وبأعصاب مرتجفة كجذور منزوعة من أرضها غادرت غرفتها في طريقها الى عشاء عرس كئيب , ولمحها بول عندما ظهرت على قمة السلم , وألقت نحوه نظرة جانبية لتعرف هل ما زال حانقا عليها , وطمأنتها أبتسامته التي سخرت من مخاوفها , وصعد اليها , وشعرت بخفقة في قلبها وهو يقول لها: " تبدين كملاك في هذا الثوب .... وأشعر أنك ستتلاشين فجأة وراء سحابة , وتتركينني وحدي". ورمقته بفضول وهما يدخلان حجرة الطعام , ولأول مرة تساءلت أذا كان تزوجها رغبة في رفقتها وليس لجمالها فحسب . وفي بدلة السهرة , كان خلابا أكثر من أي وقت مضى , شعرت به عملاقا أغريقيا في قميصه الحريري وسترته السوداء ,ولم تكن هي ضئيلة لكن طوله الفارع جعلها تعاني ذلك الأحساس. وفجأة داهمها الشعور بأنه يقاسي الوحدة , أنه غني , ووسيم , وجذاب الى حد الروعة , لكن هذا الرجل كان وحيدا وغامضا , وهي أصبحت زوجته! ولم تكن دومني ذاقت طعاما طوال اليوم , وشعرت فجأة بالجوع ويانيس يضع أمامها طبقا من المحارات الشهية , وهمست: " يبدو لذيذا". ومنحت يانيس أبتسامتها الحلوة , أبتسامة لم تمنحها الى بول قط , الذي لم تتنبه الى أنه كان ينظر اليها وهو يفتح الزجاجة ,وفرقع غطاء الزجاجة , وفار السائل الذهبي , وأنسكب على جوانب الزجاجة , وغمس بول أصبعه ومسح بها خلف أذن دومني , وقال مازحا في شيء من السخرية وهو يملأ كأسها: " هذا يجلب لك الحظ يا دومني". وجلس أمامها , وملأ كأسه هو الآخر , ثم رفعها مرددا نخبا باليونانية , فسألته دومني دون أن ترفع رأسها عن الطعام: " هل يمكن أن أعرف معنى ما قلت؟". " قلت أن في كل كعكة زواج , الأمل هو أحلى ثمرة". وحينئذ رفعت بصرها , ولمحت ضوء الشموع يسكب ظلاله عل صدغيه وجبهته ذات الندبة , وسمعته يقول: " مما يدعو للأسف أن أحدنا لم يعرف الآخر بما فيه الكفاية , فلو كانت الفرصة أتيحت لنا للرقص والنزهة لساعدك ذلك على أن تكوني أقل خجلا معي , لكن لا حيلة لنا في الأمر , كانت لدي أعمال هامة هنا في انكلترا أستغرق معظم وقتي ,وهذه الأعمال هي التي أتت بي على غير ما توقعت". منتديات ليلاس وشعرت برجفة تسري في كيانها , لأن وصوله غير المتوقع الى أنكلترا , كان أول خيط في نسيج الورطة , التي تعيش الآن دوامتها , فلم يكن هناك وقت لدى دوغلاس ليغطي وعجزت هي عن أن ترى أبن عمها الضعيف الجذاب , محكوما عليه بالسجن لحماقته.... تمنت فقط أن يستوعب الدرس ... ولو على حسابها ! وأنتهيا من تناول الطعام , وأقبلت زوجة يانيس تقدم القهوة , كانت سمراء متحفظة , تجري في عروقها الدماء الرومانية , وقدمت لدومني هدية صغيرة , فرحت بها , حتى أنها نسيت برهة أنها ليست عروسا عن حب كما كانت لينا وزوجها يظنان وكانت الهدية عبارة عن سلة صغيرة من المعدن والزجاج مليئة بالتفاح المسكر وأبتسمت دومني قائلة: " أنها جميلة للغاية وغير عادية كم هو لطيف منكما!". |
ووقفت لينا لحظة تتأمل وجه دومني الجميل , ثم قالت: " لتكن السعادة دائما من نصيبك , وليباركك الله وليمنحك....". ونطقت كلمة باليونانية , وساد الغرفة صمت بعدما أنسحبت لينا وأغلقت خلفها الباب , وحينئذ لم تستطع دومني أن ترفع عينيها عن وجه بول , وتلاشى الأشراق من وجهها فجأة , وأمتلأت عيناها بنظرات القلق وهي تسأل هامسة عن معنى الكلمة اليونانية التي نطقت بها لينا.... ورد بول في هدوء قائلا: " تعني طفلا.... صبيا....". وتحركت الندبة فوق عينه عندما لمح الخوف في نظراتها , وأنحنت هي بسرعة فوق صينية القهوة , وملأت الفنجانين الصغيرين , بالقهوة التركية , وعندما ناولت بول فنجانه كان وجهها مقنعا بالجمود. وشربا عدة فناجين , ثم نهضت دومني ,وأخذت تتطلع بقلق الى محتويات الحجرة من لوحات فنية وقطع أثرية , وأخيرا وقفت أمام الستارة الكبيرة التي تغطي النافذة , وفجأة تخلى عنها الهدوء الذي ألتزمته أثناء تناول العشاء , وأخذ معه أهتمامها بجزيرة أندبلوس الذي تحدث عنها بول , بهرها بعض الشيء وصفه جمال الجزيرة , وكلامه عن بيته القائم فوق ربوة عالية مطلة على شاطىء خاص , كان السكان يسمونه (بيت صخرة النسر) . وفجأة قالت بصوت مختلج: " دعني أذهب يا بول , دعني أذهب لو كان عندك قلب , أنت تعرف أنني لا أحبك". وهنا تقطع أنفاسها , وأحتبس صوتها , وأمسكت الستارة بيدها كأنها تحتمي بها , وبينما كان بول ينهض من مقعده ويعبر الغرفة في أتجاهها , تأملته, رأت فيه قوة النمر وسيطرته أذ يمكنه أن يسحق كافة العقبات التي تعترض طريقه الى ما يريد. وسأل: " وماهو المفروض أن افعله أذا تركتك تذهبين؟ هل تتوقعين مني أن أحرق هذه الشيكات في مثل هذه الحالة , وأخرج خالي الوفاض , أو أكتفي بالرماد". " وما الذي يمكن أن يحققه لك زواجنا , لا شيء أيضا سوى ذرات رماد". وكان اليأس يطل من عينيها وهي تتكلم , وهو أمامها بوجهه الوسيم وكل قسمة تنطق بالقوة وبالعناد , وعادت تقول: " أذا أرغمتني على الحياة معك يا بول ... سأكرهك". وأطلق ضحكة ناعمة وقال: " الكراهية والحب متشابهان يا أسيرتي.... كلاهما عاطفة عمياء". " لا يوجد حب بيننا .... ولن يكون أبدا". وبرقت عيناها تؤكدان عن الحب المعنى , وتقدم منها قائلا: " آه.... ولكنك تتكلمين عن الحب الرومانسي". وأقترب وأمسك بوجهها بين يديه الدافئتين , وأخذ يبحث في أغوار عينيها وهو يقول: " يمكنك أن تجدي لدي أي حب ألا ذاك النوع الذي تقرأين عنه في الكتب". وأزداد خفقان قلبها وهو يتكلم , وفكرت في باري الذي أسعد قلبها وجعلها تتساءل عن الحب وأسراره... منتديات ليلاس وعاد بول يهمس: "هل أخبرك رجل من قبل أن لك عينين رائعتين , أشبه بالسماء الصافية؟". وأحنى رأسه وقال: " يجب أن تفهمي يا دومني أنني عندما أعقد صفقة أحرص كل الحرص على الوفاء بألتزاماتي , وأحرص أيضا على أن يقوم الجانب الآخر بألتزاماته". همست مصدومة: " ذلك في العمل , ولكن هذه حياتنا , سعادتنا , هل أنت متشائم الى حد يجعلك لا تؤمن بالسعادة , هل أنت جامد , حتى أن شيئا لا يؤذيك؟". |
" لا يمكن أن يؤذيني ما يظنه الآخرون عني , أنا يوناني , ولا يهمني ألا ما أعتقده أنا في نفسي , عقدنا صفقة يا دومني , هذا الصباح , أنت زوجتي ولن أدعك تذهبين". وأحست أنه يعني كل كلمة نطق بها , كان ذلك مسطورا على صفحة وجهه , الوجه الجميل , القاسي , تنبعث من عينيه أشعاعات تطاردها وتخيفها , وفجأة تخلصت من ذراعيه , وقفزت من الشرفة الكبيرة , وأسرعت بجنون في أتجاه الشاطىء. وتقاذفتها الرياح الباردة , وتعثرت فوق الرمال بحذائها ذي الكعب العالي , فوقها كان القمر مختفيا وراء السحب , يلقي عليها ضوءا باهتا من الظلال". وألقت نظرة مذعورة خلفها , كان بول يتبعها , وفي الضوء الخافت بدا وجهه شيطانيا ,وأنطلقت تجري بكل قواها , بيأس غريب دفعها الى الهرب منه , حتى أنها لم تتبين مدى قربها من البحر والصخور النائية عند طرف الشاطىء , وفجأة أرتفعت أمواج البحر , وأطلقت دومني صرخة عندما تعثرت وسقطت على صخرة , ثم شعرت بموجة هائلة تغطيها , وتسحبها, وأصابتها برودة الماء بصدمة بدأت تفقدها وعيها , لكن صوتا هادرا كان يتردد في أذنيها : " دومني... دومني". مصحوبا بكلمة يونانية ضاعت وسط هدير الأمواج. وقفز بول بعدما خلع حذاءه غير عابىء بالعاصفة وسبح بقوة في اتجاه الذراع النحيل الذي كان كل ما ظهر له من زوجته , وعلى ضوء البرق بدأ يلمح وجهها المذعور , وبعد لحظة , كان يضمها وسط الأمواج بينما تشبثت هي فيه بعنف كتشبث الأنسان بالحياة , وساعدها على رفع رأسها فوق الماء , وبدأت تتنبه , وتدرك من هو منقذها ... بول... زوجها , الذي تركت جسمها المذعور في حمايته. وحملها حتى الشاطىء , وصعد بها سلالم الفيللا , ودلف الى غرفة الجلوس من خلال الشرفة الكبيرة , وأرتجفت دومني بين ذراعيه , وسعلت قليلا , وعندما نظر اليها تساقطت المياه من شعره الداكن على وجهها , وفتحت عينيها الزرقاوين وتحركت شفتاها بلا صوت ترددان أسمه ..... وقال هو بمنتهى الرقة : " كل شيء على ما يرام يا طفلتي الحمقاء , أنت الآن في أمان". وأسرع الى الأريكة البيضاء بجوار المدفأة ,وضغط على الجرس مستدعيا يا نيس , الذي أقبل ليجد بول راكعا بجانب الأريكة , مقتربا من شفتي دومني المرتجفتين كأسا من الشراب , وحملق الخادم فيهما , وقال بول بلهجة جادة: " كنا نتنزه على الشاطىء , وسقطت زوجتي في الماء أخبر لينا أنني أريد زجاجات ماء ساخن في سرير زوجتي حالا , وأيضا أن تعد لها حماما ساخنا , وأحضر لي أزار الحمام السميك , بسرعة". وجرى يانيس الى المطبخ ,وباليونانية شرح للينا ما حدث , فبدت الدهشة في عينيها , وقالت: " هذا كارثة ليست علامة طيبة يا يانيس , يقال أن من يغني في الصباح يبكي قبل الصباح التالي". " ما الذي تتحدثين عنه أيتها المرأة ؟". منتديات ليلاس وحدق يانيس في زوجته بينما كانت تملأ الزجاجات بالماء الساخن , فقالت: "ألم تسمعه يغني قبل الأفطار هذا الصباح؟ عروسان يتنزهان على الشاطىء في ليلة عاصفة .... أليس ذلك غريبا؟". " تعتقدين أنهما تشاجرا؟". " أظن أنه من الأفضل أن تسرع بأحضار أزار الحمام , وألا ملأ البيت صياحا ". |
وبعدما أحضر يانيس الأزار لسيده , قال بول لدومني: " سأخلع ثيابك المبللة , لا تقاوميني وألا عرضت نفسك للأنهاك أكثر مما أنت عليه الآن". وكانت بالفعل منهكة جسمانيا وعقليا , وأرتجفت مثل قطة مبللة ,كانت نظراته ولمساته أبوية , وكان حانيا وهو يلفها في الروب , وعندما رفعها عن الأريكة , تركت ذراعها يلتف حول عنقه , وظلت على هذا الوضع وهو يصعد بها السلالم الى جناحهما الأبيض , حيث كانت لينا في أنتظارهما. فقال لها: " أعطها حماما ساخنا ثم ضعيها في سريرها , وناوليها كوبا من الحليب الساخن" وأومأت لينا برأسها, وقالت دومني وهي تقاوم ضعفها : " تصبح على خير يا بول , أنا آسفة على خروجي وسط العاصفة". " أنا أيضا آسف , في أية حال , أنسي ما حدث , وحاولي النوم , سأراك في الصباح". وأنصرف الى غرفته مغلقا الباب خلفه جيدا , وبعد لحظات لحق به يانيس وقال: " أعددت لك حماما ساخنا يا سيدي". وفي شرود سأل بول: "ماذا قلت يانيس". " أنت مبتل تماما يا سيدي , الحمام جاهز". وأبتسم بول وربت على ذراع خادمه شاكرا. وأستسلمت دومني للنوم بمجرد أن أنتهت من شرب الحليب , كان نوما ثقيلا في البداية , بلا أحلام , ثم فجأة , حلمت أنها تجري على الشاطىء البارد, تسمع هدير الموج , وتحس بكعبها العالي يغوص في الرمال , وكان القصر يطل عليها من خلال السحب , وشيئا ما كان يتعقبها , وأستدارت وألقت نظرة سريعة , فرأت قطا ضخما يطاردها تتسع عيناه بريقا ذهبيا مخيفا , كانت متأكدة أن الحيوان أذا أمسك بها , فسيمزقها أربا. وأخذ يتقدم ويتقدم , وعندما أوشك أن يمسك بها , صرخت: " دومني , طفلتي , ماذا حدث؟". وأفاقت على الصوت , وتلاشى الكابوس , ووجدت النور مضاء , وبول منحنيا فوقها , ممسكا بكتفيها بيدين دافئتين ثابتتين , وعاد يقول بخبث وقلق معا: " هل من عادتك أن تصرخي في نومك؟". " هل.... هل صرخت حقا؟". منتديات ليلاس وتأملته على الضوء الخافت خصلات شعره الداكن متهدلة فوق جبينه , والبيجاما السوداء الحريرية مفتوحة , يظهر منها صدره العريض الكثيف الشعر . وسألت: " كم الساعة ؟ هل أقترب الصباح؟". " جاوزت الساعة منتصف الليل بقليل". ثم أفتر ثغره عن أبتسامة كشفت أسنانه البيضاء , وهو يقول مازحا: " أرجو فقط ألا يكون يانيس وزوجته سمعا صرختك". وهزت كلماته قلبها , ورغم ذلك وجدت نفسها تبتسم وتقول هامسة: "أعتقد أنه كابوس ؟ يا للغرابة , لم يحدث لي ذلك منذ كنت طفلة". ونظر اليها بول , ثم جلس على حافة سريرها ,وسألها : " هل كان كابوسا يتعلق بي؟ ولكنني يا دومني لن أسيء اليك أبدا , ألا تعرفين ذلك؟". وأمسك بيدها ورفعها الى قلبه , وضغطها , وعلى الضوء الباهت تأملت دومني وجهه , ومن جديد لمحت معاناة الوحدة على ملامحه فظلت راقدة بلا حراك وهي ترنو اليه بعينيها الزرقاوين الواسعتين , كانت ترى غريبا ليس سوى زوجها وفي اليد التي ضمها الى قلبه الغريب , الأجنبي , المعقد , لمحت الخاتم الذهب الذي يؤكد حقوقه عليها. .........نهاية الفصل الثاني......... |
جميله جدا جدا بس بليز متتاخريش علينااروج
وتسلمى يا عسل على المجهود وحسن الاختيار |
الساعة الآن 12:51 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية