وحين خرج السيد يولام أعادت سمانتا قراءة الرسالة من جديد , محاولة أن تفهم المسؤولية الجديدة التي ألقيت على كاهلها , ألا أنها لم تستطع أن تفهم , وهي التي لم تعرف يوما معنى أن تملك نقودا تفيض عن حاجتها .... وتساءلت عما سيقوله باتريك , هل أدرك أنها لم ترد أن تكون وقحة معه , بل حاولت ببساطتها أن تفهم لغزه؟
وتمنت لو يبقى لتناول العشاء , لقد تأكدت أن باربرا ستدعوه للبقاء , ولعلها عندئذ تجد فرصة للتحدث اليه بمفردها , وتساءلت عن موعد رجوع باربرا الى لندن , هل ترغب في الأقامة هنا بضعة أيام؟ أما بالنسبة اليها هي , فقد قررت البقاء هنا مدة من الزمن , ليتسنى لها الأسترخاء , الأمر الذي لم يتوافر لها منذ وصولها الى لندن. ولما خرجت من المكتبة وجدت المكان شبه مهجور ألا من الكولونيل ونش فسألته بدهشة: " أين ذهب الجميع؟". أنتصب الكولونيل ونش واقفا , وكلمها بصوته الهادر: "الحقيقة يا عزيزتي أن جميع الخدم عادوا الى واجباتهم , أما أمك , فقد صعدت الى الطابق العلوي على ما أظن , في حين غادر السيد مالوري الى لندن منذ حوالي ربع ساعة , أما المحامي .... يولام... فقد ذهب معه". منتديات ليلاس أحست سمانتا أن الأرض مادت تحت قدميها , وردت بحماقة: " السيد مالوري ذهب؟". " أجل يا آنستي , والحقيقة أنه أنطلق بعد أن تحدث قليلا مع والدتك التي عجزت عن أقناعه بالبقاء". أطلقت سمانتا تنهيدة حارة: " يا ألهي!". وحانت ألتفاتة رقيقة من الكولونيل أتجاهها: " هل هناك شيء يضايقك ؟ أتوقع أن تكوني قد أرهقت نفسك اليوم". فصعدت الى غرفتها , ولم تدر ماذا ستفعل , فالمساء لم يقترب بعد , ولما لم تكن تعرف نوايا والدتها , عجزت عن التفكير بما تعمل , لماذا لم تغادر باربرا مع باتريك ؟ من المؤكد أنها كانت ترغب بمرافقته أذا كان يقصد المدينة. وأشعلت سيكارة ثم جلست في مقعد النافذة , لا بد أن تتصل بباتريك الليلة , ولكن , أن فعلت , ماذا تقول ؟ وشعرت بعجزها عن تبرئة نفسها أذ لم تر أو تحس بأنفعالاته المرتسمة على محياه , وربما كانت على خطأ أيضا , فمن المحتمل أن يكون قد غضب منها لسبب آخر. وسمعت طرقا خفيفا على الباب , ثم دخلت أيميلي , وأبتسمت للفتاة قائلة: " لماذا تجلسين هنا يا آنسة وتضيعين وقتك بالأكتئاب؟". تنهدت سمانتا : " آه يا أميلي , يخيل ألي أن كل شيء قد أنتهى". " لكنني واثقة من قدرتك على قهر الصعاب". " أنني أشاطرك الرأي , والأمر لا يتعدى كونه ضياعا وعدم دراية بما سأفعله , ماذا كنت تفعلين ؟ ها أنذا محاطة بممتلكاتي , ولست أعرف من أين أبدأ بتنظيم حياتي التي طالما نظّمها لي الآخرون من والدي الى جدتي , وأخشى ما أخشاه أن أعيش هذه الفترة من حياتي دون هدف". فأبتسمت لها أيميلي: " ستنقضي هذه الفترة , وهذا أمر طبيعي للغاية , فلا تحاولي أستعجال الأمور لأن أمامك متسعا كبيرا من الوقت , وأرغب أن أعلمك بأن هناك بعض الحديث داخل المطبخ عما تنوين فعله بالمنزل وبالخدم , وكما تعلمين, توقع الجميع أن ينتقل الميراث الى الآنسة باربرا في حال وفاة اللايدي دافنبورت , ولما كان الجميع يعرفون أنها لا تحب هذا المكان , فقد توقعوا أن يتلقوا أمرا بالأنصراف , أما الآن , فهم ليسوا واثقين.....". هتفت سمانتا فورا: " عليهم أن يبقوا طبعا , أرجو أن تطمئنيهم حول هذا الموضوع , ولا داعي لخوفهم لأنني لن أبيع دافن". خاطبتها أيميلي بأرتياح: " الحقيقة أنني سعدت عندما سمعتك تقولين ذلك يا آنستي , وأعلم أن هذا ما طمحت اليه جدتك , كانت على يقين من أنك ستحبينه كما أحبته". " آه , أنني أحبه , لكن هناك أشياء كثيرة ينبغي القيام بها , ولا شك أنني سأشغل نفسي لسنوات عديدة بالأمور التي أريد أن أعملها هنا". فعلقت أيميلي بمكر: " ولماذا تريدين أن تشغلي نفسك لسنوات عديدة؟ فمن المؤكد أنك ستتزوجين عما قريب وتنجبين أولادا , أو تحسبين أنني لا أعرف أن عمرك يزيد على ست عشرة سنة؟ ألم أكن أنا في دافن عندما أحضرك الى المكان وأنت طفلة؟". " هل كنت حقا هنا يا أيميلي؟". " أجل , وأذكر أن اللايدي دافنبورت أقامت ضجة عظيمة حولك , ولشد ما أنزعجت عندما حضر السيد جون وأخذك بعيدا". فتنهدت سامنتا بحرقة: " كان هذا منذ زمن بعيد". " أجل , ألا أنك أمرأة ناضجة الآن , وبأمكانك أن تفعلي ما تشائين". " هل هذا صحيح؟". |
أجبر الصوت البارد الساخط المنبعث من فتحة الباب المرأتين على الأستدارة , لتجدا باربرا واقفة هناك , كم مضى عليها وهي واقفة في الباب , كم سمعت من حديثهما؟ وقال لأيميلي:
"توقعت أن أراك هنا تملأين رأس الفتاة بأحلامك المجنونة , لقد قلت لك أنك عجوز حمقاء تتدخلين في كل شيء , ومن الواجب أن تخرجي من هذا البيت , وحالا , ولا شك أنك شجعت والدتي على أرتكاب حماقتها , وأستدرار عطفها على هذه الفتاة التي أجبرنا على أسترجاعها وتبنّيها , كنت أعرف أنك المسؤولة عن كل ما حدث لأنك تكرهينني....". تجمد وجه أيميلي غضبا وحزنا , ألا أنها تمكنت من القول بهدوء: " لم أكرهك يوما يا باربرا , ألا أنك كنت تغارين مني كما تغارين من أي شخص تفترضين أنه قد يخطف الأضواء المسلطة عليك , وأعرف أنك لم تريدي الأعتراف بأبنتك ,ولكن , لماذا؟ هل كان ذلك لأنك أم غير طبيعية , أم لأنك خشيت أن تكبر أبنتك وتصبح جذابة فتخطف الأبصار المشدودة اليك؟". " أصمتي!". " لن أصمت , فأنا قد صمت طويلا حتى الآن , ولو علمت والدتك , رحمها الله , ببعض ما فعلته , لأنزعجت وهي في قبرها". عندئذ عبرت باربرا الغرفة وصفعت أيميلي بوقاحة على وجهها , الأمر الذي أستدعى تدخل سمانتا , فصاحت: " أيميلي, أيميلي....". " لا تضطربي يا آنستي , فأنا ذاهبة , لكنني سأرجع وأراك ثانية عندما تقل مشاغلك وأهتماماتك , لا تستسلمي يا عزيزتي , فكل شيء سيكون على ما يرام". وأستحث سمانتا الخادمة بالخروج من غرفتها وقد خافت من أن تصفعها أمها ثانية , ثم عادت لمقابلة باربرا التي قالت: " حسنا! وماذا تظنين أنك ستفعلين الآن؟". هزت سامنتا كتفيها: " لست أدري بعد ,فأنني أحتاج بعض الوقت للتفكير ... لأستجماع أفكاري". " وتتوقعي أن تفعلي هذا هنا؟". " طبعا, فهذا قراري قبل كل شيء". " يبدو أنك أنت التي تصوغين كل القرارات , أليس كذلك؟". " لا أفهمك يا باربرا". عقبت باربرا بحقد واضح فيما جلست على المقعد الطويل: " لا أظنك تفعلين". فخاطبتها سمانتا وقد حاولت المحافظة على هدوئها : " هلا تفضلت بالخروج؟". "لماذا؟ أنك أبنتي قبل كل شيء". فأجابتها سمانتا بغضب: " أنني أبنتك بالأسم فقط". " حقا! أرى أننا نزداد حقدا". ولمست سمانتا شفتيها الجافتين بلسانها: " أرجوك , لا تسبّبي شجارا بيننا". " ولماذا لا؟ فأنا أرغب بهذا الشجار , وأعتقد أنني عشت شجارا طول هذه المدة". " لا أفهم قصدك". " باتريك مالوري , أنك تتصرفين وكأنك تجهلين كل شيء". أحمرت سمانتا خجلا وقد عجزت عن ضبط أنفعالاتها , فيما أطرقت باربرا مغتاظة: " أرأيت؟ لا أكاد أذكر أسمه حتى تحمرين خجلا , يا للسخرية! بحق السماء , قولي لي ماذا تظنين أنك تعنين له؟". فسألتها سمانتا بأضطراب: " أذا كنت لا تعتقدين أنني أعني له شيئا , فلماذا تقولين أنك عشت شجارا معه طوال الوقت؟". " سؤال حسن , الحقيقة يا عزيزتي , أيتها الأفعى المعششة في صدري , أنه عندما غادر صديقنا المشترك هذا المنزل, أعلن بوضوح أنه لا يريد الأبقاء على علاقة له بأية واحدة منا". صعقت سمانتا وصاحت: " ماذا؟". " أخبرني أنه يعرف عمرك الحقيقي , وقد أعلن أنه ينبغي جلدي لأنني خدعت الجميع , وأفسدت عليك سعادتك , والآن , ماذا تظنين أنه قصد بملاحظته هذه؟". كادت سمانتا تبكي: " لا يمكنني أن أفهم شيئا". " وكذلك أنا , لكنك قلت له شيئا أزعجه , وقد أخبرني أن شركة أميركية لأنتاج الأفلام عرضت عليه حقوق شراء نشر مسرحيته الأخيرة , وأنهم طلبوا اليه السفر الى كاليفورنيا فورا أذا كان راغبا في ذلك , وأكدت لي ملامحه عندما غادر المنزل أنه راغب في ذلك من كل قلبه , وعليه , أحسب أن كلا منا قد خسر شيئا , أليس كذلك؟". ذهلت سمانتا , وهتفت: " لا.... لا يمكنني أن أصدق هذا". " حقا؟ أذن صحت شكوكي , ولا يمكنني أن أفهم كيف يسمح رجل من مستوى باتريك نفسه أن يتورط معك ولو مؤقتا". أرتمت سمانتا على مقعد النافذة , ما قيمة خططها لنجديد وترميم دافن ؟ ألم تفكر أنها ستفعل ذلك ليس من أجلها هي فقط , بل من أجل باتريك أيضا؟ عندئذ أستأنفت باربرا حديثها متندرة: " حسبت أن ذلك سيخرجك من عالمك الوهمي , لكن , ليس هذا كل ما في الأمر". " وماذا يمكن أن يكون هناك أيضا؟". طرحت سمانتا هذا السؤال دون أن تكترث بنفسها , فمن المؤكد أن باربرا لن تستطيع أن تؤذيها أكثر من ذلك , أذا كانت علاقتها بباتريك قد أنتهت , لا يهمها شيء". |
"ماذا قالت لك والدتي في رسالتها التعليلية؟".
" هذا شأن خاص بي". " أراهن أنها لم تطلعك على السبب الحقيقي لأحضارك الى لندن". ردد ت سمانتا بأنشداه: " السبب الحقيقي لأحضاري الى لندن! عندما علمت جدتي بوفاة والدي , أسرعت الى وضع الترتيبات لحضوري الى أنكلترا". أبتسمت باربرا أبتسامة قاسية , ثم ضحكت بوقاحة: " الحقيقة أنني أنا فعلت ذلك , ولكن , يا لك من فتاة بريئة يا سمانتا العزيزة!". ووقفت باربرا ثم تقدمت من النافذة: " الحقيقة أن جدتك العزيزة أحضرتك اليها لأنه لم يكن أمامها أي خيار آخر". منتديات ليلاس تقلصت عضلات سمانتا , وصرخت: " كفي عن التحدث بالألغاز , ماذا تقصدين بقولك أنه لم يكن أمامها خيار آخر؟". أدارت باربرا ظهرها الى النافذة وقالت: " الحقيقة أن والدك وضع في وصيته شرطا يطلب فيه أعلامك بوجودي عند وفاته ,وبوجوب أحضارك الى أنكلترا على أن أعترف بأنك أبنتي". أحست سمانتا بالدوار : " ماذا تقولين؟". " أجل يا حبيبتي , لقد حسبت أنك لم تعرفي هذا السر". " ولكن , كيف كان يمكنه أن يفعل ذلك وهو لا يملك أي ضمانات بأنك ستقبلين؟". ألتفتت اليها باربرا موبخة: " ألم يكن عنده ضمانات ؟ الحقيقة أنه كان يملك أفضل ضمانة ممكنة في مثل ظروفي". فصاحت سمانتا وهي تكاد تنفجر باكية: " تابعي حديثك , ما هي الضمانة؟". " لقد كتب والدك رسالة يصف فيها ظروف زواجنا وطلاقنا , مشيرا الى التواريخ والأسماء وكل شيء آخر , ولا شك أنك منذ وصولك الى هنا أدركت الأهمية التي تعلق على الصحافة في أوساط المسرح هذه الفضيحة اللاأخلاقية ... كانت كفيلة بأختفائي وأنتهاء دوري , ولقد كان يعرف ذلك , وكانت الرسالة ستسلم الى الأشخاص الملائمين في حال رفضي الأعتراف بك". منتديات ليلاس أغمضت سمانتا عينيها يائسة , أذ لم يكن هناك أهين وأذل قدر ما أهينت وذلّت , ثم أستأنفت باربرا حديثها : " ولسوء حظك , نسي جون أمرا بسيطا هو سنك , فهو لم يذكر شيئا عنك , ولذلك أستفدت من الأمر وحمدت القدر على هذه الهبة البسيطة, والآن ما رأيك بجتك العزيزة؟". أحست سمانتا أن دموعها أوشكت أن تسيل على خديها , فهمست : " لن يتغيّر شعوري أبدا , وأنا لا أهتم بأقوالك لمعرفتي أن جدتي كانت تحبني". " لا تنسي أنها تصرفت بناء على تعليماتي , فلو رفضت البقاء في أنكلترا , لكانت القصة تنشر , لذلك كان من الواجب أن تبقي , وقد طلبت اليها أن تستعمل كل وسيلة ممكنة لمنعك من مغادرة البلاد , والواضح أنها أفلحت في مسعاها". عندئذ همست سمانتا بوهن: " أظن أنك أبغض شخص ألتقيته في حياتي , فأنت لا تشعرين بالرضى ألا عندما يخر الجميع أمامك ويقبلون قدميك , أليس كذلك؟ كيف أمكنك أن تخبريني بكل هذه التفاصيل؟ كيف أمكنك ذل ك؟". تجهم محيا باربرا: " لأنك لم تسببي لي الآ الأزعاج منذ ساعة وجودك". مسحت سمانتا دموعها وسألتها: " وماذا عنك؟". أبتسمت باربرا أبتسامة متكلفة: " أنا؟ لدي عملي ... ومنزلي في لندن وأصدقائي... وحتى باتريك سيعود من كاليفورنيا آخر الأمر , وهو سينسى كل شيء لأن الرجال غالبا ما يفعلون , وربما تزوجته وأصبح زوج أمك". رفعت سمانتا ناظريها الى والدتها: " وماذا لو قررت أن أنشر قصتي في الصحافة؟". هزت باربرا رأسها واثقة: " لن تفعلي يا عزيزتي , فالقسوة ليست من طبعك , ولذلك لن تنجحي". وغلبت سمانتا على أمرها , أنها لن تفضح باربرا , أما الأخيرة فأتجهت نحو الباب مستأنفة حديثها: "أظن أنني سأرتدي ملابسي وأعود الى المدينة لأنني فعلت كل ما جئت لأفعله". راقبتها سمانتا تغلق الباب قبل أن تطرح نفسها على السرير وتستسلم للبكاء , وصحيح أنها شعرت بالشقاء من قبل , ألا أن هذا كان الظلم والعذاب بعينه, فقد تحطمت كل آمالها وأحلامها , حتى أن حبها البريء لجدتها لوث بكلمات باربرا القذرة وأتهاماتها الشنيعة , ولم يعد هذا المنزل يعني لها السعادة لأنه محاولة أخرى لأبعادها عن طريق باربرا وأسكاتها الى الأبد. وجلست بعد برهة لتجفيف وجهها , لأن الدموع ميّرة الضعفاء ولن تكون سمانتا ضعيفة بعد الآن , لم يكن أمامها مجال لتعمل أي شيء الليلة , ولكن غدا.... غدا سترحل بعيدا... وأرتفعت معنوياتها بعد أن أتخذت هذا القرار , كان بحوزتها بعض المال أعطته أياها جدتها لأستعمالها الشخصي , وهو كاف لأيصالها الى أي مكان تقرر السفر اليه , وعندما تصل الى هدفها , ستجد عملا , وستنسى أنها عرفت والدتها وجدتها .... وحتى باتريك مالوري , ولكن, أين تذهب؟ لم تعرف ألا القليل عن أنكلترا , ولم يكن لها أصدقاء هنا , أما في أيطاليا , فبنيتو ينتظرها , ثم تذكرت ماتيلد , التي قالت أنها تستطيع الأتصال بها وقت الحاجة في منزل شقيقتها في رافنا , أنها تتكلم الأيطالية , مثل أهل البلد ,ولا شيء يحول بينها وبين العودة الى أيطاليا. |
8- البحث عن سمانتا
مرّ أسبوع كامل تقريبا قبل أن يندفع بارتريك بسيارته الأوستن مارتن عبر الطريق المؤدية الى مسكن دافن , ودهش لأنه لم يلمح تغييرا في المنزل , لأنه توقع أن تكون سمانتا قد بدأت بتنظيف الغرف وأزاحة الستائر وطرد شبح الكآبة , وعلى عكس توقعاته بدا المنزل موحشا , والدخان المتصاعد من المدخنة ينبعث من ناحية المطبخ فقط. لقد أتسع وقته كثيرا في الأيام القليلة الماضية للتفكير , وأنه يعرف الآن ماذا يريد , ولا بد أن يتحدث الى سمانتا في الموضوع أيّا تكن مشاعرها , لأنه عازم أن يعرف وللمرة الأخيرة موقعه في قلبها. وكثيرا ما قال في نفسه أنها صغيرة جدا بالنسبة اليه , لا من حيث سنها فحسب , وأنما من حيث وعيها وتجربتها , ألا أن مشاعره لم تكن جارفة في يوم من الأيام مثلما هي اليوم , ولم يغمض له جفن لشدة قلقه على سمانتا . وكان قد غادر دافن غاضبا بسبب محادثته مع سمانتا وأتهامها له في صدق دعوته من جهة , وبسبب الشجار الذي نشب بينه وبين باربرا من جهة أخرى , ولم يقصد أن يطلع باربرا على درايته بعمر سمانتا الحقيقي ألا أن السخط تملكه عندما شرعت باربرا بالتعبير عن غيظها من أعطاء التركة لسمانتا , ثم تبادلا بعض الكلمات القاسية قبل أن يغادر , لعلمه أنه لن يتمكن من رؤية سمانتا بمفردها أذا بقيت أمها هناك , وكم تمنى أن يزورها خلال الأسبوع المنقضي , لكنه كان دائما يؤجل قدومه بغية توفير الوقتلسمانتا حتى تتعافى من صدمة وفاة جدتها , أما اليوم فقد قرر أن لا مجال أمامه للأنتظار , وأنطلق بعد الفطور مباشرة. وعندما رأى المنزل شبه مهجور الآن , أنبأته حاسته السادسة أن الأمور ليست على ما يرام , وأحس بوخز نتيجة الشك والقلق. وترجل من السيارة , ووقف ويداه في جيبي معطفه رافعا نظره الى المنزل. ثم قرع الجرس فكان صدى رنينه حزينا في الداخل , ولم يطل أنتظاره حتى فتح له الباب خادم عجوز هاتفا: " آه ! سيد مالوري! هل لي أن أساعدك؟". عبس باتريك مجيبا : " أود أن أرى الآنسة سمانتا ". بانت الحيرة في عيني الرجل العجوز : " الآنسة سمانتا! أنها ليست هنا.....". أطبق باتريك راحتيه داخل جيبي معطفه , وصاح: " ماذا تعني أنها ليست هنا؟". " أعني ما قلته يا سيدي , فالآنسة سمانتا غادرت دافن في اليوم التالي للجنازة , وظننتك تعرف ذلك". وأعترى باتريك قلق وخوف شديدان : " كلا , وكيف يمكنني أن أعرف؟". هز الخادم كتفيه: " الحقيقة يا سيدي أن الآنسة سمانتا قالت أنها ذاهبة الى لندن , وعليه , ظننت أنها ستقيم عند والدتها , وبناء على معرفتك الوثيقة بالآنسة باربرا , توقعت أن تكون على دراية بالأمر....". وتأرجح باتريك في وقفته: " فهمت , ألم تسمعوا شيئا منذ غابت؟". " كلا يا سيدي , أرجو معذرتك , تفضل بالدخول يا سيدي". تردد باتريك قبل أن يقول: "كلا , لا أعتقد أنني سأدخل لأن لا شيء لي هنا الآن". وتملكه الذعر , فباربرا وسمانتا لا يمكن أن تتعايشا في مثل هذه الظروف , غير أن هذا الرجل المسكين لا يتسنى له معرفة ذلك , وأخيرا كلمه: " حسنا , أنني أشكرك". وأبتسم الخادم بينما هبط باتريك السلم متمهلا قبل أن يحتل مقعد القيادة في سيارته ويندفع بها الى الشارع , وتبللت أفكاره وأحتارت أمام هذا التحول الخطر في مجرى الأحداث , وشعر أن ثمة خطأ لماذا عادت سمانتا الى لندن؟ وأين هي الآن؟ وأجتاز القرية الصغيرة الوادعة التي يتألف مركزها التجاري من مخزن متصل بمكتب البريد , الى جانب فندق صغير أسمه ( كوينز هد) وكنيسة . ودخل باتريك الفندق طلبا للشراب قبل أن يكمل سيره الى لندن , ولم يطل أقامته في الفندق المليء بزبائن من أهل القرية , وعاد الى مقود سيارته منزعجا لعدم قدرته أن يفعل شيئا , أين يمكنه أن يجد سمانتا ؟هل يسعه أن يسأل باربرا عن مكانها ؟ صحيح أن الفكرة لم ترق له , ألا أنها كانت الفكرة الوحيدة التي خطرت له , ودخل منزله , فنادى على السيدة تشسترتون التي هرعت اليه من المطبخ وقد أرتسمت الدهشة على محياها وصاحت: " أرى أنك عدت يا سيدي! لقد توقعت أن تتأخر". فأجاب باتريك ببعض النكد: " وأنا أيضا , أخبريني , هل أتصل أحد بي أثناء غيابي؟". " كلا يا سيدي , هل توقعت أتصالا؟". هز باتريك كتفيه , وتنهد بينما رد على سؤالها: " كلا , في الحقيقة , حسنا , أشكرك يا سيدة تشسترتون". " هل تناولت شيئا يا سيدي؟". " كلا , ولكن , لا تضطربي لأنني لست جائعا". صاحت السيدة تشسترتون مستهجنة : " هراء , سوف أعد لك شطيرة وأحضرها الى مكتبك". " لكنني سأبقى في ردهة الأستقبال لأنني أريد أجراء مخابرة هاتفية". |
وأشعل سيكارة أخذ منها مجة طويلة قبل أن يرفع السماعة ويطلب شقة باربرا , وخيل اليه أن رنين جرس الهاتف لم يتوقف في الطرف الآخر من الخط ألا بعد أجيال , مع أن صوت كلايد سمع بعد لحظات في الواقع:
" شقة الآنسة هارييت , من يتكلم؟". سحل باتريك سيجارته بينما أجاب بأقتضاب: " مالوري , هل باربرا موجودة؟". وطرأ تغير ملحوظ على نبرة كلايد : " آه , السيد مالوري , الحقيقة أن الآنسة نهضت حالا من الفراش , وأظنها ستحدثك". فشكرها باتريك بعصبية , وما هي ألا لحظات حتى سمع صوت باربرا الناعم يردد بدفء: " كم أنت رائع يا حبيبي , هل نسيت جدالنا العابر ؟ آمل ذلك , أنني..... الحقيقة أن الذنب في ذلك كله ذنبي.....". رد باتريك عليها بجفاء وقسوة: " أشاطرك الرأي , باربرا , هل تقيم سمانتا معك؟". " سمانتا!". ولم يكن باتريك أن يتنبأ من لهجتها أن سؤالها قد صفعها , فقال: " لا بأس عليك , يمكني أن أؤكد من نبرة صوتك أنها ليست مقيمة معك". " ولكن , لماذا تقيم سمانتا معي؟ أن دافن ملكها الآن , ولا حاجة بها للأقامة في شقة قديمة مهترئة في المدينة". " صحيح , حسنا , أنني أشكرك يا باربرا". وسألته باربرا عندئذ بنبرة أقسى: " هل هذا هو سبب أتصالك؟". " أظن ذلك , وفي أي حال , أنني أشكرك وأعتذر لأزعاجك". " آه باتريك.......". لكن باتريك أقفل الخط في وجهها , وكان واضحا أن باربرا لا تعرف أين هي سمانتا , ونشأ وضع مقلق ومثير , أذا لم تكن سمانتا عند باربرا , فأين يمكن أن تكون؟ أنها لا تعرف شيئا عن سكان لندن , وأزعجته فكرة محاولة سمانتا العمل في هذه المدينة المزدحمة والمخيفة أحيانا, خصوصا وأنها فتاة بريئة لم تصقلها الحياة أو تجربها بعد , ولكن , لماذا قصدت لندن؟ ولماذا لم تبق في دافن ؟ وهل يمكن أن يكون قد حدث أمر لم يعلم به؟ وما هو؟ منتديات ليلاس أخذ يذرع الغرفة بأضطراب محاولا العثور على حل , وأحضرت السيدة تشسترتون بعض الدجاج البارد له , لكنه بالداد ذاق لقمة منه لتوتر أعصابه وأنهماكه في التفكير , وكان من المحتمل أن تعرف باربرا أكثر مما قالت , فمع كل البراءة التي تجلت في نبرة صوتها ,فأنها ليست شخصا يعول عليه , وأعاده هذا التفكير الى سبب فرار سمانتا , ولا شك أن باربرا بقيت في دافن بعد أنطلاقه والسيد يولام في رحلة العودة , فهل يمكن أن تكون قد أطلعت سمانتا على أمر جعلها تتردد ألف مرة قبل أن تقبل نصيبها من الميراث؟ ولشد ما أغتاظت باربرا عندما أوصت اللايدي دافنبورت بالتركة لسمانتا , وحين تغضب باربرا , فأنها لا تفكر من تؤذي وكيف. وأشعل سيكارة أخرى , ثم تطلع من النافذة بكآبة ,وبدا أنه لا يستطيع أن يفعل شيءا , ولم يجد أحدا سوى باربرا يتجه اليه بالسؤال. عندئذ تذكر أيميلي التي أجبها لقوتها ولكونها شخصا يعتمد عليه , وتراءى له أن أيميلي أحبت سمانتا . في حين لم تقتنع بباربرا التي عرفتها منذ أيام شبابها , ولم تخدع بما أحاطها من عظمة ووقار , ومن الجائز أن تعرف أيميلي شيئا عن تحركات سمانتا , لو أنه يستطيع الأتصال بها ... وصدم ثانية بحقيقة أنه لا يعرف كيف يعثر على أيميلي , تماما كما لا يعرف كيف يعثر على سمانتا , ولكن أيميلي قضت شطرا كبيرا من حياتها في دافن , ولا بد أن يكون أحد القرويين يعرف مكان أقامتها , هذا هو الحل... دافن ... وأيميلي. وعاد الى قرية دافن عند الساعة الثامنة من مساء اليوم نفسه , وتوقف أمام فندق الكوينز هد , فهذا هو المكان الوحيد في قرية صغيرة مثل هذه يجد فيه المعلومات الضرورية , ولا شك أن مسكن دافن وأيميلي التي تعمل فيه هما موضع أهتمام القرويين , فالناس يتمنون دائما أن يعرفوا عن أبناء الطبقات النبيلة الذين يعيشون حياة منعزلة عنهم , كانت قاعة الفندق مزدحمة لأن كثيرا من الزوار وفدوا الى القرية وزادوا من عدد روار البار , وسأل بائع المرطبات أذا كان يعرف أيميلي لوسون , فرمقه عامل البار بنظرة غريبة بينما سأله: " وماذا تريد من الآنسة لوسون؟ أنك من المدينة , أليس كذلك؟ هل أنت قريبها؟". هز باتريك كتفيه وأجابه: " لست قريبها , وأنما أريد التحدث اليها في أمر شخصي , فهل نعلم أين أجدها؟". " أعتادت الآنسة لوسون على زيارة السيدة بيل في منزلها الصغير , والأرجح أن السيدة بيل تعرف أين توجد". " أشكرك". |
الساعة الآن 07:45 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية