منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات احلام المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f457/)
-   -   285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t117275.html)

safsaf313 21-08-09 09:38 AM

285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 

الملخص







ـ أنا أعمل عندك

ـ وإن يكن؟ أنت غير مرتبطة وأنا أيضا. هذا هو الشيء الوحيد المهم

لم يكن لوكاس رب عمل عادي بل رجلا جذابا، يستحيل مقاومته، لا سيما حين أعلن لكيم بوضوح أنه يريدها في حياته إلى الأبد.

لكن هل ستتمكن كيم من تجاوز تجربة زواجها الفاشل؟ وهل ستنسى المأساة الحقيقية التي عاشتها وما زالت تحمل آثارها حتى اليوم؟ وهل سيصبر لوكاس حتى تتخذ قرارها؟ منتديات ليلاس

safsaf313 21-08-09 09:41 AM

1ـ في شباك المال




ـ كيم، لا أظن أبدا أن خطواتك هذه صائبة، صدقيني. يكفي ما لديك من مشاغل وأنت تعرفين ذلك.

أجابت كيم بتبات:" ليس لدي خير آخر، يا ماغي"

حدقت ماغي كونوواي في صديقتها بعجز:" ولكن.."

ولم تجد ما تقول.
منتديات ليلاس
ـ اسمعي، أرجوك أحضري ميلودي بعد المدرسة. لا أظنني سأتأخر كثيرا عن الخامسة مساء، لكنك تعرفين كيف تكون المقابلات المتعلقة بالعمل. فقد يؤخرونني فترة.

قالت ماغي بكدر:" لا بأس"

عانقتها كيم وقالت بحرارة:" شكرا، لا أدري ماذا كنت سأفعل من دونك"

بقيت كيم تفكر في جملتها الأخيرة وهي تخرج من شقة ماغي الفسيحة المريحة إلى الهواء القارص. لم يكن مظهر ماغي يشبه الملائكة بشيء، فهي بدينة بقدر ما هي طويلة، ذات شعر أشعث جعد أحمر اللون، والنمش يغطي كل إنش من جلدها، لكنها رغم ذلك كانت ملاكا. هذا ما حدثت به كيم نفسها بصمت وهي تسير إلى موقف الباصات. أما كيف كانت ستتمكن من اجتياز السنتين الماضيتين العاصفتين من دون مساعدة ماغي وروحها المرحة، فهذا ما لم تكن تعرفه.

وصلت إلى موقف الباصات مع توقف الباص. وعندما جلست، أخذت تنظر إلى خارج النافذة دون أن ترى شيئا، غفلة عن شاب وسيم المظهر يجلس أمامها ويبدو أنه لم يستطع تحويل عينيه عن جمالها الأشقر.

لقد دخلت ماغي حياتها كمربية أطفال من دون أجر غالبا. وهي صديقة وناصحة ومساعدة في أمور كثيرة. الشيء الحسن الوحيد الذي اكتسبته من علاقتها بغراهام، عدا ميلودي بالتأكيد، هو تعرفها إلى ماغي.

غراهام... وتوتر فم كيم الممتلئ الناعم وضاقت عيناها البنيتان للذكرى قبل أن ترغم أفكارها على التحول عن ذلك الشبح المفزع في ذهنها.

لم يكن هذا وقت التفكير في غراهام فأمامها مقابلة عمل هامة..لقد فهمت أن المنافسة لأجل وظيفة سكرتيرة رئيس مجلس الدارة والمدير التنفيذي في شركة " كين الكتريكال" الكهربائية ستكون عنيفة، وعليها أن تكون صافية الذهن، مركزة الأفكار منذ البداية.

أنزلها الباص بعد ربع ساعة في ضواحي كمبريدج خارج المبنى الضخم الذي تحتله شركة "كين الكتريكال"، وما هي إلا خمس دقائق حتى كانت واقفة في مكتب الاستقبال أمام الموظفة الجميلة ذات الشعر الرائع والقوام الرشيق، تشره لها أن لديها موعدا مع السيد لوكاس كين في الساعة الثانية والنصف.

ألقت الفتاة من عينيها المكحولتين نظرة شاملة على هذه المرأة الطويلة المحتشمة الواقفة أمامها، ثم قالت بلطف تهكمي وابتسامة متكلفة:" حسنا، يا سيدة ألن. تفضلي بالجلوس لحظة ريثما أخبر سكرتيرة السيد "كين" أنك هنا"

احمر وجه كيم قليلا تحت نظرات الموظفة المتفحصة:" شكرا".

كان معطفها الشتوي جيدا، لكنه ليس جديدا، وكذلك كان حال حذائها وحقيبة يدها. أما طقم الموظفة فكان من تفصيل مصمم شهير وكان شعرها مقصوصا في أحد أغلى صالونات كمبريدج.

لكنها لن تدع هذه الفتاة، أو أي شخص آخر يؤثر فيها سلبا، كانت تحدث نفسها بذلك وهي تغوص في الجلد الناعم الوثير. قد لا ترتدي ملابس حديثة الطراز، لكنها سكرتيرة ممتازة، كما تقول شهادات التوصية.

رفعت رأسها فجأة وأخذت تحدق أمامها، ويداها في حضنها وركبتاها بجانب بعضهما البعض باحتشام، عندما دخل بوقار، رجل طويل أسمر يحيط به ما يمكن تسميته بحاشية.

وجدت نفسها تحدق في ظهر هذه الشخصية بنفور ولم تعرف إن كان السبب هو عدم اللباقة في تقويم موظفة الاستقبال لها، أم لأنه بدا لها أن المحيطين بهذا الرجل يتهافتون للظفر بانتباهه.

فكرت بطيش في أنه يعرف جيدا كيف يؤثر في الموجودين عندما يدخل إلى أي مكان وهو إلى ذلك واثق من أهميته إلى درجة الغرور! لشد ما كانت تكره التزلف والنفاق والخنوع... هذه الصفات التي ترافق دوما الثراء والسلطة في بعض المناطق.

كانت الجماعة متجهة إلى المصاعد في الناحية البعيدة من مكتب الاستقبال بحماسة مكبوتة. أما الرجل القائد فبدا غائب الذهن عنها.

كانت عينا كيم مركزتين على ظهره، ووجهها يعبر عن مشاعرها بوضوح بالغ عندما التفت ونظر إليها مباشرة ما صدمها وأدهشها.

جذب انتباهها عينان زرقاوان فضيتان قويتان استوعبتا بنظرة سريعة شاملة كل ما فيها، قبل أن تتمكن من محو ما علا ملامحها من تعبير سلبي.عند ذلك رأت حاجبيه الأسودين يرتفعان بازدراء لاذع... وكانت الرسالة واضحة.

لقد أدرك ما كانت تفكر فيه، أدركه ونبذه، كما نبذها هي أيضا بإظهار ازدرائه الذي جعل وجهها يتضرج احمرارا. ولم تستطع أن تلومه، لم تستطع. فقد كانت فظة غير مهذبة وذلك بشكل لا يغتفر.

وقبل أن ينفتح باب المصعد بجزء من الثانية، أخذت أفكارها تتسارع، ولكن كان الوقت قد فات على أي تصرف عدا النظر إليه، إذ اختفى المصعد الذي انطلق به وانتهى كل شيء.

عادت تغوص في مقعدها ولكنها كانت متصلبة الجسم. كم كان ذلك محرجا! وأغمضت عينيها لحظة قصيرة وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم نظرت إلى موظفة الاستقبال التي كانت تتحدث في الهاتف. ما الذي ظنه بها يا ترى؟

راحت الآن تنظر إلى موظفة الاستقبال من دون أن تراها إذ استمر ذهنها في تحليل كل لحظة من هذه المسرحية الصغيرة التي حدثت بشكل غير متوقع. من تراه يكون؟ من الواضح أنه شخصية هامة...أتراه أحد مديري الشركة؟

خطرت لها فكرة فظيعة استبعدتها في الحال بحزم. لا، ليس هو... ليس لوكاس كين. فهذه كارثة لن ينقذها منها سوى الحظ، وإلا فقدت كل شيء.
ـ يا سيدة ألن.

تنبهت كيم من تأملاتها الكئيبة لترى امرأة طويلة تقف أمامها مادة يدها:"مساء الخير. أنا جين وست سكرتيرة السيد كين. هلا أتيت معي..."

نهضت كيم تصافح اليد الممدودة قائلة:" شكرا"

وعندما سارتا إلى المصعد، رنت كيم إلى المرأة بطرف عينها. كانت جين وست السكرتيرة التي على طالبات العمل أن يتمثلن بها. فإذا كانت هذه بنفس الكفاءة التي تبدو عليها، فسيكون النجاح صعبا. ولم يساعد هذا ثقة كيم بنفسها مثقال ذرة.

في المصعد قالت جين بابتسامة مهذبة:" السيد كين متأخر قليلا. لقد أصابنا الذعر مرات عدة هذا الصباح"

أومأت كيم تبادلها الابتسام: " هل هذا أمر عادي؟ أعني الذعر؟"

نظرت جين إليها بعنف:" نعم مع الأسف. على سكرتيرته أن تعتاد على ضغط العمل معظم الوقت، وأن تكون حازمة تعرف ما عليها أن تفعل. هل سيكون هذا مشكلة بالنسبة إليك؟"

أن تعتاد ضغط العمل وأن تعرف ما عليها أن تفعل؟ لقد كانت هذه حياتها في

السنوات الثلاث الأخيرة... بل قبل ذلك أيضا...

ـ لا، لا هذه ليست مشكلة

فقالت جين بابتسامة دافئة:" هذا حسن. لقد عملت مع السيد كين في السنوات العشر الأخيرة، فلم أشعر لحظة واحدة بالضجر. الأمور لم تكن سهلة دائما، والوظيفة ليست دائما من التاسعة حتى الخامسة، لكنه رئيس منصف جدا، هل فهمت قصدي؟"

لم تفهم، في الواقع، لكنها أومأت :" هل يمكنني أن أسألك لماذا تركت العمل؟"

ـ طبعا. وهو سؤل منطقي

كان باب المصعد قد نفتح، فتبعت كيم المرأة الطويلة في الممر، وهي تقول لها:" سأتزوج، وزوج المستقبل يعيش ويعمل في اسكتلندا. لديه عمله الخاص، وقد تعرفت إليه في شركة كين الكتريكال. في الواقع، إنه أحد عملائنا، ولهذا ليس من المعقول أن ينتقل إلى هنا"

قالت كيم من كل قلبها:" تهاني"

شكرتها جين، وعندما فتحت بابا وأشارت إلى كيم بالدخول قالت بهدوء:" كنت قد تخليت عن أمل لقاء أحلامي، ولكن من قال إن الحياة تبدأ في الأربعين كان صادقا"

إذن جين في الأربعين، وكان واضحا أنها امرأة كرست حياتها لعملها في شركة "كين لكتريكال"

ـ هذا هو مكتبي

كانتا واقفتين في غرفة فسيحة مزخرفة بشكل بديع تغطي أرضها سجدة سميكة ومؤثثة بآخر طراز من الأثاث المكتبي ومعداته. وأشارت جين إلى باب خلف مكتبها:" وخلف هذا غرفة استراحتي الخاصة. أما السيد كين فلديه جناحه الخاص المؤلف من مكتب وغرفة استراحة وملابس وغرفة جلوس صغيرة، ينام فيها أحيانا عندما يكون ضغط العمل بالغا"

ـ هذا حسن

أبقت كيم وجهها جامدا، بينما تاهت بها الأفكار. أفضل ما يمكنها أن تأمله هو أن تجتاز الدقائق العشرين من دون أن تبدو بمظهر الحمقاء. كان وضحا أنه يبحث عن سكرتيرة شخصية تأكل وتشرب وتنام وتتنفس العمل في شركة كين الكتريكال. ولكنها لا تستطيع أن تكرس نفسها إلى هذا الحد ولديها ميلودي.

لقد كتبت بوضوح تام في الطلب أن لديها طفلة في الرابعة. بهذا ذكرت نفسها وهي تخلع معطفها وتجلس ثم تنظر إلى المرأة التي دخلت إلى مكتب مخدومها.

عادت تنظر حولها في أنحاء هذه الغرفة المترفة، فدار رأسها. وتساءلت عما إذا كانت ستصل إلى هذا الحد، فالتفكير في الراتب الضخم الذي يستحقه هذا المركز، هو الذي دفعها إلى إرسال أوراقها بعد أن رأت الإعلان في آخر أيلول، منذ أربعة أسابيع.

بقيت ثلاثة أسابيع لا تسمع خبرا، ثم تلقت رسالة، تقول إن الاختيار وقع عليها مبدئيا وعليها أن تحضر إلى المقابلة يوم الاثنين في الثلاثين من تشرين الأول، في الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر، أي اليوم وفي هذه الدقيقة بالذات، فليساعدها الله. وفتحت جين الباب باسمة:" سيدة ألن؟ سيراك السيد كين الآن"

علمت حين دخلت من الباب، من شخصية الجالس وراء المكتب. أقرت بأن حدسها أنبأها بذلك منذ أن تلاقت عيناها بهاتين العينين الفضيتين الباردتين في البهو الأسفل. إنه يبدو حقا من ملوك المال... كان ذلك باديا في مشيته ومظهره ولفتته، وحتى في الطريقة التي اشتبكت فيها عيناه بعينيها بازدراء متغطرس وعدم اعتبار.

ـ السيدة ألن..

لدى اقترابها، نهض شخص طويل عريض الكتفين من خلف مكتب ضخم رمادي اللون. ولكن شمس الخريف التي كانت تتسرب من النافذة خلفه أعمت عيني كيم لحظة وحولت لوكاس كين إلى ما يشبه ظل أسود. وعندما وصلت إلى الكرسي الموضوع أمام المكتب، طرفت بعينيها ومن ثم بدا واضحا إلى حد مقلق بكل طوله البالغ مئة وتسعين سنتمترا.

ـ أهلا وسهلا

كان يبتسم وهو يصافحها، لكنها حتما ابتسامة التمساح. بدا واضحا أنه أدرك من تكون حين رآها في الأسفل، وكان ينتظر هذه اللحظة بشيء من الاستمتاع.

ـ تفضلي بالجلوس، سيدة ألن.

علمت أنها لن تستطيع أن تتكلم بوضوح إلا بعد لحظة أو اثنتين أي ريثما تتمالك نفسها، لأنها لم تشأ أن تتلعثم أو تضطرب فتجعله يشمت بها. وهكذا ابتسمت بهدوء، ثم غاصت برشاقة في المقعد الوثير. وأراح هذا، على الأقل، ساقيها المرتجفتين! في البهو لم يكن هناك وقت لتحدق إلى ما وراء هذه النظرات القاسية التي سمرتها مكانها، أما الآن، بالإضافة إلى الاضطراب والصدمة اللذين جعل قلبها يدق كمطرقة الحداد، رأت لوكاس كين جذابا وشكل مقلق. لم يكن وسيما، فوجهه الخشن الذي يبدو وكأنه قد من الصخر، وجسمه المهيب بعضلاته القوية، يظهران رجولة عدوانية خالية من الرحمة. ولكن كان فيه ما هو أبعد من مجرد الشكل الحسن.

ـ هل تدركين أنك واحدة من أربع مرشحات في القائمة النهائية؟

سألها بجمود دون أن ينظر إليها، وعيناه على أوراق على مكتبه.

كان شعره حالك السواد ومقصوصا بشكل جعله يبدو بالغ الخشونة والصرامة. ثم رفع رأسه، وأرغمتها عيناه الفضيتان المظللتان بأهداب سوداء على أن تجيب:" نعم. أعرف هذا، سيد كين"

ـ ما الذي برأيك جعلني أختارك من بين المرشحات الأخيرات الممتازات؟

كان سؤاله رقيقا متمهلا ولكن فيه نبرة أخبرتها بأنه لم ينس أو يصفح عن تلك الحادثة الصغيرة في مكتب الاستقبال. كان لديها الجواب عن هذا السؤال بالضبط وقد تدربت عليه أثناء دراستها إدارة الأعمال في الجامعة وردت على سؤال كهذا، في المقابلة لآخر وظيفة وذلك منذ سنتين. ولكن الآن، أمام وجه لوكاس كين المتفحص الساخر بقسوة، ثار في صدرها شيء حار ملؤه الهزء وأجابت ببرودة:" التفكير في ذلك وموازنته وأخذه في الاعتبار يعود ليك أنت، يا سيد كين"

ازدادت برودة العينين الفضيتين، إذ كان واضحا أن تهجتها لم تعجبه:" أحقا؟"

وكان جوابه ناعما متفحصا يخفي تحته حدة جعلته أشبه بفولاذ مغلف بالمخمل.

لقد توقع جوابا عاديا، كما أدركت من الدهشة القصيرة البادية في عينين الفضيتين. لكنها لم تكن تقوم بأي نوع من الألاعيب مع هذا الرجل. فإذا أراد أن يجري مقابلة عادية غير معقدة، فلا بأس، وإلا فلن تسمح للوكاس كين أو أي شخص آخر أن يرهبها. حدق فيها لحظة أو اثنتين، فأرغمت نفسها على ألا تخفض بصرها، عند ذلك نقر على زر الاتصال الداخلي.

ـ نعم، يا سيد كين؟

بدا صوت جين طبيعيا ما جعل كيم تريد أن تنهض وتهرع إلى المكتب الخارجي

ـ أحضري قهوة يا جين لي وللسيدة ألن

كانت كيم شبه متأكدة من أنه سيخبر جين أن المقابلة انتهت، أو سيطلب من جين أن تريها باب الخروج... لقد توقعت كل شيء إلا أن يطلب القهوة لها وله. تلهفت إلى أن تمر بيدها على شعرها، لكنها خافت أن يؤثر ذلك على ضفيرتها اللامعة الملفوفة على قمة رأسها، مدركة أن ذلك العقل الحاد سيميز توتر الأعصاب خلف هذه الحركة.

ـ أم لعلك تفضلين الشاي؟

وكانت عيناه المتألقتان قد عادتا تحدقان إليها

أجابت بحذر، وبصوت حيادي:" بل القهوة. شكرا"

ـ قهوة إذن، يا سيدة ألن..

كان صوته مميزا إلى حد بالغ.. بهذا أخذت تفكر وهي تراه يتخذ جلسة مريحة في مقعده الجلدي الفسيح متكئا قليلا إلى الخلف، ثم واضعا ساقا على ساق، مقوما إياها بعينين لا تطرفان. سألها برقة:" هل العمل هو محور حياتك؟"

كان هناك جواب واحد فقط يمكنها أن تعطيه لمثل هذا السؤال، ألا وهو الإيجاب.

ـ عملي في غاية الأهمية بالنسبة إلي يا سيد كين، نعم

وأضافت بينها وبين نفسها أنه ليس بالضرورة لأجل الأسباب التي يظنها هو.

قال مفكرا:" وأرى أن درجتك في الجامعة كانت الأولى، وهذا يعني أنك كنت مجتهدة للغاية"

لم تستطع أن تقرأ شيئا من لهجته أو من وجهه، لكنها لم تستطع أن تمحو الحذر من صوتها وهي تقول:" نعم أظن ذلك"

رأت الفم الحازم يلتوي قليلا، وكأنه كان يستمتع بنكتة قالها. لكن صوته بدا هادئا وهو يتابع:" إذا كنت تنوين أن تستغلي مؤهلاتك الممتازة في العمل فلماذا تزوجت فور تخرجك من الجامعة، ولماذا سارعت إلى إنجاب طفل بعد أشهر؟ هذا لا يبدو مفهوما، يا سيدة ألن"

يا للوقاحة! فكرت في نكتة ساخرة تجيبه بها، ثم تتجاهل سؤاله الذي اعتبرته تطفلا، ولهذا كان صوتها باردا وهي تجيب:" سواء أكان ذلك مفهوما أم لا، فهذا ما حدث، يا سيد كين، وهو شأني وحدي"

شعرت بالغثيان.. لا بأس، فقد واجهته بجواب جيد ومناسب، وهي لم تعد تريد وظيفته على أي حال!

توقعت جوابا جارحا.. شيئا يلسعها ويعيدها إلى مكانها، ولكنه استقام في جلسته وعاد يختم الأوراق وهو يقول بصوت عملي:" هل تعرفت إلى زوجك في الجامعة؟"

ـ نعم

كان جوابا مختصرا للغية، لكنه لم يرفع بصره.

ـ وأرى أنك أصبحت أرملة بعد أقل من ثلاث سنوات. لا بد أن ذلك كان صعبا عليك.

لم يكن لديها ما تقوله، فبقيت صامتة، لكنه لم يتوقع تعليقا، كما يبدو، لأنه تابع على الفور:" هذا يعني أن ابنتك كانت في الثانية من عمرها عندما أصبحتما أسرة دون رجل؟"

ـ نعم

ـ هذا صعب

لأول مرة كان صوته العميق الأبح أثر واضح من لحرارة فأثار ذلك أعصابها إنما لم تدر لماذا، وانتبهت فجأة لى عرض كتفيه وعضلاته البادية.

اضطربت أفكارها، وما لبث لوكاس كين أن رفع رأسه، وضاقت عيناه إزاء وجهها المضطرب وسألها بهدوء:" هل يزعجك أن نتحدث عن ذلك"

أومأت كيم.. فهذا آمن الخيارين إذ شعرت بالسرور لسوء فهمه سبب اضطرابها.

ـ أظنك تتفهمين اضطراري إلى السؤال عما إذا كان لديك ترتيب خاص لابنتك فيما لو اضطرك عملك للغياب عن بيتك عدة أيام؟ ظروف كهذه هي عادية في هذا المكتب.

ـ نعم لدي ذلك

وبدا شعور بالولاء في عينيها البنيتين الواسعتين أمام التفهم البادي في عينيه اللتين كانتا تتأملانها بدقة رغم عدم انتباهها لذلك. وقالت بسرعة:" بقيت ميلودي عامين كاملين في حضانة للأطفال قبل أن تبدأ بالذهاب إلى المدرسة في أيلول، وقد أحبتها كثيرا. والمدرسة تقدم ناديا للأطفال بعد انتهاء الدراسة اليومية فيبقى مفتوحا حتى الخامسة والنصف وذلك لمساعدة الأبوين العاملين. ولكن إذا لم أكن موجودة لأستلمها، فهناك صديقة طيبة تسكن قريبا مني ولا تعمل، فإذا اضطررت إلى رحلة عمل، فسيسر ماغي أن تأخذها عندها مهما طال غيابي.

ـ يا لها من صديقة حسنة!

كانت جملة هادئة لا تعبير فيها ولكن كيم شعرت بأنها تتضمن نقدا بلهجة ناعمة. ضاقت عيناها ونظرت بعنف إلى الوجه الرجولي الخشن أمامها، ثم قالت: " نعم، إنها كذلك، وأنا محظوظة جدا بصديقة مثل ماغي"

ـ أليس لديك أقارب يعيشون قربك؟

ـ لا. كان زوجي وحيدا لوالديه وهما الآن في الستينات من العمر. أبوه مريض الصحة لهذا نادرا ما يغادران اسكتلندا، حيث يعيشان.

ـ وأسرتك؟

لم تعرف ما شأن هذا بوظيفتها

ـ ليس لدي أقرباء

ـ لا أحد أبدا؟

بدا عليه عدم التصديق نوعا ما. ففكرت في أنها لا تلومه.

ـ تيتمت وأنا صغيرة، فعشت فترة مع عمة عجوز ما لبثت أن ماتت وتركت ميراثها لأفراد أسرتها فوضعوني في ملجأ للأيتام.

برقت عيناه الفضيتان لحظة، بينما تابعت تقول:" المفروض أن يكون لدي أقرباء في مكان ما، لكن لا رغبة عندي في اقتفاء أثر أي منهم. لقد كونت حيتي الخاصة بالشكل الذي أحب"

عاد يتكئ إلى الخلف وعيناه لا تبارحان وجهها:" فهمت"

ولكن ما الذي فهمه بالضبط، فهذا ما لم تكن واثقة منه.

ـ بعد موت زوجك، اشتغلت في شركة كيرتس وبراكلي، صح؟ ثم أفلست الشركة منذ أربعة أسابيع

كان قد عاد يقرأ أوراق الطلب، فشعرت براحة للخلاص من نظراته الشبيهة بأشعة الليزر فقالت:" وهذا ما دفعني إلى تقديم طلبي هذا عند رؤيتي الإعلان"

ـ السيد كيرتس، كما يبدو، يهتم بك كثيرا لأن شهادته فيك رائعة.

وهي تستحقها فلطالما عملت ساعات إضافية، وما أكثر ما استدعوها في العطلة الأسبوعية إلى المكتب. لم يكن بوب كيرتس يشعر بأي وخز ضمير وهو يستغلها إلى أقصى حد لكن الراتب كان جيدا والشركة قريبة جدا من حضانة ميلودي.

كان بوب كيرتس رقيقا لطيفا معها، ولم تجد في إدارة مكتبه الصغير أي إجهاد. وعندما أدركت أن لوكاس كين ينتظر جوابها، قالت:" كانت شركة عائلية لطيفة"

فجاءها الرد الجاف بينما اشتبكت عينا النسر في عينيها:" كين الكتريكال ليست شركة عائلية لطيفة. أتظنين نفسك قادرة على الانتقال من مرحلة إلى أخرى؟"

ما قاله لم يكن مزعجا بل طريقة التلفظ به، ما لمس فيها وترا حساسا، فأجابت بسرعة وإيجاز:" لم أكن لأضيع وقتك أو وقتي سدى في تقديم الطلب لأجل هذا العمل لو لم أكن قادرة عليه"

رأت حاجبيه الأسودين ينعقدان وفمه يتوتر. لكن جين اختارت تلك اللحظة بالذات لتدق الباب ثم تدخل بصينية القهوة فشعرت كيم بسرور لم تشعر بمثله في حياتها قط. كانت تعلم أنها متوهجة الوجه، وأن لهجتها ليست أبدا لهجة تستعملها موظفة نحو رئيسها العتيد، لكن لوكاس كين، السبب.. فهي لم تقابل قط مثل هذا الرجل الشامخ المتغطرس غير المبالي.

ـ هل لديك سيارة، سيدة ألن؟

ـ ماذا؟

كانت قد عادت لتجلس على الكرسي بعد أن تناولت فنجان قهوتها من جين ورفعته إلى شفتيها عندما فاجأها هذا السؤال فأجابت من دون وعي:" سيارة؟"

كانت لهجتها تنبئ عن صبر مبالغ فيه، والواقع أنها أخذت نفسا عميقا وأرغمت نفسها على عدم الرد بحدة. وبدلا من ذلك قالت بهدوء وبرودة:" لا، ليس لدي سيارة"، سيد كين"

ـ لكنني أراك اجتزت امتحانا بالقيادة. هل أنت سائقة موثوق بها؟

كانت عيناه الآن أشبه بنقطتين ضيقتين من الضوء الفضي:" ربما علي أن أسأل إذا كنت سائقة كفؤة؟"

ـ أنا كفؤة وموثوق بها معا. أدخلتني ماغي في بوصلة تأمينها، ولهذا يمكنني استعمال سيارتها متى شئت

ـ آه، ماغي ذات العون الدائم

لم تعجبها لهجته على الإطلاق، وفتحت فمها لتجيبه، ولكنه قال: " إذا قُدمت إليك هذه الوظيفة وقبلتها فستوضع سيارة تحت تصرفك. لا أحب أن تنتظر سكرتيرتي الباصات فتصل متأخرة"

حدقت فيه وهي لا تعرف ما عليها أن تقول. وفكرت بتعاسة أيقول لها هذا لكي تتعرف إلى ما ستخسره عندما يرفضها؟

ـ وسيكون لك بدل ملابس

تابع كلامه برقة وقد تأمل ملابسها لحظة وهذا ما ذكرها بأن طقمها ليس بجودة طقم جين. وتابع:" لدينا هنا في انكلترا مناسبات تحتاجين فيها إلى ارتداء ملابس سهرة، ولكن أثناء الرحلات إلى الخارج يجب أن يكون لديك مجموعة بديعة من الملابس"

إذا كانت وجنتاها قد احمرتا من قبل، فهي تعلم الآن أن وجهها كله أصبح كالشمندر. واعترفت بأنه نبهها إلى وضعها بلباقة كافية، لكن شراء الملابس هو آخر ما تفكر فيه منذ موت غراهام، والواقع أنها لا تتذكر أنها اشترت شيئا جديدا منذ ذلك الحين، والسبب بكل بساطة هو عدم قدرتها على دفع ثمنها...

ـ نعم، فهمت.

أرغمت نفسها على قول هذا من بين شفتين جافتين ثم ابتلعت جرعة من قهوتها الساخنة، وهي تفكر في أنه لا يعرف أبدا كيف يعيش الجزء الآخر من الشعب.

وظللت عينيها بأهدابها الكثيفة كيلا يرى الغضب فيهما، في السنتين الماضيتين كانت تستلقي في سريرها مفكرة في الحسابات والديون التي لا تنتهي.

كان زواجها كابوسا، لكن موت غراهام بعد حفلة صاخبة كشف عن ديون رهيبة. ولأنها كانت غبية في بداية زواجهما وقعت الأوراق من دون أن تطرح الكثير من الأسئلة؟ والراتب الذي كانت تعتقد أنه منتظم كالساعة، لم يكن له وجود.

ليس هذا فقط، بل استدان من أصدقاء ومن كل من يقبل أن يقرضه نقودا لتمويل عمل فاشل.

أدركت، عندما حملت بابنتها ميلودي، أن ثمة شيء فظيع. العاشق الوسيم الساحر المتألق العينين أيام الجامعة استحال إلى شخص لم تعد تعرفه، لكنها عزت ذلك إلى ضغط العمل، والحمل الذي لم يكن يريده.. فقد حملت بعد معاناتها من التهابات في معدتها جعلت حبوب منع الحمل عير فعالة.. وقتذاك عزت ذلك إلى كل شيء إلا إلى السبب الحقيقي، ولأنها كانت تحبه، كانت تجد له أعذارا.. ويا لها من حمقاء، حمقاء! وطوال هذا الوقت كانت الديون تتكوم، ديون تكافح الآن لكي تدفعها، شهرا بعد شهر.

وكانت ماغي رائعة فقد سامحتها يوم الجنازة بالمبلغ الذي استدانه غراهام منها، ولكن الكثيرين لم يكونوا بهذه الشهامة. كانت كيم ممزقة على الدوام، فهي تريد أن ترتدي ميلودي ملابس حسنة، وتتناول طعاما جيدا، وتعيش في بيئة سعيدة. وقد أخذت تكافح بمشقة لكي تحسن الغرفة الصغيرة التي استأجرتها منذ الجنازة، وكانت الديون تتناقص ببطء لا يصدق.

ـ هل أفهم أن بإمكانك، إذا حصلت على الوظيفة، أن تباشري العمل على الفور، يا سيدة ألن؟

كانت كيم من الاستغراق في مستنقعات الماضي بحيث بدا الارتباك في عينيها وهي ترفعهما لتقابلا عيني كين

ـ نعم... أنا.. آه، نعم

وهزت نفسها إذ عليها أن تتمالك ذاتها وتتصرف كسكرتيرة قديرة.

سألها برقة:" وهل ستقبلين الوظيفة إذا عرضت عليك؟"

حدقت إليه مرة أخرى ومعدتها تتقلص لأنها شعرت بأنه يعبث بها. وهي التي أصبح لديها من ذلك... التحايل، والخداع.. ما يكفيها الحياة بطولها.

ـ آه آسف، كان يجب أن أذكر الراتب قبل الآن

وبصوت بالغ الهدوء ذكر رقما يعادل ثلاثة أضعاف ما كانت تقبضه في شركة كيرتس وبراكلي.

نظرت إليه فاتحة فاها ذهولا، وشعرت بالسوء لذلك. لكن الذهول منعها من أن تفعل سوى ذلك.

فقال بابتسامة ساخرة:" أنا أحب إعطاء الأفضل لأحصل على الأفضل، سيدة ألن. ولكن إذا اشتغلت عندي فستستحقين كل فلس... فأنا أريد ولاءً كاملا، وإخلاصا لا نقاش فيه لشركتي. هل فهمت ما أعنيه؟"

كانت ملامحه ساخرة، لكن كيم لم تكن مهتمة بذلك فقد راح ذهنها يحسب بسرعة ما يعنيه هذا المبلغ لها، فضلا عن السيارة وبدل الملابس.. لكن الوظيفة لم تعرض عليها بعد. وعادت إلى الواقع مصدومة.

ـ أظن.. أظن أنه يحق لك أمام هذا السخاء أن تتوقع التزاما كاملا من سكرتيرتك، سيد كين

ـ أحقا؟ هذا حسن. وأخرا، تقاربت وجهتا نظرنا

كان صوته عميقا هادئا.. مضت لحظة لم تفهم فيها ما يعني بهذه الكلمات. ثم، عندما صدمها ذلك التلميح إلى أن وجهتي نظرهما لم تتقاربا إلا الآن، تورد وجهها.

جالت نظراته فوق وجهها المتورد، وشعرها المكوم فوق رأسها، مبرزا لون عينيها البني الغمق ثم وقف فجأة ودس يدين في جيبيه وهو يستدير لينظر إلى خارج النافذة الواسعة، ثم قال وصوت شارد:

ـ أنت لم تجيبيني عن سؤالي يا سيدة ألن.

ـ لم أجب؟

كان ذهنها يدور. وللحظة لم تستطع أن تستوعب ما يقول.

ـ لقد سألتك عما إذا كنت ستقبلين الوظيفة إذا عرضت عليك

حدقت إلى الجسم الكبير الواقف أمامها، وجزء منها يقر بأنه أحد أطول الرجال الذين قابلتهم في حياتها، وأكثرهم إثارة للاضطراب، ثم وجدت نفسها تقول:" نعم، سأقبلها، يا سيد كين، إذا عرضتموها علي"

جمد لحظة ثم استدار ببطء ينظر إليها وهي ما زالت جالسة.

يا لها من امرأة رائعة الجمال! خطرت له هذه الفكرة فوجدها مزعجة. رائعة الجمال إنما يحيطها حينا جو من الضعف والحذر، وطورا جو من الصلابة الفولاذية. وكان واثقا من أنها كتمت عنه أشياء كثيرة تحاول أن تخفيها. فما قالته جعله يشعر أنها لا تعتبر طفلتها سوى ملحق في حياتها، لكن هذا كان تقويما سطحيا، وهذا ما زاد في انزعاجه.

تبا لكل هذا، فهو لا يعرف شيئا عنها، وحياتها الخاصة لا تهمه. كل ما يهمه منها هو أن تؤدي عملها. ساورته هذه الفكرة فازدادت شفتاه توترا. أي شخص قد يظنه عرض عليها العمل بينما عليه في الواقع مقابلة امرأتين أخريين، إحداهما ستصبح على ما يبدو جين الثانية...

ـ شكرا لحضورك سيدة ألن. وسنتصل بك خلال يوم أو يومين.

كان هذا طردا واضحا فنهضت كيم على الفور، وإذا بها لا تدري ماذا تفعل بكوب قهوتها.

ـ اسمحي لي...

وعندما دار حول المكتب، تملكها التوتر إذ شعرت بنفسها وكأنها قزمة أمام طوله وعرضه. ولكنها لم تتعود هذا الشعور فهي طويلة، وهذا ما جعلها تشعر بالارتباك.

وعندما مد يده يأخذ منها الكوب، حاولت ألا تلامس أصابعها أصابعه. وكان من القرب منها بحيث شمت رائحة عطره الغالي لثمن، فكان تأثيرها في أعصابها الحساسة كافيا لكي تتراجع بسرعة فكادت تقع على الكرسي خلفها.

لو حدث هذا لكان عظيما جدا.. فهو كل ما تحتاجه. أما كان سيعجبه أكثر أن تقع على وجهها أمامه؟ وهكذا وقفت بثبات ورسمت على شفتيها ابتسامة متوترة وقالت بهدوء:" وداعا، سيد كين. سأنتظر اتصالكم"

لكنهما يعلمان بالضبط قراره وتملكتها المرارة وهي تفكر في ذلك بصمت.

ـ وداعا يا سيدة ألن

كانت كلماته لاذعة نوعا ما.. من الواضح أنه لاحظ تراجعها اللاإرادي عن موقفها السلبي فلم يعجبه ذلك.

وزاد شعورها بالبؤس والمذلة من احمرار وجهها.

بدت لها الخطوتان أو الثلاث التي تفصلها عن الباب كأميال، ولكنها أخيرا أصبحت في مكتب جين، وعندئذ تملكتها الحيرة لأن كل شيء هنا بدا طبيعيا. لقد عانت لتوها من أكثر التجارب التي عرفتها في حياتها إثارة للأعصاب بينما جين هنا تطبع على آلتها الكاتبة وكأن شيئا لم يحدث. ووجدت كيم نفسها تنظر إلى جين باحترام جديد وهي تودعها وتهرب إلى المصعد.

ما الذي جعلها تقول إنها ستأخذ الوظيفة إذا عرضوها عليها؟ عندما نزل بها المصعد، نظرت إلى صورتها في مرآة الجدار بذعر. حسنا، إنها تعرف السبب.. إنه المال القذر! وابتسمت بضعف فبادلتها الفتاة القاتمة العينين التي كانت تنظر إليها في المرآة، الابتسام.

وهذا لا يعني أن موافقتها كانت مهمة... فاحتمال تقديم لوكاس كين الوظيفة لها، كاحتمال رحلة إلى القمر.

لم تعرف كيف يستطيع أحد أن يعمل مع مثل هذا الرجل. إنه بارد جدا، وأكثر قسوة وسيطرة من أن يكون إنسانا. لكن المال يقهر. وأغمضت عينيها لحظة تفكر في ما سيحل ببقية ديون غراهام إذا كان لديها راتب كالذي ذكره لوكاس كين. بإمكانها عندئذ أن تنتقل مع ميلودي من هذه الغرفة الشبيهة بالكهف التي أرغمتا على تسميتها بيتا، وهناك أيضا سيارة كما قال.. وسيكون ركوبها ممتعا.

توقف بها المصعد ففتحت عينيها. كفاها أحلام يقظة! دخلت الردهة ثم سارت بعزم نحو الباب البعيد دون أن تنظر يمينا أو شمالا. هذا لن يحدث..

سوف تحصل قريبا على عمل آخر وفي النهاية ستتخلص من هذا العبء الرازح على كاهلها. كما أن لديها ميلودي. وفكرت في وجه ابنتها الصغير الحلو وشعرت بفيض من الحب يغمر كيانها، مبددا كل آلامها. نعم، لديها ميلودي، ومقارنتها بلوكاس كين وكل ملايينه جعلها تشعر بأنها أغنى امرأة في العالم.

***

safsaf313 21-08-09 09:44 AM

2ـ من أمن للرجال...





ـ كانت المقابلة كارثة مطلقة، إذن؟ لا بأس يا عزيزتي، تابعي نحو وظيفة أخرى.سأستعيد السيارة من الكاراج غدا، وبهذا يمكنك أن تستعمليها إذا شئت يوم الجمعة فلديك مقابلة أخرى، أليس كذلك؟

وكانت ماغي تحدثها متكلفة البشاشة.

أومأت كيم وأجابت ببشاشة مماثلة:" الوظيفة ستكون في مكتب المحاسب في زاوية الشارع الذي أقيم فيه، وبهذا لن أحتاج إلى سيارة. مكتب المحاسب سيكون أقرب من شركة كين الكتريكال."

ـ تماما.

ـ كما أنه مكان صغير.. إنه عبارة عن ثلاثة أو أربعة مكاتب، وبهذا يكون المكان أكثر إلفه من شركة كبيرة مثل شركة كين.

ـ حتما.

وضعت كيم فنجان القهوة من يدها فجأة، وأخذت تحدق في عيني صديقتها الزرقاوين:" أواه، يا ماغي كل تلك النقود، والسيارة.."

ـ لا تنسي أن لوكاس كين سيكون معها.

فقالت كيم بتعاسة:" كان بإمكاني أن أحتمله. إذا كان ذلك يعني الانتقال من غرفتي إلى بيت من أجل ميلودي، فيمكنني أن أحتمل أي شيء"

وضعت ماغي يدها على ذراع صديقتها بعطف:" أعلم هذا. ولكن كل شخص يراكما معا ولو لدقيقة واحدة، يدرك أن لدى ميلودي ما لا تستطيع شراءه أموال الأرض. هناك أطفال كثيرون لديهم حدائق وغرف مليئة بالألعاب، ومع ذلك طفولتهم تعيسة جدا لأن أبائهم لا يهتمون بهم مثقال ذرة"

ابتسمت كيم للوجه الأمومي:" شكرا يا ماغي. أنت لا تقدرين بثمن"

ـ قولي هذا في أذن "بيت" وبصوت عال.

ـ ظننتك ستتحدثين إليه في العطلة الأسبوعية؟ وتخبريه بشعورك؟

قالت كيم هذا بهدوء، متناسية متاعبها للحظة.

هزت ماغي كتفيها السمينتين بكآبة:" كنت سأتحدث، لكنه يشعر بوعكة صحية... لعلها الأنفلونزا.. وكنت أنا مشغولة على كل حال، ولهذا لم يكن الوقت مناسبا"

ـ المشكلة أنه لا يعلم كم هو محظوظ.

قالت كيم هذا بقوة، وهي تنهي آخر قهوتها بجرعة واحدة ثم تضع الفنجان على المنضدة.

ـ كنت أفكر بالشيء نفسه. إنه يعلم أنني هنا دوما في انتظار عودته. إنه يرى نفسه بطلا أو ما شابه، بينما أنا ماغي الطيبة الموثوق بها التي لا عمل لها سوى انتظاره.

قالت كيم ضاحكة:" قد توقظه صدمة قصيرة مفاجئة.. أنا واثقة من أنه يحبك يا ماغي"

ـ آه، ولكن كم يحبني؟ لا أستطيع الانتظار إلى الأبد، يا كيم.

ـ يجب أن أذهب إذ سرعان ما تخرج ميلودي من النادي. اتصلي بي فيما بعد إذا أحببت أن نتحدث.

حتى لو كان الحديث نواحا على "بيت"؟

ـ طبعا، وإلا ما نفع الصداقة؟

وجدت كيم نفسها تركض آخر مئة ياردة رغم عدم وجود حاجة تستدعي ذلك، فم زال أمامها بعض الوقت. إلا أنها تحرص دوما على أن تكون هي أو ماغي قبل الوقت لإحضار ميلودي.

كانت عينا ميلودي الكبيرتان البنيتان الكثيفتا الأهداب تبحثان عنها منذ اللحظة التي خرجت فيها الطفلة من المدرسة. وعندما أشرق الوجه الصغير، وأخذت اليد الصغيرة تلوّح لها بحماسة بالغة، شعرت كيم بغصة في حلقها بسبب الحب القوي البادي على الوجه الصغير.

اندفعت ميلودي قاطعة الملعب لترتمي بين ذراعي أمها المفتوحتين:" " أمي، إحزري ماذا؟ سأكون مريم في مسرحية عيد الميلاد وسأرتدي ثوبا أبيض وأضع في شعري شرائط ملونة. اختارتني السيدة جونز خصيصا"

ـ هذا رائع حبيبتي

ـ قالت إن بإمكانها أن تثق بأنني لن أكون غبية. كيري شامبرز كانت غبية جدا اليوم.

استمر الحديث طوال الدقائق العشر التي استغرقها سيرهما إلى البيت القائم في شارع كئيب.

كانتا تعانيان من الضجيج في مكان قامتهما ولكن أكثر ما يضايق كيم هو العفن والرطوبة والعتمة التي كانت معها دوما في حرب ضروس.

لم يكن الأمر بالغ السوء في الصيف، لكن السنتين اللتين أمضتاها في هذا البيت كانتا جحيما.

جعلت كيم بيتها جميلا مشرقا بأقل ما يمكن من النفقات، صانعة ستائر حمراء متألقة وغطاء سرير ملائم ووسائد للأريكة والسرير الذي تنام عليه مع ميلودي، وبسطت عدة بُسط فوق " الموكيت" الرث، ولكن لا شيء استطاع أن يخفي حال المبنى المزري.

عندما وصلتا إلى البيت، أخذت كيم تحضر وجبة العشاء، ولكنها وجدت نفسها تستعيد ذكرى كل دقيقة من تلك المواجهة مرة بعد مرة.

كان الأمر مهزلة.. وضاقت عيناها وأخذت تقطع الجزر بعنف.

فمنذ اللحظة التي التقت فيها عيناها بعيني لوكاس كين في البهو قرب مكتب الاستقبال، تضاءل حظها في النجاح. وفي اللحظة التي رأته فيها جالسا خلف ذلك المكتب، كان عليها أن تستدير على الفور وتعود أدراجها خارجة ورأسها مرفوع. لكنها بدلا من ذلك... وصرفت بأسنانها وهي تنهال على جزرة أخرى لتلاقي مصير سابقتها.

بدلا من ذلك، جلست تجيب عن أسئلته الشائكة وكأنها كانت تريد حقا وظيفته الغالية، وتركته يعبث بها.

لا... لا، لم تفعل ذلك، فقد جادلته لأنها أرادت حقا تلك الوظيفة. أو بالأحرى، ما سيوفره لها ولابنتها مركزها كسكرتيرة لرئيس مجلس إدارة شركة كين الكتريكال.

لكن ذلك ما كان ليحدث. وأضافت قطعتين من صدر الدجاج إلى الخضار ثم وضعت القدر في الفرن.

لكن بالرغم من الراتب الضخم إلا أنها لا تستطيع أن تتصور نفسها تعمل مع لوكاس كين.

كانت الساعة الثامنة من ذلك المساء، عندما رن الهاتف في الردهة في الطابق السفلي.. طرقت إحدى الطلبات باب كيم لتخبرها أن شخصا يدعى لوكاس كين يسأل عنها. عندما سمعت كيم ذلك وجدت نفسها متلهفة إلى الرد عليه.

ـ السيدة ألن تتحدث

لم تشأ أن يبدو صوتها لاهثا، لكنها رجت أن يعزو ذلك إلى نزولها من الطابق الأعلى حيث تسكن.

ـ هنا لوكاس كين، سيدة ألن

كان الصوت العميق الأبح المسيطر نفسه، واستطاعت أن تتصوره بعينيه الفضيتين الباردتين كالثلج وفمه المتوتر الصلب في الوجه الجذاب، جالسا خلف ذلك المكتب الضخم في مكتب خال.

وكان هو يقول متابعا:" أرجو ألا أكون قد قاطعتك... أليس لديك ضيوف؟"

ضيوف؟ عندما تكون هي وميلودي في غرفتهما الصغيرة لا يبقى هناك مجال لقطة حتى.

ـ لا، يا سيد كين. ليس عندي ضيوف

وكان صوته هذه المرة أحسن، فقد تمالكت نفسها. قال بصوت بارد موجز يشبه شخصيته:" هذا حسن، أنا أتصل بك لأعرض عليك الوظيفة يا سيدة ألن. هذا إذا لم تكوني قد غيرت رأيك، طبعا"

ـ أنا... أنت..

حدثت نفسها بصمت بأن تتمالك نفسها إذ من الواضح أنه يبحث عن سكرتيرة تستطيع أن تربط كلمتين مع بعضهما البعض:" هذا رائع، يا سيد كين"

ـ أنت تقبلي ذن؟

ـ نعم، نعم. لقد قبلت وشكرا جزيلا

أرغمت نفسها على عدم الثرثرة، وسحبت نفسا عميقا قبل أن تقول ببطء:" متى تريد مني أن أبدأ يا سيد كين؟"

ـ حسنا، هذه نقطة في صالحك، يا سيدة ألن. بإمكانك البدء على الفور لأن جين متلهفة للحاق بخطيبها لتشرف على ترتيبات الزفاف الذي سيكون في الربيع. وحتى لو... لو كنت سريعة التعلم، فلا بد أن يستغرق تعودك على العمل أسابيع عدة

والآن، أتراها أحست بنبرة تهكم في صوته، أم أن لديها عقدة الاضطهاد تجاه هذا الرجل؟

أخذت تتساءل عن ذلك قبل أن تسأله:" أتريد مني أن أبدأ غدا"

سألته هذا بهدوء لم تكن تشعر به، فأجاب:" كنت سأقترح يوم الاثنين، حتى أمنحك وقتا لاتخاذ ترتيبات بالنسبة لابنتك. ولكن إذا تمكنت من المجيء إلى المكتب غدا فسيكون هذا ممتازا. جين تصل عادة حوالي التاسعة، ولذا يمكنك المجيء في أي وقت بعد ذلك"

لم يكن في صوته أي أثر لإحساس أو مشاعر. ونقص الإنسانية هذا يشعرها بالارتباك. فبصفتها سكرتيرته الشخصية، فستعمل بالقرب من هذه الآلة الرهيبة. فهل بإمكانها احتمال ذلك؟ أخذت تتساءل بحدة قبل أن تعود وتنعت نفسها بالحماقة.

عليها ألا تضيع فرصة العمر وقالت بهدوء:" سأكون هناك، يا سيد كين"

ـ هذا حسن. سأطلب من هيئة الموظفين أن تكتب العقد، وترتب أمر سيارة تسلم إليك غدا وبهذا يمكنك العودة بها إلى البيت. أتحبين لونا معينا لها؟"

كادت تقول له (لون؟) لكنها كبحت نفسها وقد أخذت يداها ترتجفان بينما سيطر عليها مزيج من الحيرة والبهجة لسرعة تغير ظروفها. قالت ورأسها يدور:" لا أدري.. الأمر مفاجئ نوعا ما"

قال بصوت أشد برودة:" هل تفضل ابنتك لونا معينا؟"

أجابت بضعف:" الأزرق"

ـ الحمد لله أنها لا تفضل الوردي الصارخ، فقد تعترض شركة(البي.ام.دبليو). فليكن اللون الأزرق إذن. وسأطلب أن يثبتوا فيها مقعدا للطفلة، طبعا. تصبحين على خير، يا سيدة ألن.

فأجابت بسرعة ورأسها يدور:" تصبح على خير وشكرا لإعلامي بالأمر بهذه السرعة"

ـ بكل سرور

قال هذا برقة ونعومة. ورغم أن كيم حدثت نفسها بأن جوابه رسمي تماما، إلا أن شيئا ما في لهجته الناعمة أرسل في داخلها إحساسا. إنه رجل ساحر جذاب.

أتراها جنت؟ كيف تصف رجلا مثله بالساحر والجذاب. لوكاس كين هو رئيسها الجديد، وتلك الفكرة الأخيرة ليست ملائمة وهذا أقل ما يقال فيها، كما أن الآلات ليست ساحرة وجذابة، قد تكون قوية مسيطرة، ومخيفة أحيانا ولكنها لن تكون أبدا جذابة وساحرة.

بقيت واقفة لحظة ثم، عندما خف اضطرابها قليلا، واستوعبت تماما ماذا تعنيه هذه الوظيفة الجديدة لها، أخذت تصعد السلم درجتين في كل مرة، ثم اندفعت إلى داخل الغرفة، فأيقظت ميلودي من نومها العميق، وأخذت ترقص معها في أنحاء الغرفة محتضنة جسد ابنتها النحيل بين ذراعيها.
منتديات ليلاس
طلع الصباح متألقا. استيقظت كيم على عالم بلوري مشرق، ونظرت إلى الخارج حيث السطوح البيضاء المتلألئة وقلبها يغني.

إنها بداية جديدة لامعة، حتى الجو أثبت ذلك، وهي ستبدأ البحث عن مكان جديد للسكن. ربما شقة صغيرة مع حديقة، أو منزل صغير، فهي ستجني ثروة صغيرة، وسيصبح بإمكانها تسديد بقية الديون، وبعدئذ تعود حياتها ملكا لها مرة أخرى. آه، ما أجمل الحياة!

بعد أن نامت ميلودي مرة أخرى، اتصلت بماغي تزف إليها البشرى.

وصلت كيم أمام المبنى الضخم فيما كانت جين وست توقف سيارتها في المكان المحجوز لسكرتيرة المدير التنفيذي. فسارت المرأتان إلى مكتب الاستقبال معا.

ـ متوترة؟

كانت جين تبتسم بعطف وحرارة وهي تقول ذلك، فبادلتها كيم الابتسام بضعف:" قليلا، بل كثيرا في الحقيقة. وظيفتي السابقة لا تقارن بهذه الوظيفة البالغة النفوذ"

ـ لا تقلقي، ستكونين بأحسن حال

راحت جين تنظر إليها عن قرب، وعندما دخلتا المصعد وانغلق الباب عليهما، قالت بصوت خافت:" المفروض ألا أخبرك بهذا في الحقيقة، ولكن كان هناك عشرات النساء اللاتي سعين وراء هذه الوظيفة.. وكان لدى بعضهن مؤهلات أفضل مما لديك، لكن لوكاس اختارك أنت، وهذا يعني أنك الأفضل لهذه الوظيفة.

أدركت كيم أن جين أرادت بكلامها هذا أن ترفع معنوياتها ولكن كان لهذا تأثير معاكس. وكل ما استطاعت أن تقوله، عندما وقف المصعد وخرجتا منه هو:" أنت لا تسمينه لوكاس؟ في حضوره"

قالت جين ضاحكة:" بل أناديه لوكاس. ستجدينه مختلفا جدا عن صورته بين الناس، حين تعرفينه، وهو إلى ذلك يكره الرسميات حين يكون بمفرده. ولكن، طبعا، أمام زملائه وعملائه في العمل، يُدعى دوما السيد كين والآنسة ويست، وفي حالتك السيدة ألن"

ـ هذا حسن!

ـ صدقيني إنه رئيس جيد، وإلا لما بقيت معه عشر سنوات

سألتها كيم متوترة:" كم.. كم عمره؟"

ـ إنه في السابعة والثلاثين. وقد استلم العمل حين كان في الخمسة والعشرين بعد أن مرض أبوه. استلم لوكاس العمل بعد أن أمضى في الشركة أربع سنوات منذ ترك الجامعة. ولكن حين استلم المسؤولية، كان من الكفاءة، بحيث قرر أبوه أن يتقاعد ويسلمه الشركة نهائيا، ومنذ ذلك الحين بدأ العمل يزدهر أكثر فأكثر.

فتحت جين باب مكتبها، وخفضت صوتها وهي تنظر إلى الباب الموصل بين المكتبين، ثم أضافت:

ـ التراب يستحيل بين يديه إلى ذهب، ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أن لديه ذهنا عمليا حادا. كما أن منافسيه لا يرون الساعات الطويلة التي يمضيها في العمل. إنه يستحق كل نجاح وصل إليه. لم أعرف شخصا مجدا في العمل مثله.

ـ تعجبني حفلات التكريم والأوسمة، يا جين، ولكن عندما تنتهي هذه النغمة، ألفت النظر إلى أن منظفي المكتب قد ضغطوا خطأ على زر الاتصال الداخلي.

كان الصوت جافا للغاية. ولكن عندما نظرت كيم إلى جين، لم تر أثرا للخجل أو الارتباك عليها، وهي تقول:" خلاصك كان معجزة، يا لوكاس. دقيقة أخرى وكانت أذناك ستبدآن بالاحتراق لتنصتك على الآخرين"

ـ تعلمين جيدا أن أذني لا يمكن أن تحترقا يا جين، هل أفهم من كلامك أن السيدة ألن معك؟

ـ نعم إنها هنا

ـ إذن أحب أن أتبادل معها كلمة، قبل أن تبدئي بملء ذهنها بمائة مسألة ومسألة. أحضري أيضا كوبا من القهوة السوداء عندما تصبحين جاهزة لذلك.

ـ سآتي حالا

وابتسمت جين لكيم بمرح وهي تشير إليها بأن تذهب إلى مكتب كين. ووجدت كيم نفسها تفكر مجددا في أنها لا يمكن أن تماثل جين في استرسالها على سجيتها مع لوكاس كين المنيع.

خلعت معطفها بسرعة، وسوت شعرها اللامع الناعم المنظم بشكل ضفيرة أنيقة، ثم أخذت نفسا عميقا واتجهت إلى الباب وفتحته ثم دخلت إلى مكتب لوكاس كين

ـ صباح الخير. إذن فأنت لم تغيري رأيك؟

كانت العينان الفضيتان المدمرتان في انتظرها. وبالرغم من استعدادها لهذه المقابلة، أخذ قلبها يخفق بعنف، وحدقت في هذا الجسم الكبير الجالس خلف المكتب، وقالت بدهشة:" أغير رأيي؟ لا، بالتأكيد يا سيد كين. لقد أخبرتك بأنني سأكون هنا في الصباح"

فسألها بنعومة وعيناه تضيقان إزاء احمرار وجهها:" وهل تفين بوعودك دائما؟"

ـ نعم. هذا ما أفعله

كان في كلماتها عدوانية خفيفة لاحظها لوكاس بتسلية خفية، لكن صوته لم يكشف عن شيء من شعوره وهو يقول:" هذا حسن، سيدة ألن، لأننا، في هذه الحالة، سننسجم معا تماما"

ووقف وهو يتكلم، فأرغمت نفسها على ألا تظهر أية ردة فعل على الإطلاق عندما جثم على جانب المكتب:" سنستلم السيارة الزرقاء عند الساعة الرابعة. وهذا يمنحنا وقتا كافيا تتآلفين فيه مع أجهزة التشغيل والتحكم في الآلات، وإلقاء الأسئلة المتعلقة بها"

ـ شكرا

ولم تعرف ما تقوله غير ذلك.

ـ سيسر اللون ابنتك حين تراه.

عند ذلك نظرت إليه بحدة، لكن لوجه الجذاب كان خاليا من أي تعبير، وكذلك صوته وهو يتابع:" في الأسابيع الثلاثة التالية ستتعلمين كيف هذا يعمل المكتب"

طرفت بعينيها الواسعتين، لكنها لم تقترف غلطة الاندفاع في الكلام، والتوت شفتاها قليلا وهو يتابع:" هل أوفر قليلا من الوقت وأضع بعض القواعد لمصلحتنا نحن الاثنين؟"

كان الهدف من وراء هذا السؤال على ما يبدو هو التأثير في النفس لا الحصول على جواب، ومع ذلك، بدا لها، بشكل ما، متوقعا.

ـ كما ذكرت أمس، أتوقع لا بل أطلب ولاء كليا من أولئك القريبين مني، وأقل من ذلك غير مقبول. بصفتك سكرتيرتي ومساعدتي الشخصية، ستكونين على علم بكل المعلومات السرية المتعلقة بالعمل وبحياتي الخاصة معا، وأتوقع منك أن تكوني حذرة متحفظة مع الأمرين.

كان قد أشار إليها بالجلوس، عندما جلس على حافة المكتب، وكانت الآن شاكرة لهذا، بعد أن شعرت بأنها مأخوذة بمغناطيسية هذا الرجل الذي أصبح الآن رئيسها. نعم، رئيسها. وابتلعت ريقها بصعوبة قائلة:" طبعا، ياسيد كين"

ـ بل لوكاس.

ومال إلى الخلف قليلا، فأظهرت أشعة الشمس خلفه مدى سواد شعره.

ـ الأمر الثاني الذي عليك أن تتعلميه هو أن الرسميات كلها تتوقف عند ذلك الباب.

وأشار إلى الباب الموصل بين المكتبين خلفها:" أنت عيناي وأذناي في هذه المؤسسة وخارجها. وعليك أن تكوني حليفة عليها أن تكون صريحة داخل هذه الجدران الأربعة وتعطيني رأيها"

فسألته بحياد حذر يخفي اضطراب أعصابها:" وإذا كان رأيي يتماشى مع رأيك"

صمت لحظة ينظر إليها بعينيه الثاقبتين، ثم ابتسم أول ابتسامة حقيقية تراها منه:" أنا لا أريد منك أن توافقيني، بالضرورة، ولكن إذا لم توافقيني، أتوقع أن تكون تعليقاتك منطقية ومبنية على معرفة صحيحة. لدي ما يكفي من المتملقين، ولا أريد شخصا آخر يا كيم"

كانت هده هي المرة الأولى التي يلفظ فيها اسمها الأول، فشعرت، ويا للسخافة، بأن ذلك ترك داخلها تأثيرا ما. كان قريبا جدا منها. راودتها هذه الفكرة فحدثت نفسها بحدة بأنها تتصرف كتلميذة مدرسة وليس كامرأة ناضجة في السادسة والعشرين.

ولكي تحارب الضعف، أرغمت نفسها على مبادلته الابتسام وهي تقول بصوت مرح:" هل يمكنني أن أذكرك بقولك هذا في المستقبل؟"

اتسعت الابتسامة التي حولت ذلك الوجه الرجولي العدواني الصلب إلى ملامح أنيسة حلوة المعشر. وكانت هي تنظر إليه مفتونة حين قال:" لدي شعور بأنك ستفعلين ذلك سواء شئت أن أبيت"

قال هذا بتكاسل قبل أن ينزل عن المكتب بحركة واحدة، ثم يعود فيجلس على كرسيه وراء المكتب الضخم:" لاحظي كثيرا، قولي قليلا، وكوني يقظة في الأسابيع القليلة التالية يا كيم. يسرني أن تكوني معنا"

ـ شكرا لك.

وكان هذا طردا صريحا فنهضت بشيء من الاضطراب، آملة ألا يبدو توترها جليا.. فقد كان أكثر الرجال الذين عرفتهم شغلا للبال، ولكن عليها أن تجد طريقة تواجه بها شعورها.. فهذه الوظيفة فرصة لا تعوَّض. هذه الفكرة مكنتها من مغادرة مكتب لوكاس بخطوات متزنة ورأس عال ووجه جامد.

وطمأنت نفسها إلى أن لديها جين لتخفف من تأدية دور سكرتيرة لوكاس كين وذلك لمدة أسابيع قليلة، وبعد ذلك...

أخذ قلبها يخفق فتملكها الغيظ من نفسها لتوتر أعصابها هذا. ستصبح لاحقا كما يريدها أن تكون... آلة كفؤة هادئة قادرة، تدير مكتبه بنظام. بمكانها أن تفعل ذلك، فالوقت الذي أمضته مع غراهام، عدا النتيجة المشئومة بعد موته، جعلها تدرك أن لديها طاقات خفية لم تكن تعلم بوجودها.

تذكرت اليوم الذي اكتشفت فيه أنها ليست مفلسة فحسب، بل غارقة في الدين. لكنها اجتازت ذلك، وصنعت لنفسها ولميلودي حياة مقبولة، ومن الآن فصاعدا ستصبح أفضل ثم أفضل. إنها مسئولة الآن عن مصيرها ومصير ابنتها.. والعهد الذي قطعته على نفسها بجانب الضريح المحفور حديثا، ما زال قائما، وهو ألا تثق برجل مرة أخرى، فقد تعلمت درسا صعبا، لكنها حفظته جيدا.

إنها الآن مستقلة.. مستقلة بشكل رائع يجعلها سعيدة محظوظة.. ولا شيء، لا شيء يمكن أن يقنعها بخلاف ذلك. وهذه الوظيفة ستضمن لها الأمان المادي، وهي فرصة العمر لها.

سكرتيرة لوكاس كين؟ ونظرت إلى الباب المغلق، الذي تسمع من خلفه أصوات خافتة. ستسعى جهدها لتكون أفضل سكرتيرة له.

safsaf313 21-08-09 09:46 AM

3ـ بداية التحدّي




في الأسابيع التالية، عملت كيم كما لم تعمل قط ووضعت ملاحظات بكل ما أخبرتها جين به وكانت تأخذ كل مساء إلي بيتها رزما من الأوراق ثم تجلس إلى ما بعد منتصف الليل، تستظهر عن ظهر قلب كل ما فيها. درست كل ملف، وكل شركة، وكل شخص لعب دورا في حياة لوكاس كين العملية حتى أصبح في رأسها من المعلومات أكثر مما لدى جين.

إحدى صديقات ميلودي كانت تعيش قرب المدرسة، فاتفقت كيم ما والدة الطفلة على أن تدفع لها أجرا لقاء أن تحضر إليها ميلودي في الساعة الثامنة صباحا، لتستطيع كيم أن تكون في الشركة عند الساعة الثامنة والنصف يوميا.
منتديات ليلاس
تصورت كيم، في اليوم الأول، أنها ستكون بمفردها في المبنى، لكن سيارة لوكاس الفارهة كانت مركونة عندما أوقفت هي سيارتها.

كان قد وقف بباب المكتب عند وصولها وأخذ يحدق فيها لحظة ساخرا، ولكن عدا عن طلبه كوبا من القهوة، أمضى النهار بطوله من دون تعليق.

جاء عيد الميلاد وابتلعت كيم ريقها قليلا وهي ترى هدية العيد السخية من لوكاس وقد كانت شيكا مصرفيا... وفي الأسبوع التالي من شهر كانون الأول انتقلت مع ابنتها إلى كوخ جميل صغير مؤلف من غرفتي نوم وقريب من مدرسة ابنتها.

وحل يوم الاثنين من أسبوعها الثالث في الشركة، وهو اليوم الأول الذي لن تكون فيه جين موجودة لتسندها.. ووجدت كيم نفسها متوترة كطفل يدخل إلى المدرسة في يومه الأول.

مكّنها بدل الملابس من الشركة من أن تشتري بذلات أنيقة وبلوزات وبعض الزينة ما أظهر بشكل رائع الصورة التي ينبغي أن تكون عليها سكرتيرة لوكاس كين. وكانت كيم تعلم أن الطقم الرمادي والبلوزة الوردية الحريرية تلائم بشرتها الصافي.

ومع ذلك، كانت عيناها البنيتان الناعمتان واسعتين قلقتين نوعا ما وهي تتفقد ضفيرتها المرتبة، وغرتها الكثة المستقيمة التي تصل إلى قمة حاجبيها.

قالت بنعومة تحدث صورتها، في المرآة:" لا شيء تغير في اليومين الماضيين. فقد اشتغلت طوال الأسبوع الماضي ولم تساعدك جين إلا قليلا، وهذا يعني أن بإمكانك مواجهة أي شيء"

وكان عليها، بعد دقيقة أو اثنتين، أن تذكر نفسها بهذه الكلمات.

اعتادت في الأسابيع الماضية، على تحضير قهوة لوكاس فور وصولها إلى المكتب، لكنها الآن، عندما فتحت الباب، بعد أن قرعته، أدبا، كالعادة، لم يكن ذلك الثري البالغ الأناقة الذي تعودت عليه هو الذي رفع بصره إليها من وراء المكتب.

بدا واضحا أن لوكاس كان نائما حتى اللحظة التي أيقظته فيها، وحين استقام في جلسته وحدق إليها بعينين كليلتين، تصاعدت خفقات قلبها. ولم يكن ذلك لأن شكله المشعث يثبت أنه نام بملابسه.

كان قد خلع، في الساعات الأخيرة، سترته وربطة عنقه، فبدت عضلاته القوية.

لقد نجح.. نجح بكل تأكيد. وجمدت كيم مكانها، واهتزت الصينية بين يديها بشكل خطر. فقد كان.. حسنا، كان مختلفا، كما اعترفت بصدمة صامتة. إنه، في ملابسه، موهوب الجانب فياض الرجولة، أما بنصف ملابسه.. لا عجب أن جين قالت لها إن مرور النساء الفاتنات في حياته هو بسرعة سيارات السباق لأن العمل يأتي عنده في المقام الأول.

هذا لا يعني أنه يتملص منهن بالطبع، كما قالت جين، ذلك أن الدائرة التي يعيش فيها لديها التفكير ذاته... وهذا عامل مساعد. ولم يكن لوكاس قط من ملاحقي الشقراوات الغبيات، فهو يطلب الذكاء كما يطلب الجمال. وكل النساء يعتبرنه جذابا لا يقاوم.

لم تنطق حينذاك بأي تعليق رغم أنها حدثت نفسها بأن كلمة ( لا يقاوم) ليست الكلمة التي تخطر ببالها حين التفكير في لوكاس كين. أما الآن، فبإمكانها أن تفهم ما الذي يجذب مثل أولئك النساء إليه. رأت في استلقائه هذا كل تلك الجاذبية البدائية التي أحست بها مرة أو اثنتين.. حسنا، بل أكثر من مرة أو اثنتين.

ـ رباه! كم الساعة؟

بدأت العينان الفضيتان تصفوان، واحتل الصوان مكان لون الدخان في عينيه.

ـ الثامنة والنصف

كان جوابا مختصرا لكنه كل ما استطاعته قبل أن تتمالك أحاسيسها.

ـ هل تلك قهوة؟ أنت ملاك.

عاد يستند إلى الخلف في كرسيه، وأخذ يتمطى باسطا عضلاته المفتولة قبل أن يأخذ في تمسيد شعره إلى الخلف، وهذان الأمران لم يفلحا في حفظ توازن كيم.

ـ لقد أمضيت هنا معظم العطلة الأسبوعية. وصفقة " كلاركسن" انفجرت في وجهنا وكنا بحاجة إلى وقت لنحلها.

ـ هذا صحيح

وضعت القهوة والبسكويت على المكتب أمامه، راجية ألا يكون وجهها محمرا خجلا.

ـ لكنني قلمت أظافره.

وتناول قطعة بسكويت وأكلها بنهم قبل أن يتناول أخرى. فسألته بحذر:" متى أكلت آخر مرة؟"

بدا الشرود في العينين الثاقبتين عادة :" أكلت؟ لا أتذكر. أظن يوم السبت"

ـ هل تحب أن تأكل شطائر باللحم؟

فحدق إليها باهتمام:" شطائر باللحم؟ لا تخبريني بأن بإمكانك أن تجهزي هذا في لحظة، يا كيم!"

قالت بصوت جاف:" تقريبا. هنالك رجل في زاوية الشارع، وشطائر اللحم هو اختصاصه"

ـ أريد إذن ست شطائر مع صلصله.

مال برأسها وكأنها تتصور ما كانت جين ستفعله في نفس الظروف، ثم أرغمت نفسها على التوجه إلى الباب وهي تقول من فوق كتفها:" سأتأخر عشر دقائق أو نحو ذلك"

تأخرت ربع ساعة، وعندما قرعت باب مكتب رئيسها ودخلت، كان قد تحول إلى شخصيته المعتادة وذلك بفضل الحمام وغرفة الملابس في جناحه الخاص. ولكن بالرغم من بذلته النظيفة وقميصه الأزرق الباهت وربطة عنقه المناسبة، لم تر كيم فيه إلا صورة ذهنية لعضلات رائعة. ولم يخفف عنها أن شعره ما زال رطبا ووجهه الحليق الآن أكثر ارتياحا من العادة.

ناولته الطبق وهي تحاول أن تبدو جامدة قدر إمكانها:" إنها ست شطائر محشوة. وهي ساخنة"

ـ تتكلمين كما تتكلم أمي.

أمه؟ وضاقت عيناها، ثم ابتسمت بعذوبة زائفة:" لا تقل لي إنك من أولئك الرجال المرتبطين بأمهاتهم"

قالت ذلك بهدوء بعد أن فكرت فيه طويلا ولم تجرؤ على أن تنطق بذاك الجواب اللاذع الذي خطر لها.

ـ لا أظن ذلك.

وكان ينظر إليها وعيناه تلمعان، ولكن تلمعان بماذا، هذا ما لم تعرفه كيم.

ـ كانت أمي امرأة رائعة، ومناسبة لأبي بشكل مثالي، ولكن.. لا، لا أظن ذلك.

وأخذ قضمة من شطيرته وأغمض عينيه متلذذا

ثم سألها مستنكرا تقريبا:" كيف حدث أنني لم اشتر شطائر اللحم هذه من ذلك الرجل من قبل؟"

ـ لأنك لم تطلب!

نظر إليها بحدة، ثم قال ببطء:" وهل عليّ أن أطلب فقط؟"

كان عليها أن تعلم أنها لا يمكن أن تنتصر عليه في حرب الكلمات! وكانت واعية، باضطراب، إلى أن شيئا ما قد تحول في الدقائق الأخيرة.. شيئا كان يغلي في الأعماق منذ اللحظة التي وقعت فيها عيناها على لوكاس كين... شيئا لا يمكن... لا يجب التعبير عنه.

ـ سأحضر لك فنجان قهوة آخر.

وأسرعت تغادر المكتب قبل أن يجد وقتا يأخذ فيه قضمة أخرى.

ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة. هناك أكثر، أكثر بكثير بالنسبة للسكرتيرة الجديدة الكفؤة الرائعة الجمال من مجرد تقابل الأعين. لقد عرف ذلك منذ البداية، وهذا هو السبب في أنه اختارها من بين مرشحات أكثر خبرة.

لكن هذه الفكرة لم تعجبه فاستحالت الابتسامة إلى تقطيب وهو يحدث نفسه بحدة بأنه اختار كيم لأنها أنسب المرشحات. أما المؤهلات والخبرة فهي ليست بالضرورة كل ما تتطلبه علاقات العمل. يجب أن يكون هناك لمعان ف ي الشخصية، وشيء لا يمكن وصفه وإنما يحدثك بأن أي اتفاق سيكون صحيحا مثمرا، فهو لا يرغب أبدا في سكرتيرة شاردة الذهن بطيئة الفهم ولهذا اختار كيم. كما أن مؤهلاتها جيدة بشكل لا بأس به، وكذلك خبرتها. هكذا كانت جين... فلطالما استمتعا بمشاجرات حقيقية في زمنها، كما طمأن نفسه بحزم، متجاهلا صوتا خافتا صادقا يقول له إنه يقارن الجبن بالطباشير.

شعر بعدم الارتياح فجأة لهذه الأفكار، ثم حول أفكاره إلى ملف كلاركسن الموجود أمامه، صارفا من ذهنه كل تفكير في كيم بذلك التركيز الذي لا يرحم والذي كان سبب نجاح شركة كين الكتريكال في العقد الأخير.



***

أمضت كيم وقتا أطول بكثير حتى استطاعت أن تحبس أفكارها غير اللائقة، وعندما نجحت بذلك، صممت على ألا تسمح لتلك الأفكار بالانطلاق مرة أخرى. بإمكان لوكاس كين أن يتبختر حولها كيفما شاء، من دون أن تهتز منها شعرة..

اضطرت إلى الاعتراف بأن فيه شيئا ما.. شيئا مغريا للغاية... وقد أراحها، في الواقع، أن تعترف بذلك وتظهره إلى العلن.. كان جذابا إلى حد بالغ... وهو من الرجال الأثرياء الذين تحيط بهم السلطة والهالة وهي غير مضطرة إلى الشعور نحوه بالمودة، ما دامت تحترم حدة ذهنه العملي وتستمتع بعملها، فهذا كل ما تريده. أما طراز حياته، والطريقة التي يقود بها علاقاته الشخصية، فلا شأن لها بها مع أنه يجسد كل ما تكرهه في الرجال في ذلك المجال.. لكن لا يعني أن ليس بإمكانها العمل معه. إنه يراها جزأ من أجهزة المكتب، وليس امرأة، وهذا يشكل كل الفرق.

وعندما أوقفت سيارتها أمام بوابة المدرسة، كانت قد استراحت إلى هذا التعليل. وسارت في الممشى ثم وقفت مستندة إلى الباب الخشبي الكبير فيما بدأ الثلج بالهطول.

عندما ظهرت ميلودي مع اثنتين من زميلاتها كان الثلج قد تحول إلى رقاقات سميكة بيضاء بعثت البهجة في نفوس الأطفال.

تقدمت ميلودي نحوها متراقصة والحماسة في وجهها:" أمي، السماء تثلج حقا. هل يمكننا أن نصنع في الحديقة رجل الثلج؟"

ـ ربما غدا، إذا كان الثلج كافيا.

كانت ميلودي تثرثر بثقة وحيوية فحمدت كيم الله لأنها لا تتذكر الأشهر الأخيرة الفظيعة بعد موت غراهام. لم تشأ أن تطيل التفكير في زوجها الراحل، وركزت أفكارها على ابنتها، فأخذت تسألها عن يومها. ولكن عندما نامت ميلودي في سريرها، وهدأ الكوخ، أخذت الذكريات تتدفق عليها بالرغم عنها.

لقد ظنت أنها مغرمة بغراهام.. كانت واثقة من أنها تحبه.. لكن المثل الذي يقول إنك لا تعرف الشخص إلا بعد أن تعاشره، كان صحيحا فيما يتعلق بزوجها..

الشاب الوسيم اللامع، ووحيد والديه العجوزين، أفسده الدلال منذ الطفولة. حاول والداه أن يمنحا ابنهما كل ما يطلبه رغم مواردهما المحدودة حتى أنهما موّلا عمله بعد تخرجه من الجامعة مما استفد آخر فلس يملكانه.

لم تكن واعية حينذاك إلى ذلك.. وبعد موت غراهام برز كل شيء إلى الضوء.

لم تكن تعلم أنه مدمن على الكحول، وكان غراهام بارعا بارعا في إخفاء إدمانه. وعندما عرفت ذلك، كانت حاملا بميلودي.

كان عمل غراهام قد فشل حالما بدأ تقريبا... وكانت هذه نتيجة محتومة لقلة الوقت والجهد اللذين بذلهما فيه... وعندما علم بعجز والديه عن مساعدته، أخذ يستدين، مستغلا كل ما لديه من ظرف وجاذبية. وكان دوما يحصل على ما يريد بجاذبيته التي لم يكن يستطيع أحد أن يقاومها.

رفعت كيم بصرها فجأة عن عملها...

لا يستطيع أحد مقاومة جاذبيته.. هذه الجملة جعلتها تدرك فجأة لماذا أخذت تفكر بغراهام بعد أشهر من صرفه من ذهنها.

( يبدو أنهن لم يستطعن مقاومة جاذبيته) هذه الكلمات هي نفسها التي قالتها جين في وصف نيكولاس.

زمت كيم شفتيها بقوة، وضاقت عيناها البنيتان القاتمتان وهما تنظران إلى غرفة الجلوس المريحة دون أن تريا شيئا. ربما ( كلهن) لا يستطعن مقاومة جاذبية نيكولاس كين، ولكن هنا امرأة تلقت لقاحا قويا ضد هذا المرض، برغم أنها لم تفكر في أنه أول رجل حرك مشاعرها منذ موت غراهام. والآن بعد أن أدركت هذه الحقيقة وما تمثله من خطر، ستكون على حذر. وهذا لا يعني أنه يهتم بها على المستوى الشخصي، وكادت تضحك عاليا وهي تتصور لوكاس كين القاسي البارد يميل إلى سكرتيرته. لكنها لا تريد أن تنجذب إلى أي رجل مرة أخرى خصوصا إذا كان يماثل غراهام في طباعه.

لم تخبر أحدا عن آخر سنة أمضتها مع غراهام وما عانته فيها من إذلال على يديه، لن تخبر أحدا أبدا فهي ليست مضطرة إلى ذلك. فهي غير مسئولة من أحد، وهذا ما تريده. ميلودي هي الشخص الوحيد الهام في حياتها وبإمكانها، بفضل هذه الوظيفة الجديدة، أن تمنحها لها. لا شيء، لا شيء أبدا يجب أن يتدخل في ذلك، وعادت عيناها إلى التركيز على المعطف الأحمر الصغير بين يديها وشفتاها متوترتان.





***

لم تتوقع منه أن يترك الأمر دون كفاح، لكنه أدهشها للمرة الثانية عندما تحرك بالسيارة دون كلمة أخرى، مندفعا من الموقف بعنف جعل السيارة تهدر.

ـ وخلافا للمفهوم القائل بعدم ذكر الميت بالسوء، أحب أن أقول إن من حظك أنك تخلصت من السيد ألن.

إنه لعلى صواب. وأطلقت ضحكة غريبة: "أعرف هذا"

ـ كيف حدث ذلك؟

نظرت إليه لحظة، إلى ذلك الوجه الخشن العابس وهو يركز على الطريق أمامه، غير واثقة مما سألها ثم عاد يسألها فجأة:" كيف مات؟ لم تذكري في طلب العمل سوى كلمة ( متوفى)"

ـ مات في حادث

لم تشأ أن تستمر في الكلام. وانتبهت إلى عينيه النفاذتين مسمرتان على وجهها، رغم أنها عادت تنظر أمامها مرة أخرى. وعاد يسألها بصوت بعث الاضطراب فيها:" حادث سيارة؟"

ـ لا.

كان وعي كيم موجها إليه وإلى اليدين السمراوين القديرتين ورائحته. مهما كان نوع الكولونيا التي يستعملها يجب أن تمنع لخطورتها على حالة النساء الذهنية. ولكن ربما لن يكون تأثير الرائحة نفسه على شخص آخر.

ـ قطع غراهام شريانه عندما سقط على واجهة متجر.

مضت نصف دقيقة ينتظر فيها المزيد... ولم تستطع كيم احتمال مزيد من الضغط، فأكملت قولها بفتور:" كان ثملا"

ـ الحادث المعتاد؟

فقالت بصوت جامد:" نعم"

ـ والآن تريدين أن تتحدثي عن شيء آخر.

أرادت أن تتحدث عن شيء آخر منذ اللحظة التي صعدت فيها إلى السيارة! وكبحت نفسا مرتجفا وأخفت يديها المرتجفتين في حجرها: " إذا لم يكن لديك مانع"

أومأ ببطء:" حدثيني عن ابنتك"

ـ ميلودي؟

قالت هذا مجفلة وهي تنظر إليه، وقابلت عينيها البنيتين الواسعتين لحظة، ولكن أهدابه الكثيفة السوداء أخفت ما فيهما من تعبير.

ـ إنه اسم غير عادي. هل هو من اختيارك؟

زدت حرارة رجولته من اضطرابها في هذه السيارة الفخمة المقفلة مرغما إياها على الاعتراف:" كان مخاضا طويلا وعسيرا"

ولم تضف أن غراهام كان في الخارج في حفلة شرب وصخب، ولم يأت إلى المستشفى لا في الصباح التالي" إحدى الممرضات كانت بالغة اللطف معي. وكانت من جمايكا، واسمها..."

أكمل لها الجملة:" ميلودي"

أومأت قائلة بهدوء: " لكنه يناسب ميلودي. فهي طفلة سعيدة، تضحك وتغني دوما"

كان في صوت كيم حرارة وحلاوة، وهي تتحدث عن ابنتها، بشكل لم بعهده لوكاس فيها من قبل، وفجأة، كان هو من يريد تغيير الموضوع. فقال بهدوء:" أنا واثق من أنها كذلك. والآن دعيني أدخل في الهدف الرئيسي من هذا الاجتماع قبل أن نقابل " جيم كلاركسن" وابنه"

أخذت تستمع بهدوء وهو يوضح الأمور، لكنها في الداخل كانت من الاضطراب بحيث لم تستوعب سوى نصف ما قاله.

تمنت لو أنها لم تأخذ هذه الوظيفة قط. فالبرغم من الراتب المغري، والسيارة، فقد تمنت لو أنها لم تخط خطوة إلى شركة كين الكتريكال. كانت تعلم مكانها مع بوب كيرتس. كان صاحب عمل لا يرحم، ولا يخجل من استغلال الناس لمصلحته الخاصة. لكنه كان سمينا أصلع ومتوسطا في السن، ولم يهتم يوما بطرح سؤال شخصي عليها.

تحرك لوكاس قليلا في مقعده الجلدي فشعرت بأعصابها تتوتر. كان بوب يشتري بذلاته جاهزة، وغالبا رخيصة الثمن. ولم يكن يرتدي قميصا حريريا، بينما لوكاس... حتى في ملابس السباحة تبقى حوله هالة الثراء تلك.

تصورها للوكاس في بذلة السباحة كان كافيا ليصبغ وجهها بالاحمرار، فتمنت لو ينسب ذلك إلى حرارة جو السيارة، هذا إذا لاحظ ذلك.

وقد لاحظ ذلك، والشعور الذي تملكه في المصعد عاد فاكتسحه مرة بقوة متجددة قبل أن يرغم نفسه على الهدوء. لابأس، فهي مضطربة كقطة على سطح صفيح ساخن، بهذا كان يحدث نفسه بعنف. لكن الشيطان وحده يعلم ما حدث لها أثناء زواجها. على الأقل ذلك الحشرة ميت الآن. وتنفس ببطء وهو ينظر أمامه بعينين ضيقتين مرغما نفسه على التركيز على حالة الطريق. إنها سكرتيرته، وهي لا تريد غير ذلك. وماضيها لا يؤثر فيه إلا بقدر ما قد يؤثر في عملها.

ساد الصمت بقية الرحلة إلى المطعم التي لم تكن مريحة على الإطلاق. وإلى أن اتجهت سيارتهما إلى الموقف خلف المطعم، كانت أعصاب كيم قد شارفت على الانهيار. وخرج لوكاس من السيارة ثم كان عند بابها يفتحه لها قبل أن تتحرك في مقعدها. وعندما نزلت من السيارة، تنفست الصعداء بصمت.

كانت تعرف مطعم فونتيلا، ولكن لم يحدث قط أن غامرت بدخوله.

ـ ارفعي رأسك.

لم تكن منتبهة إلى عيني لوكاس عليها أثناء سيرهما نحو الباب الرائع المؤدي إلى داخل المبنى. لكن عندما نظرت إليه، تابع يقول:" جيم طائر عجوز ماكر، ولكن عندما يحط على الأرض يصبح في منتهى اللطف، وابنه مثله. وستحبينهما"

ربما، ولكن التعرف إلى رئيس شركة كلاركسن انترناشيونال ليس هو ما يهمها، بل ذلك الرجل الأسمر الكبير الحجم الذي بجانبها. فقد أحدث، لسبب ما، تأثيرا بالغا في عقلها وجسدها لم تستطع التحكم فيه بالمنطق أو قوة الرادة. وكان يزداد سوأ مع مرور الوقت.

أحبت كيم جيم كلاركسن وابنه روبرت. كانا رجلي أعمال حاذقين وبنفس عناد لوكاس إذا اتصل الأمر بالتجارة، ولقد أحست على الفور بأن الرجال الثلاثة تعاملوا سويا في الماضي وهم يحبون بعضهم بعضا.

تملكتها الدهشة وهي ترى الحديث لا يخلو من المزاح رغم ارتفاع سخونته أحينا، وبالرغم من أنهما اثنان مقابل واحد، كان لوكاس متمالكا نفسه وهو يدير الأمور ببراعة وهدوء إلى أن حصل على معظم ما يريد. وكان واضحا أن هذا لم يغب عن جيم كلاركسن عندما ودع الأربعة بعضهم بعضا في موقف السيارات، وجيم يقول لها وهو يصافحها:" إنه ماكر، السيد كين هذا. لكنك تعرفين هذا طبعا"

ـ هذا بالضبط ما قله عنك، يا سيد كلاركسن.

وابتسمت كيم للرجل العجوز الأبيض الشعر وهي تقول هذا فقهقه ضاحكا وقد بدا الإعجاب واضحا في عينيه بالمرأة الرائعة الجمال الواقفة أمامه.

ـ الإطراء سيوصلك إلى كل ما تريدين، يا عزيزتي.

كان لوكاس يقف جانبا ينظر إليهما بعينين تعكسان لون السماء الماطرة فتقدم يمسك بمرفق كيم وهو يقول:" سأتصل بك غدا، يا جيم، بعد أن ينتهي المحاسب من مراجعة بعض الأمور"

ـ وداعا يا سيدة ألن.

ومد روبرت يده لها مصافحا وهو يقول ذلك ما جعل لوكاس يؤجل مغادرته:" لقد سرني التعرف إليك"

قال لها هذا برقة بالغة والدفء في عينيه.

ـ وأنا كذلك.

فتح روبرت فمه ليقول أكثر، لكن لوكاس سحب كيم بسرعة، وسرعان ما وجدت نفسها في لسيارة وهو يغلق الباب بعنف.

كان عمله هذا يقارب الفظاظة. وأخذت تنظر إلى رئيسها وهو يدور حول السيارة متجها إلى مقعده، ولم تستطع أن تقرأ شيئا في وجهه الجامد. ولكن ربما كان متجها للعودة إلى المكتب لسبب ما.

ـ سارت الأمور بشكل حسن.

كانا قد خرجا لتوهما من موقف السيارات وكانت قد ردت على تلويح روبرت لها بيده، وهو يقف بجانب السيارة المرسيدس الرائعة، وبالرغم من مضمون كلماته الإيجابي، كانت لهجته تنبئ وشيء مختلف. فقالت موافقة بأدب:" نعم. هذا ما رأيته"

قال بجمود:" يبدو أنك انسجمت جيدا معهما"

ـ كنت على صواب. إنهما طيبان للغاية.

أومأ بحنكة ولكن دون تعليق.

أطالت التحديق في جانب وجهه الصلب، شاعرة بأن فيه شيئا فاتها، ولا تعرف ما هو بالضبط.

كان الأمر هو نفسه عندما عادا إلى المكتب. فقد توارى في مكتبه بعد أن أعطاها بعض الإرشادات، مراجعا الملاحظات التي دونتها وقت الغداء. لكنه بدا شاردا بشكل ما، وبما يقرب من الضيق.

لم تهتم كيم بالأمر لأن المشاعر التي تملكتها طوال النهار أرهقتها ذهنيا وجسديا. فأصبحت بحاجة إلى كل ذرة من التركيز لكي تحول الاختزال الذي أخذته وقت الغداء إلى طباعة أنيقة. والواقع أن الطعام الممتاز لم يساعد على تخفيف مشاعر التعب لديها وهذا ما جعلها تهفو إلى غفوة بعد الغداء.

وعند الساعة الرابعة والنصف، أخذت رزمة أوراق ودخلت بها مكتب لوكاس ووضعتها على المكتب.

فقال دون أن يرفع بصره:" شكرا"

ـ سأعود بعد عشر دقائق عندما تجد وقتا لتوقع الرسائل، فهي على وجه الأوراق.

فقال بصوت جامد وهو لا يزال مطأطئ الرأس:" هذا حسن"

قبل أن تصل إلى الباب تذكرت أنها لم تذكر له تقرير سكرتيرة المدير المالي الذي استلمته لتوها فوضعته مع الأوراق، فالتفتت بسرعة والكلمات على شفتيها، وإذا بالكلمات تتجمد وهي تراه ينظر إليها متأملا.

تقابلت أعينهما وبقيت كذلك دهرا، فضة لامعة مع لون بني قاتم، ثم تحولت عيناه إلى خصلة من الشعر أفلتت من ضفيرتها الأنيقة في مؤخرة رأسها.

قال بذهن شارد تقريبا:" ألوانك غير عادية أبدا. شعر أشقر مع مثل هاتين العينين الداكنتين"

ـ لون شعري طبيعي

قال برقة:" أعلم هذا. بإمكاني تمييز ذلك"

طبعا بإمكانه التمييز بعد كل ما عرف من شقراوات. هذه الفكرة أزعجت كيم، ولكي تغطي اضطرابها، وجدت نفسها تثرثر:" ميلودي لديها نفس لون الشعر والعينين"

فأومأ برأسه ببطء وقال برقة:" إنها الجينات الوراثية. ربما لدى أحد والديك نفس الألوان"

أرادت أن تبتلع ريقها، وشعرت بغصة، لكنها تنفست بعمق:" إنها أمي. أنا لا أتذكرها لكن لدي صورتها. كان أبي أشقر هو أيضا ولكن عينيه زرقاوان"

ـ هذا حسن

بقي وجهه جامدا، فلم تكن بحاجة إلى أن تشعر بأي خطر من أي إغراء، ولكنها شعرت بذلك بالفعل. أخذت توصي نفسها بأن تتماسك، فهذا حديث محترم وهي تتصرف كمعتوهة.

ـ سوف... سوف أعود بعد دقائق لأجل الرسائل إذن.

ـ ماذا؟

وحملق فيها رئيسها الذكي القاسي البارد بنظرات فارغة لحظة، ثم أومأ فجأة:" نعم. افعلي ذلك يا كيم"

ثم أحنى رأسه وخرجت. ولكنها لم تتذكر إلا في مكتبها أنها نسيت أن تخبره عن التقرير المالي الذي ينتظره. حسنا، لن تعود إليه.. فهو سيجده بنفسه، كما حدثت نفسها وهي ترتجف.

مضت عشر دقائق قبل أن يرن لها الجرس الداخلي، فأخذت الأوراق التي ناولها إياها، ونظرت في عينيه عندما قاله لها بهدوء:" اجلسي لحظة، يا كيم. هناك شيء أريد أن أقوله لك"

ماذا تريد الآن؟ جلست برزانة على حافة الكرسي قبالة المكتب، وركبتاها مضمومتان معا وعلى ملامحه الحذر.

ـ بصفتك سكرتيرتي الخاصة، تعرفين كل أسرار العمل التي لا يعرفها غيرك من الموظفين.

كان صوته ثابتا هادئا. ولم تعرف ما إذا كان عليها أن تجيب. لكنها قالت:" نعم، طبعا"

ـ ستجدين أن الناس سيحاولون الوصول إليها من خلالك لأسباب مختلفة، بعضها هام والبعض الآخر ليس كذلك. وأحيانا سيتقربون إليك على مستوى شخصي، لكن جين وجدت أن من الأفضل أن تتوخى الحذر وتنفرد بنفسها أثناء العمل وتقصر صداقاتها على أولئك الذين لا علاقة لهم بشركة" كين الكتريكال"

ما الذي يريد أن يصل إليه؟ وسألته بدهشة:" لكنني ظننت أن خطيبها عميل لشركتنا؟"

طرف بعينيه لحظة:" الشذوذ يثبت القاعدة"

نظرت إليه بارتباك. هل هذا كل شيء؟

ـ الأمر هو، يا كيم...

وسكت لوكاس لحظة وعيناه مثبتتان عليها، فشعرت، كما شعرت مرارا من قبل، وكأن عقله ينظر في عقلها مباشرة متفحصا منقبا عن أفكارها الخفية ومخاوفها.

ـ نعم؟ ما هو الأمر؟

ـ أظن أنك ربما ستتلقين مكالمة هاتفية من روبرت كلاركسن.

ـ روبرت كلاركسن.

ونظرت إليه كأنه مجنون:" ولماذا يتصل روبرت كلاركسن بي؟"

ـ أليس ذلك واضحا؟

كان صوته خشنا ولا بد أنه لاحظ ذلك لأنه عاد إلى طبيعته الهادئة حين قال:" لقد أعجب بك. عندما ذهبت إلى استراحة السيدات بعد الغداء سألني عنك"

فوجئت كيم تماما، وارتباكها البريء ارتسم على وجهها.

ـ ولكن...لكنني لم...أقصد..

ـ أنت لم تلحظي ذلك.

قال هذا بسخط خفيف، فقالت وقد أحست بانتقاده:" لا لم ألحظ. كنت هناك بصفتي سكرتيرتك وقمت بعملي، هذا كل شيء"

ومن ذا الذي يلحظ شخصا آخر في وجود لوكاس؟ وصدمتها خطورة هذا التفكير وبعثت الاحمرار إلى وجهها.

ـ هذا شيء يستدعي المديح تماما. حسنا، سيتصل روبرت بك في المستقبل القريب، ويدعوك إلى الغداء أو العشاء.. أو إلى موعد، بما أن شركة " كين الكتريكال" وشركة " كلاركسن" مشتركتان في مفاوضات دقيقة حاليا...

ـ أتظنه سيحاول استغلالي للحصول على منفعة؟

قالت هذا بجفاء لأنه يظن بأنها من الغباء بحيث تتحدث مع أي كان عن أسرار الشركة! كيف يجرؤ؟

ـ ليس بالضرورة.

ـ ماذا إذن؟

لم تستطع منع صوتها من الارتفاع فقد كانت غاضبة جدا.

ـ كنت أشير فقط إلى أشياء معينة.

كانت عيناه عنيفتين ضيقتين، لكن السخط منعها من أن تبالي.

ـ أنا أشتغل عندك ولديك الحق في أن تطلب الولاء الكامل والحذر بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالعمل. ولكن ليس لك الحق في أن تحدد لي من أخرج معه.

قالت هذا بتوتر وقد شحب وجهها.

لم يكن لديها النية في الخروج مع روبرت كلاركسن.. بل لم يكن لديها النية في الخروج مع أي شخص. ولكن، إذا ظن لوكاس كين أنه يمتلكها روحا وجسدا، فليصحو من سباته. يا الغطرسة هذا الرجل!

قال غاضبا:" ولا أنا سأحاول ذلك"

ردت عليه ثائرة:" ولكن هذا بالضبط ما كنت تحاوله لتوك"

ساد بينهما صمت مشحون، ولكن رغم غضبه البالغ، بقي وجهه هادئا. لقد لاحظ طوال فترة الغداء اللعينة تلك، كيف كان روبرت يبذل جهده كله لكي يؤثر فيها. وكانت هي تبادل روبرت الابتسام بطريقة لم تستعملها معه قط. ولم تجفل عندما لمس روبرت ذراعها وساعدها في ارتداء معطفها. تبا لذلك.

كان يحارب مشاعره طوال فترة بعد الظهر، وهي مشاعر جديدة ومزعجة للغاية. كان دوما مشهورا بأنه رجل منطقي.. رجل حرص على أن تكون حيته حرة منظمة ويريد أن تكون علاقاته كذلك.

المشكلة الأبدية، الحب والغيرة... كان يجد دوما مثل هذه الأمور مزعجة ولا فائدة منها فكان يتجنبها كما يتجنب الوباء. إنه يحب النساء اللاتي يفكرن كالرجال من ناحية العواطف.. أو مثله على الأقل. دون ارتباط، ومستقلات، مستعدات للفراق عندما تنتهي العلاقة دون دموع ولا روابط.

وما زال يفكر على هذا النحو... تبا لذلك. لا شيء تغير. لا شيء.

قال بصوت كالثلج وعيناه ثقابتان كالفولاذ:" لا حجة بك لإثارة أعصابك. كل ما في الأمر أنني أحذرك، لقد عملت معي ثلاثة أشهر ولم يحدث أمر كهذا بيننا من قبل"

وعندما انتهى من الكلام نهض وسار نحو الباب وفتحه وهو يقول:" ربما عليك أن تتأكدي من أن تكون هذه الرسائل في البريد الليلة"

إنه يصرفها كما يفعل الناظر مع الولد الحسن السلوك!

نهضت واقفة وقبضتاها تشدان الأوراق التي تمسك بها ثم أرخت أصابعها عنها قليلا.

أرادت أن تمر بجانبه بعدم اكتراث وغطرسة رافعة رأسها، لكن الغضب الذي سيطر على كيانها جعلها لا تنتبه ولم تعرف ما إذا كان كعب حذائها قد اشتبك بالسجادة، أم أن ساقيها كانتا ترتجفان. إلا أنها كانت على وشك أن تنبطح عند قدميه... ثم أوشكت أن تقع عندما وصلت إلى الباب.

انتشرت الرسائل من يدها وهي تحاول أن تستعيد توازنها، وإذا بيدين قويتين تحيطان بها وتضمانها إلى صدر رجل قوي العضلات.

دار رأس كيم وتشوش ذهنها بحيث لم تقم بأي حركة للتملص منه. كما بدا أن لوكاس جمد مكانه، ثم أنعدها عنه قليلا لكي يتمكن من النظر في وجهها:" هل أصابك أذى؟"

أصابها أذى؟ إنها لا تعرف ماذا جرى لها، وهو يحتضنها بذلك الشكل. كان يمكن أن تكسر قدمها دون أن تنتبه.

كانت تعلم أن عليها أن تقول شيئا... فهي لا تستطيع الاستمرار في النظر إلى وجهه... ولكن كل أحلامها في الأشهر الماضية تجمعت الآن.

كانت يداها قد استقرتا على صدره العريض، فشعرت بخفقان قلبه تحت أناملها، ورقة قماش قميصه الأزرق تحت يديها.

كان قلبها يخفق دافعا الدم بعنف في أوردتها مرسلا دقات قلبها إلى عنقها ما خنق الكلمات التي أرادت أن تقولها لتنهي هذا الأمر بسرعة دون مزيد من الارتباك. كانت تحس بقوته الجسدية، وقوة عضلات ذراعيه تحت راحتيها. ولكن بدلا من أن يجعلها هذا تقفز مبتعدة، كما كان ينبغي أن تفعل، زاد ذلك من عدم قدرتها الغريبة على الحركة.

ـ كيم؟

كان ذلك تمتمة رقيقة تقرب من الهمس، ثم أحنى رأسه وحك أنفه في شعرها الذهبي وهو يحركها بين ذراعيه مرة أخرى ويقول بصوت متوتر:" لا بأس، أنت بخير"

كان يعلم أنها تتوقع منه أن يعانقها، بل تريده أن يعانقها. لكنه لم يفعل.

شعرت وكأنما غمرها فيض من الماء البارد، فتملصت منه في اللحظة التالية، ومضت، مجروحة المشاعر، تلملم الأوراق المتناثرة. وعندما حاول أن يساعدها، قالت:" يمكنني أن أتدبر أمري جيدا شكرا"

جمد على الفور، ثم قال بشيء من التوتر:" طبعا يمكنك ذلك".

لم تشعر قط من قبل، حتى عندما كان غراهام في أسوأ حالاته، بهذا الإذلال الذي تشعر به الآن.

أنهت جمع الأوراق واستقامت وقد توهج وجهها وبان الخزي في عينيها ما جعلها تتصلب في وقفتها. ثم قالت بألم وهي تنظر إلى لوكاس:" سأحرص على أن تذهب هذه الرسائل إلى البريد الليلة"

كان قد ابتعد قليلا عن الباب، فخرجت منه بسرعة وسمعته ينغلق خلفها ما زاد في تصلب أعضائها، كان كل ما تريده هو الهرب.

وضعت الرسائل في مغلفاتها بسرعة كبيرة بحيث لم تهتم بدقة طيها أو أي شيء آخر. ثم بدلا من أن تتصل بالمحاسبة لتعلمهم بأن بريد السيد كين جاهز للتسليم، أخذته بنفسها، وهناك تلكأت لحظات لتتحدث إلى سكرتيرة المدير المالي قبل أن تعود إلى الطابق الأعلى.

عندما دخلت إلى مكتبها كان لوكاس يتحدث في هاتفه الخاص، فدارت في المكتب تجمع أشياءها ومعطفها، وتحرص على أن تترك كل شيء منظما. ثم خرجت إلى المصعد وكأن الشيطان يلاحقها.

لم تتعود قط أن تخرج دون أن تلقي عليه تحية المساء، ولم يحدث أن خرجت قبل الخمسة فالساعة الآن هي الخامسة إلا ربعا... ولكن هذا كله غير مهم. فإذا كان عليها أن تواجه لوكاس الليلة، وتنظر إلى هاتين العينين الساخرتين وتلمح فيهما المعرفة بضعفها، ستنهار. إنها تعلم هذا.

ولم تسمح لأول دمعة ساخنة بأن تسيل على خدها، إلا بعد أن أصبحت آمنة في سيارتها، وانطلقت مبتعدة عن الشركة.

safsaf313 21-08-09 09:48 AM

4 ـ إنذار القلب



بعد صنع رجل ثلج مع ميلودي، وتحضير حساء حار وكعك طري مدهون بالزبدة، شعرت كيم بتحسن قليل.

وقفت عند الحوض تغسل أواني الشاي بعد أن أرسلت ميلودي إلى غرفتها لترتبها، فاعترفت بأنها تصرفت بشكل بالغ الحماقة لأنها وقفت هناك كشخص فقد إدراكه، وراحت تحدق في وجهه. ولكن ربما لم يكن يعلم ما تفكر فيه!

ذلك أنها هي نفسها لم تدرك ذلك إلا بعد أن أحجم عن معانقتها.

تنهدت بخفة وهي تنظر من النافذة إلى الحديقة الخلفية بعينين لا تريان، وبادلها الرجل الثلجي التحديق بعينين لا تطرفان.

الشيء الجنوني هو أنها لم تكن تريد منه أن يعانقها، خاصة في وضح النهار. كان هذا آخر ما تريده، فحتى لو لم يكن لوكاس كين رئيسها، لما فكرت في أن تنشئ معه علاقة ولو بعد مليون عام... لا هو ولا غيره. وخصوصا هو. فهو رجل مستبد، وبالغ القوة جسديا وذهنيا، وبالغ القسوة والبرودة والسخرية. وهو جذاب للغاية، بذلك حدثها صوت ضئيل في داخلها، ومدفوعا بضميرها الصادق.

آه.. مهما يكن... وغطست يديها في ماء الصابون الساخن، غاضبة من نفسها ومن لوكاس كين ومن العالم أجمع. لم تعد تفهم نفسها، وتلك هي المشكلة، أو ربما لم تعد تثق بنفسها. فهو لم يتقرب إليها... وفي الواقع، أظهر بوضوح، بعد ظهر ذلك اليوم، أنها لا تجذبه أكثر مما تجذبه ورقة خس... وهكذا عليها أن تتقبل فكرة أن المشكلة كانت مشكلتها هي وحدها.. وخفف هذا الإدراك عنها قليلا.

لسبب ما، كان تأثير لوكاس فيها أكثر من تأثير أي رجل آخر من قبل.

وجمدت يداها مرة أخرى وشردت عيناها. عليها إما مواجهة الحقائق وكبح مشاعرها الحمقاء، والحرص على ألا يتكرر ما حدث بعد ظهر هذا اليوم، وإما ترك العمل. كان الأمر بهذه البساطة. وإذا هي تركت العمل، فسيكون معنى ذلك الوداع للراتب الرائع، والوداع للسيارة، وربما أيضا الوداع للبيت، لأنها غير واثقة على الإطلاق من أنها ستحصل مرة أخرى على وظيفة كهذه. أيمكنها حقا أن تجد تبريرا لسلب ابنتها ميلودي ما بإمكانها أن تعده لها من مستقبل لامع؟ لمجرد أنها تجد رئيسها أكثر الرجال جاذبية منذ نزل آدم إلى الأرض؟ لا، ليس بإمكانها ذلك.

وعادت تغسل الأطباق بشكل آلي. عليها أن تذهب إلى العمل غدا وكأن شيئا لم يحدث. لقد اشتغلت ثلاثة أشهر وبإمكانها أن تتابع ذلك، على العقل أن يسيطر على الأمور.

كان رنين جرس الباب راحة لها من أفكارها، لكن حاجبيها ارتفعا وهي تذهب لتفتح الباب. لا يمكن أن يكون القادم سوى ماغي، لكن صديقتها نادرا ما تأتي دون إنذار مسبق. أتراها تشاجرت مع "بيت" مرة أخرى؟ يبدو أن الأمور تتجه من سيء إلى أسوأ، وهي تعلم أن ماغي قد قرب صبرها من النفاد بسبب عدم تمكنه من التصميم على الزواج. يا للرجال! وفتحت كيم الباب مقطبة الجبين.

أساس مشكلتها الحالية والحقيقية كان واقفا أمامها... ومضت لحظة لم تستطع أثناءها إلا الوقوف جامدة تحدق في وجه لوكاس وهي تقلد سمكة في الحوض، فتفتح فمها ثم تغلقه من دون سبب. وسمعته يقول ببرودة:" آسف لقدومي إلى بيتك بهذا الشكل، لكنني حاولت الاتصال بك منذ قبل السادسة. أظن أن الجو وتساقط الثلج مؤخرا قد عطل بعض خطوط الهاتف"

وحدقت إليه بجمود. لم تسمع رنين الهاتف منذ دخولها إلى البيت، وإن يكن نادرا ما يرن في الواقع.

سألها بصبر:" هل يمكنني الدخول؟"

فهتفت:" ماذا؟"

ثم تداركت نفسها وقد احمر وجهها: "آه، نعم. طبعا تفضل بالدخول"

بدا أسمر، كبير الحجم بشكل لا يصدق في البهو الصغير المدهون بلون القشدة. وعندما أشارت له بالدخول إلى غرفة الجلوس، أبقت بينهما مسافة، ثم انتقلت إلى الناحية الأخرى من الغرفة حالما تمكنت من ذلك، مبتعدة عن وجوده المثير لاضطرابها.

كان يلبس معطفا قاتم اللون فوق بذلته فزاد ذلك من تأثير مظهر الرجولة الفياضة منه، ما جعلها تتلعثم:" ألا... ألا تتفضل بالجلوس؟"

شكرها، ثم فك أزرار معطفه وجلس على الكرسي الذي أشارت إليه واضعا ساقا على أخرى بشكل رجولي تماما. ظنت أنها بحاجة إلى أربع عشرة ساعة على الأقل قبل أن تستطيع مواجهته مرة أخرى.

الذكرى المحرقة لما حدث بينهما بعد الظهر، وخفقان قلبها العنيد أخرسها تماما. لماذا هو هنا؟

وإذا بلوكاس يجيب عن السؤال الذي لم تتلفظ به قائلا بهدوء وبصوت جامد:" كنت أبحث عن التقرير المالي الذي أحضرته كلير اليوم. لقد وضعت عليه ملحوظة أطلب فيها منك أن تتثبتي من رقمين فيه، وافترضت أنك أجلت ذلك إلى الغد، لكنني عندما بحثت عنه على مكتبك لم أعثر عليه. وأنا بحاجة إليه لكي أنهي العمل عليه الليلة مع ملف كلاركسن "

ـ التقرير المالي؟ كان مع الأوراق التي أخذتها إليك بعد الظهر.

فقال بنفس الصوت الفاتر:" أعلم هذا. لقد نظرت فيه ووضعت الملحوظة ثم أعدته إليك مع الرسائل التي ستُرسل الليلة"

تابعت التحديق فيه، لكن ظنا فظيعا أخرسها عن الكلام.

لم يتغير التعبير في عينيه الفضيتين، كما لم يتكلم مرة أخرى. ولكن، بشكل ما، ورغم مظهره الهادئ الجامد، أدركت أن الظن نفسه ساوره. فسألته بفتور:" هل أنت واثق من أنك أعدته إلي؟"

فأومأ بالإيجاب.

ـ و... ولم تجده؟

فهز رأسه.

شعرت بالغثيان، وانقلبت معدتها رأسا على عقب. وقالت بتعاسة:" أنا لم.. لم أره"

ـ ماذا يعني هذا؟

أخافتها فداحة هذه الغلطة الشنيعة. لم يكن تفكيرها قويما عندما وضعت الرسائل في أغلفتها وهذا يعني أنها ربما وضعت التقرير في واحد منها. كان التقرير سريا ويشكل وثيقة لعدد من العملاء. فإذا وضع التقرير خطأ في إحدى تلك المغلفات...

لم تحاول كيم المراوغة، بل جذبت نفسا عميقا لم يخفف من عنف خفقان قلبها:" لا بد أنني أرسلته خطأ مع إحدى تلك الرسائل، أنا آسفة للغاية يا لوكاس"

ـ هل لديك فكرة في أية رسالة؟

أرادت أن تغمض عينيها وتعتصر يديها، أو على الأقل أن تتأوه بصوت عال، لكنها هزت رأسها والحزن في عينيها وهي تكرر:" أنا آسفة كثيرا... أنا آسفة حقا... لا عذر لمثل هذا الإهمال. وأنا طبعا، سأستقيل على الفور"

ـ أنا لا أريد منك أن تستقيلي، يا كيم، بل أن تفكري وتخبريني في أي رسالة وضعت ذلك التقرير اللعين

ـ لا أدري.

وجاء قولها هذا بما يشبه النحيب:" قد يكون في أي واحدة منها"

لم يعد صوته جامدا: " بما في ذلك الرسائل الموجهة إلى تيرنرز و بريدون؟"

ـ نعم.نظرت إليه بعجز. كيف أمكنها أن تكون عديمة المسؤولية، ومهملة هكذا؟ إنها النهاية، عليها أن تستقيل، حتى ولو لم يطلب منها ذلك حاليا، فهو لن يثق بها مرة أخرى أبدا.

عبثا حدثت نفسها بأنها كانت تعاني من أسوأ نوبة من الذعر عرفتها في حياتها، وأن السقوط بين ذراعيه ولو للحظات قصيرة، سبب لها من المشاعر ما لم تكن تتصور أنها ستشعر بها مرة أخرى... أو في الحقيقة، لم تشعر بمثلها قط، لأن غراهام، حتى أثناء أيامهما المرحة في الجامعة، لم يلهمها قط مثل هذه المشاعر.

لو يرغب لوكاس كين في سماع كل هذا، حتى لو استطاعت أن تخبره به، وهذا مستحيل بالطبع... وهي تفضل الشنق على ذلك، والغرق، والتقطيع إربا إربا.

ـ ماما.

عندما رأت كيم ابنتها واقفة عند العتبة، انتبهت إلى لوكاس وهو يرفع رأسه بحدة، لكنها سارت مجتازة الغرفة وهي تقول برقة:" لا بأس، يا حبيبتي، أنهي ترتيب غرفتك، وسأصعد إليك بعد دقيقة"

ـ لقد أنهيت ذلك.

كانت ميلودي قد أحست بشيء ما في الجو، فلم تقبل الابتعاد دون أن تحتج، فقالت تقاطع أمها وهي تنظر إلى العينين الفضيتين قائلة بصراحة الطفولة:" مرحبا. أنا ميلودي ألن"

ـ كيف حالك يا ميلودي؟ أنا لوكاس كين.

قالت ميلودي باهتمام:" أمي تعمل عندك"

أجابت كيم بلهجة غير عادية أثارت انتباه ميلودي:" هذا صحيح يا حبيبتي. اذهبي الآن واستعدي لأخذ حمامك"

ولسبب ما لم تستطع كيم تفسيره حتى لنفسها، لم تشأ لابنتها أن تتحدث إلى هذا الرجل. أومأت ميلودي التي تراجعت خطوة إلى الردهة لكن طبيعتها الودود وفضولها الطبيعي كانا أكثر مما تحتمل، فرفعت صوتها تخاطب لوكاس:" لقد صنعنا رجلا من الثلج وأكلنا كعكا بالزبدة مع الشاي. هل رأيت رجل الثلج؟"

ـ لم أره بعد لكنني أحب أن أراه. ربما بإمكانك أن تريني إياه بعد أن تنهي حمامك

قال هذا باسما وهو يبتسم لهذه الصورة المصغرة الفاتنة عن أمها الرائعة الجمال.

كان الأمر يخرج من يد كيم:" أنا لا أسمح لميلودي بأن تستحم بنفسها"

قالت هذا بسرعة، وهي تتمنى أن يذهب. فقد ذهبت الرسائل إلى البريد وليس بإمكانها أن تفعل شيئا الليلة لكي تصلح الوضع. ستستقيل، وتذوق الإذلال والتحقير وكل ما سينزله بها من عقاب غدا. لكنها لا تستطيع أن تحتمل رؤيته في بيتها، أو متحدثا إلى ابنتها. ذلك يجعله إنسانا... أكثر مما ينبغي.

ـ يمكنني أن أنتظر.

تحدتها عيناه الفضيتان لقول المزيد، فعلمت كيم أنه قرأ أفكارها مرة أخرى.

ـ ولكن لا بد أنك مشغول جدا...

فكرر قوله بنعومة:" يمكنني أن أنتظر"

ـ هل تحب الكعك بالزبدة؟

بدا واضحا أن ميلودي قررت أن حديث الكبار قد طال أكثر مما ينبغي:" بقي لدينا بعض الكعك ويمكنك أن تأخذ واحدة إذا شئت"

رفع لوكاس بصره من وجه ميلودي الحلو القاتم العينين إلى وجه أمها المذعور. ولاحظت هي أن فمه ملتويا وعينيه الفضيتين تلمعان بتسلية خفية وهو يقول بجد بالغ:" أنا أحب الكعك بالزبدة كثيرا. وبما أنني لم أتناول الشاي بعد، فهذا يبدو لي عظيما"

( عظيم) إنها ليست الكلمة المفروض أن يستعملها. ونظرت بعجز، إلى ميلودي، ثم إلى لوكاس الذي كان يبادل ابنتها الضحك، فأدركت أن هذين الحاذقين قد أخرجاها من حسابهما.

تمتمت بضعف:" ألم تأكل بعد؟"

فقال ساخرا:" لا يا كيم. لم آكل"

لم تصدق هذا! أي شيء في العالم جعلها في هذا الوضع؟

أخذت تسأل نفسها بقنوط وأضافت:" لدينا حساء ساخن وخبز وكعك بالزبدة والمربى"

استطاعت أن تقول هذا بشيء من الوضوح بالرغم من الشعور بالاختناق:" ولكن بإمكاني أن أحضر عجة أو بيتزا إذا شئت"

ـ بل حساء وكعك بالزبدة هو ما يعجبني.

كان يتحدث معها لكنه يبتسم لميلودي أثناء ذلك وهذا ما خطف أنفاس كيم.

رأت أن تعد طعام لوكاس قبل أن تأخذ ميلودي إلى الحمام، لكنها لم تشأ أن تترك ابنتها مع رئيسها. لم تشأ لهما أن ينسجما مع بعضهما البعض... أن تحبه ميلودي. كانت أفكارها تتسارع، فهي تريده منفصلا تماما في ذهنها. تملكها الذعر ولم تجرؤ على التساؤل عن السبب. كل ما كانت تشعر به هو أن هذا ضروري.

ـ أتريدين أن تأتي لتساعديني على أن نجهز الصينية للسيد كين؟

وبالرغم من رقة صوت الأم، أدركت ميلودي أنه طلب وليس سؤالا، فأومأت مطيعة.

انتبه لوكاس إلى ما تعنيه كيم بقولها ( السيد كين)، لكن عينيه تابعتا الابتسام للفتاة الصغيرة:" شكرا يا ميلودي، وأنا متشوق إلى رؤية رجل الثلج فيما بعد"

ـ كن مرتاحا وسأحضر لك قهوة حالا.

فاجأتها ذكرى حية لغراهام وهو يجرع نصف زجاجة فودكا، ثم يستغرب لماذا رفضت أن يأخذها مع ميلودي في السيارة إلى المتاجر. وقد انتهى ذلك بمشاجرة عنيفة، وضربها.

ـ كيم؟

لا بد أن شيئا من أفكارها بدا على وجهها، لأن صوت لوكاس كان شديد الاهتمام، فأدركت كيم أنها كانت تحدق إليه دون أن تراه. أحذت تغمغم بأنها نسيت موقد الغاز مشتعلا ثم هرعت إلى الردهة بسرعة مغلقة الباب خلفها.

وبينما راحت ميلودي تثرثر أثناء تسخين الحساء والكعك بالزبدة، كان عقل كيم يغلي. لن يظن أنها غير كفؤة وحسب، بل أنها مهملة في بيتها أيضا. فهي تترك الغز مشتعلا.

أرسلت ميلودي إلى الطابق الأعلى لتبدأ بخلع ملابسها ثم أخذت الصينية إلى غرفة الجلوس. اعترفت بصمت، وهي تدير مقبض الباب بأن الأمر سخيف حقا، ولكن الطريقة السهلة التي انسجم بها لوكاس مع الطفلة أزعجتها. وهو يزعجها دوما، لكنها لم تتوقع أن يعرف كيف يتحدث إلى الأطفال. كانت تظنه، مع الأطفال، أكثر برودة مما هو مع الكبار. لكنه كان مع ابنتها دافئا سهلا وقد تبددت كل صلابته الطبيعية، ولم يعجبها ما جعلها تشعر به.

عندما دخلت إلى الغرفة، كان لوكاس قد خلع معطفه وسترته، وأرخى ربطة عنقه. وعندما نظرت إليه جالسا مسترخيا أمام مدفأة الحطب، شعرت برعشة شملت كيانها.

ـ ما أجملها، كونها نارا حقيقية.

وكان صوته عميقا منخفضا وعيناه لا يُسبر غورهما.

أومأت كيم بتوتر، وهي تراه يستقيم فيي جلسته فشعرت بما يشبه الذعر وعيناها تتسمران على قوته وصلابته وقالت بتوتر:" أصحاب البيت السابقون لم يحبوا التدفئة الصناعية، وحذونا نحن حذوهم"
منتديات ليلاس
واحمرت وجنتاها وهي تناوله الصينية:" بوجود التدفئة المركزية البيت دافئ للغاية، لكن منظر النار مريح للغاية في ليالي الشتاء"

أدركت كيم أنها تسرع في كلامها. لكنها كانت من الاضطراب بحيث كان كلامها معجزة.

رائحتها أشبه برائحة التفاح والورد وبودرة الأطفال. أخذ لوكاس يفكر بذلك فيما جسده يتجاوب مع قربها منه بجوع وشغف بالغين، لكنه أبقى صوته هادئا وهو يقول:" هذا يبدو رائعا. شكرا"

ـ هذا أقل ما يمكنني عمله، في هذه الظروف.

انتبهت إلى أن هذا ليس ما كانت تنوي أن تقوله تماما، أو بالأحرى تنبهت لرد فعله على كلماتها البريئة... فقد رفع حاجبيه ساخرا، والتوى فمه مشيرا إلى أنه أخطأ في تفسير جوابها المهذب ما جعلها تفر هاربة من الغرفة كفأرة مذعورة.

حسنا، ما أحسن تصرفه هذا! واستندت إلى الباب الذي أحكمت إغلاقه وقد تملكها القنوط والانزعاج لعدم كفاءتها. إن الأحوال بينهما تتحول من سيء إلى أسوأ.

لم تخفف ميلودي كثيرا من سوء الوضع عندما جلست في حوض الحمام وأخذت أمها تساعدها في غسل شعرها، إذ قالت: " أنا أحب لوكاس"

كان هذا بيانا واضحا. وكانت ميلودي معتادة على البيانات الواضحة ونادرا ما كانت تغير رأيها.

فقالت كيم بصوت بالغ الهدوء:" السيد كين يا حبيبتي، يجب أن تدعيه السيد كين"

غضنت الصغيرة أنفها بحيرة:" ولماذا؟"

ـ لأن.. لأن هذا من باب التهذيب لأنه رئيس ماما.

ـ أنا إذن أحب السيد كين. وأنت يا ماما؟ هل تحبين السيد كين؟

ـ طبعا أحبه. هل تريدين البيجاما برسوم الدببة، أم برسوم الأزهار، هدية الميلاد من العمة ماغي؟

نجحت في إلهاء الطفلة، فقد كان هذا اقتراحا هاما يستدعي التفكير.

مضت عشر دقائق قبل أن تقود كيم ميلودي كملاك في بيجامتها المزينة بأزهار زرقاء صغيرة إلى غرفة الجلوس لتحيي لوكاس تحية المساء، ولكن كان لدى لوكاس وابنتها رأي آخر.

ـ أعجبتني بيجامتك.

كان هذا أول ما قاله لوكاس لميلودي، وما كان لأي شيء آخر أن يزيد احترامه في عيني ميلودي.

فاشتبكت عيناها الداكنتان الكبيرتان بالعينين الفضيتين:" اشترتها لي العمة ماغي. وبابا نويل اشترى لي خفي هذا وهدايا كثيرة كثيرة"

لوى لوكس وجهه بشكل مضحك:" يا لك من محظوظة. فهو لم يحضر لي شيئا"

ضحكت ميلودي بشكل تآمري:" هذا لأنك رجل كبير يا للغباء!"

ـ هل هذا هو السبب؟ لقد استغربت ذلك.

ازدادت ميلودي ضحكا. واقتربت لتقف بجانبه واضعة يدها على ركبته:" يمكنك أن تأخذ إحدى حبات الشوكولا التي عندي إذا شئت. عندي علبة كبيرة وأمي تسمح لي بواحدة فقط كل ليلة لأنها لا تريد أن تتسوس أسناني"

ـ يا لأمك الحكيمة!

كان لكل ذلك وقع الإنذار في ذهن كيم، ولكن قبل أن تستطيع قول شيء، كان لوكاس قد انحنى وحمل ميلودي يضعها على ركبتيه وهو يقول بصوت كالهمس:" ما أريده منك حقا هو أن تريني رجل الثلج فهل هذا يناسبك؟"

ـ نعم.

ولفت الطفلة ذراعيها حول عنقه تبادله الهمس:" اسمه لسيد ثلج. أنا أسميته بذلك"

ـ ليس هناك ما هو أحسن من هذا الاسم.

لم يعجب هذا كيم، لم يعجبها البتة. كانت قد مشطت ضفيرتها، وارتدت بنطلون جينز وكنزه قبل أن تذهب إلى الحديقة مع ميلودي. والآن ربطت إلى الخلف شعرها الكث، وقالت بصوت حاد:" أري السيد كين رجل الثلج، ثم إلى السرير يا حبيبتي"

فقال بصوت هادئ:" بل لوكس. يمكنك أن تناديني باسمي لوكاس يا ميلودي"

شيء ما في لهجته جعل قلب كيم يخفق.

ـ لكن ماما قالت...

والتفتت ميلودي إلى أمها مشوشة الذهن، فسألها لوكاس بنعومة:" نعم؟ ماذا قالت أمك؟"

ـ قالت إن علي أن أدعوك السيد كين لأن هذا أكثر تهذيبا..

فقال لوكاس بنفس النعومة:" ماما على حق. ولكن بم أنني طلبت منك أن تناديني لوكاس، فهذا عمل مهذب. اتفقنا؟"

ـ اتفقن

وأخذت تتلوى بسرور، مفتونة به بشكل واضح، أما كيم فأخذت تصرف بأسنانها غاضبة. ماذا يظن نفسه وهو يرابط هنا يأكل كما يشاء ويعاكس إرشاداتها لابنتها؟ ثم تذكرت سبب زيارته فتلاشى غضبها بالسرعة التي أتى بها.

لقد اقترفت غلطة لا تغتفر، ولديه كل العذر في أن يقتحم بيتها كالعاصفة هذه الليلة. لكنه، بدلا من ذلك، يبدو هادئا متعقلا بشكل محير. لم تكن تعلم ما سيقوله لها عندما يصبحان بمفردهما. لكنها لن تخطئ موقفه أمام ابنتها لأنها مدينة له بشيء من حرية التصرف.

بقيت تكرر هذا لنفسها بينما كان يقف، ثم يلف ميلودي بمعطفه قبل أن يخرجوا، هم الثلاثة، لزيارة السيد ثلج. وكانت ذراعا ميلودي تطوقان عنق لوكاس، لكن كيم رفضت طلب ميلودي أن يقرأ لها لوكاس حكاية قبل النوم.

ـ لا حكاية هذه الليلة يا حبيبتي.

واستلمت ميلودي من لوكاس حالما أصبحوا في أسفل السلم بعد عودتهم إلى البيت، ثم ناولته معطفه بابتسامة متوترة وهي تتابع:" أنا والسيد كين لدينا حديث خاص وهام عن العمل، ولهذا عليك أن تعدي مما بأن تكوني فتاة طيبة وتذهبي للنوم رأسا"

ضمت ميلودي شفتيها باستياء وهي تنظر إلى لوكاس من تحت جفنيها، لكنها عندما رأت الصلابة على وجه أمها، أذعنت ببشاشتها المعتادة.

توقفت كيم عند باب غرفة الجلوس لحظة قبل أن تفتحه شعرة بالغثيان. ثم سوت كنزتها، ومسحت يديها العرقتين ببنطلونها. إذا كان سيصيح بها أو يصرخ، أما ما كان فعل ذلك على الفور؟

عندما دخلت، كان عند النافذة، فقفز قلبها عندما التفت إليها:" لديك ابنة فاتنة. إنها فخر لك"

ـ شكرا لك.

وقفت كيم عند الباب، لا تدري ما إذا كان عليها أن تجلس أم تبقى واقفة. كان هذا بيتها... قصرها الصغير، لكنها شعرت وكأنها ضيفة فيه. كيف جعلها تشعر بذلك؟

ـ ألا تتذكر أباها أبدا؟

لم يكن هذا ما توقعت أن يقوله. وقرأ هو جوابها في إظلام عينيها المخمليتين. ربما ما كان له أن يذكر زوجها مرة أخرى. اعترف لنفسه، لكنه يريد أن يعرف المزيد عن هذه المرأة المتحفظة العسلية البشرة الذهبية الشعر، ولديه شيء يمكنه أن يستغله الليلة وهو شعورها بالذنب بسبب ضياع التقرير. لم يشعر بالندم لأنه فكر في هذه الطريقة، إذ في الأيام الأولى لالتحاقه بشركة الأسرة، كان أبوه قد علمه أن يبحث دوما عن نقطة الضعف في الخصم، ثم يستفيد منها، فوجد في نفسه استعدادا طبيعيا لمثل هذه القسوة.

وكيم هي خصم. وهو لا يعرف تماما كيف حدث ذلك، لكنه كان يعلم هذا بالغريزة. فقد رأته، لسبب ما، عدوا لها، وكان هذا يتعاظم أكثر فأكثر مع كل يوم يمر. ودست يديها في جيبيها:" أبوها؟ لا. إنها لا تتذكر غراهام"

ـ تعالي واجلسي، يا كيم.

وأشار إلى الأريكة بينما عاد إلى كرسيه. ومرة أخرى بدا وكأنها الضيفة وهو رب المنزل.

جلست على حافة الأريكة، ولكن عندما جذب كرسيه نحو الأريكة، جعله هذا قريبا منها للغاية فابتعدت في جلستها، وقالت بصوت رسمي متوتر:" أنا آسفة جدا بالنسبة إلى التقرير، يا لوكاس. إذا كان في المغلف الخطأ فأنا أعلم أي ضرر سيسبب لك هذا... ولهذا ما زالت استقالتي قائمة"

حدق إليها لحظة وهو يميل إلى الأمام ومرفقاه على ركبته. كان حريصا على ألا تلمسها، ولكن عطرها الدافئ ملأ الجو حوله، وكانت حواسه ترى كم تبدو أصغر سنا وشعرها منسدل على كتفيها على سجيته لكن المظهر خداع. فقد كان يشعر بتوترها واضحا.

قال بصوت هادئ عميق أبح قليلا، وبلكنة خفيفة ما سبب الارتجاف لأعصابها:" التحقت بشركة" كين الكتريكال" حال تخرجي من الجامعة. وكنت ما أزال غرا ساذجا لكنني كنت حريصا"

وابتسم لها. فأرغمت نفسها على مبادلته الابتسام وإن لم تتجاوز ابتسامتها شفتيها. وجدت مستحيلا عليها أن تتجاهل رجولته الفياضة.

ـ كان أبي رجلا انكليزيا حذرا أما أمي فكانت امرأة كولومبية مندفعة سريعة الغضب. وهكذا كان علي أن أتعلم كيف ألطف من جينات أمي المتفجرة، وأنحو نحو أبي في طبعه. وقد نجحت في معظم ذلك.

أومأت كيم. إذن لكنته هذه من أمه.

أدرك لوكاس أنه استحوذ على انتباهها، فعاد يقول:" على كل حال، في أول سنة لي في العمل عند أبي، كانت جينات أمي تسيطر. وأنا أفضل هذا التعبير كعذر على حماقة وجهل الشباب. فأقدمت على مجازفة كبيرة للغاية. ولم يكن ثمة ضرورة لها كما أظن، ولكن ربما شعرت بالحاجة إلى إثبات ذاتي. لا أدري. وعلى كل حال، كانت تلك غلطة هائلة كادت تدمرنا، تبدو غلطتك بالمقارنة معها، شيئا ضئيلا تافها ولم أقترف تلك الغلطة مرة أخرى قط"

كان ينظر إليها مقربا وجهه منها، وعيناه تتفحصان وجهها، ثم قال برقة فائقة:" وأنت لن تقترفي مثل هذه الغلطة بعد الآن، يا كيم"

ولأمر ما، أحست بأنه يتحدث عن أكثر من غلطتها بالنسبة إلى التقرير.

سحبت نفسا عميقا، وغالبت دموعا مفاجئة أوشكت أن تسيل من عينيها:" يسرني أن تفكر بهذا الشكل، لكنني أدرك أن هذا مربك لك جدا"

قالت هذا بفتور، وحرصت على أن تبقى ملتصقة بقضية اليوم، رافضة الاعتراف بأي مضمون خفي في ما يقول.

ـ أنا لا أرتبك بسهولة.

وابتسم وقد التوى فمه، دون وعي منه، بشكل ساحر فانحبست أنفاسها.

وهجنار المدفئة، والقوة والدفء والجاذبية التي لا تقاوم والمستمدة قوتها من مغناطيسيته السمراء، كل ذلك كان مغريا للغاية، خطرا للغية، فقفزت كيم، مثيرة دهشتهما معا، قائلة:" قهوة. سأحضر القهوة"

ـ رائع.

كان صوته طبيعيا وهو يقف بدوره ويمسك بيدها من دون أن يظهر على وجهه الغضب الذي شعر به لأنه أحس بها تتصلب مرة أخرى للمسته:" انسبي ذلك إلى زيادة الخبرة، يا كيم. تعلمي، خذي الإيجابي من الأمر ودعي السلبي، ولا تدعيه يعيقك"

كان يتكلم عن أكثر من مجرد العمل. فترددت ثم رفعت رأسها تقابل عينيه بحذر:" قول ذلك أسهل من فعله"

ـ ممكن

شعر بها ترتجف قليلا، فكبح دافعا قويا كان يحثه على أن يأخذها بين ذراعيه معانقا.. صدمته قوة مشاعره، فهو لم يصعب عليه قط التفريق بين المتعة والعمل، بل كان يزدري في الماضي الجمع بينهما.

بدا وكأن حرارة يديه تسربت إليها وسرت في أعصابها وكل كيانها فألهبت جسدها بتيار كهربائي غريب. ماذا سيكون شعورها عندما يعانقها شخص مثل لوكاس كين؟ تخلت عن مقاومة هذه الفكرة التي كانت تتملكها معظم الليالي. إنه يعرف كيف يحرك مشاعر أي امرأة وذك باد في عينيه، في جسده، وفي طريقة سيره وحركاته حتى...

سحبت يدها من يده، مخفية هذه الحركة بضحكة قصيرة متوترة:" هذا لن يجهز القهوة"

يبا للقهوة. وابتسم لها متهكما:" هل يمكن أن أساعدك؟"

أسدل أهدابه الكثيفة السوداء يخفي عنها مشاعره، وكان صوته منضبطا وهو يعود إلى الجلوس:" لا ضرورة للسرعة"

لا ضرورة للسرعة؟ عندما أصبحت في المطبخ، أراحت جبينها على جانب الخزانة البارد، وأخذت تتنفس بعمق لعدة ثوان. وكانت ساقاها ترتجفان ويداها ممتلئتين شوقا من لمسته.

ربما لم يكن مستعجلا، لكنها تريده أن يخرج من بيتها في أسرع وقت ممكن.

كان خطرا. وابتعدت عن الخزانة إلى النافذة تنظر منها إلى حيث كان رجل الثلج يقف بصبر في عالمه الأبيض المتجمد. وتذكرت كيف تعلقت ميلودي بلوكاس وهو يتحمس لما صنعتاه.

خطر جدا جدا! وضاقت عيناها، وشعرت بشيء بالغ البرودة يطفئ الحرارة في داخلها وهي تحضر القهوة.

لو أن غراهام لم يمت حينذاك، لتركته خلال أسابيع، إن لم يكن أيام، على كل حال. ذلك أن شتائمه لها عندما كان يسكر ازدادت فحشا. وحادثة التسوق جرت قبل موته بيوم واحد. كانت حينذاك قد علمت أن نهاية زواجهما وشيكة فهي لن تجازف بتعريض ميلودي للخطر.

لم تعد تحبه في تلك المرحلة. وبقيت أشهرا تمقته ولكنها بقيت معه لأنه هددها بإيذئها وإيذاء ميلودي فيما لو تركته.

وذلك الصباح حين ضربها قطع آخر خيط يربطها بذلك الزواج. صادف أنها هي التي كانت في خط النار حينذاك، وسوف تكون ميلودي في المرة التالية، وهذه الفكرة محبطة بالنسبة لها..

ولكنها لم تعد مضطرة إلى المغادرة، فقد مات غراهام. وبالرغم من كل ما كشفه موته، شعرت بقوة، وبعزيمة على بدء حياة جيدة لابنتها. والحياة الجيدة تعني ألا تعرض ميلودي للخطر مرة أخرى.. ألا تسمح لشخص ثالث بأن يقتحم حياتهما. الأصدقاء شيء آخر، فقد كانت ماغي صديقة رائعة. ولكن، رجل....

لقد ارتكبت خطأ فظيعا في اختيار زوجها، وليس بإمكانها أن تثق بأن ذلك لن يحدث مرة أخرى.

لقد أحبت ميلودي لوكاس، وربما كان لطيفا ودودا معها بسبب حادثة التقرير المالي. لكنها لن تجرؤ على أن تسمح لمثل تلك العلاقة بأن تنمو بينهما.

ستفعل أي شيء لأجله، وتقوم بأي شيء يستدعيه العمل.. فهي مدينة له بذلك على الأقل.. لكنها ستبقيه بعيدا عنها. قد يجعل الأشياء مربكة أحيانا، ولكنها ستجتاز ذلك إذا اقتضى الأمر.

أومأت بحدة لهذه الصورة الذهبية الشعر التي عكستها النافذة، ثم أنزلت الستارة المعدنية فجأة وأخذت تعد صينية القهوة وقد زمت فمها بحزم ما جعله يختلف تماما عن شكله الطبيعي الناعم.

safsaf313 21-08-09 09:49 AM

5 ـ دعوة على العشاء




في الأسابيع التالية، اكتفى بسؤالها باختصار عن ميلودي، مبقيا علاقتهما مركزة على العمل.

كان التقرير المالي قد عاد خلالا يومين من صديق للوكاس، حائر نوعا ما، وكان ذلك أجمل حدث يمكن للوكاس أن يتوقعه.

مرّ شهر شباط بمزيد من الثلوج، ووقت قلق في المكتب بسبب العقد بينهم وبين كلاركسن. وكان الجو في آذار ألطف، ولكن مع نهاية الشهر وجدت كيم نفسها تتساءل عما إذا كانت علاقتها مع رئيسها المفعم بالحيوية هي فعلا من البرودة والانضباط كما تظنها.
منتديات ليلاس
لقد استطاع أن يتغلغل في أعماقها بشكل ما، فهو يملك روح فكاهة بالغة المكر، ولم يكن لينفر من السخرية على نفسه وهذا ما كان غريبا على كيم بعد غراهام المعتد بنفسه. ووجدت نفسها تضحك عشرات المرات يوميا.

وكان أحيانا يذكر حقائق صغيرة شخصية عنه وعن أسرته حتى في أكثر أوقات النهار انشغالا. أصبحت تعلم أن والديه يعيشان حاليا في فيلا تغمرها الشمس، وأن العديد من الأخوال والخالات وأبنائهم يقيمون حفلات عائلية جنونية عندما يزورون والديه في فلوريدا، وأن والده كان وحيد والديه وأقاربه الانكليز قليلي العدد.

كانت كيم تعلم أن لوكاس يقيم في منزله الريفي الواسع القائم بعيدا عن حدود المدينة، مع مدبرة المنزل وتشكيلة من القطط لمارتا، وكلبين ضخمين للوكاس.

لم تكن تعرفه مغرما بالحيوانات قبل أن يذكر لها وضع بيته، ولم تتوقع أن يكون من الرجال الذين يتعاطفون مع السيدات المسنات.

صورة ذلك الرجل الأعزب المستقل، الهادئ البارد المسيطر على مشعره والبالغ الثراء، اهتزت، وعندما ارتكبت تلك الغلطة بإظهار دهشتها والرأي الذي كونته عنه، اعترف لوكاس، بكل ظرف، بأنها لو عرفته منذ سنوات قليلة، لصُعقت.

كانت تريد، بل كانت بحاجة ماسة، للاحتفاظ به في صندوق أنيق في ذهنها ولكن ما يبدو واضحا أنه مصمم على الهروب منه. وبشكل ما، ودون أن تعرف كيف فعل ذلك، استطاع أن يرسم صورة في ذهنها مختلفة كليا عن تلك التي تريد أن تراها حين تنظر إليه. لو أنه يتحداها بشكل مباشر، لعرفت كيف تواجه لوكاس الرجل وليس لوكاس ملك المال الخالي من الرحمة. لكنه كان يتسرب إلى نفسيتها قطرة قطرة..

كان بالغ الذكاء، متصلبا في وضع الخطط. لقد رأته يفعل ذلك مرات كثيرة في العمل وعجبت كيف أن خصومه لم يكونوا واعين إلى ما يفعل، ولكن ما لم تدركه أنه لوكاس يمارس الشيء نفسه معها.

ولكن ألا تتصور كل هذا؟ وجلست في سيارتها عدة لحظات تفكر قبل أن تفتح الباب.. فمهما يكن، هي لا تستطيع أن تتخلى عن حذرها مع لوكاس... حتى ولا لحظة. كان هذا واضحا كالبلور.

كان الجو رطبا معتدلا لكن الهواء عاصف. ورغم أن موقف سيارتها كان على بعد ياردات قلائل من الباب الرئيسي للشركة إلا أن الريح أفلتت خصلات عدة من شعرها الذهبي الذي كان مربوطا بإحكام كالعادة على رقبتها.

كان تشارلي، الحارس، يقف في ردهة الاستقبال الخالية الهادئة... فقد كان الوقت مبكرا بالنسبة لبقية الموظفين، فقال لها على الفور:" الكهرباء مقطوعة، مع الأسف، يا سيدة ألن. كل الأنوار مطفأة والمصاعد متوقفة. لكنهم طمأنوني إلى أن الانقطاع لن يطول"

ـ شكرا. يبدو أن علي أن أستعمل السلم.

ومنحت الرجل العجوز ابتسامة عريضة قبل أن تتوجه إلى السلم خلف مكتب الاستعلامات المظلم على غير عادة، لتصعد السلم راكضة، وذهنها مشغول بأول ما عليها أن تفعله في الكتب من أمور ذلك النهار.

خرجت من باب الحريق إلى ممر الطابق الأعلى المضاء بمصباح الطوارئ الخافت، وما زال ذهنها مشغولا بعملها الوشيك، وإذا بها تندفع مباشرة إلى ذراعي رئيسها بقوة دفعتهما معا إلى الجدار البعيد. طوقها بذراعيه يحميها بحركة غريزية فالتصقت بصدره، وعندما رفعت إليه وجهها المتوهج اللاهث، وشعرها الذي شعثته الريح يحيط بخديها المتوردتين، لم يحاول أن يفلتها من بين ذراعيه.

الممر الخالي، الغياب الكلي لكل صوت أو حركة، جعل هذه اللحظة غير واقعية، أشبه بذكرى حلم غمض، وبدت جزأ من الحلم عندما أحنى رأسه وبدأ يعانقها عناقا طويلا، زاد من احتضانها ضاغطا بكفه رأسها من الخلف يحثها على مزيد من التجاوب مع عناقه الجائع... ولكنها في الواقع لم تفكر للحظة في مقاومته.

لقد استطاع ببراعته الفائقة أن يأخذ موافقتها بدون استئذان وبدون أن تستطيع الرفض. والآن، في آخر هذا الممر المعتم الساكن، امتزج الحلم بالحقيقة بفرح مدمر.

سرى الدم ساخنا في شريينها وألهب كل عصب في كيانها وعندما غمرت الفرحة قلبه وراح قلبها أيضا يعبر عن فرحته بنوع من الارتباك بسبب هذه الشاعر التي تملكتها فقدت كل فكرة عن المكان الذي تقف فيه. فقد كان عقلها ومشاعرها مأسورة تماما بالأحاسيس التي حركها فيها بسهولة فائقة. إنها العناق الذي لطالما حلمت به وهي مراهقة رومانسية قبل أن تعلمها الحياة أن هذه الأشياء غير موجودة إلا في دنيا الأوهام. لكن هذه كانت حقيقية. كانت موجودة الآن.

كانت تبادله عناقه بالطريقة التي كانت تقوم بها في أحلامها، من دون تحفظ.

إن ما تشعر به الآن فوق إدراكها... إنها السعادة... السعادة التي لطالما قرأت عنها ولم تتصورها قط بهذه الحرارة الملهبة، والمخيفة إلى هذا الحد.

لم تنتبه إلى تألق الأنوار المفاجئ بسبب أجفانها المغمضة، لكن صوت المصعد جعلها تفتح عينيها ذاهلة، أو ربما السبب هو أن لوكاس قال بصوت أبح وهو ما زال يحتضنها:" لقد عادت الكهرباء"

كانت ترتجف، كانت تعلم أنها ترتجف. شعرت برعب متزايد لاستسلامها لعناقه بمثل هذا الشغف، وبسبب شعورها بالحرمان... حرمانها من كل هذه المشاعر الآن.

ـ دع.. دعني.

وكان هذا همسا خافتا لكنه لم يناقشها، وبدت عيناه كالفضة اللامعة وسط خطوط وجهه الصلبة القاسية.

ـ كان هذا عملا غير مقصود يا كيم.

عندما انتفضت مبتعدة عنه، رافعة يديها إلى وجهها، طرقت سمعها هذه الكلمات. أتراه يقول إنه نادم؟ وحملقت فيه بعنف، وعيناها بركتان عميقتان من الحبر الأسود في وجهها الناعم المتوهج. ربما لكنها، من ناحية أخرى، قدمت له نفسها على طبق من وقليل من الرجال يمكنهم مقاومة هذه الفرصة.

ماذا كان ليحدث لو أن الكهرباء لم تعد في الوقت الذي عادت فيه؟

شدت يديها المرتجفتين بعنف إلى جانبيها، وهي تلحظ، بمزيد من الخزي، أن لوكاس كان هادئا تماما ومرتاحا، وجعلها شعورها بالإذلال تقول بصوت مر متوتر:" أتعني أنك شعرت فقط بحافز مفاجئ يدفعك لعمل سريع؟"

حالما أفلتت هذه الكلمات من فمها، تمنت لو لم تقلها... صدمها عدم تهذيبها، لكن الوقت كان قد فات. قالتها، نتيجة للألم والكرب... لكنها قلتها.

وثار غضب لوكاس. عرفت ذلك من إظلام ملامحه وتوتر فكه. لكن صوته كان مناقضا لوجهه وهو يقول ببرودة الثلج:" إذا كنت تعتقدين هذا فأنت تقللين من قدرك"

ردت عليه بحدة:" بل أنت الذي يقلل من قدري"

ـ أنت إذن مخطئة. لو كنت امرأة أخرى لما توقفت عند حدود العناق، صدقيني.

ماذا يعني بهذا؟ هل توقف لأنها لم تعجبه كثيرا أم لأنها سكرتيرته. أم ماذا؟ فقالت وحدة ومرارة:" هل تتوقع مني أن أكون شاكرة لك لأنك لم ترغمني؟"

ـ لم أرغمك على شيء فقد تجاوبت معي في كل لحظة منذ عناقك.

أصبح صوته الآن ناعما ساخرا بينما عيناه تتحديانها أن تجرؤ على الإنكار. فانفجرت متهكمة:" لا أظن ذلك!"

فقال وعيناه في عينيها:" لكنني أعلم هذا. إنما عندما ستتطور الأمور فلن يكون ذلك أثناء العمل وهذا وعد مني بذلك"

حدقت إليه وقد فوجئت وشعرت بخوف لم تعرفه في حياتها. ولكن ليس من لوكاس، وإنما من الشعور العميق الذي أثارته كلماته البطيئة. أرادت أن تكرهه أو على الأقل أن تنفر منه لكنها لم تستطع. كما أنها لم تستطع أن تدعي أنه ليس سوى شخص تعمل عنده ثم تصرفه من ذهنها حالما تغادر مبنى الشركة. فقد تسلل إلى حياتها بشكل أكثر مهارة من أن تستطيع منعه.

رفعت رأسها بتمرد:" سأستقيل"

ـ لا تكوني طفلة

وقبل أن تتمكن من قول شيء، مر بجانبها وفتح الباب المؤدي إلى السلم، تاركا إياها وحيدة ترتجف.

طفلة؟ وحدقت إلى الباب، وقد حيرتها هذه النهاية المفاجئة لما اعتبرتها أهم لحظة في حياتها. طفلة! كيف يجرؤ؟

وقفت لحظة أخرى، ثم أرغمت ساقيها المرتجفتين على السير إلى مكتبها حيث توجهت رأسا إلى غرفة استراحتها الصغيرة.

الفتاة المتوهجة الوجه المتألقة العينين في المرآة، هذه فتاة لا تعرها. وحدقت إلى نفسها دقيقة كاملة قبل أن تستطيع إقناع يديها المرتجفتين بأن تحاولا ترتيب مظهرها المشعث.

طفلة... لقد التصقت هذه الكلمة بذهنها ولم تعد تستطيع سلخها عنه. ربما لأنها اضطرت إلى الاعتراف، بأسف، بعد خمس دقائق فقط من التقييم المؤلم بأن هذه الكلمة لا تخلو من الحقيقة.

لقد تصرفت بشكل خاطئ منذ اللحظة التي لمسها فيها. ما الذي كان ينبغي أن تفعله؟ ما الذي كانت ستفعله أي امرأة طبيعية متزنة ذات تجربة لو كانت مكانها؟ هل كانت ستتقبل العناق بمرح، ثم تخرج من بين ذراعيه برشاقة بعد لحظة أو اثنتين لكي تلقي بتعلق عفوي عما حدث؟ بدلا من ذلك، كادت تأكله حيا، ثم بعد ذلك، اتهمته... لم تشأ أن تفكر في ما اتهمته به. وتأوهت وهي تعيد لفت خصلات شعرها المنفلتة بشدة آلمت جلدة رأسها.

لا بد أنه يظنها على شيء من الجنون. حدثتها المرآة أنها عادت مرة أخرى إلى شخصية السيدة ألن الهادئة الأنيقة الكفؤة، ظاهريا على الأقل. في الواقع، إنها تظن نفسها على شيء من الجنون عندما يتعلق الأمر بلوكاس كين. من المؤكد أن لديه القوة لتحويلها إلى امرأة لا تعرفها. امرأة مختلفة جدا عن تلك المرأة الباردة المتحفظة الحذرة التي كانت تعرفها في نفسها قبل أن تشتغل عنده.

كانت تعمل على الآلة الكاتبة، وعندما سمعت صوته في الممر في الخارج يتحدث إلى شخص ما، قفز قلبها في صدرها لكنها أرغمت يديها على متابعة الطباعة وكل حس فيها في انتظار اللحظة التي يدخل فيها من الباب.

ظنت الصوت الثاني يعود لمدير لوكاس العام الذي كان مكتبه في الطرف الآخر من الممر، لكنها لم تكن واثقة. ذلك أن معظم الأصوات تنخفض في حضور لوكاس.

ثم انفتح الباب. ورغم أنها أبقت عينيها على عملها، إلا أنها أدركت أنه ينظر إليها.

ـ كيم؟

كانت ترجو، لشدة جبنها، أن يتابع سيره وكأن شيئا لم يحدث، ولكن كان عليها أن تدرك أن لوكاس لا يخرج من الأمر بسهولة. فرفعت عينيها بالرغم منها لتقابل عينيه النافذتين وخفق قلبها.

ـ تعلمين أن علينا أن نناقش الأمر بشكل صحيح.

كان هذا بيانا وليس طلبا، لكنها أجابت، فقالت وصوتها من البرودة والحياد بقدر إمكانها:" لا شيء يستوجب النقاش"

ضاقت عيناه وقال:" إذا كنت من الاضطراب بحيث تتقدمين بذلك الاقتراح السخيف عن الاستقالة، فهذا يعني أن هناك ما يستوجب النقاش"

قال هذا عابسا وهو يجلس على زاوية مكتبها كعادته ولكن هذه الحركة كانت ترسل الحمى في أحاسيسها.

لماذا هو جذاب إلى هذا الحد؟ جذاب بهذا الشكل المدمر الذي لا يمكن تصديقه؟ إنها تراهن على أنه ما من امرأة في المبنى، وفي كمبردج كلها، تهدر فرصة للتقرب من لوكاس كين.

أترى لديه صديقة يخرج معها حاليا؟ لم يكن هذا التفكير ملائما على الإطلاق في هذه الظروف ولكنها لم تستطع منع نفسها من ذلك. وأخيرا قالت:" لقد... لقد غيرت رأيي'

ـ طبعا غيرت رأيك. ومع ذلك علينا أن نناقش ما حدث.

قال هذا وكأن فكرتها عن الاستقالة كانت من السخافة بحيث لا تستحق الذكر.

احمر وجهها مرة أخرى. وشعرت به يلتهب، ومع ذلك بدا من البرودة وعدم الإحساس كالصوان المصقول الذي صيغت منه عيناه. لكنه لم يكن باردا ولا غامضا عندما أحاطها بذراعيه. تفكيرها هذا زاد في التهاب وجهها.

قالت بثبات أشعرها بالزهو:" اسمع لوكاس، أنا مستعدة لاعتبار هذا غلطة تحدث غلبا عندما تشتغل امرأة ورجل معا مثلنا. وهذا لا يعني شيئا..."

ـ فليذهب رأيك هذا إلى جهنم.

لم يكن هذا الجواب الذي توقعته وقد قطع خط الرجعة على كل تعليل منطقي:" ماذا... ماذا قلت."

ـ كيم أي نوع من الرجال تظنينني؟ عندما عانقتك تأكدت من أن ذلك كان يعني شيئا بالنسبة لينا، نحن الاثنين.

قال هذا بنعومة، وأهدابه الكثيفة تحجب الغضب في عينيه.

ـ لم أعن أنني لم أتمتع بذلك.

قالت هذا بسرعة ومن دون تفكير، وعندما سمعته يجذب نفسا سريعا بصعوبة عادت تقول:" أعني..."

ثم تلاشى صوتها بضعف.

أنقذها لوكاس من ارتباكها بهدوئه الطبيعي:" أنت تشتغلين عندي منذ خمسة أشهر، وقد رغبت في معانقتك منذ أول يوم. لماذا تظنينني لم أخرج مع امرأة طوال ذلك الوقت؟"

قال لها هذا بنفس اللهجة التي يطلب بها طباعة رسالة، فسألته:" لم تخرج؟"

وسكتت فجأة. لم تكن التمتمة اللاهثة هي الطريقة التي تواجه بها هذا الأمر. وتابع يقول بصبر هادئ أكثر مما تعرفه عنه:" وكنت صابرا"

ـ ولكن...

ـ نعم؟

ـ أنا أعمل عندك.

تجاهل لوكاس كل المبادئ التي يعمل بها، وقال بهدوء:" أهكذا؟ أنت غير مرتبطة وأنا أيضا. هذا هو الشيء الوحيد المهم، أليس كذلك؟"

أتراه مجنونا؟ لقد أمضت خمسة أشهر تكافح مشاعرها، هذه المشاعر التي تخشى أن تدمرها... والتي كانت تخيفها أكثر مما كانت تبهجها، أو أن طاقته القوية التي تخيفها؟.

السبب الوحيد الذي جعلها تستمر في العمل عنده هو أنها أقنعت نفسها بأن الانجذاب كان من طرف واحد. ولكن أن تتورط في علاقة مع رجل مثله هو جنون ومن المستحيل حتى التفكير فيه.

حدقت إليه، شعرة بالضيق فجأة وهي ترى عرض كتفيه تحت قميصه الحريري، ثم رأت عينيه لا تفارقان وجهها فهبت العواصف في قلبها وهذا يثبت أكثر فأكثر أنه لا يمكن أن تفكر بعلاقة مع لوكاس، ما دام بإمكانه أن يؤثر فيها بهذا الشكل. فقالت بصوت مرتجف:" هذا مستحيل يا لوكاس"

أجاب على الفور:" أنا لا أقبل هذا. أنا لا أطلب منك أن تنامي معي..."

صرخ ضميره به بصمت (كذاب) بينما كان يتابع:" أريد فقط أن نتعرف إلى بعضنا البعض من دون ضغط العمل"

ـ لا... لا يمكنني ذلك هناك ميلودي.

ـ ميلودي ليست مشكلة.

تنفست بعمق وقد صفا ذهنها فجأة:" ليس هذا فقط. لا أريد أن أتورط بعلاقة مع رجل مرة أخرى لقد جربت ذلك فلم أنجح"

ـ أتعنين زوجك؟

سألها بلطف، وعندما أومأت هز رأسه وقل بصوت منخفض أجش:" لا تدعيه يفسد عليك بقية حياتك، يا كيم"

ـ أنا لا أفعل ذلك. لكنها حياتي الآن، وهي تعجبني.

واشتبكت عيناها البنيتان بعيني لوكاس بجد صبياني تقريبا:" لا أظنني... من ذلك النوع الذي يمكنه أن يعيش مع رجل"

وكان غراهام قد قذف هذا في وجهها وهو ثمل لكن السهم انغرز في عقلها.

ـ هراء... من أخبرك بذلك؟ الحلزون ذك؟

رفعت رأسها متحدية:" حلزون...آه غراهام؟"

قال غاضبا:"آه، لا تحكمي على كل الرجال بأسوأ نموذج يا كيم. وطبعا لا تحفظي عندك كل ما كان يقوله. كان رجلا مجنونا فلا تعجبي بما كان لديه"

ـ أنت لا تعرف كيف كان الأمر. ليس غراهام فقط، فقد كان..آه، أنت لا تعلم.

تنفس بصمت. إنها المرة الأولى التي تتحدث إليه.. تتحدث إليه حقا، ولم يشأ أن تسكت، فقال بهدوء:" لا... أنا لا أعرف كيف كان الأمر، فلماذا لا تخبرينني؟"

ـ لا أستطيع.

وشحب وجهها. كيف يمكنها أن تجعل رجلا مثل لوكاس يفهم كيف كانت حياتها، طوال تلك السنوات في ملجأ للأطفال؟ راغبة متلهفة إلى أن تكون لها أسرة، أن يكون لها من تدعوهم أهلها؟ ثم عندما دخلت طور المراهقة، وأدركت أن هذا لن يحدث، انطوت على نفسها، محدثة نفسها بأنها لا تهتم لذلك، وأنها ستصنع أسرتها بنفسها وتهجر بقية العالم. ثم تعرفت إلى غراهام في أول سنة من دراستها الجامعية، غراهام الوسيم الساحر فأغرقها بالعواطف والاهتمام.

لقد ظنته يحبها، وصدقت كل ما قاله لها. ولم تدرك إلا بعد زواجهما، أنه لم يتزوجها إلا لأن عددا من أصدقائه كانوا يريدونها. وقد اعتاد غراهام دوما أن يكون محط الإعجاب والحسد.

لكن غراهام منحها ميلودي، بالمصادفة، والحق يقال. وميلودي تستحق ما عانته هي مع غراهام مئة مرة فقد أصبح لديها أسرتها الآن ولا تريد شخصا آخر. لن تدع نفسها تحتاج شخصا آخر، فحاجتها إلى غراهام جعلتها ضعيفة ولن تعود فتمنح رجلا آخر هذه السلطة عليها أبدا.

وكان لوكاس يراقب تقلب المشاعر على وجهها الشاحب الضعيف، وعلم أنها لن تزيد على ما قالت.. ليس الآن ولا هنا على أي حال، فهي لا تثق به. حتى إنه ليس واثقا من أنها توده كثيرا لكنها لا يمكن أن تنكر الانجذاب بينهما. وتوقفت كرامته المجروحة عند هذا التفكير لكن هذا كان تعزية تافهة.

لم تعامله امرأة قط من قبل كما عاملته كيم. في البداية ظن أن التحفظ الذي حولها سيتبدد عندما تستقر في الوظيفة، لكنه أصبح أقوى. وتلك الليلة في بيتها شعر وكأنه يسير على البيض.. تبا لذلك. كل ما ظن أنه توصل إليه في الأسابيع الماضية، يبدو له الآن وكأنه غير موجود إلا في مخيلته. قد تبدو ضعيفة هشة، لكنها في داخلها بقوة الحديد. لماذا إذن لا يدعها وشأنها، ويهنئ نفسه على السكرتيرة الكفؤة الرائعة الجمال التي يبدو واضحا أنها لا تهتم بسوى وظيفتها، ويقف عند هذا الحد؟ فلديه ما يشاء من النساء، نساء ناجحات جميلات وواثقات من أنفسهن، نساء من دون معوّقات ولا كبت.

تصاعد طرق قوي على باب كيم الخارجي، ودخل جون باول الضخم، وهو المدير العام في الشركة، ما أنهى حديثهما بشكل فعال. وقف لوكاس بينما كان جون يلوح بملف قائلا:" هل هذه هي العقود الفرعية التي تريد من ذلك الحقير أن يتابعها؟ كنت على حق يا لوكاس، ما كان لنا أن نلمسها"

إنه توقيت رائع كالعادة يا جون.

فكر لوكاس في هذا في سره، لكنه قال بصوت موجز:" تعال إلى مكتبي يا جون وأخبرني بما لديك"

وأضاف مخاطبا كيم بنفس اللهجة:" قهوة عندما تكونين مستعدة لذلك، يا سيدة ألن"

جلست كيم عدة ثوان دون حراك بعد أن انغلق الباب المؤدي لى مكتب لوكاس وأصبحت وحدها.

العناق، حديثهما.. وكل المشعر التي ظهرت في النصف ساعة الأخيرة لم تعن شيئا بالنسبة إليه. فهو يعتبرها مجرد تحد له. إنها لم تقع بين ذراعيه بصفتها امرأة ميالة إلى لوكاس. لقد تجاهلت حقيقة أن ذلك كان بالضبط ما فعلته، جسديا ومجازيا ذلك الصباح...

نهضت ببطء، غضبة من نفسها ومن لوكاس. هل صدقت أنه لم يخرج مع نساء منذ بدأت العمل في شركته؟ أخذت تفكر في الأمر أثناء عدادها القهوة، ويداها الرشيقتان تتحركان بشكل آلي والعبوس يكسو وجهها. نعم،إنها تصدق ذلك، ولوكاس لا يكذب.

لوكاس لا يكذب؟ ما ن دخلت هذه الكلمة عقلها، حتى هاجمته. كون رئيسها صادقا إلى حد التحجر أحيانا بالنسبة إلى معاملاته التجارية، لا يعني أنه يتصرف بهذا الشكل مع النساء.

تذكرت كيم غراهام فجأة، لقد صدقته ووثقت به، فأين انتهى بها ذلك؟ غلطة واحدة مفهومة، أما الثانية فتدل على الغباء... وهي ليست امرأة غبية. وأغمضت عينيها فاستطاعت أن تسمع صدى المشاجرات الماضية. كان غراهام قاسيا، قاسيا بشكل بالغ حين يكون تحت تأثير الكحول. يُقال إن الإفراط في الكحول يكشف عن حقيقة الشخص التي يخفيها التهذيب الاجتماعي. وفي حالة غراهام لم تكن حقيقته سارة.

وعندما دخلت كيم إلى مكتب لوكاس، كانت تمثل خلاصة المرأة الشقراء الباردة بحركاتها المهذبة. وعندما وضعت الصينية على المكتب، رفع لوكاس رأسه ينظر في عينيها مباشرة:" شكرا"

وبالرغم من ضيقها البالغ، شعرت كيم بأن هناك اهتماما حقيقيا في عينيه الضيقتين اللتين كانتا تتفحصان وجهها.

وحالما عادت إلى مكتبها، أخذت تعنف نفسها لضعفها. لقد قالت سكرتيرة لوكاس السابقة عن رئيسها، إنه" زير نساء"... حسنا، ليس هذا بالضبط، وإنما كانت تعني أنه يبدل نساءه بسهولة، وقد تجاهلت هي ذلك أثناء مجازفتها هذه.

أخذت ترشف قهوتها ورأسها يدور، ثم رحت تتأمل كومة الأوراق التي تستدعي عنايتها وهي تلوي فمها آسفة. إنها هنا لأداء عمل وهذا بالضبط ما ستقوم به. ما جرى هذا الصباح كان أمرا مزعجا لكنه لم يكن أكثر من ذلك، وعليها أن تسيطر عليه.

لوكاس كين هو رئيسها لا أكثر. وعليها أن تضاعف حذرها وألا تتعدى على عزلته من الآن فصاعدا.. رغم أنها لا تظن أنها فعلت ذلك من قبل، وذلك كيلا تعطيه فكرة خاطئة عنها.

وما قاله عن رغبته في عناقها منذ أول يوم رآها فيه؟ رغبته في أن يزداد معرفة بها؟ حدثها بذلك صوت في أعماقها فتنهدت ببطء بالغ وهي تضع إصبعها على مفاتيح الآلة الكاتبة رافضة أن تدع الشعور بالذعر يتملكها. إنها لا تريد التفكير في ذلك. قد تكون هذه طريقة سهلة للهرب ولكنها ضرورية لسلامتها العقلية!

لقد أوضحت للوكاس شعورها نحو أي علاقة شخصية بينهما. وكان هو رجلا ذا كبرياء وهذا ما سيجعله يتجاهل كل ما حدث اليوم وكأن شيئا لم يحدث، وربما يركز اهتمامه على امرأة جميلة يتباهى بها أمامها ليثبت لها أن من السهل أن ينسى. نعم، هذا ما سيفعله.

غدر جون باول مكتب لوكاس بعد ذلك بعشر دقائق. وما هي إلا دقيقة أو نحوها، حتى أطل لوكاس من الباب الموصل بينهما:" لقد حجزت مائدة لاثنين في مطعم صغير لهذه الليلة. كوني مستعدة في الثامنة"

وانغلق الباب دون مزيد من الكلام.





***

safsaf313 21-08-09 09:50 AM

6 ـ تلك هي اللعبة




إلى أن وجدت كيم نفسها على عتبة صديقتها ماغي تسألها إن كان بإمكانها أن تجالس ابنتها الليلة، لم يكن لديها نية في الخروج مع لوكاس للعشاء.

وكانت قد أخبرته بهذا عدة مرات. شكل ذلك اليوم محنة حقيقية لها. ولم تعرف كيف تتعامل مع عناده. بهذا اعترفت لنفسها وهي تعود من بيت ماغي.
منتديات ليلاس
في السنتين اللتين تلتا موت غراهام، كان عليها أن ترد عدة خاطبين أرادوا الزواج بها. لكن ذلك كان سهلا. كلمة رفض مؤدبة مع الشكر، وإذا لم يكف هذا لإقناع أحدهم، هناك نظرة عنيفة ينتهي بعدها كل شيء. ولكن ما نجح في السابق، لم يستطع أن يحطم الجليد بالنسبة إلى لوكاس كين.

لقد حاولت ذلك النهار أن تجعل كل حديث بينهما قاصرا على العمل وحده. ولكن يبدو أن لوكاس وجد في تصرفها هذا مجرد شيء يبعث على التسلية.

لكنها ستصارحه الليلة بأنها لا تريد أن تبدأ علاقة مع أحد في المستقبل القريب، خصوصا مع لوكاس كين. الأفضلية في حياتها كانت لميلودي، أولا وأخيرا. وهي لا تريد أي شخص آخر.

عندما سألتها ماغي، بشكل طبيعي تماما، إلى أين هي ذاهبة ومع من، وذكرت لها اسم لوكاس كين، كادت عينا ماغي تخرجان من محجريهما.

وحين وصلت ماغي أخذت بذراع كيم وقادتها إلى غرفة الجلوس وهي تسألها بلهفة:" حسنا، ماذا هناك بينك وبين ملك المال هذا؟"

ـ أتعنين لوكاس؟

ـ هل هناك أكثر من رجل واحد رائع وأسطوري الثراء يدعوك للخروج معه؟

ـ إنه ليس رائعا.

كان جوابها بالغ السرعة وقد أدركت الاثنان هذا. وعندما رأت كيم عيني ماغي تضيقان متفحصة، قالت بمزيد من الحذر:" أعني أنه رئيسي فقط وهذا كل شيء"

فسألتها ماغي بشيء من التهكم:" وهو دعاك إلى العشاء لأي سبب؟ مجرد دعوة بسيطة لإحدى موظفاته؟ دعي عنك هذا، يا كيم. لا تنسي أنني ماغي. وأنا أسألك مرة أخرى، ماذا هناك؟"

قالت كيم بصوت كالنواح:" آه..ماغي يا لها من ورطة..."

ـ شعرت أنك تبدين متوترة في الأشهر الأخيرة، لكنني ظننت أن ذلك عائد إلى المسؤولية التي ألقيت على عاتقك في الوظيفة... لماذا لم تخبريني من قبل؟ لعلي أفدتك.

قالت هذا متعاطفة معها فرفعت كيم إليها عينين مأساويتين:" أعلم هذا، وربما أنا سخيفة في مخاوفي. فأنا ذاهبة لتناول العشاء معه فقط، ويسر أي فتاة أخرى الخروج مع لوكاس كين"

قالت ماغي برقة:" لكنك لست أي فتاة أخرى. وربما هو من الإحساس بحيث يدرك كذلك. ربما هو جاد في أمرك، يا كيم"

قالت كيم بصوت أصبح حازما فجأة:" أرجو ألا يكون ذلك. إنها وظيفة رائعة وسأكره أن أتخلى عنها"

ـ هل ستفعلين ذلك رغم إعجابك البالغ به؟

تنهدت كيم وقالت:" لا أريد رجلا في حياتي، يا ماغي. لا الآن ولا لاحقا. الضربة التي تتلقاها حاذر منها في المرة التالية"

قالت ماغي برقة:" لكنه لن يكون مثل غراهام. أنت تدركين هذا، أليس كذلك؟ إياك أن تدعي غراهام يدمر حياتك، يا كيم"

ـ غريب. هذا بالضبط ما قاله لي لوكاس.

وابتسمت كيم لماغي ابتسامة صغيرة مرة وأضافت:" لكنني لا أرى الأمر بهذه الطريقة. وهناك أمر آخر... إلى متى سيبقى رجل كلوكاس كين مهتما بفتاة مثلي؟ مدة شهر.. أو ربما اثنين؟ وربما ستة أشهر وإذا اقتضت الضرورة. أنا لست من عالمه يا ماغي"

ـ وكيف تعلمين هذا دون تجربة؟

ـ أنا أعلم هذا جيدا.

وشعرت كيم فجأة بأنها تريد إنهاء الحديث:" على أي حال، هناك ميلودي التي علي أن أضعها نصب عيني، أيضا. لا تنسي، لا أريد أن تشغف بشخص ثم تفترق عنه بعد فتره" قصيرة. وأنا لا أريد أن تعاني ابنتي من هذا كله"

كانت ماغي من الحكمة بحيث تعرف متى تتوقف عن الحديث، وقالت:" لا بأس، لا بأس على كل حال، إنها السابعة والنصف تقريبا والأفضل أن تبدئي بارتداء ثيابك"

حالما خرجت كيم من تحت الدوش، طرقت ماغي الباب، فنظرت في ساعة الحائط ثم صرخت برعب واندفعت خارجة من غرفتها وهي تنادي:" حليب وبسكويت ميلودي على صينية في المطبخ. طلبت منك أن تقرئي لها حكاية بينما تتناول عشاءها"

ـ لا مشكلة.

لاحقت نظرات ماغي صديقتها لحظة قبل أن تدخل المطبخ الأنيق، وقد بان القلق على وجهها. لقد قالت إن ما من مشكلة، ولكن ن لم تكن مخطئة كثيرا، فهناك مشكلة... ومشكلة كبيرة تختمر هنا.

كيم جميلة جدا، لكن الأهم من ذلك أنها جميلة من لداخل. غير أنها ضعيفة إلى حد مؤلم، وهي تخفي ذلك الضعف خلف سلاح تمكن لوكاس كين من اختراقه بشكل ما... سواء اعترفت كيم بذلك أم لا.

حملت الصينية وصعدت بها عابسة تفكر في أن عليها إمعان النظر جيدا إلى هذا الرجل الثري الذي لا يمكن مقاومته، فإذا رأت أنه من النوع الذي يريد أن يستغل كيم لمتعة عابرة... حسنا ستعرف الخبر اليقين...

لم تكن كيم في الطابق الأسفل عندما دق لوكاس جرس الباب عند الثامنة. وهكذا سارت ماغي إلى الباب لتفتحه بعد أن طلبت من ميلودي البقاء في سريرها.

ابتسم لوكاس للمرأة الصارمة الوجه التي استقبلته على العتبة:" مساء الخير. أنت ماغي بلا شك. أنا لوكاس كين"

ومد يده بباقة أزهار ضخمة وهو يضيف:" هذه الأزهار لك من باب الشكر لمجالستك الطفلة"

بادلته ماغي الابتسام وهي تأخذ منه الأزهار، وشعرت بلحظة ندم لاستسلامها السهل، ولكن كان عليها أن تعترف بأن لوكاس قد خطف أنفاسها بروعة شكله... واستطاعت أن تقول بصوت لاهث قليلا:" ألا تتفضل بالدخول؟ ستنزل كيم بعد دقيقة"

ـ إنها تحاول أن تجفف أظافرها لكن ذلك سيستغرق دهرا.

الكلام الأخير كان من ميلودي التي تركت سريرها وجثمت على قمة السلم تتحدث إلى لوكاس بعينين واسعتين.

وعندما نظر لوكاس وماغي إلى أعلى، أشرق وجه لوكاس بابتسامة عريضة وقال لها:" حقا؟ وكذلك أظافري تأخذ دهرا لتجف"

قال جملته الأخيرة برزانة فضحكت ميلودي بصوت خافت؛" يا للغباء! السيدات فقط هن اللاتي يصبغن أظافرهن"

فقالت ماغي باضطراب وهو شعور جديد عليها:" المفروض أن تكوني في سريرك، يا صغيرة. عودي وسأتبعك بعد دقيقة لإكمال الحكاية"

ـ انتظري خذي هذا قبل أن تذهبي.

ومد لوكاس يده إلى جيبه وأخرج شيئا ملفوفا قذفه إلى ميلودي، التي تلقته بمهارة. بينما تابع:" هذا لأنك فتاة طيبة مع الخالة ماغي. ستكونين فتاة طيبة، أليس كذلك؟"

ـ ميلودي فتاة طيبة دوما.

شعرت ماغي بأنها فقدت، لسبب ما، السيطرة على لوضع.

ـ أنا واثق من أنها كذلك.

وابتسم لوكاس لماغي مرة أخرى. وعندما صرخت ميلودي مبتهجة بالدب الصغير الرائع الذي كان في العلبة، أضاف بهدوء:" اصعدي أنت واهتمي بميلودي يا ماغي. أنا بأحسن حال هنا، في انتظار كيم"

حدقت إليه ماغي بارتباك:" حسنا، سأضع هذه الأزهار في المطبخ أولا"

ونظرت إلى هذه المجموعة الرائعة من الورود، ثم عندما نظرت إلى لوكس مرة أخرى، رأت فمه ملتويا. فقال بنعومة وقد قرأ أفكارها:" أعترف بأنني أحاول أن أكسبك إلى صفي. فأنا بحاجة إلى عون لكي أكسب ودّ كيم"

قالت وقد احمر وجهها:" سوف... سأضع هذه الأزهار في المطبخ"

وحالما غادرت الغرفة أخذت تعنف نفسها لأنها لم تسأله عن شعوره نحو كيم. لكنها لم تجرؤ على ذلك... وهذا، يدل على جبنها البالغ...

وفي غرفتها، كانت كيم تتأمل نفسها في مرآتها الكبيرة. لم تكن تعرف ما عليها أن تلبس... ما الذي تلبسه النساء في موعد مع ملياردير، على أي حال؟ كانت تفكر في هذا هازلة.

وأخيرا ارتدت ثوب سهرة اشترته منذ أشهر بعد أن منحتها شركة كين الكتريكال بدل ملابس. إنه ثوب أخضر بلا كمين مصنوع من الحرير والكاشمير وقد كلفها مبلغا ضخما. لكن عندما رأته كيم في إحدى واجهات المتاجر أدركت أنه مناسب تماما لأي عشاء عمل قد تحضره مع لوكاس بصفتها سكرتيرته. كان أنيقا محكما على جسدها ولونه يبرز التناقض بين لوني شعرها وعينيها، كما يظهر لون بشرتها العسلي الذهبي.

بماذا سيفكر لوكاس حين يراها؟ رفضت أن تفكر في هذا. ومع ذلك، بهجة الإثارة التي تبعثها الملابس الجميلة في النفس استمرت بالرغم عنها. وعندما وضعت عطرا على معصميها، وقرطين بلوريين في أذنيها كانت يداها ترتجفان.

مرت على ميلودي لتقبلها قبلة المساء، وما إن دخلت إلى الغرفة حتى اتسعت عينا ابنتها وسرور:" تبدين جميلة للغاية يا أمي، كالأميرة في حكاية العمة ماغي"

ـ شكرا يا حبيبتي.

وجلست كيم على حافة سرير ابنتها، واحتضنتها غير عابئة بثوبها الجديد. وفاضت نفس كيم حبا عندما طوقت ميلودي عنقها بذراعيها، فأغمضت عينيها وهي تضم ابنتها إلى قلبها ثوان قبل أن تعيدها إلى سريرها.

ـ تبدين رائعة. لكنك ستبدين كذلك حتى لو لبست كيس خيش.

ابتسمت كيم لصديقتها، فهي تعلم أن ماغي تجدها قليلة الثقة بنفسها وبمظهرها، لكنها لا تستطيع منع نفسها من ذلك. السنوات التي أمضتها في ملجأ الأطفال وما تبع ذلك من زواج مشئوم وشتائم، أتلفت شيئا في نفسيتها.

لكنها بدت بحالة جيدة الليلة، وشعرت بالرضا عن نفسها وهي تقول لماغي بصوت منخفض:" حسنا، ما رأيك؟"

فأجابتها ماغي على السؤال الصامت عن لوكاس بأن هزت أصابعها وكأنها احترقت:" أووو..."

ثم التفتت المرأتان إلى الصغيرة بذعر، وهي تقول بصوتها الحاد:" أظن أن لوكاس ممتاز"

وكلمة ممتاز تستعملها ميلودي لكل ما تراه جميلا.

ونظرت كيم إلى ماغي بقلق، فهزت هذه كتفيها:" ذكاء ملفت. ونحن نستحق هذا لأننا نظن أن بإمكاننا التحدث بالشفرة وهي موجودة"

أدركت ميلودي أنهما يعنيان بطلها الجديد بالحديث، فقالت:" نعم أظن أن لوكس ممتاز. انظري ماذا أحضر لي ي أمي"

ـ هذ جميل يا حبيبتي.

فقالت ماغي بصوت جامد إلى حد غريب:" لقد أحضر لي أزهارا"

نظرت إليها كيم بحيرة:" أحقا؟ لكنني لم أخبره بأنك ستجالسين ميلودي"

تبادلت المرأتان النظرات لحظة طويلة، ثم قلت كيم باستسلام:" الأفضل أن أنزل إلى أسفل"

كان باب غرفة الجلوس مفتوحا. وعندما وقفت كيم بالعتبة، التفت إليها منتبها من تأملاته الهادئة فشعرت برعشة عندما نظر إليها بعينيه الفضيتين الكثيفتي الأهداب. بقي صامتا دهرا لا يقول شيئا... كان يحدق إليها وعلى وجهه الصلب الجذاب قد ارتسم تعبير غريب للغاية.

حاولت كيم الابتسام بدت كرجفة في شفتيها:" مرحبا"

ـ مرحبا. تبدين جميلة بشكل غير عادي.

قال ذلك برقة بالغة اهتز لها كل عصب فيها.

ـ شكرا.

عنف نظراته ملأ جسدها شوقا، ولكي تحارب هذا الشعور وسحر جاذبيته الطاغي، قالت بهدوء:" جميل منك أن تحضر أزهارا لماغي وأن تفكر في ميلودي، لكن ذلك لم يكن ضروريا"

فقال مازحا:" هذا يعني أنها لم تعجبك"

ـ لم أقل هذا

ـ لست مضطرة لذلك.

بدا عليه عدم الاهتمام إلى حد آلمها للغاية. حدقت إليه، غير واعية لما تكشف عنه ملامحها، وفوجئت عندما تقدم نحوها بخطوات واسعة ثم أخذ ذراعها قائلا:" إذن سكرتيرتي الصغيرة الحساسة مستعدة للسهر مع الذئب الكبير السيئ. هل لديك معطف؟ البرد قارس في الخارج"

ـ إنه في الردهة.

كان ها قد تشنج عندما لمسها فرأت فمه يتوتر، لكنها لم تستطع منع ذلك. فقد كان...

بدت سيارته المتوقفة أمام البيت نافرة مع هذا المحيط المتواضع. ووجدت نفسها تأخذ عدة أنفاس عميقة صامتة وهت تصعد إلى السيارة ثم تنتظر صعود لوكاس.

ـ هل أكلت شيئا منذ وقت الغذاء؟

ـ ماذا؟

والتفتت تنظر إليه، فسأل:" الطعام. هل أكلت شيئا مؤخرا؟"

كان صوته الآن صبورا، وهذا ما جعلها تريد أن ترفسه.

ـ أكلت شيئا من العكرونة التي طهيتها لميلودي. آخر لقمة في المقلاة فقط.

ألقى عليها نظرة جانبية ساخرة:" إنها عادة خطرة. ستصبحين سمينة إذا اعتدت أكل بقايا طعام ميلودي"

ردت عليه بتوتر:" ليست بقايا بالضبط، وقد كنت جائعة"

في الحقيقة، كانت تظن أن الأكل قد يهدئ من خفقان قلبها الناتج عن التفكير في خروجها معه. ولكن ذلك لم ينجح.

ـ ذلك شيء حسن على أي حال، لأن أكلنا سيتأخر.

وتحرك بالسيارة وهو يقول ذلك إلى أن وصل بها إلى الطريق العام الهادئ خلف حديقة بيت كيم الأمامية.

أرغمت كيم نفسها على البقاء جامدة رغم أن كل حس فيها كان يصرخ بسبب رائحة عطره الزكية المثيرة.

رفعت رأسها وقالت بحذر:" هل سنجري ذلك الحديث أولا؟"

قال برفق:" إننا ذاهبان إلى المسرح أولا"

ـ إلى المسرح؟

كان سؤالها أقرب إلى الصراخ فقطب لوكاس جبينه:" نعم إلى المسرح"

ـ ولكن... لكنك لم تقل شيئا عن المسرح.

شعرت كأن هذا قد استحال إلى موعد غرامي حقيقي. فقال ونظراته على الطريق:" اعتبري ذلك مفاجأة سارة"

ـ أنا لا أحب المفاجآت.

كان في قولها هذا شيء من سوء الخلق لكن كيم لم تعد تهتم. ما الذي جعلها تجلس هنا بجانب لوكاس كين بينما هو يأخذها إلى مكان لا يعلم به سوى الله؟إنه يبغي ما يبغيه كل رجل، والمنطق يخبرها بأنه رجل ثري خطر وقوي وجذاب جاذبية صارخة.

ـ كفى ذعرا يا كيم! سأصحبك إلى المسرح ومن ثم إلى العشاء.

نظرت إلى جانب وجهه، لكن وجه لوكاس كان جامدا.

فتحت فمها لتنكر اتهامه لها بالذعر، لكنها عادت فأطبقته. لا يمكنها أن تربح معركة كلامية مع لوكاس. إنه يربح المعركة دائما. وعضت شفتيها بعنف وركزت نظراتها بغضب على الطريق أمامها. يبدو أنه على حق... كالعادة.

لا بأس، فهي لا تستطيع منافسته، كما أنها لا تنكر تأثيره فيها. ولكنها يمكنها أن تحفظ كرامتها طوال المساء. ستكون المرأة الثلجية التي تتحدث قليلا وتنظر كثيرا ولا ينتج منها سيء.

كلما ازدادت معرفته به ، ازدادت معرفة بالسبب الذي يجعله يختار نساءه من ذوات المهن المشابهة بأهميتها لمهنته. فهو ذكي بشكل رهيب، وهي ليست بليدة الذهن رغم ما حاول غراهام أن يقنعها، ولكنها أيضا لا تمتلك ما تمتلكه تلك النسوة.

أحبت دائما أن تكون لها مهنة، لكنها كانت تعرف أن البيت والأسرة يأتيان في المقام الأول. إنها، في نظره، مجرد تغيير لطعامه المعتاد... ولكل جديد لذة، كما يقال، وسرعان ما سيجدها مملة.

وهكذا... ضاقت عيناها أمام أنوار الشارع المتألقة عندما وصلا إلى قلب المدينة. ستتصرف بحسب شخصيتها ولكن بقدر كبير من التحفظ. وإلى أن تنتهي السهرة يكون الضجر قد استبد بلوكاس فيسرع بها إلى بيتها.

كانت المسرحية رائعة، لكن كيم لم تكن واعية إلى ما يحيط بها. كان لوكاس مثلها مرتديا ملابس السهرة، وعندما خلع معطفه في الردهة اضطرت، ووجهها يلتهب، إلى تحويل عينيها عنه بحزم لأنها أدركت أنها كانت تلتهمه بنظراتها، متظاهرة بأنها تظهر إعجابها بجمال الزخارف الرائعة.

عندما استقرا في مقعديهما، دفنت وجهها في البرنامج، مانعة نفسها من إظهار أي رد فعل كلما لمسها عرضا.

مال نحوها قليلا عندما ظهرت صور ممثلي المسرحية في البرنامج:" هل رأيت مجموعة الممثلين هذه من قبل؟"

ـ لا.. لم أرهم.

ـ إنهم جيدون.

وعندما عاد يستقر في مقعده، تنفست الصعداء بصمت وتمنت لو تبدأ المسرحية.

كيف يمكن لشخص محاط بالناس أن يشعر وكأن لا وجود للعالم من حوله. أخذت تتساءل بقنوط.

لم تكن تريد أن تشعر بهذا الاضطراب البالغ. لم ترد أن تكون مع لوكاس كين، فهو مثير للاضطراب.

ـ كفى عبوسا، لأن الناس سيضنوننا متخاصمين.

ألقت عليه نظرة جانبية فقابلت نظراته الساخرة، وقالت متزمتة:" أنت رئيسي وأنا سكرتيرك ولا يمكننا أن نتخاصم"

قال متأملا:" أحقا؟ ما الذي حدث إذن بعد أن عانقتك؟ صححي كلامي إذا كنت مخطئا. إذ لم يكن ذلك خصاما، إذن فلن أقترب منك عندما تكونين غاضبة حقا"

نظرت إليه بعنف. لم تشأ أن يذكرها بذلك العناق.

ـ أنت لا تريدين قامة علاقة مع أي رجل آخر مرة أخرى. وهذا من السخافة بحيث لا يمكن أخذه على محمل الجد.

ـ سواء كان سخيفا أم لا، فهذا ما أشعر به.

كان جوابا حادا... كل ما صممت عليه من هدوء وتحفظ وبرودة، ذهب مع الريح.

بدا الانتصار في العينين الفضيتين:" لا. أنت لا تشعرين بذلك، أنت تريدينني يا كيم، كيانك كله أخبرني بهذا هذا الصباح"

نظرت حولها متوترة:" لوكاس"

تابع يقول برقة:" وهذا ما سيحدث عاجلا أم آجلا"

أظلمت عيناه، وشعر بضيق بالغ وهي تزم فمها بعناد:" هذا لن يحدث، يا لوكاس. لدي ميلودي وهي الوحيدة التي أريدها في حياتي"

قال بحذر وحرص على ألا يدع الغضب يبدو في صوته:" ميلودي فتاة صغيرة رائعة، لكنها طفلة، وأنا أتحدث عن علاقة طبيعية بين شخصين راشدين"

ـ إذا كان شيء كهذا موجودا.

أفلتت هذه الجملة من فمها دون تفكير، وشعرت بقلبها يخفق ذعرا. كيف جعلها تقول أشياء كهذه؟

قال برقة بالغة وعيناه على وجهها المتوهج التعس:" بل هو موجود فعلا. وعندما يكون جيدا فهو أعظم شيء في العالم"

قالت بجفاء وبرودة:" لا أعلم شيئا عن ذلك، وبصراحة، لا أريد أن أعلم"

ـ بل تريدين. لكنك من الخوف والانطواء على نفسك بحيث تخافين الاعتراف بذلك. أنت تريدين مني أن أحتضنك يا كيم، وأن أعانقك وأعانقك وأعانقك...

ـ كفى يا لوكاس. لا تقل هذا.

كانت مشوشة مضطربة بسبب المشاعر التي حركها في كيانها صوته العميق.

كان من القرب منها بحيث شعرت بقوته وجاذبيته. فأخذت ترتجف.

ـ أرجوك يا لوكاس.

ـ أريدك يا كيم. أريدك أكثر مما أردت امرأة في حياتي. وبعد هذا الصباح، علمت أنك تريدينني أنت أيضا. لن أدعك تحرميننا، نحن الاثنين من ذلك.

جلوس شخصين بجانبهما، وبدء المسرحية أنهى كل حديث بينهما، لكنها بقيت ترتجف لدقائق. لم تستطع دفع ذهنها إلى الانتباه للمسرحية. وعند الاستراحة، كان المقصف مزدحما لكن كيم لم تهتم لذلك فقد منع أي حديث حميم بينهما.

ركزت أفكارها على العصير الذي في يدها آملة أن تبدو هادئة رابطة الجأش. ولكن مع ذراع لوكس التي أحاطت بخصرها بشكل عفوي، وجسمه الصلب الذي مال ضاغطا على جسمها بسبب الزحام، أصبحت رباطة جأشها سطحية فقط.

في ساعات قليلة فقط، استطاع لوكاس أن يحول علاقتهما من مجرد مخدوم وموظف إلى... وتوقف ذهنها عن التفكير. تحولت علاقتهما إلى ماذا بالضبط؟ سألت نفسها بصمت، حسنا، مهما كان، فهذا غير مهم. عليها أن تعيد علاقتهما إلى ما كانت عليه.

ـ عدت إلى العبوس.

واحتكت شفتاه بأذنها وهو يهمس في شعرها الحريري فشعرت بقلبها يتخبط بين ضلوعها:" أحقا؟"

ونظرت إليه بطرف عنيها وسكتت.

فقال بلطف:" نعم وأجرؤ على القول انك كنت تفكرين فيّ".

ـ رغم غرابة هذا، فأنا لا أفكر فيك دوما.

فقال بحزم:" هذا خطأ أنوي أن أصححه من الآن فصاعدا".

أخذت كيم رشفة من عصيرها، متمنية أن يمنحها الله الشجاعة والفطنة لكي تضعه في مكانه.

لكن هذا لم يحدث. مالت نحوه قليلا عندما داست امرأة بدينة، على قدمها اليسرى، مما أثبت أن لوكاس لم يكن بالبرودة والتحكم في المشاعر كما يبدو عليه فقد ارتجف كله لأنها لمسته رغما عنها.

أجفلتها خيانة جسده التي ارتسمت على وجهه، وبدت على فمه ابتسامة ملتوية جعلتها تعلم أنه كان واعيا لما تفكر فيه.

علمت أن وجنتيها تلتهبان، وتمنت من أعماق قلبها لو كانت من النسوة المحنكات المجربات اللاتي اعتاد عليهن. لكنها لم تكن كذلك. وعندما مد لوكس يده خلف ظهرها ليضع كأسه الفارغة، أخذها بين ذراعيه، مريحا يديه على خصرها.

ثم همس فوق جبينها:" يا لك من امرأة غير عادية، متمردة غاضبة حينا، وخجول مرتبكة حينا آخر. لم أعرف امرأة أخرى يحمر وجهها مثلك. أنت مميزة بحيث أشعر أن كل النساء بين ذراعي، ثم إذا بك تصبحين باردة لتمثال من الثلج. لقد خلبت لبي، يا كيم، هل تعلمين هذا؟"

ـ لا أريد أن أخلب لبّك.

قالت هذا بيأس مع أنها تعلم أن هذا ليس صحيحا. وهذا ما جعلها مجنونة، لأن التورط مع لوكاس كين يعني انتحارا عاطفيا بكل تأكيد.

تمتم لوكاس، وهو يميل إلى الخلف لينظر في عينيها البنيتين:" ربما هذا جزء مما جذبني إليك في البداية. العالم مليء بالباحثات عن الذهب يا كيم. أو بالرجال والنساء الذين يختارون شركاءهم في الحياة من ذوي المراكز لتنعكس عليهم المسألة احتراما وشهرة. تلك هي اللعبة"

ـ ليست لعبتي.

وحاولت التخلص من ذراعيه، ولكن لم يبد عليه أنه لاحظ.

قال رافعا حاجبيه بسخرية:" أعلم هذا. أحيانا تبدين بسن ميلودي. ولكن وجودها يعني أنك لست طفلة، وأنك كنت متزوجة وأنجبت طفلة. أنت امرأة من دون رجل، تعيل أسرتها بمفردها"

كان في صوته نبرة غريبة وكأنه لا يصدق ما يقول. كان عليها أن تشعر بالإهانة ولكن ذلك لم يحصل:" معظم الناس يختلفون في داخلهم"

وشعرت بيده تلامس خصرها الرشيق فتثير في جسمها مشاعر هي في غنى عنها.

أجاب بجفاء:" ربما، ولكن نحو الأسوأ عادة"

ـ ربما هذه حالتي.

قالت ذلك بمرح، ولكن في الأعماق كانت تشعر بهشاشة ثقتها بنفسها. وبدلا من جواب ذكي أو ساخر توقعت أن يقوله لوكاس، لم تسمع منه شيئا للحظات بل ضاقت عيناه فقط على وجهها الجميل.

ـ لو لم يكن ميتا لقتلته.

قوله هذا كان أشبه بوخزه في الصدر، وعندما نظرت في عينيه جمدت مكانها، وأصبحت كالخشبة بين ذراعيه.وشتم لوكاس بصوت منخفض لتسرّعه. لكنها ما لبثت أن استرخت مرة أخرى ببطء، وأزاحت خصلة شعر عن عينيها وهي تقول بهدوء بالغ إلى حد كان عليه أن يحني رأسه ليسمعها:" اعتاد أن يقول لي هذا، إنه يريد أن يقتلني. كان يعلم أنني سأتركه فكان يهددني..."

ـ ماذا؟

تحيّر لوكاس لسماعها تتحدث بهذا الشكل، وخاف أن يتكلم كيلا تعود إلى قوقعتها.

ـ اعتاد أن يقول إنه سيقتل ميلودي أولا، ثم أنا بعدها. وأنه سيعثر علي في أي مكان أذهب إليه. كان... كان يفقد اتزانه حين يسكر ويصبح قادرا على أي عمل. ولكنه، في أحيان أخرى، عندما يكون متزنا، كان يأخذ ميلودي إلى الحديقة العامة ويتصرف كأي أب طبيعي. لكنني ما شعرت بالراحة قط. وذات مرة خرج متزنا ثم عاد وفي أنفاسه رائحة الكحول. لم يكن ثملا لكنه كان يشرب وهو يرعاها.

رفعت عينين معذبتين إلى وجهه المذعور وهو يتأوه.

ـ لم أعد أتركهما وحدهما بعد ذلك. لم أعد أتركها لحظة بعيدة عن نظري. لم يعد مأمونا.

سألها برقة:" هل التمست المساعدة؟ المساعدة الرسمية؟"

هزت رأسها بمرارة وقد أظلمت عيناها:" ما كان غراهام ليعترف بأن لديه مشكلة. فأنا بنظره المخطئة دوما، فأنا مملة. وقد اعتاد أن..."

وسكتت فجأة وقد انتبهت إلى أنها قالت كثيرا، فهناك أمور، أمور سرية أقسمت ألا تخبر بها مخلوقا.

ـ اعتاد أن ماذا؟

ـ هذا غير مهم.

بدأت تبتعد عنه لكنه لم يستطع شيئا وسط مقصف المسرح.

ـ أيمكنني الحصول على كوب آخر من العصير؟

وكانت قد أنهت آخر جرعة في كوبها ثم ناولته إياه بابتسامة سريعة. لم تكن تريد حقا كوبا آخر لكنها أرادت أن تفعل ما يبدد هذا الشعور الذي تملكها لوضعه ذراعه حولها. هذا الشعور الذي جعلها تكشف عن أكثر مما نوت البوح به.

في الدقائق الأخيرة التي سبقت العودة إلى المسرح، أبقى لوكاس الحديث مسليا. وحاولت هي التجاوب معه بشكل ما، لكنها في داخلها كانت متوترة.

الآن وبعد أن تبدد السحر الذي أثاره قربه منها، لم تستطع أن تصدق كيف حدثته بكل ذلك... فهو الشخص الوحيد المفروض أن تبقيه بعيدا عنها. لم ترد أن يعلم شيئا عن حياتها، الماضية والحاضرة.

بالرغم من شكوكها ومحاسبتها لنفسها، وجدت نفسها تستمتع بالنصف الآخر من المسرحية، ثم أضيئت الأنوار واتخذا طريقهما إلى السيارة. الجو القارس في الخارج بعد الدفء في الداخل، جعل كيم ترتجف.

ـ أتشعرين بالبرد؟

ولم ينتظر جوابا، فجرها إلى جانبه بسهولة وخبرة بدا معهما الأمر طبيعيا. لكن تصرفه هذا كان مريحا للغاية وودودا وغير مزعج أبدا.

كان العشاء لذيذا في ذلك المطعم الإيطالي الصغير الرائع غير البعيد عن المسرح. وعلى عكس توقعاتها، وجدت نفسها مرتاحة ومستمتعة بطعامها.

وجد لوكاس نفسه يتحول بشكل جذري إلى إحدى شخصياته العديدة، وهذه المرة كان مرتاحا ظريفا لا يوحي بأي رهبة.

لم يأت على ذكر ما أفضت به إليه في المسرح، وكانت كيم من الإرهاق العاطفي ما منعها من الإتيان على ذكر الغرض الأساسي لموعد العشاء هذا.

كان لوكاس أكثر الرجال الذين قابلتهم إثارة للاضطراب والسخط، فهو متغطرس مستبد. بهذا كانت تحدث نفسها عابسة، واعية بألم إلى كل حركة تصدر عن هذا الرجل.

منذ أن بدآ رحلة العودة إلى البيت، لم ينطق بأكثر من كلمة أو اثنتين، فقد بدا أن انتباهه كله مركز على قيادة السيارة. لكن هذا الصمت لم يكن هادئا ولا مريحا بالنسبة إلى كيم. في الواقع كان جو السيارة مشحونا بتوتر انتقل إليها فجعلها منفعلة متوترة الأعصاب.

شعرت بضعف مخيف لأنها كشفت عن ماضيها، ولأنها استمتعت بوجودها معه. والأهم لأنها عرفت بأن قريبا، وقريبا جدا سيعانقها مرة أخرى. لكنها ستتمكن من التحكم بهذا العناق هذه المرة... نعم ستتمكن من ذلك. مهما كانت توقعات لوكاس، ستحرص على أن يكون عناقهما مجرد شكر مهذب، ثم تخرج من السيارة...وهي لن... تدعوه إلى الدخول لشرب فنجان قهوة.

كانت كيم تشعر بتوترها يزداد، ثم وصلت السيارة إلى الطريق المؤدي إلى الكوخ.

لقد وصلت إلى بيتها. سحبت نفسا عميقا، فالحديث القصير المهذب الذي تمرنت عليه طوال الدقائق الماضية، يحوم فوق لسانها. وفجأة ذهب جهدها هباء عندما قال لوكاس بلهجة هادئة سارة:" كانت سهرة رائعة، يا كيم. أشكري ماغي عني مرة أخرى لأنها ساعدتنا بالبقاء مع ميلودي"

هل انتهى الأمر؟ هذا غير ممكن أبدا وأخذت تنظر إليه بعدم تصديق وهو ينزل من السيارة ليفتح لها الباب ويساعدها على النزول.

ـ تصبحين على خير، يا كيم.

وكان وداعهما أكثر اختصارا مما صممت عليه من قبل، لكن من تحكم في ذلك هو لوكاس.

ـ تصبح على خير.

علقت هذه الكلمة على شفتيها عندما عاد إلى سيارته، ودخل إليها بابتسامة هادئة.

تملكها غضب صامت، كيف يجرؤ؟ بعد كل ما قاله، كيف جرؤ على ألا يعانقها؟

لم يكن هذا يعني أنها ستسمح له بعناق كذاك السابق. ولكن كيف جرؤ على ألا يحاول ذلك؟

كانت واقفة هناك، تغلي من الذهول عندما خرجت السيارة إلى الطريق العام، وقد اكتنفها الليل الرطب القارس بظلمته.

لماذا لم يعانقها؟ يعانقها عناقا حقيقيا؟ أتراه لم يعد يريدها؟ ربما تملكه السأم الليلة، ولكن أليس هذا ما تمنته؟ يقولون إن على الإنسان أن يكون على حذر مم يتمنى. تنفست تعبّ في رئتيها الهواء البارد المفعم برائحة التراب. وعضت شفتها كيلا تصرخ. هذه الطريقة تعفيها مما ستشعر به من حرج لاضطرارها إلى صده، ولإبعاده عنها قسرا.

إبعاده عنها قسرا؟ وابتسمت بمرارة. حسنا، لقد انتهى الأمر بينهما.

تابعت الوقوف عدة دقائق إلى أن انتبهت إلى أن معطفها أصبح مبتلا من رذاذ المطر الخفيف، فاستدارت فجأة ونصبت قامتها وسارت إلى الباب ثم أخرجت المفتاح من حقيبتها.

غدا هو يوم عمل عادي.





***

safsaf313 21-08-09 09:52 AM

7 ـ نعمة النسيان




أمضت كيم ليلة تعيسة، تقلبت فيها في فراشها حتى تخلت أخيرا عن كل محاولة للنوم ونزلت إلى المطبخ لتحضر لنفسها كوبا من الشوكولا الساخن.

لم تشأ أن يخالجها هذا الشعور. لم ترد أن تتأثر بأي رجل مرة أخرى. ولكن، بشكل ما، استطاع لوكاس أن يقلب دنياها رأسا على عقب في الأشهر الخمسة التي عملت فيها عنده. وكانت هت تحارب هذا الانجذاب الغريب، هذا الافتتان المهلك الذي اكتسحها منذ اليوم الأول.
منتديات ليلاس
ما كان لها قط أن تقبل وظيفة سكرتيرة لوكاس هذه. كان ذلك جنونا، تهورا. ولكن، من ناحية أخرى، ما كانت لتتمكن من الحصول على هذا البيت الجميل، ومن وفاء ديونها نهائيا لتصبح مسئولة عن حياتها مرة أخرى.

يمكنها أن تسيطر على هذا الأمر، فهي بحاجة فقط إلى تدريب وطبعا سيكون الأمر أسهل إذا قرر أنها لا تستحق هذا الجهد.

طعنتها هذه الفكرة في قلبها، وأحنت رأسها وقد بدت الوحشة في عينيها. حدثت نفسها بتعاسة بأنها ستجن، وأن عليها أن تتمالك نفسها، فهي لن تفكر في تعريض نفسها وابنتها للخطر بإقامة علاقة مشئومة أخرى، وهذا سواء أكان لوكاس يريدها أم لا، فهذا عير هام.

بعد فنجان آخر من الشوكولا، قررت كيم بأنها اكتأبت بما فيه الكفاية. رسمت الحزم على وجهها، وقررت القيام ببعض الأعمال المنزلية لتلهي نفسها.

عندما انتهت كان ضوء النهار قد انتشر، فأعدت الحمام واستمتعت بالماء الدافئ والصابون المعطر.

أرادت أن تبدو اليوم في أفضل حالاتها. ولم تسأل نفسها لماذا، فهذا ما كانت تريده وحسب.

عندما أصبحت في غرفتها، أخذت تتأمل ملابسها مفكرة. إنها بحاجة إلى أن تبدو هادئة كفؤة ومسيطرة على نفسها. لا يهم إذا لم تكن تشعر بذلك. فمعظم الناس يجتازون الأزمات في حياتهم بالدعاء، وهذه هي أزمتها. لن تدخل المكتب هذا الصباح زاحفة كجرو جلد السوط. بل ستبدو امرأة ناضجة قادرة معتزة بنفسها.

بعد أن بعثرت ملابسها على السرير، شعرت بالذعر. فقد حان الوقت لكي تعد ميلودي للمدرسة.

وقد تأخرت. أغمضت عينيها ثم أخذت تتنفس وتزفر عدة مرات، علها تهدأ. إنه مجرد يوم عمل عادي لا أكثر.

ـ إلى من تتحدثين يا ماما؟ ولماذا هذه الكومة الكبيرة من الثياب على سريرك؟

قالت ميلودي هذا وهي تطل برأسها من الباب وتنظر إلى أمها بعينين متسعتين.

ـ ماما تفرز ملابسها.

ـ هل يمكنني أن آخذ إدوارد إلى المدرسة لأريه لسوزان وكيري؟

رأتها كيم تحمل تحت إبطها الدب الصغير، ولم يكن لهذا تأثير حسن على كيم، فقالت بما تستطيعه من الهدوء:" لا أظن ذلك يا حبيبتي. ماذا لو ضاع أو اتسخ؟ لماذا لا تضعينه مع بقية ألعابك؟، وعندما تعودين الليلة يكون هنا؟"

لوت ميلودي رأسها جانبا تفكر في الأمر، ثم قالت بحزم:" سأضعه على وسادتي، وهكذا ستعرف ألعابي أنه الرئيس"

ابتسمت كيم بضعف. بدا وكأن هذا يلخص كل شيء بشكل ما.

حملقت في صورتها في المرآة، ثم جمعت شعرها وضمته إلى الخلف بعنف، ثم وضعت على وجهها زينتها الخفيفة المعتادة، وعادت تتفحص نفسها في المرآة لترى النتيجة.

طقمها الكحلي الحسن التفصيل الرزين كان أنيقا وعمليا معا، وكل إنش فيها يشير إلى أنها سكرتيرة خاصة، وهذا ما كانت تريده.

ستذهب إلى العمل هذا الصباح كالعادة، وتؤدي عملها على أحسن وجه، ثم تعود إلى بيتها ****ة عن نفسها لأنها اكتسبت كل قرش من راتبها الممتاز بعرق جبينها. وإذا طلب لوكاس منها موعدا آخر، فسترفض بحزم وأدب. وهذه المرة لن تتزحزح عن موقفها.

دخلت كيم موقف سيارات شركة " كين الكتريكال" الفسيح في وقتها المعتاد، ثم حدقت بدهشة إلى مكان سيارة لوكاس الخلي. هذا يعني أن لوكاس غير موجود!

وعندما وصلت إلى مكتبها اتضح لها السبب. وجدت على مكتبها مغلفا كتب عليه اسمها بخط لوكس... وكانت الملحوظة الموجودة في المغلف مختصرة تتطرق إلى صلب الموضوع.

( كيم، اتصل بي أبي قبل منتصف الليل من المستشفى حيث أخذوه مع أمي بعد أن انفجر إطار عجلة سيارة كان يقودها بسرعة عالية. وقد أصيب الاثنان ببعض الكسور. لكنني فهمت أن الشجرة التي كانت من الحماقة بحيث وقفت في طريقهما، حالتها أسوأ. سأستقل لطائرة إلى هناك لأطمئن عليهما، راجيا أن أتمكن من العودة غدا. رقم هاتفهما في دفتر العناوين في درج مكتبي فيما لو احتجت إليّ)

وتحت المغلف وجدت قائمة بإرشادات للعمل. وهذا كان كل شيء.

أخذت تحدق في الكتابة بعض الوقت وضميرها يؤنبها لأنها بغيضة فظيعة إذ تفكر في لهجة الرسالة الرسمية في ظرف كهذا.

والداه في المستشفى، والواضح أنه قلق عليهما كثيرا ولعله لم يذق نوما وطعاما أو أي شيء آخر، بينما هي هنا منزعجة لأن الرسالة تبدو... باردة، جافة... ولكن لماذا لا تكون كذلك على كل حال؟ فهي سكرتيرته وهذا كل شيء. مجرد سكرتيرته، كما أخذت تعنف نفسها.

مر النهار طويلا مملا. ولم تعرف كي ما إذا كان ذلك لأنها لم تنم الليل، أم لكثرة المراسلات التي كان عليها أن تنهيها. لكن عندما غادرت مبنى الشركة كان رأسها ينبض، وكانت من الإرهاق بحيث ذهبت مباشرة إلى السرير حالما نامت ميلودي.

في الصباح التالي حاولت جاهدة أن تتجاهل التوقع الذي كان يرسل أحاسيس في جسدها وهي في طريقها إلى الشركة، ولكن مع مرور النهار من دون كلمة من لوكاس، وجدت نفسها تقفز كلما رن جرس الهاتف، وتحبس أنفاسها في كل مرة تسمع فيها أصواتا في الخارج.

حلت لساعة الخمسة أخيرا، وغطت كيم الآلة الكاتبة رافضة أن تسمح للسحب التي كونتها خيبة الأمل وجرح الكرامة ومئات الأحاسيس المشوشة بأن تظلم نفسها.

حدثت نفسها بحزم بأنها مسرورة لأن كل هذا حدث الآن. ربما... ربما حماقتها جعلتها تتأثر ببعض الأشياء التي قالها لوكاس أو فعلها.. رغبته فيها، رقته وعطفه عندما كشفت له قليلا مما عانته مع غراهام.و كيف أمضى الوقت أثناء العشاء وهو يحاول إضحاكها وبعث السرور إلى نفسها...آه، ومليون شيء آخر.

وتنهدت بضيق. ما زال أمامها كثير من الأشباح التي عليها أن تتخلص منها قبل أن تنسى الماضي. ومواجهة بعض تلك الأشباح ستكون صعبة للغاية.

نعم، كل هذا يصب حتما في مصلحتها، لأن لوكاس عندما يعود إلى المكتب، سيستأنف العلاقة التي بدأ ببنائها قبل ذلك العناق المشئوم، وكل شيء سيعود إلى حالته الطبيعية، وهذا ما لا تريده هي.

عندما نزلت مع ميلودي من السيارة بعد ذلك بقليل، وقفت كيم لحظة أو اثنتين على طريق المنزل تنظر حولها.

كان اليوم هو أول نيسان، والمساء كان رطبا منعش البرودة والنسيم يحرك أغصن شجرة البتولا الفضية القائمة في الحديقة الأمامية.

كان المنظر جميلا سارا. وهذا ملك لها، كما أخذت كيم تفكر باتزان. ولديها وظيفة، وهي وميلودي في صحة جيدة ومكتفيتان ماديا لأول مرة منذ سنوات.

لماذا إذن تشعر بهذا الثقل في قلبها وهذا الشعور بعدم الراحة؟

وتعاظم هذا الشعور عندما رن جرس الهاتف، وكانت المتصلة ماغي. ومن لهجة صديقتها أدركت كيم على الفور أن شيئا ما قد حدث:" سآخذ تلك الوظيفة في أمريكا مدة ستة أشهر يا كيم"

وكانت ماغي قد حدثتها منذ أسابيع عن ذلك العرض الرائع، لكنها كانت مترددة في مغادرة انكلترا.

فكررت كيم ما قالته لصديقتها منذ البداية:" إنها فرصة رائعة يا ماغي. ما الذي جعلك تقبلين بذلك؟"

قالت ماغي بفتور:" (بيت) لقد تحملت ما فيه الكفاية منه يا كيم. أخبرته بأنه حر في غيابي، ولكن إذ أرادني بعد عودتي فهذا يعني الزواج ولا شيء سواه. أريد أولادا يا كيم، وفي أقرب وقت"

فسألتها كيم قلقة:" هل أنت واثقة؟"

ـ لا. أنا خائفة حتى الموت من أن ينهي العلاقة. لكنني لا أستطيع الاستمرار بهذا الشكل.

تابعتا الحديث فترة قصيرة، وعندما وضعت كيم السماعة من يدها بقيت جالسة مكانها على أسفل السلم وهي تحدق في الفراغ.

ستفتقد ماغي، لكنها شعرت في أعماقها بأن صديقتها تقوم بالعمل الصواب. ستكون هذه مجازفة، ولكن في كل شيء هناك مجازفة.

قطبت جبينها فجأة، واعية إلى أن عقلها يحاول أن يخبرها بشيء لم تستطع أن تحدده. ثم قرع جرس الباب، فنظرت كيم إلى ساعتها. إنها السابعة. من الذي سيزورها في السابعة؟ تساءلت بضجر.الشخص الوحيد الذي يزورها هو ماغي، وماغي كلمتها منذ قليل.

جرّ ننفسها، وسارت نحو الباب تفتحه ورفض مؤدب يحوم حول شفتيها:" لوكاس"

وشعرت بوجهها يتوهج لكنها لم تستطع منع ذلك.

ـ مرحبا يا كيم

ـ لكنك في أمريكا.

ابتسم متعبا:" أحقا؟ يا لي من ساحر!"

ـ أعني ظننتك في أمريكا.

قالت هذا بسرعة وقد انتبهت فجأة إلى بنطلون الجينز القديم وقميص القطن الرقيق الضيق اللذين ارتدتهما قبل أن تحضّر الشاي.

ـ هل يمكنني الدخول؟

شعرت بحدة نظراته على شعرها الذي جعلته مسترسلا على كتفيها فازداد احمرار وجهها:" نعم، طبعا، تفضل بالدخول"

كانت من الاضطراب بحيث كادت تقع أرضا، وإذا بميلودي تنطلق من غرفة الجلوس كرصاصة صغيرة وقد أشرق وجهها:" لوكاس"

ودون أي كبت، هرعت إليه ورفعت وجهها إليه باسمة تسأله بكل ثقة:" هل جئت لتراني؟"

ـ بكل تأكيد.

وإذ تسمرت نظراته على ابنتها، استطاعت كيم أن تتأمله فرأت علامات الإرهاق على وجهه. بدا منهكا كل الإنهاك.

قالت ميلودي بسعادة:" هذا حسن. كنا أنا وأمي نحل لغزا يتعلق بهدية العيد. يمكنك أن تساعدنا إذا شئت. إنه صعب جدا"

قالت هذا مقطبة، فقالت أمها بسرعة:" يا عزيزتي، السد كين ـ لوكاس ـ متعب"

ـ ولكن ليس إلى الحد الذي يمنعني من تجربة حظي بحل اللغز.

قال لوكاس هذا بسرعة، مادا ذراعه إلى ميلودي التي أمسكت بيده على الفور وجرته إلى غرفة الجلوس.

كان اللغز ملقى على صينية كبيرة على البساط أمام النار، فأخذت كيم تنظر بما يشبه عدم التصديق إلى رئيسها اللامع الوقور وهو يخلع سترته ويفك ربطة عنقه قبل أن يجلس على الأرض بجانب ميلودي.

كان الضوء يتألق على شعره الفاحم وشعر ميلودي الأشقر فشعرت كيم لحظة بحافز مذعور يحثها على أن تركض إلى ابنتها ثم تختطفها وتأخذها بين ذراعيها.

سألته بضعف من عند العتبة:" هل تريد... هل تريد شرابا؟"

ـ يسرني هذا. قهوة سوداء من فضلك.

التفت ينظر إليها، فأظهر وهج المدفأة خطوط الإنهاك التي تحيط بفمه وعينيه.

كان مرهقا للغاية. فاستمرت كيم تنظر إليه:" هل أكلت؟ يمكنني أن أعد لك شيئا إذا شئت"

نظر إليها لحظة بهدوء ثم قال:" سيكون هذا رائعا يا كيم. شكرا"

ـ هل والداك على ما يرام؟

تذكرت، متأخرة، أنها لم تسأله عنهما. ولكن هذه كانت المشكلة مع لوكاس، كما حدثت نفسها بامتعاض فهي، في وجوده، لا تستطيع التفكير أو تذكر شيء.

قال بجفاء:" سيعيشان. أبي يعاني من لسان أمي اللاذع أكثر مما يعاني من ساقه المكسورة وعضلاته الممزقة. إنه دوما يسرع في قيادة السيارة وهي واثقة من أن هذا سبب الحادث"

لم يعجبها الشعور الذي أحدثه في نفسها الدفء البادي في صوته، ولم تشأ أن تفكر فيه كابن محب لوالديه، فهذا يجعله يبدو أكثر إنسانية، وهذا شيء خطر.

عندما طالبت ميلودي، وهي تشد لوكاس من كمه، بالانتباه إليها، أمها قالت بسرعة:" سأحضر القهوة".

وقفت في المطبخ جامدة وقلبها يخفق. إنه هنا. لقد جاء. ماذا يعني هذا؟ وخفق قلبها بقوة دفء فأغمضت عينيها. لكن ذلك لم يفعل سوى توضيح صورة لوكاس وهو متربع بجانب ميلودي.

الطعام! رفعت كفيها تصرف هذه الصورة، مخاطبة نفسها بأن تركز على إعداد الطعام.

في السابعة والنصف أحضرت شرائح لحم مشوية مع الليمون والخضار، وأخرجت ميلودي من الغرفة لكي يتمكن من تناول طعامه بسلام.

ـ هذا يبدو لذيذا. شكرا.

الصوت الرقيق العميق استوقف كيم فالتفتت تشير إلى ميلودي لتتابع صعودها إلى أعلى، قبل أن تعود وتنظر إلى لوكاس قائلة بابتسامة خفيفة:" هناك حلوى التفاح والتمر بعده، أو إذا شئت، كعك بالشوكولا الذي تحبه ميلودي"

ء بل كعك بالشوكولا محضر في البيت.

أومأت بينما تمتم هو مسرورا:" منذ سنوات لم أذق كعكا بالشوكولا شغل البيت"

ـ فليكن كعكا بالشوكولا إذن.

بعد أن أغلقت كيم الباب خلفها، اضطرت إلى الاستناد إليه لحظات، كان جذابا للغاية، كما حدثت نفسها بقنوط، كيف يستطيع أن يبدو مزيجا من رجل جلف شارد الذهن وطفل صغير ضائع، في نفس الوقت؟

كما أنها لم تسأله لماذا جاء إليها، حتى أنها لم تتصرف وكأن ظهور رئيس العمل على عتبة سكرتيرته الساعة السابعة مساء هو أمر غير عادي. فقد قدمت له القهوة ثم طهت له عشاء بكل بساطة! بعد أن استحمت ميلودي ورقدت في فراشها، تركتها كيم ووعدتها بأن تعود إليها لتقرأ لها حكاية قبل النوم بعد أن تنتهي من إعداد الحلوى للوكاس.

سخنت الكعك كما تفعل لميلودي، ثم أخذته له بعد أن وضعت فوقه القشدة.

كان لوكاس جالسا يحدق في النار عندما دخلت ومرفقاه على ركبتيه والطبق الفارغ بجانبه، فلاحظت على الفور بأنه خلع ربطة عنقه وثنى كمي قميصه. كانت الرجولة الساحقة تفيض منه، وشعرت كيم بمعدتها تتقلص.

ـ كان يجب أن أتصل قبل أن آتي.

قال هذا فجأة وهو يقف حين دخولها.

ماذا يتوقع منها أن تجيبه؟ تبادلا النظرات لحظة، ثم قالت كيم بهدوء:" ولماذا لم تفعل؟"

ـ لأنك كنت ستمنعينني من القدوم، قائلة بأنك سترينني غدا في المكتب. وأنا لا أستطيع الانتظار ذلك الوقت الطويل.

كان يتكلم وهو يقترب منها، آخذا الصحن من بين أصابعها التي راحت ترتجف فجأة، واضعا إياه على كرسي قبل أن يقف مشرفا عليها بقامته الفارعة الصلبة وعيناه تتفحصان الذهول الذي بدا في وجهها:" لوكاس"

ـ كل ما فعلته منذ ثماني وأربعين ساعة حتى الآن هو توبيخ نفسي على حماقتي لأنني لم أعانقك عندما سنحت الفرصة لذلك. فلتذهب الشهامة ومنحك فرصة للتفكير، إلى جهنم. أنا أريدك يا كيم.

ـ لوكاس، أرجوك...

أسكتها بعناقه، بعناق من نار. ولكن سرعان ما تدخل التحكم القاسي بنفسه، الذي لازمه في حياته، فخفف من وطأة عناقه ولكنه لم يتركها. احتضنها معانقا إياها برقة وكانت هي تتجاوب معه والحقيقة أنها لم تنتبه أن يديها ارتفعتا إلى كتفيه العريضتين، وأن أصابعها اشتبكت بشعره الأسود.

كان قلبها وروحها وكيانها كله يتجاوب معه.

لم تكن تتصور أن بإمكان الإنسان أن يشعر بمثل هذه السعادة.

تمتم في أذنها برقة:"أنت جميلة بشكل لا يُصدّق، ويخلب اللب".

وانتقلت أنامله برقة إلى عنقها الحريري، فدفعت برأسها إلى الخلف واندفع شعرها الكث كستارة لامعة. أحست بأن ما يشعر به يماثل ما تشعر به.

وفجأة، سمع الاثنان من غرفة صوتا صغيرا لكنه حازما:" أمي، أمي، أريد منك أن تقرئي لي الحكاية الآن"

رفع رأسه ببطء بالغ وتمتم ساخرا إزاء خدها المتوهج:" أنقذك الصوت"

حدقت إليه، غير قادرة على سلخ نظراتها عن وجهه وعن الشعر الأسود الذي ينمو على ذقنه.

ثم قالت بصوت فاتر:" الحلوى... جئت لك بالحلوى"

ـ كم يبدو هذا لذيذا.

قال هذا برقة زائدة، وكانا، هما الاثنين، يعلمان أنه لم يكن يتحدث عن الشوكولا.

فقالت وعيناها متعلقتان بوجهه الصلب:" علي أن أذهب. ميلودي تنتظرني"

ابتسم من دون أن يخفف من احتضانها مثقال ذرة:" أنا أعرف شعورها. فأنا أشعر وكأنني كنت أنتظرك طوال حياتي. جئت مباشرة الليلة من المطار. ولو لم أجدك هنا لجلست أمام الباب إلى حين عودتك. ما الذي جعلك تفعلين هذا بي يا امرأة؟"

كان في صوته حيرة حقيقية جعلتها تبتسم، تقريبا. إنما الآن بعد أن تركها اندفعت الحقيقة إلى ذهنها ما جعلها تنتبه إلى أنها كادت تفقد السيطرة على نفسها. وأخذت توبخ نفسها بعنف. كانت حتما ستفقد سيطرتها على نفسها لولا نداء ميلودي.

قالت وهي تحاول تخليص نفسها من بين ذراعيه:" لوكاس، أنت لا تعرفني"

فقال برقة وحزم:" إلى جهنم بفكرة أنني لا أعرفك. ماذا تظنين أن الأشهر الخمسة الماضية فعلت إذن؟ أنا أعرفك وأنت تعرفينني يا كيم، فلا تحاولي أن تخدعي نفسك. لقد أمضينا معظم الأيام الماضية معا، وتبا لذلك"

قالت دون تفكير:" ولكن ليس بشكل ودي حميم"

ـ أنا أكثر من مستعد لتصحيح هذا النقص في أول فرصة.

فقالت بضعف وقد استطاعت الابتعاد عنه امتثالا لنداء ثان من ميلودي:" أنت لا تعرف شعوري"

قال بثقة تامة:" بل أعلم، وهو مختلف تماما عما تخبرينني به، أليس كذلك يا كيم؟"

ـ لا.

كان صوتها ضعيفا وأبدت العينان الفضيتان معرفتهما بذلك.

ـ أنت تريدينني يا كيم وأنا أريدك. الأمر بهذه البساطة.

بادلته النظر وهي ترتعش:" لا شيء بهذه البساطة. ليس لديك فكرة. أن تظن أن إقامة علاقة ثم قطعها مجرد لعبة شخصين ناضجين لكن الأمر ليس كذلك. لا. أنا لست من هذا النوع"

قال بغضب وحدة:" أي نوع تعنين؟ أنا لا أقترح علاقة لليلة واحدة، وبمناسبة خوضنا هذا النقاش، أنا لم أتعود قط المزج بين العلاقات، كما لم أقف قط في الصف، أو أتشاجر مع أحد في سبيل امرأة"

ـ لم أكن أعني...

تلاشى صوتها عندما أخذ يتفحصها بعينين ضيقتين لا تطرفان، فقالت وهي تشير إلى الكعك بأصابع ترتجف:" كل هذه، فأنا علي أن أصعد إلى ميلودي"

وعدما استدارت هاربة من الغرفة سمعته يتمتم بكلمات غير مهذبة، لكنها لم تتوقف.

كانت ميلودي غاضبة مستاءة تماما عندما دخلت كيم غرفتها. ولكن بعد أن قالت لها أمها أنها ستحكي لها الحكاية وتبقى معها حتى تنام اندست الطفلة في فراشها ونامت.

ما الذي فعلته؟ جلست كيم في الغرفة تتأمل ميلودي النائمة.

عليها أن تخبره، حلما تنزل إلى أسفل، أنها تريد أن تترك العمل في الشركة.

أخذ قلبها يخفق بعنف عدة ثوان، مذكرا إياها بأنها بحاجة إلى ذلك، والحقيقة أن هذه الفكرة جعلتها تشعر بالغثيان. لكنها ستفعل ذلك لأن في هذا النجاة لها، فقد أصبحت علاقتهما أكثر حميمية.

لم تعرف تماما كيف ومتى حدث ذلك، لكن هذا لم يعد مهما الآن، فالنهاية هي نفسها. لقد تركته يتسلل إلى حياتها، وهذا يعني الألم والتعاسة. وهذه طريق لا تريد أن تسلكها.

جلست في الغرفة الهادئة خمس دقائق أخرى، تستمع إلى أنفاس ميلودي المنتظمة، متأملة وجهها المطمئن. كان دب لوكاس الصغير تحت ذراع ابنتها، فأثبتت اللعبة هذه كل مخاوفها. على هذا أن ينتهي الآن هذه الليلة.

هبطت السلم بخطوات هادئة، وعندما فتحت باب غرفة الجلوس كانت الكلمات ترتجف على شفتيها.

كان لوكاس مستلقيا على الأريكة التي تتسع لشخصين، إحدى ذراعيه مدلاة إلى الأرض قرب صحنه الفارغ، والثانية ملقاة على الوسائد. وكان مستغرقا في نوم عميق.

وقفت فجأة داخل الغرفة، كما تقف الطريدة أمام الصياد، ثم سارت بحذر إلى جانبه.

كانت عيناه، غير العاديتين الآن، مغمضتين ووجهه ساكنا ما أمكنها أن ترى مبلغ إرهاقه. أخذت تحدق إليه مستوعبة بظمأ كل ملامح وجهه الصلب الفياض بالرجولة. حاجباه الأسودان الممتدان بشكل مسيطر، وجنتاه العنيدتين وفمه الحازم، كلها تنطق بالسلطة والقوة والرجولة المكتملة.

كان وجها يخبر من يراه أنه شخص ل يقهر وأن الهزيمة غير مقبولة لديه ولا يعرفها، وأن الجسم الكبير هذا وعضلاته الواضحة القوية جذابة إلى حد لا يوصف.

كان غائبا عن الدنيا، فتشوقت إلى ضمه بين ذراعيها. يجب أن توقظه وتخبره بأن يذهب.

وانحبست أنفاسها وشعرت فجأة بالذنب، لكنها ما زالت غير قادرة على سلخ نظراتها عن هذا العملاق النائم أمامها.

ماذا سيكون شعورها لو استيقظت في الصباح وهو بجانبها؟... وفجأة، فاض كل الرعب الذي رافق أيام زواجها وغمرتها الذكريات. تنفست بعمق عدة مرات، ولكن الشعور بأنها وقفت في الفخ بقي ساحقا وتملكتها المخاوف.

لا يمكنها أن تتحدث إلى لوكاس الآن. ليس الآن. إنها بحاجة إلى وقت تقتنع فيه بما يحدثها به عقلها. وقفت لحظة أخرى ثم تسللت خارجة من الغرفة لكي تحضر لحافها الاحتياطي لتغطي به لوكاس ثم أطفأت نور غرفة الجلوس قبل أن تعود فتغلق الباب عليه.

عندما أصبحت في غرفتها، جلست على حافة السرير وأخذت تحدق في الفضاء.

لوكاس كين ممدد على أريكتها ويبدو أنه سيبقى هناك حتى الصباح. وهزت رأسها بحيرة. لقد حدث المستحيل الذي لا يمكن تصوره. وماغي لن تصدق ذلك!

استعدت للنوم وأذناها مرهفتان لأقل حركة من غرفة الجلوس. ولكنها لم تسمع شيئا.

حاولت أن تقرأ، لكنها لم تستطع أن تتذكر كلمة مما قرأت.

مرت الساعة الحادية عشرة، ثم جاء منتصف الليل. لوكاس سيمضي الليلة هنا. وضعت كيم الكتاب من يدها، وشربت كوب ماء ثم اندست تحت الأغطية وشعور مفاجئ بأن ما سيكون سيكون.

لم يكن بإمكانها شيئا، لذا الأفضل لها أن تحاول النقم قليلا. فقد كان يوما شاقا، ومساء أشق. وتملكها شعور بأن اليوم التالي لن يكون أفضل.

safsaf313 21-08-09 10:02 AM

8 ـ منجم الحنان




عندما استيقظت كيم على رائحة اللحم المقلي، ظنت أنها تحلم.

كان الفجر قد بدأ يلوح حين استغرقت في نوم متقطع، ولاحظت وهي تنظر إلى المنبه بجانبها، أنها تأخرت في النوم ساعة على الأقل.

وبسبب الارتباك الذي تملكها الليلة الماضية، نسيت أن تربط المنبه. أخذت تفكر في ذلك بشكل سريع وهي تنزل قدميها إلى الأرض.

من سوء حظها أن لوكاس اختار تلك اللحظة لكي يحمل إليها كوب شاي. أما بالنسبة إلى لوكاس فكان منظر كيم بقميص نومها، وشعرها المنثور حول وجهها، وعينيها المتسعتين ذهولا، أحسن بداية ليومه، بداية لم يعرفها منذ زمن طويل.

ـ لوكاس!

نظرت إليه وهي تندفع عائدة إلى السرير رافعة الأغطية إلى ذقنها، ولكن ليس قبل أن ترى شررا حارا في العينين الفضيتين.

فقال بهدوء:" هذا ما أرجوه. هل كنت تتوقعين غيري؟"

فقالت بحدة وقد احمر وجهها:" لم أكن أتوقعك. وأنا تأخرت فقد نسيت ربط المنبه"

ـ استريحي، لديك وقت كاف لإعداد ميلودي للمدرسة. وإذا تأخرت عن عملك، فرئيسك سيسامحك.

وسار نحو السرير فتصاعدت خفقات قلبها... ومدت ذراعها من تحت الأغطية تتناول منه كوب الشاي بإيماءة شكت، بينما شدت بيدها الأخرى الملاءة حول عنقها.

وقال بكسل:" ملعقة سكر واحدة. ميلودي تساعدني على تحضير الفطور وهي منجم معلومات لما تحبين أو لا تحبين. لديك طفلة غية في الذكاء"

ـ أعلم هذا، لكن اذهب، اذهب فقط.

ـ تبدين رائعة لمن يستيقظ على رؤيتك.

لم يكن لوكاس مستعجلا للذهاب. وتركزت نظراته على وجهها المتوهج، وفمه الحازم يبدو رقيقا.

فقالت تحتج بسرعة:" أنت لم تستيقظ على رؤيتي"

ـ لكنني استيقظت وأنت هنا...

وتلاشت كلماته لأنه مال إليها يعانقها. فاهتز فنجان الشاي في يدها. كان عناقا مختصرا وحلوا بشكل لا يصدق. وعندما انتصب واقفا تأمل وجهها لحظة ثم قال بنعومة:" رائعة"

ـ لوكاس... ما كان لك أن تكون هنا. ميلودي ستظن..

أكمل جملتها:" لا شيء أبدا، فأنا أعلم كيف يفكر الأولاد الذين في سن ميلودي"

ذلك هو السبب إذن في ألفته للأولاد. وحملقت كيم فيه وقد أدركت، بشيء من السخط، أنها كلما عرفته أكثر، كلما تبدد جزء من صورة الرجل القاسي الآلي... أرادت أن تكتشف أنه دنيء مع السيدات المسنات، وأنه لا يحب الأولاد، وأنه يرفس القطة ويضرب الكلب.. أي شيء!

وسألته دون تفكير:" أتحب الأطفال؟"

لم يبد عليه أن وجد السؤال غريبا:" عندما يكونون فقط مثل الأولاد في أسرتنا أو مثل ميلودي. أما العفاريت، فلا"

ثم ابتسم ساخرا:" ليس هذا ما "أردت سماعه أليس كذلك؟"

ـ لا أدري ماذا تعني؟

وعاد وجهها يتوهج. يا له من رجل صعب!

فقال ساخرا بلطف:" طبعا لا تدرين"

إنها لن تنتصر عليه الآن، فحاولت أن تبدو جادة متصلبة، فسألته:" أين ميلودي؟"

ـ تتناول المثلجات قبل اللحم والبيض.

ولمس أنفها بإصبعه ثم خرج من الغرفة وهو يقول من فوق كتفه:" يمكنك أن تدخلي الحمام أولا ولكن أسرعي. الفطور سيكون جاهزا في غضون خمس دقائق"

تدخل الحمام أولا؟ رباه، من يسمعه يظن أنه يسكن هنا.

وقبل أن تجد وقتا تعدل فيه ملامح وجهها الساخطة، انفتح الباب مرة أخرى وأطل منه رأس لوكاس:" نسيت أن أشكرك على استضافتك لي. وأنا لا أستطيع التعبير عن مقدار شكري يا كيم"

كان رقيقا وهو يقول هذا، وبدا الهزل في عينيه وهو يرى التعبير البادي على وجهها.

استطاعت أن ترسم على وجهها ابتسامة مهذبة جديرة بالفخر:" لا بأس. كان واضحا أنك كنت بغير وعيك. وكنت سأفعل الشيء نفسه لأي شخص آخر"

ـ والآن، لا تفسدي ما فعلته. وبالمناسبة بقي أمامك أربع دقائق وثلاثون ثنية لكي تنزلي.

أخذت دوش سريعا ولفت شعرها قبل أن تهرع، إلى المطبخ.

كان لوكاس وميلودي جالسين يتناولان الفطور وقد بدا عليهما الانسجام إلى أقصى حد. كانت ميلودي تتحدث عن المدرسة. ولوكاس يصغي إليها بانتباه فتملكها الذعر.

ـ أمي، قال لوكاس إن بإمكاني أن أتناول فطوري مع كعكة. هل يمكنني هذا يا ماما؟

ـ نعم، بشرط أن تأكليه كله.

قالت كيم هذا وهي تسير إلى ميلودي تقبل رأسها بشكل آلي، بينما جذب لوكاس لها كرسيا وأشار إليها بالجلوس. أكلوا بينما كانت ميلودي تنظر إليه بإعجاب سافر.

حدثت كيم نفسها باستياء أن ابنتها تعتبره أحسن من يعد شرائح الخبز، وأن لوكاس يمثل دور رجل الساعة باستمتاع بالغ. لكنها ما لبثت على الفور، أن اعترفت بأنها لم تكن عادلة في ظنها هذا، لأن لوكاس هو لوكاس نفسه.

ـ هل يمكنني طلب خدمة؟

عندما صعدت ميلودي راقصة إلى الطابق الأعلى لكي تغير ملابسها، جلس لوكاس مكانها فأصبح أقرب إلى كيم من قبل.. بكثير. فأجابته كيم بشيء من الحدة:" نعم؟"

ـ هل لديك موسى للحلاقة؟

لم يكن هذا ما توقعته، وهو بالتأكيد يعلم ذلك جيدا. كانت تعلم بأن وجهها توهج احمرارا ومع ذلك بقي صوتها هادئا وهي تقول:" ليس عندي سوى الشفرات الخفيفة التي أستعملها لساقيّ، وأخشى ألا تكون صالحة للحية رجل"

ـ سأتدبر الأمر.

وقبل أن تنتبه إلى ما يفعل، أدار كرسيه نحوها وقال:" ثمة فتات كعك على ذقنك"

قال هذا برقة فائقة وهو يمد يده يمسح ذقنها.

كانت تعرف ما يريده... كان هذا مكتوبا على وجهه... عانقها ببطء متمهلا، وعندما بدأ تشنجها يزول راح قلبه يتجاوب. شعرت بالفرح لأنها بين ذراعيه. وعندما جذبها عن مقعدها لتقف أمامه، لم يعد لديها قوة على المقاومة.

سمعت دقات قلبه عنيفة كمطرقة الحداد. ثم وببطء، شعرت بالعناق يتغير.

رفعت عينين ذابلتين، وكانت العينان الفضيتان في انتظارها، فقال بصوت خشن غير ثابت:" ميلودي في الطابق الأعلى"

وعندما رآها ذاهلة مشوشة الذهن تابع يقول:" دقيقة أخرى وسأعجز عن التوقف، لما تفعلينه بي، يا كيم. إنه يعصف بالعقل"

ـ أحقا أفعل هذا؟

سألته بفتور، شعرة بالمنشفة تنزلق عن رأسها فيسقط شعرها حرا.

همس بصوت أبح:" سننسجم تماما.. أنت تعلمين هذا، أليس كذلك؟ قولي هذا... قولي إنك تعلمين هذا أنت أيضا"

نعم، سينسجمان بشكل لا يصدق. ولكن ماذا بعد أن تنتهي علاقتهما؟ تساءلت بصمت. كيف يواجه الإنسان نتائج انفجار القنبلة الذرية الذي يحوّل كل ما كان آمنا ومألوف إلى حطام؟

لم تكن تريد هذا أبدا، لم تكن تريد أن تقع في الحب مرة أخرى. عند ذلك جمدت مكانها، وشحب وجهها لأنها وجدت الحقيقة التي بقيت أسابيع تحاربها، وهي أنها تحب لوكاس. تحبه.

ـ كيم؟ ماذا حدث؟

كان يراقبها عن قرب. فأجابت:" لا شيء"

كل المشاعر والرغبات التي كان يبعثها في كيانها تلاشت وتركتها باردة كالثلج.

قال وهو يحاول التمسك بالهدوء:" تبدين وكأن شخصا ما لكمك على أسنانك"

ـ قلت لا شيء، وهذا يعني لا شيء.

قالت هذا وهي تحاول التملص من بين ذراعيه بقوة أدهشته:" فقط دعني وشأني يا لوكاس"

فقال غير مصدق:" أدعك وشأنك؟"

فأجابت بهدوء رغم أنها كانت تصرخ وتصيح في داخلها:" نعم، وأريدك أن ترحل الآن"

ـ آه، لا... يا حلوتي. لا سبيل إلى ذلك. لقد سرنا طريقا طويلا منذ تشرين أول، وأنا واثق من أننا لن نتراجع. تكلمي.

كان التصميم البادي في صوته أقوى من الغضب.

ـ لا يمكنك أن ترغمني على فعل أي شيء.

كان رأسها مرفوعا، لكن الخوف والتمرد في وجهها يعارضان ما يطلب منها. حدق لوكاس إليها، مدركا أن لهذه المعارضة جذورا أعمق من حديثهما هذا الصباح. ورغم كل هدا التجهم، بدت له الآن بعمر ميلودي.

تلاشى غضبه وقال بهدوء:" لا. الحق معك. فأنا لا أريد ولن أتصرف بهذا الشكل. العنف أو أي نوع من الابتزاز ليس من عادتي يا كيم، ولكن، مع ذلك، سنتحدث. أتعرفين لماذا؟"

حدقت إليه بعينين واسعتين وسط وجهها الشاحب. فقال برقة فقال برقة:" لأنني أحبك"

ـ لا! هذا غير صحيح.

جاء هذا جوابا منها لكنه ليس الذي كان يرجوه. وشعر وكأن مياها مثلجة صُبت عليه، لكنه لم يظهر أي رد فعل. بل قال ببرودة:" بل هو كذلك. فقد بقيت معك مدة طويلة تكفي لأعرف الشيء الحقيقي عندما يحدث، يا كيم. ولمعلوماتك فقط، لم أقل هذه الكلمة قط لامرأة أخرى، حتى في أكثر الأوقات... حميمية"

انتفضت وبدا العنف في عينيها وانتفخت أوداجها تريده أن يرحل:" وكان هناك كثيرات منهن"

قال بنعومة بالغة:" لم أكن راهبا"

قالت ببطء:" لا أريد علاقة معك"

وكانت تسكت بين كل كلمة وأخرى. وشعر لوكاس بغضبه يتصاعد مرة أخرى وهو يرى العناد الخالص في وجهها. وقال بنفس بطئها وهو يصرف بأسنانه:" إذن عليك أن تقولي السبب. أنت مدينة لي بهذا على الأقل وأنا لن أتزحزح قبل أن نتحدث معا، يا كيم. خذي ميلودي إلى المدرسة ثم عودي إلى هنا. أنا أعني هذا"

لقد سمعت هذه اللهجة بالذات في صوته مرات كثيرة أثناء الأشهر الأخيرة، ما يجعلها لا تشك فيها. لكنه لن يستطيع تغييرها هي، لا الآن ولا لاحقا. لكنها ستتحدث إليه. ربما إذا سمع حديثها سيدرك أنها جادة في ما تريد. وهي جادة فعلا. آه، نعم... إنها جادة... كما أخذت تحدث نفسها بقنوط. كيف سيمكنها أن تخبره عن الإذلال والفظاعة اللذين عاشتهما؟ ولكنها ستكون مضطرة إلى ذلك، فهي الطريقة الوحيدة.

ـ لا بأس.

كان جوابها كئيبا لا حياة فيه، فمحا أي شعور بالانتصار شعر به لوكاس.

كانت ميلودي بالغة لمرح والابتسام والضحك عندما نزلت كيم من غرفتها وعندما ودعت ابنتها لوكاس، مصرة على أن يحملها بين ذراعيه لتقبله على خده، قفزت بمرح خارجة إلى السيارة كنسيم الربيع.

سبب حيويتها هذه اتضح ومها في طريقهما إلى المدرسة.

ـ هل سيصبح لوكاس بابا الجديد؟

طرحت ميلودي على أمها هذا السؤال باهتمام، فكادت أمها تصطدم بزاوية الشارع:" ماذا؟"

كان صوتها عاليا ثاقبا فحاولت كيم أن تلطفه قليلا وهي تتابع:" ماذا تعنين يا حبيبتي؟ طبعا لا"

عبست ميلودي بها مستاءة:" سوزان أصبح لديها أب جديد وكيري أيضا. ووالد كيري يحضر لها فطورها، ويحضر لها هدايا أحيانا"

جذبت كيم نفسا طويلا صامتا وهي تفتش عن الكلمة المناسبة، ثم قالت بحذر:" الناس يحضرون دائما هدايا للآخرين، يا حلوتي"

ـ وهل يبقى الناس ويطهون الفطور أيضا؟

ـ أحيانا.

ـ أنا أحب لوكس

كان هذا مزيجا من التمرد والأمل والارتباك معا.

وهفا قلب كيم إلى هذه الطفلة الصغيرة. فقالت تطمئنها:" وهو أيضا يحبك يا عزيزتي"

ـ <لكن ليس إلى حد أن يصبح بابا الجديد.

نظرت إليها كيم بعجز:" أن يكون الشخص بابا أمر يتطلب أكثر من هذا. إنها أمور تتعلق بالكبار وهي معقدة كثيرا. لكن لوكاس يحبك كما تحبينه بالضبط"

راحت ميلودي تحدق إليها فأعدت كيم نفسها لما قد يأتي بعد ذلك. ولكن بطريقة الأولاد المزاجية، شعرت ميلودي فجأة بالتعب من هذا الموضوع، فقالت تغيره:" حفظت كل الأحرف الهجائية أمس، يا ماما، حتى الأحرف الصعبة"

ـ هذا جميل جدا يا حبيبتي

ـ لكن كيري لم تفعل.

ومدت كيم يدها تمسك بيد ابنتها تعتصرها لحظة، فستجتازان هذه المحنة، بشكل ما.

شعرت كيم وهي عائدة إلى البيت بأنها ترتجف، فأوقفت السيارة جانبا لتستعيد هدوءها، فهي لا تعرف كيف ومتى أصبح الوضع بهذه الخطورة. عليها أن تقنع لوكاس بأنها لا تبحث عن علاقة غرامية. ولكن قد تكون علاقة جادة كما يبدو من قوله انه يحبها. هل هذا صحيح؟ أصحيح أنه يحبها؟ أخذت تفكر في ذلك وهي تغمض عينيها بعنف.
منتديات ليلاس
كيف يمكن للمرء أن يرغب في شيء إلى هذا الحد ثم يخافه في الوقت ذاته إلى حد أن يشعر بالغثيان؟ أخذت تتساءل عن ذلك بصمت وهي تسحب الهواء من بين شفتين مرتجفتين.

الحب يعني خيبة الأمل والخيانة والآلام المرة. إنها تعرف ذلك، ود عرفته. إنه يعني انتقال السلطة من شخص إلى آخر. إنه يعني عبودية وقهرا هما أسوأ من أي شيء آخر لأنه يمس القلب والمشاعر وجوهر الشخص نفسه.

إنها لا تتذكر من والديها سوى صوت رجل عميق ممزوج برائحة خفيفة من دخان سيجار، والشعور بحنان أمها ودفئها. إن ذكراهما أشبه بحلم بعيد... ولكن بإمكانها أن تتذكر عمتها" مابيل" وتتذكر تطمينها لها بأنها ستكون آمنة، وبأن عمتها ستحبها وتعتني بها كما كان والدها يفعل. ثم وجدت نفسها في ملجأ فبكت وصرخت. إنها تتذكر ذلك الآن وكأنه حدث أمس.

ولم تدرك إلا بعد وقت طويل، أن عمتها مابيل التي احتضنتها وكانت ملجأها الوحيد مدة عامين، رحلت وتركتها تحت رحمة الأقارب الذين انقضوا كالنسور على مزرعتها.

فتحت كيم عينيها على اتساعهما وأخذت تحدق أمامها مباشرة... ثم جاء غراهام... وتصلبت ملامحها، وأدارت السيارة بحركة حدة من يدها.

عندما أوقفت السيارة أمام كوخها، كان لوكاس في انتظاره.. بدا خشنا شاردا، لكنها كانت تعرف أن شروده هذا سلاح فتاك يستعمله بخبرة ومهارة لمعالجة موقف معين.

قال بلطف:" القهوة جاهزة"

وحدثت نفسها بأنه يتعمد الرقة واللطف. فقالت بسرعة:" لوكاس، لا فائدة من أن نتحدث بهذا الشكل"

فابتسم متهكما:" أنا غير موافق"

جربت كيم طريقة أخرى، فقالت تذكره:" اتفاقية مارسدن معلقة بخيط. والمفروض أن تتصل بمايلز مارسدن الساعة التاسعة هذا الصباح"

حدق ليها وقد ضاقت عيناه، وبادلته التحديق لحظة قبل أن تصبح العينان الفضيتان غير مقروءتين.

وعاد يقول بصوت جامد:" قهوة. لقد اعتدت على قهوتي اليومية ولا يمكنني إغفالها، أو ربما المفروض أن أقول إنني لا أريد إغفالها"

لم يكونا يتحدثان عن القهوة. سارت كيم إلى الردهة عندما دعاها إلى الدخول، ومرة أخرى شعرت بأنها الضيفة وهو رب البيت. شعرت بالمرارة لكنها رحبت بروح التحفز التي تملكتها... ستتسلح بكل ما لديها من شجاعة لتجتاز هذه المحنة.

أكملت سيرها إلى المطبخ فرأت على الفور أن لوكاس قد رتب المكان، والدليل الوحيد الباقي من فطورهم كان رائحة اللحم المقلي الخفيفة. قالت:" ما كان لك أن ترتب المكان. لا حاجة لذلك"

تجاهل قولها ولحق بها إلى المطبخ ثم استند إلى الجدار وقد دس يديه في جيبيه وبدا في عينيه العقم والتصميم. وكان في غيابها قد حلق ذقنه واستحم لأن شعره ما زال مبتلا.

رأت نفسها ترتجف وهي تسكب القهوة، بسبب نظراته العنيفة التي تمنعها من الشعور بالراحة. وعندما ناولته كوبه غصت بريقها.

انتصب في وقفته وهو يتناول كوبه، وشعرت بحواسها تتجاوب معه بسرعة مذلة بينما كن يشكرها:" شكرا، وهكذا..."

لم يحاول أن يقف جانبا وهي لم تكن لتستطيع التحرك إلا إذا اصطدمت به، فانحبست إلى زاوية المطبخ الصغير بينما كان يتابع:" أخبرتك بأنني أحبك، فكان جوابك أن طلبت مني أن أخرج من بيتك. هل لك أن تخبرينني لماذا؟"

سألها هذا ببرودة وجمود، فأجابت بألم:" هل كنت ستصغي لي لو أنني قلت لا؟"

ـ لا

ـ هذا ما ظننته

من أين تبدأ؟ أخذت جرعة كبيرة من القهوة الساخنة ثم أجفلت إذ أحرقت حلقها. سألته بهدوء، عالمة بأنها تراوغ:" أتريد مني أن أستقيل؟"

ـ لا يا كيم، لا أريد منك أن تستقيلي بل أريدك أن تتحدثي إلي.

كان يطلب أصعب شيء في العالم.. حدقت إليه بوجه متوتر، ثم نظرت إلى قهوتها الساخنة وهي تقول بنعومة:" إنها قصة طويلة وهي لن تغير شيئا من الأمر"

ـ سأكون أنا الحكم.

عند ذلك نظرت إليه وهي تفتش في ذهنها عن طريق للنجاة، لكنها لم تجد. فقد قرر أن يحصل على ما يريد. وبما أن لوكس هو لوكاس، فذلك بالضبط ما سيحصل عليه. بصرف النظر عن ألمها، وذله، وعارها...

جذبت نفسا عميقا، ثم راحت تتكلم. بدأت بوصف حزنها على موت عمتها وكيف أُخذت بسرعة إلى الملجأ، ثم وصفت بدقة كفاحها لمواجهة الوحدة والعزلة اللتين كانت تشعر بهما. ثم قالت:" ثم ذهبت إلى الجامعة وتعرفت إلى غراهام"

سألها برقة:" هل أحببته؟"

فابتسمت بمرارة:" هذا ما ظننته. كان محيرا للغاية أن يكون معي كل دقيقة، وأن يحبني بذلك القدر. لم يحدث لي ذلك قط من قبل. ثم تزوجنا"

وسكتت فجأة إذ تملكها شعور فظيع بأنها وقعت في الشرك، فأخذت تنتقل متململة في تلك الفسحة الصغيرة:" هل يمكننا أن نذهب إلى غرفة الجلوس؟"

ـ بكل تأكيد.

ومس خدها بيده الكبيرة برفق قبل أن يقف جنبا ليدعها تمر. كانت أصابعه باردة ثابتة، والأحاسيس التي سرت في كيانها حبست أنفاسها فجأة. وجعلتها تهرول إلى غرفة الجلوس بسرعة. وعندما التفتت لتواجهه مرة أخرى، رفع حاجبيه:" لم أكن لأتهجم عليك"

ـ أعلم هذا

ـ أنت لا تكذبين جيدا. أكملي قصتك. أن الآن متزوجة..

ـ لم يكن غراهام يحبني. في الواقع، لا أظنه كان قادرا على الإحساس، بدا في الجامعة ذا شخصية جيدة وكنا دوما محاطين بالناس هناك، وكانت الحياة رائعة للغاية. كما أن ولعه بالشراب لم يكن ظاهرا.

أومأ لوكاس بجفاء:" وأنا أيضا كنت فتى صغيرا ذات يوم"

ـ مول والداه عملا صغيرا له، فكان مسرورا لهذا في البداية، مختالا بذلك بين أصدقائه وأقرانه. لكن ولعه بالشراب ازداد. حاولت أن أساعده لكنه حملني مسؤولية ذلك، قائلا انه مضطر إلى أن يشرب لأنني زوجة عديمة النفع، خصوصا في الفراش.

حولت أن تتابع الكلام بهدوء، لكن الألم الناتج عن رفض غراهام لها ما زال جرحا لم يلتئم بعد.

ـ كان قد مضى على زواجنا سنة ونصف عندما اقترح...

جلست كيم على كرسي مطأطئة رأسها وشعرها يغطي وجهها كالنقاب. لقد شعرت بضعف كبير هذا الصباح قبل أن تأخذ ميلودي إلى المدرسة، لكنها مسرورة الآن من تلك الحماية القليلة من تينك العينين النفاذتين.

سألها لوكاس متوترا:" ما الذي اقترحه، يا كيم؟"

ـ طلب مني... أراد مني أن أنام مع أحد زبائنه المهمين، وقد غضب عندما حملت بميلودي بسرعة بعد زواجنا. وطلب مني أن أجهض، اعتبرني مسئولة عن فشله في العمل لازدياد مسؤولياته بهذا الحمل. وقال إنني مدينة له.

شتم لوكاس بصوت خافت. كان يعرف هذا النوع القذر من الرجال، رجال دون ضمير، رجال يستغلون ضعف ورقّة أناس آخرين ليتسلطوا عليهم. وكانت كيم هدفا سهلا نتيجة نشأتها وخلفيتها. ولا شك أن جمالها جعله يظن أنه سيكسب الكثير.

ـ كانت ميلودي في الشهر الخامس من عمرها وكنت حتى ذلك الحين أحاول أن أقنع نفسي بأن بإمكاني أن أصلح زواجنا لأجل ابنتنا على الأقل.

فعلت كل شيء لكي أجعله يحبني. حاولت أن أسره من كل ناحية أعرفها.

سكتت مرة أخرى وذكرى الإذلال الذي تلقته في تلك الأيام ما زالت حية فيها. كم من المرات، في الأسابيع والشهور التي تلت ما طلبه السافل منها، حدثت نفسها بأنها لا بد كانت مجنونة إذ لم تر حقيقته من قبل؟ لكنها لم ترها.

وبالرغم من محاولتها السيطرة على صوتها، بقي يرتجف وهي تتابع:" لكنني ذلك اليوم، فقدت صوابي. فقدته حقا. هجمت عليه، ضربته، خدشته، فبدلني الضرب، وبقوة فقدت معها وعيي بعض الوقت"

ـ رباه! يا كيم.

أدرك أنها لن تحب أن يلمسها فالذكرى الأليمة ما زالت حية... لكنه لم يستطع أن يراها جالسة، صغيرة نحيلة محطمة، من دون أن يحتضنها مواسيا. ضمها ليه. وعندما تصلب جسدها، قال لها برقة:" لا بأس في ذلك، لا بأس في ذلك. كل ما في الأمر أنني أردت أن أضمك للتخفيف عنك كما يخفف إنسان عن آخر، ولا شيء أكثر من ذلك، يا كيم، أقسم لك"

لو أن ذلك الخنزير القذر لم يكن ميتا، لدفع كل ما يملك في سبيل خمس دقائق يمضيها معه. كان سيجعله يتألم بقية حياته، لأنه قتله في النهاية أسرع مما يجب لحياته القذرة.

وهمست كيم ووجهها مدسوس في قميصه:" عندما عدت إلى وعيي، كان جالسا أمامي وميلودي على ركبتيه. قال لي إنني إذا أخبرت أي إنسان عما حدث فسيقتلها، ثم يقتلني، وقد صدقته، يا لوكاس. فبإمكانه ذلك، عندما يثور طبعه. قال إن من المهم، بالنسبة إلى العمل، أن يراه الناس رب أسرة، ولهذا، إذا حولت أن أتركه، فسيعثر علي أينما ذهبت. لكنه وعدني بألا يضربني مرة أخرى أبدا"

ـ كان عليك أن تتركيه. هناك أمكنة

نظرت إليه بعينين دامعتين:" لا. لأنه كان سيعثر علينا. لكنني منذ ذلك اليوم، انتقلت إلى غرفة ميلودي وصرت أنام فيها. لم أعد أستطيع أن أتحمل لمسته. شيء ما مات في داخلي إلى الأبد، ذلك اليوم، يا لوكاس. وقد عرفته. وهو أنني لم أعد أثق بأي رجل مرة أخرى"

فقال عابسا:" لكنني لست( أي رجل)"

وجلس على الأريكة وكيم بجانبه، وكان يشدها إليه كلما حاولت التملص منه.

تابعت تقول وقد تصلب جسمها:" أصبحت لأمور أسوأ فأسوأ. أصبح.. كالشيطان. وجاءت الليلة التي وقعت فيها الحادثة، عندما حنث بوعده وضربني مرة أخرى. فقد هجم علي قائلا إنني أحرمه من حقوقه الزوجية وسيأخذها بالقوة إذا اضطر لذلك. لكنني قاومته وضربته على رأسه بالمقلاة، وأخيرا حبست نفسي في غرفة ميلودي. ظننت أنه سيحطم الباب، لكنه ذهب إلى حفلة شراب صاخبة، وأنت تعرف الباقي"

وجذبت نفس عميقا:" ما عدا أنه ترك لي ديونا.. ديونا كثيرة. وكنت من الغباء بحيث وقعت على سندات الدين فأصبحت مسؤولة عنها مثله"

قل لوكاس برقة وصوته متهدج بالمشاعر:" ولهذا قبلت بالوظيفة في شركة "كين الكتريكال" بسرعة. وظننت أنك وقعت صريعة فتنتي التي لا تقاوم"

كان يحاول أن يلطف الأمور بالمزاح. كانت تعلم هذا، لكن التصاقه بها كان أكث مما تستطيع احتماله، فقالت وهي ترتجف:" أرجوك أن تتركني، يا لوكاس. ولا تشعر بالأسف لأجلي، فأنا لم أخبرك بقصتي مع غراهام من أجل ذلك"

رفع ذقنها لكي تستطيع النظر إلى وجهه، فرأت الغضب البالغ يتصارع مع حنان جعلها تريد أن تبكي.

ـ أصغي إلي يا كيم. أنا لا أنكر أنني أريده أن يعاني من عذاب جهنم لما فعله بك، ولو كن حيا لبحثت عنه ولقنته درسا لن ينساه بقية حياته. هذه هي طباعي. ولكن عليك أن تنسي ذلك المعتوه، فقد مات وانتهى... ولا أعني فقط أنه مات جسديا.

كانت ترتجف ورأسها يدور بسبب قربه منها، وتابع يقول:" إذا تركته يصنع لك مستقبلك حتى بعد مقته، فيكون قد انتصر عليك حقا. ألا تفهمين ذلك؟ أنت تستحقين أكثر من الحثالة التي تركها لك. وميلودي أيضا"

قالت بتوتر، خائفة من أن يقنعها:" ميلودي من الأسباب التي تجعلني لا أريد إقامة علاقة مع أحد على الإطلاق. نحن بأمان هكذا، وهذا كل ما أطلبه من المستقبل يا لوكاس. أن نكون آمنتين"

قال مزمجرا بهدوء:" إلى جهنم بذلك. آسف، لا تنظري إلي بهذا الشكل، فأنا لا أريد أن أجرحك بحق الله، لكنني، كما قلت لك من قبل، لست ( أي رجل). وما بيننا غير طبيعي. أنت تريدين أن تكوني آمنة، لكن الحياة تحتوي أكثر من مجرد الأمان، يا حبيبتي. لا تلقي بكل آمالك وأحلامك وطموحاتك على قبر ذلك الجرذ. يمكنني أن أجعلك حية بطريقة لم تحلمي بها قط"

حبيبتي. لم تستطع كيم أن تفعل غير النظر إليه، لكن عينيها كانتا حافلتين بالخوف وعدم الثقة، وقرأ الذعر والإنكار في وجهها بإحباط عميق صامت.

ـ أنا أريدك يا كيم، ولكن ليس لليلة أو أسبوع أو شهر...

ـ لا.

وقبل أن يقول شيئا آخر، كانت قد قفزت بعيدا عنه، ثم وقفت وهي ترتعش قائلة:" عليك أن تفهم، يا لوكاس، أرجوك. لا أستطيع... لا أريد أن ألتزم"

كم من المرات قال هذا بالضبط للجميلات اللاتي يدعوهن إلى سريره؟ كان يفكر في ذلك ساخرا من نفسه، وهو يرى أنه وقع في الفخ نفسه الذي نصبه لغيره. ولكن عليه اللعنة إذا كان سيدعها تفلت من يده، فهي له. وعليه فقط أن يقنعها بذلك.

لكنها نالت ما يكفيها طوال حياتها من القوة الوحشية وهو لن يلجأ إلى هذا معها. إنه لا يشك في أنها ستستسلم له، لكنه يريد أكثر من جسدها... يريد أكثر بكثير.

ـ لا بأس

ووقف ببطء يواجهها، داسا يديه في جيبيه ليذكر نفسه بألا يضمها إليه.. لشدة ما يريد ضمها...

ـ لا بأس؟

كانت الدموع تتألق عل وجنتيها الشاحبتين، ثم سحبت نفسا مرتجفا:" ماذا تعني بكلمة (لا بأس)؟"

ـ قبلت شرطك بأن نكون مجرد صديقين. وأنا مسرور لأنك وثقت بي إلى حد أن تخبريني عن ماضيك. وأول شروط الصداقة هو الثقة.

حدقت كيم إليه، شاعرة وكأنها أليس في بلاد العجائب. أتراها ذكرت شيئا عن صداقة؟ تساءلت عن ذلك بارتباك. ومن أين جاءته فكرة أنها تثق به؟

ـ وهكذا، سنستمر من هنا، دون عداوة بيننا، أليس كذلك؟

كانت لهجته رقيقة وهو يرى تصلب جسدها الضعيف، ووجهها الشاحب وعينيها المعذبتين، فأنذره ذلك بأنها وصلت إلى أقصى حدود الاحتمال... وفي هذه اللحظات أرادها أكثر من أي وقت مضى.

ـ لا... لا أعرف.

قالت هذا متلعثمة، شاعرة فجأة بأنها لا تعرف بالضبط ما يجري بينهما من حديث.

ـ كيم، أخبرتني بأنك تريدين أن تعملي لكي تسددي ديون غراهام، وأنت تريدين حتما أن تؤمني لميلودي أحسن معيشة. وعملك عندي هو أمر جيد لكلينا. فقد حصلت على شخص جدير بالثقة. وأنت حصلت على راتب ممتاز.

ـ ولكن... ولكن ما قلته...

ـ عن أنني أحبك؟ وأريدك؟ هذا ما زال قائما، مع الأسف. لكنني لست فتى غرا مراهقا لا يستطيع التحكم بنفسه. والحياة تستمر حتى مع كبريائي الجريحة. أنا رجل أعمال في المقام الأول، يا كيم. وعليك أن تعلمي أن كل شيء آخر يأتي في المقام الثاني.

قال هذا وهو يعترف لنفسه بسخرية مرة أن هذا كان رأيه ذات يوم.

ـ الأشهر الأخيرة الماضية كانت... مجهدة نوعا ما... أليس كذلك؟

ورفع حاجبيه ساخرا، وعندما أومأت بخفة، أشار برأسه موافقا:" إنما الآن، أصبحنا نعرف أين نقف دون مشاعر عنيفة. اتفقنا؟"

ـ اتفقنا.

ابتسم وهي تقول ذلك، لكن كيم لم تبادله الابتسام. فتحت عينيها على اتساعهما عندما وضع يديه على كتفيها النحيلتين، لكنها وقفت أمامه هادئة مرغمة نفسها على ألا تبتعد عنه... وعندما أحنى رأسه الأسود الشعر ومسح قمة رأسها بشفتيه بخفة، بقيت واقفة دون حراك، متسائلة باستغراب لماذا تشعر بأن قلبها أخذ يتحطم؟

safsaf313 21-08-09 10:03 AM

9 ـ ملكة الثلج




لم تذهب كيم إلى العمل ذلك النهار رغم أن لوكاس غادر بيتها مباشرة بعد حديثهما.

أمرها بأن تعود إلى فراشها وتحصل على قسط من النوم قبل أن تذهب لإحضار ميلودي. لكنها وجدت النوم هو آخر ما تريده. وبعد ساعة ونحوها من التململ والتقلب في الفراش، ألقت عنها الأغطية وعادت ترتدي ثيابها، ثم أخذت تقوم بتنظيف شامل للبيت.

خفف العمل الشاق من متاعبها النفسية. على الأقل شعرت بالنعاس حالما لمس رأسها الوسادة تلك الليلة، كما لم تر أحلاما، أو على الأقل لم تر أحلاما مزعجة.

حين رأت لوكاس لأول مرة بعد ذلك الصباح وجدت قلبها يخفق بشدة حتى كادت تشعر بأنها تختنق. لكنه قد عاد مرة أخرى ذلك الرجل الثري الجاف النائي الجذاب الذي عرفته لأول مرة. وتملكتها الحيرة وهي تجد نفسها، بعد ساعة أو ساعتين، وقد تلاشى توترها. وعند نهاية النهار كانت من الارتياح بحيث ضحكت عندما قال لها شيئا مضحكا عن الحياة.

وفي الصباح التالي، عرفت نفس الرعشة وخفقان القلب كاليوم السابق. ولكن عندما لم يحول لوكاس التقرب عادت علاقة العمل القديمة تلك تدريجيا لتستقر في مكانها الأول.

ما زالت العينان الفضيتان تسمرانها أحيانا، ولكنها كانت تطمئن نفسها في كل مرة تلحظه ينظر إليها بطريقة معينة بأنه لوكاس وعادته في قراءة أفكارها تقريبا. ولكن ذلك لم يكن يشعرها بالراحة، إنما متى كان الارتياح والسكينة من مزايا الجو المحيط بلوكاس على كل حال؟

وجدت كيم أنها تفتقد ماغي أكثر مما توقعت وذلك مع مرور الأيام والأسابيع.

ومع حلول شهر حزيران، اعترفت كيم مرغمة بأنها تعاني من الوحدة. إنها تحب ميلودي كثيرا لكن افتقارها إلى الأصدقاء الراشدين أثر فيها. ولكن هل هذا كل شيء حقا؟ أرغمها صدقها الفطري على طرح السؤال في اللحظة التالية.

لم يكن شعورها بالوحدة الذي يعذبها بقدر شوقها إلى لوكاس ولكن الفرق بينهما كان دقيقا غامضا.

منذ تقبلت فكرة أنها تحبه، أصبح لا يفارق ذهنها. لم يكن الأمر سيئا جدا حين يكون في العمل، لأن بإمكانها أن تراه حينذاك، على الأقل، وتسمعه يتكلم وتضحك على نكاته.

يا للفتاة الحزينة! كانت فكرة مزعجة لكنها حقيقية. وقوست كتفيها وقطبت جبينها بسبب وهج الشمس.

كانت مرغمة على رؤيته على ضوء جديد عندما يأخذها إلى أحد المطاعم الصغيرة التي يفضلها أو إلى مكان عام. ورغم أنه أكد لها أن هذه هي الطريقة التي يعامل بها سكرتيراته، إلا أنها شعرت بألم صامت في فؤادها، وهذا ما شعرت به أيضا عندما ذهبت مرتين إلى بيته، وقابلت مارتا مدبرة منزله، ورأت الحيوانات التي تعيش في بيته الكبير الرائع الجمال. ومرة أخرى، كان هناك سبب وجيه لذهابها إلى هناك. المرة الأولى، مر على بيته وهو عائد معها إلى المكتب بعد تناولهما الغداء وذلك ليحضر ملفا نسيه. وفي المرة الثانية طلب منها أن تحضر له بعض الأوراق عندما كان يعمل في البيت. ولكن، في كل مرة، كانت مارتا تصر على كيم أن تشاركها القهوة والبسكويت وكانت تعاملها... كيف بالضبط؟

أخذت كيم تسأل نفسها بصمت. كرفيقة؟ كصديقة؟ ولكن ليس كواحدة من موظفات لوكاس.

أما علاقة لوكاس بمدبرة منزله فمثيرة بشكل خاص. الدفء والحنان في صوت لوكاس والإخلاص اللافت للنظر في مارتا عندما تتحدث ليه بلهجتها الاسكوتلاندية، كل ذلك كان يقلقها ويثير أعصابها.

وهذا لا يعني أن لوكاس تجاوز حده معها لحظة واحدة. آه، لا... ليس هذا الرجل الثلجي. لكنها ما لبثت أن وبخت نفسها، معترفة بأنها غير عادلة أبدا. كل ما في الأمر هو أنها لم تتوقع أن يلتزم بقراره بهذه الصلابة أو بهذه السهولة!

هذا يكفي. دعي التفكير في لوكاس وانصرفي إلى شيء آخر... هذا ما حدثت به نفسها برزانة قبل أن تخرج من باب المطبخ إلى أشعة الشمس المتألقة في الحديقة.

ـ أتحبين الذهاب إلى بركة الماء يا حبيبتي؟

صاحت بهذا تنادي ميلودي فكان الجواب صيحة ابتهاج. وخلال نصف ساعة، كانت البحيرة ممتلئة، فأخذت ميلودي تعبث في الماء فيما جلست كيم على مقعد في ظل شجرة زان وفي يدها فنجان قهوة.

كان عالما بعيدا عن ذلك الكابوس الذي عانتا منه مدة عامين طويلين. واغرورقت عينا كيم بدموع ساخنة وجدتها سخيفة في الوقت الذي عليها أن تبتسم فيه. لوكاس جعل كل هذا ممكنا، إذ أعاد إليها استقلاليتها، ومنحها فرصة بناء حياة جيدة لها ولابنتها، وكانت شاكرة له إلى حد لا يصدق، لكنها لم تخبره بذلك في الحقيقة.

غالبت دموعها بصعوبة. عاجلا أم آجلا ستصطاده امرأة جميلة. إنها لا تعرف إن كان يخرج مع نساء، ولكن هذا ممكن وهي لا تلومه على ذلك، فالعزوبة، كما قال مرة، ليست عادته.

وإن خسرت الفردوس فالذنب ذنبها. وحدقت كيم أمامها، لكن الحديقة تلاشت لتحل مكانها هاوية مظلمة من الأفكار. إذ جاءها الحظ مرة أخرى، فسيكون تصرفها هو ذاته بالضبط. لعلها تخسر بذلك الفردوس، لكن جهنم التي عانت منها مع غراهام، تمنعها من الارتباط مرة أخرى بعلاقة. كن لديها، مع غراهام، عذر هو أنها لم تكن تعلم ما تفعل، ولكن لن يكون عندها عذر إذا عادت فخطرت بنفسها وبابنتها مرة أخرى عن طيب خاطر.

إنه نفس الصراع الذي أخذ يدور في ذهنها في الشهرين الماضيين. وعندما ربتت ميلودي على ذراعها بفروغ صبر قائلة بأنها تسمع جرس الباب يدق، استغرقت منها العودة إلى واقعها عدة ثوان.

ابتسمت للوجه الصغير العابس وتناولت عباءتها ثم نهضت وتوجهت إلى الباب الأمامي تفتحه دون أن تفكر في من قد يأتي لزيارتها في الساعة العاشرة من صباح يوم مشمس من حزيران.

ـ لوكاس؟

أخذت تحدق ببلادة إلى الجسم الطويل الذي كان يرتدي قميصا أبيض وبنطلون جينز أسود.

ولكن عندما ضاقت العينان الفضيتان وبدا فيهما الإعجاب بملابسها، أو بالأحرى بقلة ملابسها، تبلجت لها الحقيقة بشكل طوفان ساخن بدأ من أصابع قدميها صعودا إلى أعلى.

قاومت كيم دافعا يحثها عل أن تشبك ذراعيها فوق صدرها تستره، وقالت بصوت هادئ قدر الإمكان:" ماذا حدث؟ هل من خطب؟"

أجاب متمهلا:" حدث الكثير. أول شيء هو أنني أعنّف نفسي لأنني لم أزرك قبل فصل الصيف هذا"

حاولت أن تبتسم، وكان هذا خطأ منها لأن الابتسامة تحولت إلى التواء متوتر لشفتيها، ثم، عندما سمعت صيحة الإثارة من ميلودي خلفها، تأوهت في داخلها. ما تعرفه عن حسن ضيافة ابنتها، جعلها واثقة من أنها ستدعوه إلى الدخول ليشاركهما الجلسة عند البركة.

ـ لوكاس!

اندفعت ميلودي على أرض الردهة منزلقة بقدميها الصغيرتين الحافيتين. وعندما انحنى لوكاس مادا ذراعيه قفزت الطفلة بينهما مباشرة:" كنت أسأل أمي دوما متى ستأتي فكانت تقول إنها لا تعلم. قالت إنك مشغول جدا"

ـ لست مشغولا إلى الحد الذي يمنعني من أن أزورك.

قال هذا وهو ينتصب واقفا والطفلة بين ذراعيه، وأخذ ينظر إلى كيم. راح يتفحصها بعينين لا تطرفان، فتنهدت كيم مذعنة للطلب الصامت، وقالت بلهجة فيها أثر من خشونة:" تفضل بالدخول"

لم يكن بإمكانها مقاومتهما مها الاثنين. شكرها بعرفان جميل ساخر، فعاد وجهها إلى التوهج غضبا. يا له من رجل صعب مزعج! وسرعان ما تلاشت كل المشاعر الدافئة التي شعرت بها نحوه.
سارت أمامه واعية إلى شفافية العباءة التي اشترتها منذ أسابيع.

كان لوكاس قد أخذها إلى الغداء في اليوم السابق، وعندما كانا يغادران المطعم، سمعا صوتا خافتا متحفظا يناديه من إحدى لموائد، ثم تقدمت امرأة ووقفت بجانبهما.

قدمهما لوكاس، حينذاك، إلى بعضهما البعض. كانت المرأة الأخرى متبرجة بشكل كامل، ولمعت شفتاها المصبوغتان بشبه ابتسامة وهي تسأل لوكاس إن كان سيأتي إلى حفلة ما في تلك العطلة الأسبوعية:" سنمضي وقتا مرحا للغاية، يا عزيزي. عادة كلاريس في جمع الأصدقاء لم تتغير..."

وكانت الجملة الأخيرة موجهة إلى كيم.

لا بد أن وجهها نطق بالكثير لأنها تذكرت ابتسامة لوكاس السخرة وهما يودعان المرأة. ثم يغادران المطعم ممسكا بمرفقها.

قاومت رغبتها في السؤال عن امرأة حتى اقتربا من المكتب:" هل هي صديقة قديمة؟"

هز لوكاس كتفيه حينذاك:" نوعا ما"

قالت كيم ببشاشة ممزوجة بالكراهية له:" يبدو أن الحفلة ستكون صاخبة نوعا ما"

نظر إلى وجهها المتوهج لحظة، هازلا:" ليس تماما. كلاريس تحب دوما أن تكون مميزة عن سواها"

فعلقت كيم بجفاء:" لا بد أن المنافسة تصبح عنيفة"

ـ هذا ما لن أعرفه.

وكانا قد وصلا إلى مبنى شركة " كين الكتريكال"، فتحول بالسيارة إلى موقفه الخاص، قبل أن يلتفت إليها، مادا ذراعه بعفوية على مسند مقعدها:" أنا شخصيا أفضّل أن أكون على الطبيعة، ولكن إذا كان علي أن أرتدي شيئا فبنطلون جينز قديم يكفي"

الصور التي توهجت في مخيلتها حينذاك أخذت تعمل عملها، ولكن عندما تركت مبنى الشركة استطاعت السيطرة على أفكارها لمشوشة.

على كل حال، صورة الجميلة ذات الشعر الأحمر والعينين الخضراوين بقيت في ذهنها.

ـ إذا ذهبت إلى الحديقة مع ميلودي، فسأحضر أنا صينية القهوة.

قالت كيم له هذا عندما أصبحوا في المطبخ... بجانب الباب الخلفي.

فرد لوكاس الواقف قرب الباب الخلفي، رائعا، ساحرا كحاله دائما في أحلامها:" لا داعي للعجلة"

وكانت ميلودي الآن مستقرة بين ذراعيه ورأسها تحت كتفه ووجهها ناحية أمها.

بدا واضحا أنه مستمتع بالنظر إلى وجهها، وكانت كيم محرجة من ثوب السباحة ومن ضمه ميلودي إلى قلبه. بدا لوكاس وكأنه أب لميلودي، وهذا أرسل في كيانها ألما كاد يوقع إبريق القهوة من يدها.

عندما أصبحوا في الحديقة، جلس لوكاس عند قدميها مما سبب مشاكل لتوازنها النفسي. كان ينظر إلى ميلودي وهي تعبث في مياه البركة، فقال:" طفلة الماء"

بدا صوته العميق كسولا هازلا، فشعرت بالمرارة لرباطة جأشه.

ـ ميلودي تعشق الماء.

جاءت كلماتها صلبة متوترة لكنها أحسن ما استطاعت عمله. سكتت لحظة محاولة أن تجعل صوتها طبيعيا قبل أن تسأله:" لماذا هذه الزيارة، يا لوكاس؟"

ـ لأنه نهار رائع. ماغي في أمريكا، ففكرت أنك بحاجة إلى صحبة الأصدقاء.

قال هذا بهدوء وما زالت نظراته متجهة إلى الطفلة أمامهما. لقد فعلها مرة أخرى، فقرأ أفكارها. ولم تعرف ما إذا كان عليها أن تكون غاضبة أم مبتهجة، ولكن بسبب كل التعقيدات التي بينها وبين هذا الرجل، قررت اعتماد الغضب:" هذه شهامة بالغلة منك. ولكن..."

ـ لا ليست شهامة يا كيم

ورفع بصره إليها، فشعرت بأنفاسها تنحبس بسبب حدة المشاعر الكامنة في العينين الفضيتين الرائعتين، بينما كان يتابع:" أنا أريد أن أكون معك في كل عطلة أسبوعية لعينة. وهذا الصباح قررت أن كلمة يكفي تعني الكفاية"

حدقت إليه وقد توقف ذهنها كل تفكير مترابط. وسألها ببطء:" ما قولك في قضاء اليوم معا؟"

شعرت كيم بقوة شخصيته تحتويها، بدا لها أسمر صلبا وجذابا وبدأت ترتجف.

وتابع يقول بهدوء:" فكرت في أن نذهب لنتغذى في مكان صغير أعرفه، ثم نقضي العصر في النهر وبعد ذلك نذهب للعشاء في بيتي... مارتا ستكرس نفسها لأجل ما تحبه ميلودي وما لا تحبه"

ـ لوكاس..

ـ مجرد صديقين يا كيم. إذا كان هذا ما تريدين.

وتأملها بعينين لا يسبر غورهما:" لا يمكنك أن تنكري أن بإمكانك أن تتخذي صديقا الآن"

الصديق شيء، ولوكاس كين شيء آخر تماما. ومع ذلك، التفكير في قضاء يوم معه كان أشبه بمزج عيد الميلاد مع رأس السنة في عيد واحد وشعرت بتصميمها الحازم يتراخى. إذا بميلودي تتخذ القرار عنها عندما جاءت لتقف أمامهما، وقد وضعت يديها الصغيرتين على وركيها النحيلين:" هل بإمكان لوكاس البقاء للغداء معنا؟ أرجوك أمي"
منتديات ليلاس
ترددت كيم لحظة، لكنها كانت كافية لكي يحس لوكاس بترددها، فاستغل ذلك بعدم رحمة هي جزء منه، وقال بمرح:" لدي فكرة أفضل. سنخرج جميعا لتناول الغداء في المطعم، ثم يمكنك ركوب زورق في النهر.. هل يعجبك هذا؟ إذا كنت فتاة طيبة جدا..."

ـ ماذا؟ ماذا؟

وأخذت ميلودي تقفز فرحا، فقال برقة:" ذا كنت فتاة طيبة فيمكنك أن تأتي لتري بيتي، وتتعرفي إلى جاسبر وسلطان"

ـ ومن هما جاسبر وسلطان؟

ـ هما كلباي، وهما كبيران جدا.

ـ هل يعضان؟

ـ إنهما لا يعرفان كيف يعضان. يعرفان فقط كيف يلعقان.

أومأت ميلودي، وقالت بلهفة:" أنا أحب الكلاب"

نظرت كيم إليهما بعجز، وعندما رفع عينيه ليها، سمرها بنظراته وهو يقول بهدوء:" اذهبي وغيري ملابسك فأنا بانتظارك هنا"

استمرا ينظران إلى بعضهما البعض للحظة. وكان قلب كيم قد قفز من مكانه عندما قال الكلمات الأخيرة. يا له من غامض، في كل مرة تظن أنها فهمته، يفعل ما يحيرها.




***
كان يوما ساحرا. وبدا أن لوكاس يتبع النبرة الصائبة في حديثه مع ميلودي، فلا حزم بالغ ولا إطلاق العنان لها.

أحبت ميلودي منزل لوكاس الأسطوري كما شعرت بسرور كبير في اللعب مع كلبي لوكاس الضخمين، كما أحبت كل واحدة من قطط مارتا. وأحبت مارتا نفسها، فبادلتها المرأة المسنة شعورها كليا.

أما لوكاس فكان نموذجا للمضيف بلطفه ومراعاته لأحاسيسهما.

بعد هذا السبت، حاولت كيم أن ترفض أية دعوات أخرى، لكن لوكاس كان يتجاهل احتجاجها ببساطة وبغطرسة منطبعة فيه. لكنها بقيت مصرة على عدم قضاء الليل في بيته لأنها كانت تشعر بعدم الارتياح للاستيقاظ في الصباح في بيت لوكاس.

وهكذا كان الصيف رائعا جزئيا، لأن شيئا خفيا في عقلها الباطني كان يوقظها أحيانا في منتصف الليل وقد غمرها العرق.

لكن في أوائل أيلول، حدث أمران فصلت بينهما عدة ساعات مزقا عالم كيم الهش.

بدأت العطلة الأسبوعية بمكالمة من ماغي تقول فيها إن بيت جاء إلى أمريكا ومعه خاتم الخطوبة:" لا يمكنه العيش من دوني، يا كيم. وحين غادرت انكلترا، أخذي راجع نفسه بشأن مخاوفه من الالتزام بالزواج واسترجع في ذاكرته أشياء كثيرة ومواضيع كان قد دفنها لسنوات وكلها تعود إلى طفولته. وهكذا، أدرك أنه سيفقدني إذا لم يتصرف... وهذا ما فعله!"

ـ أنا مسرورة للغاية يا ماغي.

تابعت المرأتان الحديث عدة دقائق أخرى قبل أن تنهيا المكالمة. هذا الخبر جلب الدفء إلى نفس كيم طوال يوم السبت التالي، الذي أمضته مع ميلودي في منزل لوكاس. ويوم الأحد أخذهما لوكاس لتناول الغداء في المطعم قبل أن يعودوا باكرا إلى البيت لأن ميلودي شعرت بصداع.

وحل صباح الاثنين الذي بدأ بشكل سيء حتى أنها تأخرت عن موعد المكتب نصف ساعة... وما كان هذا سيهمها كثيرا لولا الاجتماع الذي سيعقد في التاسعة في مكتب لوكاس.

منذ بدأت رحلات عطلات الأسبوع، حرصت كيم على الوفاء بمسؤولياتها كاملة في العمل. كان آخر ما تريده هو أن يظن لوكاس أنها تستغل علاقتهما التي ما زالت مترددة في أن تدعوها صداقة. لأن الصداقة يجب أن تكون سهلة مريحة يسودها الاطمئنان وعلاقتها بلوكاس ليس فيها هذه المواصفات.

كانت كيم متوترة دوما معه، تعي كل شيء فيه مهما كان بسيطا، وأقل نبرة من صوته تخبرها بطبيعة مزاجه. وسجلت كيف أن ذكاءه الرهيب لا يتوقف أبدا عن اختزان المعلومات، وكيف يوجه ضربته بدقة. ومع ذلك فقد سمح لها بأن ترى الناحية الخاصة منه أيضا، تلك الناحية المغرية الآسرة التي هي أكثر خطورة من كل ما تكشف عنه حياته العملية.

عندما وصلت إلى الموقف التابع لشركتها، كان المطر قد استحال عواصف رعدية، فابتل معطفها الخفيف كله. وراح المطر يسيل إلى رقبتها ويقطر من غرتها عندما كان المصعد يعلو بها. الساعة التاسعة وعشر دقائق وهي تبدو كجرذ غريق.

وفي مكتبها سمعت أصواتا في المكتب الآخر، فأسرعت إلى غرفة استراحتها الخاصة حيث خلعت معطفها المبتل، وسوت شعرها بسرعة قبل أن تنظر في المرآة إلى وجهها الرطب.

ـ كيم. هل أنت بخير؟

وكان هذا صوت لوكاس مصحوبا بطرقة على الباب فشعرت بغضب عارم ولم تدر ما الذي أشعل فتيل غضبها هكذا، أهو الضيق والذعر اللذان عانتهما هذا الصباح أو هو شعورها بأنها تعيش على أعصابها منذ بدأت العمل في هذا المكتب؟

فتحت الباب بعنف وحملقت في وجه لوكاس وهي تقول:" أنا طبعا بخير. أنت لم تتركهم جميعا لتجيء ولتسألني هذا، أليس كذلك؟ ما الذي سيظنونه؟"

ـ يظنونه؟ ما الذي تتحدثين عنه بحق الله؟

ورأت على وجهه أن لهجتها لم تعجبه.

ـ أتحدث عن هرعك إلى هنا. سيظنون أنك تراقبني متحكما بي، أو أن بيننا علاقة.

حملق فيها وكأنها جنت، ثم قال ببرودة:" أولا، أنا لم (أهرع) إلى أي مكان في حياتي، وثانيا، هذه هي المرة الأولى التي تتأخرين فيها عن الثامنة والنصف منذ اشتغلت هنا. وعندما قرعت لك الجرس دون أن تأتي، تساءلت عما إذا أصابك حادث في الطريق بسبب حالة الجو الفظيعة"

ـ حسنا، لم يحدث لي شيء.

ـ هذا ما يبدو. أما بالنسبة لرأي الآخرين في ما يتعلق بتصرفاتي مع سكرتيرتي، فهذا ما لا شأن لأحد به.

ـ بكلمات أخرى، لا يهمك ما الذي سيظنونه.

قالت هذا ببرودة بالغة، بينما كانت قطرة تسيل على جبينها.

ـ لا تكوني سخيفة.

كان غاضبا حقا فقد التهبت عيناه.

ـ لست سخيفة بهذا القول.

علمت أن عليها أن تسكت، لكن لسانها لم يطعها، فتابعت:" قد تظن أن لا بأس بأن يعتقد الناس أن بيننا علاقة، لكنني لا أوافقك! وربما يتحدث الجميع بأننا نتقابل خارج العمل. ماذا تظن رأيهم في هذا؟"

فقال بصوت ناعم يدل على غضب مستتر:" أننا معجبان ببعضنا البعض؟"

ردت بحدة وتوتر:" أنت تعرف ما قد يظنون، خصوصا بالنسبة إلى سمعتك"

بدا وكأنه على وشك أن يمسكها ويهزها:" هذا يكفي يا كيم"

ـ لا ، هذا لا يكفي.

لم تستطع أن تتذكر كيف بدأ هذا كله، لكنها أدركت فجأة أنه يختمر في داخلها منذ أسابيع، إن لم يكن شهورا، وربما منذ الأيام الأولى لعلاقتهما عندما بدأ يتسلل إلى حياتها وقلبها.

لم يكن لديها القوة والإرادة أو الشجاعة لكي تواجه الألم والنبذ إذا ما تركها. فقد غرس غراهام في ذهنها أنها ذات جمال سطحي فارغ لا لب فيه، وأنها باردة لا خير فيها في العلاقة الزوجية... وظل يكرر الأمر حتى بدأت تصدق ذلك بالرغم عنها.

ـ عندما تهدئين، تعالي إلى مكتبي لنبدأ العمل. وسنتحدث عن هذا لاحقا.

قالت بصوت ثابت ووجه بالغ الشحوب:" أنا أقدم ليك استقالتي، واعلم أنني هادئة الآن"

فقال بارتياب:" أتستقيلين لأنني سألتك إن كنت بخير؟"

ـ لا، نعم. أعني أنني لا أريد أن أعمل هنا بعد الآن.

ومنعت نفسها من الصراخ وأخذت تغالب دموعها بجهد خارق.

فقال عابسا:" لا تريدين أن تعملي عندي؟ وماذا بشأن ميلودي؟"

فرفعت رأسها متحدية:" ماذا بشأنها؟ لقد دفعت كل الديون وسأجد عملا يغطي نفقاتنا وهذا كل ما أريده"

فقال بخشونة:" أعني ماذا بشأني أنا وميلودي؟ هل غاب عن ذهنك أن ابنتك أصبحت مولعة بي فإذا اختفيت فجأة من حياتها فماذا سيكون تأثير ذلك فيها؟ إنه لا يختلف كثيرا عن تأثير فراقك أنت لها"

نفضت رأسها إلى الخلف، وقد توهج وجهها بمزيج من التمرد والذعر... الذعر الذي جعلها تنطق بكلمات كحد السيف، كلمات قاسية، كلمات لم تكن تعنيها حتى وهي تنطق بها:" إذن، كل ذلك كان مكيدة لكي تجذبني إلى سريرك.. لقد جعلت ميلودي تتعلق بك، أليس كذلك؟ أتراك ترضى بأن تهبط إلى هذا المستوى بحيث تستغل طفلة لتحقق مآربك؟"

قالت هذا بصوت متحجر تغطي به نحيبها في داخلها. بقي لحظة ينظر إليها غير مصدق، وذا بها ترى ثورة غضب لم تر مثلها قط في وجه إنسان، فقد أظلمت ملامحه كعاصفة شتوية هوجاء. دخل إلى غرفة الاستراحة الصغيرة صافقا الباب خلفه، فيما عيناه تنفثان لهبا في وجهها الخائف:" لقد تقبلت منك أشياء لم أتقبلها من أي امرأة أخرى، فانظري إلى أين انتهى بي هذا. فكرت في أنك بحاجة إلى وقت، إلى حنان ورفق، مثل الحصان الأصيل المتوتر الأعصاب الذي أساء شخص مغفل معاملته لكي يحطم إرادته. حاولت أن أريك من أنا وما هو نوعي.. لقد عرّيت روحي لك، يا كيم، وهذا ما لم أفعله قط لامرأة أخرى، فيا لي من غبي أحمق"

ـ لوكاس، أرجوك

كان الهلع والخوف يتملكانها، بدا في وجهه من المشاعر ما ظنت معه أنها ستموت رعبا.

وكان هو يتابع مزمجرا بغضب:" بينما أنت طوال الوقت تعتبرينني رجلا منحطا مريضا يحتال على طفلة لكي يحصل على أمها. أهكذا ترين تصرفاتي؟ لا مشاعر سامية، لا حب في القلب... وإنما حاجة جسدية تتطلب الإشباع"

همست بيأس:" أنا لم أقل هذا"

ـ بل هذا ما قلته بالضبط. حسنا، ربما تفضلين أن أكون كما تصفينني لكي تشعري بالرضا لأنك كنت على صواب.

ودون إنذار جذبها إليه بوحشية جعلت رأسها ينتفض إلى الخلف بحدة، كاشفا عن عنقها ورافعا وجهها إلى وجهه. التحكم بأعصابه تلاشى الآن بفعل القنبلة التي قذفته بها. وعندما أخذت تقاومه أحنى رأسه معانقا إياها بالقوة.

ذكرى ما قاسته مع غراهام، أصبحت حقيقية فجأة، ولكن بدلا من ذلك الرجل المقيت الذي كان يثير اشمئزازها، وتينك اليدين اللتين كانتا تحطمان ضلوعها، كان هذا لوكاس. كان في عناقه تسلط ولكنه مع ذلك أشعل نيران قلبها ولم يعد هناك خوف أو اشمئزاز عل عاصفة هبت في كل كيانها مهددة إياها بالغرق. استمرت في المقاومة عدة لحظات أخرى شاعرة بالكرب والضيق وتشتت الذهن.. لكن عناقه هذا غزا عقلها وجسدها ما جعلها تتوقف عن المقاومة.

قال صارفا بأسنانه:" أنت تريدينني يا كيم. قد لا يعجبك هذا، وقد لا أعجبك أنا... ومع ذلك أنت تريدينني"

كان يشدها إليه واضعا يديه خلف رأسها، فشعرت بحرارته وتحديه لها.

ـ لا...

نطقت بذلك بوهن وتخاذل، فلاحظ ذلك وقال بنبرة أهدأ:" بل هو كذلك، نعم، يا سكرتيرتي الصغيرة الباردة، يا ملكة الثلج المراوغة"

لم تستطع أن تقاوم تأثيره فيها... وأخيرا تخلت عن كل محاولة في الكذب على نفسها وعلى لوكاس فأخذت تبادله عناقه بشغف.

كان شوقها كبيرا إلى هذا الرجل الذي تحب... لم يكن هناك ماض ولا مستقبل وإنما مجرد تقارب واستغلال لمشاعرهما القوية المتبادلة.

ثم شعرت به يعيدها إلى الخلف ففتحت عينيها على اتساعهما. إنهما هنا يتعانقان والاجتماع قائم في الغرفة الأخرى ومن الممكن لأي شخص أن، يدخل ليبحث عنهما.

ولا بد أن الفكرة نفسها خطرت للوكاس إذ تجمد في مكانه لحظة وتمزقت أنفاسه وهو يجاهد للسيطرة على نفسه. ووجدت كيم نفسها تنظر إلى وجهه مباشرة، فرأت العينين الفضيتين صافيتين متألقتين ولمعانهما يلهب عقلها.

عندما ابتعد عنها، كان ذلك ببطء، ما منحها وقتا لتمالك نفسها. تراجع خطوة، مسويا شعره عدة مرات قبل أن يعدل من ياقة قميصه ثم ربطة عنقه فيما كانت هي تحدق إليه بعينين واسعتين غير مصدقتين.

رأته يفتح الباب ثم يستدير خارجا، ولكن حتى بعد أن انغلق الباب مرة أخرى وبقيت وحدها، بقيت جامدة. ثم أخذت ترتجف، ليس بسبب الشعور بالخزي الذي شعرت به عندما بدأت تفيق إلى نفسها، بل لأنه ذهب، ولأنه لا يريدها، ولولا ذلك لما استطاع الابتعاد عنها.

10 ـ نعم يا حبيبة





عندما عادت إلى شخصية السيدة ألن الهادئة المنضبطة، خرجت من غرفة الاستراحة ثم تابعت سيرها خارجة من المبنى.

كان خروجها بهذا الشكل جبنا... ولكنها لم تستطع فعل شيء آخر... أخذت تسوق سيارتها في الطريق الذي جاءت منه منذ ساعة. لكن التفكير في مواجهة لوكاس مرة أخرى كان مستحيلا. ستكتب استقالتها الرسمية الليلة، ومن باب اللياقة سترد السبب إلى ظروف عائلية قاهرة.

وفيما بعد، فكرت ساخرة في سهولة الكذب وحالما وصلت إلى البيت رفعت سماعة الهاتف من مكانها، ثم جلست والتعاسة تملأ قلبها وأجهشت بالبكاء. وبعد عاصفة البكاء التي تركتها شاحبة الوجه حمراء العينين، حضرت لنفسها فنجان قهوة سوداء ثقيلة وجلست تدرس وضعها.

لقد أحرقت مراكبها مع لوكاس، فوصلت إلى نقطة اللارجوع.

وكان ذلك مدمرا... لقد أراها بشكل موجز وواف أن بإمكانه أن يأخذها أو يتركها، ثم قرر أن يتركها وهي لا تستطيع أن تلومه، لا تستطيع حقا.

وتأوهت بصوت خافت فتجاوب الصدى في أنحاء الغرفة كصرخة حيوان صغير يتألم.

لم يكن لوكاس مثل غراهام. وقفت ثم صعدت إلى غرفتها حيث ملأت مغطس الحمام. شعرت بأنها قذرة، ليس بسبب المشاعر التي سمحت بها لنفسها مع لوكاس بل بسبب اتهاماتها.. فحتى وهي تقذفه بها كانت تعلم أنها لا تعني ما تقول حقا. لكن لوكاس لم يعلم ذلك، وهو لن يصدقها الآن مهما قالت، ولا بد أنه كرهها. وتأوهت مرة أخرى ودموع ساخنة تنهمر على خديها.

استمرت في البكاء طول الوقت الذي أمضته في الحمام. ولكن عندما ارتدت ثيابها، حدثت نفسها بأن عليها أن تتماسك.

وكعادة الجو الانكليزي، استحالت عاصفة الصباح الممطرة العنيفة إلى نهار معتدل هادئ مشمس. ونظرت كيم إلى ساعتها وهي تنزل إلى الطابق الأسفل، إنها الحادية عشرة ولنصف وما زال أمامها ست ساعات قبل أن تذهب لإحضار ميلودي، ولكنها ستجن إذا أمضت هذا الوقت في المنزل غارقة في أحزانها.

نظرت إلى الهاتف، وعندما مدت يدها لتعيد السماعة إلى مكانها، عادت فمنعت نفسها.

ستكتب استقالتها الآن، ثم تضعها في البريد حين تخرج لتتمشى، وسيتلقاها لوكاس غدا صباحا. وإذا كان يحاول أن يتصل بها الآن فهي لا تريد أن تعلم فالتحدث إليه هو آخر ما تريده. فهي ستنهار وتذل نفسها أكثر مما فعلت، ستتوسل إليه أن يسامحها أو ما شابه، بينما هو قد أفهمها، قولا وفعلا، أنه انتهى منها.

كيف حدث أن فقدانه جعلها تعتبر نفسها أكبر حمقاء في العالم؟ ولكن، من ناحية أخرى، لعلها لم تحصل عليه قط منذ البداية؟ ولماذا يريدها رجل مثل لوكاس كين؟ وفاضت في نفسها كل شكوكها القديمة ومشاعر عدم الثقة والأمان. حاولت أن تقنع نفسها بأنها قامت بالعمل الصواب لكنها لم تقتنع تماما بذلك كما اعتادت.

كان عليها أن تمنحه، وتمنح نفسها فرصة. وبلغ منها الاضطراب حدا أشعرها بالغثيان لأنها أدركت فداحة غلطتها. لقد فعل كل ما هو صواب، فقذفته به في وجهه.

وكان لوكاس على صواب. فقد انتصر غراهام حتى في قبره. وهي تركته ينتصر، بل ساعدته وشجعته على ذلك. لقد اعترف لها لوكاس بحبه. ولا تدري ما إذا كان ذلك سيتطور أكثر ليصل إلى الزواج. لكنها الآن لن تدري أبدا.

أخرجت دفتر رسائلها ومغلفاتها، وقبل أن تفقد أعصابها، كتبت رسالة إلى لوكاس تخبره بشعورها بالضبط. هدمت كل الحواجز وعرّت روحها، كشفت عن نفسيتها كليا ما جعلها تشعر بأنها عادت طفلة مرة أخرى، طفلة ضعيفة غير آمنة. لم تتضرع أو تتوسل. لم تطلب أن يعيدها إليه سواء إلى قلبه أو إلى مكتبه. أخبرته فقط بشعورها نحوه. وأنهت الرسالة بقولها إنها تضع استقالتها مع هذه الرسالة، فإذا قبلها فهي تتفهم ذلك وتعذره. أما إذا شاء أن يمنحها فرصة أخرى، فليمزقها وليخبرها بذلك.

وعندما كتبت استقالتها وأقفلت المغلف على الورقتين، شعرت بتحسن.

ستذهب لتتمشى، فقد مضى دهر منذ تمشت وحدها في الهواء الطلق، وستضع الرسالة في البريد.

لقد أحدثت فوضى هائلة لا تغتفر، فرقت بينها وبين الرجل الوحيد الذي قد تحبه في العالم. وإذا لم يكن حب لوكاس لها كافيا لكي يصفح عنها، فما عليها إلا لوم نفسها، فقد منحته القليل في هذه العلاقة التي كانت من جانب واحد. أملها الوحيد كان لوكاس نفسه، لأنه لم يكن كغيره من الرجال، بل هو أفضل حتى من أحسنهم.

غادرت المنزل بسرعة وقد عادت الدموع تنهمر من عينيها، ولكن عندما سارت في جو أيلول المعتدل جفت دموعها. بعد أن وضعت الرسالة في البريد، تمشت قرب أرض مشجرة تحتوي على ملعب للأولاد، وجلست لبعض الوقت على أحد المقاعد الخشبية، بينما أشعة الشمس الضعيفة تدفئ وجهها.

وفي الساعة الرابعة عادت إلى البيت. وعندما دارت حول زاوية الشارع رأت سيارة واقفة أمام بيتها، فألقت عليها نظرة سريعة، لأنها لم تتعرف عليها.

وما إن وصلت إلى طريق بيتها، حتى انفتح باب السيارة وناداها تشارلي، بواب الشركة.

ـ تشارلي؟

أخذت تحدق إليه بحيرة بالغة ثم سارت إليه تحدق إلى وجهه المغضن تسأله:" ما الذي تفعله هنا؟ وكيف عرفت مكاني؟"

ـ أعطاني الرئيس عنوانك فقد كان يبحث عنك منذ فترة، واتصل بك مرارا هذا النهار. وبعد أن جاء إلى هنا ولم يجدك، قلت له إنني سآتي وأنتظرك أمام بيتك.

ـ أحقا؟ لا أفهم.

كانت كيم ضائعة تماما. ولكن كان في وجه الرجل العجوز شيء ما جعلها تنتبه.

ـ أراد العودة بنفسه لكنه فكر في أنه سيكون أكثر نفعا في المستشفى. ولم يشأ أن يتدخل أي شخص أخر، لكنك تعرفين طريقة حديثه معي فأنا أعرفه منذ كان طفلا صغيرا.

كان يتحدث بشكل غير مترابط، ثم، وكأنه تذكر شيئا ما، قال بهدوء:" إنها صغيرتك، لا تدعي الذعر يتملكك، لكنها في المستشفى. فقد ساءت صحتها قليلا في المدرسة"

شحب وجهها:" ميلودي، أين هي؟"

ـ في المستشفى، وسآخذك إلى هناك، هذا ما قاله الرئيس.

ـ أواه، يا تشارلي.

ووجدت نفسها تتمسك بسطح السيارة وكأنه حبل النجاة. أخذها تشارلي إلى المستشفى، ومن ثم اصطحبتها ممرضة ذات وجه عطوف إلى قسم الأطفال. ولم تقل الممرضة أكثر من أن ميلودي كانت مريضة في المدرسة، وهم يجرون لها الآن الفحوصات اللازمة. لكن الممرضة المسؤولة كانت أكثر عونا فقالت برقة بالغة:" هناك اشتباه في أنها مصابة بالتهاب السحايا وهي الآن في غرفة معزولة حيث الأمراض المعدية.هل كانت صحة ميلودي سيئة منذ يوم أو يومين؟"

ـ كانت متعبة قليلا وتعاني من صداع. لم أشأ أن أرسلها إلى المدرسة هذا الصباح، لكنها بكت وأصرت على الذهاب. كانوا يختارون أطفالا لعرض سيقام الأسبوع القادم.

كانت كيم تتحدث، شاعرة بأنها أسوأ أم في لعالم، فأومأت الممرضة المسؤولة متفهمة وقالت بهدوء:" لقد ساءت صحتها في منتصف النهار. وبما أن المدرسة تبلغت بأمر طفلة أخرى مريضة، قرروا عدم إرجاء الأمر. وعندما لم يستطيعوا الاتصال بك أدخلوها المستشفى، وكان قرارا حكيما. ستكون بأحسن حال فلا تقلقي، فهذا المرض سهل المعالجة إذا اكتشف باكرا. لكن بعض الحالات تسوء بسرعة خصوصا بالنسبة إلى الأطفال الرضع ومن هم في سن ميلودي"

سألت بشبه إغماء:" هل تمكنني.. أن أراها؟"

ـ طبعا. خطيبك جالس معها منذ أحضروها تقريبا. لم تكن وحدها عندما أجرينا الفحوصات، يا سيدة ألن. أظن أن فصل صغير الدب عن أمه أسهل من فصل ميلودي عن السيد كين.

خطيبها؟ وحدقت كيم في المرأة الصغيرة الجسم الرشيقة الحركات، ولم تقل شيئا.

عندما دخلت كيم الغرفة الصغيرة المعقمة، نهض لوكاس على الفور من كرسيه بجانب السرير، ولكن ليس قبل أن تراه وهو يمسك باليد الصغيرة. ميلودي غارقة في النوم، وشعرها الأشقر منتشر على الوسادة، وأهدابها الكثيفة منسدلة على وجنتيها المتوهجتين. فكرت كيم بوهن بأنها لا تبدو مريضة أبدا...وسارت إليها ووقفت تنظر إلى الجسم الصغير، والدموع تنهمر على خديها الشاحبتين.

ـ لا بأس عليها. ألم يخبروك بأنها على ما يرام؟

قال لوكاس لها هذا برقة وهو يتقدم ليقف بجانبها وذراعه حول كتفيها.

ـ أواه، يا لوكاس.

ارتمت بين ذراعيه وهي تشهق من دون وعي، فاحتضنها بشدة إلى أن هدأت في حين غادرت الممرضة المسؤولة الغرفة وبقيا وحيدين.

أبعدها عنه قليلا ونظر إليها بحزم وهو يقول:" ستشفى حقا يا كيم. هذا القول ليس للتهدئة. فقد سألت كل المسئولين، لأنهم تداركوا المرض في بدايته"

ساد صمت آخر ولكنها ظلت عاجزة عن الكلام، وكانت الدموع تتألق على خديها كاللآلئ.

ـ أنا آسفة.

قالت هذا همسا ولكنه سمعه. فقال:" هذا ليس ذنبك يا كيم، فما كنت لتعلمي بمرضها"

ـ أعني... أبني عنا، نحن الاثنين هذا الصباح، وكل شيء. أنا... أنا لا أصدق أنني قلت كل ذلك.

ـ أنت آسفة؟ عندما عانقتك رغما عنك؟ عندما أرسلتك هاربة إلى مكان لا يعله سوى الله؟ لن أصفح عن نفسي أبد...

قال هذا برقة مرّة، حدثتها عن عذاب داخلي، فردت بصوت متهدج:" لم يكن الأمر بهذا الشكل. أنا التي كنت فظيعة وأنا التي قلت أشياء شنيعة"

وشعرت بأحداث النهار وما تخللها من مشاعر، تشلها، لكنها لم تستطع أن تدعه يتحمل اللوم على خطأ ارتكبته هي.

قال بفظاظة وصوته يهتز:" جعلتك تقولين هذا. أنت لم تكذبي علي قط، يا كيم، بل كنت صادقة منذ أول يوم، موضحة بأنك لا تريدين التورط مع أي رجل. ولكن، بغطرستي، ظننت، لأنني أحببتك كثيرا، أن بإمكاني أن أجعلك تحبينني، لم أستطع أن أصدق أن بإمكاني أن أحبك دون أن تحبيني. استعملت الانجذاب بيننا لأحاول لفت انتباهك إلي كرجل وليس كرئيسك في العمل"

ـ ود... وقد حصل ذلك معي.

ـ بصفتي صديق، أعرف هذا.

وتنفس بعمق وصعوبة، لكنهما جمدا فجأة عندما تنهدت الطفلة في السرير برقة قبل أن تعود إلى النقم بشكل أعمق.

لقد قال إنه أحبها.. أتراه ما زال يحبها؟

قالت كيم بهمس مهتز:" ليس بصفة صديق، فأنا... أنا أحبك يا لوكاس. لقد حصل ذلك منذ تعارفن تقريبا، لكنني كنت خائفة كثيرا... وما حدث معي في الماضي أحبطني وجعلني لا أستطيع أن أصدق أن هذا سينجح. غراهام.. ما قاله وفعله جعلاني لا أستطيع أن أصدق أن أي رجل سيرغب فيّ إذا عرف حقيقتي. قال إنني باردة، جميلة ظاهرا وخاوية في الداخل"

كان ينظر إليها وعدم التصديق على وجهه الصلب الوسيم. وهذا ما أقنع كيم بمقدار ما كانت عليه من خطأ وضلال لأنها قارنت غراهام ولوكاس ببعضهما البعض ولو لحظة واحدة.

لوكاس من الرجال الذين يحبون إلى الأبد. وقد سحقت كبرياء رجولته هذا الصباح، فجعلته يكره نفسه. ومع ذلك، وفيما هو يعتقد أن كل شيء انتهى بينهما وأنها أصبحت تشمئز منه، فإذا به يأتي إلى المستشفى ليكون مع ميلودي لأنه عرف أن ليس بإمكان أمها ذلك. قد يكون رجلا صلبا قاسيا، لكنه معها ومع ميلودي رائع.

ـ كيم، أنا أحبك أكثر مما أستطيع أن أقول، وسأحبك على الدوام. أريد أن أتزوجك وأنجب منك أطفالا، وأشيخ معك. أريد أن أعلم أنك زوجتي وأن لي الحق في أن أدللك وأحميك وأعتني بك وبأسرتي. أحبك أكثر من الحياة يا كيم. التفكير في ما عانيته يقتلني، لكنني سأمضي بقية حياتي وأنا أعوضك عما حدث لك، إذا سمحت لي.

ـ ظننتك لم تعد تريدني هذا الصباح. عندما توقفت...

ولم تستطع أن تكمل لكنها لم تكن بحاجة إلى ذلك.

ـ لقد توقفت لأنني أدركت فجأة ما كنت أفعل.

قال هذا برقة فائقة، وصوت أبح، واللكنة الخفيفة التي تتخلل كلماته تمنحها نغما غامضا:" لقد فقدت سيطرتي على نفسي، وكنت غاضبا، وللأسف لم أكن أفضل من غراهام..."

ـ لا، لا تقل هذا أبدا. فأنت الأفضل بين الرجال.

ووضعت إصبعها على فمه وصوتها يرتجف.

ضمها إلى قلبه، يطمئنها برقة في البداية، ثم شدها إليه وهو يهمس بحبه:" قد تتلاشى الأرض والسماء يا حبيبتي، وقد يتوقف القمر عن اللمعان، وقد تسقط السماء في البحر، لكنني لن أكف قط عن حبك"

تمتم بذلك بعد أن افترقا قليلا لينظرا إلى بعضهما البعض.

تحدثا وتبادلا العناق. بعد ذلك قال لوكاس:" أشعر وكأنها ابنتي، أنا أيضا"

همس بذلك بلطف، وهو يرفع ذقن كيم بإصبعه وينظر في عينيها:" منذ رأيتها لأول مرة، وأقسم أنها شعرت نحوي بالشيء نفسه. كدت أجن حقا عندما جئت إلى هنا قبل أن يقولوا لي إنها ستشفى"

تمتمت بهدوء:" هل قلت إنك خطيبي؟"

ـ علمت أن الأقرباء فقط يسمح لهم بالجلوس مع المريض.

ـ أواه، يا لوكاس.

ـ أحب أن أتبناها قانونيا، يا كيم، وبهذا تحمل اسمي بعد أن نتزوج.

فقالت وهي ترتعش:" أواهي يا لوكاس"

وبعد ذلك بوقت طويل، استيقظت ميلودي بشكل طبيعي، فوجدت كيم ولوكاس جالسين بجانب السرير، وذراع لوكاس تضم كيم إليه بشدة، ورأسها ملقى على كتفه وهي نائمة.

تأملتهما ميلودي بعينين ناعستين، فابتسم لها لوكاس قائلا:" مرحى، يا حبيبة، هل تشعرين بتحسن الآن؟"

فأومأت ورأسها يدور، وعيناها تتوهجان مرة أخرى إلى يديهما المتشابكتين ووجه أمها النائم.

ـ لوكاس؟

ـ نعم يا حبيبة؟

ـ هل ستكون بابا الجديد؟

ـ نعم يا حبيبة.

ـ ممتاز.

***


تمـ بحمد الله ـت

safsaf313 21-08-09 10:06 AM

هييييييييييييه هيا دى نهايه الروايه
اولا كل عام وانتم بخير بمناسبه الشهر الكريم وليا عوده ان شاء الله بعد العيد
ثانيا انا عندى امتحانات تبدأ من يوم 1-9 ادعووووووووووووولى ربنا يسهلى فى الامتحانات

remona 21-08-09 03:05 PM

:party0033:رواية رائعة تسلم اديكي :8_4_134::f63::rdd10ut5::rdd10ut5::rdd10ut5:

Rehana 21-08-09 03:21 PM

ماشاء الله عليك ..صفصف

نشاط متميز ..يعطيك العافية

موووودتي:flowers2:

ro0ro0-cute 23-08-09 01:49 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

dede77 24-08-09 12:03 AM

ووووااااووووو خطيرة موفقفى اختياراتك بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الجبل الاخضر 26-08-09 06:52 AM

فعلن خططططططيره وروعه وتجنن واحسنتي الاختياروتتتتتتتتسسسسسسلمين

safsaf313 22-09-09 03:32 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة dede77 (المشاركة 2038033)
ووووااااووووو خطيرة موفقفى اختياراتك بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

انتى اللى خطيييييييره ههههههه :lol:
والله اسعدنى انها عجبتك يا ديدى يا قمر ومستنيه جديدك

safsaf313 22-09-09 03:33 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الجبل الاخضر (المشاركة 2039715)
فعلن خططططططيره وروعه وتجنن واحسنتي الاختياروتتتتتتتتسسسسسسلمين

هههههه والله اخجلتم تواضعنا انتى اللى روعه وتجننى ومنوره الموضوع كمان

safsaf313 22-09-09 03:35 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة remona (المشاركة 2036055)
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلِّ على محمد وآل محمد شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . جزاك الله الف خير بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه

ميرسى ليكى يا ريمونا ربنا يكرمك

safsaf313 22-09-09 03:36 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة remona (المشاركة 2036057)
:party0033:رواية رائعة تسلم اديكي :8_4_134::f63::rdd10ut5::rdd10ut5::rdd10ut5:


تسلمى من كل سوء يا قمرررر

safsaf313 22-09-09 03:36 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ro0ro0-cute (المشاركة 2037661)
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

العفو يا رورووووووووو

safsaf313 22-09-09 03:38 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قمــر الليل (المشاركة 2036062)
ماشاء الله عليك ..صفصف

نشاط متميز ..يعطيك العافية

موووودتي:flowers2:

قمووووووووووووره حبيبه البى اهلا بيكى يا عسل وكل سنه وانتى طيبه يا اعز الاصدقاء:friends:
ودا اقل واجب لمنتدانا الرائع:flowers2:

hatpanda 29-09-09 02:05 PM

مششششششششششششششششششششششششششششششششششششكوره

حساويه عنيدة 05-10-09 12:05 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


الصراحه الروايه اكثر من رووووووووعة



شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

mee mee 05-10-09 02:33 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

Mno1 12-10-09 10:00 AM

روايه اكثر من رآئعه
قد تتلاشى الأرض والسماء يا حبيبتي، وقد يتوقف القمر عن اللمعان، وقد تسقط السماء في البحر، لكنني لن أكف قط عن حبك"
كلمات اثرت فيي
دمتي..ْْْ~ننتظر جديدك..ْْ~

moura_baby 17-10-09 01:50 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

anysh 08-11-09 08:43 PM

روووووووووووووووووووووووووعه

رهووفا 15-11-09 10:27 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

awaw 15-11-09 08:46 PM

الله من جد من احلـــى القصص وبعد خطــيـــره :D

الحالمة دائما 03-02-10 02:47 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رواية رائعة تسلم اديكي
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

قماري طيبة 10-03-10 05:58 PM

بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه.... موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

الهيفاء 15-03-10 12:51 PM

رواية مؤثرة ورائعة جدا جدا، ألف شكر...

goo_goo 15-03-10 04:50 PM

http://www.sky-bramj.com/upload/uplo...182792016d.gif

سفيرة الاحزان 28-04-10 01:56 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

Ume 17-05-10 01:25 PM

أوهااايو....
مشكوورة خيتوو بزاااف ع الرواية
موفقة بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
باااايووو;)
:lol:

لطيفه 21-05-10 08:55 PM

الروايه روعه مره

لمسة حب 25-05-10 10:23 AM

:flowers2::flowers2::flowers2::Welcome Pills4::Welcome Pills4::Welcome Pills4::welcomepirate2::welcomepirate2::welcomepirate1::welc omepirate1::welcomepirate1::congrats::congrats::Thanx::Thanx ::Thanx::Supercool::Supercool::Supercool::welcome_pills1::we lcome_pills1::welcome_pills1::welcome_pills3::welcome_pills3 ::0041::0041::0041::rdd12zp1::rdd12zp1::rdd12zp1::55::55::55 ::55::55::55::55::55::55::55::55::55::55:

natasha220 16-06-10 04:13 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رائعه

b-o-tany 19-06-10 09:22 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

قلب حائر 09-07-10 05:49 PM

رااائعة جدا شكرااا تحياتي

sunsat 18-08-10 02:10 PM

شكرا على الرواية الجميلة

أحاااسيس مجنووونة 18-08-10 11:39 PM

روعة تسلم ايديك والله جنان هالرواية كتير حلوة وشكرا الك دائما بتنزلي الروايات كاملة شكرا كتيييير مرة تانية

حنان محمد ابراهيم 19-10-10 10:39 PM

الرواية رائعة لك منى اجمل تحية

nadafha 23-10-10 07:49 PM

مرسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسي اكتييييييييييييييييييييييييير
روايه اكتير حلوه
تسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسسلم الاياددددددددي

QTERALNADA 24-10-10 09:34 PM

يعطيج العافية حلوة واااااايد لك منى اجمل تحية

sweat_tama 31-10-10 10:27 AM

niceeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeeee
thxxxxxxxxxxxxxx

شاهد 19-11-10 08:59 PM

فعلا خطيرررررررررررررررررررررة

كشخه زود 24-11-10 12:02 PM

نآآآآآآآيس


شكرا

lolita07 25-11-10 03:40 PM

رااااائعة

شكرا لك

الدكتوره سها 25-11-10 09:49 PM

مشكووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووره

زهرة منسية 31-12-10 12:23 AM

حلوه كتير كتير كتيييييييييييييييييييييييييييييييير شكرا

شهريارا 02-01-11 09:51 PM

تسلمي على الروااااااااااااااية الحلووووووووووووووووووووة

الحالمة دائما 05-01-11 04:57 PM

حلوة اوى شكرا

ساكنه 16-01-11 05:49 PM

:8_4_134::flowers2::liilas:الف شكر مرررررررررررررة حلوة هذي الروايةمنتضرين االاحداث بفاااااااارغ الصبر واحلا تحية الك ودمتي لي في قلبي سكنة

ساكنه 16-01-11 09:55 PM

:8_4_134:واااااااااااااااااااااااااااو

ساكنه 16-01-11 09:57 PM

:8_4_134::friends::liilas::55:واااااااااااااااااااااو نهاية مرررررررررررررة تجنن سلمت ياكي ياقمر واخيارك حلوموفقة دومن ودمتي لي في قلبي سكنة

سومه كاتمة الاسرار 21-01-11 11:36 PM

حلوه كتير تسلمين ياقمر على المجهود الرائع تقبلى تحياتى
:flowers2::flowers2::flowers2:
:8_4_134:

الناعسه 05-02-11 04:07 PM

وااااااااااااايد حللللللللللللوووووووه

ملك محمد 25-02-11 04:17 AM

قصة خطييييييييييييييييييييييييييييييييييييييرة فعلا!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

ربي اسالك الجنة 28-02-11 03:50 AM

:lol::lol::lol:يسلمووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو

صداقة للابد 03-03-11 02:01 AM

شكرا وسلمت يداك لما سطرت من هذه الرواية الرائعة
لك منى الف تحية

hoob 03-03-11 08:18 PM

ممتاز تهايه حلوة

عالية 18 10-03-11 05:28 AM

روعة يسلموااااااااااااااا

ندى ندى 11-03-11 10:06 PM

رووووووووووووووووووعه

بنت زاحفه 28-04-11 03:16 AM

يسلمو
روايه اكثر من رائعه

دلوعة فلسطينيه 05-09-11 04:27 AM

رووووووووووووووووووعه يسلموا اديكي
:55::55::55::liilas::55::55::55::55:

نجلاء عبد الوهاب 09-04-13 11:36 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس (كاملة)
 
يا الله الروايه تجنن من اجمل الروايات اللى قراتها
:wookie::8_4_134::wookie::55:

دائرة الزمن 16-12-14 10:31 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
روووعة
شكرا

حزن الظلام 20-12-14 12:26 AM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
حلووووووة كتير

أم حسين 23-07-17 12:17 AM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
رواية رائعة واختيار موفق

paatee 24-07-17 05:21 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
نسلم حبيبتي الله يعطكي العافيه

tota zayan 07-02-18 07:44 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
Thankssssssssssss

سماري كول 25-02-18 03:20 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
يسلموا ع الرواية

ayman isa 25-02-18 03:42 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
يسلموا ع الرواية:55::55::55::55::55::55:

paatee 04-04-18 07:41 AM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
:55::55:تسلمي

layalo 12-06-21 07:06 PM

شكرا على الروايات

eveengel 20-07-21 05:17 AM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
KKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKKK

فلورنسيا 02-08-23 05:17 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
ميرسى يا حبيبتى على المجهود

نجلاء عبد الوهاب 24-08-23 03:29 PM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋💋🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹😘😘😘😘😘😘😘😘😘❤❤❤❤❤

فلورنسيا 10-12-23 12:34 AM

رد: 285 - انين الذكريات - هيلين بروكس ( كاملة )
 
شكرااااااااااااااا حبيبتى رواية جميلة


الساعة الآن 03:36 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية