منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   رحلة ضياع (https://www.liilas.com/vb3/t201771.html)

عالم خيال 02-02-16 01:10 PM

رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ها أنا أعود لكم بروايتي {رحلة ضياع} وهي رواية تاريخية رومانسية
ليست تاريخية من العيار الثقيل، لكنها تتخذ من حقبة زمنية نعرفها جميعاً إطاراً لأحداثها
وها هو غلاف الرواية

http://www.mediafire.com/convkey/2d0...gqy0ry1bzg.jpg

ملحوظة هامة
مع نهاية كل فصل، سأضع نبذة من بعض الكتب التي قرأتها عن تلك الحقبة
وفيها معلومات واضحة عن بعض الأحداث التي سأتطرق لها في فصول الرواية
وهناك فصل إضافي وحيد بعد نهاية الرواية

الفصل اﻷول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
فصل إضافي

أتمنى لكم المتعة مع أحداث هذه الرواية
وأتمنى أن تستمتعوا بها ولا تحمّلوها أكثر من قدرها
فهي قد لا ترضيكم كرواية تاريخية، وربما حصل بعض القصور مني في تلك الناحية
لكني رغم ذلك أرجو أن تستحق هذه الرواية الأوقات التي ستقضونها بين جوانبها
http://2.bp.blogspot.com/-GrKeiAW9c8...600/break5.png

عالم خيال 02-02-16 01:19 PM

رد: رحلة ضياع
 
مقدمة

"لا..... لا...... أرجوك يا أبي.. أنا لا أريد الذهاب.."
"هيا.. فات أوان البكاء.."
"أمي.. أرجوك.. لا تسمحي لهم بأن يأخذوني.. أمــــي......"
"........................"
"أبي.. لِمَ تفعل هذا؟.. ما الذي فعلته لأستحق هذا؟.."
"................................."
"أأنت غاضب مني؟.. أخبرني بما تريده وسأفعله،
سأطيعك في كل أمر فلا تدعهم يأخذوني.."

"تحرك بسرعة وإلا صفعتك بقوة على وجهك.."
أرجوكم.. أنا لا أريد الذهاب..
لا أريد الرحيل..
لِمَ تفعلون بي هذا؟؟...
أبـــي.. أمـــي......

لماذا؟؟........


***********************

~ الفصل الأول ~


منتصف القرن الهجري السابع....
والعالم الإسلامي في أسوأ حالاته الممكنة.. فبعد عصور طويلة حكمته فيها الدولة العباسية بقوة وحكمة، بدأ الوهن يدبّ في أعضائها وبدأت تتمزق وتتفتت إلى دويلات صغيرة مستقلة مثل الموحدين في المغرب العربي والأندلس، والأيوبيين في مصر والشام ومن بعدهم المماليك، والغوريين في الهند، والسلاجقة في الأناضول، والدولة الخوارزمية في فارس وما يتاخمها من شرق الدولة الإسلامية.. ولم يبقَ من آثار الخلافة الإسلامية القوية التي كانت تثير الرهبة في نفوس أعدائها، إلا الخليفة العباسي الذي كانت خلافته صورية، ولا تتجاوز بغداد وأجزاء من العراق..
ولما كان الأمر على هذا الحال، لم يكن من المستغرب أن يحاط العالم الإسلامي بأعداء من كل صوب وحدب.. وطمعهم يتزايد في استقطاع بعض أجزاء من العالم الإسلامي، وهدفهم الأكبر هو في السيطرة على معقل الخلافة الإسلامية وتحطيم الدولة الإسلامية تماماً.. ومن هؤلاء الإمبراطورية البيزنطية ذات العداء المتأصل مع المسلمين، ومملكة أرمينيا التي خاضت حروباً طويلة مع السلاجقة، ومملكة الكـُرج التي لم تتوقف الحروب بينها وبين الدولة الخوارزمية، بالإضافة للإمارات الصليبية في الشام وفلسطين، ولا ننسى التتار الذين بدأوا يجتاحون أجزاء كبيرة من الدولة الخوارزمية منذ عدة سنوات، وقد عجز سلطانها (محمد خوارزم شاه) عن صدّهم ففضل الهرب منهم حتى وافته المنيّة.. كما عجز خليفته السلطان (جلال الدين) عن صدّهم فهرب إلى الهند، وعاد بعد خمس سنين ليشن حرباً شرسة على الجانب الشرقي من العراق ضد الخليفة العباسي بهدف توسيع ملكه غرباً، مما يجعل الحيرة تغمرنا لما آل إليه المسلمون في تلك السنوات.. ولم يلبث السلطان (جلال الدين) أن خسر جيشه وقضى نحبه دون أن ينجح في صد التتار أو استعادة ملكه القديم..
لكن.. لنترك بغداد وخليفة المسلمين الضعيف، والذي أغمض عينيه وصمّ أذنيه عن كل ما يجري حوله مادامت بغداد آمنة.. ولنترك الكوفة العامرة في الجنوب الغربي من بغداد.. لنتوقف عند قلعة تبعد مسير يوم عن الكوفة، متوسطة الحجم يحيطها سور كبير بأربع أبواب رئيسية، وهي قلعة (سنداد).. يحكم القلعة أحد الولاة التابعين للخليفة العباسي، وفي وسطها قصره الفخم الذي اعتنى بإبراز جماله وملئه بالخدم والجواري من كل صنف ولون.. وباراه في ذلك تجار القلعة وأغنيائها، فأكلت قصورهم جانباً كبيراً من القلعة، بينما احتلت البيوت البسيطة للعامة ما تبقى من أحيائها.. وفيها جيش يتبع الخليفة ويحمي ساكنيها من أي هجوم غير متوقع..
وعلى مبعدة من تلك القلعة، في موقع يفصل بينهما مساحات عشبية غزتها بعض الأشجار المتفرقة، ولا يبعد الكثير عن الفرات الذي يشق تلك الأراضي متجهاً نحو الجنوب، يقع قصر متفرد أراد له صاحبه أن يكون منزوياً بعيداً عن البشر.. كان القصر فخماً، وإن كان متوسط الحجم مقارنة بقصور القلعة، بطابقين وغرف لا تقل عن العشرين رغم أن سكانه لا يتجاوزون صاحب القصر التاجر (ربيعة بن حبّاب) وابنته.. واجهة القصر مزينة بفسيفساء باللون الأزرق والأخضر والأبيض بأشكال هندسية متماثلة، ونوافذه ذات أطر خشبية وعوارض مزخرفة وفوقها ظلة دائرية تخفف وهج الشمس عن غرفها، وبابه الخشبي الثقيل مزخرف ومزين بشرائح من الذهب.. كان القصر مكوناً من عدد من القاعات التي زينت جدرانها بزخارف ملونة لأشجار وأوراق منمنمة، وزيّن السقف من الفسيفساء المتقنة الجميلة التي ينعكس عليها النور بشكل جميل.. وقد فرشت الأرضية بالسجاد الفارسي المزخرف ووزعت عليه الطنافس والمطارح، وعلى النوافذ ستائر حريرية مزركشة بألوان زاهية.. وحول القصر حدائق واسعة زينت بعدد كبير من الأشجار مختلفة الأنواع والتي منحت المكان مظهراً جميلاً وجعلت الجو ألطف وأخف حرارة عما سواه.. وبين الأشجار والممرات الحجرية التي تقطعها، وضع عدد من الكراسي الرخامية في أنحاء متفرقة لتساعد أصحاب القصر على الاسترخاء والاستمتاع بالجو اللطيف وبأصوات مختلف أنواع العصافير والحمام التي اتخذت من تلك الأشجار أعشاشاً لها..
وفي جانب من المكان، بنيت عدة حظائر لعدد من الحيوانات واسطبلات لعدد أكبر من الخيول.. وحول تلك الحدائق، سور حجري عالٍ اعتنى صاحب القصر به حماية له من قطاع الطرق وممن قد تسوّل له نفسه التعدي على ساكنيه في هذا الموقع المتطرف البعيد عن المدن والقرى..
لم يكن ساكنوا القصر، بخلاف ربيعة وابنته، يقلون عن أربعين شخصاً من العبيد والجواري الذين استخدمهم ربيعة في خدمته والقيام بشؤون القصر وما حوله.. وفي أحد الممرات المؤدية للطابق العلوي من ذلك القصر، سارت خديجة، وهي إحدى النسوة العاملات في القصر، بسرعة واللهفة واضحة على وجهها الذي بدأت التجاعيد تغزوه وخصلات بيضاء تتخلل سواد شعرها.. وكلما اقتربت منها إحدى الجواري لتحدثها بأمر ما، لوّحت بيدها لتصرفها دون أن تتوقف وهي تصعد للطابق العلوي من القصر متجهة لزاوية منه.. ثم اقتحمت جناحاً قريباً بعد طرقات سريعة على بابه وهي تقول بلهفة "جمان.. لديّ من الأخبار ما سيطرب له قلبك.."
وفي نهاية الجناح الواسع، والذي يضوع برائحة خفيفة من عطر البنفسج، اتجهت خديجة نحو فتاة تجلس في جانبه قريبة من نافذة واسعة وهي تقول بسعادة "لم أسعد يوماً كما شعرت قبل قليل.. عندما استدعاني مولاي لم أكن أعلم أنه سيزف لي خبراً مثل هذا.."
التفتت لها الفتاة بصمت وحيرة، وخديجة تتأملها بصمت.. لم تكن الفتاة تتجاوز الخامسة عشر من عمرها، رقيقة الملامح، ببشرة بيضاء شاحبة، وشعر أسود فاحم اعتنت بإطالته حتى تجاوز خصرها، وقد لمّت خصلاته بشرائط زاهية تنسدل معه، وجسد نحيل لا يوحي بقوة رغم أن الفتاة مليئة بالنشاط عادة.. لكن أكثر ما يلفت إليها النظر عيناها السوداوان الداعجتان برموشها الطويلة التي تزيدها جمالاً..
غمغمت خديجة وهي تبتسم "محظوظ هو حقاً.."
فقالت جمان بصوتها ذو البحة الخافتة "ما بالك اليوم يا خديجة؟ أنت تتكلمين بألغاز لا أفقه منها شيئاً.."
جلست خديجة قريباً منها وهي تعدل خصلات شعر الفتاة لتزيحها عن وجهها قائلة "لقد أخبرني مولاي اليوم بخبر أطربني.. أتعرفين عبدالله بن جعفر قائد جيش قلعة سنداد؟ ذاك الذي دائماً ما يأتي لزيارة مولاي بين حين وآخر"
قالت جمان بحيرة "أعرفه طبعاً.. ما به؟"
قالت خديجة بابتسامة متسعة "لقد أبلغ مولاي برغبته خطبتك لابنه الأكبر.. ستتزوجين قريباً يا فتاتي.."
اتسعت عينا جمان بدهشة، قبل أن يعتري القلق ملامحها وهي تغمغم "وهل وافق أبي؟"
قالت خديجة "لا أرى ما يمنع ذلك.."
خفضت جمان رأسها بقلق واضح ويداها تعبثان بقلادة حول عنقها مذهبة ذات زمردة خضراء وسطها، فسألتها خديجة بتعجب "ما الأمر يا عزيزتي؟ لِمَ غلبك الهمّ بهذه الصورة؟"
أدارت جمان وجهها جانباً مغمغمة "لكني لا أعرفه، ولا أعرف كيف ستكون حياتي بعد زواجي منه.. لا أظن أن أبي سيرفض شخصاً ذا قدر كبير مثله، لكن ماذا لو أساء لي؟"
ابتسمت خديجة قائلة "وكيف لشخص أن يسيء لفتاة مثلك؟ ستكون حياتك هناك رائعة كما هي هنا.. فلا داعي لهذه المخاوف.."
ابتسمت جمان بخجل واضح، فاحتضنتها خديجة بحنان وهي تقول بصوت متهدج "يا لعروسي الجميلة.. من كان يصدق أن أشهد هذا اليوم؟"
غمغمت جمان "لكن شيئاً لم يحدث بعد.. فلم كل هذه السعادة؟"
أحاطت خديجة وجه الفتاة براحتيها وهي تقول "وكيف لا أكون سعيدة؟.. صغيرتي.. طفلتي التي ربيتها على ذراعيّ هاتين.. ستغدو عروساً رائعة الجمال.."
ضحكت جمان بسرور وهي تقول "عادة لا أسمع منك إلا التقريع لشأن أو لآخر.. إن كان زواجي سيغير طباعك تلك فأنا أكثر سعادة به.."
دلفت إحدى الجواري الجناح قائلة "مولاي يرغب بلقائك في مجلسه يا مولاتي.."
نظرت جمان لخديجة وخداها يحمران وهي تقول "أتظنين أنه سيحدثني عن هذه الخطبة؟"
ابتسمت خديجة مجيبة "أظن ذلك.. هيا، لا تدّعي الخجل واذهبي إليه قبل أن ينفذ صبره.."
تنهدت جمان وهي تقف وتسوّي ملابسها، ثم تخرج من جناحها متجهة نحو مجلس أبيها الذي يقع في الجانب الآخر من القصر.. كان مجلسه عبارة عن غرفة واسعة منيرة لوجود عدد من النوافذ التي توزعت في جدرانها، وقد فتحت مصاريعها الخشبية سامحة للنور والنسم العليل بالتغلغل فيها.. وفي عدد من زواياها أرفف عديدة ملئت بكتب ذات أغلفة جلدية مذهبة العناوين، فقد كان أبوها ممن يعشقون جمع الكتب القيّمة، ويقضي جلّ وقته يتصفحها ويدقق في محتوياتها.. وفور أن دلفت الغرفة، وجدت جمان أباها في زاوية المكان على كرسي خشبي يقع قرب إحدى النوافذ، وهو كعادته يحمل كتاباً في يده يقرؤه بتمعن.. كان أبوها، ربيعة بن حباب، في أوسط عمره بلحية وشعر أسود خالطه البياض في مواضع كثيرة، ووجه هادئ وإن لوّحته الشمس بقسوة لكثرة رحلاته التي يقوم بها مع قوافل تجارته التي لا تتوقف أغلب السنة.. يعتني بهندامه الفخم ويرتدي عمامة على رأسه، بينما زيّنت أصابعه عدة خواتم فضية..
لما رآها تدلف بصمت هشّ لها ربيعة وهو يقول "صباح جميل يا جمان.. سعيد برؤيتك هذا الصباح يا ابنتي الجميلة"
ابتسمت بشيء من الخجل مغمغمة "أنت لا تفصح عن سعادتك برؤيتي كل يوم.. ألهذا سبب ما؟.."
اتسعت ابتسامة ربيعة معلقاً "أتظنين أني لا أعلم بأن خديجة قد أخبرتك بالأمر كله؟ تلك المرأة لا تستطيع أن تبقي على سرّ لأكثر من دقائق معدودة"
جلست جمان على كرسي قريب وهي تعلق "أهو سرّ؟"
أجاب ربيعة وهو يضع الكتاب بيده جانباً "ليس تماماً.. إنما رغبت بأن أبلغك بالأمر بنفسي.. والآن قد أفسدتْ خديجة علىّ متعتي برؤية ردة فعلك للأمر.."
احمرّ وجه جمان مغمغمة "أنتما تهزءان بي.."
ضحك ربيعة وهو يمسك بيدها قائلاً "يا ابنتي.. من يمكنه أن يهزأ منك؟.. إنما هي فرصة لن تتكرر، بما أنني لا أملك ابنة غيرك.. والآن، ما هو ردك على خطبة ابن عبدالله بن جعفر لك؟"
خفضت جمان وجهها محاولة ألا تظهر مشاعرها بوضوح، ثم قالت بخفوت "ألست موافقاً على تلك الخطبة يا أبي؟.. فما أهمية رأيي أنا؟"
شدّ على يدها وهو يجيب "موافق طبعاً وإلا ما عرضت الأمر عليك.. لكن رأيك يهمني يا ابنتي.. لن تجدي من هو أفضل من هذا الشاب، فقد التقيته بضع مرات وهو شاب طيب ودمث الأخلاق.. لكن إن لم تكوني موافقة على هذا الزواج فلا يمكن أن يتمّ أبداً"
ظلت جمان مطرقة للحظات وهي تفكر في الأمر.. رغم أن الموضوع كان مفاجئاً لها، إلا أنها لا تجد سبباً لرفضه، خاصة مع سعادة أبيها به كما يبدو من حديثه.. عاد يسألها "إذن يا ابنتي.. ما رأيك؟"
احمر خداها وهي تخفض وجهها وتقول بخفوت "الرأي رأيك يا أبي.."
اتسعت ابتسامة ربيعة وقال "رائع.. إذن اليوم سيحضر عبدالله بن جعفر وابنه لزيارتنا ولرؤيتك.. فقد أصرّ على هذا.."
نظرت له جمان بتوتر كبير وقد فوجئت بالأمر، ثم غمغمت بارتباك "أهذا ضروري؟ لا أستطيع ذلك.. ما الذي سيظنه بي؟"
قال الأب هازاً رأسه "لقد ألحّ عبدالله بن جعفر بذلك، وهذا حق الخاطب أيضاً يا فتاتي.. فما دمنا قد وافقنا على خطبته من حقه أن يراك وتريه قبل أن نستكمل الزفاف.. لا تخشي شيئاً، سيكون ذلك لوقت قصير فقط.."
فركت جمان كفيها بتوتر، وهزت رأسها موافقة.. فقال ربيعة وهو يربت على كتفها "ستكون الأمور على ما يرام.. ثقي بذلك"
ابتسمت له ابتسامة لم تخلُ من التوتر، ثم نهضت مغادرة المجلس بصمت.. هذه تغييرات جوهرية تحدث في حياتها بشكل مفاجئ، ولا تدري إن كانت حقاً تستطيع التفاؤل بهذا التغيير أم لا..

***********************

في عصر ذلك اليوم، كانت جمان تغادر القصر وتسير عبر الحدائق المحيطة به مرتدية لباساً خمري اللون مطرز بخيوط ذهبية ورصعته لآلئ في جوانب عديدة منه.. وقد لفـّت شعرها الطويل وثبتته على رأسها وغطته بالبرنس، وهو غطاء للرأس يخفي ما تحته من الشعر، المرصع بالجواهر والمحلى بسلاسل ذهبية رقيقة وبالأحجار الكريمة.. نظرت جمان لجانب من الحديقة حيث وقف أبوها مع ضيفيه.. فجذبت نفساً عميقاً محاولة أن تثبـّت خطواتها لئلا تتعثر لشدة حرجها وغمغمت "لابد أنني أبدو خرقاء في نظرهما.. يا إلهي ماذا أفعل؟"
قالت إحدى الجواري من خلفها مبتسمة "أنت جميلة يا مولاتي.. لا تقلقي، لا أظن الشاب سيغادر إلا وهو معجب بك أشد الإعجاب.."
لم تعلق جمان وهي تقترب أكثر من الرجال الثلاثة الذين كانوا يتجولون في حدائق القصر، وقد توقفوا مع اقترابها بينما تأخرت الجارية التي كانت تتبعها، فقال ربيعة مبتسماً "ها هي درّتي وجمانتي الوحيدة.. اقتربي يا ابنتي.."
ألقت جمان عليهم السلام بصوت خفيض خجل وهي تخفض بصرها متجنبة النظر للشاب الذي وقف على يمين عبدالله بن جعفر قائد جيوش القلعة، بينما قال عبدالله بصوت عالٍ "ونِعْمَ الفتاة هي.. لا أظنني سأجد أجمل منها لتنضمّ لعائلتنا زوجة لابني.. أليس كذلك يا عامر؟"
التقت عينا جمان بعيني الشاب فخفضتهما بسرعة وخجل والشاب يقول مبتسماً "بالطبع.. هذا شرف لنا في الحقيقة أن نناسب عائلة ذات وجاهة كعائلتك يا سيدي.."
ابتسم ربيعة بفخر وهمّ بقول شيء، لكنه وجد عبدالله يجذبه من ذراعه ليكملا سيرهما في الحدائق، بينما تأخر عامر قليلاً وهو ينظر لجمان التي وقفت بتوتر شديد.. فابتسم لها وهو يشير بيده لتسير معه خلف الرجلين الذين تقدما قليلاً.. تزايد حرج جمان وهي تنظر لأبيها الذي لم يعترض وإن ألقى عليها نظرة ضيق.. فزفرت جمان بتوتر وهي تتبع الشاب بخطوات مترددة، وأخذت تسترق النظر لوجهه كلما التفت بعيداً عنها.. كان وسيماً، ولأنها لم تر كثيراً من الشبان من قبل فهي لم ترَ من هو أكثر وسامة منه.. شعره أسود فاحم يبدو على شيء من الطول من تحت عمامته الفاخرة، بسمرة خفيفة وعينان سوداوان لامعتان.. طويل القامة ويرتدي رداءً فخماً بدا أنه اعتنى باختياره، ولحيته مشذبة بعناية.. ولما نظر إليها مبتسماً خفضت بصرها من جديد بصمت حتى سمعته يقول "إذن، اسمك جمان.. أليس كذلك؟"
هزت رأسها إيجاباً دون أن تتفوه بكلمة، فقال لها "إن لم تبادليني الحديث فلن أستفيد أمراً من قدومي اليوم.."
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت بصوت خافت "ما الذي تريد مني قوله؟"
فسألها "كم عمرك؟"
أجابت بتردد "تجاوزت الخامسة عشر من عمري.."
لم يعلق عامر وهو ينظر حوله مما جعلها تتوتر أكثر.. أهذا جيد أم سيء؟.. سمعته يقول بعد لحظة "ألا تمانعين مغادرة مكان جميل كهذا والعيش في القلعة؟ نملك قصراً كبيراً وحدائق واسعة حوله، لكنها ليست باتساع هذه الحدائق.."
هزت جمان كتفيها دون أن تجيب.. فقال عامر وهو يتفحص ملامحها "أبي كما تعلمين هو قائد جيش قلعة سنداد، وهي مكانة كبيرة يجب أن نأخذها بالاعتبار.. فلا يمكنني قبول أي فتاة كزوجة لي إلا لو كانت تستحق ذلك.."
شعرت جمان بشيء من عدم الراحة لقوله، لكنه قال وهو ينظر إليها "لكنني سعيد أنني فكرت بخطبة ابنة التاجر ربيعة بن حباب.. لم أكن أظن أنه يخبئ فتاة بهذا الجمال في قصره المنعزل هذا.."
صمتت جمان وهي تخفض وجهها الذي توردّ بشدة، فابتسم عامر وهو يقول "بعد أن رأيتك، أنا الآن أشد إلحاحاً لإتمام هذا الزواج.."
سمعا نداءً خافتاً من جهة الرجلين اللذين ابتعدا قليلاً، لكن عامر بدا متجاهلاً له بشكل تام.. فغمغمت جمان بصوت خفيض مرتبك "أبي يناديك.."
اتسعت ابتسامة عامر وهو يتأملها، ثم قال "إذن، يا أميرتي العزيزة.. سأذهب للحديث مع أبيك، ولن أرحل حتى نحدد موعداً لهذا الزواج.."
عاد يسمع نداء ربيعة الذي تعالى بإلحاح، فودعها عامر وغادر وجمان تراقبه بمشاعر مختلطة.. كانت تشعر بخجل شديد وهي ترى شاباً وسيماً مثله مهتماً بها، وهذا بالتأكيد يغمرها بسعادة لا مثيل لها.. لكن، هل حقاً ستكون أكثر سعادة في قصر زوجها كما هي في قصر أبيها؟ هل سيعاملها معاملة حسنة؟ هل وهل....؟ أسئلة عديدة تدور في عقلها وهي تفكر في ذلك المستقبل المجهول الذي ينتظرها مع شخص لا تكاد تعرف عنه شيئاً..
انتبهت جمان في تلك اللحظة لصوت خافت خلفها، فأدارت وجهها لتنظر باستغراب نحو موقع الصوت.. وخلف شجرة متوسطة الحجم لا تبعد إلا بضع خطوات منها، رأت شاباً يجلس مستنداً إليها بظهره وقد أراح سيفه على ركبته وهو يتأمل نصله بإمعان، بينما رقد الغمد على الأعشاب بجواره.. فاقتربت منه متسائلة "سَلـَمَة؟ ما الذي تفعله في هذا المكان؟"
وقطبت قليلاً مضيفة "هل كنت تتنصّت علينا؟"
التفت الشاب إليها بعد أن أعاد سيفه لغمده بحرص قائلاً "وما المهم في حديثكما لأتنصت عليه؟.."
كانت ملامحه هادئة لا توحي بأي انفعال كعادته، وهو ما كان يغيظها أحياناً.. رغم أنه لم يكن بوسامة عامر، إلا أن ملامحه مريحة للناظر إليه بوجهه النحيف وشعره البني بلون البندق، وعيناه العسليتان الحادتان اللتان يضيقهما تفادياً لنور الشمس.. بلحية وشارب خفيفين، وبشرة جاهد لتصبغها الشمس بسمرة خفيفة متخلصاً من بياضها السابق.. ورغم نحول جسده، إلا أنه يمتلك مهارة في استخدام سيفه.. وقد اعتنى ربيعة بتدريبه على استخدام كافة أدوات القتال ليكون عوناً له في رحلات قوافله التي لا تنتهي..
قالت جمان وهي تقترب منه خطوات متخلية عن تقطيبها السابق "أسمعت بما جرى؟"
لم يعلق سلمة وهو يرفع بصره ليرى ابتسامتها السعيدة وهي تضيف "ذلك الشاب الذي كان يحدثني.. اسمه عامر، وهو ابن قائد جيش قلعة سنداد.. "
واستدارت ناظرة للموقع الذي وقف فيه عامر مع أبيها يتحدثان مضيفة بابتسامة خجولة "لقد خطبني من أبي.."
لم تجد من سلمة استجابة لقولها، فنظرت له بتعجب لتجده قد وقف وهو يثبت غمد السيف في حزامه الجلدي، ولما سألته "ما رأيك؟ أليس خبراً سعيداً؟"
أجاب بهدوء "بالطبع.. هكذا أتخلص من ملاحقتك بين يوم وآخر كما أفعل عادة.. وقد يغدو القصر أكثر هناءً من السابق"
وأضاف بابتسامة صغيرة "أرى أن تزيلي هذه الابتسامة البلهاء من وجهك، لئلا يهرب الشاب قبل إتمام ذلك الزواج"
وغادر الموقع بصمت وهي تنظر له بدهشة مستنكرة لتعليقه الجارح، قبل أن تقول بحنق "أنت أحمق يا سلمة.."
لم يستدر أو يعلق على قولها الذي سمعه بوضوح وهو يحث الخطى نحو مبنىً متوسط الحجم عادي المظهر يقع في زاوية الحدائق الواسعة المحيطة بالقصر، بينما استدارت جمان بدورها بشيء من الغيظ لتجد أباها يتحدث مع عامر ويضحك بصوت عالٍ.. بدا مسروراً، مما يؤكد لها أنه راضٍ كل الرضى عن هذا الزواج الوشيك، ولم تفتها النظرات التي يلقيها عليها عامر بين لحظة وأخرى.. فغلبها الخجل وهي تخفض رأسها وتسير بخطوات مرتبكة نحو القصر.. تباً لك يا سلمة.. من يهتم بما تعتقده؟ إنها اليوم سعيدة.. ويبدو أنها دخلت من أوسع أبواب السعادة منذ هذه اللحظة، وما خلف الباب أكثر جمالاً وروعة بلا ريب..

***********************

في تلك الليلة، جلست جمان قرب نافذتها تراقب خيوط القمر الفضية بافتتان ظاهر.. لا تدر لمَ، لكن كل شيء في القصر وخارجه بدا جميلاً اليوم.. أهو الحب؟ احمر خداها بشدة وهي تضع يديها عليهما متحسسة الحرارة التي غزتهما.. أيمكن أن يكون حباً؟ هل وقعت فيه بهذه السرعة؟ هل أحبت عامراً من اللقاء الأول؟ لكنه يستحق.. أليس كذلك؟.. شاب بوسامته ولطفه ورقته، لا يمكن ألا يغزو قلب أي فتاة منذ اللحظة الأولى..
تنهدت وهي مستغرقة في تأمل الحدائق المحيطة بالقصر، والتي غسلها القمر بنوره الفضي.. ولا يعكر صفو ذلك الجمال إلا ذلك المبنى المتوسط الذي يقع في زاوية المكان ونور مشاعله يبدو لها واضحاً..
تأففت بشيء من الضيق في اللحظة التي دخلت فيها خديجة جناحها حاملة بعض الفاكهة.. فسألتها بتعجب "ما الذي يسبب لك الضيق في هذا اليوم السعيد؟"
غمغمت جمان بشيء من الضيق "لقد أخبرت أبي أن ينقل ذلك المبنى من أمامي لموقع آخر.. إنه يفسد عليّ جمال المنظر الذي أراه من نافذتي"
علقت خديجة وهي تضع ما في يدها جانباً "تعنين مبنى العبيد؟ وما شأنك به؟ أنت ستغادرين هذا القصر خلال وقت قصير ولن يسبب لك الضيق بعد الآن.."
قالت جمان بتذمر "وقت قصير؟ أنت تعلمين أن إعدادات مثل هذا الزواج تستغرق شهوراً كاملة"
قرصت خديجة خدها برفق وهي تقول "ولم العجلة يا فتاة؟"
احمر خدا جمان وهي تغمغم مرتبكة "لست.... لست متعجلة أبداً.."
ضحكت خديجة وهي تغمغم "يا لطفلتي العزيزة.."
قالت جمان باحتجاج "طفلة؟ أهذا ما تطلقينه عليّ في هذا اليوم بالذات؟ لقد أصبحت عروساً.."
ابتسمت خديجة ابتسامة حانية وجلست خلفها حاملة مشطاً من الصدف مزيناً بورود مرصعة بزمرد متفاوت الأحجام، ففكت شعر جمان وهي تغمغم "طبعاً.. أنت أجمل عروس رأتها عيناي.. لكن حتى بعد زواجك، وحتى بعد أن تصبحي أماً بإذن الله، ستظلين طفلتي الصغيرة ما حييت.."
فكت ضفائرها الطويلة وبدأت تسرّح شعرها الناعم برفق وحنان ظاهر، فقالت جمان باهتمام "أنت ستأتين معي لقصري الجديد.. أليس كذلك يا خديجة؟"
ابتسمت خديجة قائلة "وهل أنت بحاجتي هناك؟ لقد أصبحتِ كبيرة بما يكفي.. وسيكون لديك من الجواري ما يكفي للعناية بك.."
قالت جمان بغير تصديق "لا يمكن.. أنت ستأتين معي.. وإلا لن أرحل من هذا القصر"
ضحكت خديجة معلقة "وهل ستبلغين زوجك بأنك لن تغادري إلا بوجود مربيتك؟ يا لك من طفلة"
وربتت على رأسها مضيفة "لا تقلقي.. أنا من سيسبقك لقصرك الجديد.. فلن يطمئن قلبي إلا وأنا أراك كل يوم وأعتني بشؤونك بنفسي.."
ارتاحت جمان لذلك الجواب، فاستدارت تنظر من النافذة القريبة وهي تتنهد وتفكر في حالها متى ما غادرت هذا القصر.. فقالت خديجة مبتسمة "المهم الآن أن تعتني بنفسك وتتأهبي لهذا الزواج.. عليك أن تكوني أجمل عروس يراها أهل القلعة.."
ولوحت بإصبعها محذرة "وكفي عن ألاعيبك التي تقومين بها عادة.. عندما تصبحين عروساً، عليك أن تـَزِني أفعالك لأن زوجك لن يغفر أخطاءك كما قد يفعل والدك.."
وغادرت الجناح بصمت، بينما نظرت جمان من النافذة من جديد وحاجباها يرتفعان.. بالفعل.. عندما تغادر هذا القصر، لن يُسمح لها بالقيام بما تفعله عادة في بعض الليالي.. هذه خسارة كبيرة، أن تفقد متعتها الوحيدة في سجنها الكبير المزخرف هذا، لتنتقل بعده لسجن مزخرف آخر قد يكون أكثر تشدداً..
نهضت بنشاط غير عابئة بتحذير خديجة، وبعد أن تأكدت أن باب جناحها مغلق، أسرعت تستبدل ملابس نومها العطرة، لترتدي قميصاً قطنياً بني اللون طويل اليدين، وسروالاً من القماش ذاته، ويتوسط خصرها حزام جلدي عريض.. وارتدت حذاءاً أسود اهترأ لكثرة الاستعمال يرتفع ليغطي قدمها حتى منتصف ساقها.. وأخيراً، رفعت شعرها للأعلى لتضع فوقه عمامة بيضاء لفتها على رأسها بإحكام.. نظرت لنفسها بابتسامة متسعة وهي تتذكر محاولات خديجة الدؤوبة للاستيلاء على هذا الرداء الذي اسْتـَلـَبـَـته جمان من أحد الفتية العاملين في القصر وهو أحد عبيد أبيها ممن يماثلها في الحجم، والذي تفلح جمان في استعادته كل مرة بمعاونة من ذلك الفتى، وتخفيه بمهارة عن عين خديجة الحانقة.. ولم تكن تفعل ذلك إلا لسهولة تسللها بهذا الرداء وإبعاد الأنظار عن هويتها الحقيقية..
بعد أن استعدّت، وقفت قرب باب جناحها تصيخ السمع للحظات، قبل أن تفتح الباب وتطلّ عبره متأملة الممر المظلم خارج الجناح.. ولم تلبث أن أغلقت باب الجناح خلفها وتسللت عبر الممر والسلم الهابط نحو الطابق الأرضي من القصر.. لم تكن تنوي الخروج من باب القصر الرئيسي لئلا تلفت الانتباه، بل كانت دائماً تلجأ للخروج من أحد الأبواب الخلفية البعيدة عن الأنظار.. لقد مارست جمان هروبها منذ وقت طويل، لذلك لا تجد أي صعوبة في التسلل من القصر مستترة بالظلام.. بعد لحظة قصيرة كانت تخرج من أحد الأبواب الخلفية وهي تتلفت حولها بحذر.. كالعادة في مثل هذا الوقت الساكن، لم يكن هناك أي شخص ممن يمكن أن يعيق خروجها.. ابتسمت لنفسها وهي تغادر بخطوات خفيفة عابرة الحدائق نحو سورها الخلفي، حيث تتسلل جمان عبره نحو المساحات الواسعة خلف القصر والذي تبعد أقرب قرية منه أميالاً عدة.. سارت جمان بسرعة ممنية نفسها بساعة من السكون والتأمل، بالشعور بالحرية والانطلاق وهي التي تكره الحدود التي يحيطها القصر بها..

***********************

في تلك الليلة، قبع سلمة فوق سطح ذلك المبنى عادي المظهر في زاوية الحدائق غير عابئ ببرودة الشتاء القارسة، وقد انشغل بشحذ سيفه باهتمام بالغ على نور مصباح زيتي صغير يلقي بضوئه الأصفر الباهت على ما حوله.. وبين فترة وأخرى يرفع سلمة بصره بصمت مراقباً الحدائق الساكنة في ذلك الوقت المتأخر، والقصر الذي يبدو بعيداً أمامه بأنوار متفرقة فيه.. كل شيء كان يبدو مختلفاً في الليل عنه في النهار.. فبعد النهار الذي يراه صاخباً بأكثر مما يطيق، يأتي الليل ومعه الوحشة التي أصبح يشتاق إليها ويتوق للخلوّ فيها بنفسه وبأفكاره وحيداً.. لذلك كان انزعاجه بالغاً عندما سمع تلك الخطوات التي اقتربت منه قبل أن يجلس صاحبها قربه قائلاً "أليس من الأفضل أن تأوي إلى فراشك؟ أنت بالكاد تأخذ قسطاً من الراحة طوال اليوم.."
التفت سلمة للشاب الأسمر أكرت الشعر والذي تبرز عضلاته بوضوح من تحت ثيابه القطنية، بينما تلتمع عيناه في ضوء القمر وهو يراقب ما يفعله.. فغمغم سلمة "لا بأس.. سأذهب بعد قليل.."
نظر الشاب للقصر المواجه لهما وقال "من كان يصدق أن تلك الفتاة ستتزوج قريباً؟ سيغدو القصر هادئاً مع رحيلها.."
قال سلمة بهدوء "تلك الفتاة هي مولاتك يا إمام.."
ضحك إمام معلقاً "ابنة مولاي في الواقع.. وهي تصغرني كثيراً، ليس من العدل أن أناديها مولاتي حتى بيني وبين نفسي.."
ثم أضاف بتعجب "لكني عجبت من موافقة مولاي على ذلك الشاب.. لقد بغضته منذ رأيته، رغم وسامة وجهه.. كيف أعجب به مولاي بحيث يزوّجه ابنته الوحيدة؟"
غمغم سلمة وهو يتأمل نصل سلاحه "يكفي أنه ابن قائد جيوش القلعة.. تلك مكانة لا يستهان بها.."
نظر له إمام للحظة بصمت، ثم تنهد مضيفاً "أجل.. هذه هي المكانة التي لا يستحقها العبد مهما كان كفؤاً.."
تساءل سلمة بضيق "ماذا تعني؟"
ابتسم إمام مجيباً "لا أعني أكثر مما قلته.."
فنهض سلمة وأعاد سيفه لغمده وهو يقول ببرود "لا ترفع بصرك كثيراً.."
ورحل بينما إمام يناديه "إلى أين ستذهب؟ لقد انضممت لك للتو.."
لم يعلق سلمة وهو يغادر بصمت، فزفر إمام معلقاً "حتى متى ستظل مكابراً يا فتى؟.."
رأى في تلك اللحظة شبحاً أسود يقترب من مبناهم بخطوات حثيثة، فوقف إمام في موقعه وهو يصيح "من هناك؟"
توقف الشبح للحظة يلتقط فيها أنفاسه.. ثم صاح بصوت لاهث "أين سلمة؟ فليخرج لي حالاً.."
تعرّف إمام على صوت المربية خديجة، فغادر موقعه بحثاً عن سلمة وهو يقول "تباً.. هل فعلتها مرة أخرى؟"
في تلك الأثناء، كانت جمان تقف على مرتفع عالٍ على شيء من المبعدة من حدود القصر، تتأمل المساحات التي تستطيع رؤيتها من ذلك الموقع.. عندما يضيء البدر هذا المكان، يبدو كل شيء مذهلاً عسيراً على الوصف.. شعرت جمان بالبرودة التي تزايدت بشكل كبير، فضمّت ذراعيها حول جسدها وهي تراقب المنظر بصمت.. لو كان أبوها أو خديجة يقبلان القدوم معها لهذا المكان لما استطاعا إخفاء إعجابهما به.. لكن أحدهما لم يبدِ رغبة بالقدوم إليه، وهي تحصل على تقريع شديد كلما أخبرتهما برغبتها بذلك..
تنهدت وهي تتأمل ما حولها ممنية نفسها بمتعة لوقت قصير، لكن عندما انتبهت لصوت سنابك الخيل وهي تقترب من الموقع غمغمت لنفسها "يبدو أنهم أدركوا غيابي بأسرع مما توقعت.."
أسرعت تختبئ خلف أجمة قريبة وقلبها يدق بسرعة.. لو رأوها الآن لأعادوها للقصر حالاً، حيث ستلقى تأنيباً شديداً من أبيها وخديجة بالتتابع، ثم تستولي الأخيرة على هذه الملابس وتجبرها على النوم باكراً.. لكنها لا تريد العودة الآن.. ليس بعد.. فبعد كل الأحداث التي جرت هذا النهار فهي مشوشة الفكر متنازعة المشاعر بين سعادة لتحوّل حياتها القريب والقلق لذلك.. ولا شيء سيهدئ بالها مثل الجلوس بعيداً عن القصر والنظر للقمر المنير والاستمتاع بهذا الهدوء.. لماذا يستكثرون عليها هذه المتعة الصغيرة؟..
ربضت في موقعها بانتظار ابتعاد الخيل وراكبيها وهي تسمع الأصوات تخفت بالفعل، عندما فوجئت بمن يجذبها من ذراعها لتقف وسط الأجمة بقوة.. فالتفتت بصدمة لترى على ضوء القمر ملامح سلمة التي كانت، على غير العادة، تـُبدي حنقاً شديداً.. فقالت بأنفاس مخطوفة للمفاجأة "كيف استدللت على مكاني؟"
قال بصوتٍ محتد "وهل يجدك في كل مرة شخص غيري؟ لِمَ تفعلين ذلك؟ تسببين القلق والإرباك للقصر كله لتستمتعي بكسر القيود قليلاً؟"
قالت باحتجاج "لأنكم لن تسمحوا لي بذلك عادة.. لهذا السبب ألجأ للخروج خلسة، فماذا يضيركم من ذلك؟"
علا صوته أكثر وهو يقول بغضب "لأن الكثير من حراس القصر يتم عقابهم جراء ذلك.. ألم يدر ذلك بذهنك؟"
اتسعت عيناها بصدمة، وسلمة يضيف "ماذا بظنك سيحدث لهم لو أصابك أي مكروه بعيداً عن القصر ودون حماية؟"
خفضت جمان وجهها وهي تقول بصوت مرتجف "لا، لم يخبرني أحد عن ذلك.. لمَ يتم عقابهم على ما أفعله أنا؟ لا ذنب لهم في خروجي من القصر"
قال سلمة زافراً "لأن مولاي متأكد أن نجاحك في التسلل عائد لإهمالهم في حراسة القصر.."
ظلت خافضة وجهها والحزن يغمرها، فزفر سلمة من جديد وقال "فلنعد الآن قبل أن يعمّ القلق القصر كله"
رفعت بصرها إليه قائلة "هل أستطيع البقاء لوقت قصير؟"
قال بضيق "طبعاً لا.. سيتهمني مولاي بالمخاطرة بحياتك لو أبقيتك هنا لمدة أطول، فهو يخشى ممن قد يتعرض لك خارج حدود القصر"
قالت برجاء "قليلاً فقط، ولن أخبر أبي بذلك"
ثم خفضت وجهها وهي تضيف "ستكون هذه آخر مرة أتسلل فيها من القصر.. فلا أريد أن أؤذي أحداً في سبيل متعتي هذه"
ظل سلمة متردداً للحظة، ثم حسم أمره وهو يرى الحزن في ملامح وجهها، فقال "حسناً، لوقت قصير فقط"
ابتسمت له ممتنة وقالت "شكراً لك.."
لم يعلق فيما تقدمت جمان قليلاً لتجلس على صخرة قريبة بينما بقي سلمة واقفاً خلفها بتحفز ويده على سيفه المعلق بغمده في حزامه.. بقيت جمان تتطلع حولها بصمت وهي تتأمل البقعة التي ازدانت بالأشجار وغدت خلابة مع النور الفضي الذي يغمرها.. وزادها الحفيف الخفيف الذي تصدره أوراقها مع النسمة التي تخللتها جمالاً.. بالإضافة لنهر الفرات الذي يشق الموقع على مبعدة ومياهه الفضية تبدو رائعة الجمال.. رغم أن الحديقة المحيطة بالقصر مليئة بكافة أنواع الأشجار المزهرة والمثمرة والتي يتم الاعتناء بها بشكل دائم، إلا أن منظر الطبيعة البكر خارج أسوار القصر يثير شغفها بشكل دائم، ولا تملّ الخروج إليها كلما سنحت الفرصة..
نظرت خلفها ملاحظة صمت سلمة التام.. وكما توقعت، وجدته يثبت بصره في الأفق كعادته.. كلما التزم سلمة الصمت، وجّه عيناه للأفق بنظرة حاولت دائماً أن تفسرها دون فائدة.. فقالت كاسرة الصمت "لطالما تساءلتُ عن مغزى نظراتك التي ترنو للأفق.. أهذا حنين لموطنك؟"
لزم الصمت للحظات قبل أن يقول بهدوء "كيف أحنّ لموطني وأنا لا أفارقه إلا بالكاد؟"
ابتسمت بجانب فمها معلقة "لا أقصد هذا الوطن، بل ذاك الذي غادرته منذ سنين طوال.. مهما اعتدتَ على العيش هنا، فلابد أن لهفتك للعودة لمسقط رأسك لم تخفت بعد"
علت جبينه تقطيبة وهو يقول بضيق "لا تفتئين تذكـّريني بأني غريب.. أهناك ما يعيب في ذلك؟"
قالت بسرعة "لم أعنِ سوءاً بقولي هذا، ولا أرى ما يعيب في كونك غير عربي الأصل.. إنما هو تساؤل دار في ذهني"
لم يعلق أو ينظر إليها، لكن فضولها لم يخفت وهي تتساءل "أتذكر ملامح موطنك؟"
أجابها بشكل قاطع "لا..."
واستدار مغادراً مما أشعرها بضيقه من هذا الحديث.. فأسرعت تلحق به وهي تقول "لم أنت متضايق هكذا؟ أنت غريب الأطباع هذا اليوم أكثر من اللازم.. استهزأتَ بي عندما رأيتني سعيدة، والآن تثور لسؤال لا أعني به سوءاً.."
قال بشيء من الحدة "ألا تجدين أي غرابة في أسئلتك تلك؟"
قالت بضيق "لو كنت تستاء مني لأخبرتني بذلك صراحة من قبل.. لطالما حدثتني عن أي شيء أسألك عنه بطيب خاطر.. فما الذي استجد اليوم؟"
لم يعلق وهي تدمدم "أمرك غريب جداً.. حتى هذا الضيق غريب عليك وأنت الهادئ هدوءاً دائماً عادة.."
اقترب سلمة من جواده الذي وقف غير بعيد، فقرّبه من جمان قائلاً "لنرحل بسرعة.. لابد أن مولاي قلق عليك.."
لم تعترض وهي تمتطي الجواد بمهارة، ثم جذب سلمة لجام الجواد وسار بقربه عائداً للقصر.. بينما نظرت جمان أمامها وهي تفكر في ضيق سلمة غير المعهود.. لطالما دارت بينهما أحاديث شتى.. لطالما عاونها في كل ما تريده.. حتى ركوب الخيل هو من علمها إياه منذ سنوات رغم اعتراض خديجة الدائم وتذمرها من ذلك.. فما الذي تغيّر اليوم؟..
ألقت نظرة على وجه سلمة الخالي من أي انفعال بعد أن نبذ ضيقه واسترد هدوءه المعتاد.. بالفعل هذه هي المرة الأولى التي تراه فيها بهذا الضيق والانفعال.. ربما منذ كفّ عن البكاء عندما أحضره أحد التجار هدية لأبيها منذ سنين عديدة.. كانت في ذلك الوقت لا تتجاوز الخامسة من العمر، ولأنها وحيدة بلا إخوة، كانت تستمتع باللعب مع أي عبد أو جارية تقاربها في السن حتى تحضر خديجة فتنتهرهم وتعود بجمان للقصر حانقة.. لم تكن جمان تفهم سبب حنق خديجة من لعبها مع العبيد، أهناك ما يؤذيها فيهم؟ أم أنهم مرضى بمرض مميت لذلك أصبحوا عبيداً؟ ذلك كان الخاطر المضحك الذي لطالما وجهته بتساؤل لخديجة، والتي كانت تضحك قليلاً ثم تقول لجمان بابتسامة "يا فتاتي، أنت ذات مكانة عالية في هذا القصر.. ولعبك مع هؤلاء العبيد لن يعود بخير عليهم.. لا يسرّك رؤية أحدهم يعاقب على لعبه معك، أليس كذلك؟"
فتهز جمان رأسها وعيناها تتسعان لذلك الخاطر، فتلمس خديجة أرنبة أنفها قائلة "إذن تعدينني أنك لن تفعلي ذلك مجدداً؟"
فكانت جمان تهزّ رأسها بحماس، لكن سرعان ما تنسى ذلك الوعد ما إن ترى إحدى الجواري الصغيرات في أحد ممرات القصر، عندها تسرع لتجذبها من يدها وتنطلق بها إلى جانب من الحديقة لتلهوان متناسيتين ما يجري حولهما ما أمكنهما ذلك..
حتى كان ذلك اليوم الذي رأت فيه فتىً غريباً، ورغم أنه يكبرها بست أو سبع سنوات، إلا أن ذلك لم يمنع الاهتمام الذي بدا عليها تجاهه.. وجدته وهي تجول في الحديقة بحثاً عن أحد الصبية ممن اعتاد اللعب معها، وقد كان هذا الفتى جالساً قرب أحد الجدران في منطقة معزولة منطوياً على نفسه، وبدا لها من اهتزاز كتفيه أنه يبكي بحرقة إنما بصوت مكتوم.. فاقتربت منه متسائلة "ما بك؟ أهناك من ضربك؟"
لم تجد منه استجابة، فاقتربت أكثر ولمست كتفه معيدة تساؤلها، لتفاجأ به يقفز واقفاً وفزع واضح على وجهه الغارق بدموعه.. نظر إليها قليلاً بصمت وهي تسأله "من أنت؟ ولم أنت مختبئ هنا تبكي وحيداً؟"
ظل ينظر لها بعدم فهم، ثم سمعته يغمغم بكلمات لم تفهمهن قبل أن يغادر الموقع بخطوات سريعة رغم ندائها المستمر له.. أسرعت بعدها بفضول كبير تتبعه لتجده يتجه لمبنىً منزوٍ في جانب الحديقة كان مخصصاً للعبيد، وقبل أن تتهور باللحاق به حيث غاب في المبنى سمعت صوت خديجة الحانق كالعادة يلاحقها..
بعد أن غالبت ترددها، عادت إلى خديجة لتمطرها بوابل من الأسئلة عن ذلك الفتى الباكي، وسبب بكائه منزوياً بمفرده.. فقالت خديجة وهي تجذبها معها عائدة للقصر "هو عبد جديد لمولاي أحضره له أحد التجار.. يقال إنه من القوقاز، لذلك لا يعرف اللغة العربية بعد.. سيكف عن البكاء يوماً ما ولابد فلا تقلقي بشأنه.."
نظرت جمان خلفها وخديجة تجرها نحو القصر، فراقبت مبنى العبيد للحظات قبل أن تعود لخديجة بالتساؤل "وطنه ذاك.. أهو بعيد؟"
ابتسمت خديجة مجيبة "بعيد جداً يا طفلتي.."
فعادت جمان تتساءل "أيبكي لأنه غادر وطنه؟ أيريد العودة لأهله؟"
غمغمت خديجة بصوت خافت "لابد أنه كذلك.."
في اليوم التالي، بحثت جمان بإلحاح عن الفتى، لتجده يعمل في رعاية بعض الحيوانات التي يملكها القصر في حظيرة جانبية، فوقفت قربه تتأمله بصمت للحظات ملاحظة أنه تجاهلها تماماً.. ثم قالت له "من الذي أحضرك إلى هنا؟ ولم لا تعود إلى أهلك؟"
وقف الفتى ينظر لها مقطباً، ثم عاد لعمله بصمت وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة، بينما اقترب منها أحد الرجال وطلب منها الرحيل لئلا تعطل أعمالهم.. في الأيام التالية بقيت جمان تطارد الفتى في كل موقع وتغمره بأسئلتها التي لا يفهمها ولا يعرف كيفية الرد عليها فيلجأ لتجاهلها أغلب الأوقات.. لا تعلم جمان ما الذي دفعها لملاحقته بهذه الصورة، لكن ربما كان حزنه الظاهر في بعض الأوقات يجذبها ويثير اهتمامها.. وعندما تجده في بعض الأحيان يبكي منزوياً بعيداً عن الآخرين، فهي لا شعورياً تقبع قربه والحزن يتملكها لمرآه.. فتبدأ بالبكاء لبكائه حتى تجده يكفّ عن البكاء ويحاول تهدئتها بكلمات لا تفقه معناهن، أو كانت تجري إلى أبيها باكية وتطلب منه بإلحاح إعادة الفتى الذي لا تعرف اسمه إلى أهله.. فلا تتلقـّى إلا بضع ضحكات من أبيها ومن معه قبل أن يَعِدَها بذلك بكلمات مبهمة ويرسلها بعيداً..
استمرت جمان على ذلك بضع أيام حتى بدأت تجد الفتى ما إن يراها حتى يسارع بمسح دموعه وهو يخفض بصره لئلا ترى احمرار عينيه.. عندها تقبع جمان قربه مبتسمة ابتسامة كبيرة وتحاول الحديث معه رغم ضعف حصيلته من العربية والتي لا تتجاوز بضع كلمات تعلمهن في الأيام الماضية..
ومع الوقت، لم تَعُد جمان ترى الفتى يبكي أبداً، إنما لم تره يبتسم إلا فيما ندر.. استعاض عن انفعاله السابق بهدوء قلّ أن ترى مثيلاً له، وإن كان لا يمانع في الجلوس معها في أوقات فراغه والحديث بما يملكه من كلمات قليلة.. وقد لاحظت أن حصيلته اللغوية تزداد بسرعة كبيرة مقارنة بالآخرين، وبعد أن اعتنق الفتى الإسلام منحه ربيعة اسم (سَلـَمَة) مستعيضاً به عن اسمه السابق الذي لا تعرفه.. إنما الشيء الوحيد الذي لا يتحدث عنه مهما حاولت، هو موطنه الأصلي وعائلته التي تركها أو تركته.. لا تعلم حقيقة ما كان عليه قبل أن يصبح عبداً، بل كيف أصبح كذلك وما الذي مرّ به حتى وصل لقصر أبيها.. ظل هذا في غموض تام مهما ألحـّت ومهما حاولت أن تجرّه للحديث..

***********************

ارتدت جمان ملابس نومها وخديجة تلملم ملابسها السابقة وهي تدمدم بحنق "لِمَ تفعلين ذلك في كل مرة رغم اعتراض مولاي الدائم؟ هل اشتقت لرؤية غضبه ونيل عقابه حتى وأنت على مشارف الزواج؟ كان عليك أن تكوني أكثر تعقلاً.."
قالت جمان بشيء من الملل "يكفي يا خديجة.. لقد نلت ما يكفيني من غضب أبي، ويكاد رأسي ينفجر.. هلا تركت هذا الحديث للغد؟"
قالت خديجة بغضب "كان عليك أن تتذكري ذلك قبل أن تقومي بذاك العمل المتهور.. لا أفهم مغزى ما تفعلينه مع وجود كل تلك الحدائق المحيطة بالقصر.. ماذا لو اعترضك قطاع الطرق وأنت وحيدة؟"
تنهدت جمان دون أن تستمر في مجادلة خديجة التي دمدمت حانقة.. حقاً من يستطيع فهم مشاعر فتاة قضت عمرها بين جدران هذا القصر والحدائق المحيطة به؟ حتى أدنى عبد يملكه أبوها لديه من الحرية في مغادرة القصر ما يفوق ما تملكه هي.. وبعد أيام قليلة ستنتقل لسجن آخر حيث يغبطها العبيد والجواري على كل ما تملكه من نعيم لا يكاد ينسيها الجو الخانق الذي تعيش فيه..
عادت بتفكيرها لسلمة الذي أثار تعجبها بتصرفه اليوم، فتوجهت لخديجة متسائلة "ما به سلمة اليوم؟ يبدو بضيق شديد، وقد غضب عليّ بشدة عندما أتى لإعادتي للقصر"
قالت خديجة مقطبة "طبعاً سيغضب مع خشيته من غضب مولاي عليه وعلى الحراس.. أنت لا تقدرين عواقب أفعالك أبداً"
قالت جمان بإلحاح "لست أعني هذا السبب.. في كل مرة كان سلمة هو من يجدني قبل الآخرين، لكنه لم يكن يغضب أبداً.. كان يسمح لي بالبقاء لفترة أطول خارج القصر قبل إعادتي، ولم يكن يُبدي استياءً عندما أسأله عن أي أمر.. في المرة الماضية وعدني بأن يأخذني لرؤية القرية القريبة من الفرات لفترة قصيرة، لكنه اليوم....."
هتفت خديجة "قرية؟ هذا جنون.. لو كنت أعلم أن سلمة يجاريك في حمقك ذاك لما أرسلته لاستعادتك أبداً.. ذاك الأحمق.."
ودمدمت وهي خارجة "يبدو أنني سألجأ لعقابه هو هذه المرة.."
قالت جمان باعتراض "لا يحق لك ذلك.."
فقالت لها خديجة بصرامة "اخلدي للنوم الآن.. فالوقت متأخر، وقد تركت إحدى الجاريات لتحرس جناحك فلا تفكري بالخروج الليلة من جديد.."
وغادرت مغلقة الباب خلفها.. فزفرت جمان وهي تنظر من النافذة إلى مبنى العبيد الذي بدأت أنواره تطفأ ويسوده الظلام.. لو أوقعت خديجة العقاب على سلمة، فسيكون ذلك بسببها هي.. فكيف ستمنع ذلك؟..

***********************

في صباح اليوم التالي، خرجت جمان من القصر بعد أن استبطأت قدوم خديجة إليها، فبحثت عنها بسؤال الجواري ممن تمر بهن حتى قادتها قدماها لموقع قريب من مبنى العبيد والذي نادراً ما تقترب منه بعد أن شبّت عن الطوق.. نظرت حولها بانفعال ظاهر، حتى لمحت شخصين يقفان في جانب المكان تحت ظل إحدى الأشجار التي بدأت أوراقها تتساقط مع قدوم الشتاء.. فأسرعت نحوهما لتتبيّن في أحدهما خديجة التي وقفت مقطبة الحاجبين تتحدث بصوت خفيض، بينما الآخر لم يكن إلا سلمة الذي وقف أمامها بصمت خافضاً وجهه.. فهتفت جمان وهي تسرع إليهما "خديجة.. انتظري.."
نظرا إليها بدهشة وحيرة بينما نظرت جمان لهما بقلق بالغ، فسألتها خديجة "ما الأمر؟"
اندفعت جمان تقول "أرجوك يا خديجة.. لا تعاقبي سلمة على أي شيء.. أنا المسؤولة عن كل ما يحدث عند خروجي من القصر، ولا ذنب له في هذا.."
ظلا ينظران لها بدهشة لثوانٍ، قبل أن تفاجأ جمان بخديجة تضحك بصوت عالٍ بينما علت ابتسامة متسعة شفتي سلمة وهي تنظر لهما بعدم فهم.. ثم وجدت خديجة تربت على كتفها معلقة "يا فتاتي.. سلمة أعُـدّه ابناً آخر لي، مثلك تماماً.. ولن أقوم بعقابه بقسوة كما قد تتخيلين.."
خفض سلمة وجهه بصمت وإن لاحظت جمان أنه بدا سعيداً لقولها ذاك، بينما التفتت إليه خديجة مضيفة "ولا أظنه يغضب إن قمت بتقريعه قليلاً على أفعاله الحمقاء.. أليس كذلك؟"
تنحنح سلمة قبل أن يقول "إن من يجاري مولاتي في أفعالها يُعَدّ أحمقاً بالفعل.."
احمرّ وجه جمان بحنق لما بدا لها كإهانة، ثم قالت له بغضب "أتجرؤ على قول ذلك؟ كنتُ مخطئة لأثق بك بهذه الصورة.."
ثم التفتت لخديجة مضيفة بحنق "وأنتِ خدعتني.. سأكون أكثر سروراً لو قمتِ بعقابه بشدة.."
وغادرت المكان بغضب شديد وخطوات سريعة، بينما تابعتها خديجة بحنان مغمغمة "يا لطفلتي الحمقاء.."
التفتت بعدها لسلمة فوجدته يراقب ابتعاد جمان بدوره بصمت وبنظرات لم تفـُـتها، فقالت له برفق "كيف أنت اليوم يا سلمة؟"
نظر لها سلمة بعدم فهم، ثم غمغم "بخير حال والحمدلله.."
ابتسمت له خديجة معلقة "أخبرتني جمان أنك مستاء.. أرجو ألا يدفعك استياؤك هذا لأي فعل لا تقدّر عواقبه جيداً.."
أبعد سلمة بصره عن عينيها النفاذتين وهو يقول "لست مستاءً.. فلا تقلقي.."
وغادر بصمت خافضاً رأسه.. فتنهدت خديجة وهي تراقب ابتعاده وأفكار عدة تتناهبها.. رغم هدوئه الظاهري، فهي تدرك أن انفعالات شتى تدور في أعماقه في هذه الفترة بالذات.. وهي تخشى اليوم الذي يقرر فيه إفلات تلك المشاعر التي يكبتها عن الجميع بنجاح، لكن لا يفلح بإخفائها من عينيها هي.. وتخشى مما قد يفعله عندما يفصح عن تلك المشاعر بوضوح، ولن يكون ما يفعله سارّاً أبداً..

***********************

بنت أرض الكنانه 02-02-16 08:53 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم
انا بحب ان حد بيكتب عن الفترات القديمة
بحب ان حد سد الفجوة دي
خصوصا اني ادرك مدى صعوبة الامر
مرة كتبت قصة قصيرة عن مصر الفرعونية
الامر احتاج مني قراءة طويلة ومعرفة بطبيعة الاسماء ومعانيها وطبيعة المهن ونمط الحياة
فمن الواضح دراستك الفعلية او نهمك بالتاريخ بصفة عامة
اولا هشيد بالوصف لانه بحبه جدا
جمان وتمردها
انا لا اجيد الحكم على احداث قصة حتى تصل منتصفها
فهكتفي بالاشادة انها بداية جميلة وان كلماتك ألمعية
مبارك

عالم خيال 03-02-16 09:13 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله

سعيدة برأيك يا أختي بنت أرض الكنانة وشاكرة لك كلماتك الجميلة
أنا بالفعل أحب قراءة التاريخ وأن أسبر أغواره في رواياتي، لكني لم أفعل ذلك لإلا لمرة واحدة فقط
لخشيتي من الأخطاء والنقد الذي لن يكون رحيماً بالتأكيد
فكتابة رواية خيالية ليس ككتابة رواية تاريخية، والأهم هو كتابة رواية تاريخية ليست مملة
الكتابة التاريخية أصعب مما يتخيله القراء، ومثلما قلت يحتاج لدراسة طويلة
ورغم ذلك لابد أن يعتريه بعض القصور
فالكاتب يكتب عن حقبة لا يعرفها إلا من الكتب
لذا أتمنى أن تتجاوزوا عن أي أخطاء تجدونها في مضمون الرواية من هذه الناحية
وأتمنى أن تستمتعوا بها

أتمنى بالفعل ألا تحكمي على القصة قبل مرور عدة فصول
فالأحداث الحقيقية ومسار الرواية لن يتضحا إلا بعد فصلين أو ثلاثة
وأتمنى أن تتابعيها للنهاية لو راقت لك..

عالم خيال 05-02-16 10:21 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله

آسفة لانقطاعي في الأيام الماضية
سأعوض بنشر فصلين معاً غداً بإذن الله تعالى

bluemay 06-02-16 07:03 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


يا هلا ومرحبا



عودا حميدا عزيزتي خيال ..


بداية جميلة جدا ... ومتشوقة لمعرفة ما سيأتي لاحقا ..


عامر اخشى ان يكون زيادا آخر بشكل او بآخر


سلمة اتوقع بأنه المجهول الذي ظهر في الغلاف .. وعلى ما يبدوا فإن مآسي ما ستواجه قلعة سنداد



تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 06-02-16 01:10 PM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أهلاً بك يا مايا
سعيدة بتواجدك مع روايتي هذه
والحمدلله أن البداية قد أعجبتك
توقعاتك هذه :Tgn04610: لن أقول إن كانت صحيحة أم لا لكي لا أحرق أحداث الفصول القادمة
لكنك ستعرفين الأجوبة قريباً جداً..

سأنشر الفصلين القادمين الآن بإذن الله

عالم خيال 06-02-16 01:41 PM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الثاني ~


في الأسابيع التالية، انشغلت جمان بالتحضير لزفافها القريب، بعد أن أصرّ عبدالله بن جعفر أن يقام بعد عودته من بغداد في أمر عاجل استدعى رحيله.. وقد تزايدت سعادة جمان وهي تجد اهتمام القصر منصباً عليها، وإن كانت حريتها قد قيّدت أكثر من السابق.. فغدا ممنوعاً عليها التجوال لأوقات طويلة في حدائق القصر، أو الانضمام للتجمعات النسائية التي تقام في قصر والي قلعة سنداد بين فترة وأخرى وتحضره نساء من عليّة القوم في القلعة.. لا تعلم سبب هذا، لكن خديجة كانت تحكم قبضتها عليها بشدة وتحرسها أفضل من أي حارس بالقصر.. تأففت جمان ذات مساء وهي تراقب الجواري يرتبّن ملابسها الحريرية المطرزة بعناية والمزدانة باللآلئ والجواهر مختلفة الأحجام بالإضافة لخيوط الذهب التي تخللت القماش بتطريزات منمنمة زادتها لمعة وجمالاً.. فتقوم الجواري بوضع الملابس في صناديق خشبية مزخرفة ومزينة بأشكال صدفية، ويقمن برشّها بعطر الورد الذي تضوع رائحته في الجناح الواسع.. ولما ازداد تأفف جمان، قالت إحدى الجواري ممن يماثلنها بالسن وكانت تلعب معها مرات عديدة في صغرها رغم العقاب الذي ينالها من ذلك "ما بالك يا مولاتي مستاءة؟ إن هي أيام وتنتقلي لقصر زوجك، فما الذي يحزنك؟"
قالت جمان بضيق "خديجة أضحت لا تطاق.. لقد بتّ مختنقة بحراستها لي طوال اليوم.. لا أدري بمَ سيفيدني إطاعة طلباتها العسيرة هذه"
ابتسمت الجارية قائلة "إنها تتمنى رؤيتك تولين عناية أكبر بنفسك استعداداً لزفافك.. فلم لا تطيعينها وتهتمي بنفسك كما قد تفعل أي عروس؟"
تأففت جمان من جديد وهي تنظر عبر النافذة للحدائق التي أصبحت نادراً ما تستطيع الوصول إليها، ثم تلفتت حولها متسائلة "أين خديجة؟.. لم أرها منذ الصباح.. ليس من عادتها التغيب كل هذا الوقت عن جناحي"
نظرت الجواري لبعضهن البعض بنظرة خاطفة، ثم قالت إحداهن "أبلغتني أنها متعبة قليلاً، وأوصتني أن أعتني بك حتى تخلدي للنوم"
اعترى القلق جمان وهي تقول "ما بها؟ أهناك ما يتعبها؟"
أسرعت الجارية تنفي الأمر قائلة "لا تقلقي يا مولاتي.. إنما هو صداع عارض، وهي امرأة كبيرة في العمر لا تقوى على تحمّل التعب كثيراً"
ثم ابتسمت مضيفة "أم أن قلقك من حلولي محلها في العناية بك؟ لا تحملي هماً يا مولاتي، فلن أغادر إلا بعد أن ألبي طلباتك كلها.."
ظل القلق بادياً على وجه جمان، لكنها نبذته مع دخول ربيعة الجناح، فسارعت الجواري للابتعاد فيما اعتدلت جمان في مجلسها وهي ترى الابتسامة الواسعة على وجهه قبل أن يقول "كيف حال العروس الجميلة؟"
احمرّ خدا جمان وهي تقول بابتسامة محرجة "لا داعي لهذه الأوصاف يا أبي.."
جلس قربها معلقاً "وهل جانبت الصواب؟"
نظر حوله للمعمعة التي صنعتها الجواري في جناحها أثناء عملهن، ثم قال بشيء من الضيق "ألم يكن من الأفضل البقاء بعد زواجك مع زوجك في هذا القصر؟ سيغدو خالياً بعد رحيلك، ولا أظنني سأطيق ذلك"
ابتسمت جمان معلقة "أما آن لك أن تتزوج وتأتي بمن تؤنس وحدتك في هذا القصر؟"
ضحك ربيعة قائلاً "الآن بعد أن وَخَطَ الشيب؟ لا أظن أن امرأة قد ترضى بمجالسة رجل في مثل عمري لما بقي له من العمر"
فقالت "كان عليك المبادرة بذلك منذ زمن طويل.. لكنك ماطلت طويلاً.."
تنهد ربيعة وهو يلمح القلادة في عنق جمان ذات الزمردة الخضراء، والتي نادراً ما تتخلى عنها.. فمد يده وأمسكها يتأملها معلقاً "لم يكن حزني على والدتك بعد موتها يسمح لي بالتفكير في أخرى.. بل إن مجرد رؤية هذه القلادة التي أوصت قبل موتها بأن تكون لك كان يزيدني ألماً فوق ألمي.. وبعد أن مرت السنوات انشغلت بتجارتي وبك انشغالاً تاماً أغناني عن التفكير في أي أمر آخر"
تساءلت جمان وهي تراقب ملامح أبيها "أنت كنت تحب أمي.. أليس كذلك؟"
قال ربيعة مبتسماً "أمك كانت أجمل من عرفته بين النساء، وقد أحببتها حباً كبيراً ملك عليّ جوارحي.. لكني الآن نادم.. ربما لو تزوجت لأنجبت زوجتي لك بعض الإخوة والأخوات.."
ربتت جمان على كتفه قائلة "ربما لو تزوجتَ امرأة أخرى وغدا لك أبناء آخرون لكرهتُ ذلك في صغري، لكني الآن أشعر أنك قد ظلمت نفسك بذلك"
وقف ربيعة يراقب حدائق القصر للحظات قبل أن يلتفت إلى جمان قائلاً "ربما أترك هذا القصر وأعود للسكنى في قصري الواقع في قلعة سنداد"
غمغمت جمان "لكنك تركت ذاك القصر منذ أمد بعيد"
عاد ربيعة ببصره للحدائق مجيباً "أجل.. اشتريت هذا القصر بناء على رغبة والدتك، فهي تحب الحدائق الفسيحة المحيطة به.. والسكنى في القلعة كان يتعبها فجسدها الضعيف بحاجة لمثل هذا المكان المتطرف البعيد عن البشر.. وقد راق لي هذا القصر بدوري ولم أرغب بالرحيل عنه بعد موتها.. لكن الآن، بعد أن تغادريه أنت أيضاً، سيغدو من المستحيل عليّ العيش فيه وحيداً"
لم تعلق جمان وهي تقف جواره تراقب الأشجار التي اهتزت أفرعها بفعل الريح فتتطاير بعض أوراقها التي اصفرت لتسقط صابغة الأرض بلونها الباهت.. تنهدت جمان وهي تفكر في هذا القصر الذي شهد سنين عمرها كلها.. هي متأكدة أنها ستشتاق لهذا القصر ولحدائقه الواسعة الفسيحة، لكنها لا تلوم أباها على رغبته بمغادرة القصر.. فكلما كان المكان أكبر وأكثر اتساعاً، كلما كان أكثر وحشة في صدر ساكنيه إن افتقدوا عزيزاً عليهم.. التفتت جمان إلى أبيها قائلة برجاء "أبي.. أرجو ألا تبيع هذا القصر مهما كان.. أبقِه كما هو.. فمن يدري متى نعود إليه، وهو غالٍ عليّ كما هو عليك بالتأكيد، فاحتفظ به أرجوك.."
ربت ربيعة على رأسها مجيباً "لا تقلقي يا فتاتي.. لا يمكنني التخلص من هذا القصر ففيه ذكريات لا تعوّض بالنسبة لي.. أظنني سأحتفظ به وأزوره في كل صيف.. فصيف القلعة خانق حتماً.."
فقالت جمان بحماس "إذن سآتي أنا أيضاً.. لا أعتقد أن هناك من سيمانع بذلك.."
ابتسم ربيعة معلقاً "أتعنين عامراً؟ أتمنى ألا يكون متسلطاً ويجبرك على البقاء في قصره ما بقي لك من العمر.."
نظرت له جمان وقد اعتراها القلق لهذا الخاطر، فضحك ربيعة مضيفاً "لا تقلقي.. سيحسن معاملتك بالتأكيد فهو شاب طيب، وقد أوصيته مراراً بك وقد وعدني بأنه لن يخذلني.."
ابتسمت جمان وهي تتأمل الحدائق من جديد مغمغمة "قد لا يكون التغيير سيئاً كما قد نخشى.."

***********************

في اليوم التالي، لاحظت جمان أن خديجة لم تأتِ لإيقاظها والاعتناء بها كالعادة، فتوجهت بالسؤال للجارية التي باشرت أمورها في هذا الصباح "ما بالها خديجة؟ أما زالت متعبة؟"
قالت الجارية بابتسامة وهي تتقدم من جمان حاملة ثوباً لتساعدها على ارتدائه "لا يا مولاتي.. إنها بخير حالٍ هذا اليوم.. لكنها انشغلت بترتيبات نقل متاعك ونقل الخدم الذين سيسبقونك لقصرك الجديد.. لا تقلقي لغيابها فهي في هذه الأيام لا تكاد تجد وقتاً لشرب الماء.."
صمتت جمان مقطبة، فهي غير معتادة على غياب خديجة لأكثر من عدة ساعات في اليوم.. فهذه المرأة قد لازمتها منذ مولدها، ولا تكاد تذكر يوماً مرّ عليها دون أن تبدأه برؤية وجهها وسماع صوتها الحاني..
بعد أن تناولت إفطارها، وبعد أن جالت في الحدائق لوقت طويل دون أن تسمع صوت خديجة الحانق كالعادة في الفترة الأخيرة، اتجهت لإحدى الجاريات متسائلة "أين خديجة؟ أريد أن أراها.."
قالت الجارية "لا أعلم أين هي يا مولاتي.. ربما كانت منشغلة في....."
قاطعتها جمان مقطبة "استدعيها إليّ حالاً.. أخبريها أن تترك كل ما تفعله وتأتِ إليّ.."
خفضت الجارية رأسها موافقة وأسرعت لتلبية طلبها.. بينما جلست جمان على أحد الكراسي الرخامية في الحديقة بنفاذ صبر.. ماذا دها خديجة هذا اليوم؟ أهي غاضبة منها لشيء فعلته؟.. غيابها غير معتاد أبداً، وحجة انشغالها هذه لا تقنعها.. لابد أن تواجهها وتفهم منها حقيقة ما تفعله..
بعد فترة قصيرة، عادت الجارية مرتبكة وقالت دون أن تواجه جمان بعينيها "أخبرتني خديجة أنها ستأتي لرؤيتك بعد انتصاف النهار.. فهي منشغلة حقاً ولا تستطيع الحضور.."
نهضت جمان بعصبية وقالت "أين هي؟"
قالت الجارية بتلعثم "إنها منشغلة جداً يا مولاتي.."
قالت جمان بحدة "خذيني إليها.."
نظرت الجارية حولها بقلق، ثم تنهدت قبل أن تقول "مولاتي.. لا أعتقد أن من المناسب ذهابك إليها في هذا الوقت بالذات.. وسيعاقبني مولاي بشدة لو أخذتك إليها"
تساءلت جمان بقلق "لماذا؟ ما الذي يجري هنا؟"
قالت الجارية وهي تتلفت حولها "في الحقيقة، خديجة مريضة قليلاً.. وعندما علم مولاي بذلك أمرنا أن نمنعك من الاقتراب منها.. لا يريدك أن تمرضي أنت أيضاً ولم يبقَ على زفافك الكثير.."
ازداد القلق على وجه جمان وهي تدرك أن سبب اختفاء خديجة ليس انشغالها كما يدّعون.. لابد أن يكون مرضها شديداً فلم يكن المرض العادي بقادر على منعها من مزاولة أعمالها المعتادة.. تجاهلت جمان طلب الجارية وهي تسرع الخطى نحو القصر والجارية تتبعها.. وعوضاً عن التوجه للأقسام العلوية منه، اتخذت جمان طريقها نحو قسمه الخلفي حيث يقع المطبخ الكبير وجناح جانبي خاص بالجواري.. اعترضت الجارية عندما أدركت مراد جمان قائلة "لا تذهبي إليها يا مولاتي.. سيغضب مولاي بشدة لذلك.."
فقالت جمان بسرعة "ارحلي واتركيني وشأني.. لن يعرف أبي أنك أنت من أخبرني بمرض خديجة.."
وأسرعت تجتاز الممرات الضيقة التي تؤدي للغرف الصغيرة الخاصة ببعض الجواري ممن كن ذوات شأن أعلى من البقية، واجتازت بعض الغرف الكبيرة التي تضمّ عدداً أكبر من الجواري الأصغر سناً وشأناً.. وفي نهاية أحد الممرات باب وحيد، كانت تعرف يقيناً أنها غرفة خديجة فلطالما اختبأت فيها عندما كانت صغيرة.. وقبل أن تصل للغرفة، وجدت بعض الجواري ممن أدركن قدومها يقفن في وجهها وإحداهن تقول "مولاتي.. ابتعدي عن هذا المكان فهو ليس آمناً.."
سألتهن جمان مقطبة "ما بها خديجة حقاً؟.. لمَ يمنعني أبي من القدوم إليها لمجرد كونها مريضة؟"
قالت الجارية مبتسمة "مولاتي.. إن هي أيام ويحل موعد زفافك.. لا يرغب مولاي بتأجيله بسبب مرضك، ولا يتمنى رؤيتك مريضة بأي حال"
قالت جمان بإلحاح "أنت تكذبين.. لم يمنعني أبي من زيارة خديجة في السابق مهما كان مرضها.. هذا ليس عذراً.."
وتقدمت آمرة "ابتعدن عن طريقي.."
حاولن منعها، لكنها أصرّت على دخول الغرفة وأبعدتهن عنها بحدة.. ولما فتحت الباب ودلفت للغرفة المظلمة إلا من نور ضعيف يتسلل من نافذتها الصغيرة، كانت تستطيع أن ترى أن خديجة بأسوأ حال.. منهكة شاحبة بشفتين جافتين ووجه ملتهب حرارة وجسد يرجف بوضوح، وإلى جوار سريرها وضع إناء للقيء، ولم تكن رائحة المكان سارّة أبداً.. اتسعت عينا خديجة وهي ترى جمان تقف عند رأسها، فنهضت بعسر شديد وهي تقول "ما الذي جاء بك هنا يا فتاتي.. غادري الغرفة أرجوك"
تلمست جمان جبين خديجة لتجده مشتعلاً بحرارة لم تشعر بمثلها من قبل، فقالت بقلق "ما بك يا خديجة؟ أهي حمى؟"
دفعت خديجة يد جمان بعيداً وهي تقطب قائلة "أرجوك ارحلي.. لا تجعلي مولاي يغضب لمجيئك إلى هنا.."
قالت جمان باعتراض "لن أرحل بالطبع.. هل تناولت ما يقيم أودك؟ علينا بإخراجك من هذه الغرفة الخانقة.."
فقالت خديجة بحدة "أخبرتك أن تغادري.. لا تجعلي الأمور أكثر سوءاً من هذا يا جمان.."
ونادت إحدى الجواري بعصبية قائلة "أخرجوها من هنا.. لا أريدها أن تبقى في هذه الغرفة.."
نظرت لها جمان باستنكار وعدم فهم، بينما جذبنها بعض الجواري بقوة لإخراجها من الغرفة وإغلاق الباب خلفها.. فوقفت جمان خارج الغرفة وهي تصيح بحدة "لم تفعلين هذا يا خديجة؟ أنا لا أفهم شيئاً.."
قالت لها إحدى الجواري بتوتر "مولاتي، لا تتعبي خديجة فهي بأسوأ حال.. مولاي أمرنا أن نبعدك عنها مهما كان الأمر، ومخالفة أمره سيوقعنا، ويوقع خديجة، في العقاب.. فهل هذا ما تريدينه؟"
نظرت لهن جمان بحيرة شديدة وقلق أشد، ثم استدارت بخطوات سريعة خارجة من جناح الجواري.. بينما تنهدت خديجة وهي تعود للاستلقاء على سريرها بأنين للآلام الحادة المنتشرة في أنحاء جسمها.. وغمغمت "يا إلهي.. أرجو أن تمرّ هذه الأزمة على خير.."

***********************

اتجهت جمان من فورها لمجلس أبيها الذي هشّ فور رؤيتها وهو يقول "مرحباً بابنتي الجميلة"
قالت جمان بحدة لم تملكها وهي تقترب منه"لماذا أمرت الجواري بمنعي من دخول غرفة خديجة والاطمئنان عليها؟"
تنهد ربيعة وهو يغلق كتاباً بيده ويضعه جانباً، وقال "لأنها مريضة جداً، وأخشى أن تنتقل لك العدوى في هذا الوقت.. أنت على مشارف زفاف لا يمكننا تأجيله.. وليس الوقت ملائماً لمثل هذا المرض.."
قالت بحنق "هذه حجة لا أساس لها من الصحة.. أنت تحاول إبعادي عن خديجة بأي طريقة.. لماذا؟ إن هي إلا حمّى ستزول بسرعة.. فلمَ تمنعني من الاطمئنان عليها ولو قليلاً؟.."
قال ربيعة بهدوء "ليست مجرد حمّى يا جمان.. إنها تقيء طوال الوقت.. هذا لا يحدث من مجرد حمّى.."
قالت جمان باعتراض "بل الحمّى الشديدة قد تفعل ذلك.."
فقال ربيعة "وما سبب هذه الحمّى الشديدة؟.. أتعرفين ذلك؟"
فتحت جمان فمها لتجيب، لكنه قاطعها قائلاً "ليست مصابة بالزكام، ومع ذلك الحمّى عالية جداً.. هي مريضة بمرض ما، وأخشى من هذا المرض الذي لا نعرفه حتى الآن.."
قالت جمان بضيق "لكن من المحزن ترك خديجة بهذه الحال.."
قال ربيعة "لا تقلقي.. الجواري سيعتنين بها بأفضل مما قد تفعلين أنت.. لنأمل أن تصبح أفضل في وقت قريب.."
صمتت جمان بمضض.. هناك الكثير مما عليها فعله هذه الأيام بسبب زفافها القريب، لكن ما حدث لخديجة صرف تفكيرها عن كل هذا وهي تنشغل بالتفكير بها..
بعد يوم، وبينما كانت جمان جالسة مع ربيعة في جانب من الحديقة وهو يحدثها عن بعض ما سمعه من أخبار القلعة، رأيا إحدى الجواري تقترب منهما راكضة والقلق يبدو جليّاً على وجهها.. ولما وصلت إليهما أحنت رأسها وهي تقول "مولاي.. لقد ذهبت للاطمئنان على خديجة، وفوجئت برؤية طفح جلدي ينتشر في وجهها ويديها.."
نظرت جمان لأبيها بقلق وهو يسأل الجارية "أمازالت حرارة جسدها مرتفعة؟"
أجابت الجارية "بل هي أفضل حالاً اليوم.. لكن الطفح انتشر في وجهها بسرعة لم نتوقعها"
تساءلت جمان "ما الذي يعنيه هذا؟"
تنهد ربيعة وهو يقول "لا أعلم حقاً.. لكني سأستدعي أحد المعالجين من القلعة.. قد يعرف ما بها.."
ونظر إلى الجارية قائلاً "استدعِ لي مَيْسَرَة.."
أسرعت الجارية لتنفيذ أمره بينما تساءلت جمان بقلق "لم لا ترسل سلمة؟ سيكون أسرع بتنفيذ أمرك"
قال ربيعة "سلمة أرسلته بالفعل لإنجاز أمر لي في القلعة.. لا تقلقي، لن يتأخر ميسرة طويلاً"
غمغمت جمان بتوتر "أتظن أن هذا المعالج قد يفلح في علاجها؟"
غمغم ربيعة "لنأمل ذلك يا ابنتي.."
صمتت جمان رغم أنها تودّ طرح الكثير من الأسئلة لعلها تعثر على جواب يخفف من قلقها.. لكن لم يبدُ أن أباها يملك الأجوبة التي تطمح إليها..

***********************

سار سلمة عبر طريق من طرقات القلعة في حي من أحيائها بصمت وهو يتلفت حوله.. كان ذلك الحيّ ذا طرقات أضيق من المعتاد ووجوه ساكنيه كالحة ذات نظرات حادة وعبوس ظاهر.. لكنه لم يعبأ بذلك وهو يتقدم نحو بيت متوسط الحجم ذو عدد من النوافذ ينبعث منها صخب ظاهر رغم أن الوقت لم يزل في منتصف النهار.. عبر سلمة من الباب المزخرف رغم أنه بدا قديماً مهترئاً، ونظر عبره لصحن البيت الواسع الذي صفّت فيه طاولات دائرية في عدد من جهاته وحولها أرائك يتكئ عليها عدد من الرجال بعضهم بدا منعّماً بملابس فاخرة، والبعض الآخر بدا غريباً عن هذه البلاد بملابسه المختلفة وملامحه التي كانت مزيجاً من أعراق شتى.. لم يعبأ سلمة برائحة الخمر التي تخنق الأنفاس، ولا بالضحكات العالية والصخب الدائر بين الرجال ويحيط بهم مجموعة من النسوة اللواتي كان أغلبهن من الجواري، وقد تنافسن على ارتداء ما يلفت الأنظار من الملابس المطرزة والقلنسوات ذات اللآلئ.. بينما جلست إحداهن في جانب المكان ضامّة عوداً لصدرها وهي تعبث بأوتاره وتتغنى بأبيات تتغزل في الخمر وعشق ذوات القد المياس..
سار سلمة متجاوز عدداً من الطاولات نحو رجل يبدو من ملابسه وملامحه أنه يهودي.. فقد تم فرض ملابس معينة على أهل الذمة في العالم الإسلامي من يهود ونصارى، ومنعهم من التشبه بلباس العرب.. لذلك التزم اليهود بملابس لونها رمادي يتوسطها زنار ضعيف وطيلسان عسلي على الرأس بدل العمامة التي يتخذها العرب.. كان الرجل يجلس قرب إحدى الطاولات وقد فرد مجموعة من الأوراق أمامه وهو يدقق البصر فيها، وخلافاً للآخرين، لم تكن هناك أي أوانٍ للخمر ولا أي نسوة قربه أو أي ندماء من الرجال.. بقي وحيداً يدفن عيناه في الأوراق أمامه حتى لاحظ ظل سلمة الذي سقط على الأوراق، ولما رفع رأسه حياه سلمة وهو يستخرج من ثيابه صرة من المال.. فوضعها أمامه على الطاولة قائلاً "مولاي ربيعة بن حباب يرسل لك تحياته.. بعثني بهذا المال كدفعة أولية للدين الذي لك عليه.. وهو يعدك بمثله بعد أسبوعان أو ثلاثة..”
استخرج الرجل الأموال وبدأ عدها بدقة وتأنٍ بينما ظل سلمة واقفاً بانتظاره دون تذمر بعد أن تجاهله الرجل ولم يدعه للجلوس.. سمع سلمة الصخب يتزايد من خلفه وضحكات رجل عالية تغطي على ما سواها من أصوات بحيث التفت سلمة للصوت تلقائياً.. وعند طاولة بعيدة، جلس حولها عدد من الرجال وعدد أكبر من الغانيات، رأى سلمة بينهم عامر ابن قائد جيوش القلعة وقد تخلى عن وقاره المعهود وأخذ يضحك ملء شدقيه بينما التصقت به إحدى الغانيات وهي تضحك بدورها بسرور ظاهر..
عبس سلمة وهو يراقب هذا المنظر رغماً عنه، وتراءت له ابتسامة جمان الخجول عندما كان عامر يحدثها...... شتان بين المنظرين.. وشتان بين هذا العالم وذاك..
بقي سلمة وقتاً طويلاً يراقب ما يجري حتى سمع الرجل القريب يناديه بحدة، فاستدار سلمة ليجد الرجل يقول له بحنق "ألم تسمع ما أقوله لك أيها العبد؟ أتظنني أملك اليوم بطوله؟"
غمغم سلمة معتذراً والرجل يزفر بحدة، ثم قال له "قل لمولاك إن هذا المال لا يكفي.. أريد فوق هذا المبلغ مائة دينار، وإلا ضاعفت الدين ضعفاً كل أسبوع يمر.. أفهمت؟"
رغم ضيق سلمة من هذا اليهودي، إلا أنه لم يعترض وهو يعده بأن يبلغ مولاه تلك الرسالة، ثم استدار مغادراً وهو يلقي بنظرة طويلة على طاولة عامر اللاهي قبل أن يزفر ويغادر المكان بصمت..
وبعد ساعة أو ساعتين، خرج عامر من باب الحانة وهو يتغنى ببعض الأشعار الماجنة ويلوح بصرة مليئة بالدنانير في يده.. لكنه توقف فجأة مع مرأى سلمة الذي كان يقف في جانب المكان بصمت وإن ظهر العبوس جلياً على ملامحه.. تعرف عليه عامر على الفور فقد رآه عدة مرات مع ربيعة أو بمفرده مُرسلاً من سيده إلى عبدالله بن جعفر.. فقال بشيء من السخرية "هل أرسلك مولاك تتجسس عليّ لتشهد على حسن سلوكي أيها العبد؟"
اقترب سلمة من عامر بخطوات ثابتة وهو يقول بهدوء ظاهر "لست بحاجة لأن يرسلني أحد، فالمجون ظاهر على وجهك منذ رأيتك للمرة الأولى.."
فقال عامر باستخفاف "إذاً؟.. هل ستبلغه بما رأيت؟"
استمر سلمة في اقترابه حتى وقف في مواجهة عامر وقال "ألا تخشى أن أفعل؟"
ضحك عامر بسخرية وقال "إن كان مولاك سيستمع لمقولة عبد ويكذب قولي فهو لا يستحق أن أصاهره حقاً.. فقل ما بدا لك..”
شعر سلمة برغبة ملحّة في لكم وجه عامر ليزيل تلك البسمة الساخرة من شفتيه، لكن مثل ذلك الفعل سيغضب مولاه منه بشدة وهو لا يطيق ذلك.. فقال سلمة مقطباً "ما الذي يحملك على التردد على هذه الأماكن وعرسك قريب؟ لِمَ ترغب بالزواج بابنة مولاي حقاً؟"
مال عامر نحوه وقال بهزء "لا شأن لك أيها العبد..”
اختنق سلمة برائحة الخمر الكريهة من أنفاس عامر الذي استدار بعدها مضيفاً بضحكة "لم لا تعود لمولاك بسرعة قبل أن يغضب منك؟.. فليس للعبد أن يتسكع في مثل هذه الأماكن..”
ظل سلمة واقفاً وهو يشد قبضة يديه بقوة ويضغط على أسنانه بغضب ظاهر، ثم غمغم لنفسه بحنق "تباً لك ولأمثالك..”
لكنه لم يكن يجرؤ على مخاطبة مولاه في هذا الأمر، فلن يعيره أي اهتمام بتاتاً مقابل قول عامر.. ففي هذا العصر الغريب، لم يكن شرب الخمر جهاراً والتردد على مثل تلك الحانات يقابل بأي استنكار من العامة.. تنهد سلمة وهو يغادر بدوره بصمت.. ترى، ما الذي ستحمله لك الأيام في كنف عامر يا جمان؟..

***********************

جلست جمان بتوتر وهي تهز قدمها في مجلس أبيها بانتظار ما سيسفر عنه فحص الرجل الذي أحضره ميسرة لخديجة.. فقال ربيعة وهو يتصفح أحد كتبه "أنت تصيبينني بالتوتر بكل هذا القلق الذي تبدينه.."
قالت جمان "كيف يمكنك أن تكون هادئاً هكذا؟ أشعر أنني سألتهم أصابعي لشدة التوتر.."
ابتسم ربيعة مجيباً "لا تلتهمي أصابعك يا عزيزتي فزفافك قريب.. لا نريد أن نفسده لأي سبب.."
لم تعلق جمان وهي تشعر أن أباها يعلق أهمية كبرى على زفافها، بينما ما عادت هي تراه بهذه الأهمية.. سمعت في تلك اللحظة طرقات على الباب فأسرعت تلفّ وشاحها على رأسها مخفية خصلات شعرها.. وبعد أن سمح ربيعة للطارق بالدخول، فتح الباب ودخل منه ميسرة، وهو شاب مملوك لأبيها ضئيل الجسد نحيف الوجه لا يتجاوز العشرين من العمر بكثير.. فقال ميسرة فور دخوله "مولاي.. الرجل الذي أحضرته معي من القلعة يريد الحديث معك.."
فأشار له ربيعة بإحضاره، ثم التفت إلى جمان قائلاً "عودي لجناحك يا ابنتي، وسأخبرك بما أعلمه عن خديجة"
نهضت جمان واقفة وقالت برجاء "بل سأبقى في الغرفة المجاورة.. أريد أن أسمع ما يقوله هذا المعالج بنفسي.."
لم يظهر ربيعة اعتراضه على الأمر، فأسرعت جمان تدلف لغرفة ملحقة بمجلس أبيها، وأبقت الباب موارباً وهي تقف قربه بتوتر.. وبعد قليل، سمعت صوت رجل يلقي السلام على أبيها والذي ردّ عليه السلام بأحسن منه وطلب منه الجلوس.. فجلس الرجل قريباً وقال "لقد عاينت المريضة وساءني ما رأيته.. لا أدري لمَ أبقيتموها هنا طوال هذا الوقت.."
تساءل ربيعة بدهشة "ماذا تعني؟ ولم لا نبقيها هنا؟"
قال الرجل بأسف "لأن مرضها هذا معدٍ وقاتل.. قد يصيب من حولها بالعدوى لو لم تكونوا حذرين.."
سأله ربيعة بقلق "هل عرفت بأي مرض أصيبت؟"
مسّد الرجل لحيته الرفيعة وهو يقول "لست متأكداً بعد، لكن أغلب الظن أنها مصابة بالجدري.."
نظر له ربيعة بصدمة بينما صعقت جمان لما تسمعه وتوترها يزداد بشدة.. ولما سمعت أباها يقول باستنكار "أأنت متأكد؟ ألا يمكن أن يكون مرضاً آخر؟ الحصبة مثلاً؟"
قال الرجل هازاً كتفيه "لا نعلم بعد.. ربما بعد يوم أو اثنان سنتأكد من الأمر.. لو أصبح الطفح على جلدها أكثر قسوة ونبتت لها رؤوس فهذا بلا شك هو الجدري.."
ظلت جمان تستمع له بصدمة، فهي تعلم أن هذا المرض خطير وقد يكون قاتلاً.. ومن نجا منه أصيب بعاهات لا تحصى.. بينما أضاف الرجل "لقد نصحت الجواري بعدد من العلاجات الملائمة، وإن كنت أرى أن إبقاءها في هذا القصر وسط هذا العدد الكبير من الناس خطير.. ربما من الأفضل عزلها خارج القصر لكيلا تصيب العدوى شخصاً آخر.. عليكم بتكحيلها بالأثمد والكافور لئلا يثور الطفح في عينيها فيعميها.. وإذا ازداد الطفح ونضج دخّنوها بورق الآس أو ورق الزيتون فإنه يجففه.. واسقوها عدساً مقشراً و..........."
لم تستمع جمان لكلمة مما يقوله الرجل وهي تشعر بدوار في رأسها.. لم تكن تظن أن مرضها خطير يجب الحذر منه.. كانت تعتقد أنه مرض عارض سيزول وتعود خديجة كما كانت من قبل.. لكن الآن، ما الذي سيحدث لها؟.. بدأت الدموع تترقرق في عينيها وهي تحاول ألا تظهر بكاءها.. لكن الألم الذي اعتصر قلبها لم يكن شيئاً قليلاً..
بعد أن غادر الرجل، نادى ربيعة جمان بصوت هادئ.. حاولت جمان تمالك رجفتها وهي تخرج لرؤية أبيها الذي كان مطرقاً بصمت.. ولما رفع بصره إليها بنظرة فهمتها على الفور، قالت متوسلة "أرجوك يا أبي.. لا تبعد خديجة.. دعني أبقَ عندها وأطمئن عليها.. أنا قلقة كثيراً من مرضها هذا.."
فقال ربيعة بحزم "لا، وهذا أمر قاطع"
قالت جمان متضرعة "ولكنها......"
قاطعها ربيعة بحدة "أنت تدركين الآن أنها مصابة بمرض خطير.. لا أريد أن تصيبك عدوى مرض لا علاج له، ولا أريد خسرانك أبداً يا جمان"
خفضت جمان وجهها بحزن وهي تقول "وماذا عن خديجة؟ هل نتركها تلقى حتفها دون علاج؟"
تنهد ربيعة مجيباً "أدرك مدى خوفك عليها، ولست بأقل قلقاً منك.. لكن هذا قضاء الله، ولا نملك له رداً.. فما الذي بيدنا فعله؟"
قالت جمان باعتراض "لكن كيف أصيبت بهذا المرض من بيننا جميعاً؟"
وأضافت بصوت مرتجف "لماذا هي دون البقية؟"
قال ربيعة متنهداً "أنت تعلمين أن خديجة تذهب للقلعة بين يوم وآخر للعناية بأخت لها هناك.. أخبرتني إحدى الجواري أن تلك الأخت كانت مريضة، لكن خديجة قد أخفت عني ذلك لكي تتمكن من العناية بأختها متى ما سنحت لها الفرصة.. كانت تخشى أن أمنعها من الذهاب إليها، وهو ما كنت سأفعله لو علمتُ أن مرضها خطير.. وهذا ما جَنَته من خداعنا.."
صمتت جمان بحزن شديد وهي تشعر أنها ستفقد الأم التي لم تعرف غيرها، فربت ربيعة على كتفها قائلاً "جمان.. أنا راحل غداً في إحدى القوافل المتجهة إلى بغداد ولن أعود قبل مضيّ أسبوعين.. أطيعي ما طلبته منك ولا تقتربي من خديجة.. لا أريد أن تهلكي بمثل هذا المرض.. أنت صغيرة وأريد أن أشهد زواجك وأرى أحفادي بإذن الله"
حاولت جمان ألا تظهر اعتراضها وهي تهز رأسها إيجاباً، فأضاف ربيعة بصرامة "مَن في القصر جميعاً يعلمون بأنك محظورة من الاقتراب من غرفتها.. إن خالفت أمري فسيصلني خبر ذلك، وستلقين عقاباً على هذا.. أفهمت؟"
عادت تهز رأسها إيجاباً.. لكن عقلها لم يزل مشغولاً بخديجة وما أضحت عليه.. فأين السبيل لعلاجها وإنقاذها من براثن مرض مميت كهذا؟..

***********************

لم تكن الشمس قد أشرقت في اليوم التالي عندما كان ربيعة يمتطي جواده القوي ذو اللون الأشهب مرتدياً رداءً صوفياً غليظاً تحسباً للبرد، وخلفه عدد من العبيد المدربين على القتال لحماية مولاهم متى احتاج لذلك.. وفور أن استقر ربيعة على السرج التفت لسلمة الذي كان يقف قريباً منه ممسكاً بلجام جواده، فتناول ربيعة اللجام وقال "أوصيك بقصري يا سلمة.. قد كـَـثـُرَ قطاع الطرق في هذه الأنحاء، وأخشى أن يستغلوا غيابنا للهجوم على القصر وسلب ما فيه.."
فقال سلمة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا ومن بقي من الحراس سنبقى ساهرين حتى عودتك إلينا سالماً بإذن الله.."
هز ربيعة رأسه، ثم قال مقطباً "هناك أمر آخر.. لقد منعت جمان من الاقتراب من غرفة خديجة.. عليك أن تتأكد من أنها لن تخالف أمري هذا.. أبلغ جميع الجواري بذلك وليراقبنها جيداً.."
قال سلمة "لا تقلق يا مولاي.. لن يحدث ذلك أبداً.."
فجذب ربيعة اللجام ولكز الجواد ليبدأ مسيره والنور قد صبغ الأفق بلون باهت لا يكاد ينير الأرض تحته.. بينما بقي سلمة يراقب القافلة الصغيرة التي انطلقت نحو القلعة لتنضمّ للقافلة الكبيرة والتي تحمل بضائع خاصة بمولاه، ومن ثم تبدأ سيرها بعد طلوع الشمس مباشرة نحو بغداد مروراً بالكوفة والحِلـّة.. في رحلة قد تستغرق أسبوعين أو أكثر ذهاباً وإياباً..
تنهد سلمة وهو يستدير ويتجه نحو القصر القريب.. ولما رفع بصره للنافذة في الأعلى والمقابلة للساحة، رأى ظلاً يغادر موقعه قربها، فأدرك أن جمان كانت تراقب رحيل أبيها.. لابد أنها تعيسة جداً بسبب مرض خديجة.. ويخشى أنها لن تتردد في مخالفة أمر أبيها مادامت الفرصة سانحة لذلك..
بحث سلمة ببصره عن إحدى جواري القصر، فوجد إحداهن تحمل صناديق في يدها متجهة لجانب آخر منه.. ولما ناداها توقفت والتفتت إليه لتشيع ابتسامة على وجهها فور رؤيته قائلة "كيف حالك يا سلمة؟"
تجاهل سلمة سؤالها وهو يقول "هل رأيتِ خديجة هذا اليوم؟ كيف أصبحت؟"
هزت الجارية كتفيها قائلة "كما هي.. لا يبدو أنها بسبيلها للتحسن قريباً.."
قطب بضيق من عدم اكتراثها الواضح وهو يقول "أريدك أن تجعلي إحدى الجواري تحرس غرفتها طوال الوقت.. تأكدي أن مولاتي لن تقترب منها بأي حال وإلا كان العقاب من نصيبكن.."
قطبت الجارية قائلة "ولم العقاب لنا نحن؟ أليس من المفترض بمدللتكم تلك أن تطيع ما يطلب منها ولو لمرة واحدة؟"
نظر لها سلمة باستنكار وقال "وما شأنك أنت؟ كل ما عليك فعله هو إطاعة الأوامر بصمت.."
هزت كتفيها من جديد قائلة "لست أدري لم تحرصون على إبعادها عن خديجة.. إنها كبيرة بما يكفي لكي تدرك مخاطر ذلك بنفسها"
قطب سلمة وقال بصرامة "احفظي لسانك ونفذي ما طلبته منك.. لو تطاولت بالحديث عنها أمامي لأبلغت مولاي بذلك لكي تنالي من العقاب ما يلزمك حدودك"
ورحل دون أن يلتفت إليها مجدداً بينما راقبته هي بامتعاض، قبل أن تغادر مدمدمة "لا أدري لم يحيطونها بكل هذه الحماية وكأنها طفلة صغيرة.. حتى أنت يا سلمة؟"
وتنهدت مضيفة "مع كل النعيم الذي تعيش فيه، تجد فوق ذلك من الرعاية ما لا نحصل على جزء منه.. هذا غير عادل بالمرة.."
في ذلك اليوم، ورغم أن سلمة قد أمضى أغلب الأوقات قريباً من القصر يسأل عن خديجة وعما جرى لها في مرضها، إلا أنه لم يرَ جمان أبداً.. انتابه شيء من التوتر مع مضيّ النهار وهو يجلس على أحد الكراسي الرخامية ويهز قدمه بشيء من العصبية.. وبعد وقت قصير لم يملك أن ينهض ويعود للقصر مستدعياً إحدى الجاريات ممن يقمن على خدمة جمان، فسأل الجارية "كيف هي مولاتي اليوم؟ هل حاولت الاقتراب من غرفة خديجة؟"
قالت الجارية زافرة "حاولت ذلك عدة مرات، لكننا منعناها من دخول غرفتها وأقفلناها بالمفتاح.. لقد أتعبتنا كثيراً اليوم، وبعد أن تفشل تعود لتنزوي في جناحها وترفض الخروج.. يبدو أنها مصدومة بما جرى لخديجة"
فقال سلمة "اهتمي بها وتأكدي أنها لن تغافلكن وتقترب من غرفة خديجة.."
هزت الجارية رأسها، وغادرت وهي تزفر من جديد مبدية ضيقها بوضوح.. بينما نظر سلمة لنافذة جناح جمان بصمت أملاً برؤيتها قربها، لكن خاب أمله دون أن يلمحها.. فاستدار وعاد لموقعه السابق تتناهبه أفكار عدة.. هل يطلب رؤيتها؟ لكن بأي حجة؟.. لابد أنها حزينة وقلقة، ويتمنى لو يستطيع الحديث معها والتهوين من قلقها قليلاً.. لكنها قد تصاب بالضيق لو حاول الحديث معها عن هذا الأمر.. فما الذي يمكنه أن يفعله؟..

***********************

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، سار سلمة نحو زاوية معينة من حدائق القصر، غير مبالٍ بالضباب المنتشر في ذلك الوقت المبكر من النهار، وبالبرودة التي لم تُزلها الشمس بعد.. تجاوز عدة شجيرات ومن خلفهن ساحة حجرية صغيرة احتلتها أعداد من الحمام سرعان ما طارت مع اقترابه من الموقع، ومن خلف الساحة مظلة خشبية زينت بزخارف جميلة لشجيرات مزهرة.. وتحت المظلة بضع كراسٍ من رخام أبيض بارد الملمس، وعلى أحد تلك الكراسي استطاع أن يرى ذلك الظل الساكن لصاحبته التي ارتدت معطفاً بلون الكهرمان متصلاً بغطاء على رأسها ألقى بظلاله على وجهها.. لم يتمكن من رؤية ملامحها بوضوح وإن كان يدرك أنها ليست إلا جمان، وقد اعتادت الجلوس في هذا الموقع الهادئ منذ فترة لتقضي فيه أغلب ساعات الصباح.. وقد اعتاد هو أن يمرّ بهذا الموقع أيضاً في بعض أوقات الصباح ليراها، ويطمئن عليها..
شعر سلمة بالراحة لرؤيتها، بعد أن غابت عن نظره طوال اليوم السابق، فقد كان يبغي الاطمئنان عليها مباشرة عوضاً عن سؤال الجواري عنها في كل مرة.. اقترب حتى وقف قريباً من موقعها وهو يقول "ما الأمر هذا اليوم؟ أنت هنا أبكر من المعتاد.."
خفضت وجهها أكثر وهو يراها تمسح خديها، فتساءل مقطباً "ما الذي جرى؟ أأنت تبكين؟"
لم ترفع جمان بصرها إليه وهي تهمس بصوت مرتجف "ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
أجاب "لقد ذهبتُ للاطمئنان على خديجة فوجدتها قلقة بشأنك وطلبت مني أن أبحث عنك.. يبدو أنها تخشى أن تحاولي الخروج من القصر بعد أن أخبرتكِ الجواري أن الطفح الجلدي في جسمها قد غدا أسوأ من السابق، لكن الحمدلله أنك لم تفعلي.."
تهدج صوت جمان وهي تقول "بم سيفيدني خروجي في هذه الحالة؟ خديجة مريضة جداً، وأنا لا أملك حيلة في الأمر.."
وأخفت وجهها بين يديها هامسة بصوت باكٍ "ما الذي سأفعله لو أصابها مكروه؟.. رباه.. لا يمكنني تصور هذا أبداً.."
فقال سلمة "لكنها ستغدو بخير.. لم هذا القلق؟"
هزت رأسها معلقة بحزن "لا تحاول الكذب عليّ.. لو لم يكن مرضها مميتاً لما أصرّ الجميع على إبعادي عنها، بل إنها مجبرة على ملازمة غرفتها ولا يدخل عليها أحد تقريباً.."
حارَ سلمة فيما قد يقوله لطمأنتها، فلزم الصمت وهو يراها تبكي من جديد هامسة "لو أصابها مكروه سأموت.. حقاً لن أستطيع العيش بعدها أبداً.."
صدمه ما قالته وشعر بالحنق ليأسها ذلك، فقال بشيء من الحدة "إنما هي مربيتك، لا أكثر من ذلك.. والموت قضاء لا يمكن منعه.. فكيف تتمنين الموت بهذه السهولة؟"
رفعت بصرها نحوه متفاجئة لانفعاله، وبالفعل كان ينظر لها بشيء من الغضب كسا وجهه بحمرة خفيفة.. فقالت جمان بألم "أنت قاسٍ.. ألا يهمك أمرها؟.. لكني أهتم، وأدرك أنني ضائعة تماماً بدونها.."
ثم دفنت وجهها بين يديها وهي تقول بغضب "ارحل.. لم أتخيلك قاسياً لهذه الدرجة.. غادر فلا أريد بقاءك هنا أبداً.."
وسالت دموعها بحزن شديد محاولة عدم التفكير فيما قد يجري لخديجة إن اشتدّ عليها المرض.. لا يمكن أن تكون هذه نهايتها حقاً.. حاولت إقناع نفسها بذلك مراراً لكن دموعها تسيل على خديها كلما فكرت بالأمر أكثر.. لم تكن تتوقع أن تحلّ بهم هذه المصيبة في هذا الوقت بالذات.. والأدهى أنها تجد الجميع مستسلمين لهذا الأمر بلا مبالاة كبيرة..
ولما تمالكت نفسها بعد مدة من الوقت ورفعت وجهها وهي تمسحه بيديها، لاحظت أن سلمة كان جالساً في جانب المكان بصمت وهو يراقبها.. عندها قالت بحدة "لمَ لمْ ترحل عندما طلبت منك ذلك؟"
علت شفتيه ابتسامة خافتة وهو يقول "أنتِ لم ترحلي كلما طلبت منك ذلك عندما كنت أنزوي وحيداً لأبكي.. أنسيتِ؟"
قالت وهي تشيح بوجهها "كنتُ طفلة في ذلك الوقت.. لكنك لستَ كذلك الآن.."
نهض سلمة قائلاً "هناك طبيب ماهر سمعت به يسكن الكوفة.. لن أستغرق وقتاً طويلاً في الذهاب إليه، وأرجو أن يوافق على الحضور معي.. ربما يتمكن هذا الطبيب من علاجها فيما فشل المعالجون في القلعة بذلك.."
نظرت له بأمل قائلة "أتظن ذلك؟"
هز كتفيه قائلاً "سأحاول.. المهم الآن أن تكفـّي عن البكاء كالأطفال، ولا تقتربي من غرفة خديجة مهما كان الأمر.. لا أريد أن تصابي بالعدوى أنت أيضاً.."
فقالت جمان بلهفة "حاول الإسراع بالعودة.. لا أريد أن يشتدّ عليها المرض أكثر من ذلك.."
هز رأسه بوعد صامت، ثم استدار مغادراً وهي تنظر له بأمل.. أيمكن أن يفلح في إنقاذ حياة خديجة؟ ستكون ممتنة له أبد الدهر لو فعل ذلك.. فهي لا تتخيل حياتها بدون تلك المرأة التي استحقت عرش الأمومة بنجاح تام.. كيف لها أن تهنأ بحياتها دون أن تستيقظ على صوتها الحاني، وتنام قريرة العين دون أن تشعر بيدها تمسح على شعرها بعطف بالغ؟..

***********************

استغرق سلمة في رحلة الذهاب والعودة أطول مما تمنى، فلم يتمكن من العودة إلا بعد أن مالت الشمس لمغيبها في اليوم التالي.. وعندما أبلغتها إحدى الجواري بعودته، أسرعت جمان إلى نافذة جناحها فنظرت عبرها لترى سلمة يقف قرب جواده المنهك قريباً من باب القصر، ولم ترَ أحداً معه.. فقطبت وهي تسرع خارجة من جناحها مدمدمة "ما الذي يقصده سلمة بهذا؟"
وفور أن وصلت لباب القصر ورأت سلمة ينتظر وصولها رغم التعب البادي على وجهه، حتى قالت مقطبة "أين ذاك الطبيب الذي وعدتني بإحضاره؟"
أجاب سلمة بهدوء "رفض المجيء معي.."
نظرت له جمان باستنكار، ثم قالت بحدة "ماذا تعني؟ كيف يرفض هذا الطلب ويمتنع عن معالجة شخص مريض؟ ألم تقل إنه ماهر بعمله؟ ما كان عليه أن يرفض القدوم"
قال سلمة "عندما أخبرته بمرض خديجة وبما أصبح عليه حالها رفض القدوم وأخبرني أن ذلك أمر لا فائدة منه.."
تزايد استنكارها مما تسمعه وسلمة يضيف "وطلب مني إبعادها عن القصر لئلا تنقل العدوى لمن حولها.. فهذا المرض لا شفاء منه متى ما وصل لهذه المرحلة.."
صاحت جمان بحنق "مستحيل.. من هو ليقرر أمراً كهذا؟ إنه أحمق لا يفقه ما يقوله.."
قال سلمة محاولاً تهدئتها "لا داعي لكل هذا الانفعال.. لقد أخبرتك بما أبلغني به، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن ننفذه على الفور.. فلننتظر عودة مولاي وهو سيقرر ما علينا فعله.."
قالت جمان محتدة "هذا لا يكفي.. اذهب وابحث عن طبيب آخر، اذهب إلى بغداد لو تطلب منك ذلك.. المهم أن تجد من يعالج خديجة من مرضها هذا بأي ثمن"
فقطب سلمة لعنادها وقال بحزم "أنت تعلمين أن مرضها هذا لا علاج له.. كاذب من يخبرك غير ذلك.."
احتقن وجه جمان وهي تتطلع في وجه سلمة بغير تصديق، ثم ضمّت قبضتيها بقوة وهي تقول بحنق "حتى أنت يا سلمة؟"
تنهد سلمة وهو يقول "تمالكي نفسك وفكري بهدوء.. لو كنتِ مقتنعة حقاً بأن هناك من يملك لها علاجاً، فسأذهب لإحضاره أينما كان.. لكن لا تندفعي خلف رغبة تتمنين تحقيقها دون تعقـّل.."
أشاحت جمان بوجهها وهي تنظر لما حولها بصمت وإن كانت لا ترى شيئاً حقاً.. للمرة الأولى تجد أنها مطالبة بتحديد مصير شخص مهم بالنسبة لها.. لكن كيف لها ذلك؟.. لو عاد أبوها من رحلته تلك فلن يتردد في إبعاد خديجة عنها لئلا تصاب بالمرض ذاته.. لكن هل ذلك هو الحل الأفضل للجميع؟..
استدارت جمان مغادرة بصمت دون أن تهتم بسلمة الذي وقف ينتظر ردها، ولما رحلت لم يعلق سلمة وهو يجذب جواده المنهك نحو الإسطبل.. هو يعلم أن جمان، رغم مكابرتها، مدركة لعدم جدوى كل ما تفعله.. وستقتنع بذلك مع مرور الوقت.. لذلك لا يملكون إلا الصمت والانتظار..
في جانب آخر، وقفت الجارية التي تبعت جمان بعد أن أبلغتها بعودة سلمة، وهي تستمع لكل ما قيل باهتمام.. ولما رأت جمان تترك سلمة عائدة للقصر وملامحها ناضحة بالتوتر، سارعت الجارية لمغادرة الموقع بدورها وهي تتجه لغرفة خديجة.. لابد أن تعلم خديجة بما قاله سلمة، وبما قرره الطبيب الذي ذهب لإحضاره.. من حقها أن تعرف ذلك، وتقرر مصيرها بنفسها قبل أن يقرره الآخرون عنها..

***********************

في وقت متأخر من تلك الليلة، ركض سلمة عابراً الحدائق باتجاه زاوية مظلمة منها والقلق واضح على وجهه.. ولما اقترب من أحد الكراسي الرخامية المتناثرة في الحديقة ورأى الشبح الأسود المنطوي عليه قال بقلق "ما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت؟ هل تريدين قتل نفسك؟"
التفت الشبح مزيلاً الغطاء الذي يغطي وجهه، فتمكن سلمة من رؤية وجه خديجة الذي بدأ يتشوه بسبب البثور المتناثرة فيه، والذي يبدو الإنهاك عليه جلياً أشد ما يكون.. فاقترب منها قائلاً وقلقه يزداد "عودي لغرفتك الآن.. لا يجب أن تغادريها حتى تصبحي أفضل حالاً.."
قالت خديجة بحدة "لا تقترب كثيراً.."
توقف سلمة على بعد خطوات منها وهو يلاحظ ارتجاف جسدها، فيما غمغمت خديجة بصوت متعب "من قال إن حالي قد يصبح أفضل؟.. يبدو أنني لن أنجو من هذا المرض أبداً"
لم يعلق سلمة وهو مدرك أنها تعرف حقيقة مرضها وتعرف نسبة نجاتها منه، لكنه مع ذلك تساءل "أتريدين مني أن آخذك لبيمارستان الكوفة؟ قد يملكون ما يعالجون مرضك به"
هزت خديجة رأسها نفياً وهي تقول "لا.. بل طلبتك لأمر آخر.."
نظر لها بعدم فهم، فقالت "أريد أن تأخذني بعيداً عن هذا القصر.. لا أريد البقاء هنا ليوم آخر"
ارتفع حاجبا سلمة بتعجب وقال "أتريدين الذهاب لأختك التي تعيش في القلعة؟"
هزت خديجة رأسها نفياً وقالت "لا.. كانت مريضة عندما تركتها آخر مرة، ولا أعلم ما حالها.. أتمنى أن تكون بخير، لكني لا أريد أن أزيدها عبئاً.. أريد الذهاب إلى قرية بعيدة نوعاً ما.. أملك منزلاً فيها، وبعض معارفي يعيشون في تلك القرية وسيعتنون بي.."
فقال سلمة باعتراض "لكن لا يمكنك تحمّل الترحال بحالتك هذه.. أتريدين القضاء على نفسك؟"
ابتسمت خديجة ابتسامة شاحبة وهي تنظر لإحدى نوافذ القصر مغمغمة "هذا خير لي من إيذاء صغيرتي التي ربيتها منذ كانت في المهد.. لو أصابها هذا المرض، فلن تتحمله طويلاً.. لا يمكن أن أدع ذلك يحدث أبداً.."
ونظرت إلى سلمة مضيفة "أنا أثق بك أكثر من أي شخص آخر.. أريدك أن تعاونني على الرحيل، وتخفي الأمر عن جمان تماماً.. أبلغ الحراس أنك ذاهب للقلعة، ولا تجعل أحداً يعلم أنني رحلت معك.. هل ستجيب طلبي هذا؟"
نظر سلمة بدوره للنافذة التي تسلل النور من عوارضها الخشبية وقال "ذلك سيحزنها كثيراً.."
خفضت خديجة رأسها بصمت وسلمة يضيف "أأنت واثقة من عزمك على هذا رغم كل الألم الذي ستسببينه لها؟"
تنهدت خديجة مجيبة "ستحزن لأيام قليلة ثم تنسى كل هذا.. لا تزال صغيرة، وأمامها حياة طويلة تعيشها بإذن الله.."
ثم رفعت بصرها إلى سلمة قائلة برجاء "أنت ستبقى معها دائماً.. أليس كذلك؟"
نظر لها سلمة بصمت وهي تضيف "ولن تقوم بأي فعل أحمق.. أليس كذلك؟"
غمغم سلمة بابتسامة مريرة "أنت شديدة القسوة أحياناً، ولا تعبئين بمن حولك يا خديجة.."
قالت خديجة "صدقني أنا أبحث عما هو خير لك ولها.. لا أملك من أثق به أكثر منك، ومع غياب مولاي المتكرر سيغزوني القلق على جمان وأنا بعيدة عنها.. لكن بوجودك، سأغادر وأنا مطمئنة أنها ستكون بأمان"
خفض سلمة وجهه والمرارة تنضح من ملامحه، فأضافت خديجة "لا يساورك الظن أني سعيدة بحالك مع علمي بالألم الذي تشعر به.. لكن هذا قـَدَرُك، فكيف نعترض عليه؟.."
تنهد سلمة وهو يعود ببصره للنافذة بصمت، فغمغمت خديجة "عسى الله أن يبدل حالك ويرزقك على حُسْن صبرك.. من يدري ما تحمله الأيام لك؟"
ابتعد سلمة مغمغماً "سأذهب للحديث مع الحراس.."
راقبت خديجة ابتعاده وهي تزفر هامسة "لك الله يا سلمة..."

***********************

~ بعيدا عن الخيال (٢) ~
اضطرابات العالم الإسلامي


ظهر الأمير “جلال الدين بن محمد بن خوارزم” والذي كان قد هرب إلى الهند منذ خمس سنوات (في سنة٦١٧ هجرية) بعد مواجهة عنيفة مع التتار.. وعند عودته وجد أن التتار قد تركوا منطقة فارس نسبياً، وأن جنكيزخان قد عاد إلى بلاده لمعالجة بعض الأمور هناك وترك زعيماً غيره على جيوش التتار، وأن أخاه غياث الدين قد سيطر على معظم أجزاء فارس بعد أن تقاتل مع سعد الدين بن دكلا، واتفقا في النهاية على تقسيم فارس بينهما، وكان النصيب الأكبر لغياث الدين، في سنة٦٢١ هجرية..
وجد جلال الدين أن الظروف الآن مواتية للعودة إلى مملكة خوازرم واستعادة ملكه، ولكنه تجاهل وجود التتار في أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي.. لقد عبر نهر السند ودخل إقليم كرمان (جنوب باكستان) ثم تجاوزه إلى جنوب فارس (جنوب إيران) ثم بدأ يجمع حوله الأنصار له، وذهب إلى “سعد الدين بن دكلا” وتحالف معه ضد أخيه غياث الدين!!!!..
وبدأ جلال الدين في غزو إقليم فارس من جنوبه إلى الشمال محارباً أخاه غياث الدين، حتى وصل إلى غرب إيران، وأصبح قريباً من الخلافة العباسية، وكانت العلاقات القديمة بين مملكة خوارزم والخلافة العباسية متوترة جداً، ووجد جلال الدين في نفسه قوة، ووجد في الخلافة ضعفاً، فأعلن الحرب على الخلافة العباسية.. فدخل جلال الدين بجيشه إلى البصرة، وحاصرها لمدة شهرين، ثم تركها واتجه شمالاً ليمر قريباً من بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وخاف الناصر لدين الله الخليفة العباسي على نفسه؛ فحصن المدينة وجهز الجيوش لدفع جلال الدين، ولم يكتف بذلك بل ارتكب فعًلا شنيعاً مقززاً، إذ إنه أرسل إلى التتار يستعين بهم على حرب جلال الدين!!!!..

***********************

عالم خيال 06-02-16 01:47 PM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الثالث ~


في صباح اليوم التالي، كانت جمان تسير بخطوات متوترة عبر ممرات القصر باتجاه أجنحة الجواري.. لم تكد تغمض عينها الليلة الماضية وهي تفكر بكل ما يجري لخديجة.. تخشى أن تفقدها، وتتألم لرؤية حالها في هذا المرض.. غمغمت في سرها وهي تسرع بخطوها "يا رب.. اشفها من هذا المرض.."
لم تكد تقترب من أجنحة الجواري حتى لاحظت التوتر البادي عليهن وبعضهن يتراكضن بقلق واضح.. فنادت إحداهن وقالت وقد انتقل قلقهن إليها "ما الذي جرى هذا الصباح؟"
قالت الجارية بتوتر "خديجة يا مولاتي.."
شعرت جمان بوخزة ألم في صدرها مع تزايد قلقها وهي تهتف "ما الذي جرى لها؟"
أجابت الجارية بارتباك "لقد اختفت.."
نظرت لها جمان بعدم فهم، فقد كان هذا آخر ما تتوقع سماعه.. ثم قالت بحيرة "اختفت؟ كيف ذلك؟"
قالت الجارية بتوتر "لا نعلم.. أتيت لها بفطورها هذا الصباح لكني وجدت الغرفة خالية.."
قطبت جمان قائلة بحنق "كيف تسمحن لها بمغادرة غرفتها مع التعب الذي هي به؟ ابحثن عنها في الحدائق وأعدنها بأسرع ما يمكن.."
لم تتحرك الجارية وهي تنظر للجواري القريبات بتوتر متزايد، قبل أن تقول "ليست هي فقط.. متاعها كله قد اختفى.."
ارتفع حاجبا جمان بدهشة والجارية تضيف "لقد بحثنا عنها بالفعل في القصر والحدائق كلها.. ولم نعثر لها على أثر.."
هدرت جمان بغضب "ماذا تعنين؟ كيف غادرت وأنتن قريبات دون أن تدركن ذلك؟"
ازداد توتر الجارية وهي تهتف "لم نعلم متى فعلت ذلك.. لقد ناولتها عشاءها البارحة بنفسي، وتأكدت أنها نامت قبل أن أخلد للنوم بدوري في غرفتي.. وهذا الصباح لم نرها وهي تغادر.. بل كيف غادرت القصر دون أن يعلم بها أحد؟.."
سارت جمان مبتعدة وهي تقول بحدة "استدعي لي الحراس.. يجب أن يخرجوا بحثاً عنها.. ستقتل نفسها بهذه الطريقة"
نادتها الجارية "مهلاً يا مولاتي.."
وقفت جمان تنظر للجارية مقطبة، ففركت الجارية كفيها وهي تقول "ليس هذا فقط يا مولاتي.. هناك أمر آخر.."
فقالت جمان بحدة "تحدثي بسرعة.."
زفرت الجارية قبل أن تقول "إحدى الجواري ممن كن يذهبن مع خديجة للقلعة.. لم تنهض اليوم من فراشها، وهي مريضة بشدة، وتتقيأ بشكل متكرر.."
قالت جمان بصدمة "بهذه السرعة؟.. أهو المرض ذاته؟"
قالت الجارية "أغلب الظن يا مولاتي.."
ظلت جمان واقفة بصدمة وهي تفكر فيما جرى.. أبوها غائب عن القصر ولن يعود قبل وقت طويل، وخديجة قد اختفت.. يقع عليها الآن عبء تسيير الأمور وتقرير أفضل سبيل لمعالجة هذا الأمر.. لكن كيف يمكنها ذلك وفكرها مشغول بخديجة؟..
استدارت مغادرة وهي تقول "سأنظر في أمر الجارية بعد أن أفرغ من خديجة.. ابحثي لي عن سلمة.."
انطلقت الجارية لتنفيذ أمرها، بينما عادت جمان لجناحها وارتدت وشاحاً لتغطية شعرها قبل أن تخرج من القصر للقاء سلمة.. وما إن خرجت رأت الجارية تسرع إليها وتقف لاهثة لتقول "لقد غادر سلمة الليلة الماضية يا مولاتي.. أخبر الحراس أن لديه عملاً ضرورياً في القلعة"
قطبت جمان مغمغمة "ما هذه الصدفة الغريبة؟"
ثم توجهت للجارية قائلة "استدعي إمام بسرعة.."
عادت الجارية تركض نحو الموقع الذي يعمل فيه إمام عادة، بينما ظلت جمان تفكر في الغياب الغريب لسلمة في مثل هذا الوقت بالذات.. عادة لا يكاد يغادر القصر عند غياب أبيها، لكنه اليوم غائب على غير العادة، وفي الليلة التي غابت فيها خديجة.. أهناك رابط ما؟..
رأت إمام يهرع نحوها والجارية خلفه، وقال فور أن وصل إليها "ما الأمر يا مولاتي؟.. سمعت أن خديجة قد اختفت.."
قالت جمان "أين سلمة؟ ما الذي يدفعه لمغادرة القصر في جنح الليل دون أن يخبر أحداً؟"
هز إمام كتفيه بحيرة قائلاً "لا أدري ما الذي دفعه للرحيل.. لقد تركته ساهراً فوق مبنى العبيد كعادته كل ليلة، لكنه لم يأوِ لفراشه بعدها أبداً.. وفي الصباح دهشت لمّا أخبرني أحد الحراس أنه قد غادر إلى القلعة"
زفرت جمان بضيق، فسلمة هو الوحيد الذي تلجأ إليه عادة في أي أمر يهمها.. لكنها لم تعلق وهي تقول لإمام "أريد منك أن تأخذ بعض الرجال معك وتنطلق بحثاً عن خديجة.. لابد أنها رحلت للقلعة فلديها أخت هناك.. خذ معك من يعرف منزل تلك الأخت واذهبوا إليها.. استعيدوا خديجة مهما مانعت، وإلا لا تعودوا أبداً"
فقال إمام "أمرك مولاتي.."
وسارع لتنفيذ أمرها، بينما التفتت جمان إلى الجارية القريبة قائلة "أبلغوني فور عودة سلمة.."
وعادت للقصر لرؤية الجارية المريضة وهي تغمغم "كوني بخير يا خديجة.. وعودي أرجوك.."

***********************

ضيّق سلمة عينيه وهو يراقب سواداً عند الأفق في طريق عودته للقصر.. كان قد قضى الليلة السابقة بطولها مرافقاً لخديجة حتى وصلا للقرية التي وصفتها له.. لم يكن الطريق صعباً، لكن مع تعب خديجة ومرضها شعر سلمة أن الطريق طويل ومرهق بشدة، ولم يرتح جزئياً إلا عندما وصل لتلك القرية وتأكد أن هناك من سيرعاها في مرضها هذا.. عندها قفل راجعاً دون أن يأخذ قسطاً من الراحة وهو قلق من تركه للقصر بغير إذن من مولاه..
عندما رأى سلمة السواد عند الأفق، لم يخفف سرعة جواده وهو يتفحص ما يراه بتدقيق.. لم يكن يريد أي مفاجآت في طريق عودته.. كل ما يريده هو الوصول للقصر والاطمئنان على من فيه..
وبعد سير حثيث، كان قد اقترب من ذلك الموقع واستطاع رؤية تلك القافلة الصغيرة المكونة من بضع جمال تحمل عدداً من البضائع أو هودجاً يخفي من بداخله.. ولما اقترب سلمة أكثر من القافلة رأى أن عدداً من الرجال فيها قد وقفوا في مواجهته، ولاحظ السيوف تلتمع بنور الشمس في أيديهم والتحفز واضح على الوجوه..
لم يدرك سبب قلقهم منه وهو شخص واحد، لكنه توقف على شيء من المبعدة من القافلة وصاح "السلام عليكم.."
نظر الرجال لبعضهم البعض، ثم تقدم أحدهم قائلاً "وعليك السلام.. من أنت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟"
قال سلمة "أنا عائد لقصر مولاي القريب من قلعة سنداد.. لكن ما بالكم أنتم؟ لا يلاقي أصحاب القوافل عابري السبيل بسيوفهم عادة.."
خفض الرجال سيوفهم والأول يقول "اذهب إلى مولاك وانصحه بالرحيل.. لا تبقوا في القلعة، فلم يعد البقاء فيها آمناً.. حتى البقاع القريبة منها لن تكون آمنة عندما يحين الحين.."
تبدّت الحيرة على وجه سلمة وهو يتساءل "هل أنتم قادمون من القلعة؟ ما الذي جرى فيها؟"
غمغم أحد الرجال "يبدو أن الأخبار لم تصلهم بعد.."
قال آخر بنفاذ صبر "لا يهمنا ما يجري للآخرين.. علينا أن نسرع بالرحيل قبل أن نندم على ذلك.."
انبرى آخر يقول "لكن الأخبار تقول إنهم بعيدون، وقد لا يقتربون من هذه الأنحاء.. لا أدري ما دها الجميع للهرب بهذه السرعة"
علق آخر بسخرية "لو كنت تصدق مثل هذا الحديث، فلِمَ أنت هارب معنا؟ كان عليك البقاء في القلعة والتأكد من صحة تلك الأخبار"
ترجل سلمة عن جواده وجذبه من لجامه مقترباً من الرجال وهو يتساءل بقلق "أخبروني ما الذي يجري هنا.. نحن منعزلون عن القلعة تقريباً لذلك لم أعلم بأي شيء من أخبارها مؤخراً.."
سأله أحد الرجال بدهشة "ألم تعلم بقدومهم؟"
نظر له سلمة بدهشة متسائلاً "من هم؟.."
تنهد الرجل مجيباً "اهرب يا فتى.. أخبر مولاك وغادروا هذه البقاع.. فما سيحدث هنا لن يكون سارّاً أبداً.."

***********************

بعد أن ارتفعت الشمس في وسط السماء، أمر ربيعة رجاله بالتوقف وإناخة الجمال في هذا الموقع طلباً للراحة وإراحة الجمال.. فأسرع الرجال لإطاعته وإيقاف القافلة التي تتكون من عشرين جملاً بأحمالهم، وما لا يقل عن ثلاثين رجلاً لحمايتها..
جلس ربيعة بقرب أحد الجمال وهو يشعر بالحر رغم برودة الشتاء.. واستخرج من جراب الجواد قربة صغيرة من الماء وأخذ يعبّ منها عبّاً، عندما اقترب منه أحد الرجال قائلاً "مولاي، أليس من الأفضل لنا الاستمرار بسيرنا حتى نصل أقرب مدينة؟.. مع فترات الراحة هذه نحن نؤخر رحلتنا أكثر فأكثر.."
قال ربيعة "الجـِمال بحاجة للراحة، والرجال كذلك.."
علق الرجل "لكن مع ما سمعناه من أخبار قطاع الطرق، يغدو من الخطر وقوفنا طويلاً في مكان مكشوف كهذا.."
تنهد ربيعة بصمت والرجل ينتظر رده، ثم قال ربيعة "حسناً.. سنبقى ساعة ثم نواصل المسير.."
هز الرجل رأسه موافقاً، وابتعد تاركاً ربيعة يتناول بعض التمر من جراب جواده، ثم جلس قريباً منه وهو يراقب الأفق ويفكر في كل ما سمعه من أخبار في القلعة وأثناء الطريق من القوافل التي يمرون بها.. الوضع في البلاد غدا غير مطمئن أبداً، من هجمات خارجية واضطرابات داخلية وقطع للطريق.. تجارته في خطر كلما قرر إرسال قافلة لإحدى المدن، وقصره في خطر كلما غاب عنه مع رجاله.. يسوؤه أن يترك جمان وحيدة، لكن رحيلها معه مستحيل.. زواجها هذا سيجعله على الأقل مطمئناً أنها في كنف رجل سيحميها، ويكفي أنه ابن قائد جيوش القلعة.. أي أن جنود القلعة كلهم سيكونون في حمايتها.. من يمكنه أن يكون زوجاً خيراً منه لها؟..
انتبه ربيعة لِلـَغط بعض رجاله في جانب القافلة، ثم رأى أحد رجاله، ويدعى جُنَيْد، يقترب منه بسرعة وهو يهتف "مولاي.. هناك جماعة من الرجال قادمون نحونا.. عددهم لا يقل عن خمسة عشر رجلاً.."
فقال ربيعة بهدوء "ألا تعلمون من هم؟"
هز جنيد رأسه قائلاً "لا يبدو عليهم أي علامة توضح هويتهم.. وليست قافلة فهم جميعاً يمتطون الخيول ولا يبدو أنها تحمل أي بضائع.. وهم يتقدمون منا بسرعة كبيرة.."
نهض ربيعة وتقدم من أحد جوانب الموقع الذي أناخوا فيه الجمال.. ومن ذلك الجانب، حيث المساحات المسطحة التي تحيط بهم مانحة إياهم مجالاً واسعاً للرؤية، كان يمكنه رؤية الغبار المتطاير في الأفق والذي يقترب منهم سريعاً دون أن يبدو له راكبي تلك الخيول بشكل واضح.. اقترب منه بعض رجاله وأحدهم يتساءل "ما الذي نفعله الآن؟"
قال ربيعة "تأهبوا واستلوا سيوفكم.. لا نعلم من هم لكن لا يمكننا أن نتجاهل أمرهم.."
تساءل أحد الرجال بقلق "أتظنهم قطاع الطرق حقاً؟"
غمغم ربيعة "من يدري؟.. المهم أن تكونوا مستعدين ولا يأخذونا غيلة.."
أسرع رجاله بالتسلـّح بما يملكونه من سيوف وحراب، بينما وقف ربيعة قابضاً على السيف المعلق بحزامه بقوة وهو يراقب تقدم تلك المجموعة منه.. لا يدري لِمَ يشعر بأنه أخطأ بالرحيل في هذه القافلة في هذا الوقت بالذات.. يشعر بقلق غريب منذ بداية الرحلة، ولا ينفكّ يفكر بجمان بلا انقطاع..

***********************

بعد مضيّ أغلب ساعات النهار، وقد مالت الشمس عن كبد السماء، دلف سلمة من بوابة القصر بجواده وسار به بين أشجار حدائقه نحو الإسطبل.. ولم يكد يقترب منه حتى رأى إمام وثلاثة من العبيد معه يقفون قرب خيولهم يتجادلون بحدة.. فترجل سلمة وجذب الجواد معه مقترباً منهم وتساءل "ما الأمر؟"
نظر له إمام بضيق وقال "أين كنت؟.."
قال سلمة "كان لديّ عمل في القلعة.. ما الذي جرى؟"
فقال إمام "إذن سمعت بما جرى فيها؟"
لم يكن سلمة يدرك عن أي أمر يتحدث إمام، لكنه خمّن أنه نفس الأمر الذي حدثه فيه أفراد تلك القافلة، فقال سلمة "أتقصد رحيل بعض سكان القلعة بسبب ذلك الخبر؟ كيف علمت به؟"
تنهد إمام وهو يقول "لقد أرسلتني مولاتي بحثاً عن خديجة التي اختفت منذ الصباح.. وهناك، صدمنا بما رأيناه من......."
قاطعهم صوت نداء ينادي سلمة، فالتفت ليرى إحدى الجواري تقترب قائلة "مولاتي جمان تريدك الآن.."
فقال سلمة "لا بأس.. أنا آت حالاً.."
ثم نظر إلى إمام قائلاً، رغم معرفته بالجواب "إذاً.. هل وجدتم خديجة في القلعة؟"
هز إمام رأسه نفياً وقال "لا.. لقد توفيت أختها التي كانت مصابة بذات مرضها منذ عدة أيام.. والزوج لا يعلم عن خديجة شيئاً.. لكن هذا لا يهم الآن، فنحن مقبلون على أمر خطير يجب أن نحتاط له جيداً.."
فقال سلمة "انتظروني في مبنى العبيد.. سأعود لكم حالاً وسنرى ما سنفعل بهذه الأخبار"
ابتعد إمام والثلاثة معه بصمت بعدما أعادوا الخيول للإسطبل، بينما سار سلمة عائداً للقصر ليجد جمان تخرج منه وتبحث عنه بعينيها.. ولما لمحته اندفعت نحوه وهي تقول "سلمة.. هل علمت؟ لقد اختفت خديجة.."
لم يبدُ على وجهه أي انفعال وهو يعلق "علمت بذلك فور وصولي.."
فقالت جمان بشيء من الحدة "ولمَ لمْ ترحل بحثاً عنها؟.. أولست مهتماً بمصيرها؟"
هز رأسه مجيباً "مادامت تفضّل الابتعاد فلنتركها تفعل ما ترغب به"
قالت باعتراض "كيف يمكنك أن تقول ذلك؟ لا نعلم ما الذي يجري لها أو أين ذهبت.. فكيف يمكنك أن تتحلـّى بهذا الهدوء؟"
قال بشيء من الضجر "وما المطلوب مني فعله؟"
قالت بسرعة "ابحث عنها.. خذ مجموعة من الحراس وابحث عنها وأعدها للقصر"
فقال بشيء من عدم التصديق "أين تريدين مني البحث عنها؟ بلاد الله واسعة، ولا نعلم في أي اتجاه رحلت"
قطبت جمان قائلة "لديها أخت في القلعة.. لابد أنها ستلجأ إليها..."
قال سلمة "ليست هناك.. أؤكد لك ذلك"
فقالت بحدة "كيف تعرف ذلك؟"
قلب كفيه قائلاً "لقد عاد إمام للتو وأبلغني أنه لم يعثر عليها، ولم يعثر على أختها كذلك لأنها قد توفيت بسبب المرض"
اتسعت عينا جمان بقلق بينما أضاف سلمة "وبسؤال زوجها، فقد أخبرهم أنه لم يسمع عن خديجة شيئاً منذ عدة أيام.. كما أنني لا أظنها ستلجأ لذاك الموقع وهي تعلم أننا سنحاول استعادتها.. وإلا ما فائدة رحيلها أصلاً؟"
نظرت له جمان بشيء من الغضب، ثم قالت "أين كنت اليوم؟ وما الذي استدعى منك أن تغادر في الليل للقلعة دون علم أحد؟"
أجاب سلمة بهدوء "لقد علمت بقدوم إحدى القوافل في وقت متأخر البارحة، فانطلقت لتنفيذ أمر مولاي الذي أوصاني بالانطلاق إليها فور وصولها والحصول على البضائع التي عيّنها لي قبل بقية التجار.. فلم أجد بداً من تنفيذ أمره رغم حلول الظلام..”
أطرقت جمان بكدر وقد استغلق عليها أمر خديجة.. وغمغمت "لِمَ أنت متهاون في البحث عن خديجة؟ ألا يهمك أمرها بتاتاً؟"
قال سلمة "مولاتي.. خديجة تعاني أشد المعاناة من هذا المرض.. وقد تكون أيامها معدودة.. دعينا لا نجبرها على ما قد يسبب لها الضيق.. هي رحلت برغبتها، فلنتركها تفعل ما تريده حقاً"
نظرت له جمان بعينان تدمعان وقالت بصوت مرتجف "أنت قاسٍ حقاً.. كيف تقرر أمراً كهذا بدم بارد؟"
واستدارت مغادرة قبل أن تهطل دموعها على خديها أمامه، فتنهد سلمة مغمغماً "لقد أنذرتكِ يا خديجة.. ها أنت تسببين الألم لجمان، ولا أظنها ستصمت بتاتاً.."
بعد أن غابت جمان عن ناظريه، استدار عائداً لمبنى العبيد وهو يفكر فيما قد تفعله جمان لاستعادة خديجة.. يتمنى فقط ألا تتهور بأي فعل أحمق، فهذا أقل ما يمكنه التفكير فيه الآن.. وعندما دلف إحدى الغرف في المبنى رأى إمام مع الثلاثة الآخرين يجلسون بصمت ووجوم ظاهر بانتظاره.. فوقف أمامهم وهو يتساءل مقطباً "إذن.. أخبروني بما سمعتموه في القلعة.."
تنهد إمام وقال "ما سمعته أنت بالتحديد.. الفوضى عارمة في القلعة.. بالكاد استطعنا الدخول إليها والخروج منها مع الفزع الذي اعترى سكانها.. حتى إن بعض شوارعها لا يمكن السير فيها لكثرة الذين حزموا أمتعتهم وعزموا على الرحيل.."
قال سلمة وهو يجلس "لكن من أين أتتهم تلك الأخبار؟ بل مثل تلك الأخبار لا يمكن تصديقها لشدة جموحها"
قال ميسرة الذي كان يجلس قرب إمام "لكنها الحقيقة.. وعلينا التسليم بها.."
قال سلمة بغير اقتناع "كيف تريد مني التصديق أن القلعة ستتعرض لهجوم؟ نحن لسنا على حدود دولة الخلافة، بل نحن في وسط البلاد.. أين الجيش؟ أين الخليفة؟ أين المسلمون؟"
قال إمام بهزء "نكسوا رؤوسهم رعباً من التتار.. هذه هي الحقيقة"
قطب سلمة بشدة وإمام يضيف "أجل.. التتار قادمون.. رغم هدوئهم النسبي منذ عدة سنوات، لكن يبدو أنهم استعادوا همتهم في غزو بلاد المسلمين.."
قال ميسرة "ماذا لو كان الأمر كذبة؟..”
هز إمام رأسه قائلاً "لا يمكننا تكذيب مثل هذا الخبر لأننا نسمع منذ عدد من السنين كيف تمكن التتار من التوغل في البلاد المسلمة من الهند وحتى القرم، بل إنهم غزو عدة مدن وقلاع في أراضي الخلافة الإسلامية.. أما تذكرون ما حل بديار بكر وما جاورها منذ ست سنين؟.. فكيف يستطيع مثل هذا الخليفة الواهن ردعهم؟.."
فقال سلمة بضيق "قائد جيش القلعة قد غادر إلى بغداد.. فهل سيقدر الجيش على صدّ هجوم شرس بدون قائده؟.. ولو سقطت القلعة فسيكون لهذا تبعاته علينا.."
علق ميسرة "علينا التأكد من ذلك قبل أي تصرف نقوم به"
فقال سلمة "لذلك علينا إرسال شخص غداً لاستطلاع الأمر في القلعة والتأكد من مثل هذا الخبر.. والبقية عليهم التأكد من حراسة القصر جيداً هذه الليلة وفي الليالي القادمة حتى نتبيّن الأمر.. ربما كان ذلك خبراً لا صحة له، وهذا ما أرجوه"
بدا الاضطراب على الوجوه وهم يفكرون في مثل هذه التطورات الخطيرة، وزاد قلقهم مع غياب مولاهم مما يجعلهم بحيرة لما عليهم فعله.. ثم قال إمام "من سيذهب منا لاستطلاع الأمر في القلعة؟"
نظر الرجال لبعضهم البعض في اضطراب واضح، فقال إمام بسخط "أنتم متخاذلون منذ الآن؟ تباً لكم.. سأذهب أنا وابقوا أنتم لرعاية الدجاج في عِشَشِه.."
قال ميسرة "بل سأذهب أنا فأنا أسرع منك.. ولن يستغرقني الذهاب والعودة الكثير"
ربت إمام على كتفه بقوة وهو يقول "إذن غادر مع شروق شمس الغد، وخذ أحد الرجال معك.. كن حذراً يا فتى ولا تعد إلا بالخبر اليقين.."
أضاف سلمة "كن على أهبة الاستعداد.. فمع خبر كهذا، ومع رحيل بعض سكان القلعة، فلابد أن يسعى كثير ممن في نفوسهم ضعف لقطع الطريق والاستفادة من البلبلة التي تسود المنطقة.. حاذر في طريقك وعد إلينا سالماً.."
هز ميسرة رأسه مغمغماً "لا تقلق.. لن يحدث ذلك بإذن الله.."
فأضاف سلمة "وحاذروا من أن تـُبدوا الذعر أمام سكان القصر.. لسنا بحاجة لمزيد من التوتر.."
هز البقية رؤوسهم موافقين، وتفرقوا تاركين سلمة يقف قرب النافذة يحدق بالقصر الذي بدا من بين الأشجار المحيطة بمبنى العبيد.. تعلقت عيناه بنافذة جناح جمان وشيء من القلق يستعمر صدره وهو يفكر بتوتر بما عليه فعله لو كانت تلك الأنباء صحيحة.. ماذا لو تعرضت القلعة حقاً لهجوم من أولئك الهمج؟ ألن يكون لذلك تأثير على هذا القصر؟ رغم بعده عن القلعة، إلا أن القصر ليس بمأمن من هجوم مماثل.. وماذا عن قطاع الطرق الذين نشطوا مستغلين الذعر بين سكان هذه المنطقة؟.. رغم نور الشمس المبهر، إلا أنه يشعر بالظلام يتزايد من حوله ويتكاثف في صدره مع خوفه غير المتعقل.. فغمغم بضيق "تباً لكل هذا.."
سمع صوت إمام من خلفه يتساءل "أأنت خائف عليها؟"
رآه يقف قربه وينظر من النافذة بدوره مضيفاً "ما الذي ستفعله بشأنها لو هاجم التتر القصر حقاً؟.."
قال سلمة بضيق "لا أعلم حقاً.. غياب مولاي جاء في أسوأ الأوقات الممكنة.. لا أستطيع تقرير شيء وأنا أخشى من نتائجه على البقية.. لكني أيضاً لا أريد تعريض جمان لأي خطر، والتتار لا يرحمون أحداً أبداً.."
ابتسم إمام ابتسامة صغيرة وهو يقول "لطالما شعرت أنك تولي اهتماماً أكبر من المعتاد للفتاة.. قل لي، أهناك ما تخفيه عني؟"
قال سلمة مقطباً "ماذا تعني؟ ألن تخشى على مولاك لو كان موجوداً في مثل هذا الوضع؟"
هز إمام كتفيه مجيباً "بالطبع سأفعل.. لكني لاحظت عدة أشياء منذ مدة طويلة، وإن فضّلت عدم سؤالك عنها أملاً في أن تلجأ لي في يوم ما.. لكنك خيّبت ظني، فيبدو أنك لا تثق بي كفاية.."
زفر سلمة بضيق وإمام يضيف مبتسماً "يكفي تحديقك بنافذتها كلما مررت قريباً منها.. وجلوسك فوق مبنى العبيد كل ليلة وأنت تعلم أن نافذتها تواجه المبنى تماماً.. لا تقل لي إنك تحدق بنافذة مولاك بذات الطريقة أيضاً..!"
غمغم سلمة وهو يبعد بصره عن النافذة "أنت تهوّل الأمور.."
ضربه إمام بقوة على كتفه وهو يقول ضاحكاً "قد أبدوا بطيء الفهم بالنسبة لك، لكني لست أحمقاً.. أستطيع أن أؤكد أنك ستموت كمداً لو لم ترها كل يوم.. أتظن أن تسكعك في الأماكن التي اعتادت الجلوس عندها في الحدائق يخفى عليّ؟"
صمت سلمة وهو عاجز عن الاعتراض، فقال إمام بجدية "هل ستستمع لي لو طلبت منك أن تنساها؟.. أنت مدركٌ للفارق المهول بين مكانتيكما، أليس كذلك؟ كما أن تلك الفتاة على وشك الزواج.."
غمغم سلمة بضيق "لا تبدأ يا إمام.."
قال إمام بإلحاح "بل يجب أن أفعل.. ما تتمناه حلم بعيد المنال يا سلمة.. فهل ستأخذ بنصيحتي لو رجوتك أن تبحث عن أخرى؟"
نظر له سلمة بصمت، فتنهد إمام معلقاً "طبعاً لن تفعل ذلك.. فلتمرّ هذه الأيام على خير، وبعد عودة مولاي واستتباب الأمور ستكون لي جلسة طويلة معك حتى أتأكد أنك قد صرفت النظر عنها تماماً.. وصدقني سأتمكن من إقناعك بذلك.."
ابتسم سلمة بصمت وهو مدرك أن إمام قلق بشأنه، لكنه لم يعلق أو ينظر للنافذة مجدداً.. فلتمرّ هذه الأيام على خير، وبعدها لكل حادث حديث..

***********************

عَلـَتْ أصوات مختلف آلات العزف والطبول في تلك القاعة الفسيحة في قصر والي قلعة سنداد، حيث جلس الوالي في صدر المجلس ذاك، بملابسه المصنوعة من الديباج المطرز والعمامة الضخمة على رأسه والخواتم المذهبة في أصابعه.. واجتمع حوله عدد من وجهاء القلعة وتجارها.. وفي وسط القاعة، عدد من القِـيان يعزفن ألحاناً عذبة ويغنين بصوت شجي، وجواري روميّات يرقصن بشكل يفتن الناظر إليهن.. لم تكن هناك أمتع من تلك الجلسة بالنسبة للوالي الذي نظر لكأسه المترعة قائلاً لعبد قريب يمسك بمِروحة من ريش النعام معطرة بماء الورد يلوح بها نحو الوالي لاستجلاب النسمات الباردة "أين الجارية حُسْن؟.. لِمَ لا أراها بين القيان تُسْمع الحاضرين ألحانها العذبة؟"
أجاب العبد خافضاً رأسه "عذراً يا مولاي.. حُسن مريضة قليلاً.. ربما غداً تتمكن من حضور مجلسك والغناء بين يديك بعد أن تصبح أفضل حالاً.."
لم يعلق الوالي وهو يشرب ما بقي في كأسه جرعة واحدة ويرى القيّم على أعماله، والذي كان غائباً عن تلك الجلسة، يقترب منه مهرولاً.. فقطب الوالي وهو يرى القيّم يقول ما إن اقترب منه "مولاي.. هناك أمر مهم وصلني للتو.. ولم أجد بداً من إبلاغك به.."
قال الوالي مقطباً "ما الأمر؟ يستحسن أن يكون مقنعاً لتكدير مجلسي.."
قال القيّم بقلق كبير "وصلتني أنباء أن فرقة من التتار قادمة نحو هذه القلعة بالفعل، وقد وصلت لمشارفها.. لم تكن الأحاديث التي تدور بين سكان القلعة أخباراً لا صحة لها.."
انتفض الوالي واقفاً بشكل أثار انتباه الحاضرين بحيث توقفوا عن الحديث والقيان كففن عن الغناء بينما القيّم يقول "إنهم فرقة تتكون من ألفي تتري، ولم يبقَ الكثير على وصولها إلينا.. ما العمل يا مولاي؟ قائد الجيش بعيد عن القلعة، والجنود لن يقدروا على صدّ هذه الهجمة دون تعليمات قائدهم.."
تعالت شهقات الفزع من بين الجواري وبدا الذعر جلياً في وجوه الرجال في المجلس.. بينما لوّح الوالي بيده بقوة وهو يقول بذعر ظاهر "وهل هذا يحتاج لسؤال؟ لن نكون حمقى كأولئك الذين حاولوا محاربتهم وكانت هزيمتهم نكراء.."
نظر له القيّم بدهشة والوالي يقول بلهفة "أرسلوا لهم رسولاً في الحال.. أخبروهم أننا على استعداد لإعطائهم ما يطلبونه، وأننا سنسلمهم مفاتيح القلعة بدون مقاومة شرط أن يتركونا بسلام.. أعدّوا هدية ملائمة تملأ أعينهم، أكثروا من الذهب والمطايا وأفخر الملابس وأغلى الجواهر.."
قطب القيّم وهو يقول "لكن يا مولاي.. كل المدن التي فعلت المثل في السابق كان مصيرها........."
صاح الوالي بعنف "لا أريد منك أن تتذاكى الآن.. نفذ ما قلته على الفور وإلا قطعت رأسك.."
صمت القيّم والوالي يعود للجلوس على كرسيه قائلاً بنفضة واضحة "لابد أن يقبلوا عطايانا هذه.. لابد أن يطيعوا شرطنا الوحيد ويتركونا نعيش في سلام.. ما الذي نريده أكثر من هذا؟.."
استدار القيّم لينفذ أمره، بينما صفق الوالي بيده بعصبية وهو يقول للقيان "لا داعي لهذه الوجوه البائسة واعزفن أعذب ما تعرفنه من ألحان.. هذا يوم شؤم ولا أريد أن أقضي يومي في همّ وغمّ.."
أسرعن لتنفيذ ما طلبه بتوتر ظاهر، بينما نظر الوالي لكأسه الفارغة القريبة، ثم قال بعصبية "ولتملأ لي جارية هذا الكأس.. حتى متى يجب أن أطلب كل شيء بنفسي؟!.."

***********************

مع نهاية اليوم التالي، سار سلمة في جهة من الحدائق المحيطة بالقصر والشمس الغاربة تصبغ ما حوله بلون أحمر زاهٍ وتلقي ظلالاً طويلة على الأرض.. كان توتره يزداد مع تأخر ميسرة في العودة، وهو قد وعدهم بالعودة قبل حلول الظلام، فشعر سلمة بنذير شؤم والساعات تطوي نفسها دون أن يبدو له أي أثر.. تنهد وهو يتجه إلى القصر ونادى إحدى الجاريات من بين أربع كنّ يحملن الطعام ليناولنه لبعض العبيد.. فوقفت الجارية وهي تراه يقترب منها بسرعة حثيثة.. ثم سألها "كيف هي مولاتي؟ لم أرها تخرج للحدائق هذا النهار.."
قالت الجارية زافرة "إنها حزينة جداً وقلقة بشدة على خديجة.. لا أدري لِمَ غادرت خديجة القصر، لكن هذا سبب ضيقاً شديداً لمولاتي وهي بأسوأ حال"
فقال سلمة "اهتمي بها.. أخشى أن تحاول القيام بفعل أحمق كأن تغادر بحثاً عنها بمفردها.. ولست أملك المزاج الكافي للبحث عنها بدورها"
ابتسمت الجارية معلقة "من النادر أن أراك تبدي ضيقك من مولاتي.. ما الذي استجدّ؟"
غمغم سلمة وهو يغادر "من يدري ما الذي سيستجدّ في الأيام القادمة؟.."
راقبته الجارية بتعجب، قبل أن تسرع للحاق برفيقاتها.. بينما اتجه سلمة لبوابة السور المحيط بالقصر حيث وجد إمام مع عدد من الرجال يجلسون هناك والتوتر واضح على الوجوه.. فبادرهم سلمة فور اقترابه قائلاً "ألم يعد ميسرة بعد؟"
قال أحد الرجال "ليس بعد.. ألا يجب أن نرسل من يبحث عنه؟"
أجاب سلمة "لننتظر قليلاً فربما يعود الآن.. لا ندري ما الذي أخـّره عن العودة، لكن لنأمل خيراً"
اعتدل إمام في جلسته متسائلاً "علينا أن نقرر ما يجب أن نفعله إن كان الخبر صحيحاً وسقطت القلعة بيد التتار.. لا يمكننا البقاء هنا والتظاهر بأن الأمر لا يعنينا.. فسيصيبنا ما أصاب القلعة بالتأكيد.."
قال أحد الرجال "أعتقد أن علينا الرحيل لو كان الخبر صحيحاً.. لا يمكننا البقاء هنا، ومقاتلة جيش من التتار فوق طاقتنا بالتأكيد"
قال سلمة بضيق "ترحيل هذا العدد الكبير يحتاج وقتاً طويلاً، كما أن ما نملكه من الخيول لا يكفي لحمل الجميع.. ولا أظن الوقت ملائم للبحث عن قافلة والانضمام إليها مع الهلع الذي سيصيب من في القلعة"
زفر إمام وهو غارق في أفكاره، بينما تبادل البقية نظرات القلق والتوجس.. تلك ليلة لن تمرّ بسهولة ولاشك..

***********************

لكز ميسرة الجواد بقوة عدة مرات رغم أنه كان يسير بسرعته القصوى بالفعل.. والتفت خلفه ليرى، من بين الغبار المتطاير من سنابك الجواد، منظراً أقلقه وجعل الذعر يستولي عليه.. فعاد ببصره للأمام وهو يغمغم بصوت راجف "رباه.. هذا نذير سيء.."
مد يده وضغط على جرح خاصرته الذي يؤلمه بشدة، وهو يشعر بالدماء تنساب من بين أصابعه، لكنه لم يتوقف أو يخفف سرعته وصوت سنابك الخيول خلفه يتعالى وهي تدكّ الأرض وتتبعه بإصرار.. فلكز جواده من جديد وهو يضغط على أسنانه بقوة ويغمغم "يا إلهي.. ما الذي سأفعله الآن؟.."

***********************



~ بعيدا عن الخيال (٣) ~
استسلام بعض المدن المسلمة للتتار



وصل جنكيز خان في تقدمه إلى مدينة بخارى المسلمة (في دولة أوزبكستان الآن)، وهي بلدة الإمام الجليل “البخاري” رحمه الله، وحاصر جنكيزخان البلدة المسلمة في سنة ٦١٦ هجرية، ثم طلب من أهلها التسليم على أن يعطيهم الأمان، وكان “محمد بن خوارزم شاه” بعيداً عن بخارى في ذلك الوقت.. فاحتار أهل بخارى: ماذا يفعلون؟..
ثم ظهر رأيان: أما الرأي الأول فقال أصحابه: نقاتل التتار وندافع عن مدينتنا، وأما الرأي الثاني فقال أصحابه: نأخذ بالأمان ونفتح الأبواب للتتار لتجنب القتل، وما أدرك هؤلاء أن التتار لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة.. وهكذا انقسم أهل البلد إلى فريقين: فريق من المجاهدين قرر القتال، وهؤلاء اعتصموا بالقلعة الكبيرة في المدينة، وانضم إليهم فقهاء المدينة وعلماؤها.. وفريق آخر من المستسلمين، وهو الفريق الأعظم والأكبر، وهؤلاء قرروا فتح أبواب المدينة، والاعتماد على أمان التتار!..
وفتحت المدينةً المسلمة أبوابها للتتار.. ودخل جنكيزخان إلى المدينة الكبيرة.. وأعطى أهلها الأمان فعلاً في أول دخوله خديعة لهم، وذلك حتى يتمكن من السيطرة على المجاهدين بالقلعة.. وفعًلا بدأ جنكيز خان بحصار القلعة، بل أمر أهل المدينة من المسلمين أن يساعدوه في ردم الخنادق حول القلعة ليسهل اقتحامها، فأطاعوه وفعلوا ذلك!!! وحاصر القلعة عشرة أيام.. ثم فتحها قسًرا.. ولما دخل إليها قاتل من فيها حتى قتلهم جميعاً!!.. ولم يبق بمدينة بخارى مجاهدون..
وهنا بدأ جنكيزخان في خيانة عهده، فسأل أهل المدينة عن كنوزها وأموالها وذهبها وفضتها.. ثم اصطفى كل ذلك لنفسه.. ثم أحل المدينة المسلمة لجنده، ففعلوا بها ما لا يتخيله عقل!..وأتُرك ابن كثير ـ رحمه الله ـ يصور لكم هذا الموقف كما جاء في (البداية والنهاية) فيقول: “فقتلوا من أهلها خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وأسروا الذرية والنساء، وفعلوا مع النساء الفواحش في حضرة أهليهن..!! فمن المسلمين من قاتل دون حريمه حتى قتل، ومنهم من أُسر فعذب بأنواع العذاب، وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال، ثم أشعلت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها، فاحترقت المدينة حتى صارت خاوية على عروشها..”!!!
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني


***********************

bluemay 07-02-16 08:37 PM

رد: رحلة ضياع
 
يا الله لطفك ورحمتك ...

شي مخيف .. نسأل الله السلامة والعافية ..


هل سيتعرضون للهجوم ؟! اتوقع سلمة رح ياخد جمان ويهربها من القصر ..

وابوها اتوقع اتعرضوا لهم التتار وممكن يكون مات .


متخوفة من القادم >_<


لك ودي


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

مملكة الغيوم 08-02-16 12:16 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
عودا حميدا خيال تسلمى يا غاليه قصه من النوع اللى بحبه فكرتني بقصة وا اسلاماه والتتر بيد مرو بخارى وبغداد ومكتبة بغداد اشهر مكتبه ملاءو الفرات بالكتب وحرقو المكتبه وقتلو العلماء تاريخهم مظلم التتار وفكرتنى بالجانب الرومانسى جهاد ومحمود سيف الدين قطز
انا مسمى ولادى جهاد ومحمود من جمال حبهم واراباطهم منذ الصغر
جمان وسلمه ايضا يبدو بيحبها لاكنها لا تدري حزنت على خديجه وازاى بعض الامراض كانت بتفتك بالبشر قبل ما يلاقولها علاج استمتعت بقراءت كل كلمه سلمت يداكى وفى انتظار الباقى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 08-02-16 08:39 AM

رد: رحلة ضياع
 
نسأل الله السلامة لجميع المسلمين بإذنه تعالى
يبدو أنك تحمست مع أحداث الفصلين :qUA04678:
وهذا يسعدني طبعاً
لكن القادم لن يكون أكثر لطفاً بتاتاً

****

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا عزيزتي مملكة الغيوم

لا أنكر أنها تشبه رواية وا إسلاماه، فهي في ذات الفترة وتتحدث عن ذات الأحداث
(لكن لن تطول حتى تحكي عن معركة عين جالوت.. فليس هذا مكانها)
اسم جهاد جميل رغم غرابته، حفط الله لك ابنيك..
سعيدة باستمتاعك بما سبق من فصول
وأتمنى أن يعجبك القادم بإذن الله

عالم خيال 08-02-16 08:47 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الرابع ~


في تلك الليلة الباردة، كان التوجس والقلق يستعمر العقول والقلوب بالفعل بين مجموعة الرجال الذين وقفوا قرب بوابة حدائق القصر يتطلعون للأفق بحثاً عن أثر لميسرة الذي تأخر في العودة، ويتجادلون بشأن ما عليهم فعله لو شعروا بخطر على القصر ومن فيه.. ووسطهم وقف سلمة يكاد لا يتمالك توتره المتزايد، وهو يسمع إمام يقول بإلحاح "لا يجب أن نركن للراحة.. القلعة لا تبعد الكثير عنا، وهجوم عليها يعني أننا سنغدو في خطر بالفعل.."
قال أحد الرجال بقلق "لكن لا يمكننا التصرف في القصر ومن فيه دون مشورة مولاي.. قد يكون هذا إنذاراً كاذباً، عندها سننال عقاباً من مولاي لو غادرنا وتركنا القصر للصوص.."
قال إمام بحدة "هل القصر أهم مِن أرواح مَن فيه؟"
سمع أحد الرجال يهتف "انظروا هناك.."
رأوا في تلك اللحظة، مع غروب الشمس وشحّة النور عند الأفق، غباراً على مبعدة يتجه نحوهم بإصرار.. فنظروا إليه وإمام يتساءل "أتظنه هو؟"
لم يجب سلمة وهو يقبض على سلاحه المعلق في حزامه بقوة.. لا يدري لِمَ، لكنه يشعر بنذير شؤم هذه الليلة.. يشعر بتوجس كبير يجعله لا يكاد يبعد سلاحه عنه، وهذا القادم بسرعة حثيثة يزيده قلقاً..
بعد وقت قصير، تبيّنوا ذلك الحصان الذي يركض نحوهم بغير تمهل، ولم يبدُ لهم راكبه بشكل جيد مع الظلام مما جعل سلمة يقول لمن حوله "خذوا حذركم.. لا نعلم من القادم إلينا، ولا نريد أن نؤخذ غيلة.."
غمغم إمام "إن هو إلا فارس واحد.."
لكن توجس سلمة ازداد وهو يلاحظ ذلك الجسد الملقى على ظهر الحصان ويتمسك به بصعوبة.. ولما شارف على الوصول قال إمام بقلق "هذا هو ميسرة بالتأكيد فهذا هو الحصان الذي رحل به.. لكن أين الآخر؟"
أسرع أحد الرجال يقترب من الحصان الذي خفـّـف سرعته مع اقترابه من مدخل القصر، وأمسك بلجامه ليوقفه ويهدؤه.. بينما اقترب آخر من الجسد المكوّم فوقه وعاونه على النزول وهو يصيح "ميسرة.. ما الذي أصابك؟"
اقترب الجمع من ميسرة الذي هبط من على ظهر الحصان ووقف بعسر ممسكاً جانبه وقال بألم "خذوا الحذر.. إنهم قادمون.."
سأله سلمة بقلق "ما الذي جرى لك؟ من فعل بك هذا؟ وأين حسّان؟"
قال ميسرة لاهثاً "جماعة من التتر هاجموني قبل وصولي للقلعة.."
نظروا له بصدمة ممزوجة بذعر فيما أضاف ميسرة بألم "حاولت تفادي القتال معهم لكن أحدهم أفلح بإصابتي قبل أن أهرب، وقد تمكنوا من حسّان وقتلوه.. والآن هم على إثري"
بدت الصدمة على الوجوه، بينما صاح به إمام بحنق "أيها الأحمق.. لِمَ أتيت إلى هنا إذن؟ لقد دللتهم على هذا القصر بكل حماقة.."
قال ميسرة بألم "لكني مصاب، وخشيت إن أمسكوا بي أن يقتلوني.."
نظر إمام لسلمة مقطباً، بينما تزايد القلق في وجه الأخير وهو يسأل ميسرة بإلحاح "كم عددهم؟ ولِمَ لمْ تلتجئ للقلعة وتحتمي بأسوارها؟"
زفر ميسرة مجيباً "عددهم لا يقلّ عن عشر رجال بأسلحتهم.. لكن القلعة كانت بعيدة عني، ولم أستطع الفرار إليها مع هجوم التتر عليّ.."
تبادل الجمع نظرات القلق الصارخ بينما قال أحد الرجال بذعر "إنهم قادمون إلينا.. فأين يمكن أن نلتجئ منهم؟"
قال إمام بحدة "سنغلق بوابة القصر ونمنعهم من الدخول.. يمكننا القضاء على عشر رجال بسهولة فنحن أكثر منهم عدداً.."
قال آخر بصوت مرتجف "لكنهم التتار.. ألا تفهم ذلك؟ لا يمكن هزيمتهم أبداً.."
نظر له إمام بحنق وصاح "ما الذي تعنيه بذلك؟ لقد أوهموكم بهذا لكي لا تحاولوا الدفاع عن أنفسكم أبداً.. لكن ما من شخص لا يمكن هزيمته بإذن الله.."
لكن الذعر في الوجوه لم يكن يوحي بخير، ولما التفت إمام إلى سلمة القريب رآه يحدق بالقصر خلفه وقلق واضح في وجهه، فقال له إمام بضيق "سلمة.. قل شيئاً.. أنت المسؤول عن هذا القصر في غياب مولاي، وعليك أن تخبرهم أن القتال أمر لابد منه"
التفت سلمة إليه وقال بتوتر "علينا الوقوف في وجوههم طبعاً والدفاع عن هذا القصر حتى يعود مولاي.. لكن، ماذا لو فشلنا؟.. ماذا لو نجحوا في التغلب علينا جميعاً؟"
ونظر للقصر من جديد قائلاً بقلق "ماذا سيحدث لها؟"
دفعه إمام في كتفه بقوة وهو يقول بحدة "لا تدع هذه الأفكار تعيقك.. نحن سنثبت أمامهم، والله سبحانه وتعالى سيكون معنا في قتالنا مع أولئك الكفرة.."
والتفت لمن حوله صائحاً "لا داعي للتخاذل الآن.."
سمع أحد الرجال يقول بذعر "ها هم.. إنهم قادمون.."
نظروا خلفهم ليروا سحابة أعلى من الغبار تتبع عدداً من الخيول التي لم تبدُ ملامحها لشدة سواد لونها.. بينما بدا من يمتطيها أكبر حجماً من المعتاد، وربما كان هذا بفعل الخوف الذي اعتمر النفوس، لكن رؤيتهم بثت الرعب في القلوب وأحدهم يصيح "سيقتلوننا.. سيبيدوننا عن بكرة أبينا.."
صاح فيهم إمام "سيقتلونكم لو ظللتم على هذا التخاذل.. استلـّوا أسلحتكم وتأهبوا للقتال.."
وصاح برجلين ممن يحرسان القصر "أغلقا البوابة.."
سارع الرجلان لتنفيذ أمره، لكن بقية الرجال بدأوا يتراجعون بذعر مع مرأى الخيول التي تقدمت كثيراً من القصر.. فرفع إمام سيفه وصاح بهم "من يحاول الهرب منكم سأقتله بنفسي.."
لكن الرجال لم يهتموا به وهم يركضون مدبرين والذعر صارخ في الوجوه، يتبعهم ميسرة بعسر شديد بمعاونة أحد الرجال.. وسرعان ما لحق بهم الحراس دون أن يكملوا إغلاق البوابة وقد استعمرهم الهلع.. فالتفت إمام إلى سلمة بحنق قائلاً "ما بك يا سلمة صامت هكذا؟ كان عليك أن تجبرهم على الوقوف والصمود أمام الهجوم"
قال سلمة بتوتر "هذا الذعر لن يساعدنا على الصمود، ورؤيتهم لميسرة مصاباً قد زادهم هلعاً.. فما الذي سنفعله في وجوه أولئك التتر؟"
قال إمام بحدة "سنفعل ما يرضي الله ونثبت دون جبن.. هذا ما يجب أن يكون.."
قال سلمة وهو ينظر للجمع الذي يقترب بشكل حثيث "لكن.. ماذا سيحدث لو انهزمنا؟ لا يمكن أن أقف هنا وأنا أفكر بما قد يحدث لجمان لو حدث ذلك.."
نظر له إمام باستنكار، بينما أضاف سلمة بتوتر "يجب أن أخرجها من هذا المكان.. إنها أمانة في عنقي، ولا يمكن أن أسمح لشيء أن يصيبها بسوء"
قال له إمام بغضب "أتنوي الهرب أنت أيضاً؟"
صاح به سلمة "إنهم التتار، ألا تفهم؟.. لولا وجود جمان، لما تحركت من موقعي قيد أنملة.. لكن مصيرها معلق بي.. ولو قتلوني، فموتها خير مما قد يجري لها على أيديهم.."
واستدار مغادراً نحو القصر قبل اقتراب التتر، فصاح إمام بحنق "اللعنة عليك أيها الجبان.."
كان الموقع حوله قد خلا إلا منه، فلم يجد إمام وهو يرى الوجوه المبتسمة بوحشية قد باتت قريبة من القصر والخيل تنهب الأرض نهباً، إلا أن يركض باتجاه مبنى العبيد بحثاً عن بقية الرجال.. لم يكن ينوي الاستسلام، لكنه كان يأمل في أن ينهض بقية الرجال معه ويقاتلوا الدخلاء مهما كانوا شرسين.. وإلا ما فائدة وجودهم في هذه الحياة إن استسلموا لهؤلاء الكفرة؟..

***********************

خرجت إحدى الجواري من غرفة رفيقتها وهي تتنهد، وسارت عبر الممر لتتلقاها أخرى متسائلة بقلق "كيف حالها الآن؟ ألا زالت متعبة؟"
هزت الأولى رأسها بأسى وهي تقول "إنها لا تتحسن مع مرور الوقت، وحرارتها في ارتفاع مستمر.. أشعر أن جسدها يغلي لشدة حرارته.."
تراجعت الثانية خطوة وهي تهمس بصوت مرتجف "أهو المرض ذاته؟"
نظرت لها الأولى ملاحظة الخوف الذي علا وجهها، ثم قالت هازة كتفيها "إنه هو ذاته كما يبدو لي.. فما الذي يمكننا فعله؟.."
قالت الثانية وهي تغطي فمها بيدها "لكن.. قد نصاب بالعدوى.."
علقت الأولى ساخرة "لا تقلقي.. لن تصابي بها وأنت تحرصين على الابتعاد عن غرفتها تماماً.."
سمعتا في تلك اللحظة صرخة متألمة تصدر من خارج القصر، فنظرتا لبعضهما البعض بقلق ودهشة قبل أن تركضا نحو باب القصر وإحداهما تتساءل "ما الذي يجري هنا؟"
عند اقترابهما من الباب كان صوت صهيل الخيول يصل إليهما بوضوح مما زاد تعجبهما، ولما فتحتا الباب ونظرتا عبره استطاعتا رؤية ما جعلهما ترتجفان ذعراً.. فعلى النور الشاحب للسراج المعلق قرب الباب، رأتا جسداً ملقىً أرضاً وتحته بركة دم كبيرة.. وقبل أن تتساءلا عن هوية ذلك القتيل لاحظتا أولئك الأشخاص الذين اقتربوا من الباب.. لم تكن ملامحهم عربية أو حتى رومية، مع الوجه العريض وعظام الخد البارزة والعيون ذات الأجفان المتراخية والشفاه العريضة.. ورغم قصر قامتهم شيئاً ما، فقد منحتهم ملابسهم المصنوعة من الفرو والخوذة الحديدية على الرؤوس ضخامة في الجسد وألقت الرهبة في قلبي الجاريتين وهما تتراجعان بذعر وإحداهما تقول "من... من أنتم؟ ما الذي تفعلونه هنا؟"
لكن نصل السيف الذي يحمله الأقرب إليهما أجاب عن أسئلتهما، ولم تكد إحداهما تفتح فمها بشهقة ذعر والرجل يغمد السيف في صدر أكبرهما عمراً بقوة.. صرخت الثانية برعب وهي ترى الجسد الذي ارتمى أرضاً والدماء تسيل منه بغزارة، وحاولت الهرب بسرعة قبل أن تلقى المصير ذاته، لكن رجلاً آخر سارع لجذبها من شعرها بقوة وهو يضحك من محاولاتها للتنصل.. ودون أن يجدوا من يعترض طريقهم، كان التتر يتوغلون في القصر الذي صُدِم بقدومهم، ويعتقلون من يجدون من الجواري أو يقتلونهن غير آبهين بصراخهن المذعور..
في تلك الأثناء، كان سلمة يتسلل من نافذة جانبية للقصر بعد أن حطم العوارض الخشبية المزخرفة بركلة من قدمه، وسار في الممر المجاور لها بصمت وتوجس.. رغم أنه حاول الوصول للقصر قبل اقتراب التتر منه، لكن مرآهم وهم يقتربون من القصر بسرعة على الخيول مقارنة بسرعته هو، جعلته يغيّر مساره بدل التوجه لباب القصر مباشرة لئلا يضطر للاشتباك معهم في مواجهة غير متوازنة.. رآهم فور وصولهم للباب يترجلون عن الخيول ويستلون سيوفهم قبل أن يتقدموا من الباب بثقة.. وقرب الباب، وجدوا أحد العبيد يقف هناك يرتجف من الذعر مع مرآهم.. ورغم كونه أعزلاً ولا تبدو عليه النية بالمقاومة، فإن أحدهم لم يتردد لحظة وهو يرفع سيفه ويغمده في صدر العبد بقوة قبل أن يرميه جانباً جثة هامدة..
لم يملك سلمة غصة تصاعدت في حلقه وهو يرى الجثة قرب الباب، وهو يسمع الصراخ الذي بدأ يتعالى من القصر بعد أن توغـّل فيه التتر.. لكن لم يستطع التدخل مباشرة بل تسلل عبر النافذة وكل همّه الوصول لجمان قبل أن يصلوا إليها.. رغم أن إمام قد نعته بالجبان، إلا أن سلمة لا يستطيع التفكير في مصير أي شخص في هذا القصر وجمان تحتل تفكيره تماماً.. قلقه عليها وذعره غير المتعقل جعله يتصرف بتلقائية دون التفكير في عواقب ما يفعله أو ما قد يندم عليه لاحقاً..
لم تكن المصابيح قد أضيئت بعد في القصر، مما جعل الممر أمامه مظلماً إلا من نور باهت يأتي من قرب باب القصر، لكن سلمة لم يتراجع وهو يتقدم بحذر ممسكاً سيفه بقوة.. كانت السلالم المؤدية للقسم العلوي من القصر تقع في جانب المكان قرب المدخل، واقترابه منها قد يكشف وجوده للمهاجمين.. لكنه يأمل بأن ينشغل التتر بتفتيش الجزء السفلي من القصر ولا يلتفتوا للجزء العلوي منه قبل أن يصل لمراده..
ظل سلمة يسير بحذر بجانب الحائط وهو يدقق النظر أمامه لئلا يباغته أحد المهاجمين، وقبل أن يصل لموقع السلالم فوجئ بيد تقبض على ذراعه بقوة.. جذب سلمة ذراعه بسرعة وهو يقفز جانباً خشية أن تباغته ضربة من جانبه، لكنه رأى على الفور ثلاثاً من الجواري يختبئن أسفل السلالم في الموقع المظلم منه.. لاحظ الفزع العارم في وجوههن والدموع تغرقها، ثم قالت إحدى الجواري مرتجفة "سلمة.. ما الذي يجري هنا؟ من هؤلاء؟"
أجابها بصوت خافت محاولاً ألا يجذب الانتباه "إنهم التتر.. عليكن بالهرب بسرعة قبل أن يصلوا إليكن.."
اتسعت الأعين وهن يشهقن بذعر، بينما قالت إحداهن بهلع "يا إلهي.. كيف وصلوا للقصر؟"
بدأت أخرى بالبكاء وهي تقول مرتجفة "سيقتلوننا.. سيقتلوننا كما قتلوا زبيدة قبل قليل.. وكما يقتلون الجميع الآن"
سألهن سلمة بتوتر "أين جمان؟ أهي في جناحها؟"
تمسكت به الأولى وهي تقول بضراعة "سلمة.. أنقذنا أرجوك.. احمنا منهم.."
حاول التملص منها وهو يقول مقطباً "اهربن مادام الأمر مواتياً.. لا أحد منهم قرب الباب، ولو تسللتن الآن فستتمكنّ من الهرب.."
لم تفلته الجارية وهي تقول باكية "نهرب لأي مكان؟ القصر منقطع، ونحن لا نـُحْسِن ركوب الخيل.. أرجوك ساعدنا"
جذب ذراعه بقوة وهو يقول محتداً "يجب أن أنقذ جمان.. اهربن قبل فوات الأوان.."
وتركهن مسرعاً نحو السلالم والجارية تصيح "سلمة.. لا ترحل وتتركنا تحت رحمتهم.."
لكنه لم يتوقف وهو يلقي نظرة حوله قبل أن يصل للسلالم، بينما صاحت الجارية ودموعها تسيل على خديها "تباً لك يا سلمة.. لا ترحل.."
سمعت الجواري صوت خطوات خلفهن تقترب من موقعهن، ولما التفتن فوجئن برؤية أحد المهاجمين يقترب عبر ذلك الممر شاهراً سيفه وضحكة ترتسم على ملامحه القاسية.. فانكمشن على أنفسهن والذعر يمنعهن من الهرب وهن يصرخن مع مرأى الدماء التي تقطر من السيف.. مدّ التتري يده نحو أقربهن وهن يتراجعن برعب عارم، لكنه فوجئ بالضربة التي أصابت جانبه في غفلة وجرحته بقوة.. أطلق التتري صيحة ألم وهو يلتفت ليرى سلمة الذي عاد أدراجه وتقدم من التتري دون أن يثير انتباهه.. لكن التتري لم يتراجع بل هوى بسيفه بقوة على سلمة الذي مال جانباً متفادياً الضربة وهو يدفع سيفه بشكل عرضي ليصيب بطن التتري بضربة أقوى من الأولى، ثم أتبعها بأخرى استهدف بها قلبه بحركة سريعة شهق لها التتري وتراجع خطوات قبل أن يسقط للخلف جثة هامدة..
تراجع سلمة خطوات ثم قال للجواري بحدة "اهربن الآن قبل قدوم المزيد.. ابحثن عن إمام أو أي من الرجال لمساعدتكن على الهرب، فلست أملك الوقت الكافي لفعل ذلك"
ورحل مرة أخرى دون أن يلتفت خلفه ليرتقي السلالم بخطوات واسعة.. أما الجواري فقد تحاملن على أنفسهن وهن يركضن نحو باب القصر.. ورغم نجاتهن الجزئية، إلا أن الهرب من القصر كله مسألة أخرى قد تكون أكثر صعوبة..

***********************

عندما سمعت جمان الصياح والصراخ الذي بدا لها خافتاً في جناحها المتطرف، هبّت من سريرها وتوترها يشتعل وهي تنظر حولها، ثم نهضت واقتربت من النافذة بحثاً عن تفسير لما تسبب في كسر الهدوء في القصر.. كان الظلام قد عمّ المكان، لكن استطاعت رؤية بعض الحراس والعبيد يتراكضون في الحدائق نحو مبنى العبيد، وسمعت صهيل بعض الخيول قريبة من القصر دون أن تراها.. ظلت جمان تراقب من النافذة بتعجب محاولة فهم ما يجري، عندما سمعت صوت خطوات راكضة تتعالى في الممر خارج غرفتها.. نظرت خلفها بدهشة وتعجب متزايد، وعندما أسرعت نحو الباب وفتحته، رأت سلمة يقترب راكضاً من جناحها مستلاً سيفه.. فوجئت جمان برؤيته، خاصة أنه وغيره من العبيد لا يقتربون من هذه الناحية من القصر عادة، فقالت باضطراب وهي تبحث عن وشاح تغطي به رأسها "ما الذي تفعله يا سلمة؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟"
لكن سلمة اقترب منها بسرعة وهو يقول بتوتر "مولاتي.. يجب أن نهرب الآن قبل أن يصلوا إليك.."
دهشت جمان من ملامحه التي غزاها القلق والتوتر الشديدين، وسرعان ما أصابها القلق بدورها مع مرأى الدماء التي تلطخ سيفه بوضوح.. فتراجعت خطوات وهي تهتف "ما الذي يجري هنا؟.."
أمسك يدها وجرّها بقوة وهو يصيح "لا وقت لهذا.."
خرج من الجناح وركض عبر ممرات القصر وجمان تتبعه بدهشة متعاظمة وهي تصيح "ما الذي يجري يا سلمة؟"
توقف سلمة فجأة ووضع يده على فمها لتصمت بينما أصاخ السمع وهو يحدق في الظلمة التي غطـّت معالم الممر أمامهما.. عندها استطاعت جمان أن تسمع من الطابق السفلي صياح الجواري المذعور خالطه صوت صراخ بضع رجال وكلمات تتردد لم تفهم منها جمان شيئاً.. جذبها سلمة قليلاً لموضع يطلّ على الجزء السفلي من القصر حيث ينحدر السلم الخشبي الذي يؤدي إليه، ولما نظر عبره استطاع رؤية إحدى الجاريات وكانت كبيرة في السن ممن يعملن في القصر.. كانت الجارية قد سقطت أرضاً وهي تبكي وتصرخ بصوت عالٍ.. وأمامها وقف أحد أولئك التتر وقد بدا ضخماً مقارنة بها وهو يضحك ويلوح بسيفه المخضب بالدماء.. وبغير أن يأبه لصياحها وتوسلاتها، رآه سلمة يغمد سيفه في عنقها بقوة قبل أن يجذبه تاركاً جسدها يسقط أرضاً ودماؤها تسيل وتشكل بقعة كبيرة تحتها..
قطب سلمة بشدة وهو مدرك أن خروجهم من القصر من مدخله مستحيل بعد أن استعمره التتر، ثم انتبه لارتجاف يد جمان في يده.. التفت إليها ليجدها تحدق في ما جرى بعينين متسعتين قبل أن تنظر له بذهول، فأسرع يجرها بعيداً قبل أن تصدر صوتاً يجذب الانتباه وأعادها لجناحها مغلقاً الباب خلفه.. وهناك قالت جمان بصوت يرتجف "من كان ذلك؟"
نظر لها بقلق شديد، ثم قال "لقد هاجم التتر القصر وهم يعيثون فيه الفساد.."
غطت جمان فمها بيدها وهي تشهق بذعر، فيما أسرع سلمة يغلق الباب جيداً ويجذب أقرب كرسي ليضعه أمام الباب ليؤخر من يحاول الدخول إليه.. أما جمان فقد أخذت ترتجف وهي تقول بذعر "لا..... لا...... لا لا لا... مستحيل.. لا أصدق ذلك.. لا يمكن أن يكون ذلك.."
ثم صاحت "لماذا لم توقفوهم؟ لِمَ لمْ تغلقوا أبواب القصر دونهم؟"
أجاب سلمة وهو يتجه بسرعة للنافذة من خلفها وينظر عبرها "لقد هرب أغلب الرجال عندما علموا بقدومهم، رغم أنهم فرقة صغيرة.. الكل هرب، ومن لم يستطع قـَتـَله التتار دون إبطاء.."
اتسعت عينا جمان وسلمة ينظر إليها مضيفاً "والآن هم في القصر يقتلون وينهبون ويسْبون من يجدونه من الجواري.. لذلك علينا أن نهرب قبل أن يصلوا إليك.."
صاحت بصدمة "هل قتلوا الجميع؟.."
قطب سلمة مجيباً "لا جدوى من معرفة ذلك.. يجب أن نغادر الآن قبل أن نلقى مصيراً مشابهاً.."
اتسعت عيناها بذعر متسائلة "أتعني أنهم قـُتِلوا بالفعل؟ وهل.. هل سيقتلونني أنا أيضاً؟"
صاح سلمة "إن لم نرحل بسرعة، فلن ننجو أبداً.. فلا داعي للذعر الآن.."
ارتجف صوتها وهي تقول بانهيار "لكن كيف سنهرب؟ إنهم يحتلون المكان كله.."
هزها سلمة من ذراعها وهو يقول بحدة "لا تغرقي في أفكارك السوداء هذه.. يمكننا الهرب من النافذة، فلا أرى أحداً منهم في الخارج.. لنذهب ما دمنا نملك الفرصة لذلك.."
وجذبها خلفه عنوة ودموعها تسيل على خديها وهي تهمس بذهول "يا إلهي.. ما كل هذا العذاب؟"
في تلك الأثناء، كان أحد التتر يتقدم من مبنى العبيد شاهراً سيفه المخضب بالدماء، بينما وقف إمام في مواجهته وهو يصيح بمن خلفه "قفوا وقاتلوه.. إنما هو رجل واحد، ويمكننا قتله بسهولة"
لكن بقية العبيد وعددهم لا يقل عن عشرين رجلاً كانوا يتراجعون برعب وأحدهم يقول بصوت مذعور "نقاتله؟ لا.. سيقتلنا بسهوله.. فلنـُعْطِه ما يشاء وسيتركنا نغادر.."
قال إمام بغضب وهو يرفع سيفه "أيها الجبناء.. التتار لا يُخـْـلون سبيل أحد.. أتريدون الموت وأنتم موصومون بالجُبْن؟ قاتلوا تباً لكم.."
لكن أحداً لم يتقدم والذعر يتزايد في نفوسهم، فجزّ إمام على أسنانه قبل أن يصيح "بئساً لحياة تمرّغون كرامتكم بالتراب لأجلها.."
وانقضّ على التتري ليهوي بسيفه نحوه، فاستقبله التتري بيده الممسكة بالدُرَق، وهو درع مصنوع من الجلد، في نفس اللحظة التي هوى بسيفه فيها على إمام بقوة.. لكن إمام انخفض بسرعة وهو يتراجع خطوة ويلاقي سيف التتري بسيفه.. استنفر إمام عضلاته وهو يدفع سيف غريمه ويسرع بتوجيه ضربة أخرى استقبلها التتري من جديد بالدرق.. عندها رفع إمام قدمه وركل الدرق بأقوى ما يملك مما جعل غريمه يتراجع خطوات ويكاد يسقط أرضاً، فعاجله إمام بضربة أبعدت يده الممسكة بالدرق جانباً، وحاول أن يتبعها بأخرى تستهدف عنقه لكن التتري صدّ الضربة بسيفه بعد أن تمالك نفسه..
ظل بقية الرجال يراقبون المعركة بين الاثنين بذعر ظاهر دون أن يحاول أحدهم مدّ يد المساعدة لإمام.. حتى لما رأوا التتري يدفع إمام بقوة ويسقطه أرضاً ويندفع نحوه بغية إصابته بالسيف ضربة قاتلة.. لكن إمام تفادى الضربة بأن دفع قدمه في صدر التتري وركله بعيداً بعنف قبل أن يقفز واقفاً على قدميه ويقبض على سيفه بقوة.. بعد كل ما أبداه رفاقه من تخاذل، أبت عليه نفسه أن يلجأ لعونهم في القضاء على خصمه، وفضّل الاستمرار في القتال وحيداً رغم أن التتري أبدى مهارة تفوقه بعدة مراحل.. لكن إمام جزّ على أسنانه وهو يندفع بعزم نحو التتري الذي سقط أرضاً وركل الدرق بقوة مطيحاً به بعيداً وهو يصدّ ضربة من التتري بسيفه، ولما حاول التتري النهوض عاجله إمام بركلة أخرى أسقطته أرضاً ثم اندفع نحوه مسدداً ضربة بسيفه نحو عنقه..
حاول التتري توجيه ضربة بدوره لإمام أصابته بالفعل في ذراعه الأيسر، لكن إمام لم يتوقف وهو يرى السيف موجهاً نحوه، ولم يوقف إندفاعه إلا بعد أن شاهد نصل سيفه يغوص في عنق التتري والدماء تطيش ملطخة وجهه وجزءاً من ملابسه..
ورغم ألمه، إلا أن إمام لم يُظهر ذلك على ملامحه وهو يجذب سيف التتري من ذراعه ويستولي على السيف بدوره بعد أن تأكد أن التتري قد قتل بالفعل.. التفت خلفه فرأى الرجال يقفون ناظرين لما يجري بصمت قلق، فقال بجفاء "فلتقم إحداكن بربط جرح ذراعي.."
ذهب أحد العبيد الأصغر سناً، واسمه زهران، لإحضار ما يربط به الجرح بينما قال أحد الرجال بضيق "لا داعي لهذه السخرية يا إمام.."
فقال إمام بسخرية "لماذا؟ لا أرى أمامي إلا بضع نسوة يكتفين بالصراخ والبكاء بذعر.. لا بأس.. استسلموا لمصيركم وهو لن يزيد عن اثنان، إما أن يقتلوكم ويتركوا جثثكم للكلاب، وإما أن يأسروكم ويبيعوكم مرة أخرى.. ربما تكونون أسعد حالاً بخدمة أولئك الكفرة الأنجاس، بعد أن كرمكم الله تعالى بالإسلام.."
اقترب منه زهران وبدأ بربط جراحه بقوة ليوقف النزف، ولما فرغ استدار إمام ممسكاً سيفه بيد وسيف التتري باليد الأخرى قائلاً "من يريد منكم أن يموت ميتة شريفة، فليتبعني.. ومن يريد الموت ككلب، فليهرب وهو يدسّ ذنبه بين ساقيه.."
وأسرع نحو القصر دون أن يلتفت خلفه ليرى من منهم قد يعاونه.. كان يدرك أن قتال تتري واحد يختلف عن قتال البقية مجتمعين، وربما لا يصمد لأكثر من لحظات معدودة.. لكن لا يمكنه التراجع الآن، ولن يطيق الهرب من أمامهم والعيش ككلب بقية حياته..

***********************

بركلة قوية من قدمة، حطم سلمة الخشب المزخرف الذي يزين النافذة في جناح جمان.. ثم خرج من النافذة بخفة وهبط منها مستنداً بقدميه على نقش بارز في الحائط أسفل النافذة يمتد بشكل طولي عبر القصر.. ثم أنزل قدميه على جزء بارز دائري من الجدار يظلل النافذة تحتهم ويمنحهم موقعاً محدوداً للوقوف عليه.. بعد أن اطمأن لثبات موقعه، أشار لجمان لتتبعه دون إصدار صوت.. ففعلت جمان المثل وهي تحاول تمالك رجفة جسدها مع تلك الأصوات التي تصدر من داخل القصر والتي تفاوتت بين صياح حمل توسلاً، وآخر بدا لها وحشياً.. أما سلمة، فقد نظر تحته ليرى ذلك الحصان الذي وقف بتململ قريباً منهما بانتظار صاحبه الذي غاب في القصر.. ولما غدت جمان قرب سلمة همس وهو يشير للحصان "سأقفز على ظهر هذا الحصان وأمسك بلجامه.. قد يثور ويحاول إسقاطي، لكن أريدك أن تقفزي خلفي بمجرد أن أتمكن من السيطرة عليه.. لابد أن صوته سيجذب أحد التتر القريبين، ولا أريد مواجهتهم وأنت معي.."
هزت جمان رأسها باضطراب وهي تقبع في موقعها بصمت.. فزفر سلمة بتوتر وهو يجول ببصره في ما حولهما ملاحظاً خلوّ المكان من أي أثر للتتر، وتأكد من ثبات سيفه في حزامه لئلا يفقده وهو بأشد الحاجة إليه، ثم قفز بخفة ليستقر على ظهر الحصان الذي فزع من المفاجأة فصهل بقوة ورفس محاولاً إسقاطه.. لكن سلمة تشبث بعرفه حتى تمكن من الإمساك باللجام وجذبه بقوة لتهدئة الحصان بينما جمان تراقبه بقلق منتظرة الفرصة لتنضمّ إليه..
في تلك اللحظة، وقد بدأ الحصان يهدأ قليلاً وإن ظل يدور في موقعه بتوتر، رأى سلمة أحد التتر يخرج من باب القصر وقد جذبه الصوت.. وما إن رأى سلمة مستقراً على حصانه أطلق صيحة غاضبة وهو يتقدم نحوه راكضاً ملوحاً بسيفه العريض.. اتسعت عينا جمان وهي تنكمش في موقعها، لكن سلمة صاح بها "اقفزي بسرعة يا مولاتي.."
نظرت له وللتتري بتردد وقلق، فصرخ بحدة "اقفزي الآن.."
حسمت ترددها وتمالكت قلقها وهي تقفز نحو الحصان، ورغم خبرتها الجيدة بركوب الخيل إلا أنها كادت تسقط لولا أن تشبثت بسلمة بقوة وهو يعاونها لتستقر خلفه صائحاً "تمسكي بي ولا تسقطي.."
ولكز الحصان بقوة بينما التتري يصرخ بغضب مقترباً منهما بسرعة، فانطلق سلمة بالحصان وهو يستلّ سيفه بدوره.. لم يكن من الممكن تفادي التتري الذي رفع سيفه عالياً والحصان يقترب من مجاله، بينما أغمضت جمان عينيها بذعر.. لكن سلمة كان الأسبق وهو يستغل سرعة ركض الحصان وهوي بسيفه بقوة نحو عنق التتري ليطير بضربة واحدة.. بعدها لكز سلمة الحصان ليدفعه ليسرع أكثر وهو يتجه نحو بوابة السور المحيط بالقصر، وقد خلا من أي أثر من الحراس.. اتسعت عينا جمان وهي ترى عدداً من الجثث مرتمية في جوانب الحدائق، وقد منعها الظلام من إدراك هوية أصحابها.. فهمست بارتجافة "هؤلاء.. هل هم.........؟"
قال سلمة بتوتر "لا تنظري يا مولاتي.. المهم الآن أن نهرب من هذا المكان قبل أن يصلوا إليك.."
نظرت جمان خلفها، ورأت النار المشتعلة في مبنى العبيد والتي طالت بعض الأشجار القريبة منه، بينما لم يزل الصياح يتعالى من أرجاء القصر.. فبدأت الدموع تتدافع من عيني جمان المذهولة وهي ترى ما حلّ بهم في هذه الليلة وهم غافلون.. ثم خفضت وجهها وهي تبكي بمرارة وصدمة، بينما جزّ سلمة على أسنانه وهو يشعر بالغضب لكل ما رآه من وحشية.. من حسن حظه أن التتر قد غابوا جميعاً في القصر دون أن يبقى أحد منهم في الحدائق المحيطة به، مما مكنه من الهرب بجمان قبل أن يصل إليها أحدهم.. لكن ماذا عن البقية؟ ماذا عن العبيد الذين حوصروا؟ ماذا عن الجواري اللواتي لا مهرب لهن من براثن أولئك التتر؟.. نظر سلمة خلفه فلاحظ أن النار بدأت تشتعل في جانب من القصر كذلك، مما يعني أن أولئك التتر لن يغادروا قبل أن يحيلوا المكان كله خراباً، كما هي عادتهم في كل مدينة ابتلاها الله تعالى بهم..
عاد سلمة ببصره للمساحات الشاسعة أمامهم بعد أن غادروا القصر وتمتم بغضب "تباً لأولئك المتوحشون.."
همست جمان باكية "لماذا حدث كل ذلك؟ يا إلهي، ما الذي سيفعله أبي عندما يرى كل هذا؟"
قال سلمة بحزم "هذا أمر الله، فلا مردّ له.. يجب أن أذهب لملاقاة مولاي قبل عودته وإبلاغه بما حدث.."
سألته جمان بصوت قلق "أتظنه بخير؟ ألم يلتقِ بأولئك التتر في طريقه؟"
هز سلمة رأسه مجيباً "لا علم لي.. سأذهب لتحسس أخباره، لكن قبل ذلك يجب أن أتركك في موضع آمن.. عودتك للقصر الآن مستحيلة حتى بعد أن يغادره التتر، لذلك لا مفرّ لنا من الذهاب للقلعة.."
خفضت جمان بصرها وهي تقول بمرارة "لم يعد ذلك قصراً بعد كل ما جرى.. لقد غدا خراباً، وكل من عاش فيه قد قضى نحبه أو يكاد.."
لم يعلق سلمة وهو يزفر محاولاً تمالك قلقه على كل من تركهم خلفه.. لولا وجود جمان، لما غادر موقعه إلى جوارهم ولما اهتمّ بالموت الذي يحمله التتر على سيوفهم.. لكن بوجودها، فهو ملزم بإبعادها عن هذه المذبحة، فلا يطيق أن يرى أي أذىً يصيبها بأيدي أولئك المتوحشين.. فهل يحق لإمام أن يصفه بالجُبْن؟.. هل يحق له أن يلعنه لأنه فضّل الحفاظ على حياة جمان في مثل هذا الوقت العصيب؟.. لا يدري.. حقاً لم يعد يدري..

***********************

انشغل إمام بقتال أحد التتر قرب مدخل القصر وهو يسمع صياح الجواري وبكائهن في جوانب أخرى منه.. فهوى نحو التتري بضربة قوية بسيفه وهو يدمدم بغيظ "تباً لكم.. قلوبكم قد قدّت من حجر.."
تصدّى التتري بسيفه للضربة، فعاد إمام يوجه إليه ضربات بسيفه محاولاً القضاء عليه بسرعة قبل قدوم آخرين.. ولما رأى التتري يصدّ ضربته بالدرق ويوجه له ضربة بالسيف نحو خاصرته، حاول إمام تفادي الضربة بالتراجع بسرعة.. وقبل أن تصيبه الضربة بالفعل، رأى رمحاً يصيب صدر التتري ويسقطه أرضاً.. تجاوز إمام المفاجأة بسرعة وهو يلتفت خلفه، فرأى بعض رفاقه وعددهم لا يتجاوز الخمس يقتربون منه بأسلحتهم ورامي الرمح يهتف "أأنت بخير؟"
شعر إمام بالراحة لرؤيتهم خلفه، فقال لهم "اذهبوا وقاتلوا من تجدونه من التتر في هذه الناحية من القصر.. أنا سأذهب لجناح مولاتي جمان وأرى ما حلّ بها.."
هز الرجال رؤوسهم موافقين، فانطلق إمام من فوره نحو الطابق العلوي متجاوزاً جثة الجارية قرب السلم.. وفي الأعلى اندفع نحو جناح جمان ملاحظاً الصمت والظلام في كل مكان.. ولما وصل للجناح وجده خالياً مظلماً لا حركة فيه.. تلفت حوله بقلق متسائلاً عن مكان جمان وسلمة الذي تركهم لينقذها، ولاحظ النافذة المحطمة وإن لم يجد أثراً لأحد قربها.. فاستدار ليغادر الجناح عازماً على البحث عنها في موقع آخر.. وقبل أن يغادر الجناح، رأى أحد التتر يدلف عبر الباب شاهراً سيفه.. ولما رأى التتري إمام التمعت ضحكة على وجهه وهو يندفع نحوه ويوجه ضربه لرأسه.. سارع إمام لصدّ الضربة بسيفه متراجعاً خطوات قبل أن يوجه ضربة أخرى للتتري صدّها ذاك بالدرق.. تفادى إمام ضربات متتالية من التتري الذي كان يحتمي بالدرق في يده بينما لم يكن إمام يملك درعاً يحتمي به.. حاول إمام مغافلة التتري بأن هوى بسيفه نحو جانب التتري الذي رفع الدرق متأهباً لصد الضربة، لكن إمام مال بسيفه الآخر للجهة الأخرى محاولاً إصابة التتري في جنبه.. لكن فوجئ بغريمه يصدّ الضربة بالسيف قبل أن يدفع الدرق في وجه إمام بقوة.. تراجع إمام خطوة مع الضربة التي أصابت وجهه وهو يرى التتري يهجم عليه مرة أخرى.. فوجد التتري يدفع الدرق في مواجهة سيفه ليمنعه من توجيه ضربة له، بينما هوى السيف بقوة أطارت السيف الآخر بيده اليسرى.. ثم عاد التتري بضربة أخرى موجهة لجنب إمام.. فحاول إمام صدّ الضربة بيده اليسرى بشكل غريزي، ليصيبه نصل السيف بضربة قوية خاطفة..
كَبَتَ إمام صيحة ألم بصعوبة وهو ينظر ليده اليسرى التي تصببت منها الدماء بغزارة، عندما شعر بقدم التتري ترتطم بصدره بقوة فيرتد للخلف بعنف.. وقبل أن يدرك ما جرى له، شعر بجسده يطير في الفراغ للحظة بعد أن تجاوز النافذة المحطمة قبل أن يهوي بقوة نحو الأرض.. كان آخر ما رآه إمام وهو يهوي الضحكة الساخرة على وجه التتري، قبل أن يجد جسده يرتطم بقوة وعنف بالأرض الترابية تحته وتغيب الدنيا عن وعيه بغته ليحلّ محلها ظلام تام..

***********************


~ بعيدا عن الخيال (٤) ~
ذعر المسلمين من التتار

يروي ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ بعض الصور التي استمع إليها بأذنه من بعض الذين كتبت لهم نجاة أثناء حملات التتار على المدن الإسلامية فيقول:
* كان التتري يدخل القرية بمفرده، وبها الجمع الكثير من الناس فيبدأ بقتلهم واحداً تلو الآخر، ولا يتجاسر أحد المسلمين أن يرفع يده نحو الفارس بهجوم أو بدفاع!!..
* أخذ تتري رجًلا من المسلمين، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح، فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً ثم قتله!!..
* ويحكي رجل من المسلمين لابن الأثير فيقول: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلا في طريق، فجاءنا فارس واحد من التتر، وأمرنا أن يقيد بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟!! فقالوا: نخاف، فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل ذلك، فأخذت سكيناً وقتلته، وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير!!..
* ويحكى أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً. فوضعت السلاح فإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً..
* دخل التتار بلدة اسمها “بدليس” (في جنوب تركيا الآن) وهي بلدة حصينة جدا ليس لها إلا طريق ضيق جداً بين الجبال.. يقول أحد سكانها: لو كان عندنا خمسمائة فارس ما سلم من جيش التتار واحد؛ لأن الطريق ضيق، والقليل يستطيع أن يهزم الكثير.. ولكن هرب أهلها إلى الجبال وتركوا المدينة للتتار فقاموا بحرقها!!..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني

***********************

bluemay 08-02-16 09:57 AM

رد: رحلة ضياع
 
قلبي يعتصره اﻷلم من هذا التخاذل والخنوع

بصراحة يستحقوا القتل بخنوعهم هذا المقيت ..


سلمة نجح بتهريب جمان ..

إمام اتمنى ان ينجو منهم ، باسل شجاع .


اي قلعة يتحدث عنها سلمة؟!!

الم يحتلها التتار مسبقا ؟!!

سلمت يداك وكلي شوق للآتي رغم تخوفي منه .



لك ودي


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

عالم خيال 08-02-16 10:19 AM

رد: رحلة ضياع
 
ربما نستنكر ما جرى للمسلمين في ذلك الزمان على يد التتار
لكن عند قراءتي لبعض الكتب منها كتاب الدكتور راغب السرجاني
أدركت أن السبب الأكبر لما جرى بيد المسلمين أنفسهم
بسبب تخاذلهم وحبهم للدنيا
وبسبب استحلالهم للمحرمات حتى انتشر الخمر في بيوت العامة لا ينكره أحد
وأرى أن ما جرى سابقاً هو نسخة لما يجري حالياً
فأسأل الله أن يرحمنا برحمته عن مثل هذا المصير

القلعة التي يتحدث عنها سلمة هي قلعة سنداد، وهم لا يعلمون أي مصير لاقت حتى الآن
قصر ربيعة منعزل وبعيد عن القلعة
لذا ارتأى سلمة أن يحتموا بأسوار القلعة الحصينة هرباً من ذاك الهجوم

bluemay 08-02-16 10:57 AM

رد: رحلة ضياع
 
اللهم آمين ، اللهم اعف عنا واغفر لنا ولا تؤاخذنا بما يفعله السفهاء منا.



نعم كنت اقصد قلعة سندان فما فهمته انها احتلت من قبل التتار .

عالم خيال 08-02-16 12:56 PM

رد: رحلة ضياع
 
سترين حقيقة ما جرى في الفصل القادم بإذن الله..

مملكة الغيوم 08-02-16 09:02 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
بداية قراءت كل ما زكرتيه من بشاعةافعال التتار فى المسلمين ولكن المحزن ان المسلمين جبنو عن الدفاع عن نفسهم حتى امام الاعزل من التتار فالتتار كانت دائما تسبقهم الحكايات التى تجعلهم لايقهرون وتلقى الرعب فى قلوب محبى الحياه والمترفين من الناس الذين الفو النعمهة والعيش الرغيد
امام يعد من القلائل الذين واجهو الموت بشجاعه وفضله على عيش الزل والجبن
سلمه لااعده جبان فهو فضل الواجب الاقوي وهو حماية الامانه المكلف بها ويخاطر بعمره من اجل حمايتها فصل قاسى يحكى واقع اءليم عاش فيه المسلمين سلمت يداكى فى انتظار الباقى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 09-02-16 08:40 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أوافقك الرأي في كل ما ذكرتيه عن حال المسلمين والتتار
التتار بالفعل لعبوا لعبة الحرب بشكل صحيح، فاعتمدوا على الصيت أكثر من العدد والعدة
والمسلمون انهزموا بضعفهم وتخاذلهم وحبهم للدنيا
هذه هي حكاية التتار مع المسلمين باختصار

إمام بالفعل امتلك شجاعة نادرة، وسلمة كما قلت لم ينخذل، لكنه فضل حفظ الأمانة
فهو يعلم بأنه لو هزم فسيصبح حال جمان أسوأ ما يمكن تخيله، وقد استودعه ربيعة عليها
أما إمام، فلم يكن يملك ما يخسره، لذا ثبت وقاتل بأشجع ما يكون
أنتظر رأيك بالفصول القادمة بإذن الله

هل يناسكم أن أعرض فصلاً كل يومين؟

bluemay 09-02-16 09:08 AM

رد: رحلة ضياع
 
عني نفسي متفهمة انه تعب عليك والتزام ولكن ولا يهمك مع اني كنت اتمنى فصلين يوميا >> طماعة بعرف لووول



مع خالص ودي


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

مملكة الغيوم 09-02-16 09:14 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
مناسب حبيبتى طالما ناسبك هذا لكن ااجعليها فصول طويله وشكرا لكى

عالم خيال 09-02-16 10:19 AM

رد: رحلة ضياع
 
لا يهمني أن أعرضها يومياً أو كل يومان
لأن الرواية مكتملة عندي وقد نشرتها منذ زمن
لذا لا يمكنني جعل الفصول أطول فهي محددة سابقاً

كل ما يهمني أن تكون تناسبكم عند القراءة ولا تتكدس الفصول معكم
علماً بأن الرواية هذه قصيرة نوعاً بسبعة عشر فصلاً فقط
لذا إن أحببتم سأعرض فصلاً بشكل يومي
وليس هناك أي تكليف علي فلا تقلقوا

bluemay 09-02-16 11:12 AM

رد: رحلة ضياع
 
طيب معناته فصل يوميا

ما فيني صبر لووول

عالم خيال 09-02-16 12:00 PM

رد: رحلة ضياع
 
:e404: إذن سأنشر الفصل التالي حالاً..

عالم خيال 09-02-16 12:08 PM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الخامس ~


لم تكن تلك الليلة الليلاء قد انقضت بعد وطوت مآسيها وسلمة يلكز الحصان وهو منطلق به نحو قلعة سنداد، بينما جمان خلفه تنهنه باكية بيأس ومرارة.. مرت ساعة على هربهما من القصر، ولازالت جمان مصدومة لا تكاد تتوقف عن البكاء.. فقال سلمة بشيء من القلق "لم يعد لهذا البكاء أي فائدة يا مولاتي.. لا أريد أن ينهكك البكاء ونحن لم نتخلص من الخطر بعد.."
همست جمان باكية "لا أستطيع.. كلما فكرت بمن تركناهم خلفنا ينقبض قلبي ولا أملك دموعي.."
صمت سلمة دون أن يعلق، فسمعها تضيف "أتعتقد أننا نستطيع العودة للقصر؟"
قال سلمة بسرعة "لا.. قطعاً لا يمكننا ذلك.. لا نعلم ما الذي قد نجده هناك، وإن كان التتر قد غادروه أم لا.."
ارتجف صوتها وهي تهمس "لكني أريد أن أعرف ما حلّ بالقصر وبمن بقي فيه.."
فقال سلمة بضيق "ربما من الأفضل ألا نفعل ذلك في الوقت الحالي.. ليست لديّ القدرة على قتال كل أولئك التتر لو واجهتهم في القصر.."
صمتت جمان وهي تخفض وجهها والدموع تعود لتسيل على خديها ببطء، قبل أن تقول بحزن مرير "ربما ما كان علينا الرحيل قبل أن نحاول إنقاذهم.. لقد تخلينا عن الجميع.. هذا بغيض"
تنهد سلمة وهو يشعر بها تضغط على موضع جرحه، ثم غمغم "ما كنت أستطيع فعل شيء بمفردي.. جلّ همي كان أن أنقذك أنت، وأنت أمانة أأتمنني إياها مولاي.."
صمتت جمان وهي تشعر بغصة في حلقها.. وللمرة الأولى تشعر بالراحة لغياب خديجة.. لو واجهت خديجة هؤلاء التتر، سيقتلونها دون لحظة تردد.. عندها لن تقدر جمان على الصمود وهي ترى من كانت بمكانة أم لها تقتل على يد أولئك الأوغاد.. ولربما انهارت وعجزت عن الهرب مما سيسهل على التتر القبض عليها..
سمع سلمة في تلك اللحظة صوتاً من موقع قريب جعله ينظر جانباً بقلق.. كانا في ذلك الوقت يعبران المساحات المسطحة التي تفصلهما عن القلعة، والتي انتشرت فيها العديد من التشكيلات الصخرية متفاوتة الاحجام والأشكال.. ومن خلف إحدى تلك التشكيلات الضخمة، استطاع سلمة أن يرى على النور الخافت للقمر جماعة من الخيول لم يقدر على معرفة عددهم.. كانت الجماعة تقترب منهم بشكل حثيث، مما جعل جمان تقول بذعر "أتعتقد أنهم من التتار؟"
لم يعرف سلمة بم يجيبها فغمغم "لا أدري.. لكن لا يمكنني المجازفة"
غيّر طريقه متجاوزاً عدداً من التشكيلات الصخرية، فلاحظ على الفور أن تلك الجماعة قد تبعته أيضاً مما يعني أنهم عازمون على مطاردته، وإن كان جاهلاً بالسبب الذي يدعوهم لذلك.. أهم التتر؟ أهم قطاع طرق؟.. لا يدري، ولا يدري ما الحظ الذي أوقعه في مرمى بصرهم في هذه الليلة شحيحة النور..
حاول أن يزيد من سرعة الحصان، ملاحظاً أن المسافة بينه وبين مطارديه ثابتة تقريباً.. فلا يمكنه الهرب منهم، ولا يمكنهم اللحاق به في الآن ذاته.. دار سلمة ببصره فيما حوله بحثاً عن سبيل للهرب منهم والاختباء، لكن إن لجأ لأي من تلك التشكيلات الصخرية، فسيتبعونه على الفور.. والقلعة لا تزال بعيدة عنهم..
سمع صيحة ذعر من جمان، ولما التفت خلفه رأى على النور الخافت للقمر بعض راكبي تلك الخيول يصوبون سهامهم نحوه.. لكز سلمة حصانه بقوة فيما بدأت بعض السهام تنهمر حولهما بشكل متفرق.. شعر سلمة بقلقه يتزايد رغم أن الرجال لم يتمكنوا من إحكام التصويب في هذا الظلام.. لكن لو أفلح سهم واحد في إصابة الحصان الذي لا يملكون غيره، فهذا معناه نهايتهما الأكيدة..
نظر سلمة أمامه ملاحظاً مجموعة أخرى من التشكيلات الصخرية متفاوتة الأحجام والتي تقترب منهم بسرعة، ولاحظ في الآن ذاته أن نور القمر يخفت قليلاً قبل أن يعود لينير البقعة ثم يخفت من جديد.. رفع بصره ليجد أن بعض السحب قد بدأت تغطي وجه القمر، فالتمعت في ذهنه فكرة قد تفيدهما في التخلص من مطارديهم.. فقال لجمان "اسمعيني يا مولاتي.. سأخفف من سرعتي فور أن نصل لتلك التشكيلات ونختفي خلفها.. عليك عندها القفز عن الحصان والاختباء بسرعة خلف أقرب الصخور إليك.."
صاحت جمان بذعر "لا يمكنني فعل ذلك.."
قال سلمة بحزم "بل عليك أن تطيعيني.. حاذري أن يروك قبل اختبائك.. سأتخلص من الحصان بعدك بقليل وسأتركه يركض وحيداً.. قد نستطيع خداع ملاحقينا للحاق بالحصان فيما نهرب نحن.."
هزت جمان رأسها بفزع قائلة "لا أستطيع.. سيجدونني ولن تستطيع إنقاذي منهم بعدها.."
فقال سلمة بشيء من الحدة "أرجوك لا تتخاذلي الآن.. أطيعيني فلا نعلم متى سيسقط هذا الحصان ونقع نحن الإثنان تحت رحمة ملاحقينا.."
وصلوا لتلك التشكيلات الصخرية وبدأ الحصان في الركض بينها، فقال سلمة "أأنت مستعدة؟"
هزت جمان رأسها إيجاباً باضطراب، فخفف سلمة سرعة الحصان بعد أن تأكد أن صخرة ضخمة تخفيهم عن الأعين، وصاح بجمان "اقفزي الآن واختبئي جيداً.."
غالبت جمان اضطرابها وهي تقفز عن الحصان لتسقط أرضاً وتتدحرج قليلاً بينما لكز سلمة الحصان ليعاود ركضه بسرعة وهو يلقي نظرة قلقة على جمان.. فرآها تتدحرج على الرمال قبل أن تنهض بسرعة وتتلفت حولها بذعر، ثم ركضت نحو أقرب الصخور واختبأت خلفها قبل أن يقترب ملاحقوهم ويلمحوها.. عاد سلمة يلكز الحصان وهو يحاول أن يُبقي المسافة ثابتة بينه وبين الآخرين، وظل يفكر بقلق.. هل سينخدع الرجال بهذه الخدعة؟ ألن يلاحظوا أن الحصان قد غدا بلا راكب على ظهره بعد أن يقفز عنه؟.. يأمل أن تغطي السحب القمر لفترة أطول حتى يستطيع أن ينجو بعنقه ويعود لجمان.. التفت خلفه فرأى المجموعة تطارده بإصرار وتحاول إيقافه بشيء من السهام بين فترة وأخرى.. وقرب آخر صخرة في التشكيلات التي يمرون بينها، والتي شكل حاجزاً بينه وبين مطارديه، أوقف سلمة الحصان فجأة وقفز عنه قبل أن يضرب فخذه بقوة بنصل سيفه بشكل عرضي مما جعل الحصان يصهل ويركض بسرعة مبتعداً.. أما سلمة فقد ركض نحو أقرب التشكيلات الصخرية فاختبأ خلفها ليبدأ الصعود فوقها مما يمنحه مجالاً أكبر للرؤية.. وقبل أن يصل أعلاها، سمع سنابك الخيل تقترب من موضعه بوضوح، فربض قرب سطح تلك الصخرة وهو يراقب جماعة الخيول التي استمرت في الركض بسرعة دون أن يدرك هويتهم مع الظلام المهيمن في المنطقة كلها..
أسرعت تلك الجماعة والتي لاحظ أنها لا تقل عن خمس خلف حصانه الذي استمر بركضه مبتعداً عن موقعهم.. فتنهد سلمة وهو يراهم غير مدركين لكون الحصان وحيداً بلا أي راكب على ظهره.. وقبل أن يتحرك من موقعه، لاحظ أن أحد تلك الجماعة قد انفصل عن بقية رفاقه غير بعيد عن موقعه وهو يدير حصانه ويعود بسرعة أقل نسبياً.. فغمغم سلمة مقطباً "أهم يشكـّون بما فعلناه؟.."
ظل يراقب اقتراب الرجل منه وهو قابض على سيفه بقوة وقد عزم على الاستفادة من هذه الفرصة التي قد لا تواتيه مرة أخرى.. هما بحاجة لحصان لإكمال مسيرهما للقلعة، وهذا الرجل يمنحه الفرصة على طبق من ذهب.. لما اقترب الرجل من موضعه وهو يتلفت حوله، والحصان يبطئ من سيره بين التشكيلات الصخرية، قفز سلمة فجأة على الرجل وارتمى معه أرضاً والحصان يصهل من المفاجأة.. وقبل أن يتمالك الرجل نفسه كان سلمة يدوس السيف المعلق في حزام الرجل ليمنعه من استخدامه وهو يرفع سيفه ناوياً إصابة الرجل بضربة مميتة.. فسمع الرجل يصيح في تلك اللحظة "أرجوك لا تقتلني..."
فوجئ سلمة بلغته العربية وهو يرى الرجل الملثم يزيح لثامه وهو يصيح "لا ننوي بكم شراً.. فلا تقتلني.."
جعلته تلك الصيحة يتردد قليلاً، وقبل أن يسأل الرجل عن هويتهم وجده يركله في صدره بقوة ويلقيه للوراء.. تمالك سلمة نفسه بسرعة ونهض واقفاً ليجد الرجل قد استلّ سيفه وهو يهوي به نحو صدره.. سارع سلمة لصدّ الضربة بسيفه فيما الرجل يضحك ساخراً وهو يهتف "يا لك من غرّ ساذج.."
شعر سلمة بالغضب وهو يصدّ ضربة جديدة للرجل، ثم هوى بسيفه نحو عنق الرجل الذي سارع لصدّ الضربة أيضاً.. فعاجله سلمة بلكمة من يده اليسرى بقوة قبل أن يسدد سيفه في ضربة لصدره وهو يقول بغضب "ليس لديّ الوقت لسخريتك هذه.."
وأتبع ضربته الأولى بأخرى انغرزت في صدره بقوة شهق لها الرجل واتسعت عيناه، قبل أن يجذب سلمة سيفه تاركاً جسد الرجل يسقط جثة بلا حراك.. شعر سلمة بضيق لاضطراره قتل الرجل، رغم إدراكه أنه من قطاع الطرق، لكن توتره الذي ازداد مع مرور الساعات هذه الليلة وقلقه الشديد على مصير جمان لم يسمح له بإطالة التفكير.. تلفت حوله ليطمئن لابتعاد بقية الرجال، ثم تقدم من الجثة واستولى على سيفه قبل أن يتجه إلى الحصان الذي وقف جانباً متوتراً.. فتقدم منه وأمسك لجامه مغمغماً "الحمدلله أنك لم تهربي وتتركيني وحيداً"
لم يجد منه ممانعة وتحفزاً منه، فسارع لامتطائه وعاد أدراجه للموضع الذي ترك عنده جمان.. ولما اقترب منها هتف "مولاتي.. أأنت بخير؟"
رآها تطلّ من خلف الصخرة بعينين متسعتين، ثم ركضت نحوه وهي تسأله "ماذا عن الآخرين؟"
ساعدها لتركب خلفه قائلاً "رحلوا.. وأتمنى ألا يعودوا في وقت قريب.."
ولكز الحصان ليتجه في اتجاه آخر بعيد عن ذاك الذي سار فيه بقية الرجال.. بينما عادت جمان تتساءل "هذا الحصان يختلف عن الذي كنا عليه.. ما الذي فعلته؟"
أجابها "استوليت عليه بعد أن تخلصت من راكبها الذي ابتعد عن رفاقه.. سنبتعد ونختبئ في موقع أكثر أمناً حتى تطلع الشمس.. لم تعد هذه البقاع آمنة وقد لا نسلم في المرة القادمة إن لحق بنا قطاع الطرق.."
صمتت جمان وهي تنظر خلفها بقلق خشية أن يكون الرجال على إثرهم، ثم عادت ببصرها للأمام وهي تهمس "أتمنى أن تكون هذه آخر مآسينا.."

***********************

بعد ساعة من الجري المتواصل، أوقف سلمة الحصان المنهك في موقع تحيط به بعض التكوينات الصخرية الضخمة مما شكـّل لهما ستاراً ملائماً.. ترجـّـل سلمة عن الحصان وهو يقبض على اللجام بقوة لئلا يفزع الحصان منه ويولـّي مبتعداً، والتفت نحو جمان التي لم تتحرك من موقعها على ظهر الحصان وهي مطرقة قائلاً "هل أنت بخير يا مولاتي؟.."
فوجئ بها تقول بشيء من الحدة "لا تنظر إليّ.."
بدت الدهشة على ملامحه، إلا أنه لم يملك الاعتراض وهو يخفض بصره متسائلاً "ما الأمر يا مولاتي؟.. أأنت خائفة؟.. سنصل للقلعة قريباً فلا تخشي شيئاً.."
غمغمت بصوت خفيض وضيق واضح "لا يمكنني الذهاب لأي مكان بهذا الشكل.. أريد وشاحاً لتغطية شعري، وأريد ملابس أخرى.."
قال سلمة "ملابسك لا بأس بها، تحتاجين فقط لتغطية شعرك بوشاح.."
قالت جمان بعصبية "أخبرتك أني أريد إبدالها.. لا يمكنني الذهاب للقلعة بهذه الصورة.."
لم يعلق على قولها وهي تراه يخلع عمامته ويمد يده بها نحوها دون أن يرفع بصره ويقول "ربما كان عليك استخدام هذه مؤقتاً، فلا نملك حلاً آخر.. رغم أنها لا تناسب قـَدْرَك يا مولاتي.."
تناولت جمان العمامة وهي تغمغم "لم يعد هناك أي قـَدْرٍ يناسبني بعد ما جرى الليلة.."
فكـّت العمامة ولفـّـتها حول رأسها لتخفي شعرها الذي تداعبه النسمات الخفيفة، بينما أدار سلمة ظهره لها وهو يقول بحزم "بل ستعود لك مكانتك بأفضل مما كان.. إن هذه إلا غمّة ستزول بإذن الله تعالى.."
وأضاف "سآخذك نحو القلعة التي أتمنى أن تكون آمنة.. وسآخذك إلى قصر مولاي عبدالله بن جعفر، حيث يمكنك أن تكوني في رعاية ابنه عامر حتى عودة مولاي.. فهذا أفضل لك"
نظرت جمان إليه بقلق وهي تسوّي العمامة على رأسها وقد لفـّتها كوشاح، ثم قالت بتردد "كيف يمكنني البقاء في قصره وحيدة؟.. لا أعتقد أنني سأكون مرتاحة لذلك البتة"
قال سلمة بعد لحظة صمت "هذا ما يجب أن يكون.. فلا أعلم موقع مولاي بالتحديد، ولا يجدر بي أخذك معي وأنا أبحث عنه.. وجودك في القلعة أكثر راحة وأمناً لك دون شك.."
صمتت جمان وهي تشعر بضيق من ذلك، لكن كما قال سلمة فإن من الخير لها أن تأوي لقصر ذو حراسة جيدة، حتى لو كان ذلك سيسبب لها الحرج مع عامر.. لكن، ألم تكن ستزفّ إليه بعد وقت قصير؟ لمَ عليها أن تكون حرجة ممن سيصبح زوجها قريباً؟..
تنهدت بينما قال سلمة "سأذهب لألقي نظرة فيما حولنا، وبعدها سننطلق نحو القلعة بحذر.. لا نريد أن يباغتنا التتر كما حدث الليلة.."
وابتعد نحو أقرب التكوينات الصخرية ليرتقي أكبرها ويلقي بنظرة شاملة على الموقع المحيط بهما.. بينما هبطت جمان من على ظهر الحصان ووقفت تعدّل العمامة على رأسها وتلقي بنظرة على ملابسها البسيطة.. رغم أن ملابسها كانت تستر جسدها كله ولم تكن شفافة، إلا أنها لم تعتد الخروج بهذه الملابس القطنية البيضاء التي تستخدمها عادة للنوم، بالإضافة لكونها حافية القدمين.. ومع شروق الشمس، سيزول الظلام الذي تشعر أنه كان ستراً لها.. وهي التي لم تكن تخرج إلا بكامل زينتها وبألبسة حريرية مطرزة ومزينة بالذهب والجواهر..
رمت تلك الفكرة خلف ظهرها وهي تقف وتنظر جهة القصر الذي تركوه في حالٍ يرثى لها.. كان النور الأحمر الصادر من جهة القصر واضحاً ويدلّ على حجم الحريق الذي يلتهمه والحدائق المحيطة به.. غزتها المرارة وهي تراقب الأفق وتفكر في حال من تركتهم.. عندما كانت تأمل بالخروج من أسوار القصر، وعندما كانت تتمنى بعض الحرية، لم يكن هذا المنظر الذي تود رؤيته.. ولم يكن هذا الحال الذي يسعدها أن تخلـّفه وراءها..
جلست جانباً محاولة تمالك رجفة جسدها وهي تقول "رباه.. لم حدث كل هذا؟"
سمعت صوت سلمة يقول وهو يقترب من موقعها "لا يجب علينا الاعتراض على قضاء الله تعالى.."
قالت بمرارة "لكن ما جرى أمر فظيع.. لا أكاد أتمالك رجفة جسدي وأنا أتذكر منظر الأجساد الغارقة بدمائها.. ليس هذا اعتراضاً مني على أمر الله، لكنه صدمة بما رأيته وبفظاعة ما يمكن للإنسان أن يرتكبه.."
لم يعلق سلمة وهو مدرك مدى صدمتها للأمر.. وجلس جانباً قائلاً "سنرتاح قليلاً حتى ترتفع الشمس قبل أن نكمل طريقنا نحو القلعة.."
وضعت جمان رأسها بين ذراعيها وهي تغمض عينيها محاولة تناسي ما رأته وشهدته في الليلة الماضية.. لكن لم يكن الأمر بالسهولة التي تصورتها.. وربما لا يكون كذلك أبداً..

***********************

عندما استيقظ إمام فجأة، شعر بأشعة الشمس الدافئة على جسده الغارق في العرق.. باغته الألم الحارق في ذراعه اليسرى، فنهض وهو يمسك ذراعه بقوة عندما انتبه لشيء جعله يحدق في ذراعه للحظات.. بعد المعركة الشرسة التي خاضها مع التتري قبل أن يفقد وعيه، تذكر أن التتري قد أفلح في إصابته بضربة قوية في ذراعه اليسرى.. ولقوة الضربة استطاع قطع ذراعه من تحت الرسغ بشكل كامل..
نظر إمام لثيابه الممزقة وللموضع الخالي من ذراعه وهو يشعر بشعور غريب تجاوز الشعور بالألم.. ثم حاول تجاوز ذلك وهو يلاحظ أن ذراعه قد تم تضميدها بشكل كامل وإن كانت الضمادات قد غرقت في دمائه.. تطلع حوله بصمت ملاحظاً القصر الذي تفحمت أجزاء كبيرة منه، وعندما التفت لمبنى العبيد رآه قد تهدم بالكامل ولم يبق منه إلا حطام محترق.. رأى الجثث المتناثرة حوله فعبس وهو يغمغم بمرارة "تباً لأولئك الأوغاد.."
سمع خطوات راكضة نحوه مما جعله يتوتر وهو يلتفت خلفه.. فرأى زهران يقترب منه حتى وصل إليه وعلى ملامحه راحة عميقة وهو يقول "استيقظت أخيراً؟ الحمدلله.. خشيت أن تقضي نحبك لكثرة ما نزفت من دماء.."
تساءل إمام بدهشة "ما الذي جرى هنا؟.. كل ما أذكره هو سقوطي من نافذة القصر وبعدها فقدت الوعي.. كيف لم يتخلص التتري مني؟ وكيف نجوت أنت؟"
قال زهران "مهلاً.. سأذهب لأحضر لك بعض الماء فأنت منهك تماماً.. وبعدها أخبرك بكل ما رأيته.."
وعاون إمام على النهوض مضيفاً "الأفضل أن تبقى في الظل حتى أعود.."
حاول إمام تمالك رجفة جسده وضعفه مع ما نزفه من دماء، ولما جلس في ظل ما تبقي من القصر تركه زهران مسرعاً ليحضر له الماء.. كان الموقع غارقاً في صمت غير مألوف، مما جعل غصة تسدّ حلق إمام وهو يحاول عدم التدقيق في الجثث القريبة منه، فلم يكن يرغب بمعرفة هوية من عاش معه في هذا القصر عمراً والآن لا يعدو كونه جثة هامدة وربما تمّ التمثيل بها..
تمالك إمام حزنه وهو يسند رأسه للجدار بصمت حتى رأى زهران يعود إليه حاملاً بعض الماء في إناء.. تناول إمام منه الإناء وشرب الماء بجرعات كبيرة ثم صبّ الباقي على رأسه الذي يكاد ينفجر ألماً.. ثم رمى الإناء جانباً وهو يسأل زهران "والآن أخبرني بكل ما جرى.."
قال زهران "بعد أن تركتنا ودخلت القصر، تشجع بعض الرجال ولحقوا بك محاولين قتال التتار.. بينما بقيتُ مع البقية فلم يكن أحدنا يُحْسِن القتال مثلكم أنتم.. اقترح البعض أن نهرب بالخيول الموجودة في الإسطبل، لكن ميسرة هددهم بالقتل إن حاول أحدهم الهرب، مما يعني أن يفقد الآخرون وسيلة الترحال الوحيدة هنا.."
غمغم إمام بسخط "تباً لهم.. عوضاً عن مساعدتنا للتخلص من التتار ونحن أكثر عدداً، يفكرون بالتخلي عن الجميع والهرب؟.. إنهم يستحقون ما جرى لهم"
خفض زهران بصره قائلاً بمرارة "لا أحد يستحق أن يقتل بهذه الطريقة.. بعد أن غاب الرجال في القصر خلفك، خرج ثلاثة من التتر ويبدو أنهم كانوا يبحثون عن رفيقهم الذي قتلته أنت.. ولما وصلوا لمبنى العبيد ورأوا جثته ثاروا علينا وأعملوا سيوفهم في رقاب الرجال الذين لم يجرؤوا على المقاومة ولم يجدوا مكاناً يهربون إليه.."
نظر له إمام باستنكار بينما قال زهران "أنا كنت في ذلك الوقت قد صعدت لسطح المبنى لأمنح نفسي موضعاً أفضل لمراقبة الوضع.. ولما رأيت المذبحة التي قام بها التتار بقيت متجمداً في موضعي دون أن أجرؤ على الحراك.. ثم رأيت التتار بعد أن فرغوا من الرجال يدلفون مبنى العبيد ويبدؤون بتفتيشه.. خشيت أن يصل أحدهم لموضعي، فلم أجد بداً من الاختباء.."
وأشار لإحدى الأشجار التي كانت كثيفة الورق لكنها تفحمت من النار ولم يبق منها إلا رمادٌ قائلاً "تلك الشجرة كما تعلم قريبة من السطح، فلم أملك إلا أن أقفز على أقرب فرع لها وأختبئ بين أوراقها الكثيفة أراقب ما يجري مفزوعاً.. بعد أن رأيت مقتل رجال أكبر مني عمراً وأقوى مني بمراحل، كيف لي بمواجهة أولئك التتر؟ دعوت الله كثيراً أن يغفلوا عني ويرحلوا.. والحمدلله أنهم غادروا المبنى بعد أن استولوا على كل ما له قيمة.. وللأسف لم يتركوه إلا بعد أن أضرموا فيه النيران ولست أدري ما هدفهم من ذلك.."
لم يعلق إمام وهو عابس بضيق، بينما أضاف زهران "عندما بدأت النار تقترب من الشجرة، لم أجد بداً من النزول والاختباء في موقع آخر.. ومن هناك، ظللت أراقب القصر وما يجري فيه بقلب واجف.. لست أدري ما جرى لكم فيه، لكني فزغت عندما رأيتك تسقط من نافذة القصر العلوية أرضاً دون حراك.. ظننت عندها أنك ولاشك قد قضيت نحبك، وأظن التتري قد اعتقد الأمر ذاته فلم يأتِ لتفحص جسدك.. ونحمد الله على ذلك، وإلا ما تردد في فصل رأسك عن جسدك رغم فقدانك للوعي.."
دمدم إمام "لست أدري أكان ذلكَ من حسن حظي أم من سوئه.."
قال زهران بعتاب "احمد الله على نجاتك يا إمام.. أنت بخير ولم تفقد إلا يداً واحدة.."
علق إمام "لكني أعيش وغمامة سوداء تلتهم قلبي مع كل ما رأيته وما شهدته من أهوال.. الأمر ليس هيناً بتاتاً ولن تعود الأيام كما كانت أبداً"
هز زهران رأسه وهو يقول "المهم أنك بخير وأنك حيّ.. هذه نعمة من الله تعالى.."
ثم أضاف متطلعاً للقصر خلفه "رأيت بعد سقوطك بوقت وجيز بقية التتر يخرجون من القصر.. كانوا محملين بكل ما له قيمة في القصر من ذهب ومال وجواهر.. ولم ينسوا الاستيلاء على الخيول في الإسطبل، وحملوا عليها من شاؤوا من الجواري بعد أن ربطوهن بإحكام.. ثم غادروا تاركين النار تلتهم القصر بما فيه.. وبعد رحيلهم، حاولت دخول القصر لأرى إن كان هناك من هو بحاجة لي، لكني لم أجد إلا جثثاً في كل مكان.. ولما عدت إليك، وكنت يائساً في الحقيقة من كونك على قيد الحياة، اكتشفت أنك على غير ما توقعت مازلت حياً.. ومازال قلبك ينبض.. فأسرعت أعالج جرحك الذي نزف الكثير، واضطررت لكيّ الموضع بالنار لأوقف النزف، وضمدته بعدها دون أن تـُبدي أي حراك.. ثم انتظرت استيقاظك بفارغ الصبر فنحن أصبحنا وحيدين تماماً في هذا القصر.."
سأله إمام بشيء من القلق "ألم ترَ سلمة؟ ما الذي جرى له ولمولاتي؟"
أجاب زهران "لا تقلق.. قبل سقوطك أنت من النافذة، رأيت سلمة يخرج من ذات النافذة ومعه مولاتي.. واستغل قرب إحدى خيول التتر تحت النافذة فقفز على ظهرها وسيطر عليها بسرعة قبل أن تتبعه مولاتي.. حاول أحد التتر إيقافه، لكن سلمة أطار رأسه بضربة واحدة قبل أن يغادرا أسوار القصر بأمان.."
تبدت الراحة على وجه إمام وإن قال بضيق "تباً له.. هرب دون أن يحاول معاونتنا.."
فقال زهران محاولاً التهوين من الأمر "المهم أنه أنقذ مولاتي.. والمهم أنهما حيّين يرزقان.."
زفر إمام وهو يخفض بصره بصمت، ثم قال "شكراً لك يا زهران.. أنا مدين لك بحياتي.."
ربت زهران على كتفه قائلاً "لا بأس يا صاحبي.. المهم الآن، ما الذي سنفعله بعد كل ما جرى هنا؟"
نظر إمام حوله وقال "وما الذي بيدنا فعله؟ علينا أن ننتظر عودة مولاي، هذا إن لم يلقَ مصيراً مشابهاً.."
قال زهران مقطباً "يجب أن نذهب بك للقلعة لعلاجك.. إن بقيت بجرحك هذا لمدة أطول فأنت هالك لا محالة.."
غمغم إمام "وبم يمكننا فعل ذلك؟"
أجاب زهران "لقد استولى التتر على الخيول كلها.. لكن بقي لدينا حمار في الحظيرة.. سيكون سيرنا به أبطأ بالطبع، لكنك لن تتمكن من السير على قدميك للقلعة بأي حال.."
صمت إمام وزهران يضيف "ربما نستغرق نهاراً كاملاً في الوصول للقلعة، لكن هذا أفضل من البقاء هنا.."
غمغم إمام متنهداً "بعد كل ما جرى، أخشى أن يكون ذهابنا إليها بلا فائدة.."

***********************

عندما تبدّت لهما قلعة سنداد عند الأفق بأسوارها العالية، لاحظ سلمة بوضوح سحائب الدخان التي علتها والتي أتت من جهات متفرقة منها.. ورغم القلق الذي شعر به، إلا أنه لم يبطئ سرعة الحصان وهو يتقدم من القلعة بإطراد.. سمع جمان تشهق لما انتبهت للقلعة وهمست "القلعة تعرضت لهجوم أيضاً؟"
قال سلمة "يبدو أن فرقة أكبر من التتار قد هاجمت القلعة الليلة الماضية.. لكن أتمنى أن تكون قد غادرتها وإلا سيكون لقاؤنا بها سيئاً.."
فقالت جمان بقلق شديد "لا تقترب من القلعة حتى نتأكد من أمرها.."
هز سلمة رأسه موافقاً، وإن استمر بسيره بالحصان حتى مشارف القلعة.. فسمع جمان تهمس بقلق "أرجوك توخّ الحذر.. أخشى أن نواجه التتار مرة أخرى.."
خفف سلمة سرعة الحصان مع اقترابهم من القلعة قبل أن يقول "المكان يبدو لي أهدأ من اللازم.. وأبواب القلعة مشرعة على مصراعيها.. ربما هم غادروها حقاً.."
لم تعلق جمان رغم القلق الشديد الذي يعتريها كلما فكرت بإمكانية مواجهة التتار من جديد.. ولما وصلوا إلى باب القلعة الأقرب إليهما، أوقف سلمة الحصان فجأة فصهل وهو يدور في موقعه بتوتر.. نظر سلمة أمامه بصمت مقطباً بينما أشاحت جمان ببصرها وهي تغمض عينيها بقوة وتئن بألم.. شعرت بقبضة قاسية تعتصر قلبها مع المنظر الذي تراه ولم تشهد مثله في حياتها.. فرغم الجثث التي رأتها في القصر والتي غطاها الظلام، فإن رؤية أكوام الجثث التي تناثرت في طرقات القلعة لا يشبهه بأي حال.. وزاد من حدة الأمر نور الشمس الذي جعل المنظر أشد وضوحاً وقسوة.. سمعت جمان سلمة يقول بخفوت "لا تنظري يا مولاتي.."
تشبثت بكتفيه بقوة وإن حاولت إبقاء عينيها مغمضتين وهي تشعر بالحصان يسير مجدداً.. لكن كيف لها أن تتجاهل الرائحة القوية لمزيج الدخان الصادر من بعض المنازل المتفحمة والدماء التي أغرقت الطريق تحتهما؟..
سار سلمة بالحصان عبر بوابة القلعة المشرعة على مصراعيها وعبر الطريق الذي يشق المنازل القريبة، محاولاً تجاوز الجثث التي ارتمت متفرقة في كل مكان وعلى مرمى بصره.. بدا الأمر وكأن نمراً متوحشاً قد أطلق وسط أناس عزّل فجال بينهم يقتل ويمزق ويلطخ الجدران بدمائهم دون أن يجد مقاومة تذكر.. ما الذي يجعل جندياً، مهما كان جنسه ودينه وما نشأ عليه، يرتكب مثل هذه الجرائم في أناس لا ذنب لهم ولا جريرة؟.. ما الذي يجعل إنساناً يسعد بتدمير الحياة بكافة أشكالها بدون هدف واضح؟..
سمع صوتاً خافتاً من شارع جانبي، فالتفت بقلق ويده تمتد لتمسك مقبض سيفه.. فرأى رجلاً أشيب اللحية يقف منكمشاً وهو ينظر إليهما بعينان متسعتان ذعراً.. ولما تأكد من هويتهما تنهد وهو يقول بصوت ينتفض "الحمدلله.. خشيت أن أولئك التتر قد عادوا لمزيد من المذابح"
كان حال الرجل يرثى له مع الدماء التي تلطخ ملابسه والغبار الذي يتخلل لحيته ويعفر وجهه.. فتساءل سلمة مقطباً "أأنت بخير؟ ما الذي حدث هنا؟ أهم التتار من فعلوا كل هذا؟"
زفر الرجل وهو يجلس جانباً وقال بمرارة "أجل.. مخطئ من يسمي أولئك بشراً.. إنهم وحوش، ولا يملكون ذرة رحمة في قلوبهم.."
وضحك بشيء من المرارة قائلاً "ذلك الوالي الأحمق.. لقد فتح أبواب القلعة وسلم مفاتيحها للتتار دون قتال.. وأجزل لهم العطايا والهدايا أملاً في أن يُبْقوا على عنقه.. لكنهم بعد أن أخذوا ما يريدون، أطاروا عنق الوالي أول ما فعلوا، ثم عادوا لأهل القلعة فوضعوا فيهم السيف بدون تردد أو ندم.."
استمع له سلمة وجمان باستنكار وصدمة والرجل يضيف مشيراً لما حوله "أيصدق عاقل أن يحدث كل هذا في يوم وليلة؟ القتل والنهب والسلب، حدث كل هذا بسرعة وبلا رحمة.. ناهيك عن الأعمال الوحشية التي ارتكبوها بالنساء والأطفال والعجائز.."
تساءل سلمة وهو يترجل ويقترب منه "وكيف نجوت أنت منهم؟"
قال الرجل قالباً كفيه "ليس مهارة مني في القتال بالتأكيد.. كيف لي أن أجابه أولئك وأنا ضعيف؟.. لقد اندسست بين جثث القتلى فحسبوني قتيلاً مثلهم.. ولم أترك موقعي حتى تأكدت أنهم قد غادروا القلعة تماماً.."
عضّت جمان شفتها وهي تشيح جانباً محاولة إزالة تلك الصورة من ذهنها.. كيف استطاع أن يحتفظ هذا الرجل بعقله وهو يجد نفسه مرمياً بين الجثث لساعات؟.. إنها بالكاد تستطيع أن تمنع نفسها من الانهيار مع مرأى الموت المحلق فوق القلعة والمهيمن عليها..
سمعت سلمة يتساءل "وماذا عن عائلة القائد عبدالله بن جعفر؟ ماذا عن ابنه عامر؟ هل نجوا من هذه المذبحة؟"
قال الرجل ساخراً "بالطبع.. لقد هربوا قبل قدوم التتار بساعات وحملوا معهم كل أموالهم وذهبهم وعبيدهم.. لو لم يلتقِ بهم الجيش التتري الذي غادر القلعة فهم بالتأكيد قد وصلوا إلى الكوفة ليبدؤوا حياة جديدة رغدة.."
شعرت جمان بالاطمئنان لما سمعته بينما قطب سلمة بصمت.. حاول أن يفهم سبب رحيل عامر دون أن يحاول معرفة مصير جمان مع إدراكه للخطر القادم والذي سيحيق بالمنطقة كاملة.. أي عذر يملك ذاك الرجل تجاه من ستكون زوجته؟..
نظر سلمة لجمان خلفه وقال "انتظريني هنا يا مولاتي.."
لم تعلق جمان وهي تراه يبتعد عنها ليدخل أحد المنازل القريبة ومنها لمنزل آخر وآخر.. بينما ظلت جمان تنتظره وهي على ظهر الحصان مدة طويلة، ولم تكن تجرؤ على الترجل عن الحصان وكأن بقاءها في هذا الموقع المرتفع يبعدها عن الأهوال التي تراها ويمنعها من الاستسلام للذعر الذي يمرح في صدرها..
بعد ذلك الوقت، رأت سلمة يعود وهو يحمل قربة ماء وبعض الطعام.. ولما وصل للحصان وضع ما يحمله في الجراب المعلق على ظهره وجمان تغمغم "هل يجوز بنا فعل هذا؟"
قال سلمة باقتضاب "لم يعد لهذا الطعام من صاحب.."
صمتت جمان وهي تشعر بالألم يعتصر صدرها لتعليقه، ثم لاحظت أنه بحث ببصره حولهما، قبل أن يبتعد خطوات وينحني لأخذ شيء سقط أرضاً قرب إحدى الجثث.. ولما عاد إليها رأت في يديه حذاءً عادي المظهر قد غطاه الغبار وقد لاحظ أنها حافية القدمين.. فقالت جمان بصوت مرتجف "أنت تعلم أني لن أرتدي هذا.."
وضع سلمة الحذاء جانباً في جراب الحصان وهو يقول "لا مفرّ من ذلك.."
وأسرع يمتطي الحصان والرجل القريب يقول "هل أنتما مغادران؟ كونا حذرين، ففرق التتار تجوب المناطق وقد يلتقون بكما في أي موضع"
لم يعلق سلمة رغم القلق الظاهر على وجه جمان، وأدار الحصان متجهاً نحو بوابة القلعة بصمت.. فسألته جمان بقلق "إلى أين سنذهب الآن؟"
أجاب سلمة "سنحاول تتبع قافلة عبدالله بن جعفر.. ماداموا قد أفلحوا بالهرب فوجودك معهم سيكون أكثر أمناً"
همست جمان وهي تخفض وجهها "لماذا لم يأتِ عامر للبحث عني قبل رحيله؟.."
جز سلمة على أسنانه محاولاً كبت غيظه دون أن يجيب تساؤلاتها بما يهدئ قلقها.. ولكز الحصان ليبدأ ركضه مغادراً القلعة بكل الدمار الذي حلّ في أنحائها.. مع تصرفه الأخير، يثبت عامر أنه ليس أهلاً بجمان حقاً.. كيف يتركها دون أن يكلف نفسه مشقة السؤال عنها وهو مدرك ولاشك غياب ربيعة؟.. استنكار سلمة يزداد كلما فكر بالأمر، وبغضه لعامر يتضاعف أكثر من السابق..

***********************

~ بعيدا عن الخيال (٥) ~
فظائع التتار في المدن

وصل جنكيزخان إلى مدينة “سمرقند” وحاصرها من كل الاتجاهات.. وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخوارزمي النظامي، ولكن دب الرعب في قلوبهم، وتعلقوا بالحياة تعلقاً مخزياً، فأبوا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!!.. فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم.. وقرر البعض من الذين في قلوبهم حمية من عامة الناس أن يخرجوا لحرب التتار.. وبالفعل خرج سبعون ألفاً من شجعان البلد.. خرجوا جميعاً على أرجلهم دون خيول ولا دواب.. ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظ يمكنهم من القتال.. ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون.. وعندما رأى التتار أهل “سمرقند” يخرجون لهم قرروا القيام بخدعة خطيرة، وهي الانسحاب المتدرج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيداً عن مدينتهم.. وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيداً عن “سمرقند” وقد نصبوا الكمائن خلفهم.. ونجحت خطة التتار، وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدمون خلفهم.. حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تماماً.. وبدأت عملية تصفية بشعة للجيش المسلم.. فقد المسلمون في “سمرقند” سبعين ألفا من رجالهم دفعة واحدة..
وعاد التتار من جديد لحصار “سمرقند”.. وأخذ الجيش الخوارزمي النظامي قراراً مهيناً!!.. لقد قرروا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم.. وقال لهم عامة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح.. ولكنهم أصروا على التسليم.. فهم لا يتخيلون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامة الناس.. وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين، فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نسيّركم إلى مأمنكم.. ففعلوا ذلك في خنوع.. ولما أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقعاً منهم.. لقد وضعوا السيف في الجنود الخوارزمية فقتلوهم عن آخرهم!!..
ثم دخل التتار مدينة “سمرقند” العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقاً في “بخارى”.. فقتلوا أعدادا لا تحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذبوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثاً عن أموالهم، وسبوا أعداداً هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خراباً!!..

((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني
***********************

bluemay 09-02-16 02:09 PM

رد: رحلة ضياع
 
يا للبشاعة ..

شيء تقشعر له اﻷبدان ..



عامر خائب وصدق حدس سلمة فيه.!!


هل ما فعله صحيح بتتبعه لهذا المتخاذل .؟!!

لا اظنه سيكون طريقا آمنة بالنسبة اليهم وما ينتظرهم مخيف .



سلمت يداك وكلي شووق للقادم .



«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 09-02-16 08:15 PM

رد: رحلة ضياع
 
الرواية ما تزال في بدايتها
لذا أعانكم الله على ما بقي منها

سلمة لا يفكر بما يريده، بل بما يراه الأسلم لجمان
وترحالها معه وحيدة في هذه البقاع المضطربة ليس مما يريحه
لذا فكر أن لجوءها لعامر وقافلته أنسب لها

سنرى نتيجة مثل ذلك القرار في الفصل القادم بإذن الله

مملكة الغيوم 09-02-16 08:43 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
اهوال ومواقف تدمى القلب هذا ونحن فى زمن غير الزمن وبلد غير البلد كان الله فى عون من شاهد تلك المشاهد ولم يفقد صوابه من هول وبشاعة المنظر
نجاة امام شيئ مفرح فى خضم هذه الاحزان فهو يستحق الحياه ولعل الله وهبه اياها لحرصه على الموت بشجاعه
سلمه تخطى الكثير من الصعاب حتى يبلغ بمولاته حصون القلعه وبيت عامر ويا ليته ما فعل فالقلعه باتت خراب وعامر فر هاربا كاى جبان دون حتى ان يسئل عن مصير من ستصبح زوجته فر بجلده دون نظره للخلف وسلمه يتبع خطاه الى الكوفه رغم الاخطار اعتقادا منه ان جمان معه ستكون بخير رغم انه يشك ان عامر لا يستحق جمان ولكنه تفكير العبد ان السيده لن تكون بخير الا مع سيد مثلها ايا كان وضع هذا السيد بارت موجع للقلب على ما كانت عليه احوال المسلمين ارجو الله الايعيد هذه الايام ابدا وان يسبغ على المسلمين الامن والامان دائما وابدا ولا يرينا مكروه فى عزيز ابدا سلمت يداكى حبيبتى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 10-02-16 10:08 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

ما أشبه اليوم بالأمس يا عزيزتي
وما أشد خوفي من عاقبة ما نعيشه الآن
حفظ الله أمة الإسلام مما يراد لها

كما قلت، أحياناً عندما يحرص المؤمن على الموت، فإنه يحتفظ بحياته
وعلى الأقل، تكون حياة مكللة بالشجاعة، لا بالعار

في عالم مضطرب كذاك العالم، من الصعب معرفة إلى أين سيقودهم ذاك الطريق
هم لا يعلمون أهم يبتعدون عن الخطر، أم هم ينطلقون إليه
فلنر نهاية هذه الرحلة التي سيقوم بها هذان الاثنان في تلك الأوقات العسيرة

عالم خيال 10-02-16 10:15 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل السادس ~


ارتفعت الشمس في السماء وهي ترسل أشعتها عمودية على تلك المساحات الشاسعة التي يقطعها سلمة وجمان بالحصان ركضاً والحصان يثير سحابة من الغبار خلفها.. مضت عليهم عدة ساعات من السير المتواصل وقليل من الراحة، ومع التعب الشديد الذي تشعر به تساءلت جمان "أأنت متأكد من طريقك يا سلمة؟"
أجابها "أجل.. متأكد من وجهتنا، لكن أتمنى أن تكون وجهة القافلة هي الكوفة حقاً.. فلا أعلم ما سأفعله لو لم نجدها هناك بالفعل.."
صمتت جمان وهي تخفض وجهها وتغمض عينيها بقوة.. كانت تشعر بحرقة فيهما وهي التي اعتادت على الترحال في هودج يحميها من نور الشمس.. ثم قالت لسلمة "أليس الحصان منهكاً؟ ماذا لو سقط من شدة التعب ونحن في هذه البقعة المنقطعة؟"
غمغم باقتضاب "لا تقلقي.."
عادت تقول "لكن سيستغرق منا اللحاق بهم وقتاً طويلاً.. لا تنهك الحصان بسير متواصل هكذا.."
أوقف سلمة الحصان فجأة وهو يقول "لو كنتِ متعبة فلا تتحرّجي من قول ذلك.."
صمتت جمان وهي تراه يترجل عن الحصان، فهي حقاً كانت متعبة وتود الوقوف لبعض الراحة.. لكنها خشيت أن يسبب طلبها ذلك الضيق له.. ترجلت بدورها ووقفت قريبة من الحصان وهي تلقي ببصرها على ما حولهما.. بعد أن غادرا القلعة، أصبحا يسيران في مساحات صخرية شاسعة على مد البصر.. فماذا لو هلك الحصان وهما وحيدان ومنقطعان عن البشر؟ سيقضي ذلك عليهما حتماً مع المؤونة الضعيفة التي يملكانها..
رأت جمان سلمة يمد لها بقربة الماء، لكنها لم تتناولها منه والألم بادٍ على وجهها.. فقال سلمة بحزم "ما تفعلينه يا مولاتي لن يفيد الموتى بشيء.."
ووضع القربة في يدها بصمت، ولم يلبث أن عاد بالحذاء فوضعه قربها أيضاً.. فغالبت جمان ترددها وهي تفتح القربة وتشرب منها القليل من الماء.. رؤية هذه القربة والطعام وذاك الحذاء يذكرها بأصحابها الذين قتلوا غيلة.. لم يكن ذلك اشمئزازاً منها، لكن ألماً لاعتقادها أنها تستغل موتهم لتُبقي على حياتها.. كيف يمكنها أن تحرص على حياتها مع مرأى كل أولئك الشباب والشيوخ والنساء والأطفال الذين افترشت جثثهم الأرض دون أن يجدوا من يواريهم التراب؟..
أعادت القربة لسلمة، فلاحظت أنه أعادها للجراب دون أن يتناول منها شيئاً، فتساءلت وهي تجلس على صخرة قريبة "لِمَ لم تشرب بعض الماء؟ لابد أنك عَطِشٌ أيضاً.."
جلس سلمة جانباً وأجاب بهدوء "أحاول الحفاظ على القليل من الماء الذي نملكه.. قد لا يكفينا حتى نلحق بقافلة عامر.. ولا أريد أن ينفذ الماء ونحن وسط هذا القفر.."
قالت باعتراض "وماذا عنك؟ هل تريد أن تقضي نَحْبَك من العطش؟"
أجاب دون أن ينظر إليها "أنتِ أكثر حاجة مني لهذا الماء.. أنا أستطيع التحمل مدة أطول.."
علا الاستنكار ملامحها وهي تسمع قوله، ثم قالت مقطبة "لا أحب أن تعاملني بهذه الطريقة ونحن في هذا المكان.. نحن في هذه المحنة سواء، ويجب أن تهتم بنفسك بدل الاهتمام بي.."
لم يعترض سلمة إنما لم يتحرك من موقعه وهو يقول بهدوء "لا تقلقي.. عندما أشعر بالحاجة للماء فلن أتوانى عن شربه"
شعرت أنه يماطل لكن لم تستطع إجباره على ذلك.. فصمتت وهي تتنهد وقلقها يزداد.. عندما سمعت سلمة يسألها "أأنت قلقة مما سيحدث لك؟"
هزت رأسها إيجاباً وقالت "قلقة على حالي، وقلقة على أبي.. لا أعلم ما جرى له في الأيام الماضية.. فالوضع في هذه البلاد لا يبشر بخير أبداً"
قال سلمة محاولاً طمأنتها "ربما كان رحيله قبل هجوم التتار خيراً له.. لابد سنجده في مدينة الكوفة أو الحِلـّة أو ربما وصل بغداد، المهم أن أتركك في موضع آمن لكي لا أظل قلقاً بشأنك في رحلتي بحثاً عن مولاي.."
خفضت جمان وجهها بصمت، ثم غمغمت "رغم أن ما تقوله هو الأصوب بالنسبة لي، لكني مازلت حرجة لبقائي مع عامر.. لا أدري لِمَ، لكني أفضل الذهاب معك بحثاً عن أبي.."
قال سلمة بسرعة "لا يمكنني ذلك يا مولاتي.. رحيلك معي فيه خطورة كبيرة.. وأنا شخص واحد، لو هاجمنا التتار أو قطاع الطرق فقد لا أتمكن من حمايتك منهم"
قالت جمان وهي تنظر إليه "لكنك فعلت ذلك في السابق.."
لم يعلق سلمة وهو يرى الامتنان واضحاً في عينيها، قبل أن تخفض وجهها وهي تهمس "قد يراني عامر حملاً ثقيلاً عليه.. وأكره أن أشعر بذلك.."
سمعت سلمة يقول بضيق وشيء من الحدة "ألم يكن سيتزوجك قريباً؟ لِمَ عليه أن يضيق بوجودك في مثل هذه الظروف؟.."
ودمدم مضيفاً "لا أدري كيف وافق مولاي على شخص مثله.."
نظرت له جمان بتعجب وهي تلاحظ ضيقه الظاهر، ثم قالت "لِمَ لمْ تخبرني برأيك هذا من قبل؟"
صمت قليلاً وهو يحاول تمالك انفعاله الذي ظهر بغفلة منه، ثم قال "وهل أملك التدخل في أمورك يا مولاتي؟ لست أملك المكانة التي تبيح لي ذلك"
ابتسمت جمان شيئاً ما وقالت "بغضّ النظر عن مكانتك، فأنا أعرفك منذ صغري وأثق بك تماماً.. لطالما دارت بيننا أحاديث طويلة عن أشياء كثيرة، فلِمَ صمتّ ونأيْتَ برأيك في هذا الموضوع بالذات؟"
غمغم سلمة "وهل كنتِ ستأخذين رأيي على محمل الجدّ لو أخبرتك به حقاً؟"
صمتت جمان دون تعليق، فقال وهو ينهض "أنتِ لست صغيرة، فليس لي الحق بالتدخل في أمورك بتاتاً.."
نهضت جمان بدورها وهي تفكر في تعليقه.. لو أنه أخبرها برأيه في عامر حقاً في تلك الأيام لما اهتمت به.. فقد ملأ عامر تفكيرها رغم قِصَرِ لقائه بها، وأصبحت شغوفة به بحيث لا يمكن أن تستمع لأي رأي مخالف.. لكن أحقاً يستحق عامر ذلك الحب؟.. إنها لم تسمع عنه ولم ترَ فيه ما يجعل أحداً يبغضه، إذن لمَ يبدو لها سلمة كارهاً لعامر بشكل واضح؟..
ساعدها سلمة لتمتطي الحصان خلفه، ثم لكز الحصان وهو يدفعه للمسير مجدداً نحو وجهتهما.. بينما حاولت جمان وأد قلقها من ردّ فعل عامر لو رآها.. وقلقها على حال أبيها الذي لا تعرف أخباره..

***********************

بعد مضيّ ساعتين، رأى سلمة القافلة التي يقتربون منها بسرعة فراوده أمل أن تكون قافلة عامر.. بهذا سيطمئن على جمان أكثر وسيزول قلقه من رحيلها معه منفردين في هذه الأوقات العصيبة..
عندما اقتربوا من القافلة أكثر، رأى سلمة عدداً من العبيد بأسلحتهم يقفون في مواجهته بانتظار معرفة هويته، ولاحظ القلق الذي اعتمر الوجوه.. فصاح بأعلى صوته "السلام عليكم.. هل هذه قافلة مولاي عبدالله بن جعفر؟"
أجابه أحد الرجال "بلى هي.. من أنتما؟"
رأى سلمة في تلك اللحظة عامر الذي كان يقف وراء الرجال والذعر واضح على وجهه، ولما عرف هوية سلمة غاب الذعر عن وجهه وإن استبدله بالاستنكار عندما لاحظ جمان معه.. أوقف سلمة الحصان وهبط منه بسرعة، بينما فضّلت جمان الوقوف بعيداً وهي تمسك لجام الحصان لتمنعه من الاقتراب أكثر وتخفض رأسها بحرج.. رأت في نظرات عامر ما جعلها تشعر بعدم راحة فقد بدا غير مرحّب بها بالمرة.. أما سلمة فقد أسرع إلى عامر الذي ابتدره فور اقترابه "ما الذي جاء بك إلى هنا أيها العبد؟ هل أرسلك ربيعة إلينا؟"
لم ترُق لهجته لسلمة الذي تجاهلها وهو يقول "السلام عليكم.. لم يرسلني مولاي فهو قد رحل مع إحدى القوافل ولم يعد بعد.."
فقال عامر بجفاء دون أن يهتم برد السلام "إذن ما الذي تريده؟"
نظر له سلمة محاولاً ابتلاع ضيقه، ثم قال "لقد دُمّر قصر مولاي تماماً إثر هجوم التتر عليه الليلة الماضية.. لقد استطعتُ تهريب مولاتي بالكاد، وأريد أن أعهد بها إليك حتى أرحل بحثاً عن مولاي"
صاح عامر بصوتٍ عالٍ مستنكراً "ماذا قلت؟ كيف تقرر أمراً كهذا بنفسك؟"
وأضاف بامتعاض "كما ترى لقد تركنا القصر بما فيه قبل هجوم التتار على القلعة.. لديّ من الحِمْل ما يكفيني ولست مستعداً لضمّ أفواه جديدة تأكل المخزون القليل الذي أملكه.."
ولوّح بيده قائلاً "خذها وارحل من هنا.."
التفت سلمة خلفه ليرى جمان التي سمعت الحوار كله تنظر لعامر بوجه غزاه الاحمرار لمعاملته المهينة لها، فعاد سلمة يلتفت نحو عامر ويقول بغضب ظاهر "جمان زوجتك.. كانت ستصبح كذلك خلال أيام قليلة، فكيف تتخلـّى عنها الآن؟"
صاح عامر بغضب "لم أكن أعلم أنها ستكون شؤماً عليّ.. لقد أخطأتُ بالإذعان لإلحاح أبي وقبول الزواج من تلك الفتاة.. الآن، لا أجد ما يلزمني على إتمام هذا.........."
لم يكمل قوله وهو يجد قبضة سلمة ترتطم بفكه بقوة وتلقيه أرضاً وسط صياح النسوة في القافلة ممن لهن صلة قرابة بعامر.. في تلك اللحظة وجد سلمة العبيد من حوله يهمّون بالفتك به، لكنه استلّ سيفه بسرعة وهو يصيح "لا تجعلونا نبدأ بالقتال الآن فلن أتوانى عن ذلك.."
رغم فزع جمان مما جرى، إلا أنها تعجبت عندما رأت العبيد يتجمدون في مواقعهم دون أن يهجموا على سلمة رغم كثرتهم.. فتراجع سلمة خطوات بينما اعتدل عامر وهو يصيح بغضب "أيها الوضيع.. أيجرؤ عبد مثلك أن يضرب من هو في مكانتي؟ فور عودة مولاك سأطلب منه معاقبتك على ما فعلته.. ستجلد بالسياط حتى تقضي نحبك.."
فقال سلمة بازدراء "بل أمثالك من أشباه الرجال من يجب أن يجلد بالسياط.. أتخشى على طعامك وترمي من كانت ستصبح زوجتك للكلاب؟ بئساً لك.."
وغادر نحو جمان التي كانت تراقب ما يجري مذعورة، بينما هبّ عامر صائحاً "أيها الوضيع.. عد هنا لتنال عقابك.. لن أرحمك أبداً.."
والتفت إلى عبيده صائحاً "أمسكوه.. ما الذي جرى لكم؟"
لكن أحداً من العبيد لم يتحرك وهم يرون سلمة غير راغب بقتالهم، بينما بقي عامر في موقعه وهو يهدد ويتوعد بصوت عالٍ.. لكن لم يُعِره سلمة أي اهتمام وهو يمتطي الحصان مجدداً ويقول لجمان "هيا بنا.. سنرحل من هنا"
لم تعلق جمان وهي تشيح بوجهها بصمت والصدمة ظاهرة عليها بينما دفع سلمة الحصان ليركض مخلفاً القافلة خلفه.. وبعد لحظة صمت ألقى سلمة على جمان نظرة سريعة فبدت له كأنها موشكة على البكاء، فقال لها بحزم "مثل هذا الحقير لا يستحق دمعة منك يا مولاتي.. فلا تخيّبي ظني وتبكي على ما جرى"
هزت رأسها موافقة وهي تعضّ شفتها السفلى لتوقف ارتجافتها.. فأضاف سلمة "سنكمل طريقنا إلى الكوفة.. أتوقع أن تكون قافلة مولاي هناك فهي أول مدينة سيمر بها في طريقه لبغداد.."
لم تعلق جمان وهي تحاول تمالك غصّة شعرت بها.. ما هذا اليوم الذي حوى بؤساً منذ بدايته؟ ولأي مدىً ستصل إليه حياتها مع نهايته؟ تتمنى حقاً أن تكون هذه آخر مآسيها..

***********************

لما تبدّت له الكوفة على مبعدة بقبابها ومآذنها وبيوتها المتراصة وأشجار النخيل الكثيفة فيها، شعر سلمة براحة عميقة وقد أدرك أنهما قد وصلا للأمان أخيراً.. كانت الشمس قد قاربت مغيبها وقد أنهكهما الطريق بشدة مع قلة ما يحملانه من طعام وماء.. يأمل سلمة أن يجد مولاه ربيعة في هذه المدينة لكيلا تطول رحلتهما أكثر مما فعلت..
قال سلمة ليقطع الصمت المخيّم عليهما إلا من صوت حوافر الحصان "مولاتي.. لقد وصلنا الكوفة"
لم تأتِ جمان بحركة للحظة قبل أن تعتدل منتبهة.. بعد أن هدّها التعب من الطريق الطويل وهي لم تحضَ بنوم يذكر منذ غادرت القصر، وبعد أن عجزت عن الاحتفاظ بوعيها لوقت أطول، غفت مستندة على ظهر سلمة برأسها وغابت في نوم متـْعِب.. وبعد أن نهضت، انتبهت لما فعلته، فقالت بارتباك وحرج "آسفة يا سلمة.. لقد غفيت دون أن أدري وأثقلت عليك.."
قال سلمة برفق "لا بأس عليك يا مولاتي.. كان يجدر بنا الوقوف لوقت أطول كي تنعمي بنوم أفضل.. لكني خشيت من التعرض لمزيد من المصاعب ففضلت أن نستمرّ بسيرنا ما استطعنا.."
علقت قائلة "ما أظنني سأقدر على النوم ونحن وحيدين في ذلك القفر.. فالخوف من كل شيء حولنا لن يجعل النوم يجد طريقه لعينيّ أبداً.."
رأت في تلك اللحظة المدينة التي تقترب منهما بسرعة، فقالت بشيء من الأمل "أتظن أبي في الكوفة؟"
غمغم سلمة "أرجو ذلك.."
شعرت جمان بشيء من التفاؤل واللهفة لرؤية أبيها.. ترى، ماذا ستكون ردة فعله لكل ما جرى في قصره؟.. وهل سيعودان معاً لذلك القصر رغم أنه غدا خراباً؟.. بل ماذا ستكون ردة فعله على ما قاله عامر وعلى رفضه معاونتها وإيوائها عنده؟..
اقتربا من المدينة وبدءا يسيران في طرقاتها بعد أن خفف سلمة من سرعة الحصان.. ورغم مساحة المدينة الكبيرة، إلا أن الخراب قد طالها في أكثر من موضع بسبب عدم وجود سور لها يحميها، والهجمات التي تتعرض لها من بعض القبائل العربية القريبة بشكل متكرر.. فتساءلت جمان وهي تتلفت حولها "أين سنبحث عنه؟"
أجاب سلمة "سنذهب إلى سوق المدينة مباشرة، فلو وصل للمدينة فإن أول من سيعرف بأمره هم التجار.."
لم تعلق جمان وهي تتلفت حولها بلهفة بحثاً عن أثر لأبيها.. بينما سار سلمة مباشرة نحو سوق المدينة والذي يعرف موقعه تمام المعرفة لزيارته هذه المدينة سابقاً.. و لما وصلا للسوق، وهو عبارة عن ساحة واسعة تحيط بها دكاكين متفرقة ومتنوعة الأحجام والبضائع وقد ازدحمت شيئاً ما بالعديد من سكان المدينة لقضاء حاجاتهم.. ترجل سلمة عن الحصان عند طرف السوق وناول اللجام لجمان قائلاً "انتظريني هنا ريثما أسأل عن قافلة مولاي.."
لم تعلق جمان وهو يتركها ويتقدم من أحد الدكاكين.. لم يكن يرغب بقدوم جمان معه لأنه لا يدري ما الأخبار التي يتوقع سماعها.. لو كانت أخباراً سيئة، وهو أمر محتمل، فلا يريد أن تدري جمان بذلك بعد.. لا يدري كيف سيخفف وقع الخبر عليها، لكنه لا يريدها أن تنهار من خبر سيء في مثل هذه الظروف.. فهو في غمّ كافٍ بعد كل ما جرى ولا يطيق أن يزيد غمّه بأي مكروه يصيبها..
اقترب من دكان أحد الرجال وكان أشيب اللحية محنيّ الظهر يأكل بعض الطعام الموضوع على طاولة أمامه، ولما رأى سلمة يقترب ظل يحدق به بصمت.. فابتدره سلمة قائلاً "السلام عليكم.."
ردّ الرجل عليه السلام وهو يدعوه ليشاركه الطعام، لكن سلمة رفض وهو يشكره ثم تساءل "هل سمعت بقافلة التاجر ربيعة بن حباب؟ من المفترض أن تصل الكوفة في طريقها إلى بغداد.."
قال الرجل متعجباً "تلك القافلة؟ لقد غادرت الكوفة قبل يومين، لكن سمعت أنها لم تصل إلى بغداد بتاتاً"
قطب سلمة متسائلاً "لماذا؟ أتعلم في أي طريق ذهبت؟"
أجاب الرجل وتعجبه يزداد "ألم تعلم ما حلّ بها؟"
وإزاء نظرات الدهشة المرتسمة على وجه سلمة، هز الرجل رأسه قائلاً "مع أخبار الغزو الوحشي للتتار الذي نال أجزاء عديدة من البلاد، انتشرت جماعات كبيرة من اللاجئين لهذه الأنحاء.. ومع ضعف المؤونة التي يحصلون عليها من الولاة، لجأ بعضهم لقطع الطريق والاستيلاء على بضائع القوافل القريبة"
قال سلمة بفزع "أتعني...."
أجاب الرجل وملامح الأسف على وجهه "تلك القافلة تعرضت لهجوم شديد من قطاع الطرق أولئك.. استولوا على كل ما تحمله القافلة وقتلوا كل من فيها"
اعترى الفزع سلمة وهو يفكر فيما قاله الرجل، بينما أضاف الأخير "أكان فيها شخص تعرفه؟"
سأله سلمة بإلحاح "أأنت متأكد من هذا الخبر؟ ألم ينجُ أحد بتاتاً؟ وماذا عن صاحب القافلة ربيعة.. ألم تعلم بما جرى له؟"
قلب الرجل شفته السفلى قائلاً "قيل لي إن اللصوص لم يُبقوا على حياة أي رجل حر.. بينما أخذوا العبيد لبيعهم في مدينة أخرى.. ولا أظن حال صاحب القافلة يختلف عنهم"
وقف سلمة محاولاً تمالك أعصابه بعدما سمعه من أخبار، وهو يضمّ قبضتيه بقوة ليمنع ارتجافة واضحة في يديه.. رباه.. لا يجب أن تعلم جمان بأي من هذا.. ليس الآن وليس بعد كل ما جرى لها من مصائب..
سمع الرجل يتساءل بفضول "ذاك التاجر.. أهو قريب لك؟"
لم يجبه سلمة وهو غارق في التفكير، والرجل يضيف مشيراً خلفه "أم هو قريب لها؟"
التفت سلمة بسرعة ليرى جمان تقف غير بعيد عنهما والصدمة واضحة على وجهها.. لم يعلم مقدار ما سمعته من حديث الرجل، لكن ملامح الفزع على وجهها لا توحي بخيرٍ أبداً.. فتقدم منها قائلاً بقلق "ما الذي جاء بك؟..ألم أطلب منك انتظاري؟"
رأى دموعها تتحدر على وجنتيها وهي تغطي فمها بيدها.. ثم قالت بصوت مرتجف "أبي قد قـُـتل؟"
أسرع سلمة يقول "لا نعلم ذلك بالتحديد.. سأحاول تتبع طريق تلك القافلة، فقد نعثر على من شهد ما جرى لها ليؤكد لنا ما حدث فعلاً.. لكني واثق أن مولاي لم يمت بعد.. لابد أن نعثر عليه ببعض البحث"
خفضت بصرها والدموع الساقطة على وجهها تزداد دون أن تبدو مقتنعة بحديثه.. كيف تقتنع به وهو لا يكاد يفعل ذلك؟.. فغطت وجهها بيديها وهي تركع أرضاً وتنطوي على نفسها باكية.. حاول سلمة تهدئتها لكنها تزداد بكاء في كل مرة.. شعرت بعالمها الهادئ الجميل يتهاوى قطعة قطعة.. بدءاً من خديجة التي رحلت وتخلت عنها، وقصرها الذي احترق ولم يعد إلا رماداً، وعامر الذي نبذها وتخلى عنها في أحلك الأوقات، والآن اختفاء أبيها وموته شبه المؤكد.. فلأي شيء تعيش بعد الآن؟..

***********************

بعد أن قضت وقتاً طويلاً في بكاء شبه متواصل، قبعت جمان في موقع بعيد في طرف المدينة.. بعد أن هبطت الحرارة بشكل كبير مع مغيب الشمس وحلول الظلام، غدا الجو أكثر برودة ونسمات خفيفة تثير الرجفة في الأوصال، محملة بعبق المساحات الشاسعة التي لم يكد البشر يحتلون إلا جزءاً منها.. لم تكد دموع جمان تجفّ وهي تجدها تسيل كلما تذكرت ما ومن فقدته.. ثم انتبهت لاقتراب سلمة من موقعها وهو يجلس قريباً ويمد يده إليها بقربة ماء.. فأشاحت بوجهها مغمغمة "اتركني لوحدي.."
قال سلمة بقلق "لابد أن تشربي بعض الماء على الأقل.. لا أملك ما نشتري به الطعام الآن.. لكن على الأقل لا تتجاهلي شرب الماء.."
غمغمت ودموعها تترقرق في عينيها من جديد "ولم قد أفعل ذلك؟"
قال بإلحاح "لتقيمي أودك قليلاً، ولنتمكن من مواصلة سيرنا في الغد.. هل تريدين الهلاك جوعاً؟"
أخفت وجهها بين ذراعيها وهي تقول بصوت متهدج "ربما كان ذلك خيراً لي.. لِمَ قد أريد البقاء؟ ولمن أبقى؟ لقد فقدت الجميع، وبقيت وحيدة.."
ثم همست ودموعها تسيل من جديد "ليتني متّ قبل هذا اليوم.."
سمعت سلمة يقول بغضب وانفعال "ولِمَ قد يكون الموت خيراً لك من الحياة؟"
نظرت له من بين دموعها بصدمة لغضبه الظاهر على ملامحه، وسمعته يضيف بحدة "لِمَ أنت بائسة لهذه الدرجة؟ لقد سئمتُ من سماعك تتمنين الموت في كل مرة.."
شعرت به بادي الضيق منها، فقالت بألم "إذن أنت تتمنى لو أنك تخليت عني؟ هل ستتركني أيضاً؟"
قال بحنق "أهذا ما تعتقدينه؟ ولمَ لمْ أفعل ذلك منذ البدء؟"
أخفت وجهها من جديد بين ذراعيها وهي تهمس "لا أعلم.. لكني لن ألومك لو فعلت ذلك الآن.."
فقال بانفعال "لا تذكري ذلك أبداً.. ولا تذكري الموت على لسانك مرة أخرى.."
وأضاف بعد لحظة صمت مترجياً "أرجوك.. لا تفكري بالموت، فهذا يؤلمني ويحزنني أيما حزن.."
غمغمت بمرارة "وما الفائدة وقد أمسيت وحيدة في هذا الدنيا؟..”
فقال بسرعة "ثقي أنني سأبقى معك أبد الدهر.. لن أتخلى عنك أبداً مهما جرى لي أو لك.. فلا تعتقدي أبداً أنك وحيدة ما دمتُ على قيد الحياة.."
خفضت بصرها مغمغمة "لكن هذا لن يعيد لي أحداً ممن رحل.."
عادت الدموع تملأ عيناها وهي تهمس بألم "حتى خديجة رحلت ولا أعلم مصيرها الآن.. لماذا يحدث لي هذا؟"
فأمسك سلمة كتفيها وهو يصيح بانفعال "جمان.. استمعي إليّ.. كفي عن هذا اليأس فهو لن يعود عليك بخير.. ما مضى قد مضى، ولا رادّ لحكم الله تعالى.. ألا تدركين ذلك؟"
نظرت له بصمت وهو يضيف برجاء "لا تهلكي نفسك بهذه الأفكار التي ستقودك لحتفك حتماً.."
صمتت جمان وكلماته تدوّي في عقلها، ولما سمعته يقول "أرجوك يا جمان.. لا تتعبيني برؤيتك هكذا.."
فأخذت نفساً طويلاً لتهدئة انفعالاتها، ثم قالت له بصوت مهتز "اتركني قليلاً يا سلمة.. وأعدك أنني لن أبكي مرة أخرى.."
نظر لها بتردد، لكن بدت له أنها قد توقفت عن البكاء فعلاً وإن لم تلتفت نحوه.. فزفر وهو يبتعد ليجلس جانباً يقلب بصره بين الأفق وبين الفتاة المنطوية على نفسها بصمت.. ما جرى لهما خلال اليومين الماضيين عصيّ على التصديق، بعد حياة هادئة وادعة لا يكاد شيء يفسد هناءها.. لكن لو لم يدفع جمان للمضيّ قدماً مهما كانت خسارتها كبيرة، فقد لا تتحمل كل ما جرى لها، وهي البكاءة التي يفزعها أدنى أمر.. ولربما فقدها هي أيضاً.. فهل هذا مما يطيقه؟..

***********************

بعد إلحاح من سلمة، استسلمت جمان لطلبه وهي تغادر موقعها وتتبعه بين البيوت في ذلك الحي من أحياء الكوفة.. وبعد أن تجاوزا عدداً من البيوت، رأته يتقدم من بيت أكبر من الآخرين قليلاً وعدد من الخيول وقفت قربه بأحمالها ومعها رجال يتحدثون بصوت عالٍ.. نظرت جمان لسلمة قربها بتساؤل، فقال "استطعت بعد بعض الجهد أن أحصل على غرفة في هذا الخان.. يمكنك الليلة أن ترتاحي هنا، وغداً سنرى ما سنفعله.."
لم تدرِ كيف حصل على مثل تلك الغرفة، لكن ضيقها وحزنها على أبيها لم يدع لها مجالاً للسؤال وهي تتبعه بصمت حتى أخذها لابنة صاحب الخان وكانت تتجاوز الثلاثين من العمر ترتدي ملابس بسيطة وملامحها منهكة وتُظهر الضيق بوضوح.. ولما وصلا إليها قال لها سلمة "اذهبي معها يا مولاتي وهي ستأخذك لتلك الغرفة.. أغلقي على نفسك الباب جيداً، وخذي قسطاً وافياً من النوم"
غمغمت وهي تنظر إليه "وماذا عنك؟"
ابتسم سلمة ابتسامة خافتة وهو يجيب "أنا سأكون قريباً.. اذهبي وسألتقيك في الصباح.."
لم تعلق جمان أكثر وهي تتبع المرأة للطابق العلوي من الخان والذي كان يحوي غرفاً عديدة ورأت الكثير ممن بدوا لها كمسافرين وعابري سبيل يجلسون في بعض زواياه وأمامهم بعض الطعام ودورقاً من الماء.. أدارت جمان بصرها بعيداً وهي تشعر بمعدتها تصدر أصواتاً محرجة، لكنها ضغطت عليها وهي تتبع المرأة التي أخذتها لغرفة جانبية وأدخلتها إليها قائلة "سأحضر لك العشاء بعد قليل.."
نظرت لها جمان بدهشة، فعلقت المرأة "لقد طلب مني ذلك الشاب أن أزوّدك ببعض الطعام، فانتظريني قليلاً"
لم تعلق جمان وهي تتفحص الغرفة الصغيرة بينما غادرت المرأة بصمت.. كانت الغرفة سيئة الحال لكنها أفضل من النوم في العراء مع البرد الشديد والخوف غير المتعقل.. تنهدت وهي تنزع حذاءها وترمي جسدها على السرير الخشبي ذو الحشية صغيرة الحجم كريهة الرائحة.. بدا لها في تلك اللحظة أن حياتها لن تستقيم مرة أخرى، وهي التي كانت تحلم بلقاء بأبيها لتعود الأمور كما كانت عليه.. فهو قادر بماله على استعادة أملاكه وإعادة قصرهما لبهائه الذي قضى عليه التتار.. لكن الآن، ما الذي يحمله لها المستقبل المجهول؟.. ربما ما عادت حقاً تهتم بذلك..
أما المرأة، فما إن أغلقت الباب على جمان حتى عادت أدراجها حيث وقف سلمة وقالت "سأحضر لها عشاءها بعد قليل.. أما أنت، فاتبعني.."
تبعها سلمة بصمت وهي تقوده خارجة من الخان نحو جانب منه حيث وقف رجلان يتحدثان، ولما رأياها صمتا وهما يتطلعان لها ولسلمة باستفهام.. فقالت المرأة لأحدهما "هذا الشاب يعرض مساعدته لكما.. يمكنكما استخدامه حتى تـُـتِمّوا نقل الأغراض كلها من موضع قافلة زيد الموصليّ حتى الخان.."
ثم التفتت إلى سلمة مضيفة "أنت وعدت بإتمام هذا العمل مقابل الحصول على غرفة وطعام للفتاة.. لذلك لا تتذمر من هذا العمل وإلا رميت الفتاة خارجاً دون أدنى تردد"
قال سلمة بهدوء "لا تقلقي.. لن أغادر حتى أتمّ العمل كما ترغبين.."
فابتعدت المرأة بصمت بينما قال أحد الرجلين لسلمة "اتبعني أيها الشاب.."
سار سلمة خلفهما دون اعتراض رغم التعب الشديد الذي يشعر به.. لكن إن لم يقم بهذا العمل، فذلك يعني ألا تجد جمان مكاناً تأوي إليه في هذه المدينة الغريبة.. لم يكن ذلك شعوراً بالمسؤولية تجاهها كونها ابنة مولاه قدر ما هو قلق على حالها ورغبة في منحها بعض الراحة بعد رحلة متعبة كالتي قاموا بها.. لكن ماذا عن الغد؟.. هذا أمر يفضـّل إرجاء التفكير فيه..

***********************

في اليوم التالي، بحثت جمان فور خروجها من غرفتها عن سلمة.. ولما رأت تلك المرأة التي قادتها لغرفتها في الليلة الماضية، توجهت إليها متسائلة "أين الشاب الذي كان معي البارحة؟ هل خرج من غرفته؟"
نظرت لها المرأة ملاحظة أن جمان قد أصبحت أفضل حالاً بعد الراحة وإن بقي الانتفاخ في عينيها واحمرارهما واضحاً.. وإزاء نظرات جمان المتسائلة قالت المرأة "أظنه لا يزال نائماً فلم أره هذا النهار.."
نظرت جمان خلفها للأبواب القريبة المغلقة وشيء من القلق يعتريها على سلمة، فسمعت المرأة تعلق "هو ليس هنا.. لقد نام في الاسطبل البارحة"
التفتت إليها جمان بصدمة وهي تتساءل "لِمَ؟ ألستم تملكون أي غرف فارغة؟"
قالت المرأة هازة كتفيها "لم يكن يملك أي مال للحصول على غرفتين في هذا الخان.. ولقد عرض عليّ القيام ببعض الأعمال مقابل الحصول على الغرف، لكن ما قام به لم يكن يكفي إلا أجرة غرفة واحدة.. لكني شعرت بالأسف لحاله، لذلك سمحت له بالبقاء في الاسطبل مع حصانه.."
كانت صدمة جمان تتزايد مع كل كلمة تسمعها.. ثم استدارت مغادرة الخان بسرعة بينما المرأة ترمقها بتعجب قبل أن تعود لبعض أعمالها دون أن تطيل التفكير في حالها.. أما جمان فقد بحثت عن الإسطبل فور خروجها من الخان، حتى قادتها قدماها إليه خلف الخان ودخلته باحثة بنظرها عن سلمة أو الحصان وسط جمع من الخيول والبغال التي كانت تنتظر أصحابها.. وبعد بحث قصير، وجدت الحصان الذي جاؤوا به في أحد جوانب الإسطبل يأكل بعض العلف الذي تم تقديمه له.. وقربه، رأت سلمة ينام جالساً أرضاً في الإسطبل البارد، وقد أسند ظهره إلى الحائط الخشبي خلفه عاقداً ذراعيه على صدره بينما مال برأسه جانباً والتعب واضح على ملامحه..
بقيت جمان واقفة تتأمله بصدمة وشيء من تأنيب الضمير.. كيف تنام هي على سرير مريح، إن صحّ وصفه بذلك، بينما لم تهتمّ بمعرفة حاله وهو الذي لم يدّخر وسعاً في توفير الراحة والطعام لها؟.. كيف لها أن تكون بهذه الأنانية؟.. تلمّست يدها القلادة التي تحتفظ بها دائماً في رقبتها، ثم توجهت نحو الحصان تربت على عنقه بانتظار استيقاظ سلمة دون أن تزعجه مع مرأى وجهه المتعب..
لاحظت أن الحصان قد أصبح أفضل حالاً هذا اليوم.. مع التعب الذي بدا عليه البارحة خشيت جمان أن يهلك ويخسروه تماماً.. فهمست جمان وهي تربت على عنقه "سعيدة أن أراك بأفضل حال.. رغم قِصَرِ معرفتي بك، إلا أنني لا أتمنى أن تهلك بسببي أبداً"
أصدر الحصان حمحمة بصوت عالٍ، فانتبه سلمة من نومه وفتح عيناه ناظراً حوله بقلق.. ولما رآها قرب الحصان نهض واقفاً على الفور وتساءل بشيء من القلق "ما الأمر يا مولاتي؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
نظرت له جمان بتأنيب واضح، ثم قالت "لماذا تنام في الإسطبل يا سلمة؟ كان يجب أن تنام في الخان أنت أيضاً"
حك سلمة شعره وهو يغمغم "لم أكن أملك ما يكفي من المال لذلك.. لكن هذا لا يهم الآن"
قالت جمان بضيق "كيف يمكنك ألا تهتم بنفسك بهذه الطريقة؟ أنت متعب أكثر مني، وبحاجة للراحة وللطعام أيضاً.. هل تناولت شيئاً منذ البارحة؟"
تردد سلمة للحظة قبل أن يجيبها، فتنهدت بضيق مدركة أنه بقي بجوعه دون أن يجد ما يأكله، ثم خلعت قلادتها ومدت يدها بها له قائلة "خذ هذه.."
نظر سلمة للقلادة بدهشة وهي تضيف "قم ببيعها في السوق.. إنها غالية الثمن وسنكسب منها ما يكفينا من مال لوقت طويل.."
قال سلمة دون أن يتناول القلادة "لا يمكنني ذلك يا مولاتي.. هذه القلادة تركتها لك أمك رحمها الله.. وهي غالية على مولاي كثيراً.. لا يمكنني بيعها بتاتاً"
قالت جمان بعصبية "لكني آمرك بأن تفعل.. ما أهمية مثل هذه القلادة؟ أنا حتى لا أتذكر هذه الأم، ولا يهمني الاحتفاظ بهذه القلادة"
ورمت القلادة أرضاً وهي تضيف بصوت مرتجف "لماذا تتصرف هكذا؟.. لماذا تفضّلني على نفسك دائماً؟ طوال رحلتنا منذ غادرنا القصر وأنت تشرب الماء بالكاد خوفاً من أن تستهلكه عني.. أتظن أن ذلك يسعدني؟ أنا حقاً أكره هذا.."
وغادرت غاضبة تاركة سلمة يتأمل القلادة المرمية أرضاً بصمت، ثم تنهد وهو يتناولها ويدسّها في جيبه مغمغماً "وهل يمكنني فعل ما تكرهينه حقاً يا جمان؟.."

***********************

عندما سمعت جمان تلك الطرقات على باب غرفتها، ترددت قليلاً.. لم تكن تريد رؤية سلمة في هذا الوقت، فقد كانت بأشد الحنق من أفعاله.. لكنها بعد لحظة تردد مسحت دموعها التي سالت كلما فكرت بأبيها، وتأكدت من تغطية شعرها قبل أن تتوجه للباب وتفتحه.. فرأت سلمة واقفاً قربه وبادرها قائلاً وهو يحمل صرّة من المال "لقد بعتُ القلادة.. وهذا هو ثمنها.."
مدّ يده بالصرة إليها، فقالت "احتفظ بالمال عندك.."
خبأ الصرة في ملابسه دون اعتراض، ثم رأته يناولها صرة قماشية أكبر وهو يقول "سمحت لنفسي بشراء هذا لك يا مولاتي.. رغم أنه لا يليق بك حقاً لكن أتمنى أن تقبليه في الوقت الحالي.."
لم تتناول جمان الصرة وهي تسأله بشك "هل تناولت شيئاً من الطعام؟"
ابتسم سلمة مجيباً "أجل.. لا تقلقي يا مولاتي.."
تناولت الصرة منه بصمت، فقال سلمة "سأنتظرك مع الحصان خارجاً.."
واستدار ليغادر بصمت، تاركاً جمان تتأمل الصرة بتعجب، ثم فتحتها لتجد فيها رداءً نسائياً أزرقاً بلون السماء، وإن كان خالياً من الزينة ولم يكن مطرزاً كما كانت ملابسها السابقة.. ومعه وجدت وشاحاً قطنياً وحذاءً جديداً.. فابتسمت وهي تتأمل ما أحضره قائلة لنفسها "لقد نسيتُ أمر الملابس تماماً.."
بعد وقت قصير، كانت قد ارتدت ملابسها الجديدة ولفت شعرها بالوشاح بإحكام وخرجت من الخان لتجد سلمة يقف قرب بابه يداعب الحصان ويمسح على رقبته.. ولما اقتربت منه جمان ناولته عمامته قائلة "شكراً لك يا سلمة.. هذا أفضل بالتأكيد من عمامتك.."
استعاد سلمة عمامته بصمت، فقالت "ما الذي تنوي فعله الآن؟"
فقال سلمة "أريد استكمال الطريق لمدينة الحِلـّة التي سيمرّ بها مولاي قبل ذهابه لبغداد، والمرور بالموضع الذي سمعت أن قافلة مولاي قد تعرضت للهجوم فيه.. أريد التأكد من هذا الخبر والسؤال عن القافلة في الحِلـّة.. مازلت آمل أن يكون هذا الخبر إشاعة.."
فقالت جمان "قبل ذلك.. من الأفضل أن نشتري حصاناً آخر.. لا نريد أن تتعلق حياتنا بحصان واحد فإن هلك هلكنا معه.."
هز سلمة رأسه موافقاً وقال "أعتقد أن ما معي من مال يكفي لشرء آخر.. وبعض الطعام والماء بما يناسب هذه الرحلة.."
بعد زمن ليس بطويل، كانت جمان تمتطي الفرس الجديدة بلونها البني المائل لشقرة، بينما كان سلمة يمتطي الحصان الأول وهما يتجهان نحو مخرج المدينة الذي سيؤدي بهما إلى الحِلـّة بعد أن يعبرا نهر الفرات الذي يبعد عن المدينة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها..
راقبت جمان سلمة الذي يسير بالحصان أمامها للحظات قبل أن توجه أنظارها لما أمامها بصمت وهما يعبران الطرقات المليئة بمختلف أصناف البشر.. شعرت به مختلفاً.. رغم أنه هو سلمة الذي عرفته منذ سنوات لا حصر لها.. لكن مع كل ما مرت به، لم تجد أحداً تستند عليه إلا سلمة، وهو لم يخذلها أبداً في أي لحظة.. فما مغزى ذلك؟.. عادت ببصرها إليه لتجده ينظر إليها، ولما التقت عيناهما سألها "ما بالك؟ أهناك ما يشغل فكرك؟"
ابتسمت شيئاً ما معلقة "لقد ناديتني البارحة باسمي.."
رفع حاجبيه بشيء من الحيرة وهي تضيف "هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها اسمي منك.."
فوجئت به يبعد بصره عنها وهو ينظر لما أمامه بصمت للحظات، ثم قال لها "أنا آسف لذلك.. ما كان عليّ تجاوز حدودي يا مولاتي.."
بهتت لرده الذي لم تتوقعه، فاندفعت تقول "لم أعنِ استيائي من ذلك.. بالعكس، أسعدني ذلك تماماً.."
خفض سلمة وجهه قائلاً "مهما يكن.. كان ذلك تجاوزاً مني ولا شك.."
فقالت بضيق "لم عليك أن تشعر بالأسف لهذا؟ لم يكن هذا حالك طوال السنوات الماضية.."
لم يعلق سلمة أو يلتفت إليها، فأضافت "أنا مدينة لك بأكثر من حياتي.. فلا معنى لهذا اللقب الذي تصرّ على مناداتي به الآن بعد أن خسرتُ كل شيء.."
فقال بهدوء "مهما تغيّر الحال، فأنا سأظل عبداً.. وأنت ستظلين مولاتي.."
تغيّر وجهها لنبرته التي لمست فيها ضيقاً، ثم قالت بشيء من الأسى "ربما لم يعد لك مولىً بعد اليوم"
التفت إليها قائلاً بحزم "لا تستسلمي لهذا الخاطر.. مولاي على قيد الحياة.. أنا أجزم بذلك"
ثم أدار وجهه بعيداً بصمت بينما تجرعت جمان مرارتها.. تأكيده المستمر بهذه الطريقة يثبت لها العكس تماماً، وهي مدركة أنه يسعى لطمأنتها دون أن يكون واثقاً من هذا الأمر..
سمعته بعد لحظات يضيف بصوت خافت "وحتى لو كان الأمر صحيحاً، فستنتقل عبوديتي لكِ يا مولاتي"
اتسعت عيناها وهي تنظر له بصدمة محاولة استيعاب ما قاله.. ولما تيقنت من مغزى قوله سارعت لتهتف "أنت لست عبداً لي ولن تكون كذلك ما حييت.. أنت حرٌ يا سلمة"
وجدته يوقف الحصان وينظر لها بدهشة ممزوجة بمشاعر لم تفهمها، ثم تساءل "أهذا يعني أنك تمنحينني حريتي؟"
قالت بسرعة "أجل.. لو كنتُ أنا مولاتك الآن، فأنا أعتقك.. هذا ما تمنيتُ أن يحدث منذ عرفتك.."
فعلق قائلاً "ألا تفهمين معنى ما قلتِه للتو في هذا الوقت وهذه الظروف بالذات؟"
نظرت له بحيرة وتساؤل، فقال "هذا يعني أنني لست مُلزماً بالبقاء معك وحمايتك.. قد أرحل في أي لحظة.."
نظرت له بتردد وهي تحاول تبيّن جديته، وتساءلت "وهل ستفعل؟"
ظل صامتاً وهي تراقبه بقلق، ثم ابتسم بجانب فمه مجيباً "أتعتقدين ذلك؟"
ولكز الحصان لحثه على إكمال المسير وجمان تتبعه متسائلة "ماذا تعني؟ أنت لم تمنحني جواباً مفهوماً"
أجاب دون أن ينظر إليها "ابحثي عن الجواب في أعماقك، وستجدينه بالتأكيد.."
رغم أنها كانت شبه واثقة أنه لن يتركها أبداً، فهو لم يفعل ذلك عندما هرب بقية العبيد إبّان الهجوم، ولم يفعل عندما تخلى عنها عامر بسهولة.. ومع ذلك فهي بقلق شديد من ذلك الخاطر.. هو الوحيد الذي بقي معها ويعاونها بكل ما يملك، وهي تثق به ثقة مطلقة، فكيف تقدر على الاستمرار وحيدة إن رحل؟..
تنهدت وهي تتلفت حولها مغمغمة "سأترك للأيام أن تبرهن لي عن حسن ظني بك، وأتمنى ألا يخيب ظني أبداً"
لم يعلق على قولها وإن لاحظت ابتسامة جانبية ترتسم على شفتيه..
هو لن يتخلى عنها.. تكاد تقسم على ذلك..

***********************

~ بعيدا عن الخيال (٦) ~
فظائع التتار في المدن


مدينة خوارزم هي مركز عائلة خوارزم شاه، وبها تجمع ضخم جداً من المسلمين، وحصونها من أشد حصون المسلمين بأسا وقوة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمنستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثل للمسلمين قيمة اقتصادية واستراتيجية وسياسية كبيرة..
ولأهمية هذه البلدة فقد وجه إليها جنكيزخان أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيزخان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفاً متتابعاً، وضغطوا عليه من أكثر من موضع حتى استطاعوا أن يحدثوا ثغرة في الأسوار، ثم دخلوا إلى المدينة، ودار قتال رهيب بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جداً، إلا أن السيطرة الميدانية كانت للتتار.. ثم تدفقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشده فيهم، وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار.. فقام التتار بعمل بشع إذ قاموا بهدم سد ضخم كان مبنياً على نهر جيحون، وكان يمنع الماء عن المدينة، وبذلك أطلقوا الماء الغزير على خوارزم، فأغرق المدينة بكاملها.. ودخل الماء في كل السراديب والخنادق والديار، وتهدمت ديار المدينة بفعل الطوفان الهائل، ولم يسلم من المدينة أحد البتة!! فمن نجا من القتل قتل تحت الهدم أو أغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خراباً، وتركها التتار وقد اختفت من على وجه الأرض وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومن مر على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثراً لحياة سابقة..

((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني

***********************

bluemay 10-02-16 11:55 AM

رد: رحلة ضياع
 
حمدا لله رغم المآسي ولكن هذا الفصل كان هادئ نسبيا..

سلمة فعلا يستحق اﻹعتاق فما فعله يدل عى نبله وطيب أصله ..


ومتأكدة انه لن يخذلها إلا لو فارقت روحه جسده..

وبت على يقين من أنه يكن لها حبا لا يوصف ، وهو ما يكبله ويجعه يفعل المستحيل ليحميها ويدرأ اﻷذى عنها..



زياد 2 >> اقصد عامر .. فعل ما يدل على خسته ودناءته وحمدا لله انها لم تقترن به.


ماذا ينتظرهما في رحلتهما هذه من مخاطر ؟!!


متشوقة للقادم


سلمت يداك عزيزتي خيال ..



مع خالص الود


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

مملكة الغيوم 10-02-16 06:32 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
جوله جديده من سلمه وجمان بين القفار حتى يدرك الماءفون عامر وحين ادرك القافله وجده ندلا كما كان جبان هارب استقبلهم ابشع استقبال ولفظ بعيدا من كانت له خطيبه وستكون ريبا حليله خوفا من نقص الزاد وباعتبارها فاءل سيئ عليه صدق فيه قول سلمه انت من اشباه الرجال فلو كان رجلا لقبل جوارهم حتى لو لم تكن تمت له بصله ولقبل ان يحميها وياءويها فهم فى حالة حرب وفزع وحماية النساء واجبه على الرجال لكن عامر لم يكن منهم ولا حتى فئة العبيد تتشرف بانتسابه لها فنال بقبضة يد سلمه اقل مما يستحق
تتوالى الاخبار السيئه على جمان فبعد حرق القصر وقتل من فيه خبر الهجوم على قافلة ابيها ولكنها تتبع خطى سلمه ربما تحمل اليها بعض الامل مع الكثير من الحب الذى يحمله لها وتستمر الرحله الى مدينه جديده مخلفه وراءها مزيد من المدن المدمره اتى فيها التتار على الاخضر واليابس وما لم ينتهكه التتار قام قطاع الطرق بانتهابه وزهق المزيد من الارواح البريئه
رغم زكر بشاعة التتار فى نهايته الا انه فص يعد اقل الم من سابقه فى انتظار الباقي دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 11-02-16 08:52 AM

رد: رحلة ضياع
 
:aNF04909: لم يدُر في ذهني أن عامر يشبه زياد إلا لما ذكرتما الأمر
ويبدو أن كرهكم للشخصيتان متشابه أيضاً
بالفعل تصرف زياد يدل على خسة كبيرة، حتى لو لم تكن الفتاة لها به صلة
المفترض أن يوفر لها الحماية والرعاية في مثل هذه الأوقات حتى تصل لمأمنها

سلمة بالفعل يستحق العتق، لكن هل سيحصل عليه حقاً؟
وهل سيصلان لهدفهما أو يحصلا على بعض الأمان في هذه الأوقات؟
تابعوا بقية الرحلة في الفصل الجديد..

عالم خيال 11-02-16 08:58 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل السابع ~


بعد نصف نهار من السير المتواصل، وقف سلمة وجمان لإراحة الخيول قليلاً والحصول على بعض الراحة بدورهما.. غمغمت جمان وهي ترى الشمس تميل عن كبد السماء "أما كان من الأفضل لنا الانضمام لإحدى القوافل؟ وجودنا وحيدين يجعلنا صيداً سهلاً"
قال سلمة "سألت عن القوافل في المدينة قبل أن نغادرها.. لكن لم أعثر على أي قافلة مغادرة اليوم.. وأغلب القوافل الموجودة قد رفض أصحابها مصاحبتنا لهم خشية أن نكون عيوناً لقطاع الطرق.."
تنهدت جمان وهي تعلق "لكن مع كل ما جرى لنا أشعر أن الترحال منفردين يصيبني بقلق وتوجس كبيرين.."
غمغم سلمة وهو منشغل بالحصان "أنت تعلمين أني لن أدخر وسعاً في حمايتك.."
نظرت بعيداً هامسة "أدرك ذلك.. لكنك لن تستطيع هزيمة جماعة من الرجال مهما كنت شجاعاً.."
قال بحزم "لكني لن أتوانى عن ذلك حتى لو تسبب في موتي.."
نظرت له بعينان متسعتان، ثم قالت بانفعال "لِمَ تفعل هذا؟"
تساءل بهدوء "أفعل ماذا؟"
قالت "لطالما تساءلت في اليومين الماضيين.. لِمَ تبذل كل هذا الجهد لأجلي؟.. لِمَ تخاطر بحياتك لتنقذني ولتجمعني بأبي؟.. كان بإمكانك الهرب بجلدك وحيداً، لكنك خاطرت لتهريبي من القصر ومازلت معي رغم كل ما جرى.. ما الذي يدفعك لذلك؟.."
أجاب سلمة رافعاً حاجبيه "لم أكن لأترك ابنة مولاي في موضع الخطر وحيدة.. ليس هذا مستغرباً.."
غمغمت وهي تتأمل ملامحه بحثاً عن جواب "لا.. بل هو غريب تماماً.."
فقال سلمة بتأكيد "لكني حريص عليك يا مولاتي وسأبذل جهدي حتى تصلي لبر الأمان.. فلا تخشي شيئاً.."
قطبت جمان وهي تقول "ما الذي تجنيه من كل هذا يا سلمة؟.."
أبعد سلمة بصره عنها وهو ينظر بعيداً، فشعرت جمان أنه قد هرب من مواجهتها.. وقبل أن تحاول استدراجه للحديث من جديد، سمعته يقول وهو يضيق عينيه "هناك قافلة.."
استدارت جمان بدورها بشيء من القلق وهي تنظر للسواد المتبدّي عند الأفق، ثم قالت بتوتر "أأنت متأكد أنها قافلة وليسوا قطاع طرق؟"
امتطى سلمة الحصان قائلاً "لا يمكن أن نترك فرصة كهذه تفوتنا لمجرد الشك"
امتطت جمان الفرس بدورها ولكزتها لتتبع سلمة الذي تقدم تجاه القافلة بسرعة محاولاً اللحاق بها قبل ابتعادها.. وكلما اقتربا منها لاحظا أنها ليست قافلة بضائع.. فعدد من الجمال كانت تحمل هودجاً على ظهورها.. وكثير ممن امتطوا الخيول قد شابت لحاهم دالة على تخطيهم الكهولة..
لم يخفف سلمة سرعة حصانه حتى وصل إلى مقدمة القافلة حيث يكون رئيسها عادة، فوجد ثلاث رجال متفاوتين في الأعمار يركبون الأحصنه وقربهم عدد من العبيد الحبشيين منهم من هو راكب ومنهم من هو ماشٍ على قدميه.. فتوقف سلمة مع توقف الرجال لمرآه وقال "السلام عليكم.. إلى أين أنتم متجهون بهذه القافلة؟"
نظر له أحد الرجال بتردد وهو يرد السلام ثم سأله مقطباً "ومن تكونان أنتما؟ وإلى أين أنتما ذاهبان منفردين؟"
قال سلمة "نحن عابرا سبيل، لكننا نريد الذهاب للحِلـّة.. ونفضـّل الحصول على بعض الصحبة لو كان اتجاهنا واحداً.."
التفت الرجال نحو أحدهم والذي بدا أنه رئيس القافلة، فتقدم الرجل من سلمة قائلاً "بل نحن ذاهبون لأبعد من هذا.. لكننا سنمر قريباً من الحِلـّة في طريقنا.."
سأله سلمة "أيمكننا الانضمام إليكم؟.."
غمغم الرجل مقطباً "مواردنا لا تكفي إلا من هو معنا.. وعددنا ليس قليلاً......"
قاطعه سلمة قائلاً "لا نبغي منكم شيئاً فنحن نملك ما يكفينا.. كل ما نريده هو الترحال معكم حتى نصل قريباً من الحِلـّة"
فقال الرجل "لا أرى ما يمنع ذلك.."
وأشار للقافلة لتكمل مسيرها.. فسار الجمع وسار معهم سلمة قريباً من الرئيس الذي بدا بفضول كبير لمعرفة هويتهما وسبب ترحالهما.. وانضمت جمان للقافلة بدورها وهي تسير بالفرس قريباً من سلمة ملاحظة النظرات التي تلقيها عليها بعض ممن كن في الهوادج من خلف الأستار المسدلة.. لكنها أدارت بصرها بعيداً بصمت.. كانت طوال سني عمرها ترتحل في الهودج كلما غادرت القصر نحو القلعة.. هذه هي المرة الأولى التي ترتحل فيها على ظهر الحصان، ولم يكن هذا معتاداً بالنسبة للنساء، خاصة من ذوات المكانة العالية.. لم تكن جمان تجد حرجاً من ذلك مع سلمة، لكن وجودها مع أغراب جعلها تشعر بحرج من النظرات الموجهة إليها..
حاولت أن تبعد تفكيرها عنهن وهي تسمع سلمة القريب يسأل رئيس القافلة "ألم تصِلكم أنباء عن التتار في هذه المنطقة؟ ألن يعترضوا طريقنا في هذه الرحلة؟"
قال الرئيس هازاً رأسه "لم أسمع عن تقدمهم لهذه النواحي من قبل.. لكن قطاع الطرق والعيارون أمر آخر"
علق سلمة "قطاع الطرق ليسوا بسوء التتار.. ثم إنهم جماعات متفرقة في مواقع محددة.."
قال الرئيس "قد يكون قطاع الطرق كذلك، لكن العيارون أكثر من ذلك بالتأكيد.. بل إن شوكتهم قويت كثيراً وتجاوز أذاهم قطع الطريق.."
نظر له سلمة متسائلاً بدهشة، ففسّر الرئيس قائلاً "أغلب قطاع الطرق والعيّارين هم من المجرمين الهاربين من المدن في المنطقة.. ولا هم لهم سوى الإثراء مستغلين محنة القرى والمدن بالتتار.."
وأضاف متنهداً "مع هجمات التتار التي سمعنا بها في بعض المدن والقرى، بدأ العيّارون في استغلال ذلك.. فبدؤوا بدورهم يهجمون على القرى التي وَهَنَت بعد رحيل التتار عنها فيستولون على ما أبقاه التتار خلفهم من طعام ودواب.."
أضاف رجل آخر وهو يخفض رأسه بأسى "سمعنا أنهم أيضاً يختطفون النسوة لبيعهن كجواري في أسواق النخاسة، ويستبقون من يشاؤون معهم في مخابئهم التي لا نعرف موقعها.."
نظرت جمان بقلق لسلمة الذي سأل الرجال مقطباً "ولمَ لا يفعل الولاة شيئاً بأمر أولئك المجرمين؟ ألا يجب ردعهم لئلا يرتكبوا المزيد من الجرائم؟"
قال الرجل قالباً كفيه "وما الذي يستطيعون فعله وهم عاجزون حتى عن ردع التتار؟ الوضع أصبح مخزياً في الخلافة الإسلامية، وما عاد الجيش المسلم بقادر على صدّ أولئك الكفرة بعدده القليل وتخاذل جنوده الواضح.."
صمت سلمة وهو يستمع لما يقال بضيق ومرارة.. مع كل ما يجري في المدن حول بغداد، فإن الخليفة وجيشه لا يتحركون لصدّ تلك الجماعات من التتار والتي يبدو أنها تفرقت في طول البلاد وعرضها.. ولا يكاد يأبه لما يجري لشعبه طالما بقيت بغداد حصينةً بمنأى عن ذلك القتال.. لأي مدى يمكن لتخاذل هذا الخليفة أن يصل؟..

***********************

بعد حلول الظلام، أوت جمان في جانب القافلة مع بقية النسوة، وإن لم تتمكن من النوم سريعاً مع البرودة التي انتشرت في الجو وتغلغلت في عظامها.. لكنها لم تكن تملك إلا دثاراً خفيفاً من جملة ما اشتراه سلمة من الكوفة، ولم تستطع طلب شيء من النسوة اللواتي لم تُبـْدِ إحداهن أي اهتمام بما يجري لها.. فصمتت جمان وهي تنطوي على نفسها وتغفو بين وقت وآخر بعد أن هدّها التعب..
وبعد أن لاحت طلائع الفجر، نهضت جمان بصعوبة مع التعب والألم الذي تشعر به في أعضائها.. فرأت جمعاً من الرجال والنساء قد نهض وبدأ يعدّ العدة للرحيل مع طلوع الشمس القريب.. سوّت وشاحها على رأسها وهي تتنهد مفكرة في الطريق الطويل الذي عليهم قطعه على ظهور الخيل، والتعب الذي سيلحقها من ذلك.. ثم وقفت وتقدمت من موقع الحصان والفرس التي يملكانهما وهي ترى سلمة يقف قربهما يعتني بهما ويتأكد من ثبات السرج عليهما.. فقالت عندما وصلت قربه "هل حظيت بنوم مريح؟"
غمغم سلمة "ما يكفي لمواصلة السير.."
صمتت جمان وهي تتلفت حولها، فقال سلمة "أعلم أنك لست معتادة على الترحال بهذه الطريقة.. لكن استخدام الخيول هي أسرع طريقة للوصول لهدفنا وأسرع في حال واجهنا أي مهاجمين.. لكن لنأمل أن نجد مولاي في الحِلـّة لتنتهي رحلتنا الطويلة هذه.."
قاطعتهما صيحة ألم تبعتها شهقة فزعة منعت جمان من الرد عليه وهما يلتفتان نحو موضع الصوت الذي صدر من خلف الجمال التي بركت بصف متوازٍ، ثم ترك سلمة موقعه على الفور وهو يركض تجاه الصوت.. بينما أمسكت جمان بلجام الفرس لئلا تهرب بقلق لا يمكنها إخفاؤه.. مع كل ما مرّا به، غدت متوجسة قلقة بشكل دائم.. ولا يطمئنها إلا وجود سلمة إلى جوارها، فهو بعد كل ما قدمه لها يمنحها شعوراً بالأمان في هذا الزمن العصيب..
أما سلمة، فقد اقترب من مصدر الصوت ليرى بين بضع رجال أحد العبيد الحبشيين وقد سقط وسهم يخترق صدره.. ووسط الدهشة، سمعوا صوت سنابك الخيل واضحة تقترب منهم.. تغلب الجمع على الدهشة بسرعة، فلم يكن أمر الهجوم على القوافل مستغرباً، واستلـّوا كل ما يملكونه من أسلحة ورئيس القافلة يقول "استهدفوا الخيول أولاً لنمنع تقدمهم.."
لم يكن أحدهم يملك قوساً وسهاماً، لكن حاملي الرماح استعدوا برماحهم بانتظار اقتراب الفرقة المهاجمة وحصولهم على مجال أوضح لإجادة الإصابة..
كان نور الفجر يمنحهم رؤية بسيطة للموقع حولهم بشكل جعل هوية القادمين صعبة التكهن.. لكن لمّا أصبح المهاجمون على مسافة قريبة، صاح أحد العبيد فجأة بذعر "إنهم التتار.."
بدت لهم في تلك اللحظة هوية المهاجمين أوضح ما يكون، مع ملابسهم المميزة المصنوعة من فرو وصوف، والخوذات الحديدية على رؤوسهم، والحراب ذات الخطاف التي تبدو لهم واضحة..
توتر سلمة مع هذا المنظر وهو يحصي المهاجمين فوجدهم لا يقلـّون عن خمسة عشر رجلاً.. فهل يمكنهم التغلب عليهم بسهولة؟.. لم يكد هذا السؤال يدور في ذهنه حتى فوجئ بأغلب العبيد وبعض الرجال يتراجعون بذعر واضح مختبئين خلف القافلة، في نفس اللحظة التي وجدوا فيها وابلاً من السهام يتدفق نحوهم.. تراجع سلمة ومن حوله بدورهم مبتعدين عن مرمى السهام وسلمة يصيح بمن حوله "لا تهربوا.. نحن نفوقهم عدداً وقوة بالتأكيد.."
صاح رئيس القافلة بدوره "لا تتخلـّوا عن أسلحتكم أيها الجبناء.. دافعوا عن النساء والأطفال وسنغلبهم بإذن الله تعالى.."
وجد سلمة بعض الرجال وقليل من العبيد يقفون معهما، في اللحظة التي وصلت فيها فرقة التتر للقافلة فتفرقت بسرعة حولها على الخيول مثيرة سحابة من الغبار، بينما تقدم خمسة منهم نحو رجال القافلة وهم يلوحون بسيوفهم بثقة مطلقة.. كان الفارق في القتال بين من يمتطي ظهور الخيل ومن كان راجلاً كبير، لذلك حاول سلمة أن يتجاوز هذا الفارق بأن وجّه ضربته الأولى نحو فخذ الحصان الأقرب إليه والذي كبا على وجهه مع الضربة وهو يطلق صهيله.. فتسبب ذلك في سقوط التتري أرضاً والحصان يضع ثقله على ساقه.. ولم يمهله سلمة فاندفع نحوه وأجهز عليه بضربة واحدة أورثته جرحاً عميقاً في عنقه.. التفت سلمة على الفور ملاحظاً أن بعض رفاقه قد نجحوا في ضرب المهاجمين، بينما آخرين سقطوا من الضربة الأولى بين جريح وقتيل..
رأى سلمة حصاناً آخر قادماً نحوه والتتري فوقه يضرب من يصل إليهم من الرجال بقوة مطيحاً بالكثيرين.. فحاول سلمة تكرار ما فعله سابقاً معه للتخلص منه.. فلما اقترب الحصان منه هوى سلمة بسيفه بقوة نحو فخذه بضربة حمّلها أقوى ما عنده.. لكنه فوجئ في اللحظة ذاتها أن التتري قد وجه له ضربة سريعة أصابته في جنبه الأيمن بقوة ألقت به للوراء بعنف والحصان مستمر بركضه.. ووجد نفسه في اندفاعه يرتطم بحصان آخر بقوة قبل أن يسقط جسده جانباً.. تحامل سلمة على نفسه محاولاً النهوض عندما سمع صهيلاً خلفه، ولما التفت بسرعة للخلف رأى أحد التتر يجذب لجام حصانه ليدفعه ليقف على قدميه قبل أن يدوسه بقدميه الأماميتين بقوة أسقطته أرضاً من جديد بدون حراك..
ومع الهجوم، تعالى صراخ النسوة والأطفال، فأدرك من بقي من الرجال أن بقية التتار قد داروا خلف القافلة لتفاديهم والوصول للنساء وما تحمله القافلة من زاد ومال دون مقاومة.. أما جمان، فكانت تتلفت حولها بذعر مع مرأى الخيول التي دارت حول القافلة وإدراكها أن المهاجمين هم التتار، بينما صوت المعركة التي دارت بين رجال القافلة ومن بقي من التتار يصل لسمعها بوضوح.. رأت التتار يترجلون من خيولهم، فتقدم جزء منهم من النسوة والأطفال الذين انزووا في جانب المكان وصراخهم يعلو بشدة، بينما تقدم جزء آخر نحو ما تحمله الجمال على ظهورها من زاد ومال متخلصين بسهولة من العبيد الذين وقفوا يرتجفون بذعر.. لم تدرِ جمان ما الذي عليها فعله.. هل تقف في موقعها رغم التتار الذين بدؤوا بتفتيش القافلة وسلب ما فيها ناهيك عن سبي بعض النساء وقتل الأطفال؟.. هل تتراجع بحثاً عن سلمة مع صليل السيوف الذي يصلها بوضوح؟.. هل تركب حصانها وتوّلي هاربة تاركة سلمة خلفها؟..
ترددت وقلبها يخفق بشدة وهي ترى أحد التتر يجذب صبياً صغيراً باكياً يتوسل إليه، فلم يتردد في توجيه ضربة قوية نحو صدره قبل أن يلقي جثته جانباً ويقبض على طفل آخر من بين سبعة أطفال ضمّتهم القافلة.. ورأت تترييْن آخرين يقتربان من النسوة الباكيات فيقتلان بعضهن ويستبقيان الأخريات دون أن يجدوا مقاومة تذكر عدا الهلع والصراخ والبكاء.. تحاملت جمان على نفسها وركضت نحو موضع سلمة بفزع لا حدود له.. على الأقل وجودها قربه سيمنحهما فرصة أفضل للهرب متى ما تسنـّى لهما ذلك.. وبعد أن تجاوزت الجمال التي تفصل بينها وبين ذلك الجانب والتي بدأت تطلق رغاءً مزعجاً مع فزعها وبعضها ينهض ملقياً ما على ظهره، وقفت جمان مصعوقة مع مرأى الجثث المتناثرة للرجال ومن بقي منهم منشغل بقتال عدد من التتار وهم عاجزون عن التخلص منهم بسهولة.. نظرت جمان بذعر لقتال الرجال مع التتار دون أن تلمح سلمة بينهم، ولم تنتبه لأحد التتر وهو يتقدم منها حتى فوجئت به يجذبها من ذراعها ويلويها خلف ظهرها بشكل جعلها تصرخ بقوة.. حاولت جمان التملص منه دون فائدة وهي تجده يجذبها بقوة نحو حصان وقف قريباً فيقيد يديها إلى السرج بإحكام..
نظرت جمان حولها بفزع وهي تحاول تحرير يديها من القيد.. كانت المعركة قد بدأت تهدأ، ولذعرها رأت عدداً من الرجال من أصحاب القافلة يسارعون لخيولهم فيمتطونها ويهربون بها مولـّين الدبر دون تردد، ولم ترَ سلمة في أي مكان.. فصاحت من بين صراخ بقية النسوة "سلـمــــــة..."
لم تجد استجابة وهي ترى التتار يقتلون من بقي من الرجال ثم التفتوا نحو الجمال فأجهزوا عليها دون تردد رغم عدم وجود معنىً حقيقي لذلك.. لكنها عادتهم في تدمير كل ما لا يمكنهم الاستيلاء عليه.. عادت جمان تصيح بذعر "سلمة.. أين أنت؟"
تزايد الذعر في صدرها مع الصمت الذي جاوبها.. ولم يمض وقت طويل حتى وجدت أن التتر قد فرغوا من سلب ما يمكن سلبه من تلك القافلة وقتل كل من لا يرغبون به من أفرادها، ثم عادوا نحو خيولهم وحملوا النساء غصباً عنهن مستعدين للرحيل.. وجدت جمان التتري يقترب منها فيحرر يديها، عندها حاولت الهرب منه رغم عدم جدوى ذلك.. لكن، هل الاستسلام خير لها؟.. فوجدته يقبض على ذراعها بقوة ويلويها خلف ظهرها بشكل مؤلم، قبل أن يحملها بخفة ويضعها على ظهر الحصان منكفئة على وجهها.. حاولت جمان النهوض وهي تجده يمتطي الحصان بدوره، لكنه لم يمنحها فرصة أخرى للهرب وهو يلكز الحصان ويتبع رفاقه مبتعدين عن المذبحة التي تركوها خلفهم.. أخذت جمان تصرخ بذعر وهي ترفس محاولة الاعتدال رغم وجود التتري الذي يقبض على يديها خلف ظهرها ليمنعها من الحركة.. لكنها لم تتوقف عن الصراخ بذعر وعن محاولة تحرير نفسها من قبضته.. يجب أن تهرب منه.. يجب أن تعود لسلمة.. لكن..... أين هو سلمة..؟.... أين اختفى وهي أحوج ما تكون إليه؟..

***********************

بعد مدة لا يعلمها قضاها في غيبوبة، نهض سلمة فجأة جالساً بذعر وهو يتلفت حوله، مما أورثه آلاماً جمّة في جانبه الجريح.. انثنى بألم وهو يضغط على جرحه بيده، بينما سمع صوت أحد الرجال قربه يقول وهو يدفعه ليستلقي من جديد "لا تتعب نفسك هكذا.. لقد انقضى كل شيء...."
اتسعت عينا سلمة مع مغزى قوله وهو يتلفت حوله.. كانت الشمس قد ارتفعت عالياً في السماء، لكن لم يجد قربه إلا بضع رجال لا يتجاوزون العشر مع خيولهم.. ولم يجد أحداً قربه غيرهم.. نظر للرجل بعدم فهم وتساءل "ما الذي جرى؟ أين التتار؟ وأين النسوة وبقية القافلة؟"
قال الرجل بأسى "لم يبق أي شيء.. استولى التتار على القافلة وسَبَوا من بقي حياً من النساء.. نحن هربنا منهم بالكاد بعد أن تغافلناهم، ولولا وجود الخيول قريبة منا لما استطعنا النجاة بأعناقنا منهم.. ولمّا عدنا لموقع القافلة بعد رحيلهم لم نجد حياً سواك.."
كان ذعر سلمة يزداد مع كل كلمة يسمعها.. فانتفض واقفاً على الفور رغم ألمه ممسكاً بالجرح الذي قام الرجل بتضميده، وتلفت حوله بذعر ليرى البقعة حوله خالية من أي أثر للتتار، أو للقافلة، أو لجمان.. فقال وفزع شديد يتملكه "لا يمكن أن يحدث هذا.. أين جمان؟"
والتفت للرجل صارخاً "كيف تركتم التتار يختطفون النسوة بكل هذه السهولة؟"
قال الرجل خافضاً رأسه "حاولنا جهدنا إنقاذ الجميع، لكن التتار كانوا أقوى منا.. ولو بقينا على قتالهم لقتلونا جميعاً دون فائدة"
فصاح سلمة بغضب "وهل بقاؤكم أحياء بهذ الصورة له فائدة؟.. تعساً لكم.. من أي اتجاه ذهب التتار؟ إلى أين ذهبوا بمن اختطفوه؟"
لم يجبه الرجل وهو مقطب، فتركه سلمة واستدار راكضاً نحو الخيول خلفه والتي لا تتجاوز العشر، فأسرع نحو أقربها وقفز فوقها رغم ألمه وأمسك بلجامها.. لكن قبل أن يتحرك بها فوجئ بصاحب الحصان يجذب اللجام من يده بقوة وهو يصيح "إلى أين تنوي الذهاب؟"
صاح سلمة "يجب أن ألحق أولئك المجرمين.. لقد اختطفوا جمان، ويجب أن أستعيدها مهما يكن الأمر"
قال الرجل بحدة "بجرحك وتعبك هذين؟ سيقتلونك قبل أن تقترب منهم مسافة كافية"
فقال سلمة بغضب "يجب أن أفعل.. لا يمكن أن أتركها بين أيديهم.. لا يمكن أن أتخلى عنها الآ........."
زاغت عيناه مع الدوار الذي أصابه بسبب الدماء التي فقدها والمجهود الذي بذله في القتال سابقاً، وكاد يسقط أرضاً من على ظهر الحصان لولا أن تمسك بالسرج في اللحظة الأخيرة وهو ينفض رأسه بقوة.. فجذبه الرجل ليدفعه للنزول وقام بإسناده لئلا يقع قائلاً "بحالتك هذه لن تصمد طويلاً على ظهر الحصان.. من حسن حظك أن التتار ظنوك ميتاً، فلا تقتل نفسك مرة أخرى.."
دفعه سلمة عنه وهو يقول "اتركني.. يجب أن ألحق بهم قبل أن يغيبوا عن الأنظار.."
فقال له الرجل بحدة "رحيلك الآن لن يفيد الفتاة في شيء.. لا تقتل نفسك دون داعٍ يا هذا"
وأضاف قبل أن يعترض سلمة "كل التتار يعودون لجيشهم الذي عسكر في همذان.. لو اعتنيت بجسدك وبجراحك حتى تستردّ عافيتك فستتمكن من اللحاق بهم قبل مضيّ وقت طويل"
قال سلمة بمرارة "مع أولئك المتوحشين سيغدو الوقت متأخراً جداً.."
لكنه لم يملك الاعتراض مع الدوار الذي عصف برأسه.. بينما أجلسه الرجل أرضاً وكشف عن جرحه الذي عاد يتصبب دماً، فقال وهو يضمده من جديد "ما الذي تأمل أن تفعله بجرح كهذا؟.. لا تتهور وترتكب ما تندم عليه"
لم يعلق سلمة وهو يرمق الأفق بمرارة شديدة وجزع لا حدود له.. لابد أن يلحق بها مهما يكن، لابد أن يحميها قدر ما يستطيع.. لكن..... لِمَ وضع القدر أولئك الوحوش في طريقه؟.. يا لحظه التعس..

***********************

لم يكن لدى جمان، والحصان يركض بها بشكل حثيث، أي أمل بالنجاة مع كل خطوة تبعدها عن موقع سلمة الذي اختفى ولا تدري أهرب مع الهاربين أم أنه قتل.. ظلت على وضعها ملقاة فوق ظهر الحصان ودموعها تهطل من عينيها بعد أن كفـّت عن الصياح والصراخ منذ أمد لعدم جدوى ذلك.. وإن حاولت النهوض من موقعها منعها التتري من الحراك بقبضة يده التي يضغط بها على ظهرها بقسوة.. غالبت جمان غصّة في حلقها وهي ترى السهول تنطوي والأشجار المتفرقة تتراكض في الاتجاه المعاكس بأسرع ما تملكه، بينما الشمس تغادر عرشها في وسط السماء وتنحدر نحو مغيبها بحسرة واضحة وكأنها تدرك معاناة من وقعوا في أيدي وحوش كهؤلاء.. كان كل شيء يبدو حقيقياً بأكثر مما تتمناه جمان.. صوت سنابك الخيول المتلاحقة ولهاثها العالي.. صراخ بعض النسوة وبكاؤهن بيأس.. صياح بعض أولئك المتوحشين بأصوات غليظة وبكلمات لا تفهم حرفاً منها.. رائحة الدماء العالقة بكل شيء والمختلطة برائحة العرق والغبار المتطاير في كل مكان..
راودتها فكرة أن تلقي نفسها من على ظهر الحصان بقوة ومن ثم تهرب بأي وسيلة كانت.. هناك خطر كبير أن تدقّ عنقها في تلك السقطة، لكن ربما كان ذلك خيراً لها.. تلفتت حولها بحثاً عن فرصة مناسبة، حتى وجدت الحصان الذي يحملها قد تأخر قليلاً وغدا في آخر القافلة الصغيرة، عندها عزمت جمان على تنفذ خطتها في تلك اللحظة.. ولما رأت التتري يلتفت بعيداً نحو أحد رفاقه، قامت برفع رأسها والنصف الأعلى من جسدها بقوة ودفعت جسدها بيديها عن الحصان.. ومع حركة الحصان العنيفة طار جسدها قبل أن يدرك التتري ذلك، لتسقط أرضاً سقطة مؤلمة على الأرض المنبسطة، وتدحرجت لمسافة طويلة قبل أن تستقر أرضاً.. حاولت جمان النهوض من جديد والهرب قبل أن يلحق بها التتري، لكن لما رفعت بصرها إليه فوجئت به قد استدار بالحصان وعاد إليها راكضاً.. حاولت الوقوف بسرعة بأعضاء مضعضعة وآلام عنيفة، لكنه كان قد وصل إليها في اللحظة ذاتها فوجّه إليها ضربة قوية بمقبض سيفه على وجهها أسقطتها أرضاً من جديد وهي تصيح بألم.. شعرت بالدماء تتجمع في حلقها من أثر الضربة، ولكن لم يمهلها التتري الذي ترجل من ظهر الحصان، فتقدم منها وجذبها من ذراعها بقوة ومن ثم صفعها بعنف غير آبه بالنظرة المرعوبة في عينيها، وصراخه يدوّي في أذنيها.. تجنبت جمان النظر إلى وجهه الذي يثير رعبها أكثر ودموعها تغرق وجهها، وقبل أن يعيدها على ظهر الحصان وجد البقية يقتربون منه ودار جدال بينهم لمدة قصيرة.. بدا أنهم قرروا الوقوف للراحة قليلاً، فقد هبط البقية عن ظهور الخيول فيما جعلوا النساء يجلسن في جانب المكان..
جلست جمان مع الباقيات وهي متمالكة لآلامها بصعوبة بالغة، فقالت لها إحداهن "كان ما فعلتِه حماقة كبيرة.. ماذا لو كسرتِ ساقك في سقطتك تلك"
غمغمت جمان "ربما كان ذلك أفضل لي"
فقالت المرأة مقطبة "لو حدث ذلك، فسيقتلك ذلك التتري دون أدنى تردد.. فهم لا يهتمون بالجرحى بتاتاً.."
وضعت جمان وجهها بين ذراعيها مكررة "ذلك حتماً سيكون خيراً لي.."
تعالى بكاء خافت من بعض النسوة بينما ظلت جمان على وضعها وهي تفكر في طريقة للفرار.. الموت أهون بالنسبة لها من الاستسلام المهين، ومحاولة الفرار ستجني عبرها فائدة من اثنتين.. إما أن تفلح في ذلك وتنجو من هذا المصير، وإما أن تفشل ويتم قتلها، وفي كلا الحالتين هي الرابحة..
رفعت رأسها نحو النسوة حولها وقالت "اسمعن.. يجب أن نعمل للفرار من بين أيديهم معاً.. فذلك أفضل من بضع محاولات فردية ستفشل بالتأكيد"
قالت إحداهن مرتجفة "لكن إن فشلنا فسيتم قتلنا.."
قالت جمان بحزم "أليس ذلك أفضل؟"
خفضت المرأة وجهها بصمت واعتراض واضح، مما جعل جمان تنظر لها بغير تصديق.. تلفتت في وجوه الباقيات لتلقى رداً مشابهاً، فقالت باستنكار غاضب "أتجدن هذه الحياة الوضيعة أفضل من الموت؟ بم تفكرن؟"
قالت إحداهن بضعف "ألم تري ما حدث للرجال وهم أقوى منا؟ ألم تشهدي الطريقة البشعة التي قتلوا بها؟"
أضافت أخرى منتفضة ودموعها تسيل "أولئك التتر متوحشون متعطشون للدماء.. لا أريد أن أقتل على أيديهم"
فقالت جمان بغضب "وما سيكون حالك إن ساقوكِ لمعسكر جيشهم؟ هل ستعاملين معاملة الأميرات؟ ستتمنين عندها لو قتلوك ألف مرة قبل أن يقتلوك فعلاً.. بأي عقل تفكرن؟"
سمعا صيحة غاضبة من أحد التتر ليصمتن، فانزوت النسوة على أنفسهن بذعر صامت، بينما خفضت جمان صوتها وهي تقول "علينا أن نعمل معاً ونهرب معاً.. قد ننجح في ذلك وننقذ أنفسنا من براثنهم.. لا داعي لهذا التخاذل.. أرجوكن"
نظرن لبعضهن البعض بصمت، ثم انبرت إحداهن تقول "أنا معك في ذلك، لكن كيف يمكننا التغلب على أولئك القساة الضخام الذين يفوقوننا قوة بكثير؟"
صمتت جمان مفكرة وهي تتأمل ما حولها، ثم ألقت نظرة متوترة على الرجال الذين جلسوا جانباً، قبل أن تزحف لمسافة قصيرة محاولة عدم جذب الانتباه بينما إحدى النسوة تهمس بخوف "ما الذي ستفعلينه؟"
لم تجبها جمان وهي تقبع قرب شجيرة من الشجيرات المنتشرة في تلك السهول والتي لا يتجاوز طولها قدم أو قدمان.. بأوراق صغيرة دائرية وزهيرات حمراء اللون، وقد ازدانت بأحجام متفاوتة من الأشواك القاسية المدببة خضراء اللون.. تلفتت جمان خلفها بحذر، ثم قامت بانتزاع بعض تلك الأشواك بما يناسب عدد النسوة الأسيرات.. وبعد أن تمكنت من ذلك عادت بسرعة للنسوة القلقات وهي تريهن الأشواك محاولة البقاء بعيداً عن أعين آسريهن.. فقالت إحداهن باستنكار "ما الذي سنفعله بهذا؟ هل سنقاتل الرجال بالأشواك؟"
قطبت جمان قائلة "نحن لا يمكننا القتال ولا نستطيع التفكير في ذلك.. لكن لديّ خطة أبسط وأكثر سهولة"
نظرن لها بعدم اقتناع، لكنها تجاهلت ذلك وهي تقول "إنهم يجبروننا على امتطاء الخيول قبلهم، أليس كذلك؟"
ورفعت إحدى الأشواك المدببة قائلة "كل ما علينا فعله هو، فور أن نكون على ظهور الأحصنة وقبل أن يصعد التتر عليها، غرز هذه الشوكة في فخذها بقوة.. ستفزع الأحصنة عندها وتحاول إسقاط مَن على ظهرها قبل أن تندفع راكضة بسرعة.. كل ما عليكنّ عندها هو التمسك بسرجها أو بعُرفها بقوة والتشبث بها حتى نبتعد مسافة كافية.. سيعجز التتر مع الثورة هذه من التحكم بها والإمساك بلجامها.. هذه هي فرصتنا الوحيدة"
وقامت بتوزيع الأشواك عليهن وإحداهن تقول باعتراض "تبدو لي خطة فاشلة.. من يدرينا أن الأحصنة ستفزع حقاً لشيء بسيط كهذا؟"
قالت جمان بحزم "أنا أعلم ذلك.. لا تستسلمن للجبن فهذه هي فرصتنا الوحيدة.."
ثم أضافت "الوقت في صالحنا، فمع غياب الشمس الوشيك سيمنحنا الليل ستاراً نحن بحاجة له.."
لاحظت أن بعض النسوة قد استرددن عزمهن وهنّ يخبئن الأشواك في أكمام ملابسهن، بينما بقي بعضهن ينظرن لها بيأس وتخاذل.. تذكرت جمان في تلك اللحظة سلمة الذي لطالما واجه تخاذلها ويأسها.. لابد أنه كان يراها بنفس النظرة التي ترى فيها هاته النسوة الآن.. لابد أنه اشمأز من تخاذلها كما تشمئز هي من تخاذلهن.. نظرت للأشواك في يدها وهي تشعر بمزيج القلق والانفعال لما هي مقدمة عليه، ثم همست لنفسها "أتمنى أن تنجح خطتي هذه.. وأن أتمكن من العودة إليك يا سلمة.. عندها سترى أنني حقاً غدوت فتاة أخرى.. ولن تشمئز مني عندها، أليس كذلك؟"
لم تترك فكرة موته تدور كثيراً في عقلها، فما هي بقادرة على احتمالها مع كل ما يجري لها.. لذلك أقنعت نفسها أنه حيّ ولابد.. حيّ وسيبحث عنها وسيجدها حتماً.. رأت في تلك اللحظة أولئك التتر يستعدون للرحيل من جديد، فهمست لمن حولها "لدينا فرصة واحدة فقط.. من ستجْـبُن عن المضيّ في الخطة، ستكون الخسارة خسارتها.. وقد تجني على البقية بفعلها ذلك.. تأكدن من تنفيذ الخطة عندما تكون النسوة كلهنّ على ظهور الخيل.."
بدا الاضطراب جليّاً على الوجوه فيما وجدن التتر يقتربون ويجذبونهن بعنف ويجبرونهن على امتطاء الخيول.. كان التوتر قد بلغ بجمان مبلغه وهي تخفي إحدى الأشواك بيدها بقوة وتنظر حولها بقلق عندما أجبرها أحدهم على امتطاء ظهر الحصان.. وفور أن أصبحت على ظهره، ولاحظت أن النسوة قد صرْن فوق ظهور الخيول بدورهن وهن يتلفتن حولهن بتوتر، خفضت جمان يدها بغفلة من التتري القريب ودفعت الشوكة في فخذ الحصان بقوة.. ومع الألم المفاجئ، صهل الحصان بقوة وهو يرفع قائمتيه الأماميتين بحيث كادت جمان تسقط من فوقه لولا أن كانت متأهبة لذلك وهي تتشبث بعُرفه بقوة.. وتعالى صهيل الخيول من حولها بينما ركل الحصان الذي هي فوقه بقائمتيه الخلفيتين بقوة والتتري يبتعد عنه قليلاً صائحاً بصوت غليظ.. حاول التتري أن يقبض على اللجام الذي أفلته مع حركة الحصان، لكن جمان عادت تغرز الشوكة مجدداً في فخذ الحصان التي ازداد ألمها وانطلقت راكضة بقوة قبل أن يتمكن التتري من الإمساك بلجامها..
لهثت جمان لفرط الانفعال وهي تتشبث بعُرف الحصان بقوة دون أن تحاول الإمساك بلجامه وإيقافه رغم عنف ركضه.. لم تكد تصدق أنها نجحت بهذه السهولة في الفرار من رجال يؤمن الجميع أنه لا يمكن الإفلات من قبضتهم.. نظرت خلفها لترى حال بقية النسوة، فوجدت ثلاثاً منهن قد أفلحن بالهرب أيضاً وإن كنّ يتشبثتن بالخيول بعسر شديد ويصرخن بفزع، بينما فشلت اثنتان من البداية عندما استطاع الحصان إسقاطهما من على ظهرها أرضاً قبل أن يفلح صاحبها في القبض على لجامها، والأخيرة لم تستطع دفع الحصان الذي تركبه للركض وصاحبه يقبض عليه بقوة..
ظلت جمان تنظر خلفها بقلق وقد أدركت أن حال من بقي من النسوة سيئ بالفعل كما بدا من صراخهن الفزع، بينما لم تكد إحدى النسوة الثلاث اللواتي تبعنها تتشبث بالحصان بشكل جيد وهي تسقط قبل أن تبتعد كثيراً عن موقعهم السابق.. نظرت جمان أمامها بقلق وهي تفكر فيما عليها فعله الآن.. مازال التتر يملكون ثلاث خيول على الأقل، ويستطيعون اللحاق بهن بسرعة وغضبهم شديد ولاشك.. هي لم تفكر فيما قد تفعله ما إن تتمكن من الفرار، ولا تستطيع التوقف لمساعدة الباقيات مع الفزع الشديد الذي ألمّ بالحصان بحيث يتعذر عليها الإمساك بلجامه أو تهدئته.. فتلفتت حولها بحثاً عن وسيلة للهرب أو طريق يمكنها أن تسلكه لأقرب مدينة أو قرية.. لكن مع الشمس الغاربة بدت لها السهول خالية من أي أثر، فعادت ببصرها للخلف بقلق لتلاحظ تفرّق من أفلح بالهرب من النسوة بعيداً عنها، بينما لاحظت أن التتر خلفها قد امتطوا ما بقي من الخيول وبدأوا باللحاق بهن..
همست جمان وهي تتلفت حولها والذعر يعود لها "يا إلهي.. إلى أين يمكنني الهرب الآن؟"
في تلك الأثناء، كان سلمة قد تغافل الرجال بعد أن ربط أحدهم جرحه بشكل جزئي حتى يتمكن من علاجه في المدينة القريبة.. فاستولى سلمة على أحد الخيول عندما وجد الجمع حوله قد خلدوا للراحة، ولم يكن منهم من يهتم بأمر النسوة المختطفات بعد أن قـُتِل رفاقهن في مواجهة التتار، وحتى من كان مهتماً لم يكن يجد أي داعٍ لفقد حياته لأجلهن.. دفع سلمة الحصان للجري بعيداً بأقصى سرعته قبل أن يتمكن أحد الرجال من إيقافه، ووجّهه نحو الموقع السابق للقافلة وفي الاتجاه الذي رحلت إليه فرقة التتار كما أشار له ذلك الرجل من قبل.. شعر سلمة بعصبية شديدة وهو يلكز الحصان بقوةٍ ليدفعه لزيادة سرعته رغم أنه كان قد بلغ سرعته القصوى بالفعل، بينما مالت الشمس نحو مغيبها بسرعة مماثلة وسلمة يرمقها بقلق.. مع حلول الظلام، يغدو الترحال بالنسبة له خطراً مع انعدام الأمان في هذه البقاع.. لكن لم يكن يملك رفاهية التوقف وانتظار الصباح، وجلّ خوفه أن يستنفذ الحصان طاقته ويتهاوى قبل أن يبلغ هدفه.. فغمغم بقلق شديد "يا إلهي، ساعدني على إنقاذها من براثنهم قبل أن يمسّها أحدهم بأذىً.."

***********************

بينما كانت جمان تدير بصرها فيما حولها بذعر وهي تسمع صياح التتر من خلفها يقترب أكثر فأكثر، لاحظت ضوءاً على مبعدة من موقعها.. بدا لها الضوء كنار وسط الظلمة التي انتشرت مع مغيب الشمس، فقامت جمان بشيء من المشقة باسترداد اللجام الذي كان منفلتاً، وجذبته لتدفع الحصان ليستدير تجاه ذلك الضوء.. لابد من وجود قرية أو مدينة صغيرة قرب هذه النار، وقد تتمكن من الهرب عبرها والاختباء بين سكانها.. أو يمكنها أن تتجاوزها وتهرب من الجانب الآخر بعد أن تغيب عن أبصار ملاحقيها..
جال ببالها خاطر أن تكون تلك النار جزء من معسكر جيش التتار الذي لابد أن يكون قريباً، لكنها لم تكن تملك رفاهية القلق الآن وملاحقيها يقتربون منها أكثر فأكثر كما بدا من أصواتهم الواضحة.. ومع كل خطوة يخطوها الحصان تجاه النار، كانت تلاحظ أن النار أكبر من أن تكون قد أشعلت للتدفئة أو الإنارة.. ورأت على ضوئها بعض البيوت الطينية الصغيرة التي يعلوها سقف من سعف النخيل مكونة قرية صغيرة، وعدد من أشجار النخيل تقف شامخة قرب تلك البيوت.. كانت النار تشتعل في سقوف البيوت تأكل السعف الجاف بسرعة كبيرة، وقد امتدت لبعض الأشجار القريبة تأكل ما تطاله منها..
غمغمت جمان لنفسها بقلق "لابد أن هذا من فعل فرقة أخرى من التتر.. لكن ألا زالوا في القرية أم غادروها؟"
قررت المخاطرة بالاقتراب من القرية ومحاولة الاندساس بين منازلها القليلة، ومن ثم يمكنها أن تستغل الظلام الذي حلّ لتهرب من الجانب الآخر للقرية مما قد يمنحها وقتاً كافياً لتفلت من قبضة ملاحقيها..
لكن ما إن اقتربت من المنازل المشتعلة وكادت تسير بالحصان بينها، حتى فوجئت بسطح أقرب المنازل يتهاوى بدويٍ عالٍ بعد أن أكلته النيران.. أثار ذلك ذعر الحصان فتوقف عن الجري وصهل وهو يرفع قائمتيه الأماميتين بقوة فاجأت جمان فأسقطتها من على ظهره بعنف والحصان يستدير راكضاً بقوة من حيث أتى..
نهضت جمان بألم شديد وهي تتلفت حولها بفزع، وأسرعت تركض بين المنازل بشيء من القلق خشية أن يجدها أحد التتر.. مع هروب الحصان، بقي أمامها خيار وحيد هو في الاختباء في القرية أو البحث عن وسيلة أخرى للهرب.. لكن أين تختبئ في قرية بسيطة كهذه؟.. وبينما هي تجتاز البيوت الصغيرة، لاحظت أن المكان خالٍ تماماً، ولم تسمع صوتاً يدلها على وجود أي بشر أو حيوان في هذا المكان.. وبعد أن اجتازت البيوت ووصلت لساحة صغيرة وسط القرية، وقفت وهي تشهق بذعر مع مرأى الكومة التي توسطت الساحة، والنيران تلقي بضوئها عليها مانحة جمان رؤية جيدة لما أمامها.. كانت تلك الكومة العالية تتكون من جثث العشرات من الرجال والنساء والأطفال من أهل القرية كما يبدو.. العشرات قد سقطوا مضرجين بدمائهم، ورائحة الدماء تكاد تزكم الأنوف لشدّتها..
تلفتت جمان حولها والرعب يتزايد في صدرها مع بشاعة المنظر أمامها.. كان المكان حولها خالياً تماماً، ولا تستطيع العثور على أي شيء يعينها على الهرب.. لا شيء أمامها خلاف الجثث التي تناثرت على مساحة واسعة بالإضافة للكومة وسط القرية، بينما اشتعلت الأكواخ القريبة بالنيران بضوئها الأحمر الرهيب الذي يجعل المنظر أكثر شناعة.. في الآن ذاته، كانت تسمع صدى الصياح الوحشي يتردد في جهات عديدة من حولها بحيث أدركت أن ملاحقيها قد غدوا أقرب إليها مما تتمنى.. ازدادت ضربات قلبها شدة وهي تتلفت حولها بذعر بالغ بحثاً عن مهرب.. أين يمكنها الاختباء؟ في الأكواخ المحترقة؟ أم في العراء الذي لا يستطيع فأر صغير الاختباء فيه بنجاح كبير؟.. عادت ببصرها نحو الأجساد وخوفها يمنعها من الحزن على ما تراه، ولا الأسى لمصير قرية كاملة بهذه الطريقة الوحشية التي لا يمكن أن يرتكبها إنسان.. تذكرت ما قاله الرجل الأشيب في القلعة في اليوم الأول لهروبها من القصر..

لقد اندسست بين جثث القتلى فحسبوني قتيلا مثلهم..

شعرت باقتراب الأصوات منها، فاندفعت نحو الأجساد القريبة وقامت بنزع ملابس أقرب فتىً يماثلها في الحجم وهي تتلفت حولها بذعر.. ثم استبدلت ملابسها التي لا يمكن إغفالها بملابسه البسيطة، ودسّت جسده شبه العاري بين أقرب الأجساد إليه، ودسّت ملابسها السابقة بين الأجساد لئلا يدرك أحدهم ما فعلته.. ثم أخفت شعرها الطويل تحت عمامة أحد القرويين ممن كان ملقىً قريباً منها..
كانت جمان تلهث لفرط الانفعال والخوف وهي تتلفت حولها بينما الأصوات تعلو أكثر من عدة جهات.. فأسرعت ترمي نفسها وسط الأجساد منكفئة على وجهها بينها رغم الرائحة التي أثارت في نفسها الغثيان، لكنها لم تكن تملك رفاهية التذمر وهي تبطئ تنفسها ما استطاعت لئلا يبدو واضحاً في حال اقتراب أحدهم منها، وأغمضت عينيها بشدة وهي تدعو في نفسها أن ينجيها الله تعالى من أيدي أولئك السفاحين القتلة.. شعرت بارتجاف شديد في جسدها لشدة خوفها بعد أن أدركت أن عدداً من أولئك المتوحشين يجوب أنحاء القرية، فدسّت يديها تحتها لتخفي ارتجافتهما الواضحة ودموع الفزع تحتشد في عينيها..
بعد لحظات مفزعة، شعرت بالخطوات الثقيلة تقترب من وسط الساحة، ثم شعرت ببعض تلك الأقدام تركل الأجساد القريبة أو تدوس عليها متوغلة وسط المذبحة، فهمست لنفسها وهي تحاول إيقاف ارتجافة جسدها "يا إلهي.. أنقذني.."
ومن تحت العمامة التي تغطي رأسها، فتحت عيناً بشكل بسيط لترى ما يجري حولها.. ولفزعها الشديد رأت تترياً ضخماً يدوس الأجساد بغير أن يعبأ بها على غير مبعدة من موقعها.. وبين لحظة وأخرى يغرز رمحه بقوة في هذا الجسد أو ذاك ليتأكد من موت صاحبه.. فكتمت جمان شهقتها بأن عضّت يدها بقوة لئلا تصدر صوتاً قد يثير الانتباه.. كانت الخطوات التي تدوس الأجساد والرمح الذي يشقها بقوة بصوت واضح يقترب منها أكثر فأكثر، بينما أدمت جمان يدها وهي تعضّها بشدة أكبر لئلا تصدر صوت بكاء ودموعها تسيل على خديها وهي تخبئ وجهها بين الجثث.. ماذ لو اقترب منها وداسها بقدمه الثقيلة تلك؟ ماذا لو غرز في ظهرها رمحه المسنون ذاك؟ بل ماذا لو أدرك أنها على قيد الحياة فاعتقلها من جديد؟ ما الذي يمكنها أن تفعله وهي التي هربت منهم في المرة الأولى بمعجزة كبيرة؟..
اقتربت الخطوات منها أكثر فأكثر ورعبها يتزايد آلاف المرات مع كل خطوة.. راودتها رغبة النهوض والفرار من هذا الموقع، لكن عملها هذا سيغدو انتحاراً.. ومع اقتراب الخطوات، ومع الرمح الذي انغرز في أحد الأجساد القريبة بحيث تسمع بوضوح صوت اختراقه للحم قبل أن ينتزعه صاحبه بقوة والدماء تنتثر على بقعة غير صغيرة، علا نداء بصوت خشن من جانب الساحة.. فتوقف صاحب الرمح للحظة ملتفتاً خلفه، ومن تحت العمامة، رأت جمان تترياً آخر يقف بين المنازل المحترقة وهو يلوح بسيفه المخضب بالدماء ويصيح بحنق.. ظل صاحب الرمح يتجادل معه بصوت غاضب للحظات وجمان تدعو الله أن يرحلا دون أن يدركا وجودها الذي كادت ارتجافة جسدها تفضحه، ثم شعرت بالخطوات تبتعد قليلاً قبل أن يسرع صاحبها أكثر وهو يتبع صاحب السيف.. بدا لها أنهم عثروا على شيء ما، أو شخص ما، في موقع آخر لذلك كفوا عن البحث في هذا الموقع.. لكنها لم تغامر بالتحرك من موقعها وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتلاحقة ودقات قلبها المتسارعة..
وبعد أمد طويل، بعد أن خفتت الأصوات كلها ولم يبقَ إلا صوت قرقعة الأخشاب التي تتحطم بعد أن تحرقها النيران وتتآكل فتتهاوى أرضاً بدويٍّ مسموع.. بعد انتظار طال كثيراً حتى استيقنت جمان أن الموقع قد أصبح خالياً تماماً، رفعت رأسها قليلاً ونظرت حولها بقلق واضح، ثم اعتدلت جالسة بعد أن تأكدت أنها غدت في أمان جزئي.. كانت المناظر حولها عائمة بسبب الدموع التي سالت من عينيها، فحاولت مسحها بيدها عدة مرات ورائحة الدماء والدخان تزكم أنفها حتى لم تستطع تمالك نفسها وهي تفرغ معدتها الخاوية جانباً.. نظرت حولها وهي تمسح فمها، بينما تزايدت الدموع التي غمرت وجهها صانعة خطين وسط دماء القتلى التي لطخته، قبل أن تنخرط في بكاء مرير حاولت إيقافه بلا فائدة.. بكت بصوت عالٍ وقد عجزت عن السيطرة على انفعالاتها التي ما هدأت منذ فارقت سلمة.. بكت وبكت وهي تحيط كتفيها بذراعيها محاولة إيقاف اهتزازهما ودموعها تتساقط على ملابسها بلا انقطاع.... والآن.. إلى أين؟.. كيف ستهرب من هذا الجحيم؟.. وكيف لها الحصول على بعض الأمان وسط هذه المذابح التي لا نهاية لها؟..

***********************


~ بعيدا عن الخيال (٧) ~
هجوم التتار على القرى والقوافل


قام التتار ببعض الحملات في المناطق المحيطة بالعراق والتي لم يكن لها غرض إلا بث الرعب وإحياء ذكرى الحملات التترية الرهيبة التي تمت في السابق في عهد جنكيز خان ومن بعده أوكيتاي خان.. فالحملة التترية الأولى في عهد جنكيز خان قد مر عليها أكثر من ثلاثين سنة، وهناك أجيال من المسلمين لم تر هذه الأحداث إنما سمعت بها فقط من أبائها وأجدادها.. والحملة التترية الثانية في عهد أوكيتاي كانت موجهة لروسيا وشرق أوروبا ولم يتأثر بها المسلمون.. لذلك قام التتر بهذا النشاط العسكري التدميري الإرهابي بغرض بث الرعب في قلوب المسلمين وإعلامهم أن حروب التتار مازالت لا تقاوم، وأن جيوش التتار مازالت قوية ومنتشرة..
من ذلك ما حدث في سنة ٦٥٠ هجرية عندما قامت فرقة تترية بمهاجمة مناطق الجزيرة وسروج وسنجار، وهي مناطق شمال العراق، فقتلوا ونهبوا وسبوا، واستولوا على أموال ضخمة كانت في قافلة تجارية بلغت أكثر من ستمائة ألف دينار..
((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني


***********************

مملكة الغيوم 11-02-16 10:15 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
اشعر برعب جمان وهى تساق بوحشيه مع السبايا وبفزعها حين لطمها بسيفه وبيده ثم منتهى الفزع وهى مندسه وسط الاجساد الميته والمنازل المحترقه
لكنى احيى فيها الشجاعه انها لم تستسلم للاسر وفكرت فى الهرب مرتين عوقبت بالضرب في الاولى وفلحت فى الثانيه لانها لم تخشى الموت او فضلت الموت على ماينتظرها بين ايدى اؤلائك الكفار المتعطشين للدماء
اما سلمه فارجو ان يلحق بها قبل ان تلقى مصير بشع من الجوع والتشرد او يعثر عليها قطاع الطرق
تدمير القرى والقتل الجماعى هو شيئ من عدة اشياء يقوم بها التتار كقتل الاطفال وبقر بطون الحوامل واغتصاب النساء والتنكيل بالشيوخ
فصل مليئ بالاحداث سلمت يداكى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 12-02-16 09:55 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أحياناً الخوف يدفع المرء ليكتسب نوعاً خاصاً من الشجاعة
وأحياناً أرى أن الشجاعة أصلها خوف من نوع ما
خوف على الحياة.. أو على شخص عزيز
الخوف من العار.. أو الخوف من عواقب حدث ما
وجمان التي عاشت منعمة لا تعرف طعماً للخوف
قد فوجئت بهذه المشاعر القاسية وسط ظروف أقسى
ومصير أي امرأة تساق للأسر عند التتار أو غيرهم معروفة تماماً
وهذا ما أكسبها نوعاً من الشجاعة للهرب من هذا المصير
وربما أثمر فيها تشجيع سلمة لها بنبذ الخوف والقلق والتصرف بإيجابية
سنرى مصير الاثنين في الفصل القادم بإذن الله

عالم خيال 12-02-16 10:00 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الثامن ~


عندما طلعت الشمس على تلك القرية الساكنة سكون الموتى، كانت جمان تنطوي على نفسها في زاوية بيت احترق بشكل شبه كامل.. بعد أن تأكدت من رحيل التتار من القرية تماماً في الليلة الماضية، غادرت موقعها بين الجثث وسط الساحة والتجأت لأحد البيوت بعد أن انطفأت النيران التي شبّت فيه.. كانت تخشى من عودة التتار، وهي لا تعلم السبب الذي غادروا لأجله، لكنها لم تستطع البقاء وسط الجثث لمدة أطول.. ففضّلت الاختباء خلف بعض الأثاث المتفحم في ذلك البيت بانتظار أن تجد طريقة للرحيل..
ومع طلوع الشمس، تجرأت جمان على مغادرة موقعها والخروج من البيت ملقية نظرة حذرة على الخارج.. ورغم الهدوء في القرية، إلا أن هذا لم يمنحها هدوءاً نفسياً البتة وهي تتلفت حولها بقلق خشية أن يباغتها شخص من الخلف.. دارت دورة كاملة حول القرية الصغيرة بحثاً عن سبيل للهروب، لكن من هاجم القرية حرص على الاستيلاء على كل ما قد ينفعها فيها.. والآن هي حبيسة هذه القرية وسط السهول الشاسعة، فما الذي ستفعله؟..
بعد أن يئست من العثور على شيء، ذهبت لأعلى بيت في القرية سقفه مبني من الطين، وصعدت على سطحه عبر سلم داخلي، وفي الأعلى دارت ببصرها في القرية والسهول المحيطة بها لعلها تعثر على موقع مأهول بالسكان على مقربة.. لكن السهول المنبسطة كانت مخيّبة لآمالها بشكل كبير، ومع ازدياد العطش والجوع الذي تشعر به، لم يكن الوضع مبشراً بأي خير.. فدمدمت لنفسها وهي تهبط "على الأقل، لست تحت رحمة أولئك المتوحشين.. الهلاك جوعاً خير لي من أن يقتادوني لمعسكرهم ولاشك"
تنهدت وهي تبحث عن البئر الذي يتوسط القرية والذي يعيش عليه سكانها في حياتهم، قبل أن يغدر بهم التتر، فعثرت عليه وسط الساحة وقد أحاطت به الجثث من كل جانب.. غالبت جمان ضيقها من الموت المحلـّق فوق الساحة وهي تقترب من البئر بحثاً عن وسيلة لاستخراج الماء منه.. لكن نظرة لقاعه المليء بالماء والذي خضّبته الدماء بلونها القاني جعلتها تتراجع بضيق وهي تدرك أنها ستهلك جوعاً ولاشك.. لا تعلم حال النسوة الأخريات، لكن تمنّت أن يكنّ بحال أفضل منها.. فغمغمت جمان "أتمنى أن يكنّ بخير ويتمكنّ من النجاة.. وليشمل الله برحمته من لم تتمكن من الهرب.."
حاولت جمان استعادة ثوبها السابق والتخلص من الرداء الذي ترتديه، لكن نظرة لثوبها الذي تلطخ بالدماء وغدت رائحته تبدو لها كرائحة الموت جعلتها ترميه جانباً مفضلة البقاء بردائها هذا.. عادت لمخبئها وانزوت في زاوية البيت منصتة لأي صوت قد تسمعه، وهي تمسك بيدها خنجراً صغيراً عثرت عليه بين الجثث فاستولت عليه أملاً في أن تتمكن من الدفاع عن نفسها لو عاد ملاحقوها.. تنهدت وهي تتأمل الخنجر الصغير الذي يبدو لعينيها مهيناً مقارنة بالأسلحة التي كان أولئك التتر يحملونها.. ثم عادت تدفن وجهها بين ذراعيها محاولة إلهاء نفسها عن وضعها بالتفكير في سلمة.. هل هو بخير؟ هل نجا من هجوم التتار؟.. تأمل ذلك حقاً.. وتأمل أن تتمكن من العودة إليه سريعاً، فما عادت تشعر بالأمان إلا جواره.. لكن، هل يبحث عنها الآن؟.. أم أنه رحل مقتنعاً أنه لن يتمكن من العثور عليها أبداً؟.. ربما شعر بأنها عبء عليه وقد زال.. أهو يشعر بالراحة لذلك؟.. زادتها تلك الأفكار بؤساً ومرارة، فتنهدت وهي تغمغم بأسى "رباه.. متى ينتهي كل هذا؟.."

***********************

بعد طلوع النهار، وسلمة لا يزال يبحث عن جمان في كل موقع، قاده الحصان لجزء من السهول بدت له فيها مضارب إحدى القبائل العربية التي تسكن المنطقة.. شعر سلمة بالأمل لدى رؤيتها، فربما وجدوا جمان أو لجأت إليهم هرباً من التتر.. أو على الأقل، ربما رأى أحد رجال القبيلة فرقة التتر تلك ورأى الطريق الذي سلكته وما جرى لمن اختطفوهن من النساء..
عندما اقترب سلمة بحصانه من المضارب رأى بضع رجال يخرجون ليروا القادم، بالإضافة لصبية ونسوة وقفن جانباً بفضول تام.. جذب سلمة لجام حصانه ليوقفه وترجل منه عندما وصل قرب الرجال قبل أن يجذبه خلفه متقدماً ممن أمامه قائلاً "السلام عليكم.."
رد عليه الرجال السلام وهم ينظرون له بتساؤل.. فقال سلمة "أنا سلمة من قلعة سنداد.. كنت في قافلة مرت قريباً من هنا، لكن تعرضنا لهجوم من التتار واختطفوا عدداً من نسائنا.. هل رأى أحد منكم أولئك التتر أو عرف الوجهة التي ذهبوا إليها؟"
نظر الرجال لبعضهم بصمت، ثم تقدم أحدهم منه قائلاً "لم نرَ أولئك التتر ولم نعرف ما الذي جرى لهم....."
بدت الخيبة جليّة على وجه سلمة وهو يقبض على سيفه بقوة ويقول "إحدى النساء ممن اختطفها التتر كنتُ مؤتمناً عليها حتى تصل لأبيها.. لو رأيتم تلك الفرقة من التتر فستعينونني على إنقاذها من براثنهم وإعادتها لأبيها.."
فسمع سلمة الرجل يقول "لم نرَ تلك الفرقة صدقاً.. لكن......."
نظر له سلمة بتساؤل، فأشار الرجل خلفه قائلاً "لقد فوجئنا البارحة بامرأة تصل إلينا على ظهر حصان وهي منهكة.. قالت إن التتر قد اختطفوها مع نسوة آخرين، وأنها قد استطاعت الهرب من بين أيديهم بواسطة حصان أحدهم حتى وصلت إلينا.. قد تكون هي من تبحث عنه.."
نظر له سلمة بلهفة وقال "هل أستطيع أن أراها؟.."
قاده الرجل بين المضارب بعد أن ربط سلمة حصانه في نخلة قريبة.. وسار خلف الرجل وقلبه يدق بشدة وهو يدعو الله أن تكون هي.. يدعو الله أن تكون جمان قد نجت من براثن التتر وتمكنت من الوصول لهذه المضارب الآمنة.. سمع الرجل يحدث أحد الصبية ويطلب منه استدعاء المرأة الغريبة، فوقف سلمة قربه بتوتر ينظر نحو الخيمة القريبة بأمل، ولم يلبث أن رأي امرأة تخرج من الخيمة والانهاك واضح على وجهها مع كدمة في جبينها.. خاب أمله على الفور وهو يدرك أنها إحدى النسوة التي كانت في القافلة ممن خطفهن التتر..
سأله الرجل "أهي هي؟"
هز سلمة رأسه نفياً قبل أن يتقدم من المرأة ويسألها بشيء من القلق "ألا تعلمين ما الذي حلّ بجمان التي اختطفها التتر معكن؟.."
تعرفته المرأة وهي تقول "أنت كنت مع تلك الفتاة.. أليس كذلك؟.. اسمها جمان؟"
سألها سلمة بإلحاح "ما الذي حلّ بها؟ وكيف تمكنتِ من الهرب من التتر بهذه السهولة؟"
أجابت المرأة "لقد تمكنا من الهرب بفضل الله تعالى دون أن أتوقع ذلك حقاً.. وذلك بخطة بسيطة من تلك الفتاة جمان.."
رفع سلمة حاجبيه بدهشة والمرأة تخبره بما جرى بينهن وبين التتر حتى تمكنت من دفع الحصان الذي تركبه للركض مبتعدة عن التتر.. وأنهت حديثها قائلة "لقد رأيت الفتاة تهرب على ظهر حصان آخر، لكننا افترقنا بعدها بمسافة ولم أتمكن من السيطرة على الحصان الذي أركبه حتى عثر عليّ أحد رجال هذه المضارب وساعدني على إيقافه.. ثم أخذني لهذه القبيلة التي آوتني عندها.."
خفض سلمة بصره بضيق وقلق عارم، رغم الراحة العميقة التي شعر فيها في البدء عندما علم أنها تمكنت من الهرب.. سمع المرأة تسأله بلهفة في تلك اللحظة "ما الذي جرى لمن بقي في القافلة؟ هل نجحوا في الهرب من التتار؟"
أخبرها سلمة بما جرى لهم بعد رحيل التتار، وبالعشرة الذين نجوا من ذلك الهجوم.. فبدا القلق على وجه المرأة بدورها وهي تفكر في مصير من تركتهم خلفها.. بينما شكر سلمة مَن حوله وسارع نحو حصانه القريب فيما الرجل يهتف به "ابق واسترح قليلاً من وعثاء الطريق.. تبدو شاحب الوجه.. لابد أن الحصان منهك أيضاً.."
رفض سلمة رغم التعب والألم الذي يشعر به من جرحه الذي لم يعالجه بشكل جيد، وقال "لا أملك الوقت لذلك.. يجب أن أرحل الآن.. شكراً لكم على كل شيء.."
وامتطى الحصان بعد أن فكّ الرباط الذي يربطه للنخلة القريبة.. ثم لكزه ليدفعه لمغادرة المضارب بسرعة وهو يقطب هامساً لنفسه "أين أنت يا جمان؟ كوني بخير أرجوك.."

***********************

كانت جمان قد غفت قليلاً في جلستها تلك بعد أن هدّها التعب والقلق الذي عاشت فيه الساعات الماضية.. لم يوقضها الجوع الذي قرص أمعاءها ولم تنتبه رغم برودة الجو في البيت الذي أوت إليه والذي لم تفلح الشمس في تبديده.. لكنها انتبهت فجأة عندما سمعت صوتاً خافتاً خارج موقعها.. اعتدلت جالسة وهي تنظر حولها بعينين متسعتين، ثم أنصتت وقلقها يتزايد.. عندها استطاعت أن تنتبه لتلك الخطوات الخافتة خارج البيت والأصوات التي تتحدث بصوت بدا لها خافتاً.. انتاب جمان ذعر شديد خشية أن يكون التتر قد عادوا لهذا الموقع وقد يعثرون عليها ويأسرونها من جديد، فنهضت وركضت محاولة عدم إصدار صوت أو الارتطام بما تمر به من أثاث في البيت حتى وصلت للسلم الذي يؤدي لسطح البيت.. فارتقته بسرعة وخفة حتى وصلت للسطح، عندها اختبأت في زاوية منه وهي تطلّ بحذر لتراقب ما يجري في الأسفل..
بعد لحظة انتظار، تمكنت من رؤية جماعة لا تقل عن سبع رجال يتقدمون من بين البيوت نحو وسط الساحة.. لم يكونوا من التتر، فهم يرتدون ملابس عربية عادية المظهر، ومع ذلك فقد توجست جمان خيفة من مرآهم.. هل من الأسلم لها الاختباء عنهم؟ أم أنها تضيّع فرصة أن تجد من ينقذها من هذا المكان ويساعدها للعودة لسلمة؟..
سمعت في تلك اللحظة أحد الرجال يصيح برفاقه "ابحثوا عما يمكن أن نفيد منه في هذه القرية.. ولنسرع قبل قدوم آخرين أو قبل عودة التتار.."
اتسعت عينا جمان وهي تسمع قوله هذا وترى الرجال يتفرقون في أنحاء القرية.. التمعت في ذهنها عدة عبارات سمعتها من أصحاب تلك القافلة التي كانت وسلمة معها.. وهذا زاد رعبها أكثر ويدها ترتجف وهي تمسك بالخنجر بقوة..
"يهجمون على القرى التي وَهَنَت بعد لقائهم بالتتار فيستولون على ما أبقاه التتار خلفهم من طعام ودواب.."
ازدادت ارتجافتها أكثر وهي ترى الرجال يدخلون البيوت القريبة ويبدؤون بتفتيشها..
" هم من المجرمين الهاربين من المدن في المنطقة.. ولا هم لهم سوى الإثراء مستغلين محنة القرى والمدن بالتتار"
أغمضت عينها بقوة وهي تتنفس بعمق لتهدئة نفسها..
"يختطفون النسوة لبيعهن كجواري في أسواق النخاسة، ويستبقون من يشاؤون معهم في مخابئهم التي لا نعرف مواقعها.."
أصابتها رعدة في جسدها وهي تخفض رأسها أكثر وتراقب الرجال وهم ينتقلون من بيت لآخر ويفتشون أنحاء القرية بتدقيق.. ورأت بعضهم لا يمانع في تفتيش جثث الموتى رغم الرائحة الكريهة بحثاً عن أي شيء يمكن الإفادة منه.. ماذا لو فكر أحدهم بالبحث في سطح هذا البيت بالذات؟ هل سيختطفونها؟ ما الذي سيفعلونه بها؟.. همست لنفسها وهي تراقبهم بذعر "رباه.. ألن ينتهي هذا أبداً؟"
ظلت جمان تراقبهم من موضعها وقلقها يتصاعد مع مرأى تفتيشهم العميق لكل البيوت.. ولم تنتبه إلا عندما سمعت خلفها صيحة جعلتها تجفل واقفة بهلع لتجد أحد الرجال قد وصل للسطح ورآها في مخبئها.. تقدم الرجل منها شيئاً ما وهو يقول مقطباً "من أنت أيها الفتى؟.. أأنتَ الناجي الوحيد من هذا الهجوم؟"
لاحظت جمان أنه لم يدرك كونها فتاة، مع ملابس الفتية التي ترتديها والدماء التي تخفي ملامحها وشعرها المخفيّ تحت العمامة.. لكن هذا لا يجعل موقفها أفضل.. قد يقتلها للتخلص منها، أو قد يأسرها ثم يكتشف أنها فتاة.. بكل الأحوال مصيرها سييء لو تمكن هذا الرجل من القبض عليها.. نظرت جمان خلفها وهي تفكر في القفز من فوق البيت، لكنها ستكسر ساقها مع هذا الارتفاع.. اقترب الرجل منها وهو يقول يحدة "أتتجاهلني أيها الفتى؟"
دققت جمان النظر من فوق البيت بشيء من الاهتمام وهي تشعر بخطوات الرجل تقترب منها أكثر فأكثر.. وقبل أن يصل إليها بالفعل، استندت جمان بيدها على حافة جدار البيت، وقفزت من فوقه بسرعة.. ركض الرجل نحو الحافة بعد اختفائها من أمام ناظريه وهو يقول بسخط "أي حُمْقٍ هذا؟.."
توقع أنها قد قفزت نحو الأرض وحطمت رأسها أو ساقها على الأقل، لكنه رآها قد هبطت على جزء بارز من نافذة البيت بإطار رفيع بالكاد يكفي لتقف عليه.. ثم تمسكت بذلك الإطار ودلـّت جسدها منه لتهبط أرضاً بعنف أقل مما لو قفزت من السطح مباشرة..
نظرت جمان للأعلى فرأت الرجل يراقبها بحنق، ثم تلفتت حولها بقلق قبل أن تركض نحو أقرب الخيول وهي تنوي سرقة إحداها والهرب قبل عودة الآخرين.. سمعت في تلك اللحظة صياح الرجل الذي يراقبها وهو ينادي رفاقه بحدة، وعلى الفور رأت رجلان يخرجان من بيت قريب فتصدمهما رؤيتها.. حاولت جمان امتطاء أقرب الخيول إليها بسرعة، لكن الحصان رفس وهو يصهل باعتراض، بينما وجدت أحد الرجال ممن لحق بها يجذبها من ذراعها بقوة حتى سقطت أرضاً بعنف.. ومع سقطتها تلك كانت العمامة قد سقطت بدورها لينسدل شعرها الطويل على ظهرها، فالتفتت بعينين متسعتين للرجلين الذي أطلق أحدهما ضحكة والآخر يقول "لقد خدعتِنا يا فتاة.. ظنناك مجرد فتىً مع هذا الرداء الذي ترتدينه.."
نهضت جمان واقفة وحاولت الهرب منهما، لكن أحدهما قفز نحوها وأمسك بذراعها ليوقفها.. ثم أمسك وجهها بيده بقوة وهي تدفعه وتركله بقدمها دون أن يعبأ بها قائلاً لرفيقه "انظر إليها.. ألا تظن أنها ستعود علينا بمال كثير؟.. رغم هذه القذارة فهي ببعض العناية ستجلب لنا الكثير من المشترين.."
حاولت جمان أن تبعد يده عنها وهي تخدشه بأظفارها دون أن يفلتها بقبضته القوية.. عندما سمعوا صوتاً مذعوراً لأحد الرجال وهو يصرخ "التتـــار..."
انتفض الجمع من حولها وانتفضت جمان بدورها وهي تنظر للرجل الذي جاء من بين البيوت يصرخ مذعوراً "عدد منهم قادمون لهذه القرية.. اهربوا....."
رغم أنهم قطاع طرق، إلا أنهم بدوا لجمان فزعين مذعورين من التتار بشكل لا يصدق.. وقد تراكضوا نحو خيولهم وامتطوها بسرعة تاركين جمان خلفهم دون أن يعبأ أحدهم بها.. دارت جمان حول نفسها وهي مذعورة ومترددة أشد التردد.. أتناديهم ليأخذوها معهم هرباً من التتار؟.. أم أن الخير لها بقاؤها هنا بعد أن جاءتها النجدة بمعجزة؟.. لكن هل هي معجزة أم مأساة حقاً؟..
رأت الرجال يلكزون الخيول وهم يدفعونها للركض في الجانب المعاكس للذي جاء منه الرجل، فأسرعت جمان تدور حول كومة الجثث التي أصدرت رائحة كريهة في الموقع.. فاختبأت خلف الجثث راجية من الله تعالى ألا يراها التتر من جديد.. فهم في وضح النهار الآن، وقد لا تنطلي عليهم الخدعة ذاتها مثلما حدث في ظلمة الليل..
رأت في تلك اللحظة ثلاثاً من الخيول وراكبيها من التتر وهم يشقـّون القرية حتى وصلوا للساحة.. ولذعر جمان، وجدتهم يقفون وسط الساحة يتلفتون حولهم، ثم سمعت ضحكة عالية بصوت امرأة قبل أن تقول بلغة عربية واضحة "أولئك الجبناء.. لقد هربوا حقاً لمجرد رؤيتنا.."
نظرت جمان بقلق من موقعها متفحصة الثلاثة الذين داروا بخيولهم في الموقع.. فلاحظت أن ملامحهم تختلف عن التتر تماماً، رغم ملابسهم.. وأحدهم كانت المرأة التي سمعت صوتها بوضوح.. رغم تعجبها من ذلك إلا أنها لم تجرؤ على الظهور أمامهم وهي لا تعرف هويتهم حقاً.. وهي في وضع أصبحت تخشى الجميع فيه..
سمعت رجلاً يقول "لكن هذه القرية قد دمرت تماماً.. لم يبق فيها ما يرتجى منه.."
أضاف آخر "لابد أن أولئك الجبناء قد فتشوها جيداً.. لنذهب.. لا داعي لتضييع وقتنا هنا"
أدركت جمان من قولهم أنهم قطاع طرق أيضاً.. فارتجفت وهي تراقبهم خفية وتتساءل عن عدد الذين لجأوا لقطع الطريق في هذه الأنحاء.. ما الذي يدفعهم لذلك؟ ألا يكفي ما ابتُلي به المسلمون من شر التتار؟.. أغمضت جمان عينيها وانطوت على نفسها وهي تدمدم هامسة "رباه.. رباه لا تدع لهم إلىّ سبيلاً.."
ظلت على وضعها ذلك وهي تسمع حديثهم وتسمع ضربات أقدام الخيل المتمللة على الأرض عندما شعرت بحركة خافتة قربها، ولما نظرت قريباً لاحظت تلك الحركة السلسة قرب بعض الصخور.. ولما دققت النظر أكثر، استطاعت أن ترى ثعباناً متوسط الحجم لونه بلون الصخور تحته وهو يزحف عليها بجسده بسلاسة تامة.. ذعرت جمان لقرب الثعبان منها وشهقت وهي تتراجع بسرعة، قبل أن تدرك أن شهقتها تلك قد جذبت لها الأنظار.. وقبل أن تتصرف، وجدت أن المرأة قد ترجلت عن ظهر الحصان واقتربت من موقعها وهي تهتف "انظروا إلى هذا.. هناك ناجٍ في أرض الخراب هذه.."
أسرعت جمان إلى عمامتها التي كانت قريبة فوضعتها على رأسها مخفية شعرها وهي تتراجع وتنظر بتوتر وخوف شديدين للمرأة والرجلين اللذين ترجلا بدورهما.. لكنها وجدت المرأة تبتسم لها بشيء من اللطف وهي تقول "ما بالك خائفة يا عزيزتي؟.. نحن لن نؤذيك"
قالت جمان بصوت مرتجف "أنتم قطاع طرق.. فكيف تريدين مني تصديق ذلك؟"
ارتفع حاجبا المرأة وهي تقول "ومن أخبرك أننا قطاع للطرق؟"
غمغمت جمان وهي تتراجع خطوة أخرى "لقد سمعت حديثكم قبل قليل.. كنتم تنتوون تفتيش هذه القرية ونهبها، أليس كذلك؟"
فاجأتها المرأة بضحكة قصيرة قبل أن تقول "ما الذي هيأ لك ذلك؟ لقد كنا ننوي البحث عن أي ناجٍ في هذه القرية لمساعدته، فقد دأبنا على فعل ذلك في كل موقع غزاه التتار، وبالفعل نجحنا في إنقاذ البعض وأخذهم للكوفة أو أي مدينة قريبة.."
دهشت جمان لقولها وهي تقلب بصرها بين الثلاثة، ثم قالت بتردد "ولم ترتدون هذا الزيّ؟"
قال أحد الرجلين "لكي نكون بمأمن من قطاع الطرق لئلا يعترضوننا.. لقد عثرنا على بعض التتر قتلى في أثناء بحثنا، فاستولينا على ملابسهم لهذا الغرض.. بهذا الزي نحن نثير ذعر قطاع الطرق منا ونتمكن من نقل الناجين للمدن دون جهد كبير.."
قطبت جمان شيئاً ما وهي تسأل "ولم تفعلون هذا حقاً؟.."
تنهدت المرأة وهي تنظر لرفيقيها، فقال أحدهما وهو ينظر للساحة الدامية من حوله "كل شخص منا قد مر بمأساة خاصة به.. من العصيّ علينا الحديث عنها، لكننا اجتمعنا لهذا العمل دون طمع في جزاء له.. كل همّنا أن نساعد من قد يمرّ بمأساة كالتي مررنا بها.."
رغم الارتياب الظاهر على جمان، إلا أنها كانت تتوق لتصديق حديثهم.. تتوق للخروج من هذه القرية والعودة للكوفة أو الذهاب للحِلـّة.. وبعدها يمكنها أن تبحث عن سلمة وهي بأمان من التتار ومن قطاع الطرق..
سمعت المرأة تسألها بلطف "إذن.. أترغبين بالرحيل معنا؟"
تساءلت جمان بشيء من التردد "أين تنتوون أخذي؟"
اتسعت ابتسامة المرأة وهي تقول "سنذهب للكوفة بعد أن نمرّ على موقع آخر قريب سمعنا أنه تعرض لهجوم التتار.. ألا يوجد ناجٍ غيرك في هذه القرية؟"
هزت جمان رأسها نفياً، فعاد الثلاثة لخيولهم الواقفة بصمت وامتطى كل منهم حصانه، ثم مدت المرأة يدها لجمان وهي تقول "إذن فلنغادر قبل أن يدركنا المغيب.. أمامنا طريق طويل.. إلا إن كنت تنتوين البقاء في هذه القرية وحيدة"
غالبت جمان ترددها وهي تقترب من المرأة التي عاونتها على امتطاء الحصان بدورها، وتمسكت بالمرأة التي لكزت بطن الحصان وتبعت رفيقيها وهم يخرجون من القرية.. وفور أن غادروا القرية لاحظت جمان أن أحد الرجلين قد انفصل عنهم وهو يصيح بهم "سأعود قبل مغيب الشمس.."
لم يعلق الرجل الآخر والمرأة على ذلك وهم مستمرون بسيرهم، بينما صمتت جمان وهي تنظر خلفها وتتأمل المنازل المحترقة للقرية البسيطة التي غدت خراباً، ثم نظرت أمامها والأمل يزداد في صدرها.. بقي عليها أن تعثر على سلمة، وتدعو الله أن يكون بخير، وأن تعثر عليه في الكوفة في أقرب فرصة..

***********************

دام سير الاثنان، وجمان معهما، وقتاً رأته طويلاً وهم يقطعون السهول دون إبطاء وبصمت تام.. ومع المغيب، تمكنت جمان من رؤية بعض الجبال القريبة التي كونت سلسلة قصيرة وسط السهول.. تعجبت جمان من توجههم لتلك الجبال، لكنها عزفت عن السؤال ظناً منها بوجود قرية في هذا الموقع تعرض لها التتار بهجوم..
لكن كلما اقتربوا من أحد الجبال، لاحظت جمان أن الموقع خالٍ تماماً من أي أثر لبيوت أو مزارع أو ما قد يدل على وجود بشر.. تلفتت حولها بشيء من الحيرة وهي تلاحظ الصمت التام بين رفيقيها.. فقالت للمرأة "أأنتم واثقون من وجود بشر في هذا الموقع؟"
ضحكت المرأة وقالت "طبعاً واثقون من ذلك.. لم أنت عديمة الصبر هكذا؟"
صمتت جمان بتعجب دون أن يساورها أي قلق.. ما المهم فيما يجدونه هنا؟ المهم أن يأخذوها إلى الكوفة بعد ذلك لتطمئن أنها بمأمن..
بعد لحظات، وجدت أنهم قد وقفوا عند سفح ذلك الجبل، فتلفتت حولها تتطلع للسهل الخالي من أي أثر إلا بضع شجيرات متفرقة، واستطاعت رؤية بئر قرب إحداها مما بدا لها أن القوافل قد تستخدمه أثناء مرورها في هذا المكان الخالي.. ولم تكن تلك البئر أكثر من فتحة ضيقة طولية في الأرض وقد رصف جوانبها بالحجارة..
رأت جمان الاثنان يترجلان عن الخيل، فتساءلت "ما الذي سنفعله هنا؟"
وجدت المرأة تجذبها بشيء من الشدة وهي تقول "ماذا ظننت يا فتاة؟ هذا مأوانا طبعاً"
كادت جمان تسقط من على ظهر الحصان مع جذبتها القوية، لكن المرأة لم تترفق بها وهي تجبرها على الهبوط مضيفة "انتهى وقت المرح أيتها الغرة الساذجة"
تطلعت لها جمان بصدمة ونقلت بصرها بين المرأة وبين الرجل الذي قال "للأسف، هذا اليوم لم نوفق إلا بهذه.. لا أدري ما الذي سيقوله الزعيم عنا"
قالت المرأة وهي تجذب الحصان بيد وتجذب جمان باليد الأخرى "لن يعترض بشيء.. فهذه الفتاة ستعود علينا بخير كثير.."
جذبت جمان ذراعها وهي تصيح "هل كذبتم عليّ؟ أنتم قطاع طرق.. ألستم كذلك؟"
قالت المرأة بابتسامة "هذا ذنبك لأنك ساذجة وتحسنين الظن بالآخرين.. كان عليك أن تستولي على إحدى الخيول وتفري هاربة لو أردت النجاة.. لكن فات الوقت على ذلك"
حاولت جمان تحرير نفسها من قبضة المرأة القوية وهم يتقدمون من الجبل، ثم وجدت الرجل يتقدم منها و يحملها على كتفه رغماً عنها ويصعد بها والمرأة خلفه.. فقاومت جمان وهي تصرخ "أطلقوني.. ما الذي ستفعلونه بي؟.."
لكزتها المرأة بقسوة وهي تقول وقد غابت ابتسامتها "كفي عن المقاومة إن أردت السلامة.. صياحك هذا لن ينقذك البتة"
عضت جمان شفتها السفلى وهي تراهما يتقدمان عبر طريق تم تمهيده في الجبل بشكل بسيط بحيث يسّر لهما السير فيه دون مشقة، ولم يكن الطريق واضحاً للأعين من بعيد.. وبعد سير قصير سمعوا صيحة من الأعلى ورجل يقول "ما الذي أخرك يا عبيدة؟ لقد انقضى النهار.."
قال الرجل "لقد جُبنا المناطق التي حددتها لنا دون فائدة.. كل ما عثرنا عليه هو بقايا قافلة لم يترك منها التتار أثراً يذكر.. وعثرنا على هذه الفتاة في قرية خربة"
وصلوا لكهف يمتد بشيء من العمق في الجبل مفسحاً مساحة مناسبة لإيواء قطاع الطرق ومدخله مخفيّ بجانب مرتفع من الجبل.. وهناك، أنزل الرجل جمان لتقف على قدميها دون أن يفلت ذراعها.. فوقفت جمان قلقة تتلفت حولها في الكهف الخالي إلا من الاثنان اللذان أتيا معها ورجل آخر وبضع صناديق وضعت جانباً.. وقد وقف أحد الرجلين قريباً منها يتأملها بإمعان.. كان الرجل في الأربعينات من عمره بملامح قاسية وعين ضيقة وشفتين رفيعتين تحيطها لحية كثيفة.. على شيء من الضخامة وببشرة شديدة السمرة مقارنة بالآخرين.. بدا لها بوضوع أنه زعيمهم لتهيبهم في وجوده، وهو يسألهم "أين شريد؟ لا أراه معكم.."
قال الرجل قربها "لقد غادر قبل قليل في شأن لم يفصح عنه.. لكنه وعد أنه لن يتأخر عن العودة.."
اقترب زعيمهم من جمان وأمسك وجهها يتأمله بصمت.. فحاولت جمان جذب نفسها بعيداً عن قبضته القاسية، ولاحظت في الآن ذاته النظرات الحارقة التي رشقتها بها المرأة والزعيم يبدي اهتمامه بها.. ولما طال تفحصه لملامحها قالت المرأة وهي تقترب منه "يبدو أننا عثرنا على ما طلبه التاجر حمدان.. أليس كذلك؟"
تراجع الرجل دون أن يعترض وهو يقول للرجل الممسك بها "قيدها جيداً وحاذر أن تهرب منك.."
أطاعه الرجل وهو يجذب جمان الذاهلة معه لمؤخرة الكهف ويتناول حبلاً غليظاً.. فقاومت جمان وهي تصيح "ما الذي ستفعلونه بي؟"
بدا الإثنان متجاهلان لها تماماً، بينما بدأ الرجل تقييدها بإحكام وهو يقول "أنت تطرحين أسئلة لا معنى لها.. ما الذي تعتقدين أن قطاع الطرق يفعلونه بمن يختطفونه؟"
لم يكن جواب هذا السؤال غائباً عنها، فقالت بحنق "ما الذي يبيح لكم التصرف بهذه الطريقة؟ أنا حرة، ولا يحق لأحد بيعي أو لمسي أبداً"
قال الرجل بابتسامة "ما إن يتم اختطافك فإنك تفقدين حريتك.. كفي عن المقاومة فالزعيم لا يرحم من يحاول الهرب بتاتاً.."
قطبت جمان وهي ترى الزعيم ذاك يتحدث مع المرأة التي كانت تبتسم له متلطفة، فتساءلت جمان وهي تشعر بالرجل يشدّ وثاق يديها بقوة خلف ظهرها "ومن هي هذه المرأة؟ لم أسمع بوجود نساء بين قطاع الطرق من قبل"
قال الرجل بعد أن فرغ من تقييدها "هي إحدى النسوة اللواتي اختطفناها من قافلة منذ مدة، ويبدو أنها بالأصل كانت جارية.. لقد استلطفها زعيمنا واتخذها محظية له، ويبدو أنها استمرأت حياتنا هذه عوضاً عن حياة الجواري في المدينة، لذلك فضلت البقاء معنا وتوسلت للزعيم ألا يبيعها قط.."
تعجبت جمان من هذا وهي ترى المرأة تنزع ملابس التتار مكتفية بملابس بسيطة وتنزع الخوذة تاركة شعرها ذو اللون العسلي طليقاً.. كانت رغم خشونة مظهرها تبدو ذات جمال ملفت، وابتسامتها اللطيفة عادة تظهرها على غير حقيقتها القاسية..
زفرت جمان وهي تتأمل الكهف حولها بعد أن تركها الرجل، وتبحث عن طريقة للهرب قبل أن يأخذوها لبيعها كما سمعت منهم.. لاحظت أن عددهم قليل، ولم تر إلا الرجال الثلاثة مع المرأة.. أهؤلاء من يشكلون هذه الجماعة من قطاع الطرق؟.. قد يكون عددهم القليل ذاك أسهل عليها في الهرب.. لكن، كيف ستفك قيودها هذه دون أن تجذب الانتباه؟..

***********************

دام بحث سلمة نهاراً كاملاً والليلة التي تليه دون كثير راحة إلا بقدر ما يحتاجه الحصان.. ولو كان الحصان قادراً على الركض بلا انقطاع لما توقف سلمة عن البحث أبداً حتى يعثر على جمان.. وكلما مرّ بمضارب أو قرية أو نبع ماء تجمع حوله المسافرون اقترب منهم وسألهم بإلحاح عن فرقة التتر تلك، لكن في كل مرة كان يجابه سؤاله بالنفي والإنكار.. لكنه لم يدع لليأس سبيلاً إليه وهو يرحل على حصانه دون إبطاء في كل مرة يجوب السهول تلك دون حظ كبير.. وعندما لمح سلمة تلك القرية على مبعدة مع بدء نهار اليوم التالي، توجه إليها دون أمل كبير.. وكلما اقترب منها ولاحظ بيوتها المحترقة وأشجارها المتفحمة ازداد اقتناعه أن جمان لا يمكن أن تكون هناك.. لكن لم يرد إغفال أي موقع قد يقوده لها حتى لو كان خراباً..
وعندما وصل سلمة لساحة القرية ورأى ما حل بسكانها، غالب صدمته بصعوبة وهو ينظر لهذا المنظر المؤسي.. زفر بمرارة وهو يترجل عن الحصان ويدور في الموقع بصمت والاستنكار الذي علاه منذ تلك الليلة التي هوجم فيها قصر مولاه قد عاد إليه بقوة.. أليس أولئك التتر بشراً؟ ألا يملكون أقارب وأحباب؟ ألا يخشون على حياتهم وعلى حياة أحبابهم؟.. كيف لا يعبؤون بحياة أحد وهم يرتكبون مثل هذه الجرائم البشعة؟..
لفت نظره شيء جعله يقف في موقعه مدهوشاً.. ثم اندفع لتلك الكومة من الجثث في وسط الساحة فجذب منها ثوباً أزرق بسيط المنظر بدا لعينيه واضحاً رغم الدماء التي تغمره.. بدأت عيناه تتسعان بذعر وهو يتعرف ثوب جمان الذي اشتراه لها بنفسه في الكوفة.. رباه.. ما الذي جرى لها؟.. ما الذي أصابها؟..
أخذ يتفحص الثوب بتدقيق بحثاً عن أثر لتمزيق من ضربة سيف أو حربة، لكن الثوب كان سليماً عدا تلك الدماء التي لطخته.. ففكر وهو مقطب ينظر له.. أتكون تلك الدماء ليست لها؟ لكن ما الذي أجبرها على نزع هذا الثوب؟.. من فعل بها ذلك؟.. وماذا لو كان الجرح الذي أصابها في رأسها؟ أهذا يعني أنها قد قتلت؟..
شعر بنفضة في جسده لذلك الخاطر، فترك الثوب وانطلق بين بيوت القرية وأزقتها يبحث عن جمان وهو يناديها بأعلى صوته.. قضى وقتاً غير قصير يبحث عنها دون أن يعثر لها على أثر.. عندها عاد واجماً للحصان فامتطاه قبل أن ينظر حوله للساحة وللثوب الملقى جانباً.. ترى، ما الذي جابهته جمان في هذه القرية؟.. أي ذعر شهدته؟ وعلام انتهى حالها بعد ذلك إن كانت حية حقاً؟ بل إنه يكاد يجزم أنها حية، فلماذا يبذل شخص جهده لنقلها معه لو كانت قتيلة؟..
زفر وهو يجذب لجام الحصان ولكزه ليغادر القرية بسرعة الريح وهو يهمس لنفسه "يا إلهي.. احفظ جمان لي.."

***********************


~ بعيدا عن الخيال (٨) ~
فظائع التتار في المدن


قال ابن الأثير (حُكي لي عن رجل أنه قال: أخفيت منهم ببيت فيه تبن فلم يظفروا بي، وكنت أراهم من نافذة في البيت، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان فيقول: لا بالله لا تقتلني. فيقتلونه، فلما فرغوا من القرية، ونهبوا ما فيها، وسبوا الحريم، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل ويضحكون ويغنون بقول (لا بالله لا بالله).

((الكامل في التاريخ)) ابن الأثير

***********************

مملكة الغيوم 13-02-16 01:21 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
جمان وكاءنها تسعى بقدميها للهلاك فهى من يد الى يد اخبث منها ينطبق عليها المثل القائل تطلع من نقره تقع فى بير يتداول عليها قطاع الطرق وكلمل نجت من فرقه تلقفتها التانيه
وسلمه يركد فى خطاها ممزق الفؤاد ولعل عثوره على الثوب الازرق جدد عنده الامل فى وجودها حيه ولكن بائ حال لايدرى
قطاع الطرق كما البعوض يتعايشون على مص دماء البشر ولا يقلون خطوره عن التتار
سلمت يداكى خيال قصه مشوقه كلما قراءت صفحه اشتقت للمزيد متعك الله بالخيال الثرى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 13-02-16 02:45 PM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

لا يمكننا لوم جمان، فهي قد تربت في بيئة معزولة وحول خدم مخلصين لها ولأبيها
من الصعب عليها فهم اللؤم والخداع ولا هدفهما
لذا تحتاج لدروس أكبر لتحصل على خبرة تحميها من هؤلاء
أمتعك الله بالرواية حتى النهاية رغم مآسيها
سأضع الفصل الجديد حالاً بإذن الله

عالم خيال 13-02-16 02:50 PM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل التاسع ~


مع مطلع شمس اليوم التالي، نهضت جمان بتعب وعسر جالسة رغم قيودها التي لم يحاول أحدهم فكها طوال الليل، مما اضطرها للنوم بوضعية مؤلمة وعلى الأرض الصخرية رغم الفراش الهزيل الذي فرش لها.. عندما بدأت أشعة الشمس تتسلل للموقع منيرة الكهف تمكنت جمان من رؤية ما حولها بشكل أفضل، لكن ظل عقلها عاجزاً عن العثور على وسيلة للهرب مع وجود المرأة والرجل في هذا الكهف.. بينما اختفى الزعيم في كهف آخر كما يبدو إذ لاحظت أن المرأة والرجل يغيبان بين فترة وأخرى في أول الليل قبل أن يعودا بعدها بفترة قصيرة.. وإن شعرت جمان بالراحة لبقاء المرأة في هذا الكهف طوال الليل مما أشعرها أن ذاك الرجل لن يمسّها بسوء بوجودها..
حاولت جمان فك قيودها بشتى الطرق دون نجاح كبير، عندما وجدت المرأة تقترب منها حاملة بعض الطعام والماء ووضعته قريباً قائلة "سأفك قيودك.. لكن لو حاولت الهرب فلن أتوانى عن ضربك.. أفهمت؟"
قالت جمان بغضب "ما الذي تنتوينه بتظاهرك بالطيبة؟"
ابتسمت المرأة وهي تقول بلطف "طبعاً لا يسرّني أن أتركك بجوعك طويلاً.. لا أظن أحداً قد يرغب بشراء فتاة عجفاء قد هدّها الجوع وأذهب جمالها.."
قطبت جمان بغضب شديد، عندما وجدت المرأة تسألها باهتمام "أنت بكرٌ.. ألست كذلك؟"
نظرت لها جمان بصدمة وقد احمرّ وجهها للسؤال، ثم صاحت بغضب "وما شأنك أنت؟"
قال الرجل القريب بابتسامة "ردها هذا يؤكد ذلك..”
ولذعرها وجدته يقترب فيمد يده نحوها مضيفاً "وهي من قرب تبدو مليحة جداً، لولا هذه القذارة التي تغطيها.. لكن يمكن التغاضي عن هذا حالياً.."
لكن المرأة سارعت للطم يده وهي تبعده عن جمان قائلة بتقطيبة "لا تأمل بذلك أبداً.. لقد أخبرني أحد تجار البصرة أنني لو أحضرت له فتاة بكراً بهذا الجمال فسيدفع ثمنها بدنانير ذهبية.. لاسيما إن كانت عربية الأصل فهو يفضلهنّ على غيرهن.. لذلك إياك ولمسها.."
بدت لها المرأة ذات نفوذ في هؤلاء القوم، فلم يعترض الرجل رغم أنه أشد قوة منها بل اكتفى بالتذمر وهو يغادر.. بينما ابتسمت المرأة لجمان المذعورة وهي تقول "اهدئي يا فتاة.. لن يمسّك أحد بسوء هنا إن أطعتني.. لذلك لا أنصحك بفعل ما يغضبني.."
وغادرت بعد أن فكت قيد يديها تاركة قيود قدميها التي تعيقها عن الهرب، فلم تعلق جمان وهي واجمة تنظر للطعام رغم جوعها ولا تكاد تمسّه.. لم تغادر المرأة هذا الموقع وهي تجلس جانباً تتناول بعض الطعام بدورها وتراقب جمان عن كثب لمنعها من الهرب.. لكن جمان لم تكن لتستسلم لحالها هذا.. عليها الهرب، وعليها بذل ما تستطيعه في سبيل ذلك.. فهل هربت من أيدي التتار لتقع في أيدي قطاع الطرق بهذه السهولة؟.. ثنت قدميها تحتها وحاولت بيد واحدة فك قيد قدميها دون أن تلفت لها الأنظار، وباليد الأخرى تتظاهر بتناول الطعام رغم عدم شهيتها له..
رأت في تلك اللحظة زعيمهم يدخل الكهف فيقترب من المرأة يحدثها.. أنصتت جمان محاولة استخلاص شيء من حديثهما لعلها تستطيع به أن تجد طريقة للهرب.. فسمعت الزعيم يقول وهو يجلس جانباً "لم يعد شريد بعد.. ولا أعلم ما الذي دهاه.."
قالت المرأة وهي تكمل طعامها "لا تقلق عليه.. لا يمكن لأحد أن يقبض عليه أو يؤذيه.. وحتى لو حدث له ذلك فلن يخْـلص منه بشيء.. أنا أثق منه بذلك"
لم يعلق الزعيم وهو يتناول بعض الطعام بدوره، فسألته المرأة "متى يعود البقية من الموصل؟.. لقد تأخروا كثيراً"
قال الزعيم "ربما خلال يوم أو يومين.. لم أنت بلهفة لعودتهم؟"
أشارت المرأة لجمان قائلة "حتى يتسنى لي أخذها للبصرة للتاجر حمدان.. لا أريد أن يطول بقاؤها عندنا فتهزل أكثر، فقد امتنعت من تناول الطعام منذ البارحة.."
علق الزعيم "ستتناول الطعام ما إن يقرصها الجوع بحق.. لا تقلقي.. يمكنني إرسالك مع شريد وعبيدة للبصرة"
غمغمت المرأة "إن فعلنا ذلك ستبقى وحيداً في المخبأ.. ماذا لو هجم عليك جنود والي الكوفة؟.."
قال الزعيم بثقة "لا تقلقي.. لن يقدروا عليّ مهما جنّدوا من الجنود.."
ظلت جمان تستمع لما يقولانه وهي تفكر بشكل محموم.. عليها الهرب هذه الليلة إن كانت تريد النجاة بنفسها من هذا المصير.. ربما يغدو الهرب بالنسبة لها أكثر صعوبة بعد بدء رحلتهم نحو البصرة.. لذلك، فالليلة هي فرصتها الوحيدة وعليها استغلالها قبل فوات الأوان..
بعد أن أنهوا طعامهم، غادر الزعيم والمرأة تتبعه نحو كهف آخر، بينما بقي المدعو عبيدة معها في ذلك الكهف.. لم تكن تعلم متى ستعود المرأة أو الزعيم أو متى سيعود بقية الرجال.. ففكرت أن تستغل هذه الفرصة وتغافل الرجل لتهرب، وهي قد رأتهم يربطون الخيول خلف صخرة في سفح الجبل، فلو حالفها الحظ بالهرب يمكنها أن تسرق إحدى تلك الخيول وتهرب بها..
كانت قد تمكنت من حلّ رباط قدميها، لكنها ربضت في موقعها تراقب الرجل من طرف خفي محاولة عدم جذب الانتباه إليها.. ثم لاحظت أنه انكبّ على سلاح له معتنياً بشحذه وصقله باهتمام مولياً ظهره لها وهو مطمئن لكونها مقيدة.. فتلفتت جمان حولها بحثاً عن شيء تستفيد منه في التغلب على الرجل، لتجد قربها حجراً متوسطاً.. تناولته بخفة ونهضت بهدوء محاولة ألا تصدر صوتاً، ثم اقتربت من الرجل بحذر إنما بشيء من السرعة وهي تنوي مباغتته بضربة تفقده وعيه ليتسنى لها الهرب.. لم يبدُ لها الرجل منتبهاً لها وهو يتأمل نصل سيفه فيما رفعت الحجر وهي تقترب منه وهوت به بقوة نحو رأسه.. لكنها فوجئت بالضربة تهوي في الفراغ عندما مال الرجل برأسه جانباً والتفت إليها قائلاً "أيتها الخبيثة..."
وجدته يجذب ذراعها ويلقيها أرضاً وهو يلوي يدها خلف ظهرها ويجذب الحجر منها.. فتأوهت جمان بألم وهو يضغط برأسها على الأرض الصخرية قائلاً "كيف تمكنت من التخلص من قيودك؟ ظننتك موثقة بإحكام"
قالت جمان مقطبة "كيف عرفت أنني خلفك؟"
ابتسم الرجل وهو يُنهضها "لحسن حظي أنني لمحت طيفاً خاطفاً في نصل السيف.. ورغم أني لم أعرف ما هو، إلا أنني تفاديت الضربة بشكل غريزي.."
وقادها عائداً لعمق الكهف وهو يقول "عليّ تقييدك بشكل أقوى هذه المرة.. لا أدري ما الذي ستفعله بي تلك الشرسة لو تمكنتِ من الهرب"
ظلت جمان مقطبة بشيء من الحنق وهي تجده يقيد ذراعيها لجسدها بإحكام بالحبل، وقيد قدماها بدورهما بشدة حتى آلمها.. ولما ابتعد زفرت جمان وهي مستاءة لفشلها في الهرب.. كيف لها وهي الضعيفة بقلة حيلتها أن تهرب من بين أيدي آسريها؟ ربما لو حاولت ذلك أثناء ترحالهم نحو البصرة لوجدت فرصة أفضل في الهرب.. لكن هل تستسلم لهم حتى يحين ذلك؟..

***********************

مضى أغلب النهار وسلمة يجول في تلك السهول بلا فائدة، فيعود حيناً لتلك القرية بحثاً عن جمان، وينطلق لما جاورها من بقاع لعله يجد لها أثراً أو يدله أحد على ما جرى لها.. كان الإنهاك قد بلغ منه مبلغه وهو لم يكد ينل قسطاً من الراحة منذ اختطفت جمان، وجرحه قد بدأ يؤلمه أكثر بعد أن عجز عن علاجه بشكل صحيح مكتفياً بإبدال الضماد عليه بين فترة وأخرى..
وبعد أن كاد ييأس حقاً من العثور عليها، لمح على مبعدة حصاناً وحيداً ينهب الأرض نهباً متجهاً لجانب بعيد منه.. فلم يملك أن يلكز حصانه ويلحق بذلك الحصان بدوره قبل أن يبتعد.. ربما كان ذلك الرجل هو سبيله للعثور على جمان.. لكن لو لم يعثر عليها، لو أكد له صاحب ذلك الحصان أنه لم يسمع بما حدث لها، فما الذي عليه فعله؟ أيستسلم؟ أيرحل للحِلـّة متناسياً أمر جمان؟..
ضغط سلمة على أسنانه بقوة وهو يلكز الحصان المنهك المرة تلو الأخرى.. لا.. إنه يرفض التفكير بذلك.. ما الذي سيفعله بعد أن تغيب جمان من حياته؟.. أيحق له نسيانها وتجاهل ما جرى لها؟.. ألن يشعر بالندم طوال عمره أن فرط بها وهي في حمايته؟.. طبعاً لن يطيق أياً من ذلك..
لما اقترب سلمة من الحصان، رأى صاحبه يلكزه ويستحثه على الهرب منه، كما لاحظ ثيابه الدالة على كونه تترياً.. التمعت عينا سلمة بلهفة وهو يرى التتري أمامه وحيداً وبدا أنه عازم على الهرب منه.. وجوده وحيداً يعني أن سلمة لن يجد جهداً في القبض عليه، وربما تمكن من سؤاله عن رفاقه الذين اختطفوا جمان مع بقية النسوة..
لم يكن سلمة ينوي ترك تلك الفرصة تفوته، فركض بالحصان قدر ما يستطيع محاولاً القبض على التتري حياً لاستجوابه.. شعر بالحصان يلهث بقوة رغم سرعة ركضه مما جعله يخشى أن يكبو في أي لحظة فيفقد فرصته الأخيرة للإمساك بالتتري وهو خيطه الوحيد الذي سيدله على جمان.. أعمل سلمة فكره بحثاً عن وسيلة لإجبار التتري على التوقف، أو إسقاطه من فوق الحصان دون أن يؤدي لمقتله.. وبعد أن اقترب من ذلك الحصان، وشعر في الآن ذاته أن حصانه قد بلغ أقصى جهده، لم يجد سلمة بداً من التصرف بسرعة.. فتأكد من ثبات سيفه، ثم رفع نفسه على ظهر الحصان قليلاً قبل أن يقفز بسرعة على التتري القريب منه، فتسببت قفزته تلك في الإطاحة بالتتري وسلمة معه أرضاً في سقطة مؤلمة وجسداهما يتدحرجان لوقت قصير..
حاول التتري النهوض، لكن سلمة لوى ذراعه ودفعه أرضاً مثبتاً إياه في موقعه.. عندما هتف الرجل "مهلاً.. ما الذي تريده مني؟"
تجمد سلمة وهو يسمع قول الرجل بلغة عربية لا شائبة فيها، ثم انتبه لملامحه التي لا تشبه ملامح التتر أبداً.. فقال متعجباً وهو يتراجع قليلاً عن الرجل "من أنت؟"
وقف الرجل بشيء من الحذر قائلاً "أنا عابر سبيل.. ما الذي تبغيه مني؟ ولم اعترضت طريقي؟"
أجاب سلمة وهو يتفحص ملامح الرجل الحذرة "أبحث عن فرقة من التتار سَطَت على قافلة قريبة وعبرت هذه السهول منذ يومين.. ألم ترها؟"
قال الرجل "تلك القافلة؟ لقد رأيت آثارها في طريقي وتعجبت من ذلك.. لكني لم أرَ أي تتري هنا"
فقال سلمة مقطباً "إذن لم ترتدي ثياب التتر وأنت عربي؟"
قال الرجل محتداً شيئاً ما "وما الذي يمنع ذلك؟ إنما فعلت ذلك لأحمي نفسي من شر التتار وأنا أرتحل وحيداً في هذه البقاع غير الآمنة"
لم يقنع هذا القول سلمة.. لا يمكن أن يكون هذا الخيط الوحيد لجمان وهماً.. لابد من سبيل لها وهو لن يستسلم بسهولة.. ونظرات الرجل الحذرة المتوترة تدله أنه ليس مجرد عابر سبيل.. عاد يقول للرجل دون أن يتخلى عن سيفه "أخبرني.. ألم ترَ فتاة في هذه الأنحاء؟ لقد هربت من فرقة من التتار بعد أن اختطفوها من القافلة، لكني لم أعثر لها على أثر.."
قال الرجل مقطباً "وما أدراني؟.. السهول واسعة ولا يمكن أن أعرف من عَبَرَها أو أراه في طريقي.."
ولوح بيده مضيفاً "وطريقي لا يمر بتلك القرية المدمرة بتاتاً.."
سمع الرجل سلمة يقول "ما أدراك أنها لجأت للقرية المدمرة؟"
انتبه الرجل لزلته، ففوجئ بسلمة يقترب منه بسرعة ممسكاً بتلابيبه بقوة وهو يقول بغضب ظاهر "أين هي؟ ما الذي فعلته بها؟"
قال الرجل بسرعة "أنا لا أعرفها ولم أرها.. لقد رأيت القرية المدمرة سابقاً، فلما ذكرت لي الفتاة شككت أنها قد تلجأ إليها هرباً من التتار"
قال سلمة بغضب "أتظنني أحمقاً؟.. من يلجأ لقرية مدمرة؟!.. قل الحقيقة وإلا ما تركتك.."
دفعه الرجل بعيداً وهو يقول "بل أنت أحمق بالفعل.. تتهمني دون دليل.. ارحل بعيداً قبل أن تلقى ما لا يعجبك"
قطب سلمة وهو يقول بحدة "لماذا ترفض إجابتي؟.. هل رأيت ما حدث لها؟.. أريد استعادة الفتاة مهما كان الأمر.."
قال الرجل ضاحكاً بسخرية "كف عن التفاؤل يا رجل.. غادر قبل أن أفقد صبري"
أدرك سلمة من قول الرجل الأخير أنه يعلم خبر جمان بالتأكيد، لا كما ينفي دائماً.. وبينما استدار الرجل ليمتطي ظهر حصانه متجاهلاً سلمة بما بدا كثقة مبالغ فيها، فوجئ بضربة قوية قاسية على مؤخرة رأسه أسقطته أرضاً بدوار شديد، لكن سلمة عاجله بضربة أخرى بمقبض سيفه أسقطت الرجل فاقد الوعي بصمت.. عندها جذب سلمة الجسد بعيداً نحو صخرة قريبة.. وهو يقول "يبدو أنك وقعت في يدي لحكمة يا هذا.. ولن أضيع هذه الفرصة بتاتاً.."
عاد لحصان الرجل فجذبه وربطه في شجيرة قريبة، قبل أن يفتش جرابه بحثاً عن حبل يقيد به الرجل.. بينما استطالت الظلال وبهتت وهي تمتزج بالظلمة التي هيمنت على الموقع رويداً رويداً..

***********************

بعد بعض الوقت، استيقظ الرجل ملاحظاً أن الظلام قد حلّ عدا عن نور القمر الخفيف، وضوء نار قريبة تضفي شيئاً من الدفء على تلك الليلة الباردة.. حاول الاعتدال جالساً وهو يجد يداه مقيدتان خلف ظهره بحبل غليظ، بالإضافة لقيد حول قدميه عند الكاحل.. نظر الرجل حوله ليجد سلمة قد وقف قرب نار قريبة أشعلها تلك الليلة، فتقدم سلمة منه والرجل يقول "ما الذي تريده مني يا هذا؟.. كيف تجرؤ على تقييدي؟"
قال له سلمة ببرود وهو يقف قريباً منه "أتظن لك الحق بما تقوله؟.. أخبرني.. أين الفتاة؟ من أخذها؟.."
ضحك الرجل شيئاً ما وقال "ألازلت ترجو أن تعثر عليها؟.. استسلم يا هذا.. لابد أنها الآن تساق لأقرب سوق للنخاسة"
بدا الغضب ظاهراً على سلمة وهو يصيح بالرجل "من فعل ذلك؟.. من عاونك على هذا؟.."
نظر له الرجل بصمت للحظات قبل أن يقول بهزء "تباً لك.."
جذبه سلمة بقوة ليقف وقال له بصرامة "أخبرني ولا تثر غضبي.."
قال الرجل بابتسامة ساخرة "ومن تكون أنت لأخشى غضبك؟"
لم ينتظر سلمة برهة وهو يلكمه على وجهه بقوة ألقته أرضاً، ثم ركله بقوة في بطنه وهو يقول بحدة "أتظنني سأرجوك لتجيب عن سؤالي؟ تكلم يا هذا.."
لم يظهر الرجل ألماً ولم تزايل ابتسامته شفتيه، فازداد غضب سلمة وهو يضربه بقوة مراراً على وجهه حتى أسال الدم من أنفه وفمه.. لكن جن جنونه لما رأى الرجل غير عابئ به وضحكته لا تخفت وهو يقول "أهذا كل ما عندك؟"
عندها استل سلمة سيفه ودفعه دون تردد في كتف الرجل بقوة.. أطلق الرجل صيحة ألم وهو غير قادر على الحركة لئلا يزداد ألمه مع بقاء النصل في كتفه، بينما قال سلمة بحنق "لست أدري لم تتكتم على ما تعرفه وحياتك بين يديّ.."
لهث الرجل بألم وقال "لأنني عرفت من وجهك أنك لست من النوع الذي يستلب أرواح البشر بسهولة.. فلا تدّعِ غير ذلك"
دفع سلمة السيف أكثر في كتف الرجل مثيراً آلامه وهو يصرخ بشدة فيما قال سلمة "لكنني لن أتوانى عن تعذيبك حتى تجيبني.. لن أتهاون أبداً في البحث عن الفتاة، ولست أملك الصبر الكافي لانتظارك.."
وجذب السيف بغير رفق تاركاً الرجل يتلوى من الألم.. وقبل أن يهدأ صراخه كان سلمة يدفع السيف من جديد في فخذ رجله وهو يراقب ملامحه بهدوء تام.. عليه العثور على جمان، مهما تطلب منه ذلك.. هذا كل ما كان يدور في ذهنه في تلك اللحظة وهو لا يكاد يرى العذاب على وجه الرجل ولا يكاد يسمع صراخه..
بعد مضيّ ساعة، كان الرجل يلهث بقوة وهو يرى سلمة يقف قريباً ينظر له بهدوء وصمت، فقال الرجل "أنت لا تنوي الاستسلام، أليس كذلك؟ ألا تعرف من نحن؟ ألم تسمع بجماعة أبو الذياب؟ ألا تعلم ما الذي سيفعله زعيمنا لو رأى ما فعلته؟"
قال سلمة "لا يهمني.. لو أخبرتني بما أريده منذ البدء لما نالك ما نالك"
بصق الرجل الدماء المتجمعة في فمه دون أن يجيب.. فرأى سلمة يتقدم من فخذه الجريح، ووجده يقبض على الجرح النازف بأصابعه بقوة ويضغط عليه مثيراً آلاماً جمّة جعلت الرجل يصرخ عالياً وهو يتلوى ألماً.. بينما قال سلمة "لا تضطرني لإيلامك أكثر.. إن أصررت على الصمت، لن أتوانى عن بتر أطرافك حتى تخضع لي.. فما الذي ستفيدك به عصابتك تلك عندما تفقد أطرافك؟ بل أجزم أنهم سيرمونك للسباع لأنك ستغدو بلا فائدة"
وضغط على الجرح بقوة أكبر، فصاح الرجل متألماً "كفى.. سأخبرك.. توقف أرجوك"
نظر له سلمة بصمت دون أن يخفف ضغطه على الجرح، فقال الرجل والعرق يتفصد من جبينه "لقد أخذوا الفتاة لمخبئنا في الجبال التي تبدو في الشرق.. هناك.."
وأشار بوجهه لجهة من الجهات، فتتبعه سلمة ببصره ملاحظاً الجبال التي بدت على مبعدة بشكل خفيف من سواد تلك الليلة، ثم تساءل "ما الذي سيفعلونه بها؟"
لهث الرجل وقال "أغلب الظن أنهم سيبيعونها في إحدى المدن البعيدة من هذه المنطقة.. ربما الموصل أو البصرة أو دمشق.. لا أعلم بالتحديد"
تخلى سلمة عن الجرح والرجل يغمغم من بين أسنانه متألماً "أيها الوغد.."
نهض سلمة واقفاً وهو يقول "يحسن بك أن تكون صادقاً.."
لم يعلق الرجل وهو يبصق المزيد من الدماء، عندما فوجئ بسلمة يضربه على رأسه بقوة بمقبض سيفه ضربة أفقدته وعيه على الفور.. فتنهد سلمة وهو يمسح يده المخضبة بالدماء متطلعاً للرجل الذي غاب عن وعيه وهو ينزف دماً في أكثر من موضع، ثم نظر شرقاً حيث تقع الجبال التي أشار إليها الرجل.. قبل أن يعود للجسد الملقى أرضاً ويشرع في تضميد جراحه بصمت.. رغم أنه لم يتوانَ عن استخدام القسوة في استجواب الرجل، لكنه كما حدس ذلك الرجل لم يكن من النوع الذي يقتل دون سبب.. والآن بعد أن حصل على ما يبتغيه من خبر جمان، فهو لا يستطيع قتل الرجل ولا يستطيع تركه ليقضي نحبه نزفاً في هذا الموقع المقفر.. وبعد أن انتهى من تضميد جراحه جيداً، فك وثاقه وترك حصانه مربوطاً في شجيرة قريبة قبل أن يطفئ النار التي قد تجذب لها الأنظار.. ثم امتطى حصانه ميمّماً وجهه شطر الجبال الشرقية بصمت..

***********************

أمضت جمان ليلتها الثانية بأسوأ حال.. ولما بدأ النور يزداد ويبدد الظلمة في جوانب الكهف، أسندت جمان رأسها للجدار الصخري بضيق وألم من قيدها المحكم.. تشعر أن قدماها تخدرتا وأنها فقدت الإحساس بأصابع يديها لقوة ضغط الحبل وعدم تحركها لساعات.. فصاحت متذمرة "أطلقوني.. لقد آلمني جسدي لطول جلوسي.."
قالت المرأة بصرامة "صمتاً.. أتظنين أن لك الخيار بذلك؟"
قالت جمان محتدة "هل سأبقى جالسة حتى نذهب للبصرة؟ لقد تعبت"
لم تعرها المرأة أي اهتمام، فعادت جمان تقول بحنق "أطلقيني.. ألا يمكنني الاغتسال والحصول على رداء نظيف على الأقل؟"
وجدت المرأة تنظر لها مفكرة للحظة، ثم نهضت قائلة "لا بأس.. ربما من الخير فعل ذلك.. فأنت بهذا الشكل ستنفرين كل من يراك ولن يشتريك أحد ولو بدرهم.."
رأتها جمان تتناول من صندوق قريب ملابس قطنية بلون سكري، واقتربت منها قائلة "لنأمل أنها مناسبة لك.."
حلّت قيد قدميها وأنهضتها ثم ساقتها معها خارجتين من الكهف ونزلتا من الجبل.. كانت السماء قد اصطبغت بحمرة ندية وأشرقت الشمس كقرص دامٍ في الأفق.. تلفتت جمان حولها بحثاً عن سبيل للهرب، ورأت الخيول المربوطة في جانب الجبل، بينما جذبتها المرأة معها وهما تقتربان من البئر الذي لم يكن بعيداً عن سفح الجبل.. رأت جمان البئر الذي لا يرتفع عن سطح الأرض، والذي كان ضيق الفتحة شيئاً ما إنما يسمح بمرور شخص متوسط الحجم.. اقتربت المرأة من جمان ففكت وثاق يدها وهي تقول "اخلعي ملابسك ولا تفكري بالهرب.."
نظرت جمان حولها وهي ترى المرأة تراقبها بدقة، فقالت مترددة "لا يمكن أن أخلع ملابسي هنا.. ألا يمكنني الذهاب لموقع أكثر ستراً؟.."
ضحكت المرأة وقالت "أتمزحين؟ لا داعي لاصطناع الحياء هذا.. هيا أسرعي وإلا دفعتك في هذا البئر.."
التمعت عينا جمان لما سمعته، بينما سارت المرأة نحو البئر فجذبت دلواً مربوطاً بحبل ودلّته من الفتحة الضيقة لاستجلاب بعض الماء.. توترت جمان وهي ترى الفرصة سانحة أمامها فلم تتردد ثانية، واندفعت نحو المرأة ودفعتها بأقوى ما تملك نحو الفتحة القريبة، فزلت قدم المرأة وهي تنزلق في الفتحة قبل أن تتشبث بالصخور القريبة وهي تصرخ "أيتها الوضيعة.. سأريك ما سينالك مني.."
لكن جمان غالبت ترددها وهي تقترب فتركل يد المرأة بشيء من القوة مما جعلها تنزلق أكثر في البئر وهي تصرخ بغضب وألم.. نظرت جمان عبر فتحة البئر بشيء من القلق، خوفاً من عودة المرأة بأسرع مما تتمنى وخوفاً من أن تتسبب بموتها فلم يكن هذا هدفها.. لكن رأت المرأة قد علقت وسط البئر وهي تتشبث بالصخور التي تكوّن جوانبه، ورفعت وجهها المحمر غضباً وهي تصيح بشدة "قفي مكانك أيتها الخبيثة.. إن حاولت الهرب فلن أتوانى عن قتلك.."
لكن ذلك التهديد لم يُثِر خوف جمان التي استدارت وركضت عائدة للجبل القريب حيث تقف الخيول وجلّ خوفها أن يسمع البقية صياح المرأة المتعالي.. اقتربت من موقع الخيول فنظرت للأعلى بتوتر خشية أن يراها الآخران، ولما لم تجد أثراً لأي منهما تقدمت من أحد الخيول وهي تهمس له "لا تخافي يا جميلة.. لن أؤذيك"
وأمسكت بلجامه فلم تجد منه ممانعة، بينما تعالى صياح المرأة أكثر وهي تنادي المدعو عبيدة.. ورغم آلام جسدها، فإن جمان قفزت على ظهر الحصان بعد أن فكت رباطه من الصخرة القريبة، عندما فوجئت بمن يقبض اللجام ويحاول جذبه.. نظرت جمان مخطوفة الأنفاس، فرأت عبيدة قد اقترب دون أن تلاحظه وهو يقول بحنق "إلى أين أيتها البلهاء؟"
وجدت جمان نفسها تلقائياً ترفع قدمها وتركله بأقوى ما عندها على وجهه.. ورغم أنه أقوى منها بمراحل، إلا أن الركلة قد دفعته لإفلات اللجام لوهلة، فلكزت جمان الحصان وركضت به مبتعدة بأسرع ما تستطيع وقلبها يدق بشدة.. رأت في طريقها المرأة قد غادرت البئر وهي تلوح بيدها غاضبة، لكن جمان لم تعبأ بها وكل همها أن تبتعد عن هذا الموقع.. حاولت تهدئة نفسها لتهدأ ضربات قلبها.. لقد ظنت لوهلة أن خطتها فشلت، وأنهم لن يتورعوا عن عقابها لما فعلته.. لكن الآن، فهي قد تمكنت من الهرب وعليها استغلال ذلك لئلا تسمح لهم بإعادتها لذلك المصير..
انتبهت لصوت خلفها، فالتفتت لترى المدعو عبيدة قد امتطى حصاناً آخر وبدأ اللحاق بها.. فاعتراها قلق حقيقي وهي تراه يقترب منها بسرعة.. لكزت جمان الحصان مرة تلو الأخرى وهي تهمس "لا تخذلني الآن يا حصاني العزيز.."
رغم ما بذلته، وجدت جمان أن الحصان الآخر يقترب منها حثيثاً بشكل روّعها وهي تلكز حصانها بقوة.. كان السهل الفسيح أمامها ولا مخبأ يمكنها اللجوء إليه.. فأين المهرب؟..
فوجئت جمان بالرجل، بعد أن عجز عن اللحاق بها وإيقافها لفترة، يستخرج من جراب الحصان حبلاً مربوطاً بحجرين مما يستخدمه قطاع الطرق عادة في عرقلة الخيول.. فلوح بالحبل للحظات قبل أن يرميه بدقة نحو قدمي الحصان الذي تركبه جمان، ولم يلبث الحبل أن أحاط قدمي الحصان وعرقل سيره ليكبو على وجهه بقوة وهو يطلق صهيلاً عالياً.. فسقطت جمان بقوة بدورها لتوقف الحصان المفاجئ وتدحرجت بشكل مؤلم، والرجل قد أوقف حصانه بدوره وترجل منه بينما فزع الحصان الآخر وفرّ فور أن نهض من كبوته وتخلص من الحبل الذي عرقل سيره.. اقترب الرجل من جمان بسحنة غاضبة وجذبها من ذراعها بقوة لإيقافها قائلاً بحنق "أكان يجب أن تفعلي ما فعلته؟.. لقد فقدنا الحصان بسببك والزعيم سيغضب لذلك.. كيف تريدين مني معاقبتك على ما فعلته؟"
صاحت جمان وهي تدفعه عنها "اتركني.. لا يحق لك استعبادي وبيعي.."
جذبها خلفه عنوة نحو الحصان وهو يقول "قولي هذا لمن سيشتريك.."
حاولت جمان تحرير يدها ودفعه عنها بشتى الطرق دون فائدة.. لا يمكن أن تفشل بهذه السرعة.. لا يمكن أن يكون هذا هو آخر المطاف.. لكن، كيف السبيل للهرب الآن؟..
في تلك الأثناء، كان سلمة يتقدم من الموضع الذي أشار إليه الرجل سابقاً وقد بدت له الجبال من هذا القرب مكونة من سلسلة من الجبال المتصلة.. فتساءل بقلق إن كانت جمان في الجبل الأقرب إليه أم أنها في موضع آخر من تلك السلسلة.. كيف سيهتدي إليها؟.. ربما كان عليه إحضار الرجل معه حتى لا يضيّع المزيد من الوقت..
رأى في تلك اللحظة حصاناً يركض أمامه على مبعدة بحيث لم يلحظه راكبه، وعلى ظهره ما بدا له كفتىً بملابس عادية، ويلحقه رجل على حصان آخر بشكل حثيث.. قطب سلمة وهو يراقب ما يجري متسائلاً في نفسه إن كان عليه الإمساك بأحدهما لاستجوابه.. ربما كان ذلك الفتى هارباً من قطاع الطرق كذلك..
تأكد لسلمة هذا الظن وهو يرى الرجل يستخدم الحبل بالحجرين لإيقاف الحصان وإسقاط من عليه.. ولم يلبث أن وقف قريباً منه وترجل نحو الفتى فجذبه من سقطته بقوة.. لكن لما رأى العمامة تسقط والشعر الطويل ينسدل على ظهر الفتى، خفق قلب سلمة بقوة وقد أدرك أن ذلك الذي ظنه فتىً ما هو إلا جمان.. لابد أن تكون هي.. فلكز حصانه بسرعة متجهاً إليهما وهو يرى مقاومة جمان الشديدة رغم ضعفها وهي تصيح بالرجل "اتركني.."
وصل لموقعهما بسرعة فقفز من حصانه وهو يستلّ سيفه ويصيح بغضب "اتركها.."
التفتت جمان للصوت برجفة في جسدها.. ثم اتسعت عيناها وهي تنظر للقادم دون أن تصدق ما تراه.. حدقت به للحظات محاولة التأكد أن هذا ليس هذياناً منها بعد طول تمني ورجاء.. لكن رغم إنهاكه ورغم أنه بدا بأسوأ حال، إلا أنه لم يكن إلا سلمة.. فدمعت عيناها لمرآه وهي تصيح "سـلـمــــــة.."
بينما جذبها الرجل إليه وهو يقول بحدة "من أنت؟ وما الذي تريده؟"
تقدم سلمة منه وهو يقبض على سيفه بقوة قائلاً بغضب "قلت لك اترك الفتاة.. ألا تفهم؟"
قطب الرجل وهو يمسك مقبض سيفه بدوره وقال "ارحل يا هذا.. لا شأن لك بما يجري هنا.."
لكن جمان عضّت يده بقوة شديدة فصرخ متألماً، بينما انفلتت جمان من يده وتراجعت مبتعدة عنه.. فاستغل سلمة الفرصة وقفز نحو الرجل مسدداً له ضربة بمقبض سيفه.. فلم يكد الرجل يرفع رأسه وقد فوجئ بالضربة القوية التي أصابته في جانب رأسه وأسقطته أرضاً فاقد الوعي.. زفر سلمة وهو يرى الرجل يسقط بلا حراك، ثم أعاد سيفه لغمده وهو يلتفت إلى جمان التي وقفت جانباً وهي تقبض على يديها بشدة وتنظر له بعينين متسعتين.. فشعر براحة عميقة وهو يراها بخير، رغم أنه لا يعلم ما الذي جرى لها خلال اليومين الماضيين.. لكن عثوره عليها أسعده بشدة بحيث لم يملك اللهفة التي بدت في ملامحه وهو يقترب منها..
أما جمان فقد التمعت الدموع في عينيها رغماً عنها وهي تنظر له.. رغم أنها عزمت على ألا تظهر ضعفها أمامه أبداً، رغم أنها تمنـّت أن يراها قوية كيلا يشمئز منها، إلا أن مشاعرها قد تغلبت عليها وهي تراه أخيراً بعد أوقات بدت لها كدهر كامل.. فصاحت بشيء من الغضب، من نفسها ومن دموعها بالأحرى "أين كنت؟ كيف تترك التتار يختطفوني بهذه السهولة؟.."
اقترب منها سلمة قائلاً "أنا آسف لذلك.."
خفضت وجهها والدموع تنحدر على خديها وهي تقول بحدة "لقد انتظرتك ساعات وساعات.. لكنك لم تأت.. ظننتك حقاً قد تخليت عني وهربت.. لقد..... لقد......."
لم تستطع قول المزيد وهي تبكي بحرقة.. فهبّ إليها سلمة وهو يسألها بقلق عارم "أأنت بخير يا جمان؟ هل آذوك؟"
تشبثت جمان بملابسه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها، وأسندت رأسها لصدره وهي تنشج باكية وقد فقدت السيطرة على ما كبتته من مشاعر طوال الأيام الماضية.. الذعر غير المتعقل.. الألم واليأس.. الخوف الذي ينهش قلبها بقوة.. لم تكن تعتقد أن مرأى سلمة سيُظهر كل ما حاولت السيطرة عليه وقد ظنت نفسها قد أضحت أقوى من السابق.. لكن قوتها المزعومة قد تهاوت فور أن رأته، وأدركت كم هي ضعيفة نفسٍ وبحاجة لوجوده بقوة.. بحاجة لحمايته، وللشعور بالأمان الذي يغمر أعماقها كلما كان قريباً.. ولم تكن تدرك أنها ضائعة تماماً بدونه..
ومع مرأى بكائها وتشبثها به، ازداد قلق سلمه وهو يقول بإلحاح "ما الذي جرى يا جمان؟ ما الذي فعلوه بك؟"
لم تجبه وهي تتشبث به أكثر وتقول باكية "لا تتركني مرة أخرى.. لا ترحل يا سلمة أرجوك.."
رغم أن قولها هذا قد أشعل قلقه أكثر، إلا أنه لم يلحّ بأسئلته وهو يمسك كتفيها ويقول بانفعال حاول كتمه "لا تخافي يا جمان.. لا أنوي مفارقتك أبداً بعد الآن.. الحمدلله أنني تمكنت من العثور عليك وقد كدت أقضي نحبي لشدة قلقي عليك.."
ظلت جمان تبكي بحزن مرير محاولة تناسي كل ما رأته وشهدته من رعب في وقت قصير نسبياً، وإن كان يبدو لعينيها زماناً أبدياً لم تشهد مثله في سنواتها السابقة.. بينما غالب سلمة شوقه إليها ولهفته لاحتضانها بقوة وهو يكتفي بالضغط على كتفيها ويهمس "حمداً لله على عودتك لي يا فتاتي.. حمداً لله.."
***********************

~ بعيدا عن الخيال (٩) ~
قطاع الطرق

من الجرائم التي ارتكبت ضد القوافل ما حدث لقافلة حجاج خراسانيين قبل وصولهم إلى بغداد أنهم لما رحلوا عن بسطام أغار عليهم جمع من الجند الخراسانية قصدوا طبرستان سنة ٥٥٢هـ، فأخذوا من أمتعتهم، وقتلوا نفراً منهم وسلم الباقون، وساروا من موضعهم، فبينما هم سائرون إذ طلع عليهم الإسماعيليون، فقاتلهم الحجاج قتالاً عظيماً وصبروا صبراً عظيماً؛ فقتل أميرهم، فانخذلوا وألقوا بأيديهم، واستسلموا وطلبوا الأمان، وألقوا أسلحتهم مستأمنين، فأخذهم الإسماعيليون، وقتلوهم، ولم يبق منهم إلا شرذمة يسيرة، وقتل منهم الأئمة والعلماء والزهاد والصالحون وجمع كثير، وكانت مصيبة عظيمة عمت بلاد الإسلام وخصت خراسان، ولم يبق بلد إلا وفيه مأتم. فلما كان من الغد طاف شيخ في القتلى والجرحى ينادي: يا مسلمون يا حجاج، ذهب الملاحدة وأنا رجل مسلم، فمن أراد الماء سقيته. فمن كلمه قتله، وأجهز عليه، فهلكوا جميعاً إلا من سلم، وولى هارباً، وقليل ما هم.


((أمن حركة الحج من المشرق الإسلامي خلال العصور العباسية المتأخرة))
عبدالرحمن بن علي السنيدي


***********************

مملكة الغيوم 13-02-16 06:33 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
اخيرا جمان استطاعت الفكاك من قطاع الطرق لاياءس مع الحياه ظلت جمان تحاول الهرب رغم انها ليس معها سلاح او اى وسيله تدافع بها عن نفسها لكن لم تستسلم للاسر وحاولت مرار حتى هربت لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه لحق بها ذلك العبيده ولحسن حظها ظهور سلمه فى الوقت المناسب لتحريرها من يديه مرة اخرى
سلمه لم يتورع عن فعل اى شيئ للوصول الى جمان حتى لو كان ضدد مبادئه ولكن ما يهمه فى النهايه الوصول الى جمان قبل ان يلحق بها احدهم الاذى وكاءن لديه بوصله تؤشر له عن الافراد الذين مرت بهم جمان مره السيده التى هربت معها ومره الرجل الذى سرقها ومره القريه التى تركت فيها ملابسها قلب المحب دليله
فصل هدنه من صراعات التتار ونهب قطاع الطرق كان ابشع مع الحجيج وكاءن القتل يعتبر تسليه لهم وزهق الارواح ترفيه عن النفس تبا لهم من قطيع من السفله والمجرمين
سلمت يداكى خيال فصل رائع ولقاء سلمه وجمان معبر جدا فى انتظار الباقى بشوق دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 14-02-16 10:46 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله
من الطبيعي أن تتطور شخصية جمان مع الأحداث التي تمر بها ولا تبقى بسلبيتها
لكن هذا التطور لن يكون كبيراً ومفاجئاً
بل سيبقى بمستوى طبيعي لفتاة في عمرها وشخصيتها
ما يفعله سلمة هو مزيج من الحب والشعور بالمسؤولية
وهذا يجعله لا يفقد الأمل في اللحاق بها وإنقاذها

ما كان يجري في تلك الأوقات من زهق الأنفس بكل سهولة بسبب حفنة من المال شيء بشع
لكن ألا يذكرك بما يجري الآن من قتل همجي بدون أسباب حقيقية
وكأن البشر قد تحجرت قلوبهم وأصبحوا لا يشعرون بالذنب تجاه ما يفعلونه
وهذا طبعاً راجع لقلة الدين ومحاسبة النفس

سنرى بقية ما سيواجه الاثنان في الفصل القادم بإذن الله تعالى

عالم خيال 14-02-16 11:38 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل العاشر ~


ركض ذلك الحصان وحيداً في السهول الفسيحة مثيراً خلفه سحابة خافتة من الغبار مع اشتداد نور الشمس الذي بدد الظلمة بشكل تام.. وعلى ذلك الحصان، جلست جمان خلف سلمة الصامت وهي تتشبث بملابسه وكأنها تخشى أن تفقده لو أفلتته، وإن لزمت الصمت بدورها وهي تحلق في عالم آخر.. عالم أكثر أمناً وسلاماً وراحة بال.. عالم تأمل أن يعود مرة ثانية بعد أن شهدت ما هو أكثر فظاعة.. وفي ثانية أدركت أن تلك أحلام قد لا تجد طريقها للواقع في زمن قريب.. فتنهدت وهي تخفض رأسها وتهمس "يا إلهي.. متى ينتهي كل هذا العذاب؟"
سمعت سلمة يسألها بقلق "أأنت بخير الآن؟"
همست "بلى.. شكراً لك.."
فسألها "ما الذي جرى لك مع التتار؟ وما الذي جرى لك مع قطاع الطرق؟.. لقد كدت أفقد صوابي عندما عثرت على ملابسك غارقة في الدماء في تلك القرية؟"
زفرت جمان وهي تقول بصوت ينتفض "كان هذا هو السبيل الوحيد لي للاختباء من أولئك التتار الذين لاحقوني.. عندما وصلت لهذه القرية وفوجئت بمقتل كل من فيها، استبدلت ملابسي الملفتة للنظر بملابس أحد القتلى في القرية، ولجأت للاختباء بين جثث الموتى حتى يرحل التتار.."
وهمست وهي تغمض عينيها بقوة "كانت تلك لحظات قاسية..."
لم يعلق سلمة وقد انتبه لارتجاف يديها، ثم غمغم محاولاً تغيير دفة الحديث "لو أخذتك لموقع مأهول بالبشر بهذه الملابس الغارقة بالدماء فستثيرين الذعر بالتأكيد.."
لم تعلق جمان وهي صامتة، فصمت سلمة بدوره وهو يجذب لجام الحصان ليوقفه قرب شجرة متوسطة الحجم.. فترجل منه وقال لجمان "يحسن بنا أن ننال قسطاً من الراحة.. والحصان متعب أيضاً"
ترجلت جمان بدورها وهي تتلفت حولها بقلق كبير.. رغم ابتعادهما عن قطاع الطرق بمسافة كبيرة، لكنها لا تزال تخشى أن يباغتوهما ويأخذوها غصباً من جديد.. لاحظت ابتعاد سلمة عنها، فلم تملك نفسها أن تمسكت بذراعه قبل أن يبتعد وهي تنظر له بصمت وقلق، فسألها برفق "ما الأمر؟"
قالت بصوت متوتر "أنت لن ترحل مرة أخرى.. أليس كذلك؟"
حاول الابتسام وهو يقول "ولم أنت شديدة القلق من هذا الأمر؟ أخبرتك أنني لن أفعل ذلك أبداً.."
قالت بقلق "لأني لم أعثر عليك قرب القافلة وقت الهجوم.. عندها ظننت أنك حقاً قد تخليت عني"
هز سلمة رأسه مجيباً "ما جرى سابقاً لم يكن بإرادتي، ووددت أنه لم يحدث بتاتاً.. لقد أصابني أحد التتر وفقدت وعيي.. وعندما استيقظت اكتشفت اختفاءك من المكان.. وهذا أصابني بالذعر"
تزايد القلق في وجهها وهي تسأله بتوتر "أنت أصبت؟"
ابتسم مجيباً "ليس بالجرح الكبير فلا تقلقي.."
فخفضت بصرها بصمت دون أن تفلت ذراعه.. ورغم إدراكه مدى الضيق الذي تشعر به، إلا أنه لم يستطع كبح سؤال يتردد في ذهنه منذ اختطفها التتر في ذلك اليوم، فقال "جمان.. هل تجيبين سؤالي الآن؟"
نظرت له بتردد، فقال وهو يتأمل ملامحها محاولاً استشفاف الإجابة منها قبل أن تنطق به "أولئك التتر.. ألم يؤذوك؟ ألم يمسّك أحدهم بأذى؟"
قالت وهي تخفض بصرها "لا تقلق.. لو حاول أحدهم ذلك لقتلت نفسي دون تردد.. فلست أرضى بمهانة كهذه أبداً.."
تنهد سلمة وهو يربت على كتفها هامساً "حمداً لله على ذلك.."
شعر كأن ثقلاً انزاح من كاهله.. فلو حدث لها مكروه، لكان ذلك بسبب ضعفه هو في الدفاع عنها، رغم أنه لم يألُ جهداً في ذلك.. ولو حدث ذلك، لما استطاع مواجهة مولاه بعدها أبداً وقد ائتمنه عليها..
تساءل بعد لحظة صمت "وما هذه الكدمة على خدك؟"
وضعت جمان يدها على الكدمة التي خفتت قليلاً بعد تلك الضربة العنيفة مغمغمة "ضربني أحد التتار بعد أن حاولت الهرب لأول مرة.. الحمدلله أن الأمر لم يتجاوز هذه الضربة"
فقال سلمة بضيق "إنهم متوحشون حقاً لا يعبؤون بأحد.. لا جرم أنهم يبثـّون الرعب حيثما حلـّوا.."
تساءلت جمان وهي تنظر إليه "لكنك لست خائفاً منهم.. أليس كذلك؟"
قال مقطباً "لست أخافهم فهم ليسوا إلا بشراً.. خوفي الوحيد هو عليك أنت، وعلى ما قد يحدث لك لو هاجمونا.. خلاف ذلك لا يهمني أي أمر"
خفضت جمان وجهها وهي تهمس بارتجافة "لكني خائفة.. بعدما رأيت كل ما فعلوه ازداد خوفي هذا أضعافاً كثيراً.. ولا أعتقد أن هذا الخوف قد يخفت في يوم من الأيام"
ونظرت نحو سلمة بقلق مغمغمة "أيشعرك هذا بالاشمئزاز من ضعفي؟"
نظر لها سلمة بدهشة قبل أن يهتف "ما الذي هيأ لك ذلك؟ خوفك هذا طبيعي تماماً.. بل من غير الطبيعي أن أجد فتاة لا تخشى أولئك التتر الذين يخشاهم الجميع"
همست جمان "حقاً؟"
فقال سلمة بإصرار "لست أشمئز من خوفك ذلك ولا أرى أن ضعفك هذا عيب فيك.. لكني أريدك قوية كيلا تنهاري مما قد يصيبك.. أخشى عليك من أن تؤثر فيك الأحداث التي مررنا بها فتفقدك الرغبة بالاستمرار رغم كل شيء.. لو لم تكوني قوية لما استطعت الهرب من أولئك التتار، ولربما ما عثرتُ عليك أبداً.."
رغم القلق في عينيها إلا أن شيئاً من الراحة تبدّى فيهما، قبل أن يعود القلق ليغمرها وهي تسأله "ماذا عن إصابتك؟ أأنت متأكد أنك بخير الآن؟.."
وضع سلمة يده على جنبه قائلاً "لا تقلقي.. ليس بالجرح الكبير.. لقد ضمدته جيداً، وسألجأ لعلاجه فور أن نصل مدينة آمنة"
قالت جمان بأسى "وأي مدينة يمكن أن تصفها بالأمان؟"
قال بعد لحظة صمت "أعتقد أننا يجب أن نرحل نحو بغداد.. سنبدأ بالبحث عن قافلة مولاي في مدينة الحِلـّة وإذا ما فشلنا في العثور عليها سنكمل طريقنا نحو بغداد"
غمغمت جمان "لا يجب أن تدعو أبي مولاك يا سلمة.."
نظر لها سلمة بصمت للحظة، ثم قال دون أن يعلق على قولها "وجودنا في مدينة كبيرة كتلك حيث التحصينات بها أقوى أكثر أمناً لنا بالتأكيد.. فلا يمكنني أن أشعر بالأمان مع وجود فرق التتار في كل مكان حولنا.."
ثم استخرج من جراب الحصان بعض الماء قائلاً "اشربي الماء وكلي التمر.. تبدين في أسوأ حال.."
هزت جمان رأسها موافقة وهي تتناول منه الماء وتشرب القليل.. ورغم شدة عطشها، شعرت أن معدتها تؤلمها فور أن ذاقت الماء.. وكأنها صدمت بالماء الذي وصل إليها بعد عطش طويل.. ثم غسلت وجهها لتزيل آثار الدماء والغبار والتعب الذي قاسته خلال الأيام الماضية..
أعادت جمان الماء والتمر إلى سلمة صامتة، ثم أدارت وجهها جانباً وهي تتنهد.. فسمعته يتساءل "ما بك؟ أهناك ما يؤلمك؟"
هزت رأسها نفياً، ثم غمغمت "دعوت الله تعالى ألا أفترق عنك مرة أخرى.. فما عدت أشعر بالأمان إلا بوجودي معك.. ولا أريد أن أشهد أياماً عصيبة كالتي مررت بها.."
لم يعلق وهي تراه يخفض وجهه، وهي عادته كلما غلبته انفعالاته بما يسمعه، ثم ابتعد فجأة وهو يجذب الحصان ليربطه في الشجرة، ويسقيه بعض الماء ثم تركه يأكل من الأفرع القريبة منه.. أما جمان فقد بقيت تتلفت حولها بين فينة وأخرى، فقال سلمة وهو يجلس تحت الشجرة "سنرتاح قليلاً ثم نواصل سيرنا.. لا خوف علينا هنا بإذن الله فالسهول تمكننا من رؤية أي عدو يقترب منا من على مبعدة.."
لم تعلق وهي تجلس جانباً بينما التزم سلمة الصمت بدوره وهو يجول ببصره فيما حولهم باستمرار.. لكن لم تمض لحظات معدودة حتى وجدته يستسلم لنوم عميق حيث جلس وهو يسند رأسه لإحدى ذراعيه التي يسندها على ركبته.. بدا لها وجهه في تلك اللحظة شاحباً بشدة، ربما بسبب جرحه أو ربما لم يحظَ بنوم يذكر منذ افترقا.. فشعرت بشفقة عارمة عليه وهي تراه بهذا الإنهاك للمرة الأولى..
شعرت بشيء من الوحشة وهي غير قادرة على الراحة بعد أن نام سلمة.. ماذا لو فاجأتهم فرقة التتار أو قطاع الطرق وهما غافلان؟.. فكانت جمان تنهض فتجول في الموقع بين فينة وأخرى، ثم تعود لتجلس جوار سلمة الغافي بصمت وهي تتأمل ملامحه المتعبة أملاً في استيقاظه قريباً ليرحلا من هذا الموقع.. ورغم قربه، إلا أنها لشدة قلقها كانت تمد يدها فتتمسك بملابسه بحثاً عن شيء من الأمان.. من حسن حظها أن سلمة لم يتخلّ عنها بتاتاً رغم كل ما مرا به، لكن قد يكون هذا من سوء حظه.. فهو قد قاسى التعب والقلق وأصيب في سبيل سلامتها وعودتها لأبيها.. فما الذي يجنيه من كل ذلك؟.. لقد سألته هذا السؤال من قبل، لكنه تجاوز عن سؤالها دون أن يجيب رغم أنها لمحت شيئاً مبهماً في عينيه.. شيئاً تشعر به لكنها لا تستطيع الإمساك به حقاً.. فما الذي يخفيه سلمة في ثنايا عقله الصامت؟..
وهي.. ما سر هذا الذي تشعر به نحو سلمة؟.. غريب أمرها الآن.. فبعد أن كانت أيامها السابقة ملأى بالتفكير في عامر الذي لم تره إلا للحظات معدودة، أصبحت الآن لا تفكر إلا في سلمة.. وبعد أن كانت بائسة مذعورة يخيفها أي شيء عندما غاب عنها، أصبحت تشعر براحة غريبة وأمان لم تشعر بمثله منذ تلك الليلة التي انهار فيها كل شيء.. أهذا لمجرد أن سلمة قد عاد إليها؟.. رغم أنها عرفته منذ صغرهما، ورغم أنها اعتمدت عليه كثيراً في حياتها في القصر، إلا أنه في هذه الأوضاع الخطرة قد منحها أماناً كانت تتوق إليه بشدة.. شعرت بما يشعر به الملتجئ لواحة وارفة هرباً من صحراء قاسية مهلكة.. وهل هناك ما هو أكثر قسوة مما مرّت به؟..

***********************

مع نهاية ذلك اليوم، وصل الاثنان إلى مدينة الحِلـّة الواقعة على نهر الفرات، والتي أطلق عليها الشعراء (الفيحاء) لكثرة أشجارها ونخيلها وأعنابها، والتي انتشرت داخل المدينة وخارجها.. استقر سلمة وجمان في الحِلـّة في أحد خاناتها ريثما يسأل سلمة عن القافلة وعن مصير ربيعة.. وفي اليوم التالي، كان أول ما فعله سلمة هو شراء ملابس جديدة لجمان بدل تلك التي فقدتها.. ولما عاد إليها بها قالت بشيء من الضيق "أنت تبدد الأموال دون داعٍ ونحن بأمس الحاجة إليها.. يمكنني أن أكتفي بملابسي هذه بعد أن أغسلها جيداً.."
قال سلمة "تلك الملابس لا تليق بك أبداً.. لا تقلقي فمعي ما يكفي من المال.."
وغادر بعدها وحيداً للبحث عن قافلة ربيعة بينما بقيت جمان في الخان بانتظاره كما طلب منها.. بقيت جمان وحيدة والقلق يتناهبها على أبيها وخوفاً من اختفاء سلمة من جديد.. رغم أنه أكد لها عدة مرات أنه لن يتركها مهما كان الأمر، لكن القلق الذي سببه لها انفصالها عنه في اليومين السابقين قد جعلها لا تكاد تهدأ كلما ابتعد عنها.. وفوق كل هذا، كان قلقها أكبر مع عدم عثوره على أبيها.. فكل يوم يمضي دون خبر عنه يزيدها قناعة أنها لن تلتقي به أبداً لسبب أو لآخر..
ولما عاد سلمة إليها بعد بحث طويل ومع انقضاء ذلك النهار، ورأت جمان الخيبة واضحة على وجهه، صمتت وهي تخفض وجهها وإن حاولت جهدها ألا تنخرط في بكاء جديد.. فسمعته يقول "سأبحث غداً أيضاً فربما أعثر له على أثر.. وإن لم أفلح، فسنغادر نحو بغداد.. هي أملنا الأخير"
رفعت جمان وجهها إليه وابتسمت قليلاً قائلة "لا بأس.. لا يمكنني الاعتراض على ذلك.. فهو خير من البقاء بلا سبب"
صمت سلمة وهو يراها تغصب نفسها على الابتسام بينما يعلم تمام العلم مقدار القلق الذي تشعر به.. فغمغم "سأرتاح الليلة وغداً منذ الفجر أعاود البحث.."
وقبل أن يغادر استوقفته جمان متسائلة بقلق واضح "ماذا عن جرحك يا سلمة؟.. أنت شاحب الوجه وتبدو منهكاً.. هل اهتممت بعلاجه؟"
ابتسم سلمة وأجاب "لا تقلقي.. لقد ذهبت لأحد أطباء المدينة وعالج الجرح.. لكن قد يستغرق وقتاً حتى يبرأ تماماً"
فغمغمت جمان "لا تجهد نفسك.."
خفض سلمة رأسه موافقاً وغادر بصمت.. وفي اليوم التالي غاب عن بصر جمان من جديد وهو يبحث طوال النهار متقلباً بين الأسواق وأماكن تجمع التجار واللاجئين من بعض القرى والمدن القريبة التي لم تسلم من هجوم التتار.. لكن الكل نفى رؤيتهم أو معرفتهم بمصير قافلة ربيعة إلا ما تناقلته الأخبار عن هجوم قطاع الطرق عليها.. وكل خبر يزيد سلمة يقيناً أن القافلة وصاحبها لم ينجوا من ذلك الهجوم أبداً..
بعد بحث طويل، جلس سلمة في جانب أحد أسواق المدينة بعد أن كلّ وتعب.. فبقي قليلاً يرتاح وفكره يعود للخان ولجمان التي تنتظر منه خبراً عن أبيها.. لكن كل ما يملكه هي أخبار بمقتله والقضاء على قافلته، فكيف يحمل لها خبراً مثل هذا؟.. كيف يقطع الأمل من قلبها؟.. لا يشك أن خبراً مثل هذا سيقضي عليها ولابد، وهو يخشى من توابعه.. لذلك، لا يملك إلا الاستمرار بالبحث حتى لو تيقن من موت ربيعة.. الرحيل لبغداد أكثر أمناً لجمان، وعندما يطول بحثه عن ربيعة لمدة أطول، فإن جمان قد يخفّ عليها وقع ذلك الخبر وتغدو أكثر تقبلاً له..
تنهد سلمة وهو ينهض متثاقلاً وتوجه نحو الخان الذي يقع في الجانب الآخر من المدينة.. ورغم تعبه، توجه سلمة فور عودته إلى غرفة جمان.. فطرق الباب طرقاً خفيفاً وانتظر إجابتها.. كان الوقت قد قارب المغيب، وبدأت الحركة تخفت في الشوارع والأسواق.. أعاد سلمة الطرق عدة مرات بانتظار إجابة، وهو موقن أن جمان لا يمكن أن تكون نائمة في هذا الوقت.. فلم لا ترد على طرقاته؟ أيمكن أن تكون غارقة في البكاء على أبيها بحيث تعزف عن مقابلته؟.. تردد لحظات في الوقوف قرب الباب أو المغادرة والعودة إليها لاحقاً.. وقبل أن يستقر على رأي سمع من خلفه صوتاً يقول "الصبية غادرت غرفتها قرب الظهيرة"
التفت سلمة خلفه بدهشة ليرى رجلاً ممن يعملون في هذا الخان، رأى وقوف سلمة قرب باب جمان فاقترب منه ليوفر عليه عناء الانتظار.. وإزاء نظرات الدهشة أضاف الرجل "غادرت دون أن تتناول غداءها، ولم تخبر صاحب الخان عن وجهتها.."
تساءل سلمة بقلق "مع من غادرت؟.. ألم تعد بعد؟"
هز الرجل رأسه نفياً قبل أن يقول "لم أرَ أحداً معها.. أليس لها أي معارف في المدينة؟ ربما غادرت للقاء أحدهم"
لم يعلق سلمة وهو يندفع مغادراً الخان وقلقه مختلط بتعجبه من تصرف جمان.. ما الذي حملها على المغادرة وحيدة؟.. لماذا لم تنتظر عودته؟ وأين يمكنها الذهاب وهي الغريبة عن هذه المدينة بشكل تام؟..
في تلك الأثناء، كانت جمان تقف في أحد أحياء المدينة تتلفت حولها بقلق شديد.. منذ غادرت الخان قبل عدة ساعات وهي تجوب الأحياء بلا راحة.. حملها قلقها على أبيها ولهفتها لمعرفة أخباره مسافات بعيدة في أحياء المدينة الغريبة عليها.. والآن هي عاجزة عن العودة للخان ولا تعرف له اسماً.. بل إنها تجهل حتى اسم الحي الذي يقع فيه الخان.. تلفتت جمان بحيرة وهي تسير مترددة الخطى ملاحظة هدوء الطرقات بعد صخب النهار، حيث لم يبق إلا القليل جداً من الرجال ممن يمرون بها وبعضهم يلقي عليها نظرات التعجب من هيئتها الغريبة..
تنهدت بتوتر وهي تنظر حولها ولا تعلم إن كانت تقترب بسيرها هذا من الخان أم تبتعد عنه أكثر..
رأت في تلك اللحظة رجلاً كهلاً يقف لينظر إليها باهتمام.. ترددت جمان قليلاً وهي تراه يدير بصره فيما حوله قبل أن يقترب منها خطوات قائلاً "ما بالك يا صبية؟ أهناك ما تبحثين عنه؟"
قالت جمان بارتباك "لقد خرجت من الخان الذي سكنت فيه وأضعت طريقي.. والآن لا أعرف طريق العودة"
بدت ابتسامة غريبة على وجه الرجل وهو يقول "أنت غريبة عن المدينة؟ من الخطر بقاؤك وحيدة في هذا الوقت.. ألا تعرفين اسم الخان؟"
هزت جمان رأسها نفياً، فقال الرجل "هناك خان قريب من هنا.. سآخذك إليه فربما يكون هو.."
وتقدمها في الطريق الساكن تماماً، فترددت جمان قليلاً.. كانت تخشى البقاء وحيدة مع حلول الظلام في المدينة، وفي الآن ذاته تتوجس من هذا الغريب الذي عرض عليها المساعدة دون سبب.. تذكرت ما حدث لها من تلك المرأة والرجلين في القرية الخربة، فازداد توجسها وهي تنظر له.. ولما ابتعد قليلاً استدارت جمان وهي تركض في الاتجاه المعاكس.. سمعت الرجل يصيح خلفها لإيقافها، لكنه لم تتوقف وهي تركض بين الطرقات الخالية محاولة معرفة طريقها وقلقها يمتزج بشيء من الذعر.. ما الذي ينتويه ذلك الرجل بها حقاً؟.. كانت تسمع الخطوات خلفها تقترب أكثر فأكثر، ولم تكن تنتمي لرجل واحد، فتلفتت حولها بحثاً عن سبيل للفرار، عندما رأت باباً قريباً موارباً يؤدي لمنزل مظلم.. رأت أن هذا أفضل حل يمكنها العثور عليه، فأسرعت تدلف ذلك الباب وتندسّ خلفه كاتمة لهاثها وهي تنصت.. حتى سمعت صوت الخطوات الراكضة تمر قريباً وتبتعد دون إبطاء.. لكنها لم تغادر موقعها والتوتر يغزوها فيما عليها فعله منذ الآن.. أصبحت تخشى حتى من سؤال أي غريب عن موقع الخان الذي لا تعرف اسمه..
سمعت صيحة بصوت رجل تأتي من هذا المنزل، فأسرعت تغادر عبر الباب بشيء من الارتباك وركضت محاولة تبين طريقها عبر ذلك الحي حتى تمكنت من مغادرته.. تنفست بعمق محاولة تهدئة نفسها وهي تسير هامسة "رباه.. أين أنت يا سلمة الآن؟.."
سارت مسافة طويلة وهي تتلفت حولها بحثاً عن الخان أو محاولة معرفة الحي الذي كان فيه، عندما فوجئت بمن يقبض ذراعها ويديرها للخلف، فشهقت وهي تنظر لصاحب اليد بعينين متسعتين خشية أن يكون ذلك الكهل قد استطاع العثور عليها.. ولما رأت سلمة ينظر لها والقلق ممتزج بغضب ظاهر على وجهه، غمغمت بصوت مرتبك "أهذا أنت يا سلمة؟.. لقد أفزعتني.."
قال سلمة بحدة "ليس كما أفزعتني أنت.. ما الذي حملك على مغادرة الخان وحيدة دون أن أعلم بذلك؟ لقد شككت أن شخصاً ما قد تعرض لك أو أن بعض اللصوص قد اختطفوك.."
تذكرت ما حدث لها مع ذلك الرجل الغريب، والذي بدا لها في تلك اللحظة قريباً مما قاله سلمة، فغمغمت خافضة بصرها "لم يحدث شيء من هذا.. لقد سئمت من البقاء وحيدة وأكلني القلق بانتظار العثور على أي خبر من أبي.. ففضلت أن أبحث عنه في المناطق القريبة من الخان بعد أن طال غيابك.. لم أكن أنتوي الابتعاد عن الخان، لكن خانتني المدينة ولم أدرك أي سبيل عليّ اتخاذه لأعود.."
زفر سلمة بضيق ظاهر وهو يقول "كان عليك أن تنتظري عودتي.. ماذا لو لم أعثر عليك قبل حلول الظلام؟ المدينة تعج بأصناف من البشر لم تَخْبُريهم من قبل، ولا نعلم ما الذي قد يفعله رجل بنوايا خبيثة بفتاة غرّة مثلك.."
صمتت جمان وهي غير راغبة بإثارة حنق سلمة بذكر ما جرى لها مع ذلك الرجل، فلابد أن أمراً كهذا سيغضبه بشدة.. رأت سلمة يستدير مغادراً فأسرعت تتبعه دون اعتراض وهي تلاحظ أن غضبه لم يخفت بعد.. فخفضت وجهها بندم لأنها أغضبته وأتعبته بهذه الصورة.. يبدو شديد الإنهاك كما لحظت على ملامح وجهه، وها هي تزيد متاعبه بغبائها منقطع النظير.. زفرت بتوتر عندما سمعت سلمة يقول "غداً نغادر لبغداد بإذن الله.."
رفعت بصرها إليه وقالت "هل يئست من العثور على أبي في الحِلـّة؟"
علق سلمة قائلاً "ليس يأساً.. لكن لا أريد تعطيل أنفسنا أكثر من هذا.. البحث في بغداد سيستغرق منا وقتاً طويلاً.. لذلك أفضل الرحيل إليها منذ فجر الغد.."
غمغمت جمان وهي ساهمة "كما تشاء.."
ألقى سلمة عليها نظرة سريعة ملاحظاً استسلامها التام لقراراته.. ورغم راحته لذلك، إلا أنه قلق من أن يجرّها لمصائب أكبر بجهل منه.. وقد كاد ينخلع قلبه عندما اختطفها التتر، خوفاً على ما قد يجري لها، وندماً لأنه ساقها لمثل هذا المصير بتهاونه في حمايتها.. فهل يتكرر مثل هذا الأمر مرة أخرى؟..

***********************

انطلق سلمة وجمان لبغداد دون إبطاء في اليوم التالي، ولحسن حظهما لم يعترض طريقهما أي عقبات تذكر.. وعندما شارفت المدينة الكبيرة بأسوارها العالية والأعلام ترفرف على أبراجها الحصينة، قال سلمة "هذه هي محطتنا الأخيرة كما أرجو.."
قالت جمان بقلق "أتظن أننا سنكون بأمان هنا؟"
قال سلمة بحزم "أجزم بذلك.. فاللجوء لمدينة حصينة كهذه أفضل من اللجوء لغيرها.."
غمغمت جمان "أتظن أننا سنجد أبي أيضاً؟.."
صمت سلمة لوهلة قبل أن يقول "أجزم بذلك طبعاً.. فإن لم نجده في الكوفة والحِلـّة، فأين يمكن أن يكون إلا ببغداد؟.. تحلي بالثقة وبالأمل، وسنعثر عليه بإذن الله.."
ورغم تأكيده، إلا أن جمان لمست في صوته ما جعلها تجزم أنه لم يكن مقتنعاً هو ذاته بكلمة مما قالها.. لكنها لم تستطع أن تعلق على ذلك وهي تخشى أن تسمع ما يحطم أي أمل لديها بلقائها بأبيها.. فلتتحلّ ببعض الأمل، إذ قد تكون كل هواجسها لا أساس لها في الواقع..
سرعان ما كان الحصان يجتاز أسوار بغداد ليدخل بهما المدينة العريقة حاضرة الخلافة الإسلامية ويجتاز طرقاتها ومنازلها متوغلاً بين أحيائها.. كانت بغداد آنذاك تنقسم إلى قسمين.. فمنها بغداد الشرقية التي تقع على امتداد الشاطئ الشرقي من دجلة، وتضم فيها قصور الخليفة (المستعصم بالله) وأهله منها قصر الفردوس، والقصر الحسني الذي أقيم على أنقاضه المدرسة المستنصرية، وقصر الريحانيين، وقصر التاج القديم.. وحولها حدائق غناء ويحيط بها سور خاص بها.. وخارج السور تقع محلات العامة مثل المأمونية وباب الأزج والريان وغيرها، وقد لحقها كثير من التلف بسبب فيضان دجلة المتكرر، ورغم ذلك ظلت عامرة ومتسعة وفي كل منها مساجد وأسواق ودروب كثيرة..
أما بغداد الغربية التي تقع على الشاطئ الغربي من دجلة، فتضم العديد من المحلات القديمة العامرة مثل محلة الحربية التي كانت منفصلة عن غيرها يحيط بها فضاء واسع من الخرائب والأتربة وحولها سور خاص بها وفيها مسجد جامع وأسواق كثيرة عامرة.. وإلى الجنوب منها محلة باب البصرة ومحلة الكرخ، بالإضافة إلى محلة دار القز والناصرية والعتابية والكاظمية.. وتتصل بغداد الغربية ببغداد الشرقية بجسرين عظيمين من المراكب المنتظمة المتصلة بسلاسل حديدية..
ورغم عظمة بغداد وعراقتها، فإن كثيراً من قصورها البهية قد تهدمت ومحلاتها قد غدت أنقاضاً بسبب كثرة القلاقل والمنازعات التي قامت بين سكان المحلات المختلفة وبسبب فيضان دجلة.. وبسبب الكثير من الثورات التي واجهها الخلفاء العباسيون على مر العصور.. فلم يبقَ من بهاء بغداد القديم إلا اسمها وذكراها فقط..
بعد وصولهما لبغداد، اضطر سلمة لبيع الحصان الذي يملكانه لتوفير بعض المال بعد أن أنفقا كل ما يملكانه في الكوفة والحِلـّة.. وقد وفر ذلك لهما ما يكفي لتأجير غرفتين في خان متوسط الحجم مع بعض الطعام الذي يكفيهما بالكاد.. وبعد أن أخذ قسطاً وافياً من الراحة، نهض سلمة فجر اليوم التالي وغادر غرفته عازماً على تأدية صلاة الفجر في مسجد قريب قبل أن ينطلق لأقرب سوق بحثاً عن قافلة ربيعة.. ولكن ما إن غادر غرفته حتى سمع جمان تناديه.. التفت ليجدها تقف قرب إحدى نوافذ الخان، بوجه متعب وعينين محمرتين من أثر البكاء كما بدا له.. اقترب منها سلمة متسائلاً "أأنت بخير؟ متى استيقظت؟"
هزت رأسها قائلة "لم يقاربني النوم مع قلقي على أبي.. أأنت ذاهب للبحث عنه الآن؟"
أجابها "بلى.. ابقي في الخان حتى عودتي، فلا أعلم كم سيستغرق مني البحث.."
قالت بلهفة "بل سأبحث معك.. خذني ولا تتركني هنا والقلق يتناهبني وحيدة.. البحث معك أهون عليّ من ذلك.."
بعد تردد قصير، وافق سلمة على اصطحابها معه بعد أن يفرغ من صلاة الفجر.. ولم تكد الشمس تشرق، حتى كانا يجوبان أحد أقرب الأسواق من الخان.. كان السوق متوسط الحجم، عبارة عن طريق ضيق طويل تحفه الدكاكين من الجانبين وتظلله بعض الأقمشة المعلقة أعلاه لتحجب عنه نور الشمس وحرارتها اللاسعة في الصيف.. وقد اكتظ السوق بعدد كبير من البشر في هذا الوقت المبكر، متنقلين بين دكاكينه المختلفة ببضائع متنوعة.. ومن لم يكن يملك دكاناً، افترش الأرض بفراش بسيط وضع عليه بضائعه أملاً في بعض الرزق..
سار سلمة في ذلك السوق وجمان تتبعه بشكل حثيث وهي تدير بصرها بمن يمر بها بتوتر أملاً برؤية وجه أبيها أو بعض من رافقه من العبيد.. ثم تساءلت وهي تلاحظ أن سلمة لم يتوقف لسؤال أي أحد عن أبيها "إلى أين تنوي الذهاب؟"
قال سلمة مشيراً أمامه "هناك دكان أعرف صاحبه وكان مولاي يتردد عليه بين وقت وآخر.. سأذهب لسؤاله مباشرة فقد يكون التقى به عند قدومه لبغداد.."
صمتت جمان وهي تراه يقترب من أحد الدكاكين والذي يحوي بضائع نحاسية متنوعة بين دوارق وآنيات مختلفة الأحجام والأشكال.. ووسطها وقف رجل في أوسط عمره منشغل بتفحص بعض اللفائف الورقية في يده بتمعن.. اقترب منه سلمة ملقياً عليه السلام فرد الرجل عليه السلام دون أن ينظر إليه.. ولما رفع بصره إليه بعد لحظة ورآه بشّ له وهو يقترب قائلاً "مرحباً بعودتك لبغداد يا سلمة.. كيف هو ربيعة؟.. لقد مر زمن طويل منذ جاء لبغداد.."
وجمت جمان حيث وقفت جانباً وهي مدركة من قول الرجل أنه لا يعلم بالتأكيد بما جرى لأبيها، أما سلمة فقد قال له بشيء من الإحباط "ألم تسمع خبراً من مولاي في الأيام الماضية؟ لقد غادر نحو بغداد لكن انقطع خبره في الطريق.."
قال الرجل بدهشة "ألم تعلموا أين ذهبت قافلته؟"
هز سلمة رأسه مجيباً "سمعنا أنه تعرض لهجوم من قطاع الطرق بعد مغادرتهم الكوفة.. لكن لا نعلم ما الذي حل بمولاي وبمن كانوا معه.. وكنت أرجو أن أجده قد لجأ لبغداد.."
أبدى الرجل أسفه لما يسمعه عن ربيعة وهو صديق عزيز له، فطلب منه سلمة أن يخبره بأي خبر يصله عن ربيعة، وأخبره باسم الخان الذي أويا إليه في بغداد.. ثم غادر وجمان تتبعه بصمت ووجوم حتى غادرا السوق.. عندها قال سلمة "سنبحث في سوق آخر أو في أي خان قريب.. عسى أن نعثر لمولاي على أثر"
هزت جمان رأسها موافقة دون أن تعلق، فقال سلمة "سيكون البحث منهكاً.. من الأفضل أن تبقي في الخان حتى أعود لك"
غمغمت جمان "لا.. سأذهب معك.."
صمت سلمة وهو مشفق عليها.. هو شبه واثق من عدم جدوى هذا البحث، لكن كيف يقطع الأمل في قلب جمان بهذه السرعة؟.. كيف يصدمها وهي لم تتعافَ بعد من الصدمات السابقة؟..

***********************

استمر سلمة ومعه جمان في بحثهما في عدد من أسواق وأحياء بغداد.. وبعد يومين من البحث غير المجدي، وقف سلمة زافراً في جانب أحد أحياء بغداد حيث انتهى بهما المطاف، بينما جلست جمان جانباً وهي تخفض وجهها بحزن ظاهر.. رغم اقتناع سلمة بعدم جدوى ما يفعلانه، إلا أنه استاء لمظهر الحزن على ملامحها، فقال مهوناً عليها "غداً سأتوجه لمحلة الريان وأبحث عنه.. ربما عليك البقاء في الخان لترتاحي من مشقة السير معي.."
غمغمت جمان بمرارة "وما الفائدة؟.. لم نعثر عليه رغم كل ما فعلناه.. يبدو أننا تعلقنا بأمل زائف.."
قال سلمة بضيق "لا داعي لهذا اليأس الآن.."
فقالت بابتسامة ساخرة "ألا يمكنني ذلك بعد كل ما جرى؟.. ما الذي يدعوني للتشبث بأي أمل؟.."
تنهد سلمة وهو يراها تعود ليأسها من جديد، وجمان تحدق في السماء الزرقاء من فوقها وقد عزفت عن الحديث.. ما الذي ستفعله الآن؟ وما الذي سيحدث لها في أيامها القادمة بعد كل ما جرى؟.. يكفيها انتظاراً وأملاً بما قد لا يأتي، ويكفيها ما ساقت سلمة إليه من عذاب معها طوال الأيام الماضية.. ألم يكفِ ما بذله لأجلها في القصر؟ ألم يكفِ ما جابهه في القافلة التي هاجمها التتار؟ ألم يكفِ بحثه عنها لعدة أيام دون راحة؟.. حتى متى سيقف معها ويحميها من مصير مشؤوم لتقع في آخر أكثر شؤماً؟..
ولما انتبهت لمراقبة سلمة لها، قالت دون أن تنظر إليه "لِمَ لمْ ترحل حتى الآن يا سلمة؟"
قال بتقطيبة ظاهرة "إلى أين؟ كل الأماكن بالنسبة لي سواء.. ما يهمني هو البحث عن مكان يؤويك أنت"
قالت وهي تحدق في السماء من جديد "أنت حر.. أليس كذلك؟ لِمَ بحثت عني طوال اليومان اللذان افترقنا فيهما دون أن تفكر بالتخلي عني والرحيل؟ كان بإمكانك العودة لموطنك في تلك الفترة ونسيان كل شيء عني.."
نظر لها سلمة بصدمة وهي تضيف مطرقة "منذ صغري وأنا أتمنى أن أراك تعود لموطنك.. أن أراك سعيداً دون ادعاء.. وقد أتعبتـُك معي في قضية لا دخل لك بها.. ألم يَـئِـنِ الوقت لتعود لعائلتك؟"
قال باعتراض "لكني لن أتركك أبداً، فلا تشغلي بالك بي"
نظرت له محاولة إخفاء اضطرابها لقوله.. فرغم أن هذا ما تتمناه، وتدعو الله به دوماً، إلا أنها واثقة أنها تظلمه كثيراً بذلك.. لذلك أجبرت نفسها على أن تقول بهدوء "لا تسعدني رؤيتك تقاسي بسببي.. لقد وصلنا لبغداد ولن أجد مكاناً أأمن لي منها.. فلم يعد هناك داعٍ لبقائك معي"
قال سلمة باستنكار "أنت تهذين.. ألم تطلبي مني قبل وقت قصير ألا أتخلى عنك؟ ما الذي تغير؟"
أدارت وجهها بعيداً بصمت لتخفي تعابير وجهها بينما أضاف مقطباً "مهما قلت لي.. لا يمكنني تركك أبداً.."
فغمغمت بأسى "لم يعد هناك ما يجمع بيننا.. وأنت قاسيت الكثير بسببي.. فبم ستستفيد من بقائك معي؟.. ارحل أرجوك.."
وجدته يخفض رأسه متجنباً النظر إليها والمرارة واضحة في ملامحه وهو يقول بصوت متألم "أتطلبين مني الرحيل؟.. رغم فزعي مما قد يجري لك كل يوم؟.. رغم خوفي من أن أفقدك في أي لحظة؟ لشدّ ما أنت قاسية"
غمغمت جمان بوجوم لم تستطع كبته "على الأقل، أتمنى أن تلتقي بعائلتك مرة أخرى.."
وأضافت وقد تهدج صوتها "لقد فقدتُ عائلتي كلها، ولست أجد ذلك أمراً يطاق.. على الأقل، قد تقدر أنت على الالتقاء بعائلتك"
فرفع سلمة بصره إليها قائلاً بكدر "لمن تريدين مني العودة؟ لأب باعني من أجل حفنة من المال ليطعم الأفواه التي يرعاها؟.."

"أبـــــي.. لم تفعـــل هـــذا؟.. ما الــذي فعـــلتــــــه لأستحــــق هــــــذا؟.."

"لأم تشاغلت بإطعام صغير لها ولم تهتمّ حتى بالنظر إليّ أو بوداعي؟.."

"أمـــــــــي.. أرجــــــوك.. لا تسمــــحي لهــــم بأن يأخـــــذوني.. أمــــــــــــــــي..."

"لإخوة غلبتهم سعادتهم برؤية الطعام يوضع على طاولتهم عن الحزن لرحيلي؟"

"أرجــــوكم.. أنــــا لا أريـــد الذهــــاب.. لا أريد الرحيل.."

نظرت له جمان بصدمة وهي تغطي فمها بيديها، بينما أضاف سلمة بصوت مرير "لست أدري لِمَ اختارني أبي أنا من بين إخوتي.. ألأنه يكرهني؟ لم أعرف جواب هذا السؤال بتاتاً.. كل ما أعرفه أنني لم أكن شيئاً ذا بالٍ عندهم، ربما كان الطعام بالنسبة لهم أثمن وأكثر أهمية، لذلك باعوني بثمن بخس.."
والتمع الرجاء في عينيه وهو يضيف بهمس "جمان، أنتِ عائلتي الوحيدة.. لما أتيت لهذه البقاع، شعرت بغربة تامة وضياع شديد.. لكن لما رأيت اهتمامك بي وحزنك لحزني منذ قدومي، شعرت أنني لست شخصاً معدوم الأهمية كما رسخ في ذهني منذ غادرت موطني.. كلما رأيت الابتسامة التي تمنحينني إياها، شعرت أن ما جرى لي ربما لم يكن بذاك السوء، وأن حياتي قد تصبح أفضل في المستقبل.. لذلك لن أطيق الرحيل بعيداً عنك أبداً"
شعرت جمان بالحزن عليه والشفقة لما جرى له في سن صغيرة دون أن تقدر على التفوه بكلمة، بينما رفع سلمة بصره إليها وواجه عيناها المتسعتان بعينين حملتا رجاءً عميقاً وهو يقول "لا أطلب منك أكثر من السماح لي بالبقاء قربك وحمايتك لآخر نَفـَس يتردد في صدري.. فلا تستكثري عليّ ذلك"
أبعدت جمان بصرها عنه وهي تتمالك رجفة شفتيها بصمت.. لم تكن تعتقد وهي تراه يبكي في صغره أن ما مرّ به كان بهذه القسوة.. لطالما شعرت أنه لابد عائد لموطنه في يوم ما، ولابد أن يكون سعيداً بذلك.. لكن الآن، شعرت أنه وحيد في هذا العالم لا يملك ما يسميه موطناً.. ولذا يراها عائلته الوحيدة بعد أن عاش عمراً في قصر أبيها..
سمعته يهمس "جمان.. لا تطرديني مرة أخرى فلست أطيق ذلك.."
خفضت بصرها وهي تغمغم بارتباك "لست أقصد طردك بتاتاً.. لكن ما الذي ستجنيه من البقاء معي؟ ألا تريد أن تعيش حياتك كما تشاء دون القلق لأمري؟.. أنت حر.. يمكنك أن تفعل ما تريده.."
سمعته يقول دون لحظة تردد "حياتي معك ولا حياة أخرى لي.."
لا تدري لِمَ خفق قلبها لكلماته تلك، ولم تجرؤ بتاتاً على النظر لوجهه مرة أخرى ومجابهة عينيه.. شعرت بمشاعرها تتحرك بشدة نحو سلمة، وهذا شيء لم تتوقعه البتة في السابق.. كيف لها ألا تفعل ذلك الآن بعد كل مواقفه معها وبعد حرصه على حياتها وراحتها؟.. كيف لها ألا تفعل ذلك وهو قد أظهر من الرجولة ما لم يفعله الرجل الحرّ الشريف ابن الشريف؟..كيف لها ألا تفعل ذلك وهو يملك الصفات التي قد تتمناها أي امرأة في الرجل في هذا الزمن المضطرب؟..
همست بعد لحظة تردد وكأنها تحاول التيقن من مغزى كلماته التي تركت صدىً في قلبها "ما الذي تريدني أن أفهمه من قولك هذا؟.. أنت تحيّرني بحديثك.."
صمت وهو يتأمل ملامحها المرتبكة، ثم غالب تردده الذي عقد لسانه طوال السنين التي مرّت وهو يراها أمامه دون أن يجرؤ على تجاوز الحواجز بينهما.. هو حرّ.. أليس كذلك؟.. ما الذي يمنعه من البوح بمكنون نفسه حتى لو صدّته جمان واستنكرته؟.. ما الذي يمنعه من أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً قبل أن يكون صادقاً معها؟..
عندها قال وهو خافض رأسه "قد يثير ما أقوله سخريتك واستنكارك.. لكني لا أريد منك استجابة له..... جمان.. لطالما كنتِ عزيزة عليّ، ولطالما كنتِ قريبة من قلبي.. منذ سنين عديدة وأنا أحمل لك حباً جارفاً قد لا يمكنك تخيله، لكني حبسْت ذلك الحب ولم أفصح عنه خِشْيَةً على نفسي من الصدّ.. لم يكن من قدْرِكِ أن أصارحك بما أحمله لك وأنا عبد أبيك، لكن الآن بعد أن تغيّرت الأحوال أرجو ألا يثير قولي هذا اشمئزازك مني ومما حبسته طويلاً في صدري.."
احمرّ وجه جمان بشدة وهي تخفضه دون أن تجرؤ على النظر نحوه، فسمعته يقول "لا أطلب منك استجابة لمشاعري تلك.. يكفيني أني قريب منك.. ويكفيني أن مثل هذه المشاعر لا تثير سخريتك مني.."
صمتت جمان بوجه قد ملأته مشاعر شتى، مشاعر أعجزتها حتى من الرد على كلماته تلك.. هي سعيدة لمشاعره أيما سعادة، سعيدة بحيث تعجز عن التفوه بكلمة.. كان سلمة دائماً ذا مكانة في عالمها، ولم تفكر يوماً أنه قد يغادره لأي سبب.. كان وجوده الدائم والموثوق به مما منعها من رؤيته حقاً كما يجب أن تفعل.. أما مع هذه الظروف التي مروا بها، فقد استطاعت أن ترى أي شخص هو حقيقة.. استطاعت أن تعرف معدنه الذي قلما تجد مثله، وعرفت أنه شخص نادر في هذا الزمن المتراخي.. فكيف لا تسعد بمشاعره تلك؟..
***********************

~ بعيدا عن الخيال (١٠) ~
الجواري والعبيد


كثرة الجواري والعبيد في أسواق بغداد في هذا العصر، يعود أولاً إلى الغنى المادي الفاحش الذي تراكم لدى الطبقة العباسية الحاكمة بسبب تراكم مغانم الحروب والعائدات المالية والعينية المجلوبة إلى بغداد من جميع أنحاء الدولة. فضلاً عن كثرة الحروب التي كان على الدولة العباسية خوضها في أصقاع مختلفة مما أدى إلى اتساع الدولة وانتشار تجارة الرقيق انتشاراً واسعا. علماً أن هؤلاء الرقيق، من إناث وذكور، لم يكن بمعظمهم من الأسرى، بل إن غالبيتهم العظمى أطفال قد باعهم أهلهم إلى النخاسين من أجل إنقاذهم من الفقر والجوع، وعلى أمل أن يحالفهم الحظ في حياة اخرى. وفعلاً إن الكثير من هؤلاء الرقيق قد استثمروا أوضاعهم الجديدة فصعدوا بالسلم الاجتماعي وأصبحوا أعضاء في الطبقة الحاكمة نفسها، بل إن بعضهم أصبحوا سلاطين، ومن أشهرهم (كافور الإخشيدي) في مصر، كذلك أمهات وزوجات الخلفاء اللواتي كن جواري، ومن أشهرهن (الخيزران) أم (هارون الرشيد).

((أثر الجواري في العصر العباسي)) هند يوسف السامرائي

***********************

bluemay 14-02-16 03:13 PM

رد: رحلة ضياع
 
فصول راااائعة


عشت على اعصابي وانا ارى كيف تنقلت جمان من يد ﻷخرى ..

بصراحة جمان ابدت شجاعة وبسالة لا تنكر ،، استماتت في هروبها من كل من التتار والقطاع ..



سلمة .. باح اخيرا بما يعتمل في صدره ولا شك بأنه لاقى صدى عند جمان .


يا ترى ماذا يخبئ القادم لهم ..


سلمت يداك كنا منقطعة في الفترة الماضية ولم استطع متابعتك فالمعذرة عزيزتي.


تقبلي مروري وخالص ودي


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 14-02-16 04:05 PM

رد: رحلة ضياع
 
إذن من حسن حظك أنك استطعت قراءة الفصول بشكل متواصل
كي لا تبقي على أعصابك فترة طويلة

لا تزال الأمور معلقة بين سلمة وجمان
وسترين في الفصل القادم كيف ستتغير أمور كثيرة بينهما مع التطورات الجديدة

لا داعي للاعتذار أنا سعيدة بعودتك وأعذرك لهذا التأخير
فقط أتمنى أن تكوني بخير وعافية

أنتظر رأيك بالفصول القادمة بإذن الله تعالى

مملكة الغيوم 14-02-16 10:56 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
فصل هادئ خيال مليئ بالمشاعر ما بين ياءس وامل وحب ومشاعر مشتته
البحث عن ربيعه انهك سلمه واصاب جمان بالياءس فسلمه يبحث حتى لا يكدرها بالحقيقه وهى فى قرارة نفسها تدرك ان اباها قتل ولكن الامل يراودها من جديد في كل مدينه يذهبا اليها
ولكن عندما انتهى بحثهم فى بغداد بنفس النتيجه انتهى هذا الامل ولم يبقى الا معرفة حقيقة اهتمام سلمه بها والبحث معها رغم انها اعطته حريته ف الحياه وفى تركها ولكن يبقى قلب المحب دائما يهيم حول من احب فهو لا يستطيع الدوران الا فى فلكها فهى بالنسبه له الحريه والاهل ومنتهى الامل وما كان اسعد من حالها باعترافه لها بالحب الذى نما وكبر معه على مدار السنوات وفى اعتقادى انها تكن له نفس المشاعر واللتى لم تنتبه لها الا بعد الفراق عنه فى طريق البحث
تجارة العبيد والجوارى مازالت موجوده عزيزتى لكن بطرق مختلفه ومسميات اخرى الم تسمعى بتجارة الرقيق الابيض [ العهر وال*****] وايضا تجارة الاعضاء فالسذج من الفتيات يغرر بهم وينتهى بها المطاف فى بيت من تلك البيوت اللتى يباع فيها كل شيئ حتى ماء الوجه
فلك حقبه زمنيه مسا وئها ولكل زمن تجاره
فصل جميل وممتع فى انتظار الباقى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 15-02-16 11:26 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

هدوء الفصل لا يعني انتهاء المآسي
ومن يعلم ما الذي سيجري في الفصول السابقة
مشاعر جمان بحاجة لبعض الوقت لكي تتبلور بشكل واضح
لأن سلمة لم يكن يوماً في مجال إبصارها رغم تواجده المكثف في حياتها
أما سلمة، فستعرفين مشاعره متى بدأت وكيف تبلورت لتصبح ما هي عليه مع انتهاء هذه الرواية
في الواقع، الفصل الإضافي مخصص لسلمة بالذات، وسيشرح الكثير من الأمور

تجارة الرقيق لم تتوقف يوماً ولن تتوقف يوماً
البشر يجدون سبلاً كثيرة للاستفادة من الأضعف والإثراء على حسابهم
ومثل هؤلاء قساة القلوب لا يمكن القضاء عليهم حتى لو تظافرت الحكومات لذلك

سأضع الفصل القادم حالاً بإذن الله

عالم خيال 15-02-16 11:32 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الحادي عشر ~


في أحد أسواق بغداد الشعبية المزدانة بمختلف أصناف البضائع ومختلف أنواع البشر ومزيج غريب من الأصوات والألسنة، سار سلمة مع جمان التي أصرّت على مرافقته في بحثه وسؤاله عن أبيها في هذا اليوم أيضاً.. لقد أمضيا عدة أيام يبحثان في أحياء المدينة الكبيرة وأسواقها المختلفة دون حظ يذكر.. لكنهما لم ييأسا وسلمة يسأل من يمرّ بهما عن أي قادمين لبغداد هرباً من التتار أو من قطاع الطرق، لكنه في كل مرة لا يجد جواباً شافياً..
كانت جمان تسير قربه بقلق واضح إنما بصمت تام وهي تتجنب النظر إليه ما استطاعت.. نظر لها سلمة بطرف عينه قبل أن يدير بصره فيما حولهما وهو يكبت قلقه.. فبعد أن صارحها بمشاعره بشكل واضح، ورغم الانفعال الذي بدا على ملامحها والاحمرار الذي غزا خديها، إلا أنها التزمت الصمت وهي تبعد بصرها عنه.. كان سلمة مستعداً لأي رد فعل إلا الصمت.. هذا الصمت التام الذي يثير حيرته وتوجسه.. لا يدري سبب ذلك، لكنها لا تكاد تبادله الحديث الآن.. أهي تبغضه؟.. ربما هي كذلك لكنها تخشى من صدّه بشكل ظاهر لئلا يتركها وحيدة وهو أكثر من تعتمد عليه.. لكنها لابد أن تفصح عن بغضها له بعد أن تعثر على أبيها.. تنهد سلمة وهو يغمغم لنفسه بأسى "لابد أنها كذلك.. رباه، ما الذي جنيته على نفسي؟.. أما أمكنني مسك لساني عن التفوه بما قلته؟"
سمع في تلك اللحظة صوتاً يهتف من خلفه "سلمة.. أهذا أنت؟"
التفت سلمة بدهشة خلفه ليرى شاباً يكبره بقليل، على شيء من السمرة والطول، ورغم التعب والإرهاق البادي على وجهه فقد تعرفه سلمة بسرعة وهو يقول بدهشة "جُنَيْد؟"
وأسرع إليه يعانقه بسرور وهو يقول "ظننتك قد قضيت نحبك مع من في القافلة.. ما الذي جاء بك إلى هنا؟"
ونظر إلى جمان التي وقفت قريباً بقلق، ثم تساءل من جديد "وأين مولاي؟ ألم تكن معه؟"
نظر لهما جنيد بدوره متسائلاً بقلق "بل ما الذي جاء بك هنا؟ ولم مولاتي معك أيضاً؟"
فقالت جمان بإلحاح "تحدث يا جنيد.. أين أبي؟ أهو هنا في بغداد؟"
قال جنيد "طبعاً هو هنا في بغداد.. لقد تركته في الدار وأتيت لشراء ما نحتاجه، ولم أتصور أنني قد أقابلكما هنا.."
تنهد سلمة بارتياح وهو يغمغم "حمداً لله.. لقد قيل لنا إن القافلة قد أبيدت عن بكرة أبيها.."
نظر لجمان فوجد دموعها تسيل على خديها وهي تقول لجنيد بصوت مرتجف "أهو هنا حقاً؟.. أين هو؟ خذني إليه"
أسرع جنيد أمامهما وهما يتبعانه.. ورغم سعادة سلمة بالعثور على ربيعة، إلا أن القلق قد عاد إليه وهو يخشى من ردة فعله عندما يعلم بما جرى للقصر.. ترى، ما الذي سيقوله عن كل ما جرى لهما؟..

***********************

نظر سلمة عبر باب غرفة تلك الدار البسيطة لجمان التي بكت بحرقة على صدر أبيها وربيعة يربّت على رأسها ويحاول تهدئتها.. كان ربيعة قد استأجر داراً في بغداد بما بقي معه من مال قليل، وقضى الأيام الماضية فيه مع عبده جنيد الذي اعتنى به وجلب له من يحتاجهم من أطباء ومعالجين لعلاج الجراح التي خلفتها له مواجهتهما مع قطاع الطرق..
التفت سلمة إلى جنيد الذي كان يقف خلفه قائلاً "من كان يصدق أن نلتقي بكم مجدداً في بغداد؟.. لقد بدأت أفقد الأمل في العثور عليكم بعد كل ما مررنا به.."
قال جنيد "لقد نجوت مع مولاي بالكاد من ذلك الهجوم على القافلة.. لكنه كان جريحاً، فلم أقدر على العودة به إلى القصر مع جراحه تلك.. لذلك لم أجد مناصاً من القدوم به إلى بغداد ليعالج بواسطة أفضل أطبائها..”
وأضاف هازاً رأسه "لقد قضى مولاي أياماً عصيبة في بغداد بانتظار أن يسترد عافيته.. كان يودّ العودة للقصر منذ اللحظة الأولى، وقلقه على مولاتي شديد.. لكن جراحه منعته من ذلك، ولم أتمكن من تركه والعودة للقصر بدوري لأنني الوحيد الذي نجا من بقية القافلة.."
نظر سلمة للدار البسيطة ذات الأثاث الخالي من أي زينة، ثم تنهد قائلاً "شتان بين ذاك القصر وهذه الدار.. لكن للأسف عودتنا للقصر الآن مستحيلة.. خطر التتار لم يَزُل بعد.. القلعة أيضاً قد غدت خراباً ولا أمان فيها.."
غمغم جنيد "ربما كان على مولاي أن يفكر في الاستقرار في بغداد.. هذه المدينة أكثر أمناً والعيش فيها ليس سيئاً.."
علق سلمة وهو يسمع صوت بكاء جمان بوضوح "هو أكثر أمناً لها بالتأكيد.."
بعد أن تمالكت جمان انفعالاتها، وجلست قرب أبيها على سريره وهي تمسك يده بيدها ودموعها معلقة بأهدابها، قال ربيعة وهو يضغط على يدها "أخبريني يا ابنتي.. ما الذي جرى لكم منذ غادرتُ القصر؟ تبدين في أسوأ حال ممكنة"
خفضت جمان رأسها وهي تهمس "عصيّ عليّ أن أتحدث عن هذا الأمر يا أبتاه.. اسأل سلمة عن هذا فهو سيخبرك به أفضل مني.."
تنهد ربيعة وهو يقول "لابد أنك قاسيتِ الكثير يا ابنتي.. ما كان علي مغادرة القصر في مثل تلك الأوقات.."
قالت جمان "لا تـَلـُم نفسك على هذا.. ما جرى قد جرى وهذا قد كـُتِب علينا.."
نظر لها ربيعة متعجباً من أمرها، فلم يرها من قبل تتحدث بعقل بل كانت تستسلم لأهوائها وعواطفها أينما قادتها.. التفت ربيعة نحو الباب المشرع ونادى سلمة الذي جلس مع جنيد في صحن الدار.. عندها أسرعت جمان تجفف دموعها بشكل تلقائي وقد كرهت أن يراها سلمة الذي دخل الغرفة بصمت.. فابتدره ربيعة قائلاً "سعيد أنا برؤيتك يا سلمة وبعودة جمان لي.. يبدو أنكما قد واجهتما أهوالاً في الطريق إلى بغداد.. لكن أين البقية؟ ولِمَ غادرتما القصر وحيدين؟.."
بقي سلمة واقفاً تأدباً أمام ربيعة، وبدأ إخباره بكل ما جرى منذ سمع بأخبار التتر من تلك القافلة وحتى وصولهما بغداد ولقائهما به.. ومع كل حادثة يسردها سلمة كان ربيعة ينظر له مصدوماً، بينما خفضت جمان وجهها وهي كارهة لاستعادة تلك الذكريات البغيضة التي تجعل صدرها يضيق بشدة..
ولما فرغ سلمة من حديثه، التفت ربيعة لجمان التي نظرت له بصمت.. فقال بتأثر وهو يضمها لصدره من جديد "حمداً لله على عودتك لي يا ابنتي.. كيف جرى كل هذا في تلك الأيام القليلة؟.. الآن أشعر بندم أكبر لرحيلي وتركك وحيدة"
صمتت جمان وهي تحاول ألا تعاود البكاء من جديد.. بينما قال ربيعة لسلمة الذي وقف بصمت "شكراً لك يا سلمة لكل ما فعلته ولوفائك لي.. عندما ضممتك لقصري منذ سنين طوال تأملتُ فيك خيراً، ولم يَخِبْ ظني بك.. أنت خير من بقية أولئك العبيد كلهم، ولا أظنني سأجد خيراً منك أبداً.."
شعرت جمان بشيء من التوتر لمغزى قول أبيها، فلم تملك نفسها واندفعت تقول "أبي.. سلمة ما عاد عبداً.. لقد أعتقـتـُه.."
نظر لها ربيعة بدهشة بينما صمت سلمة تماماً، فقال ربيعة بتعجب "لكنك لا تملكين الحق بذلك.. أنا مالكه، وأنا من يعتقه.."
فقالت جمان بتوتر "لكنه أنقذ حياتي عدة مرات.. وهو قد استحق ذلك.."
قال ربيعة "مهما يكن.. أنا لم أمنحه حريته بعد، وأنا صاحب الحق الوحيد بفعل ذلك.. أليس كذلك يا سلمة؟"
نظرت جمان بتوتر نحو سلمة لتجده يخفض بصره وهو يقول بهدوء "أنا عبدك وسأظل كذلك يا مولاي.."
اتسعت عينا جمان بصدمة لم تملكها، بينما ابتسم ربيعة قائلاً "كنت أثق أنك لن تخذلني أبداً، وأنا لا يمكنني التخلي عنك بتاتاً.. أسعدني ما صنعته لجمان وحفاظك على حياتها.. عندما أستعيد مكانتي وأموالي التي فقدتها، فسأجزل لك العطاء وأرفع مكانتك بين رجالي.. فأنت تستحق ذلك.."
نهضت جمان وهي تقول بغضب "لِمَ أنت قاسٍ بهذه الصورة؟ أظننته سعيد بكونه عبداً عندك؟.. ألا يمكنك أن تطلقه وتعيد له حريته نظير كل ما قدمه لي ولك؟.. ألا تستطيع الاستعاضة عنه بأي عبد آخر؟.."
التفت ربيعة إليها قائلاً بهدوء "لا تتدخلي في أموري يا جمان.. بعد موتي، وبعد أن يصبح سلمة عبداً لكِ، يمكنكِ إعتاقه أو فعل ما تشائين به.."
نظرت جمان لسلمة لتجده خالي الانفعال كما عهدته سابقاً وإن تجنـّب النظر إليها مباشرة، فخفضت جمان بصرها باضطراب ومرارة.. ثم اندفعت خارجة من الغرفة ومن الدار كلها والدموع تحتشد في عينيها.. من القسوة معاملة سلمة كشيء يتم نقله من شخص لآخر.. رغم أنها نشأت في عالم يعرف العبيد والجواري كشيء مسلـّم به، لكن سلمة شأن آخر.. بعد كل ما فعله، أيمكنها التعامل معه كعبد كما في السابق؟.. أيمكنها أن تتناسى فضائله عليها منذ تلك الليلة التي كادت تـُـقتل فيها أو بأحسن الأحوال تـُسْبى وتستعبد كجارية بدورها؟.. كيف يمكن لأبيها أن يجازي سلمة على حياته التي كاد يفقدها عدة مرات وهو ينقذها من كل الأخطار التي مرت بها بأن يعيده للعبودية بكل بساطة؟..
في تلك الأثناء، بقي سلمة صامتاً بين يدي مولاه الذي قال بابتسامة "حقاً لم أخطئ في الثقة بك يا سلمة.. فلم تدّخر وسعاً في إنقاذ جمان رغم أن أي عبدٍ آخر قد يفرّ بجلده تاركاً مولاته لمصيرها في مثل تلك الأحوال.."
غمغم سلمة "لكني لم أكن لأفعل ذلك البتة يا مولاي.."
فقال ربيعة بابتسامة متسعة "لا تقلق.. لن تندم على ذلك.. بعد عودتنا واستعادة كل ما فقدته سأرفعك مكانة عالية، وأمنحك داراً خاصة بك قرب قصري الجديد.. وسأقوم بتزويجك من أي جارية تشاء.. فلتعلم أن من يسدي إليّ معروفاً لا يندم أبداً.."
شعر سلمة بألم في صدره لكلمات ربيعة التي كانت كخناجر تضربه بقوة، وكأنه يخبره صراحة أن عبداً مثله لا يستحق مجرد التفكير في ابنة مولاه.. لكنه أحنى رأسه متجاوزاً غصته ولم يعترض وهو يقول "سأظل ممتناً لك مدى الحياة يا مولاي.."

***********************

بقيت جمان جالسة فوق منحدر صغير يطل على ذلك الحي من أحياء بغداد تراقب الصبية في لهوهم وسكان الحيّ في غدوهم ورواحهم منشغلين بمختلف الأعمال.. تنهدت وهي تراقبهم بصمت.. شتان بين هذه الحياة وما رأته في المدن التي ابتلاها الله بمحنة التتار.. حياة كهذه تبدو وادعة آمنة بشكل بدا لها قاسياً..
تنهدت من جديد وهي تشعر بمرارة.. رغم ما رأياه في طريقهما إلى هنا، ورغم ما واجهه أبوها، لا يزال يتصرف بأنانية ويستبقي سلمة كعبد رغم فضائله عليها، وعلى أبيها الذي بالتأكيد لن يسرّ لو أصابها مكروه.. كيف يمكنه ذلك؟ كان يجب أن يكافئ سلمة على كل ما فعله، لا أن يعيده لظلم العبودية التي لم يكن له يد فيها..
انتبهت من أفكارها عندما رأت سلمة يقترب ليقف قريباً يراقب المنظر الذي تتطلع إليه بصمت.. أدارت جمان وجهها جانباً بغصة ووجهها يحمرّ بشدة، خجلاً منه لأنها أعطته أملاً لم يَدُمْ طويلاً.. في تلك اللحظة كان سلمة آخر من تتمنى رؤيته.. كيف لها أن تواجهه رغم إدراكها التام بما يشعر به من ضيق من تلك العبودية التي لا يجد منها فكاكاً؟..
سمعته يقول في تلك اللحظة "هل أطلب منك نسيان كل ما قلته لك قبل لقائنا بمولاي؟"
نظرت له بشيء من عدم الفهم، ثم تذكرت مشاعره التي صرح لها بها في ذلك الوقت.. فغلبتها رجفة في شفتيها وهي تهمس "ماذا تعني؟"
واجه سلمة عيناها للمرة الأولى منذ اجتمعا بأبيها، وقال بهدوء "ليس من مقامي قول شيء مما قلته لك يا مولاتي.. ولا أتمنى الإساءة لك بـــ........"
صاحت جمان "لا تنادني مولاتي..."
صمت دون أن يعلق وهي تنهض واقفة وتقول بانفعال "أنا لست مولاتك.. وأنت لست عبداً، حتى لو أصرّ أبي على ذلك.. لا تعاملني بهذه الطريقة بتاتاً وإلا لن أسامحك أبداً"
أشاح سلمة بوجهه محاولاً تجاوز غصة في حلقه، بينما قالت جمان بصوت مرتجف "تلك المشاعر لا يمكن وأدها بسهولة لمجرد أنك ترى نفسك لست أهلاً لي.. فكيف تطلب مني نسيانها؟"
غمغم سلمة "يسوؤني أن أشعر أنني تعدّيت حدودي معك.. ربما ما كان يجب أن أقول ما قلته سابقاً.."
همست جمان "لكنني كنت أشد سعادة بها مما قد تتصور.."
لم يلتفت سلمة نحوها وهي تضيف مغالبة الحرج الذي تشعر به "لطالما كانت لك مكانة عندي ربما كنتَ جاهلاً لها.. لكن قربك الشديد مني منعني من رؤيتك حقاً وإدراك قيمتك الحقيقية، ولم يكن ذلك لأنك كنت عبداً فلم يكن لذلك من أهمية عندي.. لكن، بعد ما رأيته من شجاعتك وصفاتك التي لم يملك الآخرون ربعها، ربما كنتُ في قرارة نفسي أتمنى أن أحظى بإعجابك وحبك.. وبعد أن سمعت تلك الكلمات منك بوضوح، غلبني خجل شديد منعني من أن أظهر لك قبولي لمشاعرك تلك.."
رأته يخفض وجهه بانفعال لم تخطئه وهي التي تعرف لمحاته كلها.. فتقدمت خطوة منه وهي تهمس "ألم تدرك قدر سعادتي بكل كلمة نطقتها في ذلك اليوم؟.."
فوجئت به يقول بصوت هادئ ظاهرياً "لكني أطلب منك حقاً نسيان كل شيء.. فهذا الحديث لم يعد له أي معنىً يا مولاتي.."
ضغط على الكلمة الأخيرة رغم تحذيرها السابق وكأنه يؤكد على معناها، ثم استدار مغادراً تاركاً جمان تقف بصدمة وألم شديدين.. ولما غاب عن بصرها دون أن يلتفت إليها لمرة واحدة، أخفت جمان وجهها بيديها وهي تهمس بألم "لِمَ تلومني على أمر لا أملك منه شيئاً؟.."

***********************

أمضت جمان مع أبيها عدة أيام في بغداد الهادئة هدوءاً أشعر جمان بغرابة.. فمع كل الأحداث التي جرت في مناطق متفرقة من البلاد، مازالت بغداد هادئة وكأن الأمر لا يعنيها.. ومع كل القتلى الذين شربت الأرض من دمائهم، مازال أهل بغداد يضحكون ويتشاجرون في الأسواق ويقيمون حفلات لهوهم وأنسهم..
ظلـّت جمان تراقب ما يجري في الحيّ حولها وغصة في حلقها تؤلمها كلما سمعت عن أحد مواكب الخليفة التي يبالغ في زينتها وفي بذل المال لتجهيزها.. تشعر بالأسى على من مات ولم يذكره أحد أو يحزن لقتله.. ألهذه الدرجة لم يعد أحد يبالي؟..
وقفت في يوم قرب النافذة وهي ترى في دار قريبة استعدادات أصحابه لزفّ ابنة لهم لزوجها.. كان السرور واضحاً على الوجوه وبعض جيرانهم قد أتوا للمشاركة ببهجة لا يمكن إغفالها.. تنهدت جمان وهي عاجزة عن فهم ذلك.. أولئك الذين قتلوا دماؤهم لا ثمن لها؟..
رأت في تلك اللحظة سلمة عائداً من مهمة أرسله فيها أبوها، وهو يمشي خافض الرأس كعادته بتقطيبة ظاهرة.. عادت المرارة لجمان وهي تراقب سلمة بحزن.. لقد امتنع عن الحديث معها منذ ذلك اليوم، ولا يخاطبها إلا بمولاتي في كل مرة.. رغم إنكاره، إلا أنها تشعر به يلومها على ما جرى، ولأنها منحته أملاً بحرية لم يستطع الحصول عليها حقاً..
انتبهت لخطوات خلفها، فاستدارت لترى ربيعة قادماً من إحدى الغرف حتى وقف قريباً منها ينظر من النافذة بدوره.. ولما رأى ما يصنعه جيرانه، غمغم "وددتُ لو كنتِ في موقع تلك الفتاة.. لكن ربما لم يَفـُت الأوان بعد.."
نظرت له جمان متسائلة، فقال بابتسامة "فور أن تعود الأمور لسيرتها السابقة، سنكمل إجراءات زفافك من عامر.. لقد تأخر الأمر كثيراً"
نظرت له جمان بشيء من الصدمة وعدم الفهم، ثم قالت بانزعاج "عامر مرة أخرى؟ أمازلت راغباً بمصاهرته بعد كل ما فعل؟"
قال ربيعة محاولاً تهوين الأمر "كل إنسان يتفوه بما قد لا يقدّر عواقبه في أوقات الضيق.. أنا متأكد أن عامر لم يقصد أي........"
قاطعته جمان صائحة "لقد طردني بشكل صريح.. أعلنَ عن ندمه لقبول الزواج بي ووصفني بأنني شؤم عليه.. أي شيء تريد أكثر من ذلك لتعرف أنه شخص خسيس؟"
قال ربيعة بصرامة "لا يقنعني ذلك.. ألا ترين أنه استطاع حماية أهله وأموال أبيه بخروجه قبل وصول التتار؟ ذلك تصرف حكيم يجعلني مطمئن لوجودك عنده.."
صاحت جمان بغضب "ذاك الجبان قد هرب بأمواله ولم يعبأ بما يجري لمن خلفه.. لم يعبأ حتى بما قد يجري لي.."
لم يبدُ أن ربيعة استمع لكلمة مما تقوله وهو يقول بشكل قاطع "لن أجد أفضل من عامر زوجاً لك بتاتاً.."
استدارت جمان لتغادر وقد غلبها انفعالها وغضبها.. فرأت على الفور سلمة الذي كان قد دخل الدار دون أن تنتبه ووقف قريباً من الباب بصمت بانتظار انتهاء حديثهما.. كانت ملامحه هادئة كالعادة لا تُبدي أي انفعال، رغم أنها متأكدة أنه سمع كل ما قيل.. فقالت جمان بصوت مرتجف "ألا تملك ما تقوله في هذا الأمر يا سلمة؟"
رأته يقطب بشيء من الضيق لأنها تجرّه بهذا السؤال لحوار لا دخل له فيه، بينما قال ربيعة بشيء من الحدة "أجننت يا جمان؟.. وما شأن سلمة؟!.. لا تحاولي التنصل من هذا الزواج الآن"
استدارت جمان نحو أبيها وقالت بغضب "عامر لا يستحق أن أفكر به بتاتاً.. وسلمة أفضل منه ومن كل رجاله.. لِمَ تفكيرك ملتوٍ هكذا؟.. أنت لا تكاد ترى ما هو واضح كالشمس.."
وغادرت صحن الدار بغضب بينما بقي سلمة في موقعه صامتاً.. فسأله ربيعة "ما الذي جرى بينكما مع عامر يا سلمة؟ أتمنى ألا تكون قد تهورتَ بقولٍ أو فعلٍ يفسد علاقتنا معه"
قال سلمة بعد لحظة صمت وتردد "سامحني يا مولاي.. لم أملك نفسي فضربته عندما وجدته يتطاول على مولاتي بحديثه.. ولم أظن......"
صاح ربيعة بحنق "ماذا فعلت؟ كيف يمكنك أن تقوم بشيء كهذا نحو شخص بمكانته؟.. كان يجب أن تقدّر وضعك جيداً ولا تتطاول على من هو أعلى منك مكانة.. لقد أفسدت كل شيء"
بدا الضيق على وجه سلمة، بينما أضاف ربيعة بأمر "عندما نلتقي بعامر من جديد، أريدك أن تنحني بين يديه وتعتذر عما كان منك.. حاذر أن تسيء له مهما قال لك أو فعل بك.."
خفض سلمة وجهه وهو يقول بصوت خافت "أمرك يا مولاي"
زفر ربيعة وسأله عن المهمة التي أرسله فيها، ولما أبلغه سلمة بما أنجزه صرفه ربيعة بضيق ظاهر.. فخرج سلمة وقد استبدّ به ضيق شديد بدا في ملامحه بوضوح.. فلم يتوقف حتى خرج من الدار ومن الحي كله إلى أن قادته قدماه لجانب بعيد من المدينة.. فجلس في موقع قصيّ عن الآخرين وهو يعبس بضيق هامساً لنفسه "عامر مرة أخرى؟.. ليتني ضربته بشدة ذلك اليوم وشفيت غليلي منه.. لا أدري ما الذي يجعل مولاي ملهوفاً على مصاهرته وإعادة جمان إليه رغم ما أبداه من وقاحة.. تباً له من وضيع.."
وتخلل شعره بيده وهو يضيف بحنق مرير "ما الذي فعله عامر لها أكثر مما فعلته أنا؟ لقد تخليتُ عن الجميع لأجلها.. قتلتُ لأجلها.. عذبتُ رجلاً لأجلها.. مرغت كرامتي بالتراب ورضيت بالعودة للعبودية لأجلها.. فكيف يغدو ذاك الوضيع خيراً مني؟.."
تذكر ما قاله إمام قبل وقت بدا له طويلاً..

"هذه هي المكانة التي لا يستحقها العبد مهما كان كفؤا.."

فابتسم سلمة بمرارة وسخرية مغمغماً "أجل.. العبد سيظل عبداً.. ومولاته ستظل مولاته حتى يُوارَى جسده في التراب...... بئساً لي.. كيف تعلقتُ بأملٍ واهٍ زادتني خسارته ألماً وشفقة على نفسي؟.."
تنهد سلمة وفكرة تطرح نفسها في نفسه بقوة.. لو قام بجمع ما يكفي من المال، هل سيرضى مولاه بأن يشتري نفسه منه؟.. هل سيمنحه حريته حقاً؟.. يودّ لو يتحقق له ذلك، عندها سيخرج من حياة جمان ويُخرجها من حياته ما بقي له من العمر.. سينساها، حتى لو أبَى قلبه ذلك.. أليس ذلك أفضل من البقاء قريباً والاحتراق بنار المهانة لوضاعته مقارنة بها؟ أليس ذلك أفضل من رؤيتها تزف لحقير مثل عامر وابتلاع غيرته وغصّته بصمت؟..
بعد أن ازدادت المرارة في صدره، همس بألم مغمضاً عينيه "تباً لك يا أبي.. لِمَ رميتني في هذه النار لأجل حفنة من المال؟.."

***********************

عندما استدعى ربيعة سلمة في اليوم التالي، أسرع بالمثول بين يديه في غرفته التي لا يغادرها إلا قليلاً بسبب جراحه التي لم تبرأ بعد.. ولاحظ عند مروره بصحن الدار أن جمان لا أثر لها في أي موقع، لكنه لم يعلق وهو يقف أمام ربيعة الذي قال "سلمة، أريد أن أرسلك إلى الكوفة والحِلـّة والبصرة خلال الأيام القادمة.. لقد فقدت أغلب أموالي فيما سرقه قطاع الطرق من القافلة ومع دمار القصر بما فيه.. ولم يبقَ لي إلا ما يدين به التجار في بعض المدن.. وبحصولي على هذه الأموال يمكنني أن أبدأ التجارة من جديد وأستعيد بعض ما فقدته.."
قال سلمة "لقد بعت الحصان الذي أتيتُ به إلى بغداد للحصول على ما يكفينا من المال.."
فقال ربيعة على الفور "لا بأس.. سأعطيك ما تشتري به حصاناً جديداً.. فأحْسِن اختياره.. لا تتأخر كثيراً في العودة إليّ، لكن لا تعد إلا بعد أن تحصل على أموالي كلها.."
وأخبره بأسماء التجار في تلك المدن والذي عليه أن يلتمس الأموال عندهم.. ولم يكد يفرغ حتى سمعا الباب يفتح بقوة وخطوات تسرع إليهما مع صوت جنيد الذي قال بهلع "مولاي.. لديّ أخبار سيئة.."
نظرا له بقلق ملاحظين الذعر الذي بدا على وجهه بوضوح، فقال جنيد وهو يشير خلفه "هناك حديث يتناقله سكان بغداد بمختلف طوائفهم.. يبدو أن التتار قد أعدّوا جيوشاً لا حصر لها، وهم على مسافة عدة أيام من بغداد.."
نظر له الإثنان بصدمة وجنيد يقول بذعر "يبدو أن التتار عازمون على الإطاحة ببغداد وبالخليفة.."
توتر سلمة مع تلك الأخبار التي لم يتوقعها، بينما قطب ربيعة قائلاً "لا داعي لهذا الذعر.. بغداد أكثر المدن حصانة في البلاد.. والخليفة لن يسمح لأولئك الهمج بفعل ما يشاؤون بعاصمة الخلافة"
قال جنيد بتوتر "ولكن.. يقال إنه جيش عظيم لم يُرَ مثله من قبل.."
ابتسم ربيعة قائلاً "فليفعلوا ما يشاؤون.. إن كانوا يظنون أن اقتحام قلعة سنداد تساوي اقتحام بغداد فهم واهمون.. جيوش الخليفة قادرة على صدّهم بسهولة.. فلا تخشوا شيئاً"
لم يقتنع سلمة بهذا مع ما يعرفه المسلمون من ضعف الخليفة والجيش الذي يتبعه.. لكنه في قرارة نفسه كان يريد تصديق ذلك.. يريد حقاً أن يشعر أنهم بأمان مهما اجتمعت جيوش التتر حولهم..
نظر سلمة لربيعة قائلاً "وماذا عن الكوفة يا مولاي؟ إن خرجت الآن فلا آمن من أن يتعرض لي التتار ويستولوا على ما معي.."
تنهد ربيعة مجيباً "لا مفرّ من تأجيل الأمر إذاً.. لا بأس، لدي من الأموال لدى تجار بغداد ما يكفينا في الفترة الحالية.."
وصرفهما في الوقت الحالي، فغادر سلمة بصحبة جنيد الذي قال بتوتر وقلق كبيرين "هذه الأخبار تزعجني حقاً.. ما الذي يدفع التتار لحشد مثل هذا الجيش إن لم يكونوا واثقين من النصر؟.."
لم يعلق سلمة وهو يدير بصره في الدار بقلق.. مع هذه الأخبار، عاد إليه قلقه مما قد يجري وخوفه على جمان.. وشعر برغبة ملحّة في رؤيتها والاطمئنان عليها.. لكنه منذ التقائهما بربيعة الذي أصرّ على إبقائه في عبوديته البغيضة، شعر سلمة بهوانٍ وذلة جعلته غير قادر على مواجهة عينيها.. وكأنه يخشى أن يرى في عينيها مدى وضاعة مركزه وهوانه عندها.. لذلك حاول تجنبها قدر ما يستطيع..
سمع جنيد يقول بعد خروجهما من الدار "سأذهب وأستطلع ما يجري في المدينة وما يدور بها من أخبار.."
فقال سلمة وهو يتبعه "أنا آت معك.."
عليه أن يطمئن بنفسه، ولا يستسلم لكلمات مولاه الواثقة.. فما عاد يثق بأي شيء في هذا الزمان.. ولا حتى بأسوار بغداد المنيعة..

***********************

سار سلمة يتبع جنيد عبر طرقات الحيّ نحو أحد أسواقها.. فلاحظ سلمة على الفور أن الأخبار بدأت تنتشر بين العامة وبدأ الهلع يستولي على النفوس، وكان هذا واضحاً لتجمع الكثيرين منهم خارج بيوتهم وفي جوانب السوق والجدال بينهم يحتد بشدة بين مستنكر لتجرؤ التتار على التقدم نحو بغداد وبين مذعور من ضعف الخليفة والجيش الذي يتبعه من الدفاع عن المدينة..
رأيا جماعة من كبار تجار السوق، كما بدا من ملابسهم الفخمة، يجتمعون جانباً وأصواتهم تعلو بجدال واضح.. فاقترب منهم جنيد وسلمة ليسمعا أحد الرجال يقول بحدة "كيف لهذا الجيش الضعيف أن يصدّ جيشاً من التتر يربو على مائتي ألف؟.. بغداد ستسقط في أيديهم حتماً طال الوقت أم قصر.."
بدا الرعب واضحاً في الوجوه بينما قال رجل أكبر عمراً "لا داعي لمثل هذا الفأل السيئ.. الله سبحانه وتعالى سيحفظ بغداد وشعبها المسلم من أولئك الكفرة.. هذا شيء لا جدال فيه.."
قال الأول "أنت تتعلق بأمل زائف.. لقد قال الله سبحانه وتعالى {وأعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومِنْ ربَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ}.. فما الذي أعده الخليفة لقتال التتار؟.. لقد اكتفى بالتهديد والوعيد ظاناً أن هولاكو سيرتجف ذعراً من بضع كلمات.."
اقترب جنيد من أحد الرجال قائلاً "من هو ذاك المدعو هولاكو؟ وما الذي جرى بينه وبين الخليفة؟"
قال الرجل بحنق "هولاكو هو نائب خان التتار على فارس التي احتلها التتار بعد هزيمة جلال الدين منكبرتي، وهو قائد جيوش التتر التي تسعى نحو بغداد.. لقد رفض الخليفة الانصياع لهولاكو، لذلك سيّر ذاك الكافر الجيوش للإطاحة ببغداد.. كيف يجرؤ على الظن أن خليفة المسلمين سينصاع لمثل أولئك الهمج؟"
سأله جنيد بقلق "ماذا تعني؟ ما الذي طلبه أولئك التتار من الخليفة؟"
أجاب الرجل بسخرية "إنه يلومه لأنه لم يمد له يد العون في القضاء على الحشاشين.. وطلب منه المثول بين يديه بعد أن يهدم حصون بغداد ويردم خنادقها.. أو يرسل له الدفتردار الصغير وسليمان شاه.. حقاً ذاك الرجل مجنون.."
تساءل سلمة "ومن هما هذان اللذان طلبهما هولاكو؟"
قال الرجل باستنكار "ألا تعرفهما؟.. إنهما من أهم وزراء وكبار الأمراء التابعين للخليفة.. وهما يحرضان الخليفة على الإعداد لقتال التتار، لذلك طلبهم هولاكو فيبدو أن دعواتهما قد أثارت غضبه.. لكن يبدو أن هوى الخليفة مع وزيره مؤيد الدين العلقمي.."
انبرى آخر يقول "لكن مؤيد الدين يحرض الخليفة على المفاوضة مع التتار.. كيف يمكن لخليفة مسلم أن ينصاع لأولئك الكفرة؟! وأعمالهم في خراسان وفارس تشهد بخسّتهم ونقضهم للعهود.. ما الذي سيحل ببغداد عندما يستسلم الخليفة لهم وهم أشدّ كرهاً للإسلام من غيرهم؟"
احتدم الجدال بين الرجال وسلمة يستمع لهم وهواجسه تزداد.. أحقاً بغداد آمنة كما كان يظن؟ ما هذا الحظ الذي جعلهم يلجؤون لبغداد قبل أيام قليلة من اقتراب جيش التتار منها؟.. لو كان يعلم بما سيجري، لوجّه حصانه تجاه البصرة أو الموصل ليتجنب أذى التتار.. لكن من كان يعلم؟..
رأى الرجال في تلك اللحظة رجلين يركضان نحوهما قبل أن يقاطع أحدهما الجدال قائلاً "لديّ خبر لكم يا رجال.. الدفتردار الصغير يعدّ العدة لملاقاة جيش التتار بمباركة الخليفة.. إنه يجمع الجيوش والعدة الملائمة للحرب وسيسير بهم خلال أيام قليلة.."
علت الراحة بعض الوجوه وأحدهم يقول "الحمدلله.. إذن ستنجلي الغمة قريباً.. فلن يصمد أولئك الكفار أمام مجاهدينا الموحدين.."
قال آخر "الله ناصرهم بإذنه تعالى.."
غمغم رجل آخر بضيق "أتظنون ذلك؟ ألا تعلمون أن التتار لا يهزمون أبداً؟.. لم يستطع جلال الدين منكبرتي من التغلب عليهم بجيوشه كلها، وهو الذي أذاق الخلافة الويل فيما سبق.. فكيف تقدر جيوشنا الهزيلة على مثل أولئك؟.."
لكن لم يبدُ أن أحداً يرغب بالاستماع لقول مشؤوم كقوله.. فتجاهله البعض بينما أغلظ له الآخرون في القول ليكف عن تشاؤمه.. فالكل يريد أن يتعلق بالأمل.. والكل يريد الاطمئنان أنه آمن في بغداد.. وأن هذا الأمن سيدوم أبداً..

***********************

عاد سلمة وجنيد لبيت ربيعة بعد جولة في الأحياء القريبة والاستماع لما يدور بين أهالي بغداد عن اقتراب الجيش التتري.. لم يكن سلمة قد سَكَنَ قلقه بعد، لكن خبر تجهيز جيش لملاقاة العدو قد أراحه قليلاً وهو بانتظار ما ستسفر عنه الأمور..
لما دخل جنيد البيت، رأى جمان تجلس في صحن الدار تراقب السماء من نافذة قريبة.. فاقترب منها جنيد متسائلاً "أين مولاي يا مولاتي؟.. هناك خبر مهم أريد أن أبلغه به.."
قالت جمان "يبدو أنه نائم الآن.. ما الذي جرى؟"
أبلغها جنيد بالأخبار الجديدة التي حصل عليها.. فاتسعت عينا جمان التي تعلم بقدوم التتار للمرة الأولى.. أهذا يعني أن الأمان الذي شعرت به في بغداد زائف حقاً؟.. ظلت تستمع لجنيد وهي متناهبة المشاعر بين قلقها على ما سيجري لها وقلقها من أن تفقد أبيها بعد أن التقت به أخيراً.. فهل كان كل ما بذله سلمة من تضحيات سابقاً هباءً منثوراً؟..
بعد قليل، وبعد أن ابتعد جنيد لغرفته التي يشاركها مع سلمة في آخر الدار، رأت جمان سلمة يدخل الدار وهمّ جليّ على وجهه.. نهضت وهي تناديه، فتوقف سلمة بانتظارها وهو مطرق بصمت، ولما اقتربت منه جمان تساءلت بقلق "أحق ما قاله جنيد؟ هل التتار قادمون للمدينة؟"
أجاب سلمة دون أن يجابه عينيها "أجل.. هذه أخبار مؤكدة.."
فقالت بقلق أشد "وهل ستخرج جيوش الخليفة للدفاع عن بغداد؟"
هز سلمة رأسه مجيباً بهدوء "هذا ما سمعناه"
عندها غمغمت جمان "أتظن لذلك أي جدوى؟"
صمت سلمة وهو عاجز عن الكذب بما لا يقتنع به.. فزفرت جمان وهي تضم قبضتها أمام وجهها بقلق ظاهر.. ألقى سلمة عليها نظرة فلم يفته ارتجاف يديها والذعر المختفي في عينيها.. لابد أن ذكرى ما جرى لها مع التتار تعود لها في هذه اللحظات.. ذكرى تلك القرية التي تكومت جثث أهلها في ساحتها دون أن يجدوا من يواري أجسادهم التراب..
غمغم سلمة محاولاً تهدئة مخاوفها "مهما حدث، فبغداد حصينة جداً.. لن تسقط بهذه السهولة.. فلا تخشي شيئاً"
نظرت له بصمت للحظات، ثم غمغمت "ليس هذا ما يبدو في عينيك يا سلمة.."
قال سلمة مديراً بصره بعيداً "وما أدراك ما يدور بخلدي يا مولاتي؟"
رغم قوله، أدركت جمان أنه قد هرب ببصره وكأنه يخشى أن تكشفه عيناه.. فقالت له "قد لا أعرف ما يجول بذهنك يا سلمة، لكني أرى اليأس والهم واضحاً في عينيك الآن.. ولا يمكنك إخفاء ذلك عني"
وأضافت وهي تخفض وجهها "وأرى اللوم فيهما يحرقني كلما نظرت لي.. وهذا مما لا أطيقه.."
لم يعلق سلمة على قولها فشعرت بهذا الصمت موافقة ضمنية على ذلك، عندها نظرت له قائلة برجاء "هل تسامحني على ما جرى؟ لو كان الأمر بيدي، لما رضيت بإعادتك لهذه العبودية البغيضة بتاتاً.. لكن أبي عنيد جداً.. وبعد كل ما فقده، فهو لا يريد أن يفقدك أنت أيضاً"
غمغم سلمة دون أن ينظر إليها "ليس الذنب ذنبك يا مولاتي، فلا داعي للاعتذار.."
همست جمان "أأنت واثق من ذلك؟ أخشى مما قد يحدث لنا في هذه الظروف القاسية، وأخشى أن نفترق وفي صدرك شيء علي.. فهل سامحتني حقاً؟.."
رأته ينظر إليها بشيء من الصدمة، لكن سرعان ما أدار بصره وهو يغمغم "أخبرتك ألا داعي للاعتذار، فأنا لا أحمّلك أي ذنب.."
وغادر مشغول الفكر بينما تابعته جمان ببصرها بشيء من المرارة.. لم يكن قوله يبعث فيها أي راحة، على عكس ما قد يعتقد.. أما سلمة، فقد دلف الغرفة التي يشاركها مع جنيد، وتجاهل جنيد المنبطح على الفراش الوحيد فيها وهو يتجه نحو النافذة ويتطلع للسماء كعادته كلما شغلته أفكاره.. رغم أنه استاء من اعتذار جمان له بشكل متكرر، وهذا أشعره بمدى فداحة واقعه، إلا أن ما لفت نظره كان حديثها عن احتمال فراقهم في ظل هذه الظروف.. وكأن الأمر صدمه بشكل لم يكن يتوقعه.. أصبح يخشى المجهول أكثر فأكثر، ويخشى مما قد يصيب جمان في هذه الأحداث التي على وشك الوقوع بعاصمة الخلافة.. فما الذي بيده فعله؟.. ما الذي بيده فعله حقاً؟..

***********************

مع مطلع الشمس بعد عدد من الأيام، خرج معظم أهالي بغداد يشهدون ما لم يروه منذ زمن.. خرجت الجيوش المهيبة من بغداد يقودها مجاهد الدين أيبك الدفتردار الصغير.. خرج الجنود بأسلحتهم وعدّتهم وعتادهم والمدينة كلها تلهج بالدعاء لهم ولينصرهم الله تعالى على أعدائهم.. ورغم المهابة البادية على ذلك الجيش، إلا أنه في الواقع لا يتعدى عدد جنوده عشرة آلاف هم كل من بقي في المدينة من جنود.. فمنذ سنوات، دأب الخليفة، بمشورة من وزيره مؤيد الدين العلقمي، على تخفيض ميزانية جيشه وتقليل عدد الجنود وتحويلهم لأعمال أخرى مثل الزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال.. وقد وافق هذا الرأي هوىً عند الخليفة الذي عُرف بحبه للدينار والدرهم وكنزه للأموال وضيقه من صرفها على الجيش وتسليحه وإعداد جنوده..
ورغم احتفاء أهل بغداد بذلك الجيش، إلا أن اليأس كان واضحاً في كثير من الأعين وهم يشعرون بمهانة جيشهم مقارنة بما يسمعونة من تعداد جيش التتار ومن قوة جنوده وشراستهم في القتال.. فمع كل الأخبار الواردة منذ سنين لا تحصى عن هجمات التتار لخراسان وفارس وما حاذاها، وقر في نفوس الجميع أن التتار شعب لا يهزم وجنوده لا يطالهم الموت.. من يجابه التتار مهزوم ولابد، ومن يعارضهم مقتول دون شك..
ومع ذلك، بقي أمل في النفوس بأن تحدث معجزة ما ويتغلب هذا الجيش على جيش التتار العارم..
هو أمل ضعيف شبه معدوم، لكنه يدفع عنهم اليأس التام والواقع المظلم..
وهل يملكون إلا الرجاء والأمل؟..
***********************

~ بعيدا عن الخيال (١١) ~
ضعف جيوش الخليفة


بدأ الضعف يدب في الجيش مع ضعف الخلافة العباسية، وغدا قوة ثانوية ليس في إمكانها أن تلعب دوراً مهماً.. ففي أيام الخليفة الناصر، يظهر العجز والقصور أمام جيوش محمد خوارزمشاه، فقد أرسله الخليفة بقيادة وزيره ابن القصاب إلى خوزستان فاستولى عليها كما استولى على بعض مدن فارس.. لكن عندما وصلت جيوش محمد خوارزمشاه، انسحب منها وولى الأدبار، ولذلك كان الناصر يتحاشى ملاقاة جيوش محمد خوارزمشاه بعد ذلك. كما كان الخليفة المستنصر يلجأ للأمراء المسلمين بطلب معونتهم حين الحاجة.. فكان الأيوبيين يرسلون إليه فرقاً من جيوشهم، كما كانوا يستخدمون له جنداً مرتزقة.
أما في عهد (المستعصم)، فقد عمد الخليفة إلى إنقاص الجيش فبعد أن كان عدد الجنود يبلغ تعدادهم مائة ألف أو يزيدون في عصر (المستنصر)، فإنهم في عصر (المستعصم) لا يتجاوز عددهم عشرة آلاف جندي.
((محنة الإسلام الكبرى)) د. مصطفى طه بدر


***********************

مملكة الغيوم 15-02-16 09:49 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
كان لقاء ربيعه بعد كل هذا البحث ضربا من الخيال فلقد بلغ الاثنين حد الياءس ولكن ما لم استطيع بلعه هو تصرف ربيعه الشحيح تجاه سلمه بعد ان كاد يفقد حياته لكثير من المرات دفاعا عن ابنته فبخل عليه بكلمه الحريه رغم انى لا اعتقد ان سلمه كان سيترك ربيعه وابنته حتى لو كان حرا ولكن حب المال والسياده اعمي قلب ربيعه ولا زال رغم ما سمع عن عامر مصر على ضلاله القديم فى اعتقاده الخير فى عامر
من جديد يبداء التوتر بقدوم الموت الممثل فى قدوم التتار والحقيقه تعلن عن نفسها ان الجيش العربى ضعيف لشدة ضعف الخليفه الذى فضل كنز المال وصرفه على المظاهر الكاذبه والفخامه الزائله عن صرفه لتقوية الجيش وتحصين قلاعه واسوار مدينته هذه الحقبه الزمنيه تعج بالخلفاء الضعفاء ومحبي السلطه والجشعين
خيم الخوف من جديد على الابطال وهو لم يكد يغادرهم الا قليلا
سلمت يداكى خيال فى انتظار الباقى دمتيي بود ولكى منى كل الحب

bluemay 16-02-16 06:43 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فصل جميل جدا


رغم غيظي من ربيعة وقلة مروءته ، مع سلمة وعدم عرفانه بجميله. جاء ليقضي على ما تبقى من تعقلي عندما فتح موضوع عامر مرة اخرى.
اتوقع انه يراه مجرد خزنة نقود وخاصة بعد ان فقد معظم ماله فهو يطمع بمصاهرة الخسيس الخائن ليستعيد مكانته السابقة.


ما الذي ينتظرهم وان كنت اخشى ان ينهزم الجند ويولوا الدبر ..


سلمت يداك

كلي شوق للقادم


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 16-02-16 08:33 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

رغم أنني لا أوافق ربيعة على تصرفه طبعاً
لكن لنرَ الأمر بشكل منطقي
بعد أن فقد كل ما فقده، ولم يبق معه من العبيد إلا جنيد، لا يمكنه التخلي عن شخص يأتمنه ويثق به بهذه الصورة كسلمة
خاصة أنه سيوكله بجمع ما يملكه من أموال عند باقي التجار
وهو طبعاً بحاجة لمن يسانده في تجارته هذه حتى يقف على قدميه من جديد
رغم أن ما فعله ظلم واضح لسلمة
أما بالنسبة لما جرى لعامر، ففي هذه الأوقات المضطربة، يغدو التشبث بهذا الزواج هو أفضل ما يمكن لربيعة فعله
فعامر، أو والده، سيوفران الحماية والرخاء لجمان بعد زواجهما
حتى لو عاشت معه تعيسة، لكنه على الأقل ستكون بأمان ولو كان جزئياً
هذه مبررات تصرف ربيعة وهو قد حكم عقله فيها على عواطفه
وهو ما لا يعجبنا بأي حال

لنرَ تطورات ما سيجري لهم ولبغداد في الفصل القادم

عالم خيال 16-02-16 08:41 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الثاني عشر ~


"هُزِم...؟!"
وقف جنيد متوتراً أمام ربيعة الذي بدا مصعوقاً بينما جلست جمان جانباً بقلق كبير محاولة تمالك خوفها مما تسمعه.. فقال جنيد باضطراب ظاهر "يبدو ذلك يا مولاي.. الجيش الذي يقوده مجاهد الدين أيبك الدفتردار قد هزم أمام التتار وأبيد أغلب جنده، وفر مجاهد الدين أيبك بفرقة صغيرة من الجيش عائداً لبغداد.."
صاح ربيعة "كيف يهزم جيش من المسلمين أمام أولئك الهمج؟.. كيف حدث ذلك بهذه السرعة؟"
زفر جنيد قائلاً "المدينة كلها تتحدث عن هذه المأساة.. لقد انطلق الجيش لقتال جيش هولاكو، لكنه سمع بجيش آخر للتتر قادم من الشمال لتطويق بغداد من الشمال والغرب، فغيّر وجهته لمقابلة ذلك الجيش.. وتقابل الجيشان فعلاً في الأنبار.. لكن قائد التتار كان أذكى من مجاهد الدين، فقد استدرج المسلمين مظهراً الانسحاب حتى وصل بهم لمنطقة مستنقعات قرب الفرات.. وبعد ذلك قطع السدود المقامة على النهر في تلك المنطقة ليُغرق ما وراء جيش المسلمين.. فحاصر التتار جيش المسلمين بإحكام، وبدأوا بإبادة الجيش كاملاً، ولم ينجُ منهم إلا نفر قليل.."
ظل ربيعة ينظر له مصعوقاً وجنيد يقول "هزيمة جيش الخليفة قد يسّرت للتتار التقدم نحو بغداد وتنفيذ مأربه بسهولة تامة.."
وخفض وجهه مضيفاً بأسى "والآن.. الجيش التتري يتقدم من المدينة ويهددها بحصار محكم من جميع الجهات.."
هبّ ربيعة واقفاً وهو يدور في صحن الدار بقلق كبير وجنيد يراقبه.. أما جمان، فقد أحاطت رأسها بيديها مطرقة بصمت وارتجافة وهي تتذكر كل ما شهدته في لقائها بالتتار سابقاً.. وهمست بصوت مرتجف "رباه.. لِمَ عليّ أن أشهد هذا مرة أخرى؟.."
لم يعلق ربيعة وهم يسمعون جلبة خارج البيت، فوقف ربيعة ينظر من النافذة ليرى جمعاً من أهالي الحي ينطلقون بذعر في الطرقات وقد حملوا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه.. وقد خرجوا هم وأهليهم وأبنائهم وعبيدهم دون استثناء لا يلوون على شيء.. فخرج جنيد على الفور لاستطلاع الأمر، بينما وقفت جمان بتوتر تراقب أباها بحثاً عن جواب يطمئنها.. لكن القلق العارم في وجهه لم يكن مبشراً بخير.. ولم يلبث جنيد أن عاد إليهم وهو يقول "مولاي.. أهالي بغداد الغربية قد شدّوا الخطى نحو دجلة أملاً في العبور إلى الأسوار الحصينة من بغداد الشرقية.. فمع جيش التتار المشارف لبغداد، يغدو هذا الجزء منها دون حماية حقيقية مع وجود الجيش في بغداد الشرقية لحماية الخليفة وحريمه وقصوره.."
لم يعلق ربيعة وهو يهرع لغرفته، فرأته جمان من فرجة الباب يحمل سيفه ويتناول ما يملكه من مال فيخبئه في ثيابه، ثم عاد إليهم قائلاً بحسم "نحن راحلون أيضاً.."
قال جنيد بقلق "هذا هو الصواب.. لكن مع الجموع التي يمّمت وجهها شطر دجلة سيغدو تنفيذ ذلك صعباً جداً.."
قال ربيعة وهو يجذب جمان من ذراعها "لا مفر لنا من ذلك مهما بذلنا في سبيله.."
قالت جمان بقلق "وأين سلمة؟"
أجاب جنيد الذي يتبعها "لقد خرج منذ الصباح ولم يعد بعد.. ولا أعلم موقعه الآن.."
فقال ربيعة بسرعة "لا نملك الوقت الكافي للبحث عنه وانتظاره.. هو رجل وسيعرف كيف يحمي نفسه جيداً"
لم تعلق جمان وهي متناهبة بين القلق للسبب الذي دعاهم للرحيل بتلك الطريقة الفجة، وبين غياب سلمة الذي سيفاجأ بالبيت الخالي عند عودته حتماً.. فكيف سيهتدي إليهم عندها؟..
أسرعوا للانضمام للحشد الذي خرج من البيوت والأزقة القريبة وهو لا يلوي على شيء.. فجذب ربيعة ابنته معه حارصاً على ألا تضيع في الزحام، وقال لجنيد الذي يسير قريباً منه "أسرع إلى دجلة وابحث لنا عمن ينقلنا للشاطئ الشرقي.. ابذل في سبيل ذلك أي شيء حتى نتمكن من اللجوء لأسوار بغداد الشرقية الآمنة.."
أسرع جنيد لتنفيذ أمره، بينما قالت جمان بقلق "ماذا لو لم يتمكن سلمة من الانتقال للشاطئ الشرقي مثلنا؟ سيبقى هنا مع خطر قدوم التتار"
قال ربيعة مقطباً "لا تهتمي لأمره.. ما يهمني الآن أن نأوي أنا وأنت لموضع آمن.."
غمغمت جمان بشيء من الضيق "ألا تهتم لأمره بعد كل ما فعله لي؟"
لم يعلق ربيعة وهو رافض للتفكير في الأمر.. فلم تملك جمان إلا الصمت وهي ترجو أن يلاقوا سلمة قبل مغادرتهم هذا الجانب من المدينة.. وإلا كيف سيهتدي إليهم بعد أن يغادروا؟ بل كيف سيتمكن من اللحاق بهم مع كل المعمعة التي تحدث في المدينة؟..
عندما وصلت الجموع للضفة الغربية لدجلة، كان الزحام شديداً قربها والكل يحاول استمالة أصحاب القوارب لنقلهم للضفة الشرقية، بينما وجدوا الجسر المؤدي للجهة الشرقية، وهو مكون من سفن صفّت مع بعضها البعض وربطت بسلاسل حديدية، قد تم فكها لمنع التتار القادمين من استغلالها.. نظر ربيعة حوله بتوتر، حتى رأى جنيد يشير له من بين الجموع بيده.. فدفع ربيعة نفسه بين مجموعة من الناس وهو يجذب جمان خلفه حتى اقترب من جنيد الذي قال "أسرعا بركوب هذا القارب قبل أن يملأه العامة.."
نظرا لقارب متوسط عليه رجل أسمر مشدود العضلات بملابس بسيطة، فرمى ربيعة بصرة تحوي عشرات الدنانير الذهبية عند قدميه، وصاح به من فوق الضوضاء في المكان "خذنا إلى الضفة الشرقية الآن، ولك مثلها بعد أن نصل.."
ودفع جمان لتركب القارب بعد أن أبدى الرجل موافقته، وركب خلفها رغم اعتراض العديدين ممن كانوا قريبين محاولين استمالة الرجل لحملهم أيضاً.. وبالفعل بدأ البعض بالركوب معهما والرجل يصيح بهم "توقفوا.. لا تتزاحموا لئلا يغرق القارب.."
وبعد أن امتلأ القارب، بدأ الرجل بدفعه عن الضفة بطرف مجدافه، بينما نظر ربيعة لجنيد الذي وقف على الضفة وصاح به "ما الذي دهاك يا جنيد؟.. لِمَ لمْ تركب معنا؟"
صاح جنيد ليصل صوته لربيعة من بين الضجيج "سأبحث عن سلمة ثم نلحق بكما.. لا يمكنني الرحيل وتركه هنا.."
لم يعلق ربيعة وهو ينظر للضفة المقابلة والتي بدأ الرجل بالتجديف إليها بشيء من البطء مع ثقل القارب.. ثم سمع جمان تهمس "لمَ أنت غير مهتم بما يجري لسلمة أو جنيد؟.. لم أعهدك أنانياً يا أبي.."
لم يعلق ربيعة وهو يوجه بصره نحو الضفة الشرقية وكأنه يستحثها للاقتراب منهم بشكل أسرع.. وقد بدا الوجوم والتوتر واضحاً على الوجوه من حولهما، وصياح الناس المتجمعين على الضفة الغربية لا يزال يصل لسمعهم واضحاً أشد ما يكون..
وفور أن ابتعد القارب، استدار جنيد عائداً للدار التي يملكها مولاه مدافعاً الجموع التي سارت في الاتجاه المعاكس بقوة كادت تطيح به عدة مرات.. وبعد وقت طويل، تمكن من العودة للحي الذي غادروه والذي بدا الآن شبه خالٍ من البشر.. ورأى دار مولاه وبابها مشرع، وفور أن دلفها رأى سلمة واقفاً وسطها يتلفت حوله بحيرة.. فاستدار لما شعر بجنيد خلفه، بينما قال جنيد بتوتر "أين كنت يا رجل؟ ما الذي أخرك عن العودة؟.."
سأله سلمة بقلق عارم "أين مولاي؟ وأين مولاتي؟"
قال جنيد "لا تقلق.. لقد رحلا لبغداد الشرقية قبل قليل مع بقية سكان الحي.."
بدت الراحة على وجهه وهو يغمغم "هذا أفضل قرار.. فلا أشك أن يتمكن الجيش التتري القادم من الغرب من التغلغل في هذا الجزء من المدينة بيسر.. وماذا عنك؟ ما الذي دفعك للعودة؟"
قال جنيد "لم أقدر على الرحيل قبل التأكد من قدومك معي.."
فاقترب منه سلمة مربتاً على كتفه ممتناً، ثم قال "هيا بنا.."
غمغم جنيد "يبدو أن الوضع سيزداد سوءاً منذ الآن.. أتظن أن دار الخلافة ستسقط حقاً؟"
قال سلمة "فليرحمنا الله لو حدث ذلك.. فلا أحد يعلم كم من المآسي ستشهدها هذه المدينة"
وغادرا الدار بسرعة عبر الحي الخالي نحو شاطئ دجلة المزدحم.. بينما حلق الذعر والفزع في السماء مظللاً المدينة التي كانت بالأمس هانئة وادعة..

***********************

فور وصولهم للضفة الشرقية واجتيازهم الأسوار المحيطة بذلك الجزء من المدينة، سار ربيعة جاذباً جمان في طرقات الحي مبتعداً عن الشاطيء وعن الجموع التي توزعت في ذلك الموقع بحثاً لها عن مأوى.. نظرت جمان خلفها للقوارب القادمة من الضفة الغربية أملاً برؤية سلمة، ولما يئست من العثور عليه تنهدت بضيق، ثم التفتت إلى أبيها متسائلة "إلى أين تنوي الذهاب بنا يا أبي؟"
قال ربيعة "هناك صديق لي من كبار تجار بغداد، سنأوي عنده حتى تنجلي هذه الغمة بإذن الله تعالى"
صمتت جمان وهي تتجاوز غصة في حلقها، فمصيبة كهذه التي ظللتهم لن تنجلي بسهولة ويسر كما يأمل الجميع.. وهي تخشى مجرد التفكير في الغد.. بل إن التفكير بالحاضر يورثها ألماً عارماً ويأساً يدفعها لأن تكف عن كل شيء وتلتزم الصمت التام..
بعد سير طويل، وصل الاثنان لقصر متوسط من قصور بغداد الشرقية، والذي كان فخماً مهيباً لم تر مثله في قلعة سنداد من قبل.. وبعد وقت قصير، كان ربيعة يلتقي صاحب القصر التاجر الذي رحّب بربيعة وابنته وأحسن استقبالهما.. ولما أخبره ربيعة برغبته اللجوء لضيافته بعد هربهم من الجزء الغربي من المدينة، قال التاجر بأسف "تلك مصيبة كبيرة حلّت علينا.. ولم تستثني الأقدار أحداً منها أبداً.."
نظر له ربيعة مغمغماً "بالفعل.. يعلم الله ما سيجري لنا بعد الآن.."
نظر التاجر لربيعة لفترة طالت، ثم قال متأسفاً "سامحني يا صاحبي.. وددت استضافتك عندي في الأيام القادمة، لكن الكثير من أقارب زوجتي قد قدموا من بغداد الغربية بدورهم وهم يسكنون معي.. لذلك لا أستطيع إلا أن أبدي أسفي لعجزي عن مساندتك في هذه الغمة"
قال ربيعة بغير تصديق "إنما هي غرفة واحدة سنأوي إليها أنا وابنتي في قصرك الضخم هذا.."
قال التاجر بأسف "ليتني أقدر على ذلك.. لا تنسَ أن أولئك الجموع يلزمهم أموال كثيرة لإطعامهم وتأمين ما يلزمهم لمدة الله وحده يعلمها.. سامحني يا صاحبي.."
نظر له ربيعة بصمت وتقطيبة ظاهرة، ثم نهض قائلاً "إذن اسمح لي.. يجب أن أعثر على مكان آوي إليه مع ابنتي قبل أن يغلبني زحام أهل بغداد.."
وغادر دون أن يودع مضيفه بكلمة، بينما بقي التاجر في مجلسه دون أن يحاول إيقافه أو الاعتذار إليه.. ولما غادر ربيعة المجلس، نادى جمان التي كانت تجلس في جانب من حدائق قصر التاجر.. فاقتربت منه جمان متسائلة بقلق "ما الذي جرى؟ تبدو غاضباً"
غمغم ربيعة بحنق "كان يجب أن أعلم أن هذا البخيل يخشى على أمواله من أن يصرفها على غرباء.. تباً له.. وحجته تلك لا يمكن ابتلاعها.."
وغادر القصر بسرعة وجمان تتبعه بصمت مدركة قلق أبيها من بقائها معه دون بيت يأويان إليه.. وبعد سير قصير، وصلا لأحد خانات المدينة والذي كان متوسط الحجم وإن كان يفوق الخان الذي سكنت فيه جمان في الكوفة والحِلـّة حجماً ورفاهية.. وأمامه رأيا جمعاً من الأهالي يقفون بحثاً عن فرصة للسكنى فيه.. فغمغمت جمان "من الأفضل لنا البحث عن غيره.."
قال ربيعة بحزم "لا.. صاحب هذا الخان مدين لي.. سيسعده حتماً أن يسقط دينه مقابل غرفة من غرفه نأوي إليها.."
لم تعلق جمان وهي تتبعه بصمت.. لقد تعبت من هذا التشرد، وهي لم تشعر بالاستقرار في بغداد رغم طول مكثها فيها.. لم تكد تستقر منذ غادرت قصرهم الهانئ الهادئ عادة، والذي لم يبخل عليه التتار بالتدمير وتحويل هنائه إلى بؤس وشقاء..

***********************

قضت جمان ليلتها مسهدة تتقلب في الفراش الضيق في الغرفة التي منحهم إياها صاحب الخان، والتي شاركتها مع أبيها.. وشعرت أن أباها لا يقل عنها قلقاً فقد بقي معظم تلك الليلة جالساً على فراشه يحدق من النافذة الصغيرة في الغرفة.. ولم يكن هذا مستغرباً مع الذعر المسيطر على المدينة التي تنتظر معجزة من السماء لتنجو من هذه المأساة الوشيكة..
وفي اليوم التالي، خرجت جمان من الغرفة لترى عند خروجها في صحن الخان جماعة من السكان أوت إليه بعد أن عجزوا عن العثور على غرف خاصة بهم، ورأت وسطهم جنيد الذي انطوى على نفسه نائماً رغم برودة المكان.. وقربه رأت سلمة الذي جلس مطرقاً ويده تقبض على سيفه الموضوع قربه بقوة.. سرى شعور قوي بالراحة في نفسها وهي تراه سالماً بعد أن كانت بقلق من اختفائه طوال اليوم السابق.. ولما رآها سلمة نهض وتقدم منها بصمت، فابتدرته جمان "أين كنت البارحة؟ لقد قلقت من بقائك في ذلك الجانب من المدينة وحيداً.. لكن الحمدلله أنك تمكنت من الوصول إلينا.. كيف استدللت على هذا الخان؟"
قال سلمة "لقد جُبْت مع جنيد خانات المدينة التي كان مولاي يتردد عليها سابقاً حتى عثرنا عليكما هنا.. أين مولاي؟"
قالت جمان "إنه نائم الآن.. لقد قضى الليلة الماضية مسهداً يفكر فيما سيجري لنا.."
لم يعلق سلمة وهو يقبض على سلاحه بقوة، فقالت جمان "ما الذي سنفعله الآن يا سلمة؟.. ما فررنا منه قد لحقنا بأسرع مما ظننّا.."
غمغم سلمة مقطباً "فليرحمنا الله تعالى.."
لم تعلق جمان وهي مدركة أن وضعهم قد غدا ميؤساً منه.. ولم يعد لديهم إلا الرجاء والأمل بالله تعالى.. عادت إلى سلمة تسأله "أين ذهبت البارحة؟"
أجابها "ذهبت لأرى أحوال الجيش والحصار حول بغداد.. ولم يكن ما رأيته ساراً أبداً.. التتار غدوا على مشارف بغداد، لكن لا أرى لدى جيش الخليفة أي همّة لصده.. وعدا عن المقاومة الهزيلة التي قام بها الدفتردار الصغير ومُنِيَ فيها بهزيمة ساحقة، فإني لا أرى أي جهد مبذول لصدّ جيش التتار العارم.."
بدا القلق متزايداً في عيني جمان، فندم سلمة لما قاله ولتسببه بالذعر لها.. رغم أن إيهامها بغير ذلك لن يخفف من الواقع شيئاً، إلا أن سلمة لم يطق رؤية القلق في عينيها، فقال "لا تخشي شيئاً يا مولاتي.. كل شيء سيكون على ما يرام"
غمغمت جمان بكدر "كيف يمكنك قول ذلك؟ أتحاول خداعي وأنا أرى انهيار كل شيء بعيني؟"
قال سلمة "{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}"
لم تعترض جمان وهي تخفض وجهها وسلمة يضيف "سأذهب لأرى أحوال المدينة، وهذه المرة أرجو أن أعود بخبر يزيل هذه الغمة بإذن الله.."
وغادر بصمت، بينما عادت جمان للغرفة هامسة "وهل هناك ما يسُرّ في كل ما يجري حولنا؟"

***********************

مضت عدة أيام على المدينة وهي تتوجس مما تسمعه من أخبار وتستنكر ما يبدو عليه الخليفة من هدوء وضعف.. ولم ينقطع سلمة يوماً عن التجوال في الأحياء القريبة منهم ومعرفة ما آل إليه حال المدينة مع الخطر الوشيك.. ورغم الذعر، مع أخبار اقتراب الجيش العارم للتتار، فالأخبار عن استعدادات الخليفة لمواجهة ذلك الجيش لا يكاد شخص يتحدث عنها بتاتاً.. فمن الواضح أن الخليفة كان إما شديد الثقة بمِنْعَة مدينتة وحصانتها، أو كان الذعر قد استولى عليه فلم يعرف كيف يسيّر الجيوش لصدّ ذلك الهجوم..
وبعد تلك الأيام، جلس سلمة في حيّ من الأحياء القريبة من سور المدينة وهو يتنهد وينظر للأسوار العالية المهيبة والتي ترفرف عليها أعلام الخلافة العباسية السوداء.. ثم نظر حوله للحي الهادئ وهو متسائل في نفسه عن مصير مثل هذا الأمان الذي يخيّم على المدينة.. هل ستتغير الأحوال؟.. هل ستغرق المدينة في مآسي جمّة كما غرقت فيها مدن لا تحصى من قبل؟.. هل ستنجو بغداد وتكون سدّاً منيعاً أمام الجيش العارم ذاك؟..
سمع رجلان قريبان يتجادلان عما سيحدث لبغداد، وأحدهما يقول "كان عليه التسليم منذ البداية.. لو لم يعارض الخليفة ما يطلبه منه هولاكو لما وصل حالنا هكذا.."
قال الثاني مستنكراً "كيف تتوقع من الخليفة التسليم بهذه السهولة؟ كيف تريد له أن يتذلل لرجل همجي مثل هولاكو؟.. كان عليه تسيير الجيوش الجرارة وردع هذا المغرور قبل أن يصل بغداد.. لكن لا أدري ما الذي منع الخليفة من ذلك"
أجاب الأول بشيء من السخرية "منعه حرصه الزائد على الدينار والدرهم.. كيف تتوقع منه دفع الأموال للجيوش لتسليحها وتوظيف الجنود فيها؟ كل هذا يكلف أموالاً طائلة، وهذا من أشد الأشياء وقعاً على الخليفة"
زفر الثاني بحسرة بينما قال الأول "ألم ترَ ما آل إليه الجنود في الأيام الأخيرة؟.. لقد رأينا الجنود يستجدون الأموال في الأسواق لفقرهم المدقع، وأغلبهم تم شطبه من ديوان الجند وعاد ليعمل أعمالاً يدوية ليعول عائلته بعد أن امتنع الخليفة عن دفع رواتبهم.. كيف تتوقع من مثل أولئك الجنود الناقمين على الخليفة أن يدافعوا ببسالة عن بغداد؟.."
غمغم الثاني بأسف "هذا هو أكثر ما يحرق الفؤاد.. جيوشنا ضعيفة هزيلة والخليفة يكنز الذهب ويستكثر من الجواري والعبيد.."
أغمض سلمة عينيه وحاول تشتيت تفكيره بما يسمعه عن أفكاره الكئيبة حول مستقبلهم الغامض، عندما لفتت انتباهه شهقة ألم وصرخة صبي مذعور..
فتح سلمة عيناه بعدم فهم وتطلع حوله، فرأى جارية كانت تقف قرب بيت قريب قد سقطت أرضاً وسهم قد انغرز في صدرها، بينما وقف أحد الصبية قربها صارخاً بذعر شاركه فيها بقية الصبية ممن كانوا يلعبون قريباً.. وسرعان ما توقف من كان يسير في هذا الطريق بدهشة متطلعاً لما يجري..
شعر سلمة بتوجس غريب وهو يتلفت حوله بحثاً عن صاحب السهم.. ثم رفع بصره للأفق، نحو سور المدينة القريب.. ولصدمته استطاع أن يرى وابلاً من السهام ينطلق من خلف السور فيعلو في السماء قبل أن تتساقط السهام متفرقة في أجزاء متباعدة من المدينة وبين البيوت تصيب بعضاً من أهلها، بالإضافة لصوت ارتطام قوي تعالى في المكان.. فتأكد لسلمة عندها أن أسوار وأبراج المدينة تتلقى هجوماً ضارياً الآن.. وقف سلمة بعينين متسعتين يراقب ذلك المنظر بينما تعالى صراخ البعض ممن رأى وابل السهام والكل يتراكض بحثاً عن ساتر يحميه من الإصابة.. أما سلمة، فقد تجمد في موقعه وهو يهمس "رباه...... ليس مرة أخرى.."
وجد في تلك اللحظة أن سهماً قد انغرز في الأرض قريباً منه، ولاحظ شيئاً ما معلقاً به.. فنزع السهم وفك الورقة الصغيرة المثبتة فيه، ليجد مكتوباً فيها بلغة عربية واضحة "ليتأكد القضاة والعلماء والشيوخ والشيعة والتجار وكل من لا يحمل سلاحاً ضدنا أننا سنصون حياتهم"
نظر سلمة للورقة باستنكار، ثم غمغم وهو يقبض على الورقة في يده بقوة "تباً لهم.. ومن يصدق وعود جيش غادر لا أمان له؟.."

***********************

بعيداً عن هواجس سلمة وذعر جمان، لو ألقينا نظرة علوية لبغداد وما حولها في ذلك الوقت الحرج، لرأينا أن الجيش التتري بقواته الضخمة التي تقدر بمائتي ألف جندي قد انساب من مختلف الجهات نحو المدينة التي ظنها أهلها حصينة.. وخلال وقت قصير، أحاط ذلك الجيش ببغداد الشرقية بأقسامه المختلفة.. فحاصرها قلب الجيش بقيادة (هولاكو) من الجهة الشرقية، وحاصرها الجناح الأيسر للجيش بقيادة (كتبغا) أفضل قواد هولاكو من الجهة الجنوبية.. وتغلغل الجيش التتري القادم من الأنبار بقيادة الزعيم التتري الكبير (بيجو) في الجزء الغربي من المدينة، بعد أن غادرها معظم أهلها ولجؤوا للجزء الشرقي، ورابط على شواطئ دجلة المقابلة لأسوار المدينة..
ثم فوجئ أهل بغداد في اليوم التالي بما لم يتوقعوه.. فخلال يوم واحد فقط، كان الجيش التتري قد أقام أمام أسوار بغداد أسواراً أخرى من الأتربة، وحفر الخنادق بحيث فصل المدينة عما جاورها.. ومن الأنقاض حول المدينة كوّن الجيش أكواماً عالية اتخذها مقاعد لقاذفات الأحجار المسماة (العرادات) وآلات قذف النفط.. ثم بدأ الهجوم الضاري للتتار على الأسوار الشرقية.. فضربت الأسوار ضرباً شديداً في جميع نقاطها، والأبراج المقامة على هذه الأسوار كانت تبلغ مائة وثلاثة وستين برجاً أهمها برج العجم..
كما أمر هولاكو بأن يقام جسرين من القوارب المسلحة على نهر دجلة شمالي بغداد وجنوبها لمنع هرب أي شخص من بغداد، ولقطع يد العون عنها من الخارج.. كما أمر بإقامة حواجز من الأتربة على شاطئ النهر الغربي ووضع العرادات عليها.. وأيضاً أمر بوضع قوات تشرف على الطرق الموصلة إلى البصرة وعهد إلى القائد بغاتيمور ومعه عشرة آلاف جندي لحراسة الطريق..


ولم يكن هولاكو يبالغ بكل ما فعله، إذ أن الدفتردار الصغير حين رأى الدائرة تضيق على بغداد، والحصار يزداد ويشتد، توجه إلى الخليفة وحاول إقناعه بالفرار عن طريق السفن في قناة دجيل والفرات، حتى يصل إلى البصرة ويقيم في إحدى الجزائر حتى يأتيهم نصر الله..
لكن وزير الخليفة العلقمي بالغ في تحقير تلك الخطة وإبراز أسباب فشلها المحتمل، وبأن هولاكو قد رضي بالتفاوض مع الخليفة وبتسليم المدينة دون قتال.. فلما أخفق الدفتردار الصغير في إقناع الخليفة، عوّل على الهرب وحده مع أتباعه وسار في دجلة نحو الجنوب.. لكن جيش التتار الذي كان محتاطاً لمحاولات مثل هذه، استطاع رده بوابل من الحجارة ومقذوفات النفط المشتعل، واستولى على ثلاثة من القوارب المرافقة له بعد أن أفقده الكثير من أتباعه..
استمر القصف على أسوار بغداد وأبراجها أربعة أيام متتالية من أول صفر إلى الرابع منه سنة ٦٥٦ هجرية.. ولم يكن القصف يهدأ في أي لحظة ليلاً أو نهاراً، فأصبح أهل بغداد وأمسوا على أصوات الضرب القوية والقصف مذعورين يكاد المرء منهم لا يغادر بيته خوفاً وهلعاً.. والألسنة تلهج بدعاء وتضرع نحو الباري أملاً في انكشاف الغمة بمعجزة من المعجزات..
وفي الرابع من صفر بدأت الأسوار الشرقية تنهار.. وتصدع برج العجم أمام الضربات كاشفاً عن ثغرة فيه.. فتشجع الجيش التتري أكثر وهم يهجمون على الثغرة تلك ويقاتلون الحامية التي كانت في ذلك الموقع.. وفي اليوم ذاته، استولت فرقة من الجيش التتري على الثغرة بالقوة..
وفي الجانب الآخر من المدينة، هاجمت القوات المواجهة لباب السلطان السور المواجه لها واستولت عليه بعد قتال ضارٍ.. وبهذا أصبحت الأسوار الشرقية كاملة في أيدي الجيش التتري..
وهكذا تم الحصار الكامل حول بغداد..
وغدت أسوار المدينة على شفير انهيار مخزٍ..
ولم يبق أمام الخليفة إلا سبيل واحد..
التسليم التام دون قيد أو شرط......

***********************

~ بعيدا عن الخيال (١٢) ~
بدء حصار بغداد


بعد حصار بغداد، وبدء المفاوضات بين هولاكو وبين الخليفة العباسي، لجأ هولاكو لإطلاق القذائف النارية والحجرية على بغداد، لدفع الخليفة العباسي على سرعة الاستسلام والموافقة على شروط هولاكو.. وبدأ القصف التتري المروع لأسوار وحصون وقصور وديار بغداد، وبدأت المدينة الآمنة تروع للمرة الأولى تقريبا في تاريخها..
بدأ القصف التتري في الأول من صفر سنة ٦٥٦ هجرية ، واستمر أربعة أيام متصلة.. ولم تكن هناك مقاومة تذكر.. وأحاط التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب، حتى أصيبت جارية كانت “تلعب” بين يدي الخليفة وتضحكه، وكانت من جملة حظاياه، وكانت تسمى “عرفة”، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي “ترقص” بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: “إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم”، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة!!..

((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني

***********************

bluemay 16-02-16 01:44 PM

يا للمأساة الفظيعة ..

هاهي بغداد اﻵمنة قد وصلها التتر وما هي اﻷ هنيهة وتسقط في ايديهم ..

ما مصير جمان وسلمة في هذا ؟!


سلمت يداك متشوقة للقادم رغم حزني


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 16-02-16 08:14 PM

رد: رحلة ضياع
 
بالفعل هي مأساة لا يمكن لتطاول الزمن أن يخفف من وقعها على قلوبنا
وهي تذكرنا بمآسي كبيرة مشابهة تحدث في وقتنا الحالي
ما يزال سلمة وجمان يصارعان للخروج من هذه المآسي
لكن هل مأساة سقوط بغداد كغيرها مما مرا به؟..
سنرى ذلك في الفصول القادمة بإذن الله تعالى..

مملكة الغيوم 16-02-16 11:55 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
ماساة الشعوب تاءتى دائما من تهاون الحكام فمدينه عريقه مثل بغداد لو كان الحاكم قوى وغير متخاذل كان شدد عليها التسليح واكثر من الجند لكن ماحدث ان الخليفه يلاعب الجوارى وترك شعبه نهبه للفزع والقلق حتى غدا التتار اقرب اليه من انفه ووقتها لن ينفعه المال وذنب الرعيه معلق فى رقبته
احداث موجعه عافانا الله من تكرارها سلمت يداكى فى انتظار الباقى دمتى بود ولكى منى كل الحب

عالم خيال 17-02-16 08:45 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله
عندما قرأت عن خلفاء الدولة العباسية الثانية، بالفعل صدمت من تخاذل وهوان الكثير منهم
كثير منهم كان خليفة بالاسم فقط، وكثير منهم كان يلقى معاملة سيئة من خدمه وعبيده..
ومع ذلك، تشبثوا بحب الدنيا، ولم يكن لهم عزم وعزيمة
لذا مثل هذه النهاية متوقعة تماماً
ندعو الله بالفعل ألا تعود تلك الأيام
اتمنى أن أستطيع نقل تلك المأساة لكم بالوجه الصحيح
نلتقي مع الفصل القادم بإذن الله

عالم خيال 17-02-16 09:27 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الثالث عشر ~


كان الذعر والفزع قد استولى على أهل بغداد مع الهجوم الضاري الذي تشهده المدينة، ومع عجز الخليفة وجيوشه عن صدّ الهجوم بأي شكل من الأشكال.. ولم يكن ذعر جمان يقل عنهم بعد كل ما شهدته من التتار، فاعتزلت في غرفة الخان بشكل شبه تام لا تكاد تخرج منها أو تأكل.. ورغم قلق ربيعة على حالها، إلا أن هذا القلق تضاءل مع الأخبار التي تصله عن الهجوم الذي يشنه التتار على المدينة..
ولم يستغرق الأمر أكثر من أربع أيام من القصف المتواصل، والذي لا يكاد يهدأ ليلاً أو نهاراً وأصوات دكّ الأسوار يمكن سماعها من على مبعدة.. استطاع الجيش التتري بعدها الاستيلاء على أسوار المدينة كلها..
وبعد أن يئس الخليفة من صدّ العدوان بجيوشه الهزيلة، وبعد أن تيقن أن أسواره ليست منيعة بالشكل الذي زين له غروره السابق، لجأ لصدّ الهجوم بطريقة سلمية.. فأرسل وزيره ابن العلقمي برسالة لهولاكو تقول (طلب مني الأمير المغولي إرسال وزيري، وها أنذا اليوم اقتنع بما طلب مني مؤملاً أن يحفظ الأمير كلمته)، في إشارة منه للرسالة التي أرسلها هولاكو له قبل أن يسيّر جيوشه لبغداد.. ففي تلك الرسالة عاتب هولاكو الخليفة المستعصم بسبب عدم إمداده بالجند عند محاربته للإسماعيلية (الذين اشتهروا بإسم الحشاشين) وقضائه عليها كما طلب منه سابقاً، ودعاه لتجريد حصونه من السلاح وحضوره شخصياً أو إرسال الدفتردار الصغير وسليمان شاه نيابة عنه.. وقال له إنه إن فعل ذلك ضَمِنَ له حريته وحفظ مركزه.. وإن أبى ذلك أحل بنفسه وبأهله الدمار.. لكن رد الخليفة الواثق من نفسه في ذاك الوقت كان شديد اللهجة وحذر هولاكو من محاولة الإطاحة بالخلافة وطلب منه العودة بجيوشه..
أما هذه المرة، فلم يقبل منه هولاكو هذا التزلف، ورد الوزير مع رسالة للخليفة يقول له فيها (عندما وعدت هذا الوعد كنت لا أزال تحت أسوار همذان، أما الآن وأنا أعسكر أمام بغداد وقد أصبح بحر المشاكل والعداوة في أشد الهيجان، كيف أكتفي باستقبال أحد كبار رجال الدولة؟.. يجب أن يرسل الخليفة رؤساء حكومته الثلاثة الوزير والدفتردار وسليمان شاه)..
حاول الخليفة إرسال الوزير مع عدد من أشهر كبار رجال بغداد لاستمالة هولاكو، كما أرسل أبناءه في مرات أخرى، لكنه ردهم دون أن يعيرهم أدنى اهتمام.. ولما ضاق الخناق على بغداد وحاصرها التتار من جميع جهاتها، وبعد أن عادت الرسل تلو الرسل تجر أذيال الخيبة، اقتنع الخليفة أخيراً بإرسال الدفتردار الصغير وسليمان شاه كما طلب هولاكو.. أرسلهم على أمل أن يفي هولاكو بوعوده ويعود لهمذان بجيوشه.. لكن هولاكو أعاد الاثنان من جديد وطلب منهما الرجوع إليه ومعهما أتباعهما، على وعد بأن يكتفي بنفيهم إلى الشام دون أن يمسهم بسوء..
وفي ذلك اليوم، خرج وفد كبير مهيب شهدته بغداد بأسرها يضم الدفتردار الصغير وسليمان شاه وأقاربهما وأتباعهما، وتبعهما كثير من جند بغداد وأهلها أملاً في الخلاص من الحصار، وأملاً في أن يفي هولاكو بوعوده.. لكن، وبغدره المعهود، فور أن خرج هذا الوفد وأحاط به جنود التتر، حتى أمر هولاكو بقتلهم عن آخرهم.. فهجم التتار على ذلك الوفد الأعزل رغم استسلام أفراده، فقتل ذلك اليوم أكثر من سبعمائة شخص، وأرسل هولاكو رأس الدفتردار الصغير وسليمان شاه وتاج الدين ابن الدفتردار الكبير إلى صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ ليعلقها على أسوار مدينته استعراضاً لوحشية التتار.. وقد كان صاحب الموصل في تلك الأوقات متحالفاً مع هولاكو، فلم يملك إلا تنفيذ هذا الأمر دون اعتراض..
كان لقتل هذا الوفد أثر كبير على أهالي بغداد وسبب لهم الرعب الشديد بعد أن علموا أن وعود هولاكو ما هي إلا أحلام وسراب لا أمان له.. وأن ما ينتظر بغداد قد يكون أسوأ من أي شيء يتخيلونه.. فقد يئس الخليفة من النجاة من هذا المصير، وأيقن أهل بغداد أن التسليم لابد منه فخرج كبراؤهم إلى هولاكو يعرضون تسليم المدينة إليه، ويعدون بخروج الخليفة إليه بنفسه..
وأخيراً، خرج الخليفة المستعصم ومعه أولاده الثلاثة ومعهم ثلاثة آلاف شخص من السادة والأئمة والقضاة وكبار رجال الدولة وسلموا أنفسهم إلى هولاكو.. ورغم كل ما سبق، فإن الخليفة الضعيف كان لا يزال يأمل بأن يفي هولاكو بوعوده ويمنحه الأمان.. وقبل مقابلة هولاكو، تم عزل الخليفة وسبعة عشر رجلاً معه عن بقية الوفد.. وبينما أدخل الخليفة على هولاكو، أصدر الأخير أمره لرجاله بأن يتم قتل الوفد كله.. فقتل كبراء القوم، ووزراء الخلافة، والأئمة، والقضاة..... قتل الجميع ولم يبق منهم إلا الخليفة ومرافقيه..
وهنا، بعد أن شعر هولاكو بأن الخليفة العباسي قد استسلم له بشكل كامل، بدأ بإلقاء أوامره للخليفة بكل صلافة.. الأمر الأول أن يصدر أمراً لأهل بغداد بإلقاء السلاح والامتناع عن المقاومة والخروج من المدينة.. ومن أطاع الأمر وخرج بالفعل كان يقتل على الفور على أيدي جنود التتار..
والثاني أن يستدعي بعض الرجال من العلماء والفقهاء والخطباء مع أهليهم.. ومن يخرج منهم يساق إلى المقابر خارج بغداد ويُقتل أيضاً ويؤخذ أولاده ونساؤه للسبي أو للقتل..
كما قتل هولاكو ابني الخليفة أمام عينيه، أحمد أبو العباس وعبدالرحمن أبو الفضائل، بينما أسر الثالث مبارك أبو المناقب، وأسر أخوات الخليفة فاطمة وخديجة ومريم..
وبعد كل هذا، أمر هولاكو جنوده بردم الخنادق، وهدم أسوار المدينة، وأقام جسراً على نهر دجلة ليعبر جنوده من الضفة الغربية للجزء الشرقي من المدينة..
وفي السابع من صفر، وهو يوم لن ينساه أهل بغداد، انساب جنود التتار إلى طرقات بغداد وأزقتها ومحلاتها..
وسقطت بغداد عاصمة الخلافة..
سقطت الدولة العباسية التي دامت قروناً عديدة وتصدت لأعداء كثر، لتهوي أخيراً تلك السقطة المؤلمة المخزية بأيدي جيش من الهمج لا حضارة له ولا تاريخ، جاء من أقصى الأرض يحمل الحقد على سيوفه والشرر في عيونه..
وبعد أن تيقن هولاكو من سقوط المقاومة في المدينة، ومن استسلام أهلها التام، أصدر أمره الأخير.. ولو كان هولاكو شخصاً عادياً.. لو كان قائد جيش من البشر، لأمر بعدم المساس بأهل المدينة التي غدت ملكه في ذلك اليوم واستسلمت له بكافة طوائفها..
لكن هولاكو يثبت أنه ما هو إلا وحش في رداء بشر..
والوحش لا يقود إلا وحوشاً مثله لا ذمة لهم ولا رحمة في قلوبهم..
فكان الأمر الأخير أبعد من أن يصدقه أي عقل، وإن لم يكن بعيداً عما فعله التتار في تاريخهم منذ بدء هجومهم على أطراف الدولة الإسلامية..
وكان هذا الأمر الذي تاقت له نفوس جنوده هو (استباحة بغداد)..
والاستباحة تعني أن الجيش التتري يباح له فعل ما يشاء في المدينة..
لا رادع ولا قوانين ولا حتى مساءلة..
واستبيحت المدينة العظيمة..
مدينة الإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل..
استبيحت مدينة المعتصم، فاتح عمورية ببلاد الروم..
استبيحت عاصمة الإسلام على مدار أكثر من خمسة قرون..
فبدأ التتار عندها يفعلون ما لا يصدقه عقل.. من نهب، وسلب، وحرق، وتدمير.. وبدؤوا بقتل من تطاله أيديهم من المسلمين.. فبدأوا يتعقبون المسلمين في كل طريق أو زقاق.. في كل بيت.. في كل مسجد.. واستحرّ القتل في المسلمين الذين لا حول لهم ولا قوة.. فمن هرب لداره وأغلق بابه، أحرق التتار الأبواب أو اقتلعوها ودخلوا عليهم.. ومن هرب لسطح داره، تبعه التتار وقتلوه.. حتى سالت الدماء بكثرة من ميازيب المدينة وهي قنوات تجعل في سقف المنازل لينزل منها ماء المطر، ولا يتجمع فوق الأسطح..
قتل الرجال.. والكهول.. والشيوخ.. والنساء.. والأطفال.. حتى الطفل الرضيع لم يسلم من القتل.. ومن أبقوه من النساء والأطفال أخذوه سبياً..
ولا يمكننا إلا أن نقول (لا حول ولا قوة إلا بالله)..

***********************

مع بداية ذلك اليوم الذي لا يُعرف كيف سينتهي، رأى سلمة التتار ينسابون في المدينة ويتغلغلون في طرقاتها وأزقتها كالجراد ينتشر في الزرع الأخضر النضر.. كان سلمة في ذلك الوقت واقفاً فوق سطح أحد البيوت مراقباً الأحياء القريبة من الخان الذي لجأ إليه ربيعة وجمان، فلم يساوره شك، وهو يرى سقوط بغداد، فيما سيحدث للمدينة وأهلها من خراب ودمار.. فمن سمع عن التتار ورأى بعضاً من همجيتهم في التعامل مع أعدائهم، سيعلم أنهم لا يحملون أي قدر من الرحمة في صدورهم، ولا يعبؤون بحياة أحد أو بموته.. وتزداد بشاعة تصرفاتهم في كل مدينة واجهتهم بشيء من المقاومة حتى لو كانت يسيرة..
عندها أسرع سلمة يهبط من سطح ذلك البيت محاولاً العودة للخان وهو يفكر في أمر من تركهم خلفه.. أين يمكنهم الهرب من هذا المصير؟ بل أين يمكنهم الاختباء؟ لا يبدو أن التتار سيدخرون وسعاً في تفتيش بيوت المدينة وأحيائها بحثاً عن كل ما يمكن سلبه أو تخريبه.. فما هو المصير الذي سيلاقونه على أيديهم؟..
وقبل أن يصل للطريق المواجه للبيت، سمع بوضوح صرخة عالية لامرأة في موضع قريب وصياح رجل حمل توسلاً وذعراً لا محدوداً.. نظر سلمة من موقعه بحذر فرأى أحد التتر يقبض على امرأة من نساء الحي بينما قام آخر بدفع رجل في أوسط عمره أرضاً ووجه له سيفاً حاداً وضحكة خبيثة.. ورغم توسلات الرجل وصياح المرأة، لم يتردد التتري في أن يضرب الرجل في صدره بالسيف ضربة قوية أسقطته أرضاً وملابسه البيضاء تتلطخ بدمائه الدافئة، بينما سالت الدموع على وجه المرأة وهي تصرخ برعب وتحاول الفرار والتتري يجذبها معه مبتعداً عن الموقع..
تنامى الغضب في صدر سلمة وقبضته تشتد على مقبض سيفه، لكن رؤيته لجماعة من التتر يخرجون من بيت قريب منعته من التدخل.. كان التتر يحملون بعض ما سرقوه من ذلك البيت، بينما جذب بعضهم عدداً من الجواري، كما بدا من لباسهن، غير عابئين ببكائهن ومحاولاتهن للهرب.. كانت الدماء تلطخ ملابس التتار وأسلحتهم بوضوح، بينما لم يعبأ أحدهم بذلك وهم ينطلقون لبيوت أخرى مكررين ما فعلوه سابقاً..
زفر سلمة بأسى وهو يحاول الابتعاد عن هذا الموقع، وتجنب القتال مع التتار ما استطاع.. وصلته أصوات الصراخ والصياح بوضوح من أجزاء عديدة من الحي حوله، لكنه حاول كتم أساه وهو يسرع عائداً للخان القريب.. لكنه لم يكد يعبر طريقين حتى توقف مع مرأى جماعة من الأهالي الذين أسرعوا يختبئون في أحد البيوت الكبيرة نوعاً في ذلك الحي.. وسرعان ما أغلقوا الأبواب الخشبية الثقيلة دونهم ومنعوا التتار من اللحاق بهم.. حاول التتار اقتلاع تلك الأبواب الثقيلة دون فائدة، فما كان منهم إلا أن أحاطوا البيت من جميع الجهات، ثم أطلقوا عليه قذائف النفط المشتعل.. وسرعان ما بدأت النار تأكل البيت من جميع زواياه، وبدأ الصراخ والصياح المتألم يتصاعد من ثناياه.. ظل سلمة مختبئاً في موقعه يراقب الوضع بقلق، ولولا وجود جماعة التتر تحيط بالبيت لما توانى عن مساعدة من في ذلك البيت من الموت حرقاً أو اختناقاً.. ولم يكن لديه شك بما ينتويه التتار من وقوفهم في ذلك الموقع يتضاحكون على ما يسمعونه من صياح يحمل في ثناياه أشد العذاب والألم.. ولم تلبث أبواب ذلك البيت أن فتحت وهمّ بعض أصحابها بالهرب من الحرق حياً، لكن لتتلقاهم سيوف التتار ورماحهم دون تردد حاملة لهم الموت بضربات سريعة.. فوقع أصحاب ذلك البيت بين نارين، نار القتل ونار الحرق، ويعلم الله كم كان كلاهما عذاباً حقيقياً.. خاصة لمن كان يحمل طفله بين يديه أو يعين عجوزاً أو امرأة حبلى في النجاة من النار، فقط ليجد أن الموت أقرب إليهم مما كانوا يتمنون.. والأدهى من ذلك ضحكات التتار والتماع أعينهم بشغف أثناء تنافسهم على قتل كل من تطاله أيديهم..
أدار سلمة وجهه مجبراً وغادر عبر ذلك الزقاق بصمت.. لشد ما يؤلمه كل ما يراه من قتل وتنكيل بالأرواح المسلمة.. لكن من يكون هو ليواجه الجيوش الجرارة تلك كلها؟.. وفوق ذلك، كان همّه منصباً على جمان.. ولا يكاد يشعر بما حوله وهو يفكر بما قد جرى لها في هذا الوقت وهو بعيد غير قادر على حمايتها.. تباً له.. لماذا قرر مغادرة الخان هذا اليوم رغم كل النذر المشؤومة؟..
نظر سلمة من زاوية البيت في آخر الزقاق بحذر، فلم يكن يريد الاصطدام بجماعة من التتار أثناء عودته فلا قِبَلَ له بهم.. ولما اطمأن أن الطريق آمن نسبياً بعد أن غاب من كان فيه من التتار في البيوت القريبة، ركض سلمة بسرعة عبر الطريق نحو زقاق آخر سيؤدي به إلى موقع قريب من الخان.. وفور أن دلف ذلك الزقاق تنهد مغمغماً لنفسه "بقي القليل فقط.."
لكنه توقف فجأة مع مرأى ذلك التتري الذي سدّ الطريق أمامه وهو يقبض على شاب لا يتجاوز سلمة في العمر وقد غرق وجهه المذعور بدموعه.. وقبل أن يتحرك سلمة كان التتري يغمد سيفه في صدر الشاب الذي شهق بقوة، ثم رماه أرضاً ونظر إلى سلمة الذي توتر وهو قابض على سيفه متردداً بين مواجهة التتري أم الابتعاد.. لم يكن يخشى المواجهة، لكنه يؤثر الابتعاد في تلك اللحظة فلا يريد تضييع وقته في قتال قد يستغرق وقتاً وهو لا يعلم حال الخان الذي لا يبعد عنه كثيراً ولا حال من بقي فيه.. فاستدار عازماً على الابتعاد بسرعة وأخذ طريق آخر للوصول للخان، لكن سدّ طريقه تتري آخر اقترب من خلفه وهو يمسك رمحاً بطوله وينظر لسلمة بنظرات يلتمع الشر فيها..
أدرك سلمة سوء موقفه وهو وسط الزقاق بين اثنين من التتر الهمج الذين لا يعبؤون بحياته مقدار ذرة.. فاستل سيفه بسرعة ونظر لصاحب الرمح الأقرب إليه وهو يوازن الموقف في ذهنه.. لابد أن التتريين سيهجمان عليه في آن واحد، فكيف له الهرب دون أن يصاب؟..
رأى صاحب الرمح يدير رمحه في يده، ثم وجده يندفع نحوه وهو يدفع الرمح نحو صدره بقوة.. ألقى سلمة نفسه أرضاً بسرعة متفادياً الرمح ثم نهض فجأة وهو يمسك ذراع التتري بالرمح فيها وأداره بقوة في الاتجاه الآخر في نفس اللحظة التي كان التتري الآخر يهجم فيها عليه بسيفه.. وبسبب حركته تلك، شهق صاحب الرمح وقد وجد أن سيف رفيقه قد انغزر في ظهره بقوة حتى غاب أغلب النصل في جسده.. بينما تخلى سلمة عن التتري المصاب وهجم على الآخر الذي لم يتمكن من جذب سيفه بعد.. وبضربة واحدة ألقاه جانباً مضرجاً في دمائه..
لهث سلمة بتوتر شديد وهو يرى الجثتين الملقاتين أرضاً، وتلفت حوله بقلق خشية مباغتة شخص آخر له من الخلف.. ثم عاد لصاحب الرمح والذي كان يحمل قوساً وجعبة مليئة بالسهام على كتفه.. فتناولها سلمة منه وغمغم "لابد أن تنفعني هذه.."
حمل القوس والسهام على كتفه، وسار متجاوزاً الجثتين نحو الخان بسرعة وخفة.. آملاً ألا تكون الأمور قد ساءت كثيراً هناك كما حدث في هذا الجزء من الحي..

***********************

مع الصراخ الذي تعالى في طرقات الحي، والذي وصلهم خافتاً، أسرعت جمان للنافذة تنظر منها بقلق وهي تهمس "ما الذي يجري الآن؟.. رباه استر.."
سمعت أباها يقترب من خلفها وينظر من النافذة بصمت، ونظرة منها لوجهه أدركت مدى الرعب الذي يعتريه وهو يسمع ما لم يدع له مجالاً للشك.. فالتفت لجمان قائلاً بتوتر شديد "علينا مغادرة المكان.. علينا الهرب قبل أن يصلوا إلينا يا ابنتي.."
قالت جمان بذعر "أتظن أنهم........"
أسرع ربيعة لغرفته قائلاً "ليس لدي شك بذلك.. لقد استسلم الخليفة، واقتحم التتار بغداد.. فأي معاملة تظنين أنهم سيعاملون أهلها بها؟.."
لاحظت جمان أن الذعر استولى على من في الخان مع تلك الصرخات، ثم رأت أباها يتناول سيفه الموضوع في غرفته ويثبته في حزامه، قبل أن يقترب منها ويمد يده إليها بخنجر صغير قائلاً "ابقي قريبة مني يا جمان.. وإن اضطررت لاستخدام هذا، فلا تترددي بذلك"
ارتجفت يدا جمان وهي تتناول الخنجر وشيء من الذعر يتسلل لنفسها.. ولم تفهم أيقصد أبوها أن تقاوم التتار بخنجر صغير مهين كهذا، أم تسلب روحها بيدها لتكفّ أيدي التتار عنها؟.. لم تسأله عن مغزى قوله بل سارعت لإخفاء الخنجر في ثيابها.. ورأت أباها يراقب الوضع خارج الخان، ثم خرج من الباب وهو يشير لها لتتبعه بصمت.. فتبعته جمان وهي تقول بتوتر "إلى أين الهرب؟ لابد أن التتار في كل موقع من المدينة الآن.."
قال ربيعة "ما يهم الآن أن نهرب.. لم يعد البقاء هنا آمناً.."
لم يكادا يخطوان خارجين من الخان حتى لاقاهما جنيد صائحاً "مولاي.. عودا للخان واختبئا.. التتار قادمون.."
قال ربيعة مقطباً "لا يقدر مثل ذلك الباب على منع التتار عنا.. بقاؤنا في ذلك الخان دعوة للتتار للهجوم علينا بكل يسر.. يجب أن نهرب"
قال جنيد بتوتر "لكن إلى أين؟ المدينة تغلي والتتار يتسللون إلى كل طريق وزقاق وحي.."
قال ربيعة وهو يجذب جمان "يجب أن نبحث عن حصان لنهرب به.. ابحث لنا عن واحد يا جنيد وعد بسرعة.."
هز جنيد رأسه إيجاباً قبل أن يستدير راكضاً.. فجذب ربيعة يد جمان وهو يتبعه قائلاً "لا تبتعدي عني يا ابنتي.."
فوجئ الاثنان في تلك اللحظة بجنيد يخرّ أرضاً بصمت.. فتوقف ربيعة وجمان بدهشة، قبل أن يقترب ربيعة من جنيد بقلق وهو يقول "ما بك يا جنيد؟.."
رأى في تلك اللحظة ذلك السهم الذي اخترق عنقه وأسقطه جثة بلا روح، فاتسعت عيناه بصدمة بينما شهقت جمان بذعر وهي تقول "من الذي أصابه؟"
تلفت ربيعة حوله وهو يجذب جمان خلفه بقلق عارم، عندما فوجئا بذلك السهم الذي غاص في منتصف صدر ربيعة.. فشهق ربيعة بألم وهو يستند على جدار قريب بينما صاحت جمان بصدمة "أبي.."
لم تكن تلك الإصابة قاتلة لحسن الحظ، فغالب ربيعة ألمه وهو يتلفت حوله بقلق ليرى أحد التتر يقف على سطح بيت قريب ويسدد نحوهما سهماً آخر.. فجذب ربيعة جمان بقوة وهو يصيح "انتبهي.."
رأت جمان السهم يسقط قريباً من موقعها السابق، بينما دفعها ربيعة في زقاق قريب أخفاهما عن ذلك التتري وهو يلهث بقوة وألم.. نظر ربيعة للسهم الذي غاب رأسه في منتصف صدره، ثم أمسكه بيده وجذبه بقوة ليخرجه من جسده وهو يئن متألماً وجمان تراقبه بفزع.. وفور أن جذب السهم، بدأت الدماء تتدفق من موضعه بغزارة جعلت جمان تبحث حولها بذعر حتى وجدت عمامة أبيها قد سقطت قريباً، فتناولتها وضغطت بها على الجرح وهي تقول بقلق "اصمد أرجوك يا أبي.. يجب أن نغادر هذا الموقع بسرعة.."
تنفس ربيعة بشيء من العسر مع الجرح الذي يؤلمه، ونظر لجمان المذعورة وهي تحاول إيقاف الدماء المتصببة، قبل أن يقول لها "جمان.. ابحثي عن سلمة.."
هتفت جمان "لا وقت لهذا.. يجب أن آخذك لموقع آمن الآن.."
قال ربيعة مقطباً "ابحثي عن سلمة يا جمان.. التتار قد أحاطوا بنا.. ولن أجد من قد يحميك أكثر منه، هذا لو كان حياً بعد.."
نظرت له جمان وهي لا تدري أتبكي على ما جرى لأبيها أم تضحك من قوله، ثم قالت له بصوت مرتجف "أنت رفضت منحه حريته جزاء صنيعه.. والآن تطالبه بأن يحميني؟.. كيف لك أن تكون قاسياً؟.."
تنهد ربيعة وقال "سلمة عبدٌ يا جمان.. حتى لو نال حريته، فسيظل عبداً.. عليه وعليك أن تدركا هذه الحقيقة.."
نظرت له جمان بعدم فهم، ثم قالت متجاوزة ذلك الحوار "يجب أن نربط الجرح قبل أن ينزف أكثر من هذا.."
نظر ربيعة خلفها بقلق ظاهر وغمغم "لا نملك الوقت للقلق على هذا الجرح"
التفتت جمان بدورها، فرأت ذلك التتري يتقدم منهما وسيفه بيده بتهديد واضح.. فدفع ربيعة بجمان خلفه واستل سيفه محاولاً الدفاع عنها وهو يصد ضربة من التتري.. فعاد التتري يصوب الضربة تلو الأخرى بقوة وربيعة يصدها بسيفه، لكن لم يستغرق الأمر منه أكثر من عدة ضربات لينكسر سيف ربيعة لقوة الضربات..
ارتاعت جمان وهي ترى ما جرى، وترى التتري يرفع سيفه عالياً ناوياً القضاء على ربيعة بضربة واحدة.. فأسرعت جمان تقف بين التتري وبين أبيها رغم النفضة التي اعترتها وهي تصرخ بالتتري "ابتعد.."
رغم أنه لا يفهم قولها بالتأكيد، لكن لابد أنه سيفهم ما تعنيه.. حاولت جمان ألا تعبأ بسيفه الذي ارتفع عالياً، فصاحت مرة أخرى "قلت لك ابتعد.. لا تقترب منا.."
صاح بها ربيعة "اهربي يا جمان.. ابحثي عن سلمة.."
سمعته يشهق متألماً، فالتفتت إليه بذعر لترى رجلاً آخر من التتر قد تقدم من جانب الزقاق الخلفي وضرب ربيعة بسيفه ضربة أخرى في جانبه انثنى ربيعة منها متألماً.. فهبّت جمان نحوه صائحة "أبي.. لا.."
لكنها شعرت بمن يجذبها من ملابسها بقوة ويجرها حتى ارتمت أرضاً.. حاولت دفع التتري بعيداً عنها لتعود لأبيها، لكنه جذبها بقوة على الأرض وسحبها غير مبالٍ بآلامها هي تحاول الإفلات بعسر شديد.. لم تتمكن من رؤية ما جرى لأبيها، فصاحت وهي تغرز أظافرها بقوة في يد التتري "أطلقني أيها الوغد.. اتركني.."
وجدته يوقفها محاولاً تقييد يديها في سرج حصانه القريب، لكنها قفزت وارتطمت بالحصان بكتفها بقوة مما جعله يفزع ويصهل وهو يرفس بقدميه عالياً.. استغلت جمان الإرباك الذي أدت إليه ثورة الحصان ومحاولة التتري السيطرة عليه قبل أن يهرب، فانثنت وهي تركض نحو أقرب زقاق بين البيوت أملاً في أن تتمكن من الهرب والاختباء من التتر القريبين.. لكن بعد عدد قليل من الخطوات، وجدت ذلك الحائط يسدّ عليها الطريق ووسطه باب خشبي.. اندفعت جمان نحو الباب وحاولت فتحه دون أن تفلح بذلك.. فتلفتت حولها بحثاً عن منفذ آخر، عندما سمعت الخطوات خلفها تتقدم منها بثقة.. استدارت وقلبها يسرع في دقاته بشكل زاد توترها وذعرها وهي ترى ذلك التتري قد لحق بها وهو يتقدم منها ونيته واضحة على وجهه.. كان نصل سيفه يعكس نور الشمس في عينيها، ورأته يحمل قوساً وكنانة مليئة بالسهام على ظهره، بالإضافة لسيف آخر في غمده معلق في حزامه.. كان يبدو بكامل تسليحه، فكيف لها وهي التي لا تملك إلا الخنجر الذي تدسّه في ملابسها من مقاومته؟.. تذكرت أباها الذي تركته غير بعيد وهي لا تعرف حاله.. وتذكرت سلمة الذي لا تدري أين مكانه وإن كان نجا من هذا الهجوم الشرس للتتار أم لا.. ورغم الذعر والخوف الذي ينفض قلبها نفضاً، لكنها للمرة الأولى لم تكن مترددة.. هي لحظات مصيرية، إما أن تصمت وتعيش حياتها ذليلة، وإما أن تتخذ قرارها الآن حتى لو عنى ذلك موتها..
وقفت في موقعها محاولة تمالك رجفة يديها.. وعندما اقترب منها التتري ومد يده نحوها وضحكة ترتسم على شفتيه الغليظتين، كانت جمان تقفز منحنية نحوه مغافلة إياه، فسحبت سيفه الآخر من غمده بسرعة ولوّحت به نحوه محاولة إصابته ولو بشكل بسيط.. لكنه لم يتراجع وهو يمسك نصل السيف بيده دون أن يخشى الإصابة، فلم تتمكن جمان من تحرير السيف من قبضته القوية رغم محاولاتها.. وسرعان ما وجدته يجذب السيف بقوة من يدها ويدفعها بعيداً حتى وجدت الجدار خلفها يرتطم بظهرها ويوقفها.. نظرت نحو التتري بتوتر متزايد لتراه يعيد السيف لغمده ويتقدم منها من جديد.. عندها سارعت جمان لاستخراج الخنجر من ثيابها، وما إن رآه التتري حتى أطلق ضحكة ساخرة لمنظرها وهي تهدده بشيء مهين كهذا.. لكن جمان لم تعبأ بضحكته وهي تدير الخنجر لتوجهه نحو عنقها بعزم مغمغمة "بئساً للمهانة.."
رغم أن التتري فوجئ بما فعلته، إلا أنه لم يُبْدِ اعتراضاً وهو يواصل تقدمه منها وملامحه تنطق باستمتاعه بما يراه.. كانت جمان متأكدة أنه يراها غير قادرة على تنفيذ تهديدها هذا، لكنه لم يكن يدرك شدة عزمها على ذلك، وغياب أي تردد في أعماقها..
أخذت جمان نفساً عميقاً وهي تقبض على الخنجر بشدة، ولما همّت بدفعه في عنقها بقوة لفت انتباهها ظلٌ طويل امتد من فوق رأسها حاجباً نور الشمس حتى غطـّى التتري أمامها.. ولما رفع التتري بصره للأعلى نحو الجدار الذي يقع خلفها، فوجئت برؤية ذلك السهم الذي اخترق عنقه في غفلة وأسقطه جثة هامدة..
نظرت جمان للجثة بدهشة دون أن تتحرك من موقعها أو تبعد الخنجر عن عنقها، عندما وجدت شخصاً يقفز ليهبط قريباً منها ثم يقف ويلتفت نحوها.. غمغمت جمان بصوت لم تتمالك رجفته "سلمة؟ كيف وصلت إلى هنا؟"
اقترب سلمة منها وهي تلاحظ القوس وكنانة السهام على كتفه، ثم جذب الخنجر بعيداً عن عنقها وهو يقول بتوتر "لا تحاولي فعل ذلك أبداً يا جمان.."
قالت بصوت مبحوح "أين كنت؟.."
غمغم سلمة "آسف.. لقد كنت بعيداً عندما حدث الهجوم، ثم أسرعت للخان وبحثت عنك وعن مولاي دون أن أعثر عليكما.. ولما صعدت فوق أحد المنازل القريبة لعلني أعثر عليكما تمكنت من سماع صوتك بوضوح.. ومن حسن حظي أنني وصلت قبل أن ترتكبي تلك الجريمة بنفسك.."
خفضت رأسها هامسة وهي تنتفض "أليس ذلك أفضل من الاستسلام؟"
قال وهو يسرع للجثة القريبة "هناك مائة وسيلة للمقاومة بدل نبذ حياتك بهذه الطريقة.."
أسرع يجرّد التتري من أي سلاح يملكه، وعاد لجمان فعلق أحد سيفيه بغمده في حزامها وهو يقول "هذا أكثر نفعاً بالنسبة لك من ذلك الخنجر.."
احتفظت جمان بالخنجر في ملابسها رغم ذلك، ثم وجدت سلمة ينظر إليها ويقول بحزم "عليك أن تتحركي بسرعة ودون تردد.. دائماً استهدفي العنق كي تتأكدي أن الضربة ستكون قاضية من المرة الأولى.."
خفضت جمان عينيها باضطراب، ثم قالت "القول سهل.. حاولت فعل ذلك في المرة الأولى وفشلت فشلاً ذريعاً"
ربت على كتفها وهو يقول "ستنجحين بإذن الله.. لنسرع بالهرب قبل قدوم المزيد منهم.."
تمسكت به قائلة بضراعة "أبي يا سلمة.. لقد تركته غير بعيد من هنا.. لكن أحد التتر هاجمه، ولا أدري إن......"
صمتت وإن كان الذعر بادياً بشكل جليّ على وجهها، فقال سلمة "لنَعُد إليه.. سنحاول إنقاذه بإذن الله.."
واستدار ليصعد للجدار الذي قفز منه مستعيناً بصندوق وجده في موضع قريب، ثم انحنى وجذب جمان التي مدت يدها نحوه، ورفعها حتى استطاعت الوقوف على الجدار قربه.. نظرا من موقعهما هذا للمدينة تحتهما.. لم يكن الوضع مبشراً بخير.. يكفي الفزع الذي ملأ الجو.. يكفي الصراخ الذي صمّ الآذان.. يكفي الموت الذي فاحت رائحته.. يكفي الدم الذي أغرق كل شيء وسال أنهاراً متدفقة في كل الطرقات..
شعر سلمة بجمان الواقفة قربه تنتفض وهي تراقب ما يجري في المدينة التي كانت هادئة وادعة بالأمس، فأمسك يدها وشدّ عليها بقوة قائلاً "سننجو بإذن الله تعالى.."
نظرت له بصمت.. ورغم ما رأته في عينيه، رغم ثقتها بأنه لن يتخلى عنها أبداً، ولن يتردد في بذل حياته في سبيل إنقاذها.. رغم كل ذلك، شعرت بالأسى.. شعرت أنها أبداً لن تستطيع أن تجازيه على قدر صنيعه معها.. كم حياة تحتاج لتستطيع ردّ جميله هذا الذي أغرقها حتى اختنقت؟..

***********************

~ بعيدا عن الخيال (١٣) ~
أسباب هزيمة بغداد


عندما انطلق جيش التتار لحصار بغداد، كانت هناك خيانة كبرى من أمراء الأناضول والموصل المسلمين أدت لتسهيل مهمة الجيش التتري ذلك... هذه الخيانة فتحت الأبواب لجيش التتار الذي قدم من الأناضول لحصار بغداد من الغرب بقيادة (بيجو)، ولم يجد أي نوع من المقاومة في أراضي المسلمين، وسار الجيش التتري في هدوء وأمان، وبالطبع لم يرتكب في طريقه مذابح لكي لا يلفت أنظار الخلافة في بغداد، ورضي الناس منه بتجنب شره، وخافوا أن يدلوا عليه لكي لا ينتقم منهم بعد ذلك..
خيانة عظمى من كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع أمراء الأناضول.. وخيانة أعظم من بدر الدين لؤلؤ أمير الموصل.. فبدر الدين لؤلؤ لم يكتف بتسهيل مهمة التتار، وبالسماح لهم باستخدام أراضيه للانتقال والعبور، بل أرسل مع التتار فرقة مساعدة تعينهم على عملية “تحرير العراق” من حكم الخلافة العباسية!!..
ومن الجدير بالذكر أن بدر الدين لؤلؤ قام بهذه الخيانة وهو يبلغ من العمر ثمانين عاماً! وقيل: مائة..!!! وجدير بالذكر أيضاً أنه مات بعد هذه الخيانة بشهور معدودات!!!..
ومن الخيانات التي قام بها أمراء المسلمين، أن الناصر يوسف أمير دمشق أرسل ابنه العزيز ليكون في جيش هولاكو..
وفي الآن ذاته، كانت الخلافة العباسية في ذلك الوقت قد تطاول عليها الزمن، وكما يقال عن الخليفة المستعصم "رجلاً متديناً، لين الجانب، سهل العريكة، سهل الأخلاق، إلا أنه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأمور المملكة، مطموعاً فيه.. وكان يقضي زمانه بسماع الأغاني، والتفرج على المساخرة. وكان شديد البخل، يكنز الأموال ويقيم وزناً كبيراً للدينار والدرهم، ولا يصرف الأموال في شئون الدفاع..”
في ذلك الوقت، قبل حصار بغداد، أرسل الخليفة المستعصم إلى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، يطلب منه جماعة من ذوي الطرب.. وفي الوقت ذاته أرسل إليه هولاكو يطلب منه منجنيقات وآلات الحصار.. فقال بدر الدين : انظروا إلى المطلوبَيْن، وابكوا على الإسلام وأهله.
وعندما علم الخليفة أن جيوش هولاكو تقترب، لم يتخذ الأهبة لمواجهتهم قبل أن يستفحل خطرهم، بل قال "أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضاً يهجمون علي وأنا بها، وهي بيتي ودار مقامي"

((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني

***********************

bluemay 17-02-16 10:05 AM

رد: رحلة ضياع
 
وقع ما كنت اخشاه

وهاهي بغداد قد سقطت في ايدي التتر المتوحشين فنكلوا بها وبأهلها.


شي محزن تكالب المسلمين على بعضهم .


جمان ما زالت تأمل في انقاذ ابيها وقد تعرض حياتها وسلمة للخطر ..


سلمة وصل في الوقت المناسب وخلص جمان من ما كانت فيه .


اين المفر يا ترى ؟!!


سلمت يداك وبإنتظار ما ستسفر عن الفصول القادمة .


«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

عالم خيال 17-02-16 03:11 PM

رد: رحلة ضياع
 
قد نستنكر ما كان عليه الخليفة من ضعف وما تسبب به من مصائب عظام على أمته وعلى بغداد..
لكني قد قرأت في كتاب عن التتار (أظنه لد. راغب السرجاني) قال فيه أن الرعية الفاسدة قد استحقت حاكماً فاسداً.. ولو صلح الحاكم صلحت رعيته.. كما أن الرعية لو صلحت فسيصلح الحاكم أيضاً..
إنها معادلة صعبة، وقلما حصلت في العصور حتى في عصور الدولة الإسلامية
لذا مثل تلك النتيجة كانت متوقعة شيئاً ما..

حاولت كثيراً تخيل ما قد تمرّ به جمان وسلمة في تلك الأوقات
لكن كل ما تخيلته، وكتبته، لا أظنه يقارب عشر الحقيقة
لذا اعذروا قصوري في الفصول القادمة، واعذروني لما سببته لكم من ألم مع أحداث هذه الرواية
نلتقي غداً مع فصل جديد بإذن الله تعالى..

bluemay 17-02-16 04:36 PM

رد: رحلة ضياع
 
إن شاء الله سنكون باﻹنتظار


وارجو ان تكون روايتك التالية كوميدية او فيها الفرح طاغي على الحزن >>> فيس انبط تشبده من الحزن والمآسي .


امزح طبعا ولكن اتمنى شيئا مفرح .


لك ودي



«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

مملكة الغيوم 17-02-16 05:13 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
سقوط بغداد يعد اكبر ضربه وجهت للاسلام فى ذلك العهد لان بسقوطها سقط اغلب الدول التابعه للخلافه الاسلاميه لانها اغلبها كانت ايضا تحت ايدى حكام كما الخليفه مال وجاه وجوارى وطرب ولا وقت لجيش او دفاع حمى الله مصر وشعبها لو قراءتى وا اسلاماه كتاب الدكتور حسين هيكل والحمله التى وجهها التتار وكيف تصدى لها جند مصر واهلها تجدى الفرق شاسع بين جند وجند وبين الناس ايضا فكلما زاد الانحلال وشرب الخمور والركون الى الكسل زاد جور الحكام وتكالب الدول على المسترخين والمتخاذلين
جمان لاتحسد على الموقف التى هى فيه مقتل ابيها بين يديها فاغلب ظنى ان التتار لن يتركوه الا هالك وخوفها من السبى كاد يدفعها لقتل نفسها لكن سلمه كالعاده يمشى على نبض شريانها فى انتظار الباقى دمتى بود ولكى منى كل الخير

عالم خيال 17-02-16 06:21 PM

رد: رحلة ضياع
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3596848)

وارجو ان تكون روايتك التالية كوميدية او فيها الفرح طاغي على الحزن >>> فيس انبط تشبده من الحزن والمآسي .

للأسفففففف مررت برواياتي كلها ولم أعثر على ما يطلق عليه وصف (مفرحه)
ليست لدي القدرة بتاتاً على كتابة رواية هزلية أو حتى سعيدة
لكن أتمنى أن تكون نهاية الرواية هذه تعويضٌ كافٍ عن كل ما جرى في ثناياها من تعاسة
هذا كل ما أملك تقديمه لك

عالم خيال 17-02-16 06:25 PM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

بالطبع قرأت من ضمن ما قرأت توابع ما جرى لجيش التتار، ولدي معرفة كافية بأسباب نجاح جيش قطز في صد التتار مقارنة بفشل جيش بغداد وجيش خوارزم
وفي النهاية، تبقى الغاية هي الفارق الوحيد للهزيمة والفوز
فمن كانت غايته نصرة كلمة الله ونصرة الإسلام، أعلى الله تعالى شأنه
ومن كانت غايته مكسباً وأموالاً وسمعة، هوى هو وأمواله وسمعته في الحضيض

هل قرأت عن هجوم التتار على المملكة الخوارزمية قبل وصوله لبغداد؟
في الواقع، تمكن جيش جلال الدين الخوارزمي من هزيمة جيش التتار مرة، لكن لأن هدفهم كان الحفاظ على ملكهم، دبّت الفرقة بين جنوده على الغنائم قبل أن يتم النصر بشكل كامل
فرحل أحد قادته مع نصف جيشه غاضباً لأنه لم يحصل على ما يكفيه من مغانم
ولم يكد الجيش يتفرق حتى أتاهم جيش أكبر من الذي هزموه بقيادة جنكيز خان نفسه
وهزم جيش جلال الدين وتفرق، ففر جلال الدين فراراً مخزياً حتى مات مجهولاً في جبال العراق

هذه عاقبة إعلاء الدنيا على الآخرة، وإعلاء هوى النفس على الدين..

رحم الله الأمة الإسلامية جميعاً..

مملكة الغيوم 17-02-16 06:32 PM

رد: رحلة ضياع
 
نعم قراءت عنها وعن جلال الدين وكيف جعل اخواته ونساءه يلقون بانفسهن فى النهر ليغرقن حتى لا يقعن سبايا للتتار كانت قصه محزنه وموقف مخزى من جلال الدين

عالم خيال 18-02-16 08:29 AM

رد: رحلة ضياع
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مملكة الغيوم (المشاركة 3596867)
نعم قراءت عنها وعن جلال الدين وكيف جعل اخواته ونساءه يلقون بانفسهن فى النهر ليغرقن حتى لا يقعن سبايا للتتار كانت قصه محزنه وموقف مخزى من جلال الدين

هذا من جملة الأشياء المخزية التي فعلها
كيف يقتل نساء بيته يأساً؟.. هذا بعيد عن الإسلام تماماً..

عالم خيال 18-02-16 08:34 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الرابع عشر ~


في ذلك اليوم الذي اصطبغ بحمرة واضحة، وفاحت منه رائحة الدماء والموت، تسلل سلمة ممسكاً بيد جمان فوق سطح أحد البيوت محاولين الهرب من الجرائم التي ترتكب في طرقات المدينة وأزقتها.. كانت أصوات الصيحات المذعورة والصرخات المتألمة تصلهم بوضوح، مما وتر سلمة أكثر وجعل جمان ترتجف وهي تتبع سلمة بقلق وذعر.. شعر سلمة أن لجوئهما لأسطح البيوت أكثر أمناً من السير في الطرقات، لكن ذلك تبدد عندما رأيا على سطح بيت قريب أصحاب ذلك البيت وهم رجل وامرأة مع ابنة لهما لا تتجاوز جمان في العمر.. بدوا مذعورين وهم يهربون إلى السطح، ولم يلبث أحد التتر أن صعد للسطح بدوره ورفع سيفه ليهوي به على رأس الرجل فيرديه قتيلاً في لحظة خاطفة..
كتمت جمان شهقتها لذلك المنظر بينما تعالى صياح المرأة وابنتها وبكاؤهما فزعاً مما رأتاه وتوسلاً للتتري أن يتركهما.. همست جمان "ما الذي سنفعله؟ سيقتلهما.."
أعاد سلمة السيف الذي بيده لغمده وتناول القوس المعلق على كتفه وهو يقول لجمان بخفوت "لا تجذبي انتباهه.."
تراجعت جمان قليلاً بقلق تراقب ما يجري، وقلقها يزداد مع مرأى التتري الذي جذب المرأة من ذراعها وهو يرفع سيفه الذي يقطر دماً.. بينما حاول سلمة المحافظة على هدوئه وهو يجذب وتر القوس بالسهم مصوباً نحو التتري قبل أن يطلقه.. فاندفع السهم بقوة شاقاً الهواء بصفير خفيف قبل أن يضرب ذراع التتري اليمنى.. أطلق التتري صيحة غاضبة دون أن يتخلى عن سيفه، ثم ترك المرأة باحثاً عن مصدر السهم.. ولم يكد يلمح سلمة في البيت المواجه له حتى أصابه سهم آخر في عنقه أسقطه للخلف ودماءه تلطخ السطح..
رأى سلمة المرأة تزحف مبتعدة عن الجثة نحو ابنتها الباكية، فصاح بهما "ابتعدا واختبئا في أي موقع.. سيأتي المزيد منهم ولاشك.."
وأسرع يجذب جمان مبتعداً عبر سطح البيت إلى بيت آخر.. فقالت جمان بقلق "ألا يجب أن نعاونهما؟ قد لا يتمكنا من الهرب فينال منهما التتار.."
قال سلمة مقطباً "كم شخصاً تعتقدين أنني أستطع إنقاذه والمدينة كلها تتعرض للهجوم؟ مبلغ همي هو إنقاذك أنت.. ولا يمكن أن أدع شيئاً يعيقني عن ذلك.."
رغم شعورها بالامتنان لذلك، إلا أنها شعرت بوخزة في قلبها وهي ترى الأرواح التي تتخطف من حولهما ولا يملكان لذلك حيلة..
بعد سير قصير، وصلا للموقع الذي تركت فيه جمان أباها، فوقفا على سطح المنزل ينظران نحو الزقاق الذي غاب لونه الأصلي تقريباً لكثرة الدماء التي غمرته، وللجثث التي تناثرت فيه.. شعرت جمان بذعرها يتزايد وهي تبحث عن أبيها، فسمعت سلمة يقول بعد أن تفحص المنطقة جيداً "سأهبط للبحث عن مولاي.. ابقي أنت هنا حتى أعود.."
انهارت جمان على ركبتيها وهي تهمس بارتجافة "لا داعي لذلك.. لقد انتهى كل شيء.."
نظر سلمة حيث تنظر، فرأى جسد ربيعة الملقى بين الجثث بوضوح وضربة قد أصابت جنبه بالإضافة لإصابة صدره.. وفي رأس الزقاق استطاع رؤية جسد جنيد الغارق بدمائه أيضاً.. شعر سلمة بقبضة تعتصر صدره، لكنه لم يظهر ذلك وهو يقول لجمان بحزم "يجب أن أتأكد.. لا تجزمي بموته لمجرد جرح أصابه.. ربما كان فاقداً للوعي"
وأسرع يهبط من فوق السطح وجمان تهمس بارتجافة "أتمنى ذلك.."
استغل سلمة جداراً قريباً من البيت ليهبط عليه ثم هبط على إحدى النوافذ قبل أن يقفز أرضاً وهو يتلفت حوله بحذر.. ولما تأكد له خلو الموقع من التتار، رغم وجودهم في أنحاء قريبة من هذا الزقاق، ركض محني الظهر نحو ربيعة الملقى أرضاً محاذراً إصدار صوت يجذب الانتباه.. ولما اقترب منه، متجاوزاً الجثث التي افترشت الموقع، أسرع يتفحص جسده بحثاً عن أي علامة تدل أنه على قيد الحياة.. لكن بنظرة قريبة، فإن الجرح كان أكبر مما ظنه سابقاً، ولم يخايل سلمة أي شك أن ربيعة قد فارق الحياة مع تلك الضربة التي أصابته.. خفض سلمة وجهه بأسى وهو يهمس "رحمك الله يا ربيعة.. وليغفر الله لي تقصيري في الدفاع عنك.. لكن الأجل لا يمكن تأخيره.."
نظر إلى جسد جنيد الذي كان مرمياً غير بعيد عن مولاه، ثم زفر متمالكاً حزنه وهو يقف.. عندما سمع هتاف جمان "سلمة.. إنهم قادمون.."
التفت سلمة لجانب من الزقاق، فرأى ثلاثة من التتر يدخلون الزقاق من الطريق الأقرب إليه ووجوههم لا تبشر بخير مع مرأى الدماء التي تلطخ وجوههم وسيوفهم وسائر ثيابهم.. وقف سلمة بتوتر وهو يراهم يندفعون نحوه فور أن لمحوه والحماس يفيض من عيونهم.. فركض سلمة عائداً للجدار خلفه فارتقاه بسرعة حتى وقف أعلاه ينظر للثلاثة الذين اقتربوا منه ملاحظاً عدم امتلاك أحدهم لقوس وسهام.. صاحت جمان وهي ترى تردده "اهرب بسرعة يا سلمة.."
لكنه لم يطعها وهو يتناول قوسه ويزوده بسهم مصوباً على الرجال الثلاثة، وبضربة سريعة أطاح بأحدهم بإصابة في موضع قلبه قبل أن يزود قوسه بسهم آخر.. فتوقف الاثنان الباقيان بشيء من الحذر وإن لم يتراجعا وهما يصرخان على سلمة بلغتهما غير المفهومة.. فأطلق سلمة سهمه الثاني نحو أحدهما والذي حمى صدره بسرعة بالدرق في يده.. لكن الضربة أصابت ذراعه فلم يأبه لها كثيراً وإن زمجر وهو ينتزع السهم من ذراعه دون أن يبدي ألماً..
غمغم سلمة وهو يصوب السهم الثالث "من أي شيء خلقتم أيها الهمج؟"
رأى الثالث يقترب منه مسرعاً محاولاً ارتقاء الجدار بدوره، فعاجله سلمة بسهم آخر أصابه بين عينيه رغم محاولته اتقاء الضربة بالدرق.. فخرّ جثة هامدة بينما صاح الثاني بغضب شديد وهو يقترب من سلمة.. سمع سلمة جمان تصيح "يكفي هذا يا سلمة.. غادر أرجوك.."
لكنه كان مصراً على التخلص من التتري الأخير.. رغم أن التخلص من ثلاثة في جيش لا يقل تعداده عن مائتي ألف لا يعدّ شيئاً مذكوراً، إلا أن سلمة شعر أنه ينتقم بمقتل هؤلاء الثلاثة لموت ربيعة وموت جنيد.. فصوّب سهمه الرابع وهو يحاول إحكام التصويب مستغلاً رفض التتري التراجع والهرب، لكن في اللحظة التي أطلق فيها سهمه شعر بألم حارق في ساقه اليسرى بينما طاش سهمه بسبب ذلك بعيداً ولم يصب التتري بمكروه..
نظر سلمة لساقه ليفاجأ بسهم يخترقها بشكل كامل، وبنظرة حوله رأى تترياً يقف على سطح بيت مقابل يصوب نحوه سهماً جديداً.. فصاح سلمة بجمان "اختبئي.."
وأسرع يقفز نحو نافذة ذلك البيت وهو يشعر بالسهم الثاني يرتطم بالجدار في موقع قريب منه، لكنه تمكن من الصعود فوق جدار البيت بخفة قبل أن يقبع خلف الحد القصير للسطح ومعه جمان التي همست بقلق عارم "أأنت بخير؟"
قال سلمة بتوتر "بخير.. لا تقلقي.."
لاحظت أنه تجاهل السهم في ساقه وهو يمسك بالقوس والسهم ويرفع رأسه قليلاً عن الجدار لينظر للتتري الذي وقف في البيت المقابل متأهباً.. همست جمان وهي تراه يحاول إصابة التتري "اتركه ولنهرب.. لا وقت لدينا لخوض مثل هذه المعركة"
قال سلمة "سيلاحقنا ولن يتركنا بعد أن قتلنا رفاقه.. لا أريد أن أحمل همّ ملاحقته لنا طوال الوقت.."
صمتت جمان وهي تسمع صوت ارتطام أحد السهام قريباً منهما، فحمت رأسها بيديها وهي تغمض عينيها بشيء من الفزع.. أما سلمة فقد حاول إجادة التصويب دون أن يدع لخصمه مجالاً لإصابته.. وبعد سهمين أطلقهما دون نجاح كبير وهو يحاول جهده ألا تصيبه أسهم التتري مرة أخرى، تمكن سلمة أخيراً من إصابة خصمه بضربة قاتلة في صدره ليشهق بألم قبل أن يسقط جسده على سطح ذلك البيت.. فهمس سلمة "حمداً لله.. انتهينا من هذا.."
فتحت جمان عينيها بتردد، فرأته يمسك السهم الذي يخترق ساقه بيده ثم جذبه بقوة وشدة.. كتمت جمان شهقتها بشيء من الذعر وهي ترى ذلك المنظر بينما حاول سلمة ألا تظهر ملامح الألم على وجهه وهو يرمي السهم بعيداً ويسرع لخلع جزء من ملابسه ليضمد به الجرح الذي تصببت الدماء منه.. ولم يكد يفرغ حتى وقف قائلاً "لنهرب قبل قدوم المزيد منهم.."
استوقفته جمان متجاوزة الذعر الذي شعرت به وسألته "أبي.. ماذا وجدت عندما تفحصته؟ أهو فاقد للوعي حقاً؟"
رغم تيقنها أن سلمة لن يتخلى عنه لو كان حقاً فاقداً للوعي، إلا أنها حاولت التشبث ببعض الأمل بسؤالها هذا.. لكن ملامح سلمة التي علاها الأسى أبلغتها أن الوقت قد فات للتحلي بأي أمل.. ولم يترك لها سلمة الفرصة للبكاء والنحيب وهو يجرها مبتعدين عن الموقع وأصوات التتر تعلو في الزقاق السفلي بوضوح.. أغشت الدموع عينيها وهي تركض خلفه حتى كادت تتعثر عدة مرات، وسالت الدموع الغزيرة على خديها وهي ذاهلة.. لقد وقر في نفسها لأيام عديدة أن أباها ولابد قد قتل على أيدي قطاع الطرق.. وبكته عدداً لا يحصى من الليالي في الكوفة والحِلـّة.. لكن رؤية الأمر تختلف تماماً عن مجرد تخيل.. وصورته وهو ملقى على الأرض قد لا تزول من ذهنها آباداً عديدة..
ومن بين بكائها، سمعت سلمة يصيح فيها بحدة "عودي لرشدك يا جمان.. ليس الوقت وقت بكاء فالخطر يحيط بنا من كل جانب.."
توقفت عن الركض وهي عاجزة عن مسح الدموع وهمست "وما الفائدة؟.."
أمسك ذراعها بقوة وهو يقول محتداً "أنت وعدتني أنك لن تستسلمي لليأس.. أليس كذلك؟ لا تتخاذلي الآن أرجوك.. فلن أقدر على فعل شيء وأنت بهذه الحالة.."
تذكرت أنها عاهدت نفسها أن تكون أقوى، وألا تخذل سلمة بعد كل ما فعله لها.. لكن هل تستطيع ذلك فعلاً؟.. بل أيجدي ذلك حقاً؟..
رفعت بصرها نحو سلمة، فرأت خلف ملامحه المحتدة قلقاً عارماً وحزناً شديداً.. لكنه وارى كل ذلك بمهارة، ولولا أنها تعرفه منذ صغره وتعرف خلجاته كلها لظنت أنه شخص قاسٍ لا يعبأ إلا بنفسه.. فلماذا تزيد عذابه أكثر مما فعلت؟.. مسحت دموعها بيد ترتجف وهي تهمس "آسفة.."
قال سلمة زافراً "لا داعي للأسف.. لنذهب قبل أن يلحق بنا آخرون.."
وجذبها من يدها وهي تتبعه بصمت.. فلتنسَ كل هذا الآن.. فلتنساه تماماً.. عسى أن يغدو الألم أخف وتغدو هي أكثر قدرة على احتماله..

***********************

دام ركض سلمة ومن خلفه جمان في حواري بغداد وأحيائها وقتاً شعرا به طويلاً، وسلمة يحاول تجنب مواجهة التتر ما استطاع حفاظاً على جمان وخوفاً مما قد يجري لها إن أصيب.. كان القتل والنهب والتخريب مستمراً في أنحاء بغداد.. ورائحة الدماء والحريق تزكم الأنوف كما لم يشهدوا من قبل.. لكن سلمة حاول تجاهل كل ما يراه وهو يفكر بشكل محموم بطريقة لمغادرة المدينة.. لابد لهم من حصان، ولابد لهم من الخروج بأقل أبواب المدينة حراسة لكيلا يقعا في قبضة جيش التتار.. فكيف له أن يخطط لهروبهما بنجاح وهو يحمل همّ جمان؟.. وأين يمكنه أن يتركها بمأمن والمدينة قد فقدت هذا الأمان منذ أن اغتالها التتار؟..
أما جمان، فقد تجمدت مشاعرها تماماً وهي تكاد لا تبالي بالجثث المرتمية في كل زاوية من المدينة وبالدماء التي لطخت أطراف ثوبها وقدمها بوضوح.. حاولت بالفعل وأد مشاعرها حتى ينجوا من هذه الغمّة، وإن كانت لا تدري ما الذي سيحدث لها بعد أن تستسلم لمشاعرها المؤودة تلك.. كم من الأسى سيقدر قلبها على ابتلاعه وإخفائه؟.. وكم من الذعر سيتجاهله قلبها ولا تضطرب له دقاته؟..
توقفت جمان عن الركض فجأة مع توقف سلمة أمامها وعادت للواقع بشدة وهي تنتبه لصياح وبكاء بعض الفتيات في موقع قريب.. فرأت سلمة يقترب من جانب أحد الأزقة ونظر عبر الجدار ليرى ما يجري.. وفي ذلك الزقاق الضيق، رأى عدداً من الجثث لرجال ونساء قد أغرقت أرضه بالدماء.. ووسطها وقف تتري لطخته دماء القتلى حتى ما عادت ثيابه تبدو منها بشكل واضح.. وأمامه، رأى سلمة فتاتان صغيرتان لا تتجاوز أكبرهما العاشرة من عمرها، وقد انطوتا في زاوية الزقاق وهما تصرخان بذعر وبكاء.. لم يبدُ التتري لعيني سلمة متردداً وهو يخطو نحو الفتاتين ويده تقبض على سيفه بعزم واضح..
نظر سلمة لجمان التي وقفت قربه بذعر، فهمست "هل ستنقذهما؟"
لم يجبها سلمة وهو لا يجد في نفسه القدرة على تجاهل ما يراه.. فتقدم من التتري الذي أولاه ظهره بخفة وهو متشبث بسيفه بيديه الاثنتين وينوي مغافلته للتخلص منه بسرعة.. ورغم امتلاكه للقوس، إلا أن ما يملكه من سهام قد نفذ تماماً بعد مواجهته الأخيرة.. ولما وصل لموقع التتري سمع أكبر الفتاتين تصيح "أرجوك أنقذنا.."
لفت هذا انتباه التتري الذي لم يتردد وهو يستدير ملوحاً بسيفه بقوة.. لكن سلمة تجاوز الضربة بشيء من الصعوبة وصدّها بسيفه رغم قوة التتري التي تفوقه، وفي الآن ذاته استلّ سيفه الآخر وأسرع يغمده في صدر التتري.. عبس التتري بألم دون أن يطلق صيحة واحدة وهو يتراجع خطوة ويرفع يده بالسيف ليهوي بها نحو سلمة.. وقبل أن يفعل، كان سلمة قد عاجله بضربة في عنقه ألقته للوراء جثة هامدة..
ظلت الفتاتان تنظران لما يجري بفزع، فاقترب منهما سلمة وهو يسأل بتوتر "أأنتما بخير؟"
نهضت الفتاة الأكبر عمراً وهي تضم الصغرى التي لا تتجاوز السادسة دون أن تتفوه إحداهما بكلمة.. تلفت سلمة حوله متطلعاً في الجثث القريبة بينما اقتربت جمان من الفتاتين فضمّتهما بقوة إليها وهي تقول بصوت متهدج "أأنتما بخير؟.."
بدأت الفتاتان بالبكاء بحرقة وصوت عالٍ.. فقال سلمة بتوتر "لا تصدرا صوتاً عالياً لئلا تجذبا الانتباه.."
وضعت الفتاة الكبرى يدها على فمها بينما دسّت الصغرى وجهها في صدر جمان.. فتلفت سلمة حوله بقلق وهو يتساءل "أين والديكما؟.. يجب أن نغادر هذا المكان قبل قدوم المزيد.."
رأى الفتاة ترفع إصبعاً مرتجفة وتشير لموقع قربه، فنظر له ليرى جثة امرأة متوسطة العمر غارقة بدمائها.. شعر سلمة بغصة لما يراه بينما أغمضت جمان عينيها بألم وهي تضمّ الفتاتين بقوة أكبر وتهمس "لا بأس يا صغيرتاي.. لن يصيبكما مكروه بإذن الله.."
اقترب سلمة من الفتاة الكبرى وسألها "أتعرفين أين هو بيتك؟"
هزت الفتاة رأسها إيجاباً ودلته عليه بكلمات مرتجفة، فحمل سلمة الفتاة الصغرى وهو يقول لجمان "اتبعيني مع الفتاة.. ولا تتوها عني.."
وأسرع إلى نهاية الزقاق حاملاً الفتاة التي تعلقت برقبته بيد، وممسكاً بسيفه باليد الأخرى.. لم يكن يقدر على ترك الفتاتين وحيدتين.. وهروبهم معهما مستحيل تماماً فلن تقدرا على تحمّل ما سيواجهونه.. اللجوء لبيتهما أفضل حلّ في الوقت الحالي، وحتى يعثر على سبيل آمن للهرب من المدينة..
بعد مسير قليل، وجد سلمة جسداً مثخناً بالجراح يعترض طريقه أثناء تجاوزهم أحد الأزقة.. فتوقف سلمة بتوتر شديد وهو يرى أحد التتر يغادر ذلك الزقاق بعد أن تخلص ممن فيه، كما بدا من الجثث المرمية أرضاً خلفه.. ولما لمح سلمة والفتيات غمغم التتري بشيء ما بلغته وهو يهجم على سلمة.. وبصعوبة، استطاع سلمة أن يصدّ الضربة القوية وهو يتخلى عن الفتاة الصغرى ليتركها تعود نحو جمان.. عندها أسرع سلمة يستل سيفه الآخر ويوجهه بضربة نحو التتري، لكن الأخير صدّ الضربة بسيف آخر بيده اليسرى وهو يبتسم بحماس.. ولما وجه ضربة نحو عنق سلمة شهقت جمان وهي تجذب الفتاتين نحوها.. لكن سلمة تجاوز الضربة وهو ينحني ويحاول إصابة ساق التتري بضربة تفاداها التتري بدوره.. توالت الضربات على سلمة الذي لم يقدر على توجيه ضربة قوية مع مهارة خصمه التي فاقت من بارزهم من قبل، واكتفى أغلب الوقت بصدّ الضربات التي كادت أن تصيبه أكثر من مرة..
أما جمان، فقد ازداد قلقها مع مضيّ الدقائق وهي تتلفت حولها خشية قدوم مهاجم آخر، ثم تراقب قتال سلمة وهي قلقة من أن يصيبه خصمه بضربة مميتة.. وتلقائياً، أمسكت بيدها السيف المعلق في حزامها، لكن بعد تردد قصير تركته واستخرجت الخنجر الذي تدسّه في ملابسها وتمسكت به بقوة.. تذكرت ملاحظة سلمة عندما أنقذها من هجوم آخر قبل وقت ليس بطويل..

"دائما استهدفي العنق كي تتأكدي أن الضربة ستكون قاضية من المرة الأولى.."

أمسكت الخنجر بيديها الاثنتان وهي تهمس للفتاتين "ابقيا قرب الجدار ولا تتحركا من موقعكما.."
أسرعت الكبرى تمسك يد اختها الصغرى وتتراجع نحو جدار قريب، بينما وقفت جمان في موقعها تراقب المعركة متحينة الفرصة الملائمة لتدخلها إن تطلب الأمر.. أما سلمة، فقد وجد وسط ضربات التتري التي لا تتوقف، أن إحدى الضربات لقوتها الشديدة قد كسرت سيف يده اليمنى.. فأسرع يمسك الآخر بيده اليمنى وهو يهوي بضربة على رأس خصمه، تفاداها الخصم بأحد سيفيه بينما لوح بالآخر بغية ضرب سلمة في كتفه الأيسر.. في لحظة خاطفة رأى سلمة السيف يهوي نحوه وهو عاجز عن التراجع مع اندفاعه نحو خصمة بتلك الضربة.. فأيقن أن السيف سيصيبه بلا ريب، ولم يدُر في ذهنه أي فكرة عدا قلقه على جمان التي تقف غير بعيد عنه.. ترى، ما الذي سيحدث لها لو وقع ميتاً في تلك اللحظة؟..
فوجئ سلمة، قبل أن تصيبه الضربة بالفعل، بالتتري يسقط نحوه ويضغط عليه بثقله حتى وقع معه أرضاً.. دفع سلمة الجسد الذي همد وأبعده عنه وهو ينظر إليه بدهشة.. فرأى في عنقه من الخلف خنجراً صغيراً غاص فيه حتى مقبضه، ولما التفت جانباً رأى جمان تقف لاهثة بانفعال قريبة من الجسد، قبل أن تبدأ بالارتجاف وهي تهمس "كان سيقتلك.. لذلك لم أجد بداً من قتله.. لقد... لقد قتلته........"
رأى دموع الفزع تلتمع في مقلتيها وهي للمرة الأولى تقتل شخصاً بيدها، ولم تلبث أن أخفت وجهها بين يديها مرتجفة.. فنهض سلمة واقترب من جمان، وضمّ رأسها لصدره بذراع واحدة وهو يهمس "لا بأس عليك يا فتاتي.. لقد أنقذت حياتي، وأنا شاكر لك ذلك.."
سمعا صيحة في موقع قريب، ورأوا عدداً من أهالي بغداد يهربون من بعض التتر نحو موقع غير بعيد عنهم.. فأسرع سلمة يستعيد الخنجر ويستولي على أحد سيفي التتري عوضاً عن الذي كسر.. ثم حمل الفتاة الصغيرة وهو يقول لجمان بتوتر "هيا بنا.. علينا الرحيل بسرعة.."
مسحت جمان عينيها وأمسكت يد الفتاة الكبرى وهي تتبعه بصمت رغم ارتجاف جسدها.. من كان يظن أنها في يوم قد تسعى لقتل شخص ما وسلب روحه؟.. ومن كان يظن أنها ستجد من يشكرها على ذلك؟.. حقاً حياتها غدت أغرب من أن يصدقها أي أحد، أو أن تصدقها هي نفسها..

***********************

بعد سير طويل في أزقة الحي وطرقاته، وهم يحاولون الاختباء عن أعين التتار ما استطاعوا وتجنب المواجهة معهم، وصل الأربعة لبيت متوسط يقع غير بعيد عن موقعهم السابق.. كان البيت جميلاً بسيط المظهر اعتنى صاحبه ليجعله مريحاً للناظر إليه.. وما إن وصلوا إليه ودلفوا من بابه حتى هبطت الفتاة الصغرى متخلية عن سلمة وركضت في أنحاء البيت بلهفة.. فهتف سلمة "انتظري.. قد يكون أحد التتر في البيت.."
كان الخراب واضحاً في أرجاء المكان مما دلهم أن التتار قد قاموا بتفتيش البيت جيداً، وربما كان أحدهم فيه.. انطلق سلمة خلف الفتاة متفحصاً أركان المكان بتمعن وهو متشبث بسيفه.. لكن لم تمض فترة قصيرة حتى كان يعود لجمان والفتاة الأخرى قائلاً "المكان خالٍ تماماً.."
كانت الفتاة الصغرى تتبعه والدموع معلقة بأهدابها، وأسرعت نحو أختها الكبرى فتشبثت بها وهي تقول بصوت مرتجف "أبي لم يعد بعد.. أين هو؟"
صمتت الفتاة الكبرى وهي تضمها، بينما نظر سلمة لها وسألها "ألا تعلمين أين هو أباك؟"
خفضت الفتاة رأسها وهزته نفياً ودموعها تحتشد في عينيها.. ثم قالت "عندما علمنا بهجوم التتار، خرجت أمي ونحن معها للبحث عن أبي فلم يكن موجوداً في الدار عندها.. وفي ذلك الزقاق واجهنا ذلك التتري مع بعض أهالي الحيّ.. وقتل الجميع دون تردد.. وقتل أمي ضمن من قتل.. ولم نبق إلا نحن"
بدأت الصغرى بالبكاء من جديد، فضمّتها جمان وهي تسأل سلمة "ما الذي سنفعله الآن؟ المدينة تغلي والتتار يملؤون الطرقات.. من الخطر خروجنا من هذه الدار"
فقال سلمة مقطباً "ومن الخطر بقاؤنا هنا.. لابد أن يأتي التتار لتفتيشها والبحث عمن يسكنها.. لا أدري حقاً ما الذي سنفعله، لكن يجب أن نختبئ في موقع أكثر أمناً.. ولا نجعل أنفسنا فريسة سهلة للتتار"
نظرت له الفتاة الكبرى بصمت وهي تمسح دموعها، ثم قالت "هناك مخبأ أكثر أمناً.."
نظر لها الاثنان بدهشة، فقالت وهي تشير لموقع وسط الدار "هناك سرداب يقع أسفل هذه الدار.. ربما لو اختبئنا فيه فسيصعب على التتار الإمساك بنا.."
فقال سلمة باهتمام "هل هو آمن حقاً؟"
هزت الفتاة رأسها إيجاباً، ثم تقدمت من وسط الدار وهو يراقبها.. فرآها ترفع طرف أحد الأخشاب في أرضية الدار، فارتفع جزء كبير من الأرضية بسلاسة مكوناً باباً متوسط الحجم يؤدي لسرداب مظلم.. نظر سلمة بدهشة والفتاة تقول "أخبرني أبي أن هذا مخبأ لنا في حال تعرضنا لأي هجوم.. وهو يستخدم الآن لتخزين بعض الحبوب.."
ثم أسرعت تتقدم والبقية خلفها يتأملون المخبأ المكون من غرفة واحدة على شيء من الاتساع وإن كانت مظلمة رطبة.. وفي جانب منها رأوا صناديق خشبية وأكياساً مكدسة، بينما باقي السرداب عارٍ من أي شيء.. تلفت سلمة حوله فلاحظ على الفور نافذة رفيعة لا تكاد تكفي للنظر عبرها في أعلى سقف السرداب، فالتفت إلى الفتاة الكبرى متسائلاً "هذه النافذة ستدلّ علينا بسهولة.."
هزت رأسها نفياً وقالت "بل هي تبدو من الخارج مشابهة للنقش الذي يحيط بجدار البيت الخارجي.."
فغمغم سلمة "إذن هي ستؤمن لنا التهوية المناسبة ولن نموت اختناقاً.."
وأسرع يتفحص الصناديق والأكياس، بينما وقفت جمان تتساءل بقلق "أترى أن هذا هو الحل الصائب؟"
أجاب سلمة "أترين أننا نملك حلاً آخر؟"
صمتت جمان وهي تنظر في وجه الفتاة الصغيرة الذي لا تزال الدموع تغرقه، فيما قال سلمة "ابقين هنا.. سأعود سريعاً فحذار من أن تصدرن أي صوت.."
هزت الفتاة الكبرى رأسها موافقة، بينما جذبت جمان الصغرى جانباً وأجلستها قربها.. وبدأت تمسح الدماء والدموع عن وجهها وهي تقول بلطف "لا تخشي شيئاً يا فتاتي.. ستكون الأمور على ما يرام.."
غمغمت الكبرى "من يستطيع أن يجزم بذلك؟"
تنهدت جمان "لا أحد يجزم بذلك في الحقيقة.. إنما هي أمنية أتمناها ودعوة أتوجه بها إلى ربي.. ولا نملك أي شيء آخر.."
صمتت الكبرى وهي تنطوي جانباً بينما انشغلت جمان بالطفلة المذعورة حتى رأت سلمة يعود حاملاً بعض البطائن فرماها جانباً.. عندها تساءلت جمان "كم تعتقد أننا سنبقى هنا؟"
أجاب بحزم "حتى تصبح المدينة آمنة.. مهما طال الزمن لتحقيق ذلك.."
سمعا جلبة في الدار، فاتسعت عينا جمان وهي تنظر لسلمة الذي همس "تباً.. الباب مفتوح.."
وصعد بخفة على السلالم الخشبية التي تؤدي لباب السرداب وهو يستل سيفه.. بينما وجدت جمان أن الفتاة الكبرى قد نهضت فزعة وأسرعت تقترب من جمان بينما التصقت بها الصغرى وهي تبدأ بالبكاء بصوت خافت.. فضمت جمان الفتاتين بذراعيها محاولة بث الطمأنينة فيهما رغم ارتجاف جسدها هي وهمست "رباه.. اعمِ أبصارهم عنا يا إلهي.."
أما سلمة، فقد خرج من باب السرداب بعد أن ألقى نظرة حذرة على صحن الدار وتأكد من خلوه من التتار.. فتشبث بسيفه وهو يغادر بحذر ويتطلع حوله بحثاً عن مصدر الصوت، عندما سمع صوتاً دفعه لأن يقفز خلفاً بسرعة وهو ينظر خلفه.. وبقفزته تلك، تفادى ضربة قوية من تتري ظهر خلفه دون أن ينتبه له.. وقف التتري ينظر لسلمة ولباب السرداب الذي خرج منه بابتسامة ظافرة، فتوتر سلمة وهو يمسك سيفه بيديه الاثنتين ويهمس لنفسه "إن لم أقضِ عليه، فستزداد الأمور سوءاً.."
تقدم التتري ملوحاً بسيفه وقد بدا أنه عازم على التخلص من سلمة قبل أن يتفحص ذلك السرداب، فقفز سلمة نحوه موجهاً إليه ضربة قوية بسيفه محاولاً إصابته في جنبه.. لكن التتري صدّ الضربة بسهولة، وصدّ ضربة أخرى وجهها سلمة بسيفه الآخر بواسطة الدرق في يده وابتسامته تتسع أكثر.. بدا له مستمتعاً أكثر بما يجري، بينما ازداد توتر سلمة خشية قدوم آخرين واكتشافهم للسرداب.. ستغدو جمان والفتاتين بخطر كبير، لذلك عليه التخلص من هذا التتري بسرعة وصمت..
وجه سلمة ضربة تلو الأخرى للتتري وهو يتراجع محاولاً استدراج التتري بعيداً عن السرداب.. لكن التتري لم يبد مبالياً بسلمة وهو يصد ضرباته بسهولة بسيفه وبالدرق في يده اليسرى، ويحاول فور أن يتراجع سلمة أن يصيبه بسيفه بدوره ويقضي عليه.. لكن سلمة كان يقفز جانباً متجنباً الضربة وهو يفكر في أسرع طريقة للتلخص من غريمه.. وبعد مناورة قصيرة، فوجيء التتري بسلمة يرمي إحدى الوسائد الموضوعة على كرسي قريب نحو وجهه.. فضربها التتري بعيداً بيده اليسرى واستعد بسيفه لاتقاء ضربة محتملة من سلمة.. لكن الضربة قد فاجأته من جانبه الأيسر الذي غدا مكشوفاً، بعد أن قفز سلمة لذلك الجانب ووجه سيفه بضربة قوية نحو التتري، أتبعها بأخرى نحو عنقه قبل أن يلقي جثة التتري جانباً.. وقف سلمة يلهث وهو ينصت خشية اقتراب تتري آخر منه، ثم أسرع نحو السرداب ودلفه مغلقاً الباب خلفه وهو مطمئن أن الباب لا يبدو واضحاً لمن كان خارج السرداب، مما سيمنحهم أماناً مؤقتاً حتى تنقشع تلك الغمة وتنتهي المأساة.. ويعلم الله كم سيدوم ذلك..
بدا القلق والذعر واضحاً على وجه جمان والفتاتان عندما رأين سلمة ينزل السلالم بثياب لطختها الدماء.. فنهضت جمان واقتربت منها متسائلة بذعر "أأنت مصاب؟"
هز سلمة رأسه نفياً وقال "بل هي دماء التتري الذي تخلصت منه.. الآن يمكنني أن أقول إننا في أمان جزئي.."
رأته يتجه لجانب السرداب فيجلس جانباً ويضع سيفه قربه متنهداً.. فغمغمت جمان "أتظن أننا حقاً بأمان؟.."
قال سلمة مقطباً "أرجو ذلك.. فقد سئمت كل هذه الوحشية التي أراها.."
عادت جمان للفتاتين اللتين وقفتا تنظران له بقلق عارم.. فربتت جمان على رأسيهما وهي تقول برفق "لا تخشيا شيئاً.. نحن بخير"
جلست معهن والفتاة الصغرى تنطوي في حضن جمان، بينما جلست الكبرى ملتصقة بها بصمت.. فسألتها جمان "لم أعرف اسميكما يا فتاتيّ.. أنا جمان، وهذا سلمة.. فهلا أخبرتماني باسميكما؟"
قالت الكبرى بصوت خافت "أنا زهراء.. وهذه جنان.."
ابتسمت جمان شيئاً ما وهي تقول "ما أجمل اسميكما.. ألا تملكان أخوة أو أخوات آخرين؟"
قالت زهراء "لا.. ليس في عائلتنا إلا أبي وأمي ونحن الاثنتان.. والآن.. لم يبق إلا نحن.."
بدأت جنان تنهنه باكية وهي تخفي فمها بيديها، بينما عادت الدموع لوجه زهراء رغم محاولتها ألا تبكي.. فضمّتها جمان بقوة وهي تهمس "يا لفتاتيّ البائستين.. ما ذنبكما في كل ما يجري؟"
استغرقت الفتاتان في البكاء بتعاسة، بينما أسند سلمة رأسه للجدار خلفه بصمت دون أن يعلق بكلمة.. ما الذي يمكنه قوله في ما يراه من مآسي لا تحصى؟.. ما الذي يمكن أن يعبر به عن صدمته لكل ما رآه وعنف انفعالاته لكل ما يُرتكب من جرائم في هذه المدينة؟.. أما آن لكل هذا أن ينتهي؟.. لم تكن أصوات الصراخ والعذاب بعيدة عنهم، بل كانت تصل لمسامعهم بوضوح، وهذا زادهم ألماً وبؤساً فوق ما فيهم..
سمع جمان تهمس في تلك اللحظة "أتظن حقاً أن الأمور ستغدو أفضل بعد يوم أو يومين؟"
زفر سلمة قائلاً بأسى "لا أدري.. الدائرة تطبق علينا أكثر فأكثر، ويعلم الله ما قد يصيبنا لو كشف أمر هذا السرداب"
أدارت جمان وجهها بعيداً وهي تغمغم "بل أنت تعلم بالتحديد ما سيجري لنا، فهو لن يختلف عما جرى لرجال ونساء بغداد على أيدي التتار.. أليس كذلك؟"
صمت سلمة والمرارة تتصاعد في حلقه حتى غدا عاجزاً عن الإجابة.. بم يمكن أن يجيبها؟.. لم يعد يرى إلا ظلاماً مدلهماً يحيط بهم من كل جانب.. وكلما قاوموه ازداد اسوداداً وكآبة.. فبم يمكن أن يهدئ جمان والهدوء لا يكاد يصل لأطراف قلبه المثقل؟..
***********************

~ بعيدا عن الخيال (١٤) ~
استباحة بغداد


عندما دخل هولاكو مدينة بغداد، قصد دار الخلافة، وجلس في الميمنية، واحتفل مع الأمراء بذلك اليوم.. وأمر بإحضار الخليفة يرسف في الأغلال وقال له "أنت المضيف ونحن الضيوف، فيجب عليك أن تقوم بواجب الضيافة"
فصدق الخليفة قوله، وكان يرتعد فرقاً وخوفاً لدرجة أنه لم يعد يعرف أين وضع مفاتيح خزائنه، فأمر بكسر الأقفال.. وأخرج ألفين من الثياب، وعشرة آلاف دينار، ونفائس ومرصعات وجواهر عديدة قدمها هدية لهولاكو.. لكن هولاكو لم يعر ذلك التفاتاً ووزعها على أتباعه، ثم قال للخليفة "هذه الأموال التي تملكها على سطح الأرض أمرها واضح، وهذه تعد غنيمة فتكون من نصيب جنودنا.. والآن نريد أن تكشف لنا من الأموال والدفائن.. فما هي، وأين توجد؟"
عندئذ اعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب وسط القصر.. فلما حفروا ذلك المكان، وجدوه مملوءاً بالذهب الإبريز، وكل قطعة تزن مائة مثقال..
ثم إن هولاكو عامل الخليفة معاملة سيئة للغاية، بحيث أنه حرم عليه الطعام، فلما أحس الخليفة بالجوع طلب طعاماً.. فقدم له هولاكو طبقاً مملوءاً بالذهب، وأمره بأن يأكل. فقال الخليفة "كيف يمكن أكل الذهب؟"
فرد عليه هولاكو "إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلماذا احتفظت به ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟.. ولم لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟"
فأجاب الخليفة "هكذا كان تقدير الله..’
فقال هولاكو "وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله"
وقتل هولاكو الخليفة بعد أسبوع من استسلام بغداد.. قيل إنه خنق، وقيل إنه رفس حتى مات، وقيل غرق في نهر دجلة..

((المغول في التاريخ)) د. فؤاد عبدالمعطي الصياد

***********************

bluemay 18-02-16 09:49 AM

رد: رحلة ضياع
 
حمدا لله نجيا مؤقتا وإن كنت اخشى ان يكون التتر مع زالوا قرب موقعهم وسيعاودون الدخول للدار وتفتيشها .

جمان انقذت سلمة وردت جزء من جميله عليها .


ما دور الفتاتين في القادم ؟! لقد احسنت بدلهم على هذا المخبأ .

استغرب خروج امهما ومحاولتها الهرب في حين توفر هذا الملجأ !!

ولكن حين يحين اﻷجل لا ينفع العمل .


سلمت يداك .. بالعكس صور تقشعر لها اﻷبدان .

اجدت نقلها وتصويرها ..



تقبلي مروري وخالص ودي


★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

عالم خيال 18-02-16 04:15 PM

رد: رحلة ضياع
 
بالفعل هي نجاة مؤقتة، فظروف كالتي هم فيها لا يمكن أن تنجلي بمعجزة خلال ليلة وضحاها
لا يمكن أن نقول إن جمان ردت جميل سلمة، لكنه بالأصح تغيير صغير من جملة التغييرات التي جرت لها في ظل تلك الظروف
وهذا تحسن كبير لها بالفعل
بقي فصلان فقط من الرواية، وفصل إضافي
أتمنى أن تستمتعوا بالقادم حتى النهاية

عالم خيال 19-02-16 10:13 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل الخامس عشر ~


مرت عدة أيام والقتل الوحشي مستمر..
مرت عدة أيام والسلب والنهب مستمر..
مرت عدة أيام والحرق والتدمير مستمر..
لم يتوقف تشويه المدينة ومعالمها لحظة ليلاً أو نهاراً..
ولم يرتدع مرتكبوا تلك الجرائم بسماع توسل أو رؤية دمعة على وجه متغضن..
ولم تردعهم نظرة بريئة ولا شفاه مرتجفة عن فعل ما يشتهونه..
ولأنهم همج، عاشوا على ظهور خيولهم، لم يهتموا بأكثر مما يملأ بطونهم..
ولأنهم أمة لا تقرأ ولا تكتب، فلا يُعرف للتتار حتى تلك اللحظة لغة مكتوبة، لم يعبأ أحدهم بملايين ملايين الكتب التي ضمّتها مكتبة بغداد في قلبها..
ولو كانت بهم أي رغبة بالعلم، لسرقوا الكتب تلك وحملوها لعاصمتهم (قراقورم) للاستفادة منها.. ولينهلوا من علومها التي لا تنضب..
لكنها أمة همجية، عاشت تبغض من يفوقها علماً، وكرهت أن يسود هذا النور الذي سيهذب من همجيتهم قليلاً..
لذلك كان الخيار الوحيد لديهم هو في إحراق تلك المكتبة الضخمة، ورمي الكتب في نهر دجلة ليصطبغ بحبرها ويسْوَدّ حزناً على ذاك العلم الذي بذلت أجيال وأجيال من العلماء أيامها ولياليها في جمعه بين دفتي كتاب..
وبعد أن أحرقت مكتبة بغداد، لم يزل التتار يعيثون الفساد في أحياء المدينة..
ينهبون قصورها، ويحرقون حدائقها..
لم يزل التتار يرتكبون جرائمهم.. والأحياء تردد أصوات ضحكاتهم وشماتتهم بما حلّ بعاصمة الخلافة التي كانت منبراً منيراً بين المدائن..
وأمست خراباً لا هناء لساكن فيه..
ومع طلوع شمس ذلك النهار، بعد أيام وأيام طويلة، تعالى صوت في أحياء مدينة بغداد وطرقاتها وأزقتها..
تعالى النداء في المدينة التي بدت خاوية لا حياة فيها، وتكرر كثيراً حاملاً وعداً عصيّاً على التصديق..
وعد بمنح الأمان لمن بقي حياً من أهل المدينة، إن بقي منهم أحد، وبتراجع قوات التتار خارجة من بغداد لتعسكر في الشمال..
وعد بوقف القتل الهمجي وكل أعمال العنف التي مورست خلال أيام وأيام وأيام بدت لمن عاشها أبدية..
ورغم أن وعداً كهذا عصيٌّ على التصديق بعد كل ما جرى، فإن النفوس كانت تتوق لتصديقه وتتعلق بأهداب الأمل ولو كان زائفاً..
لذلك، مع تردد ذلك النداء الذي استمر فترة طويلة، بدأ أشخاص أشبه بالأشباح يخرجون من مخابئ المدينة وأزقتها..
من خنادقها، ومن قنواتها، ومن كل مخبأ منح أماناً مؤقتاً لنفس خشيت على نفسها قتلاً وحشياً..
ورغم أنها بدت كالأشباح، إلا أنها كانت تتنفس وقلوبها تضطرب في أعماقها وهي تتلفت حولها بحذر وذعر دائمين..
تجابه الضوء الذي غاب عنها أياماً وأياماً بأعين ضيقة محمرة من البكاء..
تتعرف المدينة التي غدت مشوهة سوداء متداعية لا حياة فيها..
وعندما قابلت تلك الأشباح بعضها البعض، كان خوفها مما رأته في تلك الوجوه ربما يفوق خوفها من أولئك التتر الذين تراجعوا بالفعل وتركوا المدينة خراباً..
فما رآه أولئك الأشخاص كانت وجوهاً كالحة مغبرة تنطق بالرعب والذعر العارم، وبحال رثة يصعب على من يراها تصديق أنها لكائن بشري..
أما المدينة المكلومة، فقد احتضنت الجثث في رحمها وسال دمعها قانياً في طرقاتها وأزقتها وهي تنعى كل من فارق الحياة في تلك الأيام..
أربعون يوماً فقط..
أربعون يوماً أزهقت فيها مائة مائة ألف (مليون) نفس أو يزيد..
أربعون يوماً أحرقت فيها المدينة وطمست فيها ملايين الكتب وخسرت فيها البشرية علماً لم يكن تعويضه هيناً أبداً..
أربعون يوماً ما عادت حياة بغداد بعدها كما كانت أبداً..
وما نسيت بغداد اللطمة التي تلقتها على خدها أبداً..

***********************

عندما سمع سلمة ذلك النداء، نهض بسرعة من موقعه في جانب المخبأ وهو يقترب من النافذة الصغيرة وينصت جيداً.. في البدء غالط نفسه، وظن ذلك مجرد صراخ بعض البغداديين الذين وقعوا في قبضة التتار كالعادة.. ثم عندما تبيّن كلمات ذلك النداء، جزم في نفسه أن تلك خدعة.. لا يمكن أن يتم ذلك بهذه البساطة.. هل ينوي التتار حقاً التوقف عن القتل والتخريب الذي استمر أربعون يوماً؟.. هل ينوون إطلاق سراح من بقي من أهل بغداد، لو بقي منهم أحد؟..
لاحظ حركة قربه، فالتفت ليرى جمان تنهض جالسة وقد انتبهت من نومها على صوت النداء.. فهمست "ما الذي يجري هنا؟"
نظر سلمة عبر النافذة الصغيرة دون أن يتمكن من رؤية شيء، ثم قال لها "الجيش التتري يَعِدُ سكان بغداد بمنحهم الأمان ويطلب منهم الخروج.."
اتسعت عينا جمان بدهشة وغير تصديق، فقال سلمة "الأمر مشكوك به.. لذلك عليّ أن أذهب للتأكد من الأمر.. من الخطر خروجنا جميعاً فقد تكون خدعة من التتار.."
أسرعت جمان تقول بقلق "لا تذهب.. ماذا لو أخذوك غيلة؟"
غمغم سلمة "لن تكون هذه هي المرة الأولى التي أخرج فيها.."
هزت رأسها باعتراض وهي تقول "لكني لم أكن مرتاحة لخروجك في كل مرة.. كنت أقضي أوقاتي في ذعر هائل خشية أن يقتلك التتار.. ما الذي سأفعله عندها؟"
صمت سلمة للحظة، ثم قال "مهما جرى لي، فأنتم بحفظ الله ورعايته.. لست أنا من تدينين له بحياتك حتى الآن.."
نهضت واقفة وقالت بشيء من العصبية "ليس هذا ما يهمني.."
نظر لها بصمت ودهشة وهي تضيف بضيق "حقاً أنا أخشى من سقوطي وسقوط الفتاتين في أيدي التتار.. لكني أدرك أن هذا لو حدث فسيكون بأمر الله تعالى، ووجودك عندها لن ينفعني بشيء.. لكن......"
وواجهت نظراته الصامتة وهي تقول بحزن "أظننت أنني لا أهتم بك إلا لحمايتي؟.. أبهذا السوء تراني؟.. أنا أخشى عليك، ولا أريد أن أرى أي أذىً يصيبك.."
أدار سلمة وجهه جانباً بصمت وهي تضيف "فلنصبر قليلاً.. سيتكشف الأمر بالتأكيد.."
فاجأها بقوله "بل يجب أن أذهب.. هذه المرة سأصدق ما يقولونه، لكني سأكون حذراً فلا تخشي شيئاً.. وسأعود بالخبر اليقين.."
نظرت له بقلق شديد، لكن لم تملك إلا أن تقول "حافظ على حياتك أرجوك.."
هز رأسه إيجاباً، ونظر للفتاتين النائمتين على فراش في جانب المخبأ، ثم حمل سيفه الموضوع جانباً، قبل أن يتجه إلى مدخل المخبأ.. ولما ارتقى الدرجات وقبل أن يفتح باب المخبأ نظر خلفه، فرأى جمان ترقبه بنظرات قلقة.. فقال بصوت خافت "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.."
وخرج بسرعة إنما بحذر مغلقاً الباب خلفه.. فخفضت جمان بصرها وهي بضيق شديد تفكر في أمره.. لقد دأب على قول جملته تلك في كل مرة يغادر فيها منذ التجؤوا للسرداب.. وفي كل مرة كانت جمان تعيش أوقاتاً مؤلمة بانتظار عودته والقلق ينهشها، حتى تسمع صوت الباب الخافت وتراه يهبط الدرجات بصمت ووجوم كعادته..
لقد مر عليهم أربعون يوماً كانت من أصعب الأيام التي عاشوها.. بين خوف وقلق وذعر، وضيق في هذا السرداب الصغير.. يصيبهم العطش فلا يجدون ما يشربونه، ويقرصهم الجوع فلا يجدون ما يأكلونه إلا القليل مما وجدوه في صناديق السرداب.. حتى قرر سلمة بعد أيام قليلة أن يغامر بالخروج لمعرفة أحوال المدينة وأملاً بالعثور على ثغرة تبيح لهم الهرب.. لكن بعد فترة من الغياب عاد واجماً وهو يقول إن القتل والتخريب لم يتوقف.. وأن الجثث تزداد تكوّماً ونتانة.. لكنه أفلح بإحضار بعض الماء والطعام لهم مما يكفيهم لأيام قليلة..
وقد تكرر هذا عدة مرات طوال فترة مكثهما في السرداب، لكن ذلك لم يجعلهم أسعد حالاً أبداً.. والآن، بعد تلك الأيام والأسابيع الطويلة، من العصيّ على جمان أن تقتنع أن كل شيء قد انتهى حقاً.. لابد أنها خدعة.. لابد أنهم يكيدون لمن بقي من أهل المدينة..
تباً للتتار.. وتباً لمن عاونهم على المسلمين..

***********************

بعد خروجه من السرداب، لم يلجأ سلمة للخروج من البيت مباشرة، بل توجه للسلم المؤدي للسطح وارتقاه بسرعة ثم خرج للسطح حاملاً سيفه بتوجس وحذر شديدين.. لكن بالفعل كان الهدوء يعمّ المدينة بشكل كامل استغربه بعد الضجيج الذي استمر أربعون يوماً.. فنظر من فوق السطح للطرقات حول البيت والبيوت القريبة بحثاً عن التتار.. لكن الطرقات كانت خالية تماماً من أي أثر لتتري أو لشخص آخر.. أو بالأحرى شبه خالية، مع مرأى بعض البشر الذين غادروا مخابئهم في البيوت والقنوات والآبار المهجورة والذعر واضح على وجوههم..
كان مرأى أولئك البشر أشبه برؤية أشباح لا أحياء.. فقد بدت التعاسة واضحة على الوجوه الكالحة والأجساد ناحلة بادية الضعف والملابس مغبرة بغير عناية.. وكلما تقابل بعضهم ببعض لم يبدُ على أحدهم الرغبة بتبادل الحديث أو التفوه بكلمة.. وما الذي يتحدثون عنه وهذه المأساة بادية أمام أعينهم بقوة وعنف؟..
تأمل سلمة الموقع بحذر شديد لوقت طال، ورأى بعض أهالي المدينة يبدأ في البحث بين أكوام الجثث عن أخ أو أب أو زوج أو ابن لدفنه.. فهمس سلمة لنفسه "لابد أن هذا هو السبب الذي دعا التتار للتراجع.. لو بقيت هذه الجثث على حالها أكثر من ذلك، فسيغدو من الصعوبة بمكان منع انتشار الأمراض في المدينة، وقد تقضي هذه الأمراض على التتار أنفسهم.."
بعد أن اطمأن لخلو الجزء القريب من الحي من أثر للتتار، هبط سلمة من السطح وخرج من البيت دون أن يتخلى عن سلاحه.. تلفت حوله ملاحظاً الجو الخانق في الحيّ، رغم كونهم في بداية النهار الذي يعبق بأنسام لطيفة عادة.. فلفّ أنفه وفمه بعمامته وتطلع حوله وقد رأى أن أحداً لا يعبأ بمن هو حيّ، وجلّ اهتمامهم البحث عمن يعرفونه بين الأموات ونقلهم بعيداً حيث يمكن دفنهم.. لكن كم من الوقت سيستغرق دفن مئات الآلاف هؤلاء؟..
جال سلمة في أرجاء الحي كله فلم يعثر على أثر للتتار إلا ما قل.. ومن كان موجوداً منهم كان يكتفي بالمراقبة والشماتة واضحة على الوجوه.. إنما لم يحاول أحدهم مد يده على شيء من المتاع أو الإساءة لشخص من أهل المدينة.. وبعد جولة استغرقت منه بعض الوقت، تأكد سلمة أن الأمان الذي وعدوا به حقيقي، وإن كان لا يثير في نفوس أهل المدينة أي سعادة أو هناء بال..
عاد سلمة بعد جولته إلى بيت الفتاتين، وبعد تفحص سريع لأرجائه اتجه إلى السرداب ودلفه ليجد جمان تجول فيه بقلق.. ولما رأته تنهدت بشيء من الراحة وقد زال القلق من ملامحها، وبادرته "إذاً؟.. ما الذي وجدته؟"
اقترب منها قائلاً "يبدو أن التتار عازمون فعلاً على ترك المدينة وشأنها منذ اليوم.. وإن كنت أظنهم قد فعلوا ذلك ليقوم أهل المدينة بدفن الموتى بعد أن أنتنت جثثهم.."
بدا الاضطراب على وجه جمان لذكر الموتى، ونظرت نحو الفتاتين اللتين جلستا جانباً بصمت وشيء من التوتر.. فقال سلمة "يمكنكنّ الخروج من السرداب، لكن لا تغادرن البيت مهما كانت الأسباب.. ولا تفتحن الباب لأحد.. سأغيب لمدة من الوقت ثم أعود.."
تساءلت جمان "ما الذي سنفعله بعد الآن؟"
قال سلمة "يجب أن نغادر بغداد.. فالبقاء هنا خطر علينا.. لا أتوقع أن يدوم الأمان طويلاً، ولا أضمن غدر التتار.. ثم إن الجو السيئ قد ينشر الأمراض في المدينة وهذا خطر عظيم لا يمكن إغفاله.."
وغادر بينما نظرت جمان نحو الفتاتين بصمت، ثم قالت لهما مبتسمة شيئاً ما "هيا بنا.. لنغادر هذا المكان.."
اقتربتا منها وزهراء تقول "ألن يهاجمنا التتار بعد الآن؟"
قالت جمان وهي تسير أمامهما نحو المخرج "لا تخشيا شيئاً.. لقد وعدونا بأمان تام.. ثم إن سلمة سيعمل على إخراجنا من المدينة بأسرع ما يمكن"
تساءلت جنان "هل ستأخذانا معكما؟"
تطلعت جمان في وجهيهما ولمحت الرجاء واضحاً في أعينهما، فقالت وهي تمسح على رأس جنان "بالطبع يا صغيرتي.. وهل يمكن أن أتخلى عنكما الآن؟"
قادتهما خارج السرداب حيث وقفوا في صحن البيت يتأملون الخراب الذي حلّ بالمكان بعد أن عبث به التتار عدة مرات.. تلفتت جمان حولها بصمت، ثم التفتت إلى الفتاتين قائلة "هيا بنا.. يجب أن تغتسلا وتستبدلا هذه الثياب التي غدت بالية.."
حاولت جمان أن تلهي تفكير الفتاتين عن المأساة التي تعيشها المدينة.. حتى يتسنى لهم الفرار منها ونسيانها، ويعلم الله إن كان ذلك ممكناً أم مستحيلاً بعد كل ما رأوه وشهدوه..

***********************

بعد مضي أغلب ساعات النهار وهي وحيدة مع الفتاتين، رأت جمان سلمة يعود للبيت بعد طول غياب بصمت تام.. كان واجماً بشكل ظاهر، ولم يتحدث بكلمة بعد أن ألقى عليهم السلام، ثم انزوى في جانب المكان وهو ينظر للمدينة عبر إحدى نوافذ البيت.. اقتربت منه جمان بقلق وسألته "ما بك يا سلمة؟ ما الذي أصابك بهذا الوجوم؟"
لم يجبها سلمة مباشرة، ثم قال بصوت عادي لا انفعال فيه "لقد جُبْتُ أنحاء المدينة بحثاً عن أثر للتتار، فتيقنت أن كل ما قيل عنهم صحيح.. لقد غادر جيش التتار المدينة وانتقل شمالي بغداد هرباً من الجو الملوث فيها.."
قالت جمان بدهشة "أليس هذا خبراً جيداً؟.. إذن يمكننا الرحيل دون أن يعترضنا شيء.."
هز سلمة رأسه نفياً وقال "لقد ترك التتار حامية من الجنود لتؤكد سلطة التتار على المدينة.. وهم يعسكرون خارج بغداد.. أخشى أن يمنعوا أهالي بغداد من مغادرتها حتي يتم دفن القتلى فيها كلهم.."
غمغمت جمان "ألهذا السبب أنت متغير الوجه؟ لا تقلق، لابد أن نعثر على سبيل للمغادرة بإذن الله.."
خفض سلمة وجهه بصمت للحظات وهي تراقبه، ثم قال بخفوت "لقد ذهبت لدفن جثة مولاي وجثة جنيد هذا النهار.."
وصمت دون أن يضيف كلمة أخرى، فشعرت جمان بقبضة قاسية في قلبها وهي تدير وجهها جانباً.. شعرت بالحزن المرير وهي تفكر في بقاء جسد أبيها في العراء لأربعين يوماً دون أن يجد من يصلي عليه ويدفنه بشكل لائق.. نظرت نحو سلمة الذي بدا الحزن والألم واضحاً في ملامحه، فلم تدرِ أتشفق عليه لما رآه في هذا اليوم، أم تكون ممتنة له لأنه وارى جسد أبيها التراب؟..
أدارت وجهها بعيداً مرة أخرى وهي تهمس "شكراً لك يا سلمة.."
وغادرت بصمت نحو غرفة أخرى في البيت تاركة سلمة يزفر وهو ينظر للبيوت القريبة التي غلفها صمت شبه تام.. لشد ما أقساها من أيام تلك التي يمرون بها.. فهل له أن يأمل بأن الفرج قريب؟..
أما جمان، فعندما دخلت إحدى غرف الدار حيث كانت زهراء وجنان، لاحظت الوجوم على وجهيهما وهما صامتتان.. فمسحت جمان ما تعلق بأهدابها من دموع، واقتربت منهما قائلة بابتسامة "ما الأمر يا فتاتيّ العزيزتان.. أأنتما متعبتان؟"
ظلت زهراء واجمة، بينما رفعت جنان رأسها لجمان متسائلة بصوت حزين "ألم يعد أبي بعد؟"
لم تدر بم تجيبها على هذا السؤال، بينما انتهرتها زهراء وهي تقول بشيء من الغلظة "أخبرتك أن تكفي عن هذه الأسئلة.. لابد أن أبي قد لحق بأمي.. فلو نجا من هذه المذبحة لعاد للبيت بحثاً عنا.."
بدأت شفتا جنان ترتجفان وهي على وشك البكاء، فسارعت جمان لاحتضانها وهي تقول "لا تبك يا صغيرتي.. ربما هرب أبوكما من بغداد ولم يستطع العودة.. لا داعي لاستباق الأحداث.."
حاولت جنان ألا تبكي وهي تتمسك بملابس جمان، بينما قالت زهراء بحدة "لا تكذبي عليها كي لا تقضي أيامها بانتظاره.."
نظرت جمان لزهراء مقطبة وقالت "لا تعاملي أختك بهذه القسوة.. لا تزال طفلة.. لم أنت مصرّة على إثارة حزنها بهذه الطريقة؟"
صمتت زهراء بينما بقيت جنان متشبثة بملابس جمان مقاومة البكاء، ثم قالت بهمس "ما الذي سنفعله الآن؟"
قالت جمان مؤكدة "سنهرب من بغداد.. ستبقيان معنا وسنغادر هذه المدينة لموقع أكثر أمناً.."
سمعت سلمة من خلفها يعلق "أأنت واثقة من ذلك؟"
نظرت إليه حيث وقف قرب الباب، فسألها "أتريدين أخذهما معنا حقاً؟.."
قالت جمان "أليس هذا أفضل من تركهما في هذه المدينة وحيدتين؟.."
اقترب سلمة من زهراء التي جلست جانباً فركع قربها متسائلاً "أخبريني يا زهراء.. ألا تملكين عمّاً أو خالاً أو جدّاً في هذه المدينة؟.. أليس لكما أي أقارب البتة في أي مدن أخرى؟"
هزت زهراء رأسها نفياً وقالت "لا.. جدي لأمي توفي منذ سنوات وكان يعيش معنا، ولم يكن لأمي أقارب غيره.. أما أقارب أبي فهم في الشام.. ولا أعرف أين هم بالتحديد ولا في أي مدينة يسكنون.."
نظر سلمة لجمان فرأى الرجاء واضحاً في عينيها.. فلم يملك الاعتراض وهو ينهض قائلاً "إذن سترحلان معنا الليلة.. استعدا فسنرحل فور أن أعود بإذن الله تعالى.."
واستدار ليغادر بصمت، بينما نظرت جمان للفتاتين قائلة "لا تخشيا شيئاً يا فتاتيّ.. كل الأمور ستكون على ما يرام.. فلنرَ إن بقي في هذا البيت شيء تودان أخذه معكما، ولنستعد للرحيل بإذن الله.."

***********************

كان الليل قد أرخى سدوله عندما خرج سلمة من البيت تتبعه جمان والفتاتين.. كان الجو خانقاً أكثر مع سكون الهواء في المدينة، والهدوء يبدو أقوى وأكثر وحشة.. وبنظرة من سلمة نحو جمان والفتاتين، عرف من تغيّر وجوههم مدى الصدمة التي يشعرن بها مع ما يرونه في طرقات المدينة.. ورغم أنه تخيّر أخف الطرقات وأقلها عدداً من الجثث، إلا أنه لم يجد طريقاً خالياً تماماً يمكنهم المرور عبره..
همست جمان وهي تتلفت حولها "أأنت واثق من قدرتنا على الهرب الليلة؟ لا أريد تعريض الفتاتين لأي خطر.."
قال سلمة "لا خطر الآن من التتار فهم قد كفّوا عن التعرض للسكان بأي ضرر.. الخوف الوحيد هو من اعتراضهم لنا أثناء الهرب ومنعنا من ذلك.."
سارت جمان خلفه وهي تجذب الفتاتين معها متسللين بين البيوت مختارين الأزقة الأكثر ظلمة وهدوءاً.. رغم أن هذا كان حرصاً مبالغاً فيه فالمدينة هادئة تماماً وقد خلت من الأعين التي قد تراقب من يتسلل بها أو تهتم بما يجري في أزقتها..
وبعد عدة أحياء، دون أن يعترضهم بشري، عربياً كان أم تترياً، وصل الأربعة إلى موقع قريب من السور.. فاستوقفهم سلمة قائلاً بصوت خافت "انتظروني هنا.. لقد شاهدت عدداً من الخيول قد ربطت في موقع قريب وسط البيوت.. سأطمئن أن الموقع خالٍ قبل أن نستولي على أحدها"
سألته جمان بهمس "لمن هذه الخيول؟"
أجابها "للتتار طبعاً.. لقد استولى التتار على كل الخيول بالمدينة فهي أغلى بالنسبة لهم من الذهب.."
فهمست جمان بقلق "إذن كيف........؟"
قاطعها سلمة "لا تقلقي.."
وابتعد بخطوات خافتة، بينما ربضت جمان بموقعها وهي تدير بصرها فيما حولهم بقلق خشية أن يفاجئهم شخص ما فيحبط هروبهم، وقبعت الفتاتان قربها بصمت وتوتر..
أما سلمة، فقد سار بخطوات خافتة بين البيوت الساكنة سكوناً مقبضاً.. ولما أشرف على تلك الساحة الصغيرة بين البيوت، رأى جمعاً لا يقل عن خمسة عشر خيلاً وقد ربطت في الساحة.. عندما راقب سلمة الوضع في النهار، لم يجد إلا حارساً تترياً واحداً في الموقع.. لكن الآن، فقد رأى اثنان من التتر يجلسان في جانب الموقع يتسامران وقد أشعلا ناراً لتدفئهما.. وغير بعيد عنهما، خارج سور المدينة الذي تهدم في ذلك الموضع كاشفاً عن ثغرة كبيرة فيه، رأى سلمة جماعة من التتر اجتمعوا حول نيرانٍ أشعلوها وعددهم لا يقل عن خمسة عشر تترياً.. ظل سلمة يراقب الوضع مقطباً.. يمكنه أن يباغت التتريين ويتخلص منهما كل على حدة دون صعوبة كبيرة.. لكن أي صوت سيصدر عن ذلك سيجذب أنظار الفرقة القريبة إليه، وهذا يعني فشل خطته وهلاكه الأكيد، خاصة مع ضوء القمر الذي رغم شحوبه يكشف منطقة واسعة حوله..
بقي سلمة في موضعه لوقت طال وهو بانتظار الفرصة الملائمة، عندما سمع صوتاً خافتاً خلفه.. نظر خلفه بتوتر وهو يمسك سيفه بقوة، لكن رأى جمان والفتاتين تقتربان منه.. فهمس سلمة مقطباً "ما الذي دفعكم لتجاهل ما طلبته منكم؟"
همست جمان بقلق عارم "الفتاتان مذعورتان بشدة بعد ابتعادك، وأنا لست أقل منهم ذعراً.."
صمت سلمة وهو يرى الفزع واضحاً في أعين الفتاتين، ثم همس لجمان "ابقي حذرة.. إن أصدرنا صوتاً سيجذب ذلك أنظار الفرقة المرابطة خارج السور، وسيعني ذلك هلاكنا.."
نظرت جمان حيث أشار بقلق، بينما أضاف سلمة "سأحاول القضاء على الجنديين التتريين دون صوت.. وما إن أتخلص من الأخير اقتربي من الحصان الأقرب إليك وامتطيه مع الفتاتين.. أمامنا لحظات قليلة نفرّ فيها قبل أن يعترض الجنود طريقنا.."
لم تعترض جمان وهي تمسك يدي الفتاتين بقوة، بينما عاد سلمة لمراقبة الوضع وهو يدعو الله تعالى أن يتيسر لهم ما أرادوا دون عقبات..
وبعد انتظار طال وتوتر بلغ أشده، رأى سلمة أحد الرجلين يبتعد عن رفيقه لموضع من الساحة ليقضي حاجته.. فأسرع سلمة بين البيوت مستتراً بالظلام والظلال التي تلقيها البيوت على الطرقات، حتى وجد الرجل قريباً منه وهو لاهٍ عنه مطمئن أن المدينة تحت سيطرة جيشه ولن يجرؤ شخص على العصيان.. تسلل سلمة خلفه مستعيضاً بالخنجر الذي احتفظ به سابقاً عن سيفه الأثقل.. وفور أن اقترب من الرجل الذي أولاه ظهره، قفز عليه مكمماً فمه بيد، ثم احتزّ عنقه باليد الأخرى بقوة وسرعة كاتماً أي شهقة أو صوت قد يصدر عن التتري.. ولما سكن جسده وتراخت أعضاؤه، سارع سلمة لجذبه بعيداً عن الأنظار وأخفاه في زقاق مظلم..
ثم نظر للجندي الآخر فوجده غير مدرك لما جرى وهو يجلس في موقعه متثائباً.. وبنظرة لما حوله، أدرك سلمة أن مهاجمة ذلك الجندي بطريقة مباشرة ستجذب له الأنظار.. فاختار طريقة أخرى وهو يدور حول الساحة محاذراً أن يثير الانتباه، ولما وصل لزقاق قريب من موضع الخيول، ربض خلف البيت المواجه للساحة وهو يراقب الوضع للحظات..
ثم، من خلف البيت، حمل حجراً ورماه قرب موضع الخيول جاذباً انتباه التتري الذي رفع وجهه ينظر لذلك الموضع مقطباً وهو يقول شيئاً ما.. ولما عاد سلمة يكرر فعله في موضع قريب، نهض التتري وهو يهتف بشيء ما وكأنه ينادي صاحبه الذي غاب، أو يسأل عن هوية القادم.. ثم تقدم من ذلك الموضع بتحفز وهو يمسك بمقبض سيفه في الغمد المعلق عند وسطه، لكنه لم يستله رغم حذره.. وتقدم من الخيول التي تململت في موقعها، متلفتاً حوله بحثاً عن مصدر الصوت.. ولما مر التتري بسلمة المختبئ وأولاه ظهره، تسلل سلمة نحوه بخطوات خافتة ومد يده نحوه ليكمم فمه.. لكن في اللحظة ذاتها نفرت الفرس القريبة مع اقتراب سلمة منها مصدرة حمحمة مسموعة، فانتبه التتري وهو يستدير بسرعة ملاحظاً وجود سلمة القريب على الفور مع نور القمر الذي يضيء المكان.. جذب التتري سيفه وهو يهم بقول شيء مقطباً، لكن سلمة قفز عليه وألقاه أرضاً وأسرع يكمم فمه.. وفي اللحظة التي رفع فيها التتري سيفه ليدفعه نحو سلمة، كان سلمة يدفع خنجره في عنق خصمه ويغرزه بقوة.. تحشرج صوت التتري ويداه تتراخيان قبل أن يهمد جسده تماماً، فنهض سلمة وهو يجذب خنجره ويمسح الدماء في ثياب القتيل قبل أن يدسه في ملابسه..
تلفت حوله خشية أن يكون التتار في الجانب الآخر من السور قد انتبهوا له، ولما اطمأن أن أمره لم يكشف بعد، اقترب من إحدى الخيول وربت على عنقها للحظات مهدئاً.. ثم أشار لجمان لتقترب من موقعه، فتحركت جمان بحذر وهي تهمس للفتاتين "لا تصدرا صوتاً ولا تُفزعا الحصان"
كان الذعر واضحاً على وجه جنان، فيما حاولت زهراء التجلد وهي تشير لأختها لتلتزم الصمت.. ولما وصلوا لموقع سلمة قال لجمان بخفوت "أسرعي.. يجب أن نغادر قبل أن يفطن أحد لأمرنا"
امتطت جمان الحصان، فسارع سلمة لرفع جنان ووضعها أمام جمان، ثم جذب زهراء لحصان آخر فامتطى ظهره ورفع زهراء لتجلس خلفه قائلاً لها "سيكون ركضنا عنيفاً، فتشبثي جيداً"
أطاعته زهراء وهي تحيط وسطه بذراعيها، بينما قال سلمة لجمان "هيا بنا.. لابد أن تلك الفرقة ستلاحظ وجودنا وقد تعترضنا.. فكوني مستعدة"
أومأت جمان برأسها وهي تقبض على اللجام بتوتر كبير.. ولما لكز سلمة حصانه وانطلق به بسرعة نحو الثغرة في السور، تبعته جمان بذات السرعة وهي تحث الحصان على الركض دون إبطاء.. ولما ارتفع صوت سنابك الحصانين على الأرض المرصوفة، جذب ذلك انتباه أفراد الفرقة المرابطة قرب الثغرة.. ورغم الظلام النسبي، أدرك التتر أن راكبي الحصانين يبغيان الفرار من المدينة بعد أن سرقاهما من مربط الخيول.. فبدأ بعضهم باستلال سيوفهم وهم يحاولون اعتراض طريق الهاربين وصياحهم الغاضب يعلو في الموقع.. فاستل سلمة سيفه بدوره وطوحه نحو أقرب تتري ليصد ضربة السيف لئلا تصيب الحصان فتسقطهما معه..
ثم لكز الحصان ليركض متجاوزاً إياه وهو يغادر الثغرة في السور والنار القريبة منها.. ونظر خلفه بقلق ليطمئن على جمان التي حاولت تجاوز من اعترض طريقها من التتار.. فلكزت الحصان وهي تجذب لجامها بقوة لتدفعه للقفز هرباً ممن حاول اعتراض طريقها، لكن الحصان أبى ذلك وهو يقف ويتراجع بفزع وثلاثة تتريّين يقفون أمامه وهم يصرخون بقوة لإخافته.. توترت جمان وهي تلكز الحصان لتدفعه للركض مبتعداً، لكن فزع الحصان من صراخهم كان شديداً وهو يصهل ويتراجع بتوتر ظاهر..
رأت جمان في تلك اللحظة أحد الثلاثة يتقدم من الحصان رافعاً سيفه، وبدأت جنان بدورها بالصراخ بذعر.. لكن التتري فوجئ بقدمي حصان سلمة ترفسه وترميه أرضاً ثم تطأ جسده الساقط بقوة.. بينما لوح سلمة بسيفه ليضرب تترياً آخر على وجهه ويرميه بعيداً.. حاول التتري الثالث أن ينال من سلمة، لكن سلمة عاجله بركلة من قدمه قبل أن يضربه بسيفه وهو يصيح بجمان "أسرعي بالهرب.."
ورغم ترددها، إلا أن جمان دفعت الحصان الذي هدأ قليلاً للركض مبتعداً متجاوزة بقية التتار الذين كانوا في موقع أبعد قليلاً، ثم نظرت خلفها بقلق لتجد سلمة يدير حصانه ويلكزه وهو يضرب تترياً آخر تقدم منه.. وقبل أن يبتعد بالحصان، فوجئ سلمة بأحد التتر يقف أمامها صارخاً وهو يلوح بسيفه وإن بدا غير راغب بإصابتها.. لكن الفزع اعترى الحصان مع حركاته العنيفة وهو يصهل ويرفع قائمتيه الأماميتين، فسارع سلمة للتشبث بلجامه بقوة وهو يصيح بزهراء "تشبثي جيداً.."
حاولت زهراء التشبث به بكل قواها، إلا أن حركة الحصان العنيفة وهو يقف مرة أخرى على قائمتيه الخلفيتين قد جعلت زهراء تفلت سلمة وتسقط أرضاً وهي تصرخ بألم.. وبينما نهضت بسرعة مبتعدة عن الحصان المذعور، وجدت أحد التتر يقبض ذراعها بقوة ليمنعها من الهرب.. فصاحت زهراء بفزع "اتركني.. أطلق يدي.. سلمة.."
لم يكن سلمة بحاجة لندائها فهو مدرك لحجم الخطر الذي تواجهه الفتاة بأيدي بشر لا تعرف الرحمة طريقها لقلوبهم.. حاول سلمة أن يتغلب على التتري أمامه قبل قدوم الآخرين، لكن التتري كان حذراً بما يكفي وهو يحافظ على مسافة ثابتة بينه وبين سلمة، وفي الآن ذاته يصرخ ويلوح بسيفه مثيراً ذعر الحصان..
ازداد صراخ زهراء وهي تنادي سلمة، بينما رأى جمان تقف غير بعيد وهي مترددة في العودة إليهم وقلقها على زهراء يتزايد.. لكن لم يبد التتري عازماً على الإضرار بها حرصاً منه على منع سلمة وجمان من الهرب..
دار سلمة بحصانه محاولاً العودة لزهراء وإنقاذها وهو يطوّح سيفه نحو أقرب التتر إليه والذي تفادى الضربة بسرعة.. بينما ازداد قلق سلمة مع اقتراب بقية التتر وتضاؤل فرصتهم الوحيدة للهرب، عندما رأى سهماً يخترق صدر التتري الذي يعترض طريقه فيسقطه جانباً بصمت.. تجمد الوضع للحظة في المكان والكل يبحث عن مصدر السهم، فتغلب سلمة على دهشته بسرعة وهو يستدير ويضرب التتري الممسك بزهراء بقوة على وجهه ليمنحه جرحاً غائراً، والتفت لبعض التتار الذين اقتربوا منه فضرب أحدهم في صدره بينما تطايرت السهام في الموقع تحصد التتار واحداً تلو الآخر.. وفي الآن ذاته ركضت زهراء مفزوعة نحو جمان التي أسرعت إليها وجذبتها لترفعها فوق السرج وضمّت جسدها المرتجف بقوة.. وخلال لحظات، كان سلمة قد تنصل ممن بقي من تلك الفرقة ولكز حصانه راكضاً نحو جمان.. فاستدارت جمان بدورها وأسرعت معه مبتعدين قبل أن يلحقهم التتار.. فسمعته يسألها "من أين أتت تلك السهام؟"
أشارت جمان غرباً قرب نهر دجلة، فرأى سلمة رجلاً على خيل يقف بها غير بعيد عن النهر ويصوب سهامه نحو بقية التتار.. لم يتعرفه سلمة، وتعجب من أن يمد لهم يد المساعدة دون أن يعرف هوياتهم.. وبعد أن ابتعدوا بمسافة كافية لاحظوا أن الرجل قد فرّ من الموقع بدوره وهو يتبعهم بشكل حثيث.. ولما اقترب منهم رآه سلمة متلثماً بعمامته، فلم يشك في كونه عربياً مما ظهر من ملامحه ومن ملابسه.. فتلقاه سلمة قائلاً "السلام عليكم.."
أزاح الرجل لثامه قائلاً "وعليكم السلام ورحمة الله.. من أنتم؟ أأنتم من أهل بغداد؟"
كان الرجل يتجاوز الثلاثين من عمره وقد لوحته الشمس وبدا منهكاً من رحلته الطويلة بلا شك، يحمل سيفاً معلقاً في حزامه وقوساً معلقاً على كتفه.. فقال له سلمة "لسنا من أهل بغداد، لكننا حوصرنا فيها مع أهلها.. والآن عزمنا على الهرب من المدينة لولا تلك الفرقة من التتر التي اعترضت طريقنا"
سأله الرجل بقلق "ما الذي جرى في المدينة؟ لم أصدق ما وصلني من أخبار، فكل هذا عصيّ على التصديق"
سأله سلمة بدوره "ومن تكون أنت؟ ظننتك هارب من بغداد أيضاً"
هز الرجل رأسه نفياً وقال "لا.. أنا من الموصل.. بعد أن سمعنا بسقوط بغداد وما تنامى إلينا من مقتل الخليفة، وبعد أن هدأت الحرب قليلاً في هذا الأنحاء، شددت رحالي لبغداد أملاً في الحصول على فرصة لدخولها.. لي أخ وأب فيها، وقد قلقت عليهما وعلى ما آل إليه حالهما"
وأضاف وهو ينظر لسلمة "ولما اقتربت من الأسوار محاولاً تفادي التتار الذين توزعوا في أنحائها، لاحظت ما يجري عند تلك الثغرة من السور.. ولم يكن عسيراً عليّ إدراك الوضع وقد تيقنت أنكم عرب تحاولون الفرار.. فلم أملك أن أمد لكم يد المساعدة"
فقال سلمة "شكراً لك يا أخي.. لقد كدنا نهلك بأيديهم، وأنا واثق أن الله سبحانه وتعالى قد أرسلك لإنقاذنا في تلك اللحظة"
بدأ الرجل يسأل سلمة عن كل ما جرى في المدينة وسلمة يصف له الأيام المؤسية التي شهدتها بغداد.. بينما وقفت جمان بخيلها على مبعدة وهي تضمّ زهراء المرتجفة وتهمس لها "لا تخشي شيئاً يا فتاتي.. لقد جاءتنا النجدة من السماء، واستطعنا الهرب من التتار أخيراً"
لكن زهراء لم تكد تتوقف عن الارتجاف وهي تحبس دموع الفزع بصعوبة، بينما احتضنتها جنان بدورها باكية.. وبعد أن انفصل سلمة عن الرجل الذي فضّل العودة لبغداد ومحاولة دخولها، واقترب من جمان بادرها قائلاً "سأحمل أنا جنان بينما تبقى زهراء عندك.. لا أريد أن نثقل على الحصان فيتعب بسرعة.."
قالت جمان "لكن جنان ليست ثقيلة أبداً.."
لكنها لم تمانع وهي تحمل جنان وتناولها لسلمة الذي أجلسها أمامه، بينما بقيت زهراء جالسة أمام جمان وهي متشبثة بها دون أن يسكن ذعرها، فربت سلمة على رأسها ثم قال لجمان "لننطلق قبل قدوم المزيد منهم.."
انطلقا مسرعين دون إبطاء يقطعون السهول تاركين بغداد خلفهما.. وفور أن بدأ الحصانين بالركض بسرعة حتى أطلقت جمان تنهيدة ارتياح.. حاولت تمالك رجفة شفتيها بقوة وهي تمنع نفسها من النظر خلفها.. لا تريد رؤية بغداد الجريحة.. لا تريد رؤية الموت الذي يظللها.. لا تريد شمّ الدماء التي أغرقتها.. ولا تريد رؤية ما آلت إليه مدينة الخلافة التي كانت كالمنبر المنير وسط المدن.. لكن أطفئ النور وذهب البهاء ولم يبقَ إلا الواقع القاسي المؤلم.. أما سلمة، فقد كان يشعر بشيء من الراحة لمغادرتهم بغداد.. يشعر أنه كان محاصراً، وأصابه يأس شديد في الأيام الماضية حاول نبذه بصعوبة.. أما الآن، فربما تغدو الأمور أفضل حالاً، وربما تصبح أيامهم أقل أسىً من السابق..
سمع جنان تقول بصوت مرتجف "أهذا يعني أننا لن نرَ أبانا أبداً بعد؟"
ربت على رأسها وهو يغمغم "من يدري؟ ربما تمكن من الهرب.. وربما تلتقيان به في يوم ما.."
خفضت جنان وجهها بحزن ظاهر، بينما صمت سلمة وهو مدرك مدى القلق الذي تشعر به الفتاة.. من الصعب أن يجد المرء نفسه في هذا الزمن وقد فقد كل شيء.. تداعى الأمن والسلام وغابت الضحكات من الشفاه.. فكيف يكون الحال مع فتاة صغيرة لم تخبر الحياة بعد؟.. لشد ما يكون هذا قاسياً على الفتاتين ولا شك..
بعد أن دام ركضهما ساعة اطمأنوا فيها أن التتار لا يلحقون بهما، وأنهم قد غدوا في أمان جزئي، خففوا سرعة ركضهم وجمان تلتفت إلى سلمة متسائلة "إلى أين سنذهب الآن بعد أن سقطت بغداد وكل ما حولها بأيدي التتار؟"
نظرت لها زهراء بقلق على ذكر التتار، فربتت جمان على رأسها مطمئنة إياها فيما قال سلمة "الأمر متروك لك يا مولاتي.."
عبست جمان شيئاً ما لما قاله، ثم دفعت حصانه ليتقدم ووقفت به أمام حصان سلمة.. فجذب سلمة اللجام وتوقف بدوره وهو ينظر لوجه جمان العابس بدهشة.. عندها قالت جمان بحزم وحدة "أنت حرٌ يا سلمة.. لم يعد لك مولىً إلا الله تعالى.."
وارتجف صوتها وهي تضيف "وهذه المرة، أنت تعلم أنك لن تعود للعبودية مرة أخرى.."
صمت سلمة دون أن يعلق أو يبتسم.. لم يشعر بسرور لكلماتها تلك كما شعر في المرة الأولى.. فقد وقر في نفسه أن حريته غالية لا يمكنه أن يحصل عليها بسهولة، والوسيلة التي حصل بها عليها مؤلمة جداً.. سمع جمان تضيف "أنت حر في البقاء معي أو في الرحيل متى ما شئت.. لو اخترتَ تركي فلن ألومك أبداً بعد كل ما قدمته لي.. لكن......"
نظر لها سلمة بعتاب واضح، لكنها لم تعلق وهي تكمل "أستحلِفـُكَ بالله يا سلمة.. ألا تعرف أين ذهبت خديجة حقاً؟"
فوجئ سلمة بسؤالها فغمغم "أمازلت تفكرين بها؟"
قالت جمان "بعد كل هذا الوقت، ستكون قد برئت من مرضها ولاشك.. إن كنت تعلم أين هي فخذني إليها أرجوك.. ولن أطلب منك أمراً آخر بعدها.."
قال سلمة "بالفعل أعلم مكانها، وسآخذك إليها فلا أظنك بخطر الآن من الاقتراب منها.."
بدا الارتياح على وجهها وهي تغمغم "ظننت ذلك.."
فأضاف سلمة بتصميم "لكنك لن تتخلصي مني بسهولة يا جمان.. لن أتركك حتى أطمئن أنك في أمان تام.."
ابتسمت جمان شيئاً ما وهي تدير الحصان لتسير وسلمة يتبعها.. ثم سمعها تقول بعد لحظة صمت "اسم (جمان) وقـْعُهُ أجمل على أذنيّ من كلمة (مولاتي).. فلا تنادني بذاك اللقب مرة أخرى.."
نظر لها سلمة بدهشة وصمت، قبل أن يدير وجهه بعيداً لئلا ترى تعابيره.. رغم صغر سنها، وهي التي لم تتجاوز الخامسة عشر من عمرها بكثير، لكنها قادرة على العبث بمشاعره بوضوح بمجرد جملة بسيطة كاللتي قالتها.. أم أنه هو من كان سهلاً ترميه مشاعره الواضحة مع كل همسة منها؟.. كيف له، وهو بهذا العمر، أن يسعده رجاءٌ منها بأن يناديها باسمها؟.. بل إنها لا تعلم بأنه يحاول ألا يبدو انفعاله واضحاً بارتجاف صوته كلما نطق اسمها.. فحتى هذا الاسم يثير لديه انفعالات شتى يكتمها في كل مرة بصعوبة تامة..
لاحظ تلك العينان الواسعتان اللتان تحدقان به من موقع قريب.. فخفض وجهه يحدق بجنان التي تجلس أمامه والتي كانت تنظر له باهتمام وابتسامة تلوح على شفتيها.. لم يملك نفسه أن سألها بشيء من الدهشة "ما بالك تحدقين بي هكذا؟"
اتسعت ابتسامتها وهي تقول بهمس "تبدو لي سعيداً.. ألست كذلك؟"
بدت ابتسامة واضحة على شفتيه وهو يربت على رأسها قبل أن يدير وجهها لتنظر للأمام وهو يغمغم "يا لفضولك يا فتاة..!"

***********************

~ بعيدا عن الخيال (١٥) ~
بعد أربعين يوما من المذابح


بعد أربعين يوماً من القتل والسلب والنهب، خاف هولاكو على جيشه من انتشار الأوبئة نتيجة الجثث المتعفنة (مليون جثة لم تدفن بعد)، فأصدر هولاكو بعض الأوامر لجيشه:
١ـ يخرج الجيش التتري بكامله من بغداد، وينتقل إلى بلد آخر في شمال العراق، لكي لا يصاب الجيش بالأمراض والأوبئة، وتترك حامية تترية صغيرة مكونة من عشرة آلاف جندي حول بغداد، فلم يعد هناك ما يخشى منه في هذه المنطقة..
٢ـ يعلن في بغداد أمان حقيقي، فلا يقتل مسلم بصورة عشوائية بعد هذه الأربعين يوماً.. وقد سمح التتار بهذا الأمان حتى يخرج المسلمون من مخابئهم ليقوموا بدفن موتاهم.. وهذا عمل شاق جداً يحتاج إلى فترات طويلة، وإذا لم يتم هذا العمل فقد يتغير الجو- ليس في بغداد فقط - ولكن في كل بلاد العراق والشام، وستنتشر الأمراض القاتلة في كل مكان، ولن تفرق بين مسلم وتتري، ولذلك أراد هولاكو أن يتخلص من هذه الجثث بواسطة المسلمين.. وفعلا خرج المسلمون الذين كانوا يختفون في الخنادق أو في المقابر أو في الآبار المهجورة.. خرجوا وقد تغيرت هيئاتهم، ونحلت أجسادهم، وتبدلت ألوانهم، حتى أنكر بعضهم بعضاً!!.. خرج كل واحد منهم ليفتش في الجثث، وليستخرج من بين التلال المتعفنة ابناً له أو أخاً أو أباً.. وبدأ المسلمون في دفن موتاهم.. ولكن كما توقع هولاكو انتشرت الأوبئة في بغداد بشكل مريع، حتى مات من المسلمين عدد هائل من الأمراض القاتلة!.. وكما يقول ابن كثير رحمه الله “ومن نجا من الطعن، لم ينج من الطاعون!!”..

((قصة التتار)) الدكتور راغب السرجاني

***********************

bluemay 19-02-16 04:17 PM

رد: رحلة ضياع
 
حمدا لله نجوا اخيرا من هذه المحنة ..

يا إلهي ما اشدها من محنة .. شيء يدمي القلب .


الحمدلله رغم لعبك بأعصابنا إلا إنني استمتعت بهروبهم وسعادة سلمة بجمان ..

هل سيلتم شمل الفتاتين بأبيهما يا ترى ؟!!



سلمت يداك

كلي شووق للقادم


مع خالص ودي




«اللهم أغفر لي هزلي وجدي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»

مملكة الغيوم 19-02-16 09:32 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
فصول دمويه خيال اربعين يوما من الزعر والخوف مرت على جمان وسلمه وجنان وزهره اربع جمعتهم محنة المسلمين فهل بعد ما تمكنو من الهرب من التتار ومن الوباء سيتم لهم الامن والعيش بسلام ارجو ان تنتهى الاحزان الى هذا الحد
سلمت يداكى فى انتظار الباقى دمتى بخير ولكى منى كل الحب

عالم خيال 19-02-16 10:08 PM

رد: رحلة ضياع
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3597241)
الحمدلله رغم لعبك بأعصابنا إلا إنني استمتعت بهروبهم وسعادة سلمة بجمان ..

من اختصاصي العبث بأعصابكم طبعاً :qUA04678::qUA04678:

بقي فصل أخير من الرواية، لذا لا تتوقعوا أحداثاً حاسمة أو مأساوية
ربما كان مصير جمان وسلمة هو الأهون مما أصاب بغداد في تلك الأيام
لقاؤنا غداً مع الفصل الأخير بإذن الله تعالى

****

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أربعون يوماً تمر مروراً خاطفاً في السلم، لكن أتوقع أنها بدت لأولئك المنكوبين كدهر كامل
وأنا واثقة أن من عاش تلك الأيام، وبقي حياً بعدها، ما عادت حياته كما كانت بعدها قط
نسأل الله تعالى الرحمة والسلامة
وغداً لقاؤنا مع فصل جديد..

عالم خيال 20-02-16 08:00 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ الفصل السادس عشر ~


قبعت جمان بجوار جدار بيت طيني صغير في جانب تلك القرية متوسطة الحجم والتي تنتشر المزارع في إحدى جهاتها، وإن اقتصرت على زراعة النخيل على الأغلب.. بقيت جمان صامتة مستندة على الجدار بينما غمرتها الشمس بأشعتها الدافئة، وتعلقت عيناها بالساحة التي تقع خلف ذلك البيت والتي أحاطتها بضع شجيرات متوسطة الحجم وانتشرت فيها الأعشاب بشكل متفاوت دالـّة على إهمال الموقع..
تنهدت جمان وهي تشعر بالدموع تترقرق في عينيها جاعلة المنظر أمامها عائماً قبل أن تسيل دمعتان على خدها المتعب دون أن تعبأ بمسحها.. شعرت بمزيج الحزن والقهر لأنها جاءت متأخرة جداً.. جاءت بعد فوات الأوان.. لو أنها سعت للقدوم إليها منذ بدء رحيلها من القصر، لربما تمكنت من رؤيتها لبضع أيام، ولكي لا تشعر بتأنيب الضمير كما تشعر به الآن..
شعرت بالخطوات التي تقترب منها، فأسرعت تمسح الدموع عن خديها وقد أدركت هوية القادم.. فسمعت صوت سلمة وهو يقول بهدوء "لا ضير من إظهار حزنك على موت خديجة قليلاً.."
خفضت جمان بصرها وهي تقول بمرارة "وما الفائدة من ذلك؟ لقد فقدتها دون أن أتمكن من رؤيتها.. دون أن أتمكن من التعبير عن حبي لها، عن شكري لها رعايتها لي طوال تلك السنين.. رحلت خديجة، وتركتني بكل قسوة أعاني من تأنيب الضمير.."
وقف سلمة قريباً مستنداً على الجدار بدوره وتساءل "ولم تأنيب الضمير؟"
أجابت بصوت مرتجف "أشعر أنني نبذتها في أشد أوقاتها حاجة لي.. تركتها ترحل رغم أنها وحيدة لا تملك من تلجأ إليه.. لم يسبق لها أن أهملت رعايتي منذ وعيت هذه الدنيا، خاصة أن أمي كانت ضعيفة الجسد ولم تكن تقدر على رعاية طفلة.. والآن، لم أستطع حتى أن أعيد لها بعض الفضل الذي غمرتني به طوال سني عمري.."
قال سلمة بحزم "أنت لم تتعمدي التقصير في رعايتها، بل هي من رحلت بإرادتها الحرة.. إنها ليست طفلة، وهي تدرك عواقب عملها هذا جيداً.."
دفنت جمان وجهها في ذراعيها وهي تهمس باكية "لكنني أحببتها كثيراً، ولم أكن أرغب بأن أفقدها بهذه الطريقة"
نظر لها سلمة بعطف، ثم قال بخفوت "وهي أحبتك كثيراً، ولذلك فضّلت الرحيل.. خوفها عليك جعلها تحرم نفسها من البقاء قربك وهي مدركة أنها لم يبق لها إلا القليل.. عليك أن تدركي ما ضحّت به لأجلك"
بدأت جمان بالبكاء بصوت خافت وسلمة ينظر لها بشفقة وحزن.. ما كانت جمان بحاجة لمزيد من الحزن والألم، وربما كان عليه إخفاء معرفته بموقع خديجة عنها.. لكن لم يستطع رفض طلبها وهو يرى الرجاء في عينيها الجميلتين.. طوال عمره لم يستطع أن يرفض لها طلباً، ولا يكاد يستطيع ذلك حتى الآن.. تنهد وهو يراقب الساحة أمامهما والتي يستخدمها أهل القرية كمقبرة لأمواتهم، ثم همس "فليرحمها الله تعالى.. كانت نِعْمَ الأم لكل من عرفها، ولا يذكرها أحدنا إلا بخير.."
لم يخفت حزن جمان وهي تذرف الدموع محاولة إخفاء بكائها عن سلمة، بعد أن اعتادت ذلك في الآونة الأخيرة.. يتزايد حزنها، الذي لم يكد يخفت على موت أبيها، كلما تذكرت رحيل خديجة دون أن تتمكن من وداعها للمرة الأخيرة.. لا تذكر أنها بكت على وفاة أمها الحقيقية، فلم تكن تعرفها لصغر سنها في ذلك الوقت وهي التي لم تتجاوز الثلاث سنوات، لكن لا تظن أن حزنها على وفاة خديجة سيهدأ أبداً.. همست لنفسها بحزن مرير "فليرحمها الله.. وليغفر لي تقصيري معها.. ليتني بقيت معها في أيامها الأخيرة.. ليتني اعتنيت بها بنفسي.. لكن، فات الأوان لكل هذا.."

***********************

مع قرب المغيب، قبلت جمان باضطرار دعوة إحدى جارات خديجة لبيتها الطيني، حيث أوت زهراء وجنان إليه منذ قدومهم للقرية.. سارت بها المرأة للبيت وهي تقول بطيبة واضحة "ستهلكين لكثرة بقائك خارجاً دون أن تتناولي شيئاً منذ الصباح.. كما أن الفتاتان تسألان عنك بإلحاح.."
لم تدرِ جمان بم تعلق وهي فاقدة للشهية تماماً.. لكنها شعرت أنها بالفعل ستفقد وعيها لطول مكثها في الخارج، ولشدة الانفعال الذي شعرت به مع مرأى قبر خديجة.. وقبل أن تدخل البيت، استوقفهما سلمة الذي كان يسير معهما قائلاً للمرأة "هل يمكنك العناية بها وبالفتاتين هذه الليلة؟.. إنها منهكة وبحاجة للراحة.. وأنا لديّ أمر عليّ القيام به وقد لا أعود قبل الغد.."
نظرت له جمان بشيء من القلق بينما سارعت المرأة لتقول "بالطبع.. لطالما سمعت خديجة تتحدث عنها، وأشعر أنها بمقام ابنتي تماماً.."
ونظرت لجمان مبتسمة وهي تضيف "فلتبقوا ما يحلو لكم يا ابنتي.."
لم تعلق جمان وهي تنظر لسلمة بتوتر، فالتفت سلمة إليها قائلاً "هل تسمحين لي بالرحيل لفترة من الوقت يا جمان؟ هناك موضع عليّ الذهاب إليه ولا أستطيع تأجيل ذلك.."
رأت جمان المرأة تبتعد نحو البيت بصمت، فالتفتت جمان نحو سلمة وهي تسأله بقلق "إلى أين أنت ذاهب؟ ولم عليك الذهاب بمفردك؟"
قال سلمة "أريد العودة للقصر.. لن يرتاح بالي إلا برؤية ما حدث فيه منذ غادرناه.. فهل ترغبين بالمجيء معي؟"
خفضت جمان بصرها بارتباك لم يخطئه، فغمغم "ظننت ذلك، فهذا سيكون قاسياً عليك.. سأذهب وأعود قبل مغيب شمس الغد بإذن الله.."
تمسكت جمان بذراعه وهي تسأل بقلق أكبر "هل ستعود؟"
لمح الخوف في عينيها واضحاً، فغمغم وهو يمسك يدها ويشدّ عليها "وهل يمكنني ألا أفعل؟"
أطلقته بعد أن هدأت نفسها قليلاً، ثم قالت قبل أن يرحل "سأنتظرك يا سلمة.."
ابتسم ابتسامة صغيرة وقال "اهتمي بنفسك حتى عودتي.. ولا تقلقي.."
واستدار مغادراً بصمت وجمان تراقبه دون أن يخفت قلقها.. لا تدري لم ينتابها الذعر من فكرة رحيله وغيابه عنها.. لكن هل سيفعل ذلك حقاً؟.. أكثر ما يقلقها أنها مدركة لعدم وجود ما يربط سلمة بها.. ماذا لو سئم من حمايتها في كل مرة؟ ماذا لو فضّل الرحيل بعد أن أوصلها لمأمنها؟.. لا تبدو تلك الأفكار بعيدة عن واقعها بتاتاً..
وبعد أن غاب عن بصرها، تبعت جمان المرأة داخلة بيتها مشغولة الفكر.. فتلقتها جنان راكضة وارتمت في حضنها وهي تقول بلهفة "أين ذهبت يا جمان؟ لقد انتظرتك طوال النهار.."
ابتسمت جمان شيئاً ما وزهراء تقترب بدورها مغمغمة "ظننتكما قد غادرتما وتركتمانا هنا.."
قالت جمان بتأنيب "أتظنين أننا قد نغادر دون علمكما؟ لن نتخلى عنكما بسهولة.. إنما كنت أزور قبر أمي التي دفنت في جانب هذه القرية.. ولم يكن من الملائم قدومكما معي.."
غمغمت زهراء "لماذا؟ أتخشين أن يفزعنا منظر كومة من التراب؟"
نظرت لها جمان بدهشة قبل أن يغلبها الأسى وهي تمسح بيدها على رأس الفتاة.. لقد شاهدت الفتاتان خلال يوم واحد كمية من القتل والجثث الغارقة بدمائها والتي تم التمثيل بها وتقطيعها أكثر مما قد تشاهده أي فتاة أخرى في أي مكان آخر طوال حياتها.. فما الذي قد يفزعهما من مرأى قبر عادي؟..
ضمّت جمان الفتاتين إليها وهي تهمس "انسيا كل ما رأيتماه يا فتاتيّ.. انسيا كل شيء وعيشا حياتيكما بسعادة.. وليرحم الله كل من تركناه خلفنا في بغداد البائسة.."

***********************

مع شروق الشمس، وبعد رحلة طويلة على ظهر الحصان، بدا الدمار في القصر واضحاً أكثر لعيني سلمة الذي خفف من سرعة حصانه عندما وصل قريباً من البوابة.. تأمل سلمة القصر الذي شهد صباه وعاش فيه حياته كلها منذ غادر عائلته في القوقاز.. تأمل جوانبه التي تفحمت وتهدمت أجزاء منها وغدا باهتاً مقارنة ببهائه القديم.. ورأى الأشجار في الحدائق التي أكلت النيران جزءاً كبيراً منها وتركتها سوداء عجفاء بعدما كانت زاهرة بالأوراق والورود والثمار وبهجة للناظر إليها.. وفي جانب الحدائق، كان مبنى العبيد قد أصبح مجرد حطام أسود لم يبق من شكله القديم أي ذكرى..
تنهد سلمة وهو يجوب الحدائق بحصانه باتجاه القصر.. لم يكن يعلم ما الذي يبحث عنه، لكنه شعر برغبة شديدة في العودة ورؤية ما حل بالقصر وبمن كان فيه.. رغم أنه لم يكن يملك أملاً بالعثور على أحدهم هنا، فمَن استطاع النجاة لن يعود لهذا القصر بحال، لكنه لم يستطع تجاهل رغبته تلك..
لاحظ أن الجثث التي كانت منتشرة في أرجاء الحدائق قد اختفت، ولاحظ في جانب منها موقعاً قد تم حفره ثم ردمه وتسويته بعناية، وإن كانت الحشائش لم تَنـْـمُ عليه بعد.. تلفت سلمة حوله بدهشة، فما رآه يثبت له وجود شخص هنا، ربما من سكان القصر السابقين.. فمن يكون؟..
سمع جلبة خلفه، فنظر بسرعة للقصر ليرى الواقف قرب بابه المتفحم ينظر له بذهول بدوره.. فترجل سلمة عن الحصان بقفزة واحدة واتجه للواقف قرب الباب بخطوات سريعة وهو يهتف "إمام؟...."
ظل إمام واقفاً ينظر له بدهشة، ولما وصل سلمة إليه سارع لاعتناقه وهو يقول بلهفة "أنت حيّ يا صاحبي.. الحمدلله.. لشدّ ما تسعدني رؤيتك بخير.."
ربت إمام على كتف سلمة بيده اليمنى وهو يقول "وأنا سعيد برؤيتك حياً أيضاً يا سلمة.. لم أتوقع نجاتك فضلاً عن عودتك لهذا المكان.."
قال سلمة وهو ينظر لإمام "كانت بي رغبة شديدة في العودة ورؤية ما جرى بالقصر.. ربما كنت أتمنى رؤيتك هنا.."
تساءل إمام "وكيف هي جمان؟ هل نجحت في إنقاذها؟ ألم تبحث عن مولاي؟ إنه لم يعد للقصر أبداً منذ رحيله"
غمغم سلمة "أمازلت تنتظره؟"
نظر له إمام باستفهام وقلق، فأخبره سلمة بما حدث لهم منذ هروبهم من القصر، وما جرى مع هجوم التتر على بغداد وموت ربيعة.. ومع ذلك الخبر، تبدّت الصدمة على وجه إمام وهو يقول بأسى "تباً لأولئك التتار.. أذاهم قد غمر البلاد كلها بمآسٍ لا تحصى.. لقد سمعت عن الهجوم على بغداد ولم أكد أصدق ما سمعته.. لكن من كان يظن أنكم كنتم تشهدون ذلك بأنفسكم؟.. تباً لهم.. متى نرى نهاية كل هذا؟.."
تساءل سلمة "وماذا عن البقية؟.. ما الذي جرى بعد أن غادرنا القصر؟.."
تنهد إمام وهو ينظر للقصر خلفه وغمغم "لم يعد أحد هنا.. لم يبقَ أحد حيّاً بعد تلك الليلة سواي وذاك الفتى زهران.. زهران قد رحل من القصر بعد أن أيسَ من عودة مولاي، لكني لم أستطع.. بقيت في القلعة أياماً، ثم عدت للقصر أملاً في عودة مولاي وخشية ألا يعثر علينا عندما يفعل.."
ونظر للحدائق مضيفاً "ولم أستطع أن أترك من مات ملقىً على الأرض دون أن يوارَى في التراب.."
نظر سلمة للموقع الذي ضمّ جثث سكان القصر وغمغم "أنت فعلت كل ذلك بمفردك؟"
ابتسم إمام بسخرية ورفع يده اليسرى قائلاً "وكيف يمكنني ذلك؟ لا يمكنني حتى حفر حفرة صغيرة بمثل هذه اليد.. استعنت ببعض الرجال ممن عادوا للقلعة بعد دمارها فعاونوني على دفنهم.."
نظر سلمة ليد إمام المقطوعة، والتي ربط عليها طرف قميصه ليخفيها، وتبدّت على ملامحه صدمة شديدة وهو يغمغم "أهم التتار من فعلوا بك ذلك؟"
قال إمام "أجل.. ومن غيرهم؟.. رغم أنني حاولت التصدي لهم مع من شدّ عزمه من الرجال، لكنهم تخلصوا منا بسهولة تامة.. ولم أنجُ إلا بمعجزة كبيرة.."
بدا التأثر واضحاً على وجه سلمة، ثم خفض وجهه وإمام يرى دموعه تسيل على خديه، قبل أن يسمعه يقول بهمس "سامحني يا إمام.. ما كان عليّ أن أتخلى عنك وعن البقية.. سامحني يا صاحبي.."
ابتسم إمام رغماً عنه، وربت على كتف سلمة قائلاً "بل سامحني لأني نعتك بتلك النعوت القاسية.. أنت لست جباناً، وأنا أعلم الناس بذلك.. كيف يمكنني أن ألومك وقلبك العاشق لا يفكر إلا بها هي؟.."
ثم نظر للسماء مغمغماً "أتعرف سبب هزيمتنا أمام أولئك التتر؟ لأن قلوبهم لا تعرف خوفاً.. لا يخشون على أرواحهم ولا على رفاقهم وليس لديهم ما يخسرونه.. بينما نحن نخشى من أي جرح يصيبنا.. لذلك تجدهم مندفعون في القتال لا يتراجعون لأي سبب، بينما رفاقنا يقاتلون وفي قلوبهم حب الدنيا وخشية الموت.. لن نتغلب على التتار ما لم نتغلب على خوفنا من الموت.. ولا سبيل آخر.."
ظل سلمة مطرقاً بضيق وحزن ظاهر، فقال له إمام بهدوء "لا تحزن يا صاحبي.. لم يكن لك ذنب في كل ما جرى لمن في القصر.. فلا يأكلك الندم على ما فعلته.."
ثم تساءل "وأين هي جمان؟.. مع من بقيت؟"
أجاب سلمة وهو يتنهد محاولاً التغلب على ضيق صدره "تركتها في القرية التي رحلت إليها خديجة"
سأله إمام باهتمام "وكيف هي خديجة؟"
خفض سلمة رأسه وأجاب "ماتت بعد أيام قليلة من رحيلها.."
تبدّى الحزن على وجه إمام، قبل أن يغمغم "فليرحمها الله.. كانت امرأة رحومة.."
لاحظ أن الضيق لم يغادر وجه سلمة، فابتسم وهو يسأله مغيراً دفة الحديث "وما الذي ستفعله الآن؟ أين ستبقى جمان ومع من؟"
قلب سلمة كفيه قائلاً "لا أعلم.. لم أفكر في ذلك بعد.. فهي منقطعة ولا تملك أي أقارب بعد وفاة أبيها.. وذاك الوغد عامر قد تخلى عنها.."
فاتسعت ابتسامة إمام وهو يقول "إذن تزوجها..."
رفع سلمة بصره إليه مصعوقاً وقال "ماذا؟.. كيف يمكنني ذلك؟!.."
قال إمام "وما المانع؟.. ألست حراً الآن كما أخبرتني؟.. أن تكون جوارها خير لها من أن تبقى وحيدة في هذا الزمن المضطرب.. ولا أظنها ستجد خيراً منك زوجاً.."
خفض سلمة بصره باضطراب، فأضاف إمام بابتسامة "أليس هذا ما تمنيتَه منذ زمن طويل؟"
لم يجب سلمة والفكرة تدور في عقله كنحلة نشطة.. حقاً لم يَدُر هذا بخلده أبداً.. كان يكفيه قربه منها.. وظن أن هذا سيدوم زمناً طويلاً.. لكنه الآن يدرك أنها بحاجة لزوج يحميها في هذا الزمن.. بحاجة لتشعر بالأمان أخيراً بعد كل تلك المآسي.. فهل يقدر أن يرى شخصاً غيره يمتلكها كزوجة؟.. هل يطيق ذلك؟..
حاول إبعاد تلك الأفكار وهو يلتفت إلى إمام الذي يراقبه قائلاً "ما الذي ستفعله أنت الآن؟ ألن تأتي معي؟"
هز إمام رأسه نفياً وقال "بل سأبقى في القلعة.. لا أريد أن أكون عالة على أحد.."
قال سلمة باعتراض "لست عالة عليّ.. بل وجودك يسعدني حتماً"
ابتسم إمام وربت على كتفه قائلاً "لا تقلق.. لقد عثرت أثناء بقائي في القلعة على عمل بسيط في الخان.. فصاحبه قد عاد بعد رحيل التتر وهو يبحث عمن يعاونه في عمله بأي ثمن.. بقائي هناك خير لي من الرحيل فلم تعد بي طاقة لذلك.."
فقال سلمة وهو يربت على كتف إمام بدوره "سأزورك متى ما جئت إلى هذه الأنحاء يا إمام.. فكن بخير أرجوك.."
قال إمام "عد إلى جمان يا سلمة ولا تجعلها تقلق.. فليحفظكما الله وليحفظنا من أي مآسٍ أخرى.."

***********************

طوال طريق عودته، كان سلمة لا يكاد يرى ما أمامه وهو مقطب يحاول إبعاد الفكرة التي زرعها إمام في عقله.. شعر أنه لا يجرؤ على التفكير بها.. فقد عاش زمناً وهو يرى جمان أمامه ويغالب لهفته عليها مقتنعاً بالبقاء قربها ورؤيتها كل يوم.. كيف له أن يطمع بأكثر من هذا مع التفاوت الكبير في مكانتيهما؟.. وحتى بعد أن أصبح حراً، لا يزال يشعر بها في موقع عالٍ لا يكاد يصل إليه ببصره وهو الذي اعتاد على النظر لموقعه هو بمهانة.. فكيف يطمع بأكثر من هذا؟..
لكن........... أن تكون جمان زوجته؟.... أن تكون مُلكَه هو بعد تلك السنوات الطوال؟.. أن يتمكن من التصريح لها بمشاعره التي حبسها عمراً بأكمله دون حرج؟.. كيف لا يمكن أن يخفق قلبه لمثل تلك الفكرة؟.. كيف لا يشتعل صدره انفعالاً لمثل تلك الأمنية التي ما جرؤ على التصريح بها حتى لنفسه؟..
خفتت مشاعره قليلاً وهو يفكر بردة فعل جمان على هذا.. هل ستستنكر ذلك وتستقبحه؟ لو فعلت ذلك، فلا يمكنه لومها بتاتاً، فهي ما عرفته إلا كعبد لأبيها ولا يمكن أن تراه غير ذلك.. لكن لو رأى الاستنكار في عينيها فذلك سيحطمه تماماً.. من الأفضل له الإبقاء على مثل تلك الأمنية حبيسة صدره، أليس كذلك؟..
لكن، ماذا لو...... ماذا لو أنها سعدت برغبته تلك؟.. لقد أظهرت له بوضوح سعادتها بمشاعره عندما صرح لها بها.. أليس هذا قبولاً منها لتلك المشاعر؟.. كيف له أن يخنق أملاً ولو كان ضعيفاً بتحقيق أمنية غالية عليه؟..
ظل طوال طريقه الطويل وتلك الرغبتان تتناهبانه حتى بدأ يشعر بضيق ويأس من وضعه.. يخشى على نفسه من الصدّ، ويخشى أن يخسر سعادته بهذا التردد.. فلأي جانب يجب أن يستسلم؟..
لم يكن قد وصل لقرار عندما شارف القرية، فتنهد وهو يحاول إرجاء التفكير في هذه الخيارات قبل اختيار أحدها، ولم يكن ذلك سهلاً عليه البتة.. لكن قراره ذلك تحطم كليّة عندما رأى قرب البيوت التي وصل إليها فتاة تنهض واقفة بسرعة لدى اقترابه.. ولما التفت إليها أدرك أنها لم تكن إلا جمان..
خفف سرعة الحصان وهو يقترب منها ثم ترجل واقترب ماشياً يجر الحصان خلفه متسائلاً "ما الذي جاء بك إلى هذا الموضع وحيدة؟.."
وتلفت حوله مضيفاً "أين زهراء وجنان؟"
وقفت جمان تفرك يديها بصمت وبانفعال لم يخطئه، ثم قالت "كنت أنتظرك.. لقد تأخرت كثيراً.."
وخفضت بصرها وهي تهمس "حمداً لله على سلامتك.."
أدار سلمة بصره بعيداً دون أن يجد ما يجيب به عليها.. كان يحاول إبعاد تلك الفكرة من ذهنه وهو يشعر أنه غير قادر على النظر لوجهها دون أن تبدو انفعالاته بوضوح.. فغمغم لنفسه "تباً لك يا إمام.. لِمَ كان عليك قول ذلك؟"
بعد أن طال الصمت بينهما، سمعها تقول بصوت به رعشة خفيفة "ظننتك لن تعود أبداً.. لم أستطع أن أستسلم للراحة وأنا أخشى من تلك الفكرة.."
نظر لوجهها الذي امتزج فيه القلق بالرجاء وهي تهمس "لا ترحل مرة أخرى يا سلمة.. أرجوك.."
لا يدري سلمة ما الذي دفعه لما فعله... أهو قول إمام؟.. أهو طول تفكيره في الأمر؟.. أم أنها نبرة الرجاء في صوتها ولمعة القلق في عينيها؟.. لكنه لم يستطع أن يقاوم نفسه وهو يتقدم منها خطوة ويمسك يديها الاثنتان بيديه وينظر لعينيها المتسعتين ووجهها الذي احمرّ بشدة وهي ترى لهفته واضحة في عينيه.. بحث سلمة في عينيها طويلاً عن أي رفض أو استقباح لفعله، لكنه لم يرَ أياً من ذلك.. كل ما رآه هو خجل واضح ومشاعر جياشة.. عندها قال سلمة بهمس وصوت لم يملك تهدجه ولهفته "جمان....... أتقبلين الزواج بي؟"

***********************

في اليوم التالي، امتطى سلمة ظهر حصانه وأمسك بلجامه وهو ينظر للمرأة التي وقفت قريباً منه.. فبادرته قائلة "أأنت واثق من عزمك على الرحيل؟"
قال سلمة "أجل.. لا أملك إلا أن أفعل.."
غمغمت المرأة بضيق "من الخطر رحيلك بعد كل ما جرى.."
صمت سلمة وهو ينظر من باب البيت المفتوح والذي لا يبدو ما بداخله بسبب الظلام، فقالت المرأة متنهدة "لا تخشَ شيئاً.. سأعتني بهن كعنايتي ببناتي.. فأنا وحيدة كما ترى ولم أسعد منذ زمن كما سعدت بصحبتهن.."
فغمغم سلمة "يحفظكم الله تعالى.."
وانطلق مجدداً مغادراً القرية الصغيرة، ثم وجه حصانه نحو الكوفة وحيداً في تلك السهول الشاسعة.. وبعد أن غاب عن بصر المرأة، تنهدت وهي تعود لبيتها الذي كان مظلماً والشمس لم تشرق في الأفق بعد.. فرأت جنان وزهراء نائمتين في جانب المكان على السرير الوحيد في البيت، ورأت جمان تجلس منطوية على نفسها قرب الفتاتين على السرير وهي صامتة واضعة رأسها على ذراعيها ومستندة بهما على ركبتيها، فابتسمت المرأة قائلة "لماذا تركته يرحل دون وداع؟ لابد أنه استاء لذلك.."
أدارت جمان وجهها جانباً بصمت، فجلست المرأة قربها ومسحت على شعرها مغمغمة "أأنت مرتاحة لقرارك هذا؟"
صمتت جمان وحمرة خفيفة تغزو خديها وهي تتذكر ملامح سلمة عندما طلب الزواج منها.. تلك الملامح التي غلبتها اللهفة ونظراته التي فاضت بحب عارم لم تشهده فيهما من قبل.. ولهذا السبب بالذات شعرت أنها غير قادرة على مواجهته هذا اليوم.. غير قادرة على السماح لعينيها بلقاء عينيه..
تذكرت في تلك اللحظة قول أبيها، والذي لم تفهمه في ذلك الوقت..

"سلمة عبد يا جمان.. حتى لو نال حريته، فسيظل عبدا..”

فالتفتت للمرأة التي ترتقب جوابها متسائلة "لقد أخبرني أبي أن سلمة سيظل عبداً حتى لو نال حريته.. فما الذي كان يعنيه بذلك؟"
قالت المرأة مربتة على كتفها "لابد أنه قصد أن سلمة سيظل يشعر بذلة وهوانٍ أمامك حتى لو حصل على حريته... فهو قد عاش حياته كعبد، وسيبقى هذا في طباعه مدى الحياة..”
ظلت جمان تفكر في قولها للحظات، ثم غمغمت "لا.. في الواقع أنا من يشعر بهوان أمامه بعد كل ما فعله سلمة لأجلي.. أشعر أنني لا أستحقه حقاً، وأنني مهما فعلت فسأظل مدينة له بحياتي لما بقي لي من العمر..”
فابتسمت المرأة وهي تقول "أنا أرى أنك لم تجانبي الصواب في قرارك بتاتاً.. ولا أظن خديجة كانت ستعارض قرارك هذا أيضاً"
تنهدت جمان وهي تغمغم "رحمها الله.. تمنيت لو أنني تمكنت من رؤيتها ليوم واحد على الأقل"
لم تعلق المرأة وهي ترى الحزن جلياً على وجه جمان.. ثم قالت مغيرة الموضوع "ما الذي سيحدث للفتاتين الآن؟.."
مسحت جمان على رأس جنان القريبة منها وهي تفكر في أمرهما، فشعرت بيد جنان الصغيرة تتسلل فتمسك بيدها قبل أن تفتح عينيها هامسة "هل يمكنني البقاء معك يا جمان؟"
نظرت لها جمان بتأثر، عندما علا صوت زهراء وهي تقول بحزم "سنبقى معك يا جمان.. إن لم يكن لديك مانع من ذلك"
فقالت جنان بصوت خافت "أرجوك يا جمان.. لا تتخلي عنا.."
تدافعت دموع جمان رغماً عنها وهي تحتضن جنان بقوة، وشعرت بزهراء تحتضنها بدورها بصمت.. فغمغمت جمان "لن أتخلى عنكما يا فتاتيّ.. كيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ بل إنني سأكون حزينة جداً لو فكرتما بتركي.."
ساد الصمت المكان والمرأة تشيح بوجهها ماسحة دمعة من عينها.. بينما ضمت جمان الفتاتين بين ذراعيها وهي تفكر فيما شهدتاه في الأيام القليلة التي عرفتهما فيها.. كيف لها ألا تقلق لأمرهما بعد أن أدركت أنهما مقطوعتان عن العالم تماماً، ولا تعرفان أقرباء لهما في غير بغداد؟..
همست جنان قاطعة الصمت "أين سلمة؟.. هل سيعود؟"
صمتت جمان دون أن تفلت الفتاتين، بينما قالت المرأة "هلا نهضتنّ يا فتياتي العزيزات؟ سأحضر لكنّ الفطور، فاغتسلن وكفاكن كسلاً.. يومنا سيكون طويلاً، وأنا عليّ المغادرة للحقل خلف المنزل والعمل فيه.."
أسرعت جنان تنهض بنشاط وهي تهتف "هل أستطيع معاونتك؟"
لوحت المرأة بإصبعها قائلة "ليس قبل أن تتناولي فطورك كله.."
دب النشاط في ذلك البيت والمرأة تعد الفطور وابتسامة تعتلي شفتيها.. منذ توفي زوجها قبل سنوات، عاشت في وحدة شبه تامة وهي التي لم تنجب وليس لها أي أولاد من قبل.. أما الآن، فلتستأنس بوجود الفتيات معها ما دام ذلك.. فمن يدري متى ستعود لوحدتها التامة ويفتقد هذا البيت صدى ضحكاتهن؟..
أما سلمة، فلم يبطئ من سيره ما استطاع حتى وصل للكوفة دون أن يعترضه أي خطر حقيقي.. كانت الأمور أهدأ قليلاً الآن، بعد أن علم أن جيش التتار مستقر شمال بغداد وقد توقف عن الهجوم على القلاع والمدن الصغيرة حولها والاستيلاء على القوافل.. ويبدو أن هدف التتار من نشر الذعر في النفوس بمثل تلك العمليات قد تمّ بعد نصرهم الكاسح على بغداد وبعد أن قضوا على الخلافة الإسلامية فيها مع ما يقارب من مليون نفس ونيف..
ورغم ذلك، كان حذر سلمة من قطاع الطرق كبيراً فما زال أذاهم مسيطراً على هذه المناطق.. فظل طوال الرحلة بأعصاب مشدودة يخشى من أي هجوم عليه حتى وصل للكوفة واستقر في خان بها.. وبعد أيام قليلة، كان قد استعاد أموال ربيعة التي لدى بعض التجار ذوي الشأن في المدينة.. والذين كان أغلبهم لحسن حظ سلمة أميناً فلم ينكر هذه الأموال ولم يستولي عليها.. ومن ماطل في تسليم الأموال فإن سلمة كان يلجأ لبعض التجار من ذوي السطوة في المدينة لاسترداد ما لديهم.. ورغم بعض المتاعب، فلم يستغرق سلمة أكثر من أسبوع واحد لاسترداد جميع أموال ربيعة قبل أن يتوجه للحِلـّة لإنجاز ما بقي من عمله فيها.. من حسن حظه أن ربيعة قد أفصح له عن أسماء كل التجار والمبالغ التي كانوا يدينون له بها، وإلا ما استطاع معرفة أمواله الكثيرة التي توزعت في عدة مدن قريبة وبعيدة.. وما استطاع استردادها وإعادتها لجمان بدل تركها بعوز وفاقة ما بقي لها من العمر..
تذكر جمان التي تركها في قرية خديجة، فتنهد وهو يتأمل أرجاء مدينة الحِلـّة وحصانه يعبر طرقاتها مع مغيب الشمس.. كم مرة كاد يفقدها منذ بدأت محنتهم بهجوم التتار على قصر ربيعة؟.. كم مرة كاد ذعره يعصف برأسه وهو يرى المأزق الذي وقعوا فيه، ويخشى أن يصيبه مكروه فتضيع جمان للأبد من بين يديه؟.. كم مرة يئس من نجاتهما وكاد يجزم أنهما هالكان لا محالة؟.. لكنه في كل مرة كان يغصب نفسه على التحلى بالأمل ويدفع جمان لعدم الشعور باليأس والاستمرار قدماً.. فهل سيجد الجزاء الذي يتمناه بعد كل ما مرّا به؟.. هل ستقرّ عينه ويهدأ وجيب قلبه حقاً بعد أن يئس من رجاء ذلك؟..

***********************

"جمان.. جمان...."
التفتت جمان نحو الصغيرة جنان التي كانت تقف قربها بنفاذ صبر، فمسحت عرقاً خفيفاً عن جبينها وهي تقول "ما الأمر يا صغيرتي؟"
قالت جنان بضيق ظاهر "أين اختفى سلمة؟ ألم تعديني أنه سيعود؟"
غالبت جمان قلقها وهي تبتسم قائلة "بلى.. سيعود قريباً بإذن الله.."
ضربت جنان الأرض بقدمها وهي تدمدم "أنت تقولين ذلك منذ زمن طويل.. لقد مضى شهر منذ غادر وتركنا هنا وحدنا.. فهل سيعود حقاً؟"
نظرت جمان حولها وهي عاجزة عن مواجهة عيني الفتاة بصراحة، وغمغمت "سيعود بإذن الله يا فتاتي.."
لم يبد التصديق على جنان لكنها غادرت مسرعة تجاه زهراء لتغمرها بأسئلتها بدورها، بينما تأملت جمان الحقل الصغير الذي تعلمت العناية به من المرأة التي آوتهم في بيتها ولم تمانع في إطعامهم طوال فترة غياب سلمة.. فلم تجد جمان بداً من معاونتها في هذا الحقل ما استطاعت لترد بعضاً من جميلها ولئلا تشعر أنها عالة عليها..
رأت في تلك اللحظة جنان تعود إليها راكضة، فقالت عند اقترابها منها "لن أجيب على أي تساؤل آخر يا جنان.. تحلي بالصبر قليلاً بعد.."
لكن جنان لم تتوقف عندها بل تجاوزتها وهي تهتف "سلمة..."
استدارت جمان خلفها بسرعة ودهشة لترى جنان ترتمي على سلمة الذي وقف قريباً من البيت، فتلقفها بسرعة بذراعيه وابتسامة متسعة تشيع على شفتيه.. وقفت جمان بصمت وقد أخذتها المفاجأة، بينما ضمّ سلمة جنان التي عانقته بفرح قائلة "حمداً لله على سلامتك يا سلمة.. لقد اشتقت لك كثيراً.."
وجد أن زهراء قد اقتربت منه بسعادة وعانقته بدورها.. بينما تجمدت جمان في موقعها، وظلت تنظر إليه وهي غير مصدقة أنه عاد حقاً بعد تلك الغيبة.. رغم كل وعوده، إلا أنها نوعاً ما كانت واثقة أنه سيرحل يوماً ولن يلتفت إليها مجدداً.. سيسأم من حمايتها ككل مرة وسيفضل العيش بعيداً عن تحمل مسؤوليتها وهي التي لا تملك سواه لتعتمد عليه.. لذلك، لم تكن تطمئن كلما غادر حتى تهنأ برؤيته من جديد..
خفضت جمان بصرها بانفعال ظاهر وهي تراه يترك الفتاتين ويقترب منها بصمت.. ظلت جمان تنظر أرضاً وهي تفرك يديها بتوتر بينما وقف سلمة قربها صامتاً وهي تشعر بعيناه تحدقان بها.. ثم، بصوته الهادئ عادة، ألقى عليها السلام.. فردت عليه السلام بصوت مرتبك، وعادت للصمت وهي حائرة مما عليها قوله.. ولم يكن سلمة بأقل حيرة منها.. هل يخبرها بمدى شوقه إليها؟.. قد يحرجها ذلك.. وأي كلمات تستطيع أن تترجم شوقه وتنقله إليها كما يشعر به بالضبط؟..
حاول أن يتجاوز ذلك وهو يخبرها بما أنجزه خلال الشهر الماضي، وبالأموال التي تمكن من جمعها من التجار بعد عناء وأودعها لدى أحد تجار الحِلـّة ممن كانوا محل ثقة ربيعة للمتاجرة بهذه الأموال لأجل جمان.. وأخبرها أنه اشترى لها داراً في الحِلـّة ملكاً لها، لتكون مقراً لها عوضاً عن القصر الذي فقدته، خاصة وقد نجت الحِلـّة من هجوم التتار ومنحها هولاكو أماناً أكيداً.. لم تعلق جمان وهي تستمع لما يقوله دون أن تنظر إليه.. ولما فرغ من حديثه ووجدها صامتة لفترة طالت، غمغم سلمة برفق "ألن تقولي (حمداً لله على سلامتك يا سلمة)؟"
غمغمت بارتباك "حمداً لله على سلامتك..."
فابتسم وهو يضيف "ألن تقولي (اشتقت لك يا سلمة)؟"
غلبها الحرج والاحمرار يغزو وجهها وهي تديره جانباً، بينما اتسعت ابتسامة سلمة وهو يهمس "يعلم الله كم اشتقت إليك يا جمان.."
ازداد احمرار وجهها بخجل ظاهر رغم السعادة التي تبدت في عينيها.. ودّت لو تبثه شوقها بدورها، وهي التي ما برحت تفكر فيه في كل يوم غاب عنها.. لكن الكلمات كانت عصيّة عليها وهي تخفض وجهها أكثر مدارية انفعالها.. لاحظا في تلك اللحظة الأعين التي تحدق بهما من موقع قريب، ولما التفتا رأيا زهراء وجنان تراقبانهما بابتسامة متسعة من موقع قريب، فقال سلمة مقطباً متظاهراً بالحنق "ما بالكما أيتها المتلصصتان؟ ألم أطلب منكما العودة للبيت؟"
ضحكت جنان بينما قالت زهراء بابتسامة "ولماذا تحتفظان بهذا الأمر سراً؟.. نحن نعلم بالأمر كله.."
نظرا لها بدهشة، فصاحت جنان بأعلى صوتها "سلمة سيتزوج جمـــــان.. سلمة يحب جـمــــــــان......"
احمر خدا جمان بشدة، بينما تركها سلمة وركض خلف جنان التي صرخت وهي تستدير هاربة، فهربت زهراء بدورها ضاحكة وهما تتراكضان في الحقل الصغير.. أحاطت جمان وجهها الذي غزته الدماء الحارة بيديها، وراقبت سلمة الذي رغم حنقه الظاهر بدا لها سعيداً.. ربما لم يبدُ بهذه السعادة منذ عرفته، وبدا لها هذا غريباً.. بعد كل ما جرى، وبعد كل ما واجهاه، تغمر سلمة السعادة لأمر كهذا؟!.. أحقاً يحبها لهذه الدرجة؟.. أحقاً يتمناها زوجة له؟.. أحقاً يريد تمضية ما بقي من عمره معها ولا يستثقل وجودها معه؟.. ليته كان حقاً كذلك..

***********************

بعد أقل من أسبوع، دلف سلمة بيت خديجة الصغير وهو يبحث ببصره عن جمان في أرجاء البيت الذي لا يحوي إلا غرفتين ويكاد يكون عارياً من الأثاث.. كانت جارة خديجة قد أعدت هذا البيت لسكنى سلمة في هذا الأسبوع، بينما بقيت جمان والفتاتين في بيتها الذي لا يسكنه إلا هي.. والآن، بعد طول انتظار، تم زواج سلمة من جمان بمباركة أهل القرية الصغيرة وبوليمة محدودة ضمّت الجميع بسعادة افتقدوها بعد القلق والذعر الذي ساد مع أخبار التتار المتتالية..
وبعد أن فرغ أهالي القرية من التهام الوليمة والاحتفال بهذه المناسبة، وبعد أن تملص سلمة من جنان بصعوبة وتركها تأوي مع زهراء عند المرأة الطيبة، انطلق من فوره بحثاً عن جمان التي كانت في بيت خديجة بعد أن تركنها النسوة في القرية.. فوجدها قرب نافذة إحدى الغرفتين تتطلع للأفق بصمت ساهمة.. وقف سلمة للحظة يتأملها، وقد ارتدت بعض الملابس التي أحضرها لها من الكوفة بلون كهرماني ولآلئ تزين أطراف يديها وفتحة عنقها، وقد لمّت نساء القرية شعرها وقمن بتعطيره وتزيينه ببعض الأزهار البرية البيضاء.. رغم أن هذه الملابس لم تكن ببهاء وجمال ملابسها السابقة، إلا أن جمان بدت لعيني سلمة أكثر جمالاً من أي وقت مضى..
ابتسم وهو يتذكر انفعالها بعد أن عرض عليها الزواج منه في ذلك اليوم منذ شهر مضى.. في تلك اللحظة، فوجئ بدموعها تسيل على خديها وهي تنظر له محمرة الوجه بصمت مما أفزعه.. رغم أنه كان يتوقع الصدّ منها، لكن أن تسيل دموعها بسبب ذلك؟.. كان واثقاً في تلك اللحظة أنها تكرهه، أنها تبغض استغلاله لضعفها، وإلا ما بكت بهذه الطريقة.. في ذلك الوقت ندم سلمة على ما فعله أشد الندم، فتخلى عن يديها محاولاً بارتباك أن يتراجع عن قوله واعتذر لها بشدة.. لكنها تمسكت بيديه بقوة وخفضت رأسها وقد تهدج صوتها قائلة..

"ما ظننت أن لي عندك أي حبٍ باقٍ بعد كل ما جرى.."

بقدر ما تعجب لقولها ذلك، بقدر ما تداعت مشاعره مع مغزاه.. كيف يساورك الشك بذلك يا جمان؟.. وأنا قد حاولت انتزاع هذا الحب من صدري مرات ومرات دون فائدة.. فكيف يصيبك العجب مما أحمله لك في قلبي؟..

"أحقا لا زلت تحبني؟.."

أتسألين هذا السؤال بعد يا جمان؟.. وكأنك تسألين (أما زلت حياً بعد؟..) وهو سؤال لا يحتاج لجواب..

" أحقا تريدني زوجة لك بعد كل الألم الذي نالك مني؟.."

جاش صدره بانفعالات شتى وهو يتذكر قولها، فتقدم منها بصمت حيث وقفت قرب النافذة.. انتبهت له جمان فالتفتت إليه لتلاحظ تعابير وجهه ونظراته التي أحاطت بها وغمرتها.. فخفضت جمان بصرها بخجل بينما مد سلمة يده ولمس خدها بحنو وهو يتأملها بصمت.. من كان يظن أن تزف ابنة التاجر الثري ربيعة والتي كانت ترفل بالنعيم منذ طفولتها بملابس بسيطة وفي بيت قروي بسيط لا يعرف لمحة من الترف؟.. حاول سلمة وأد مشاعر الذنب التي يشعر بها وهو يرى السعادة في عينيها رغم خجلها العارم..
أما جمان فقد تمالكت ارتباكها بصعوبة وهي تجده يفك شعرها لتنسدل خصلاته على ظهرها وكتفيها فيما تلمّسها بأصابعه بصمت طال.. ثم وجدته يجذبها فجأة ويحيطها بذراعيه ليضمها لصدره وهو يهمس بانفعال "أخيراً، أصبحت زوجتي يا جمان.. أصبحت لي يا جمانتي.."
احمر خدا جمان بشدة وهي تراه يغمرها بعواطفه الجياشة.. ثم تمالكت خجلها وهي تهمس "إن كنت تفعل هذا من باب حمايتي والحرص عليّ، فأنت غير مجبر على هذا يا سلمة"
رفع وجهها نحوه قائلاً بشيء من التأنيب "أتظنين أنني أجبرت على ذلك؟"
نظرت له بحيرة ظاهرة.. فلا تزال بحيرة مما يدعوه لربط نفسه بها بعد كل ما جرى.. ولا تزال تقنع نفسها أن حبه قد ذبل مع معاملة أباها السيئة له في الآونة الأخيرة رغم كل ما بذل لأجلها.. فكيف يمكنها أن تأمل بوجود أي حب لها في قلبه؟..
وجدته يحيط وجهها بيديه قائلاً "ألا تعلمين كم تمنيت أن تكوني لي؟ منذ سنين طوال، ومنذ كنتُ فتىً لا يدرك معنى العبودية، تمنيت أن تبقي معي طوال العمر.. منذ رأيت ابتسامتك الجميلة، ومنذ رأيت دموعك تهطل لأجلي، راودتني رغبة بأن تكوني ملكي.. وكم كانت صدمتي كبيرة عندما أدركت موقعي الحقيقي في عالمك، ومعنى أن أكون عبداً مغرماً بابنة مولاي"
وضمها إليه بقوة كبيرة مضيفاً "حاولت وأد مثل ذلك الحب الذي لا خير منه، لكنه كان عصيّاً على إرادتي.. اكتشفت أنه قد تغلغل في عروقي ويصعب على أيٍّ كان انتزاعه منها.."
خفضت جمان وجهها بمزيج الخجل والسعادة وهو يقول بانفعال "لو تعلمين ما شعرت به عندما بلغني نبأ خطبتك، عندما رأيت ذاك الوضيع يحدثك.. لا تعلمين كم من الغضب اعتمر صدري وأنا أرى ابتسامتك موجهة له.. شعرت أنني قد أتهور وأقتله في أي لحظة.. لم يكن بيدي حيلة، وقد عزمت على مغادرة القصر قبل زواجك.. فلم أكن أطيق البقاء وأنا أراهم يزفونك لرجل آخر"
همست جمان "لكنك لم تفصح لي عن مشاعرك بتاتاً في ذلك الوقت!"
تنهد معلقاً "ولمَ قد أفصح لك عن مشاعر ستغدو عبئاً عليك، وقد تستهجني وجودها وتحتقرينني بسببها؟ كرهت نفسي في أوقات كثيرة بسبب حبي لك، ووددت لو أنني قضيت نحبي لأي سبب.."
ورفع وجهها بأصابعه مضيفاً "لكن عندما أراك كل صباح، وأرى ابتسامتك الجميلة، أحمد الله أنني شهدت يوماً آخر لأملأ عينيّ منك.."
غمغمت جمان بخجل "أنت تبالغ.."
ابتسم سلمة قائلاً "بل أنتِ من يستهين بما أكنه لك.."
نظرت جمان من النافذة هرباً من عينيه اللتين تخجلانها، وتطلعت للأفق الأسود بصمت للحظة وهو يتلمس شعرها الناعم بخصلاته الطويلة، ثم غمغمت "الآن أدركت السبب الذي يدعوك للنظر للأفق دائماً.. لم يكن ذلك حنيناً لموطنك أو لعائلتك التي تركتها خلفك.. بل بحثاً عن أمل جديد وفجرٍ أكثر إشراقاً.. أليس كذلك؟"
ابتسم سلمة وهو يضمها من جديد هامساً "من يدري؟!"

***********************
~ الـنـهـــايــة ~


~ بعيدا عن الخيال (16) ~
بعد سقوط بغداد


بعد السيطرة على بغداد، سار بغاتيمور زوج أخت هولاكو إلى واسط فحاصرها بقواته.. ولما قاومته فتحها بالقوة وقتل الكثيرين من أهلها.. وقد بلغ عدد القتلى أربعين ألفاً.. وبعد ذلك استولى على تستر والبصرة وغيرها من البلاد، وعاد في 12 ربيع الأول من نفس السنة لينضم للقواد الذين تركهم هولاكو في بغداد.. بينما سار أرقيو نويان إلى إربل واستولى عليها.. وهكذا في شهور قليلة سيطر التتار على العراق كاملاً..
عندها.. وجه هولاكو اهتمامه نحو الشام ومصر، وسيّر جيوشه بقيادة كتبغا نحوها ليخضعها بدورها وثقته بالنصر أقوى من أي وقت مضى.......
{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً}


***********************

عالم خيال 20-02-16 08:01 AM

رد: رحلة ضياع
 
والآن مع انتهاء الرواية، بأحداثها ومآسيها، متى ترغبون بأن أعرض الفصل الإضافي؟

يمكنني عرضه اليوم في وقت لاحق، أو غداً لو كان هذا يناسبكم

بانتظار رأيكم بالرواية كاملة

bluemay 20-02-16 09:20 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


بدون مبالغة النهاية السعيدة نستني اي حزن او الم مر بي في قراءتي للرواية ..

النهاية كانت مرضية لي ..

لا اخفيك سرا كنت اخشى ان تمري مرور الكرام بخبر زواجهما كما في روايتك عى جناح تنين او حتى مع ابنة اﻷكاشي


ولكنها جاءت مرضية بالنسبة لي وقد اشفت غليلي من هذا البؤس والشقاء الذي احاط بجمان.


رائعة جدا ومبدعة عزيزتي خيال .


بالنسبة لي يناسبني بالغد الفصل الاضافي اقصد .. لا اريد ان تزول تلك السحابة الوردية التي تحوم حولي >>> فيس عايش بحالمية لووول


تقبلي مروري وخالص ودي

★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

عالم خيال 20-02-16 06:52 PM

رد: رحلة ضياع
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bluemay (المشاركة 3597397)
بالنسبة لي يناسبني بالغد الفصل الاضافي اقصد .. لا اريد ان تزول تلك السحابة الوردية التي تحوم حولي >>> فيس عايش بحالمية لووول

سعيدة بإعجابك بالنهاية يا عزيزتي
وأتمنى أن تكون الرواية إجمالاً قد راقت لك..

لا يمكنني أن أتحدث عن نهايتهما معاً بشكل مقتضب كما أفعل عادة
لأن هذا سيكون مجحفاً لسلمة الذي عشنا مع معاناته في سبيل كسب جمان
لذا لابد أن تكون النهاية مقاربة لهذه المعاناة..

سأنشر الفصل الإضافي غداً بإذن الله تعالى..
وهو خاص بسلمة أيضاً فأتمنى أن يعجبكم..

مملكة الغيوم 20-02-16 08:02 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
فصل تعويض خيال عن البؤس اللى حسينا بيه تجاه العراق واهله نهايه جميله لسلمه وجمان والاجمل عدم تخليهم عن الزهرتين الصغيرين جنان وزهره
ازاى كنتى بتقولى ان القصه تاريخيه ومش حتعجب حد بالعكس حبيبتى انتى قلمك فى سرد الخيال كما فى سرد الوقائع التاريخيه الحقيقه من قلبى انتى رائعه والله بدون مجامله الثلاث قصص على نفس المستوى من الروعه بجد اتمنى لك مستقبل باهر فى الكتابه واى جديد او قديم لديكى احنا منتظرينه بشوق
سلمت يداكى خيال فى انتظار الفصل الباقى غدا باذن الله لكى منى كل تحيه وتقدير:55:

عالم خيال 21-02-16 07:35 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

سعيدة بإعجابك بالنهاية.. لم أعنِ أن القراء لن تعجبهم كتابتي، لكن قصدت أنهم قد لا يستسيغون رواية بها هذا الكم من البؤس والشقاء..
ربما لو كانت الرواية أطول، لكانت الأحداث أخف وطأة وازدحاماً..

شاكرة لك كلماتك الجميلة التي أسعدتني بحق.. ولكم مني كل تحية لتشجيعكم لي واستمراركم بالرد على الفصول..
لن أتمكن من وضع المزيد من الروايات في الوقت الحالي لأني سأنشغل بكتابة رواية جديدة..
ربما أعود في وقت لاحق لعرض رواية قديمة.. أو أعود بروايتي الجديدة لكم هنا..
سأقرر ذلك في حينه..

إليكم الفصل الإضافي الأخير..

عالم خيال 21-02-16 07:46 AM

رد: رحلة ضياع
 
~ فصل إضافي ~
ما قبل البداية


كل شيء كان غريباً على الفتى بشكل زاد وحشته..
هذا الجو الحار الجاف الذي تتشقق له الشفاة..
هذه الأكوام العالية من الرمال الصفراء التي تلسع الأقدام بحرارتها والتي تمتد على مدّ البصر..
هذه الوجوه السمراء الملتحية التي تلبس العمائم وتتمنطق سيوفها غريبة الشكل..
هذه الحيوانات الغريبة ذات السنام العالي والصوت المخيف والتي تحمل راكبها أعلى من أي حيوان آخر، وتسير به بشكل أعنف من أي حيوان آخر..
هذه اللغة الغريبة التي تزخر بحروف لم يسمع مثلها من قبل، والتي يتحدث بها أصحاب هذه البلاد بصوت خشن جهوري وكأنهم يرغبون بأن تصل أصواتهم لأبعد مدى..
هذا النداء الغريب في المدن والقرى التي مروا عليها والذي يتكرر عدة مرات في اليوم، حتى قبل طلوع الشمس، بشكل يزيد قلقه ووحشته..
أين منها جبال القوقاز الخضراء اليانعة بجوها الذي يتراوح بين أنسام عليلة وبرد قارس؟
أين منها شلالات القوقاز وأنهارها ذات المياه الباردة؟
أين منها شعب القوقاز ذوي البياض الجميل والوجوه الحليقة والعيون الملونة؟
أين منها بيوت القوقاز المتراصة البسيطة التي تعبق بحميمية يتلهف المرء إليها؟
أين منها حديث أهل القوقاز بلغتهم الجميلة وصوتهم الخفيض وهدوئهم الظاهر؟
شتان بين العالمين.. وشتان بين رقة أزهار القوقاز وبين جفاف صحراء العرب..
فلتحل اللعنة على كل من ساقه لهذا المصير..
فلتحل اللعنة عليك يا أبتاه..

***********************

انطوى الفتى في تلك الغرفة شبه المظلمة بصمت وسكون ظاهرين.. حاول تجاهل الأصوات التي يسمعها، وهو يفكر بمآله منذ غادر موطنه.. في مثل هذا الوقت، عند غروب الشمس، كان يعود من الحقل الصغير الذي يملكه أبوه وهو يحمل بعض الثمار التي جمعها من الحقل.. فيجد أمه المبتسمة رغم إنهاكها الواضح وهي تربت على رأسه وتتناول ما يملكه بصمت.. بينما صدى أصوات أشقائه يملأ البيت الصغير الدافئ مقارنة بجو الجبال القارس.. ولا يلبث الأب أن يتبعه ليبدأ الجميع عندها بمعاونة الأم لتحضير الطعام ووضعه على الطاولة الخشبية التي نحت الأب سيقانها بنفسه بنقوش على شكل أزهار وعصافير بالغة الدقة والجمال..
أما الآن، فهو قابع في هذه الغرفة لا يقدر على مغادرتها، يتضور جوعاً ويكاد يختنق من روائح العرق التي تصدرها الأجساد من حوله.. كانت الغرفة مليئة بعدد كبير من الفتية من كل عِرْق يعرفه.. من الرومان، والأتراك، والقوقاز، والحبش.. بعضهم تبدو التعاسة على وجهه والدموع تملأ مآقيه، بينما البعض غير عابئ بما يجري له وهو يتشاجر مع من حوله أو ينام نوماً عميقاً بعد رحلة متعبة كالتي مروا بها..
رأى في تلك اللحظة رجلاً كهلاً يدلف الغرفة مقطب الحاجبين.. فيدفع هذا ويركل ذاك بصمت وهو يبحث بعينيه بينهم.. ظل الفتى يراقبه بقلق وهو يراه يقترب منه، حتى وقف الرجل أمامه فأنهضه بقوة والفتى لا حول له ولا قوة.. ثم سمع الرجل يقول وهو يتفحصه بنظراته " ራኇሚዓ ሓሣኳራቺ ኇሣኳዓሓኳ "
ظل الفتى واقفاً ينظر لمحدثه بغير فهم منتظراً أن يشرح له بالإشارات ما يبغيه.. لكن استبد الغضب بالرجل الكهل الذي يقف أمامه وبدأ بصراخ لا معنى له.. تلفت الفتى حوله بحثاً عن تفسير لما يراد منه، ولما عاد ببصره للرجل أمامه فاجأته صفعة قوية دار لها رأسه قبل أن يسقط خلفاً بجسده النحيل.. ظلت أذنه تطنّ بقوة من أثر الصفعة بينما زفر الرجل بغضب واضح وهو يغادر الغرفة الصغيرة.. بدأت الدموع تحتشد في عيني الفتى مقهوراً للظلم الذي يلاقيه، وللنظرات من حوله التي حملت مزيجاً من الشفقة والشماتة.. ما ذنبه أنه لا يفهم هذه اللغة؟ ما ذنبه أن سيق لهذا المصير الظالم القاسي؟.. شعر بفتى أكبر منه سناً يقترب منه ويحدثه بهمس، لكنه لم يفهم حرفاً مما قيل له وهو يهز رأسه بصمت ويحاول الوقوف رغم الدوار.. اندفع الفتى الآخر لمعاونته، لكنه دفع يده بشيء من الحدة واتجه لجانب الغرفة لينزوي وحيداً دافناً رأسه بين ذراعيه.. لقد وصلوا مع نهاية هذا اليوم لهذه المدينة الكبيرة، ورغم أنه في كل يوم يبتعد عن موطنه أكثر فأكثر، إلا أنه في كل مرة كان يتشبث بأمل أن يلحق به أبوه أو أخوه الأكبر ويستعيداه مهما كان الثمن.. لابد أن أمه وإخوته قد اشتاقوا له، ولابد أن أباه سيرجوه العودة محاولاً إخفاء دموعه.. أليس كذلك؟..
ألستِ مشتاقة لي يا أماه؟ أنا مشتاق لحضنك كثيراً..
ألست نادماً على رحيلي يا أبتاه؟.. أنا نادم على رحيلي أشد الندم..
ألا ترغبون بعودتي إليكم يا إخوتي؟.. وأنا كذلك راغب بعودتي إليكم..
لن ألومك يا أبي.. فقط أعدني وأنقذني من هذا الجحيم..
أعدني لموطني، فلا وطن آخر لي ولن يكون..

***********************

بعد عدد قليل من الأيام، وجد الفتى أن ذلك الرجل الكهل قد فصله عن البقية وسار به وحيداً بعيداً عن تلك القافلة.. طال سيرهم أياماً عدة، والفتى يركب بغلة بطيئة السير بينما يسير الرجل أمامه على ذلك الحيوان الضخم.. ومعهم ثلاث من الحبشيين بين راكب وراجل.. تلفت الفتى حوله بتعجب وهم يسيرون وحيدين أياماً وأياماً ولا يمرون إلا ببعض القرى الصغيرة.. لكن، لم فصلوه عن البقية؟.. ما المصير الذي ينتظره وحيداً؟..
بعد فترة عجز عن حسابها، وبعد ان انبسطت الكثبان الرملية وغدت سهولاً صخرية تتناثر فيها الأشجار وتغزوها الحشائش، وجد أنهم يقتربون من قصر وحيد ذو سور واسع في وسط السهول.. لم يرَ قربه أي بناء آخر، عدا عن قلعة رآها على مبعدة في اليوم السابق.. تعجب لوجود القصر منفرداً، لكنه لم يعلق وهو يراقب اقترابهم منه حتى تجاوزوا أسواره واقتربوا من القصر الذي لم يسبق له رؤية بناء أفخم منه.. لابد أن صاحبه ملك من ملوك هذه البلاد، فليس لرجل عادي أن يمتلك بيتاً كهذا القصر وخدماً بكثرة هؤلاء الذين يراهم أمامه..
سار به الرجل الكهل في ممرات القصر، بينما بقي الرجال الحبشيين خارجه، حتى دلفا مجلساً منيراً عامراً بكتب لم يرَ الفتى بمثل كثرتهم من قبل.. ووسط المجلس، رأى رجلاً مهيباً بلحية طويلة ووجه لوحته الشمس ونظرات حادة وإن كانت عابقة بطيبة واضحة.. هبّ الرجل نحو الكهل واقترب منه محيياً فتعانقا ثم قاده الرجل المهيب نحو جانب المجلس ليجلسا على كراسٍ خشبية عليها وسائد مطرزة ملونة بهيجة المنظر.. بقي الفتى واقفاً بحيرة فلم يدعه أحد للجلوس، بينما تجاهل الرجلان وجوده وهما يتحدثان لفترة طالت.. لاحظ الفتى أن العبوس غاب عن وجه الكهل وهو يحدث ذلك الرجل المهيب، وبدأ يضحك بسرور بين فينة وأخرى.. ثم بعد زمن طال، التفت نحو الفتى مشيراً إليه وهو يحدث الرجل المهيب، فبدأ الرجل المهيب يتفحصه وبدت ابتسامة على شفتيه وهو يربت على كتف الرجل الكهل.. ثم صفق بيده بقوة، ففتح الباب ودلف منه رجل أسمر مقطب الجبين، سرعان ما انحنى أمام الرجلين ووقف يستمع لحديث الرجل المهيب.. وبعد أن انتهى، فوجئ الفتى به يقترب منه ويجذبه من ذراعه مغادرين المجلس بصمت.. تلفت الفتى خلفه، فلاحظ أن الكهل قد انشغل بالحديث وتناسى وجوده تماماً مما زاد من حيرة الفتى.. ما الذي جاء به إلى هنا ولأي أمر؟..
وجد الرجل يجذبه خارج القصر وعبر الحدائق نحو مبنى جانبي بدا عادياً مهيناً مقارنة بالقصر القريب.. فجذبه الرجل نحو جانب المبنى حيث وجد بئراً حفرت في الأرض وقربها عارضة خشبية علق عليها حبل طويل ودلو خشبي.. سرعان ما دلى الرجل الدلو في البئر وجلب به بعض الماء، ثم التفت إلى الفتى قائلاً كلمة لم يفهمها الفتى.. لكن إشارة من الرجل أفهمت الفتى أنه يطلب منه خلع ملابسه.. نظر الفتى حوله بتوتر، بينما قطب الرجل وهو يعيد قوله بحدة أكبر.. ولما لم يتحرك الفتى، وجد الرجل يقترب منه فيخلع ملابسه عنوة تاركاً ما يستر عورته، ثم فوجئ به يسكب ما يحويه الدلو من ماء عليه بقوة.. شهق الفتى لبرودة الماء مقارنة بالجو الحار وبحرارة جسده مما جعل الماء البارد كلطمة قوية أصابته.. لم يتوقع أن يخرج الماء من البئر بهذه البرودة، ويبدو أن وجوده في باطن الأرض ساعد على احتفاظه بحرارة منخفضة مقارنة بالجو المحيط بهم.. جلب الرجل المزيد من الماء من البئر، ثم أشار للفتى أن يغتسل، بينما غادر هو مبتعداً بصمت..
بدأ جسد الفتى يرتجف رغم حرارة الجو، لكنه لم يجد بداً من القيام بما أمر به الرجل.. لا يريد المزيد من الصفعات أن تصيب وجهه، فقد لقي من الإهانة ما يكفيه منذ غادر موطنه.. وما عاد بقادر على تحمل المزيد..
بعد وقت قصير عاد الرجل إليه حاملاً له ملابس غريبة بلون بني، وأمره بارتدائها بإشارة من يده.. ثم قاده للمبنى الصغير القريب وأدخله إحدى غرفه الواسعة حيث كانت خالية إلا من بعض الصناديق الخشبية والبطائن والألحفة.. جلس الفتى جانباً والرجل يحضر له بعض الطعام الغريب والماء.. ثم غادر وتركه وحيداً دون أن يطلب منه العودة لذلك الرجل الكهل.. هل جاء به الكهل لهذا الموقع لكي يستحم ويستبدل ملابسه؟.. هل سيعود مع الرجل الكهل أم أنه سيبقى هنا؟.. ليته يفهم ما يقال له، وليتهم يفهمونه.. لطلب منهم إعادته لموطنه مهما كلفه ذلك.. يمكنه أن يعمل حتى يجني من المال ما يكفي لإعادته.. لكن يجب أن يعود.. يجب أن يعود..

***********************

قضى الفتى تلك الليلة كأسوأ ما يكون.. لم يعد إليه الرجل الكهل، وقد بدا له أنه غادر بعد وقت قصير من افتراقهما، ولم يفهم الفتى السبب الذي جيء به إلى هذا الموقع.. قضى الليلة تلك في تعب وضيق مع الأجساد المتكدسة حوله في تلك الغرفة، تفترش تحتها حشية صغيرة وتلتحف بدثار رقيق لا يكاد يبعد عنها البرد.. نام في تلك الغرفة ليلتها ما يقرب من عشرة فتيان يتراوحون بالأعمار، فمنهم من يماثله في العمر ومنهم من يكبره بخمس أو ست سنين.. بينما أوى الرجال أمثال ذلك العابس لغرف أخرى في ذلك المبنى..
وفي الصباح، جاء الرجل العابس يصيح لإيقاظهم بصوته الخشن، فقفز أغلب الفتية بسرعة خشية أن ينالهم غضبه، وهم يسارعون لارتداء ملابسهم والخروج من الغرفة.. فنهض الفتى بدوره بصمت وقد فهم أن النداء عامّ عليهم، وارتدى قمصيه ثم خرج من الغرفة تابعاً البقية..
وخلال يومين، أدرك الفتى أنه قد جُلب لهذا القصر ليكون مجرد عامل من عمالها، وليرعى مع البقية ما يملكه صاحبها من حيوانات ويعتني بالمزرعة الصغيرة في جانب الحدائق.. أما الرجل الكهل فقد غاب تماماً ولم يعد منذ غادر القصر.. قضى الفتى هذان اليومان كحلم بغيض، غير مصدق ما آل إليه حاله.. صحيح أنه من عائلة فقيرة تعيش على الكدّ والزراعة، لكن أن يعمل لأبيه شيء وأن يعمل للآخرين دون أجر شيء آخر.. فلا يعدو أجره أن يكون بضع لقيمات يأكلهن وفراش ينام عليه منهكاً في الليل..
بدا أن الرجل العابس اختصه بالعناية بالحيوانات، لكن كيف يخبره أنه لا يعرف أي شيء عن ذلك؟.. لكن ما المهم؟ يتمنى فقط ألا يغضب ذلك الرجل العابس فغضبه كما رآه على بقية الفتيان شديد لا يطيقه..
أوكله الرجل العابس يوماً بنقل أكوام من التبن إلى داخل حظيرة الحيوانات في جانب منها، ولم يجعل معه أحد الفتية ليعاونه.. فلم يملك الفتى إلا أن يطيعه دون تذمر رغم علوّ الكومة وبُعد الحظيرة عنها، والشمس قد قاربت المغيب.. لكنه استمر بعمله بصمت تام ملاحظاً أن أغلب العمال قد غادروا الموقع عائدين لمبنى سكنهم بانتظار الطعام، بينما أصدرت معدة الفتى أصواتاً عالية وهي تعصره بألم لشدة الجوع..
لكن لم يطل به الوقت عندما رأى الرجل المهيب عائداً من رحلة إلى القلعة القريبة.. وسرعان ما استدعاه أحد الفتية لمساعدة بعض الرجال في نقل البضائع التي أتى بها الرجل المهيب ووضعها في إحدى قاعات القصر.. فلم يجد الفتى بداً من إطاعة الأمر ومعاونة الرجال رغم تعبه، ثم عاد بعدها منهكاً إلى المبنى الجانبي وارتمى على الفراش متعباً لا يكاد يستطيع رفع رأسه..
تلك الليلة، أمطرت السماء كما لم تفعل من قبل..
ورغم أن الفتى انتبه أثناء نومه ورأى المطر الغزير الذي كان صداه واضحاً بقوة على مبناهم، إلا أنه لم يدرك عواقب ذلك.. وفي اليوم التالي، غادر المبنى كعادته منذ فترة متجهاً إلى الحظيرة لمزاولة عمله بصمت.. لكن فور وصوله أدرك أن خطباً ما قد جرى، إذ انقلبت سحنة الرجل العابس بشدة، وبادره بصياح عصبي وهو يشير لكومة التبن التي نسيها خارج الحظيرة في اليوم السابق.. وبدا من المنظر أمامه أن المطر الغزير قد أفسدها تماماً..
لم يدرك الفتى بأي شيء يعتذر والرجل لا يفهم لغته، فاكتفى بالصمت والندم يأكله على نسيانه، لكن يبدو أن الرجل قد فهم صمته ونظراته بشكل خاطئ، إذ انفجر بغضب لم يشهده الفتى من قبل..
للحظة لم يستوعب الفتى ما جرى له، إذ فوجئ بالألم ينفجر في جانبه وشيء يرتطم بجسده ويلقيه أرضاً.. تمالك نفسه بصعوبة وفتح عينيه، وسرعان ما رأى الرجل يقترب منه ويبدأ بركل جانبه بشكل متواصل وبغضب وهو يصرخ بحدة.. كتم الفتى ألمه بشدة وهو يعض على شفته بقوة ويغمض عينيه محيطاً رأسه بذراعيه ليتقي الضربات فيه.. ثم وجد الرجل ينهضه بقوة ويدفعه بعيداً عن الموقع بعنف بحيث وجد نفسه يرتمي أرضاً.. لم يفهم سبب غضبه منه، ولم يفهم سبب طرده.. لكن هل يملك الاعتراض على شيء؟..
سار الفتى متألماً بعد الركلات التي أصابت جنبه وآلمته بشدة.. سار عبر الحدائق حتى عجز عن إكمال السير، فانزوى في جانب غير مرئي منها بعيداً عن أعين البقية وهو يتحامل على ألمه ما استطاع.. لكن عندما بدأ الألم يزداد، أطلق آهة ألم وهو ينثني على نفسه ويعض على أسنانه بقوة.. ظل على وضعه لحظات حتى بدأ الألم يخفت شيئاً ما، عندها ألقى رأسه على ذراعيه ودموعه تسيل على وجنتيه.. لو كان في موطنه، لفزع أباه لما أصابه واقتصّ له من الفاعل.. لو كان في موطنه، لفزعت أمه وسارعت لعلاجه بمغلي بعض الأعشاب التي لا يعرفها.. لو كان في موطنه........ لكن ما فائدة (لو) الآن؟.. هو ليس في موطنه، وربما لن يكون كذلك ما بقي له من العمر..
ازدادت الدموع التي تسيل من عينيه وهو عاجز عن مسحها، ثم بدأ يبكي بحرقة محاولاً ألا يصدر صوتاً يجذب له الانتباه لئلا يصيبه المزيد من العقاب.. كلما تذكر وجه أمه، ازداد بكاؤه.. وكلما تذكر ملامح بيته، ازدادت دموعه وهو يشعر بحرقة وأسىً على حاله..
لم يشعر بمرور الوقت، ولم يشعر بتلك الخطوات الدقيقة التي اقتربت من موقعه فتوقفت فجأة.. استمر في النحيب دون أن ينتبه للسؤال الذي ألقي عليه بصوت طفولي.. لم يشعر إلا بتلك اليد التي لمست كتفه بخفة.. أدرك الفتى واقعه فقفز واقفاً والذعر يعتريه خشية اقتراب ذلك الرجل منه.. لكنه لم يرَ أي من الرجال قربه، ولما خفض بصره رأى ذلك الجسد الضئيل لفتاة لا تتجاوز الخامسة من عمرها.. ترمقه بعينيها السوداوان الواسعتان وشعرها القصير الذي لا يتجاوز كتفيها يطير مع الريح بنعومة.. سمعها تحدثه بسؤال لم يفهمه، لكن نظرة لملابسها الحريرية المطرزة والأقراط الذهبية المدلاة من أذنيها جعلته يدرك أنها ذات شأن في هذا المكان.. فدمدم بلغته "هذا ما كان ينقصني.."
واستدار مغادراً وهو يسمع النداء الملحّ للفتاة التي بدأت تتبعه.. لكنه لم يلتفت وهو يعود للمبنى الذي لا يسكنه إلا من هم على شاكلته من العاملين في القصر.. بدأ الألم يعود لخاصرته بشدة، فتوجه من فوره لغرفته وهو يقول بضيق "تباً لذلك الرجل.. سأقتله يوماً وأفر عائداً للقوقاز.. لابد أني فاعل حتماً.."

***********************

في اليوم التالي، فوجئ الفتى برؤية الفتاة ذاتها تقف في الحظيرة التي يعمل فيها وهي تراقبه بصمت.. رغم آلامه، إلا أن ذلك الرجل لم يعبأ به وهو يجبره على العمل الشاق مجدداً.. فاستغرق الفتى في عمله بصمت دون تذمر حتى فاجأته تلك الفتاة بنظراتها الفضولية.. توقف قليلاً ينظر لها بدهشة، فسمعها تحدثه بلغتها التي لا يفهمها بما يشبه التساؤل.. وبعد أن طال انتظارها لجوابه، دمدم الفتى بضيق "لا ينقصني إلا فضول طفلة مثلك..”
سمع الرجل يحدثها بما لم يفهمه، لكن بدا أنه طلب منها الرحيل، فقد أطاعته دون تذمر تاركة الفتى يعود لعمله الشاق والعرق ينضح من جبينه..
لكن لم يطل غياب الفتاة عنه، إذ فوجئ برؤيتها فور مغادرته الحظيرة وهو يحمل دلواً نحو بئر قريبة.. فأسرعت الفتاة تلحق به وهي تعيد تساؤلاتها بكلمات متلاحقة، فغمغم الفتى بضجر "ألا تدرك تلك الحمقاء أنني لا أفقه كلمة مما تقول؟"
انشغل بعمله متجاهلاً إياها وهو يملأ الدلو بالماء ويعود به للحظيرة رغم ثقله بالنسبة لجسده الضئيل.. لكنه لا يملك رفاهية التذمر أو الاعتراض بأي كلمة.. ليس بعد كل ما لاقاه في اليوم السابق من أذىً وتعذيب على يد ذلك الرجل..
وبعد يوم، رغم محاولة الفتى العمل بأفضل ما يستطيع، فوجئ بصراخ الرجل العابس عليه بحدة وهو يشير لمعزة في الحظيرة بدا عليها المرض الشديد وهي عاجزة عن الوقوف.. لكن ما ذنبه هو؟.. وبعد الصراخ وبضع صفعات على وجهه، طرده الرجل من الحظيرة وأمره بالعودة لغرفته وتوعده بالحرمان من الطعام.. أو أن هذا ما فهمه الفتى من الكلمات القليلة التي تعلمها في الأيام السابقة ومن تلويح الرجل بيديه في إشارات عصبية..
سار الفتى في الحدائق بصمت وهو عازف عن العودة للمبنى في جانب المكان لئلا يرى الآخرون خده الذي احمرّ بشدة بعد الصفعات التي نالها.. فقادته قدماه لذات الموقع الذي انزوى فيه سابقاً، ووجد نفسه يجلس فيه محتمياً بعزلته عن أعين الآخرين لئلا تلحقه شماتتهم.. وهم لابد فاعلون..
بدأت الدموع تنساب من عينيه مجدداً وهو يتذكر حياته السابقة.. رغم كل تلك السنوات، لا يذكر أن أباه في يوم من الأيام قد صفعه لخطأ أخطأه.. أو أن أمه قد صرخت في وجهه بعصبية كما حدث له اليوم.. ثم كيف يحاسبه الرجل على خطأ وهو لا يدرك ما فعله حقاً؟ لا خبرة لديه بالعناية بالحيوانات، فكل خبرته كانت في العمل في الحقول.. إذن كيف يلومه على شيء لا يعرفه البتة؟..
خده الذي يحترق بأثر الصفعة يؤلمه، ودموعه التي تهطل عليه تزيده ألماً.. فحتى متى سيصبر على وضعه هذا؟.. بدأ بكاؤه يزداد والحزن يغمر صدره بقوة.. لكن لم يدم به جلوسه طويلاً حتى شعر بالخطوات الخافتة التي اقتربت منه.. رفع عيناً دامعة ليرى الفتاة الصغيرة قد اقتربت منه وقد تغيّر وجهها لمرآه.. وجدها تقبع قريباً منه وهي تهمس بشيء لم يفهمه، فازدادت الدموع الهاطلة من عينيه وهو يخفي وجهه بين ذراعيه ويغمغم لنفسه بحزن "هل ينقصني إلا أنت؟"
بعد لحظة قصيرة، نظر نحوها متوقعاً رؤية السخرية في عينيها، لكنه فوجئ بالدموع التي ترقرقت فيهما قبل أن تسيل على خديها وهي تنظر إليه.. وسرعان ما بدأت بالبكاء وهي تخفي وجهها خلف يديها وصوتها يعلو بالنشيج.. غلبته الحيرة لما يراه، ثم سارع لمسح دموعه وهو يلتفت إليها ويربت على كتفها متسائلاً بحيرة "ما بالك يا فتاة؟.. ما الذي يبكيك؟"
لكنه لم يكن بحاجة لمثل هذا السؤال.. وجدها تتمسك بذراعه وهي تبكي بحزن ظاهر، والألم بادٍ على وجهها.. فانشغل بها وبتهدئة بكائها متناسياً حزنه ودموعه.. ظل يخاطبها بكلمات كان يدرك أنها لا تفهم منها حرفاً، وتجيبه بكلمات لا يفقهها وإن كان يشعر بمعناها.. يشعر بحزنها لحزنه.. ويشعر بألمها لألمه.. غريب هذا.. كيف لفتاة صغيرة من عالم آخر أن تشعر بحزنه وألمه وتبكي لبكائه بينما لم يشعر أبواه بعطف عليه وهو يسترحمهما ألا يبيعانه؟.. لابد أنه يهذي..
بعد فترة بدأت الفتاة تهدأ بعد أن رأته قد كف عن البكاء، وسرعان ما ابتسمت له رغم الدموع التي سالت على خديها المتوردين.. واستمرت تسأله وتحدثه رغم أنها تدرك أنه لا يفهم ما تقوله.. لكنه لم يعبأ بذلك، يكفي أنها تحاول التواصل معه، وهذا نوعاً ما أشعره بشيء من السكون بعد أن كان مبلبل المشاعر لأيام طالت..

***********************

مرت عليه عدة أيام، كلما وجد الفتى فيهن الحزن يتسلل لنفسه ودموعه تتساقط رغماً عنه، وجد الفتاة تظهر له من حيث لا يدري.. وكأنه سحر ساحر يرسلها له ليخفف أحزانه.. أم أنها تشعر بحزنه رغم بعده عنها في تلك اللحظة؟.. غريب.. غريب جداً..
في تلك الأيام، سرعان ما يجدها تبكي معه بحزن ظاهر وكأن حزنه هو حزنها.. لقد علم أنها يتيمة الأم.. ألهذا تشعر بألمه لفراق عائلته وتتذكر أمها المتوفاة؟.. ربما كان كذلك.. لكن في كل مرة كان الفتى يكف عن البكاء فور حدوث ذلك ويحاول تهدئتها بالقليل من الكلمات التي تعلمهن.. يهُونُ حزنه مع مرأى دموعها، ويزداد ألمه لمرآها باكية.. فكان يمسح دموعها بيده وهو يغمغم بلغته "ما الذي جاء بك الآن؟.. وددتُ لو تركتني أبكي وحيداً لمرة واحدة..”
لكنه في قرارة نفسه كان يشعر بشيء من السكون كلما اقتربت منه.. يشعر أن مُصابَه لم يكن بذاك السوء، وأن الأمور قد تغدو أفضل في المستقبل..
بعدها، كلما رآها تقف قريباً وشفتاها ترتجفان وهي على وشك البكاء، كان يسرع لمسح دموعه ويبتسم لها شيئاً ما ليثبت لها أنه لا يبكي.. فيراها تجلس قريباً منه وقد زال حزنها بسرعة وبدأت تحدثه بلهفة عن بعض ما مرّ بها في يومها.. تحدثه عن رحلتها التي قامت بها للقلعة القريبة.. تحدثه عن سوق القلعة الذي زارته للمرة الأولى.. تحدثه عن المُهر الصغير الذي جاء به أحد الرجال هدية لأبيها.. وقلما كانت تصمت لأي أمر، بينما يكتفي الفتى بالاستماع إليها ومحاولة فهم كلماتها باهتمام شديد.. رغم رغبته الدائمة بالعودة للقوقاز، إلا أن اهتمامه بهذه البلاد قد بدأ يزداد شيئاً فشيئاً.. بدأ يشحذ سمعه لكل كلمة تقال محاولاً أن يعرف اللغة الغريبة عليه ليتمكن من الحديث مع الفتاة بسلاسة.. وكف عن التذمر والغضب كلما أمره شخص بأمر مهما كان قاسياً.. بدأ يدرك أنهم لا ينوون إعادته لموطنه.. ولم يبدُ هذا الأمر قاسياً كما كان يظن في السابق..

***********************

بعد أيام طويلة، وبعد مراقبته للوضع الذي هو فيه، ورؤيته لمعاملة الرجل المهيب الطيبة له رغم عصبية ذلك الرجل الأسمر وسوء معاملته، شعر الفتى بشيء من الألفة لهذا المكان.. تعرّف على امرأة تنضح ملامحها بطيبة ظاهرة، وهي كما علم مربية تلك الفتاة الصغيرة وتعتني بأمورها مع غياب أمها الحقيقية.. وقد أحسنت تلك المرأة معاملته، دون أن يعرف سبباً ظاهراً لهذا.. ووجدها في أوقات كثيرة تستدعيه بحجة مساعدتها في بعض أعمال القصر، لكنها تدفعه للجلوس في موقع بعيد عن الأنظار وتقدم له بعض الطعام والشراب الذي لم يذق مثل لذته من قبل.. في مرة قدمت له حلوى معجونة بماء ورد وعسل ومزدانة بفستق لذيذ، التهم ما في الإناء بسرعة للذة طعمها، بينما نظرت له المرأة بضحكة وهي تقول "حنانيك يا فتى.. يبدو أن الخَبيص قد راق لك.."
لم يفهم الكثير من قولها، لكنه ابتسم لها بدوره وشكرها بما عرفه من كلمات قليلة قبل أن يغادر القصر ركضاً وقد تحمس للعودة لعمله..
تعرّف أيضاً على صبي يقاربه في العمر أسمر اللون أكرت الشعر، ورغم قلة ما يدور بينهما من حديث، إلا أن المنافسة بينهما تشتد في أوقات كثيرة وكل منهما يتحدى الآخر في الانتهاء من عمله قبل الآخر.. ولما رأى الفتى رفيقه ذات مرة يتدرب على استخدام السيف وبدا بارعاً فيه، غالبته لهفة شديدة لتعلم الأمر ذاته ومنافسة رفيقه بل والتفوق عليه.. فنقل رغبته للرجل المهيب عندما رآه ذات مرة في الحدائق، فلم يسع الرجل إلا الابتسام برضىً ونادى الرجل العابس ليأمره بضمّ الفتى لبقية الفتية الذين يتدربون على القتال..
ويوماً بعد يوم، شعر الفتى بشيء من الألفة للمكان، وفتَنَته رؤية الرجال والفتية باختلاف أجناسهم وهم يصطفون لتأدية صلاتهم في جانب الحدائق.. وكثيراً ما كان الرجل المهيب يقف معهم يشاركهم الصلاة دون أن يبدي تأففاً لوضاعة ثيابهم أو للعرق الذي سال من جباههم من الأعمال التي تركوها لتأدية الصلاة جماعة.. بل الغريب أن الرجل المهيب لم يكن يتذمر من تركهم تلك الأعمال عدة مرات في اليوم لتأدية الصلاة ولم يطلب منهم تأجيل صلاتهم حتى نهاية النهار..
لذلك، لم يكن مفاجئاً بالنسبة له أن يفصح عن رغبته بدخول ذلك الدين الذي لا يفرق بين رجل غني وآخر فقير..
بين رجل مهيب وآخر وضيع..
بين رجل وصبي..
الكل في الصلاة سواء..
وربما كان هذا ما يبحث عنه في رحلة ضياعه هذه..
وعندما أبلغ الرجل المهيب بذلك، بدت ابتسامة سعيدة صادقة على شفتيه، وربت على رأسه بحنو بالغ وهو يغمغم "بارك الله فيك يا فتى.. ورزقك من الخير كله.."
لم يفهم معنى البركة، لكن ابتسامة الرجل انطبعت في ذهنه ورسمت البسمة على شفتيه وهو يشعر أن ضيق صدره منذ غادر موطنه قد زال، وأن صدره قد غدا باتساع هذه السهول المحيطة بهم..
ليلتها، بات الفتى هانئاً ربما للمرة الأولى منذ شهور عدة..

***********************

بعد يوم، فوجئ الفتى بالفتاة تندفع نحوه هاتفة واللهفة تبدو في عينيها.. توقف عن عمله وهو يراقب اندفاعها بصمت، فوجدها تجذبه من ذراعه وهي تصيح "أبي يريد رؤيتك.. تعال بسرعة..”
لم يكن استدعاء صاحب القصر له غريباً، لكن لم اللهفة لذلك؟.. لم يعلق وهو يتبعها تاركاً ما بيده جانباً دون أن يلتفت للرجل العابس والذي بدا التذمر عليه بوضوح.. فبوجود تلك الفتاة، من يملك الاعتراض على شيء؟..
تبعها نحو القصر بصمت كعادته، حتى وجد نفسه واقفاً أمام الرجل المهيب الذي نظر له بابتسامة خفيفة.. عندها أدرك الفتى حاله في تلك اللحظة، وغلبه الحرج لثيابه المغبرّة والعرق المحتشد على جبينه وشعره المعفر بالتراب، لكن لم يبدُ على الفتاة أي استياء وهي تمسك بيده المتربة حتى جاءت به إلى مجلس أبيها، ولم يبدُ على الرجل أي تأفف وهو يراه يطأ الفراش الثمين بقدمه التي علق الطين بها..
سمع الرجل يقول مبتسماً "أنا سعيد بكل ما سمعته عنك يا فتى.. فمنذ قدومك لا يصلني إلا كل خير عنك، ولا أسمع إلا المديح لتفانيك في أعمالك وعدم تذمرك كما يحدث مع البقية.. والآن، مع اعتناقك للإسلام، لا يمكنني أن أتذمر من أي شيء يخصك..”
لم يستوعب الفتى ما يقصده الرجل، لكنه حنى رأسه وهو يدمدم شاكراً، فسمع الرجل يضيف "بما أنك قد أصبحت مسلماً، عليك أن تحمل اسماً عربياً يناسبك.. ما رأيك؟ سأطلق عليك اسم سَلَمَة..”
نظر له الفتى بدهشة دون أن يعلق.. هل يستدعي إسلامه تغيير اسمه؟ ما به اسمه القديم؟ هل عليه نبذ الشيء الوحيد الذي بقي له من حياته السابقة؟.. هل عليه أن يصبح مثل العرب ويرتدي رداءهم ويتحدث بلغتهم ويتسمّى بأسمائهم حتى يكون مسلماً؟..
بقي واقفاً بصمت وهو بحيرة من أمره، عندما رأى الفتاة تلتفت إليه بابتسامة جميلة وهي تقول فرحة "ما رأيك؟ لقد أعجبني هذا الاسم كثيراً.. ألم يعجبك أنت أيضاً؟"
تاه قليلاً في ابتسامتها وفي نظراتها السعيدة، ثم وجد نفسه تلقائياً يقول بصوت خافت وبالقليل الذي عرفه من اللغة العربية "بل أعجبني كثيراً.. شكراً لك يا سيدي..”
قفزت الفتاة فرحة وقالت "مرحى.. غدا اسمك سلمة..”
وخرجت راكضة من المجلس وهي تصرخ "خديجة..”
تبعها ببصره وهو يودّ لو يغادر المجلس بدوره، فهذا الرجل يثير لديه هيبة لا يستطيع كسرها مهما حاول.. لكنه لم يجرؤ على التحرك دون إذن وهو يرى الرجل يرفع في يده صرة صغيرة وقال له "خذ هذا.. هذه هدية مني لك لإسلامك.. حافظ عليه من السرقة، وبارك الله لك فيه..”
تناول الفتى الصرة شاكراً، ثم غادر بعد أن أذن له الرجل بذلك.. وفور مغادرته للمجلس، فتح الصرة وتأمل الدراهم الفضية التي فيها.. أهي تساوي المبلغ الذي دفعه ذلك التاجر لأبيه لقاء بيعه؟.. ليته يعلم..
فوجئ برؤية الفتاة تعود له راكضة، قبل أن تقف أمامه بأنفاس متلاحقة وهي تقول "هذه هديتي لك.. أرجو أن تقبلها..”
رأى في يدها الصغيرة ديناراً ذهبياً يلمع.. فغلبه الارتباك وهو مدرك للفرق بين الدينار الذهبي والدرهم الفضي، فقال "لا يمكنني أخذ هذا.. هذا كثير..”
سمع صوت المرأة الطيبة القريبة وهي تقول "خذه.. فأنت تستحقه..”
نظر لابتسامة المرأة الواسعة، ثم نظر لعيني الفتاة التي حملت رجاء لم يستطع تخييبه، فتناول الدينار الذهبي شاكراً وأضافه للدراهم في الصرة.. فقالت الفتاة سعيدة "أصبح لك الكثير من المال.. ألست سعيداً؟"
هز الفتى رأسه إيجاباً بصمت.. ثم وجد المرأة تجذب الفتاة وهي تقول له "عد لعملك الآن ولا تتكاسل.. كيلا يندم مولاي على ما أهداك من دراهم..”
رأى الفتاة تلوح له بيدها وهي تصيح "أراك غداً يا سلمة..”
ظل يراقبها في ابتعادها.. ثم همس لنفسه "سلمة.. لا بأس بهذا الاسم أبداً.. على الأقل يبدو جميلاً عندما تناديني به حتماً..”
وخبأ الصرة في ملابسه وهو يغادر وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه..

***********************

بعد عدة أيام، وأثناء تنقله في الحدائق، رأى الفتى تلك الفتاة الصغيرة تقف فوق كومة من القش قريبة من السور المحيط بالحدائق.. فتمكنت بهذا من الاقتراب من حافة السور والتمسك به بيديها وهي تنظر لما خلف السور بصمت.. اقترب الفتى منها بسرعة وهتف "ما الذي تفعلينه؟ ستسقطين من الأعلى..”
نظرت له بابتسامة، وأشارت له بلهفة قائلة "تعال انظر إلى هذا..”
أسرع يصعد فوق كومة القش بحذر خشية أن يسبب ثقله في اختلال توازن الفتاة، ولما وصل قربها أشارت لما خلف السور قائلة "انظر.. أليس منظراً بديعاً؟.. بودي لو ذهبت إلى هناك..”
نظر الفتى إلى المساحات الواسعة المحيطة بالقصر والتي تخللتها الأشجار في كثير من مواضعها مع قرب نهر الفرات من ذلك الموقع.. لم يبدُ له المنظر أجمل مما يراه في القصر.. ولم يبدُ أجمل مما يذكره عن القوقاز.. لكنه لم يعترض وهو يراقب ملامح الفتاة عن قرب.. راقب النظرات اللامعة التي تبدت في عينيها، والابتسامة المندهشة التي تبدت على شفتيها وخداها يتوردان لشدة انفعالها.. وقالت له بصوت ملئ شغفاً ولهفة "بودي لو أرتحل بحرية كما يفعل أبي.. طلبت منه عدة مرات أن أصحبه في رحلات القوافل، لكنه يأبى ذلك في كل مرة..”
غمغم الفتى "وهل هذا مهم؟"
نظرت له هاتفة "بالطبع.. ألا ترغب بفعل ذلك أنت أيضاً؟"
رغم أن جلّ همه كان العودة لموطنه في السابق، إلا أن هذه الفكرة للدهشة قد بهتت ولم تعُد تراوده إلا قليلاً.. لكن لم يسعه إلا أن يوافق على قولها بهزة من رأسه.. فسمعها تقول برجاء "هل ستعاونني على ذلك في يوم من الأيام؟..”
ابتسم وهز رأسه من جديد.. وهل يسعه أن يرفض لها طلباً؟..
سمعا صوتاً حاداً من موقع قريب، فالتفتا ليريا الشاب الأسمر أكرت الشعر يقف قريباً مقطباً قائلاً "اهبطا من هذا الموقع.. أنتما تعيقان عملي..”
لم يعارض الفتى وهو يمسك الفتاة ويهبط معها بحذر حتى استقرا أرضاً.. ولما نظر للفتاة، لاحظ أن القش قد تخلل شعرها الجميل، فمد الفتى يده يزيل القش من خصلاتها وهو يغمغم "أنت بأسوأ حال..”
لكنها لم تعبأ بذلك وهي تسأله بعينان لامعتان "هل ستفي بوعدك حقاً؟"
أجاب الفتى مبتسماً "طبعاً.. ثقي بذلك..”
سمعا صياحاً حاداً من جانب القصر ينادي على الفتاة، فاستدارت الفتاة راكضة بسرعة نحو صاحبة النداء، بينما التفت الفتى الأسمر يسأل الفتى القريب رافعاً حاجبيه "بمَ وعدتها؟"
ابتسم الفتى متجاهلاً سؤال الفتى الأسمر القريب منه، والذي يراقبه بشيء من الإلحاح.. لكنه لم يلتفت إليه وهو يراقب الفتاة الصغيرة التي انطلقت راكضة نحو القصر وخصلات شعرها تتطاير خلفها بنعومة.. رآها تقف فجأة وتلتفت خلفها ناظرة إليه، فتشيع الابتسامة الجميلة على وجهها وهي تلوح له بيدها قبل أن تغيب في القصر خلف تلك المرأة الطيبة..
شيء غريب..
كلما رأى تلك الفتاة، فتَنَتـْه ابتسامتها الجميلة وعيناها الواسعتان..
لم يبتسم أحد بسعادة لرؤيته في هذه البلاد، ولم يُشعِره شيء بالألفة هنا إلا ابتسامتها التي تتلقاه بها كلما رأته.. لذلك، لا يمكنه أن يتخيل يوماً يمر عليه لا يراها فيه.. إذ سيغدو ذلك اليوم موحشاً بشكل لا يطاق..
غمغم الفتى بلغته التي لا يفهمها غيره "تلك الفتاة ستكون لي ولابد.. طال الزمن أم قصر.."
وابتعد متجاهلاً الشاب الأسمر الذي يسأله بإلحاح عن سر ابتسامته..
أجل.. تلك الفتاة له..
ولربما هذا الذي جعل قَدَرُه أن يغادر موطنه ويرتحل هذه المسافة ليستقر في هذا القصر المنعزل بالذات..
تلك الفتاة ستكون له..
فلا يظن نفسه بقادر على ألا يضيع في ثنايا عينيها السوداوين..
وألا يرى ابتسامتها الجميلة التي يخفق لها فؤاده كل يوم..
تلك الفتاة ستكون له بالتأكيد..
هذه هي الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن لأحد أن يجادله فيها..
وستثبت الأيام أنه يعرف ما يقول..

***********************

مملكة الغيوم 21-02-16 11:40 PM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله
الفصل عن سلمه وضح تعلقه بها منذ طفولته فجمان كانت بالنسبه له اليد الحانيه التى تربط على الامه وعوضت عليه فقد الاسره وكون ربيعه ايضا كان متسامح ولطيف معه جعله ياءلف العيش سريعا فى القصر وخديجه كانت كالام له ولجمان
سلمت يداكى عزيزتى ومبارك على الختام واتمنى لكى قصد جديده موفقه باذن الله
الى لقاء قريب فى شيئ من ابداعاتك دمتى بود ولكى منى كل الحب

bluemay 22-02-16 05:58 AM

رد: رحلة ضياع
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


سلمت يداك خيال ..


اﻵن عذرت سلمة لتعلقه الشديد بجمان .. فهي ببراءتها وطيبتها قد اسرته وجعلته يصمم على الفوز بها .

سلمة عزم وتوكل على الله وشاء الله ان تسير الرياح بما تشتهي سفنه فتحقق الحلم واصبح واقعا ملموسا.


متشوقة للرواية القادمة

اسأ ل لله لك التوفيق والنجاح


تقبلي مروري وخالص ودي



*تثبت الرواية *






.
.
.
★☆★☆★☆★☆
بعد نهاية النقاش او الحديث مع أحد
لاتنسوا دعاء كفارة المجلس:

سُبْحَانَكَ اللهم وَبِحَمْدِكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنت أَسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إِلَيْكَ

عالم خيال 22-02-16 10:44 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

سعيدة أن الرواية بفصلها الإضافي قد راقت لك يا غاليتي مملكة الغيوم..
عند كتابة الرواية لم أكن أخطط لكتابة هذا الفصل، لكن مع تطور أحداث الرواية
ومع استماتة سلمة للدفاع عن جمان رغم كل ما جرى
شعرت أنني يجب أن ألقي الضوء على سبب تعلقه بها
وعلى ما تمثله له
فمثل هذا الحب لا يكون وليد اللحظة
وجمان شكلت له واحة ظليلة في وقت قاسى فيه الشعور بالنبذ والغربة وفي عمر حساس جداً

أنا الآن أحاول الكتابة بشكل جدي، بعد أن تقاعست عن ذلك زمناً طويلاً :e404:
وروايتي الجديدة خيالية جداً
لذا سأتوقف عن نشر أي رواية أخرى في الوقت الحالي
شاكرة لك دعمك وتشجيعك لي في الروايات السابقة
دمت بخير ولك مني كل الود يا عزيزتي

عالم خيال 22-02-16 10:48 AM

رد: رحلة ضياع
 
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

سعيدة أن الفصل الإضافي قد أعجبك
بالفعل فرصة حصول سلمة على جمان كانت تتضاءل بشدة
وزواجه بها كان من سابع المستحيلات
لكن رغم كل الويلات التي مرا بها، فقد سارت الأمور لصالحه حتى صار هو الملجأ الوحيد الذي تلجأ له جمان
ونال هو ما تمناه لزمن طويل

أتمنى أن تنال الرواية القادمة إعجابك
وسوف أنشرها هنا تزامناً مع نشرها في مدونتي بإذن الله تعالى
وإن كنت لست متأكدة من موعد نشرها

شاكرة لك بحق دعمك المستمر لي سواء بالتعليق والتشجيع أو بتثبيت الرواية
أسأل الله لكم الصحة والسلامة حتى نلتقي بإذن الله

لك مني كل الود والحب يا غاليتي

برد المشاعر 20-03-16 02:08 PM

رد: رحلة ضياع
 
رواية رائعة وتجربة كانت جدا جدا مميزة خيال أخدتنا لعوالم الواقع مع لمسة خيال وكان سلمة حاله حال كين تعلق بحب مستحيل وحصل عليه في النهاية


كنت مستمتعة جدا بكل فصل قرأته وكنت متابعة معاك لكن ظروفي ماسمحتلي أعلق وحتى الفصل الأخير من ابنة السماء ما علقت عليه رغم روعته وكان كله تقصير مني بسبب ظروفي وقتها وماهو قصور في ابداعك ‏

أتمنى أن أرى لك مزيد اختي الغالية خيال وكانت فرصة سعيدة أن تعرفت عليك ‏

عالم خيال 21-03-16 06:15 PM

رد: رحلة ضياع
 
أنا الأسعد بتواجدك معي في رواياتي واستمتاعك بها
لقد افتقدت ردودك في ابنة السماء وفي هذه الرواية
لكني عذرتك لانشغالك، فلكل منا ما مشاغله
سعيدة أن هذه الرواية قد أعجبتك للنهاية
كين بالفعل يحمل لمحة من سلمة وحبه، لكن ربما كان سلمة أكثر اندفاعاً في هذا الحب
وربما لأن ججي لم تسمح لكين بذلك :aNF04909:
كانت هذه روايتي التاريخية الوحيدة
ولم أكرر التجربة بعدها لأن التجربة منهكة ومتعبة لي
لذا سعيدة أنها كانت ممتعة ومثمرة معكم
بإذن الله أتمنى أن تستمتعي بالقادم
دمت بود يا عزيزتي

fadi azar 21-05-16 01:03 AM

رد: رحلة ضياع
 
رواية رائعة جدا

عالم خيال 22-05-16 04:49 AM

رد: رحلة ضياع
 
شاكرة لك ردك على الرواية يا أخي
وسعيدة أنها أعجبتك

yasmin.foll 06-09-16 02:25 AM

رد: رحلة ضياع
 
رواية في غاية الروعة و التشويق
أبدعت حقا يا خيال
أتمنى لك المزيد و المزيد من التوفيق

عالم خيال 07-09-16 09:03 AM

رد: رحلة ضياع
 
سعيدة باستمتاعك بالرواية يا عزيزتي..
ألست من متابعي رواياتي سابقاً في منتدى روايات٢؟
أظنني أذكر اسمك سابقاً..
إن كنت كذلك، فأنا سعيدة بملاقاتك هنا أيضاً
وإن خاب ظني، فأنا مسرورة لكسب قارئة جديدة لرواياتي


الساعة الآن 03:39 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية