجدد.
عاد الشقيقين سويا بعد رحيل العم وأحفاده ليجدا مجدى وفريال واقفين متشابكى الأيدى وقد ابتدرهما قائلا:
-والآن أتسمحان لنا نحن أيضا بالانصراف , فقد تأخر الوقت.
وتصنّعت فريال التثاؤب الوهمى حتى ضحك الشباب عاليا وهم يتهامسون فيما بينهم :
-نعم فالعروسان بحاجة الى الراحة بعد يوم طويل مرهق.
حاول محمد أن يثنيهما عن قرار المغادرة وهو يشير الى غرفة فريال بالأعلى قائلا:
-ألا يمكن لكما أن ترتاحا على الأقل هذه الليلة ثم تستعدان على مهل بالغد لتوضيب أغراضك يا فريال.
اعترضت فريال بهدوء وهى تقول:
-اتركنا على حريتنا يا محمد سوف أقوم بجمع بعض الأغراض القليلة التى سوف أحتاجها لليلة ثم نعود غدا لاستكمال حزم حقائبى.
عرض عليهما عادل أن يرافقاه هو ومنى الى رحلتهما المتجولة فرفضاها بلباقة متعللين بأن مجدى لن يجد وقتا مناسبا حتى ينهى جميع القضايا المعلّقة بمكتبه ويستطيع أن يمنح لنفسه وعروسه التفرغ التام من أجل اجازة طويلة المدى فمط رفيق شفتيه استياءا وهو يلمح بالكلام:
-أتعنى أنك ستذهب غدا الى مكتبك ؟ وماذا يقول عنّا الناس اذا رأوا العريس فى أول صباح بعد الزواج مغادرا الى عمله تاركا العروس وحدها ؟
أجابت فريال نيابة عنه وهى تقرص زوج ابنتها من خده مؤنبة:
-ألا تتأدب فى حديثك عن حماك ؟ ثم ماذا تقول أنه من حسن طالعك او لنقل من سوئه أنك سترانى فى يوم صباحيتك يا عريس لأن مجدى سيقلنى الى هنا فى الصباح الباكر وهو فى طريقه الى مكتبه لأجلب بقية أغراضى وأودعكما قبل أن تسافرا.
-وهل أجرؤ ؟ مجدى هذا حبيب قلبى ... أقصد عمى مجدى .
وانطلقت ضحكاتهم مدويّة قبل أن تصطحب أميرة أمها الى الطابق العلوى لتساعدها فى لملمة بعض الأغراض الخاصة بها .
ثم أحاط عادل كتفى زوجته بذراعيه وهو يقول معتذرا:
-نأسف يا جماعة فعلينا بالنوم بضعة ساعات حتى لا يفوتنا موعد الطائرة فجرا , سيف بالمناسبة حاول أن تخلد باكرا للنوم أيضا فأنت ستقلنا الى المطار.
دمدم سيف ببضعة كلمات هامسة قبل أن يهز رأسه موافقا ,فأشفق كريم على حاله ,, لم يخبرا أحدا بعد بما صار معه , وفكّر أنه ربما بحاجة الى بعض الوقت حتى يستطيع الاعتراف بما قامت به مها دون الشعور بالاذلال أو الاحراج.
أخيرا بالنهاية صعد الجميع الى غرفهم ليخلدوا الى النوم بعد انصراف فريال وزوجها وكل منهم غارقا بأفكاره الخاصة ... حتى استسلم لسلطان النعاس وغرق فى سبات عميق.
وغدا يوم آخر ... تشرق فيه الشمس من جديد.




http://www.dackel-aus-dem-norden.de/...me-0389_1_.gif

SHELL 30-11-18 04:18 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 

وبهذا نكون وصلنا لختام رواية " لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف "

الجزء الأول من سلسلة " أسرار وخفايا عائلة الحيتان "


https://encrypted-tbn0.gstatic.com/i...lpSF5E8E74A5Vo

jihane11 25-12-18 04:58 AM

بداية أحب أعرفكم على نفسى أنا عضوة جديدة معاكم ولأول مرة بكتب رواية , رغم أنى مدمنة على القراءة كنت مترددة انشرها فاستقبال الكتابات المختلفة ليس كارسالها للمتلقى..
دى روايتى الأولى الطويلة .. بدأتها من فترة طويلة لكن ,,, توقفت عن المتابعة لفترة أطول ,, وبعدين قررت أكملها ,,, استغرقت كتابتها حوالى 8 شهور ,,, حبيت اشارككم بهذه الرواية التى اعتبرها اجتماعية رومانسية وغامضة الى حد ما .. وكلى أمل أن تنال اعجابكم

تحت عنوان

لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف (من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان)



ونبدأ بــ


الملخص



كانت حياتها كالبحر الهادئ بلا أمواج , وما أن عصفت الريح بدفتها حتى بحثت عن شاطئ ترسو عليه سفينتها.
فتحطمت أحلامها البريئة على صخور جزيرته النائية , ولكنها قاومت دوامة سيطرته القوية رافضة أن تغرقها فى القاع.
وأدرك هو أن ليس كل ما يلمع ذهبا , وكما قال الشاعر فإن تطلب اللؤلؤ ,عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غير الزبد , فترك بر الأمان وغاص فى أعماقها لعله يجد ما يبحث عنه قبل أن يقتنصه صياد آخر.

وموعدنا كل جمعة و ثلاثاء باذن الله فى تمام الساعة السابعة مساءا بتوقيت القاهرة لعرض الفصول

لا تحرمونى آراءكم ومتابعتكم

والسلام ختام



[/SIZE][/FONT][/QUOTE]

naglaaosama 02-02-19 09:36 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
رواية جميلهومشوقه

سيريناد 19-06-19 09:53 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
جميلة ومميزة جدا دام ابداعك الراقى

SHELL 15-04-20 11:19 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة jihane11 (المشاركة 3709000)
بداية أحب أعرفكم على نفسى أنا عضوة جديدة معاكم ولأول مرة بكتب رواية , رغم أنى مدمنة على القراءة كنت مترددة انشرها فاستقبال الكتابات المختلفة ليس كارسالها للمتلقى..
دى روايتى الأولى الطويلة .. بدأتها من فترة طويلة لكن ,,, توقفت عن المتابعة لفترة أطول ,, وبعدين قررت أكملها ,,, استغرقت كتابتها حوالى 8 شهور ,,, حبيت اشارككم بهذه الرواية التى اعتبرها اجتماعية رومانسية وغامضة الى حد ما .. وكلى أمل أن تنال اعجابكم

تحت عنوان

لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف (من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان)



ونبدأ بــ


الملخص



كانت حياتها كالبحر الهادئ بلا أمواج , وما أن عصفت الريح بدفتها حتى بحثت عن شاطئ ترسو عليه سفينتها.
فتحطمت أحلامها البريئة على صخور جزيرته النائية , ولكنها قاومت دوامة سيطرته القوية رافضة أن تغرقها فى القاع.
وأدرك هو أن ليس كل ما يلمع ذهبا , وكما قال الشاعر فإن تطلب اللؤلؤ ,عليك بالغوص في عمق البحر فما على الشاطئ غير الزبد , فترك بر الأمان وغاص فى أعماقها لعله يجد ما يبحث عنه قبل أن يقتنصه صياد آخر.

وموعدنا كل جمعة و ثلاثاء باذن الله فى تمام الساعة السابعة مساءا بتوقيت القاهرة لعرض الفصول

لا تحرمونى آراءكم ومتابعتكم

والسلام ختام



[/SIZE][/FONT]

[/QUOTE]

شكرا جيهان على تواجدك

SHELL 15-04-20 11:21 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة naglaaosama (المشاركة 3711675)
رواية جميلهومشوقه


شكرا على ردك الجميل وحضورك المميز

SHELL 15-04-20 11:22 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سيريناد (المشاركة 3716791)
جميلة ومميزة جدا دام ابداعك الراقى

شكرا من القلب على كلامك الرقيق ومجاملتك الحلوة

la_princessa 28-06-20 10:44 PM

شكرا على المجهود الجبار

Maysa Ali 05-09-20 01:34 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

دمع قلبي 17-10-20 01:28 PM

يسلمووووووووووووااااااااااا

دمع قلبي 17-10-20 01:29 PM

مشكوووووووووووووووورين

Alessia Angel 05-11-20 09:35 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
شكرا على الرواية

نعيمة خالد 30-01-21 07:32 AM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
:55::rdd12zp1:

ayaelsayed 21-12-21 06:47 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
السلام عليكم
بارك الله فيكي

وردة هه 24-09-23 11:20 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان
 
راااااااااااائعة ❤️❤️


الساعة الآن 11:40 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية