فنظرت لويزا إليها ببلادة . هل هي حقاً كذلك ؟ كان عليها أن تتصرف بحكمة أكبر بدلاً من أن تفقد أعصابها لمجرد أن أباها نسي عيد ميلادها وخرج مع زوجته . لكنها شعرت حينذاك بألم عميق ، وبإمال كبير ، لطالما كان أبوها شارد الذهن . فتذكره عادة بعيد ميلادها ، لكنها تكاد لا تراه هذه الأيام ، وقد اتصلت به منذ أسبوع لتذكره ، وتسأله أن يتناولا طعام الغداء معاَ ، لكنه لم يكن في المنزل ، فاضطرت إلى إبلاغ نويل ، التي لم تعلمه باتصالها ، بل أغرته ليرافقها إلى غداء عمل ، كانت نويل مصممه على إخراج لويزا من حياة أبيها ، ولم يعِ الأب المعركة التي كانت تدور بينهما من أجلة . استغربت لويزا أن تتفهم الأمر من وجهة نظر نويل ، فلا بد أن سن أبنة زوجها يحرجها ، ويظهر بوضوح فرق السن بينها وبين زوجها ، ولعلها تغار من حب الآب لابنته ، ذاك الحب الذي يذكرها بزوجته القديمة . كان الشبة بين لويزا وأمها واضحاً كما تبين لنويل من الصور التي ملأت البيت . فقد كانت أنّا جيلبي ، والدة لويزا ،امرأة رائعة الجمال . توفيت وهي في الأربعين من عمرها ، تاركة وراءها ابنتها الوحيدة لتذكر هاري بالمرأة التي تزوجها وهو في العشرين من عمره . وأمضى أبوها بعد وفاتها سنوات من الوحدة ، لذا استطاعت لويزا أن تفهم سبب رغته في الزواج من جديد ، رغم أن أختياره أذهلها وأزعجها . كما فهمت مشاعر نويل ، لكن تفهمها لم يسهل الأمر عليها ، ولطالما كانت لويوا مولعة بأبيها ، لا سيما منذ وفاة أمها ، وقد صعب عليها الابتعاد عنه . حاولت تقبل هذا الوضع الجديد ، من أجل أبيها . وأرادت أن تراه سعيداً من جديد بالرغم من انزعاجها لزواجه من فتاة في مثل سنها . ليتها لم تستاء حين أدركت أن أباها نسي عيد ميلادها وأنه لن يتمكن من العودة في الوقت المناسب ليراها . لطالما كان عيد ميلادها يوماً فريداً ، يحوله أبوها إلى يوم ساحر . اعتادا تناول الغداء في مكان مميز ثم تمضية بقية النهار إلى غير رجعه . فأحست بالأسى والألم . وعندما علمت بمشاريعه ، تصرفت بطريقة صبيانيه فاتصلت به في الحفلة ، لتشعره بالذنب . ما كان عليها أن تفعل ذلك .. ولكن أتى لها أن تعرف أن تصرفها هذا سيؤدي إلى مثل هذه الكارثة ؟ قالت نويل : - كما سيخسر رخصة السوق لمدة عامين على الأقل ، كما يقول المحامي . وهذا ليس بأسوأ الاحتمالات . حسناً ، لن أتمكن من مرافقته بالسيارة حيث يشاء . بل عليه أن يستخدم سائقاً خاصاً. يمكنه أن يدفع أجره بالرغم من أنه يردد أن حالته المادية متردية . لم يكن بهذا البخل حين تزوجته ، لو استخدم سائقاً ، لما وقع ذلك الحادث ، ففي مثل سنة يصبح الحكم على الأمور مغلوطاً بعض الشيء. فتصلب جسم لويزا : ( ماذا تعنين بقولك ( في مثل سنه ؟) أبي لم يبلغ الخمسين من عمره بعد ). لم تكن نويل متقدماً في السن حين تزوجته ! فلطالما تحدثت عن شبابه الدائم . وطاقته وحيويته البالغة ، وقد حافظ هاري على تلك الصفات طوال السنة الماضية إذ أخذ يعمل ويلهو ويسهر لكي يماشب زوجته الشابة . فإن لم يرافقها إلى حفلات الكوكتيل ، والعشاء ولقاءات العمل ، قصد ملاعب الغولف ليلعب مع الزبائن أو مع أشخاص تعرفهم وتريد أن تترك لديهم أنطباعاً جيداً عن زوجها . هزت نويل كتفيها قائلة : ( لم تعد ردات فعله كما كانت ). - لعله يحضر الكثير من الحفلات !مما جعله ينفق الكثير من الطاقة . فحملقت زوجة أبيها فيها : _ أحسنت ! ألقي اللوم علي! ستقولين إن الذنب ذنبي أنا ، أليس كذلك ؟ حسناً ، هذا غير صحيح ..فهاري يتسمتع بالحياة الأجتماعية ولطالما استمتع بها ، حتى قبل أن يعرفني . لم تستطع لويزا نكار ذلك ، لأن أباها يتمتع بالحيوية والنشاط ، ويحب رفقة الناس ، لا سيما الشباب منهم . لذا وقع في غرام شقراء فاتنه كانت سكرتيرته ، وقد شجعته نويل فلم يتسطع هاري جيلبي مقاومة سحرها وفرصة أن يجدد شبابه . وتنهدت لويزا : ( نعم ، أعلم ذلك ) . ثم عضت على شفتيها ونظرت إلى زوجة أبيها متضرعة وأضافت : ( نويل ، لماذا نتشاجر دائماً بهذا الشكل ؟ لا سيما الآن ، وأبي في ورطة .. سيكون بحاجه إلينا معاً خلال الأشهر القادمة ، ألا يمكن أن نكون صديقتين ). لكن ملامح نويل الرائعة لم تلن ، بل التمعت عيناها الخضراوان حين قالت : - تسبب بما يكفي من الأذى ، فاتركينا وشأننا . إن هاري لي أنا الآن وليس لك. استدارت لتبتعد ، لكنها عادت ووقفت ثم سحبت جريدة من حقيبتها الجلدية ، وناولتها إياها قائلة هل قرأت هذه ؟) ولم تنتظر جواباً ، بل تابعت طريقها وتركت لويزا تحدق في صورة زاكاري ويست التي تعلو عنواناً يقول : ( حادث يلغي معرض ويست ). التفتت لويزا تبحث عن مكان لتجلس فيه وقد ازداد قلقها واكتئابها . توجهت مرتجفه نحو أحد المقاهي وتهالكت على مقعد بجانب الباب . وسألتها النادلة وهي تتقدم نحوها : - ماذا تطلبين ؟ |
- قهوة من فضلك . - هل ستأكلين شيئاً؟ شعرت لويزا بداور طفيف فتمتمت تقول : - شطيرة جبن وسلطة ، من فضلك . توارت النادلة ،فيما فتحت لويزا الجريدة أمامها ، وعندما استوعبت ماورد فيها . كانت النادلة قد عادت بما طلبته ، طوت لوبزا الجريدة بأصابع مرتجفة ، وحاولت الإستمتاع بطعامها . لكن مذاقه في فمها استحال كمذاق التراب والرماد ، فقد شغل بالها ما قرأته لتوها . جاءت نتيجة الحادث أسوأ مما تصورت ، كان زاكاي ويست فناناً مشهوراً على ما يبدو ، وقد تحدثت الجرايد عن المبالغ الطائلة التي دفعت في الماضي ثمناً للوحاته . وعندما وقع الحادث ، كان زاكاري ويست ينقل لوحاته إلى لندن في سيارته ليعرضها في معرض كبير يمكله تاجر لوحات معروف ، كان من المتوقع أن يحدث هذا المعرض ضجه في عالم الفن . على حد قول التاجر . وقد انتظره عشاق الفن بلهفة منذ اشتهرت اعمال زاكاري ويست وأخذت تعود عليه بمبالغ كبيرة . لا سيما وأنه لم يعرض أعماله منذ سنوات . كان عالم الغن متشوقاً إلى إكتشاف مدى تطور فنه ، من حيث النوعية والتقنية . ويضيف التاجر بشكل مأساوي ، إن العالم لن يعرف ذلك أبداً ، إذ قضت النيران على اللوحات التي انتجها زاكاري ويست في السنوات الأربع الأخيرة وألحقت بالفنان نفسه إصابات بالغة جداً. سددت لويزا حسابها في المقهى وقد تملكها الرعب ، ثم توجهت إلى لويزا إلى بيتها حيث وضعت مشترياتها جانباً ، واتصلت بأبيها تسأله بحنان : ( كيف حالك اليوم ؟ يا أبي ؟) فرد عليها مرتجفاً ، وقد جف حلقه : ( هل قرأت الصحف ؟) - أبي ، أبي ..لا ينبغي أن .. - لا ينبغي ماذا ؟ أن أواجه ما فعلت ؟ يا إليهي ، عندما أفكر في .. فسارعت لويزا تتوسل إليه : ( لا تفكر في ذلك ، يا أبي ، ليس الآن ، فما زلت تحت تأثير الصدمة ). - وكيف أمنع نفسي من التفكير في ذلك ؟ رجل مثل هذا ، نابغه كما تقول الصحف .. كل تلك الموهبة وذلك العطاء ..حطمته أنا .. - لم تكن تعلم ذلك ..يا أبي ! لا تقلق ، سيتجاوز المحنة ، وعندما يتحسن سينجز أعمالاً أخرى ، فهو ما زال شاباً... لكن كلماتها هذه لم تكن نابعه من صميم قلبها ، بل كانت تشعر بالذنب كأبيها ، فأضافت : - على أي حال ، إنه ذنبي أنا وليس ذنبك . - ذنبك ؟ وكيف ذلك ؟ أنا الذي كنت أقود السيارة وليس أنت . - لكنني لو لم أتصل بك وأثير الضجه لما هرعت أن تألي ! - لكن هذا لا يجعل الذنب ذنبك ، يا لويزا ، فأنا من كان يقود السيارة ، وقد كنت أشعر بالنعاس .. لم أغف أثناء القيادة طبعاً ، لكنني أعرف أن تصرفاتي كانت متأثره بإحساسي هذا . كانت ردات فعلي أبطأ من المعتاد ، كما كانت أدرك في أعماقي أنني أقود بطيش ، فقد زدت السرعة عند المنعطف ، مما جعلني اندفع مباشرة نحوه من الجهة الأخرى للطريق .. وأنت لا علاقة لك بهذا الأمر ، كانت أعصابي متوترة ..فقد تشاجرت مع نويل .. و .. آه ، حسناً ، لا داعي لذكر ذلك ، لكنه ذنبي أنا ، يا لويزا ولا ينبغي أن تلومي نفسك على الإطلاق . لكنها بقيت تلوم نفسها ، وكانت لا تزال حين دخلت القسم ذاك المساء . فلم تستطع الأبتسام لزميلتها ماري بيكر ، التي سألتها بإهتمام : ( ما بك ؟ لا تبدين على ما يرام ) كانت ماري امرأة متزوجه وأماً لولدين . وهي تعمل في المستشفى منذ خمسة عشر عاماً ، وتتميز بوجهها البشوش ، وطباعها اللينة ورقتها ولطفها . وقد لمست لويزا ذلك من خلال تدريبها في هذا القسم ، حين كانت تلميذة جديد ة قلقة وعديمة الخبرة . فأجابت لويزا بسرعة ، محاولة إخفاء كذبتها : ( أنا بخير ). وبالرغم من لطف ماري ، كانت لويزا تشعر عندما تتعامل معها ، وكأنها تلميذة ، فلا تستطيع الأفصاح لها عما في نفسها : ( إنه صداع بسيط فقط). فقطبت ماري جبينها : - هل تنامين كفاية ؟ لن أذكرك بضرورة أخذ قسط من الراحة لتتمكني من تأدية عملك ليلاً ، أليس كذلك ؟ فأجابت لويزا بعبوس : - لا . فأنا أنام جيداً ، لا تقلقي . كيف كان نهاركم ؟ هل ثمة مرضى جدد ؟ هل خرج أحدهم ؟ لوت ماري شفتيها ، وأخذت تتلو التقرير اليومي مطلعة لويزا على أحوال كل مريض إلى أن وصلتا إلى أسم زكاري ويست ، فقالت ( سيخرج قريباً ) . فاتسعت عينا لويزا وسألت : ( يخرج ؟ ماذا تعنين ؟) - سينقل إلى لندن ليحصل على عناية خاصة ، يبدو أن لدينا شخص شهير في قسمنا . واتسعت ابتسامة ماري حين أضافت انهالت الاتصالات الهاتفية عليّ طوال اليوم من الصحافة . الكل يسأل عن حالة ! أتصدقين أن بعضها أراد أن يزورنا ليلتقط له صوراً ؟ فأجبتهم أنه غائب عن الوعي ، ولا يبدو جميل الوجه حالياً . لو كان واعياً لما رضي بالتقاط صورا له وهو بهذه الحالة لقد حضر بعضهم شخصياً فاضطررت لاستدعاء جورج من الردهة لكي يخرجهم !) فقالت لويزا بإلحاح ، غير مهتمه بأخبار الصحافة : ( لكن ..لماذا سيتركنا ؟) فردت ماري بغيظ مكبوت : - حسناً ، يبدو أن وكيله ..مدير أعماله ، أو مهما كان لقبه .. يعتبر هذا المستشفى غير مؤهل لعلاج هذا الرجل الشهير . لذا يريد نقله إلى مستشفى في لندن حيث يكثر أخصئيو الجلد والجراحة التجميلية . أرادو نقله اليوم ، لكن جراحنا الدكتور هالوز رفض الأمر بعناد ، وأشار إلى أن حالته لا تسمح بذلك . سيقرون غداً متى يمكن نقله ، بعد أن ينهي الدكتور هالوز جولته على المرضى . وتملك الفزع لويزا : ( لا يمكنه تحمل هذه الرحلة ! سيتألم كثيراً ). كان قد تلقى العناية اللازمة ، ويعطي الأدوية باستمرار ، كي يجتاز هذه الأيام القليلة بأقل قدر ممكن من الألم . وقفت لويزا بجانبة تحدق في الوجه المتجهم المروّع الذي سيظهر به أمام العالم في الأشهر القادمة ، حتى يصبح جاهزا للجراحة التجميلية . بدا رجلاً جذاباً في الصور المنشورة في الصحف ، وما أفظع أن يبدو الآن بهذا الشكل . لكنه قوي البنية ، وإلا لما نجا من ذلك الحادث ولما بدت عليه أولى علامات الشفاء يمكن للناظر إليه أن يلاحظ بنيته القوية بوركية النحيفين وساقية الطويلتين وعضلاته الرياضية ولحسن الحظ ، لم تنل النيران من جسمة كله ، ولم تصل الحروق البغيضة إلى ساقية . بل نجتا من النار وحافظتا على لونهما الأسمر . فتح جفنيه فجأة ، فوجدت نفسها تحدق في عينيه . كالفضة المصقولة اللامعه ، اتسع بؤبؤهما بسبب الأدوية المهدئة التي تعطى له . استعادت لويزا حسها المهني على الفور ، فانحنت تبتسم له وتطمئنه : - مرحبا ، كيف حالك اليوم ؟ لم يحاول زاكاري ويست أن يجيب على الفور ، تذكرها بشكل مبهم فقطب حاجبيه المحروقين بألم . إنها المرأة البيضاء الشاحبة الباردة التي رآها واقفه قرب سريره من قبل . إلا أنه لم يكن واثقاً متى حصل ذلك. أصبح الوقت بالنسبة له متاهه راح يبحث فيها عن طريق للخروج . لم يكن يدري منذ متى وهو على هذه الحال ، وجل ما يعرفه أن ثوان قصيرة مؤلمة تفصل بين نومه ويقظته . لم كين يدرك مكانه وماحل به .بل كان الألم يترصد به وينهش جسمه . وفي كل مرة كان يهرب من الوعي ليرتاح لأنه يعاني الأمرين في اليقظة . وإن كان لا يذكر سبب الآمه . وتذكر فقط أن حياته توقفت فجأة حين كان يقود سيارته في الطريق . وأصبح منذ تلك اللحظة فريسة للألم . قالت المرأة : ( أنا الأخت جيلي ، وأنا أعتني بك ، يا سيد ويست ، كيف حالك؟) كان لها صوت ناعم منخفض ، يفترض به أن يخفف عنه ، لكنه ازعجه . أتظنه طفلاً ؟) إبتلع زاكاري ريقه ، ثم شعر بعطش شديد : - أشرب ..حاول أن يتلفظ بهذه الكلمة من خلال شفتيه الجافتين ، ولا بد أنها فهمت مراده ، إذ أدخلت بلطف انبوباً رقيقياً بين اسنانه ، فأحس بالماء البارد في فمه ، وعندما روى ظمأه توقف عن الشرب ثم أغمض عينيه منهكاً . سألته المرأة بغباء : ( هل تشعر بالألم ؟) فتح ظاكاري عينيه ونظر إليها بازدراء : ( ماذا تعتقد ؟) حملت نظراته هذا السؤال ، لكنه عاد وأغمض عينه ، ليستلم لأحلامه ، كانت الفتاة في إنتظارة ، بشعرها الأسود المتطاير في الهواء ، ووجهها الأبيض النقي ، وابتسامتها التي جعلت دمه يغلي . سبح زاكاري في الجو نحوها باسماً ، وقد تسارعت دقات قلبه. عندما فحصه الجراح مرة أخرى ، في اليوم التالي ، كان زاكاري واعياً للمرة الأولى . وتمكن دايفيد هالوز من التحدث إليه : - يريد السيد (كورتني ) مدير أعمالك ، نقلك إلى مستشفى أخر في لندن حيث يوفر أخصائيون في جراحة الجلد . لكنني لا أستطيع السماح لك بهذه الرحلة الطويلة ، بالرغم من تحسنك السريع والمستمر . حدق زاكاري ويست فيه من دون إهتمام ، وقد تراخى جسده : - فهمت . لم يظهر أي إنزعاج لهذا الخبر ، فابتسم له دايفيد هالوز بمودة مشجعاًُ: - سنمنحك العناية اللازمة ، يا سيد ويست، وسنحاول تأمين سبل الرحة لك . قال زاكاري وقد صار صوته أكثر صفاء : - كنت مخدراً بشكل منعني من ملاحظة ذلك . فضحك دايفيد هالوز : - حسناً ، نعم ، كان لا بد من ذلك في الأيام الأولى ، لمنعك من الحركة ، ولمواجهة تأثير الصدمة . سننقّص حالياً كمية الدواء الذي نعطيك إياه ، إذ لا نريدك أن تتعود عليه . وضحك مجدداً ، لكن زاكاري لم يفعل ، بل قال بإكتئاب : ( لن يحدث هذا ، فأنا أكره أن أفقد الوعي ). - حسناً ، يسرني أن أراك على طريق الشفاء ، سأمر لرؤيتك غداً ، قبل موعدي المعتاد بقليل . فغداً يوم السبت ، أدع لي أن أمضي عطلة نهاية الأسبوع بشكل هادئ ولو لمره واحده . وضحك مجدداً ، فبدت في عيني زاكاري الرماديتين ومضة من المرح وهو يقول : - سيكون الأمر صعباً عليّ في الوقت الحالي . جاءت ردة فعل دايفيد قوية بعد سماعه هذه الكلمات ، ثم قال بإبتسامة عريضة تحمل شيئاً من الدهشة . - نعم ، إنك على حق . إذ لا يمكن لزاكاري أن يبسط يديه المحروقتين للدعاء . وتحدث دايفيد مع لويزا ذلك المساء ، قائلاً لها : - أكن إحتراماً كبيراً لذاك الرجل ، فهو شجاع وقوي الإراده للغاية . عرفت رجالاً لم تكن حروقهم بالغة وخطيرة كحروقه ، ومع ذلك ملؤوا الدنيا ضجيجاً وصراخاً . يظهر مزاحه في مثل هذها الوقت مزاياه الشخصية القوية ، لا أظنني سأتحلى بمثل شجاعته لو كنت مكانه . وسكت برهة ثم تابع مقطباً : ( أعلم في الواقع أنني لن أكون كذلك ! فلو لحقت بي إصابته لملأتني رعباً . |
وربما هذا هو السبب الكامن وراء تخصصي في جراحة الجلد . أصيب أبي بحروق بالغة في إنفجار مواد كيماوية عندما كنت في العاشرة من العمر ، ولم أنس قط منظرة عندما رأيته بعد نحو أسبوع . انتابتني الكوابيس لسنوات ، ولطالما حلمت بأنني ملفوف بتلك الضمادات . حملقت لويزا فيه ، وقد أظلمت عيناها في ضوء مكتبها الخافت : - مسكين يا دايفيد ، لا بد أن الأمر كان مخيفاً في مثل تلك السن المكبرة . ضحك وقد أحمر وجهه ، ثم نهض هازاً كتفيه : - نعم .. حسناً ، يجب أن أرحل ، سأذهب إلى بيتي الآن ، لقد أرهقني العمل في غرفة العمليات ومن الأفضل أن أنام قليلاً . إلى اللقاء غداً ، هل أنت متشوقه لذلك ؟ فأشرق وجه لويزا بإبتسامة وأجابت : - آه ، نعم . لم أرقص منذ زمن طويل . وأنا أعشق الرقص ، سأشتري ثوباً جديداًَ غداً. - لكي تخرجي معي ؟ هذا يزيدني غروراً . ضحك وشع الدفء من ملامجه الجذابة ، بالرغم من أمارات التعب والأرهاق البادية على وجهه . لم تستطع لويزا التفرغ للتسوق قبل عصر يوم السبت . وبما أن المتاجر الأنيقة في ( وبنيري ) تقتصر على متجر واحد . لم تحتج لوقت طويل حتى تقرر ما تريده . اختارت ثوباً رائعاً من الحرير القاتم الزرقه ، انسدل على جسمها ، ليصل إلى أخمص قدميها ، وزينته ياقة من الدانتيل الناعم. لفتتها تنورته التي تصدر حفيفاُ خافتاً كلما تحركت وتعلوها عند الخصر زهرة من قماش وردي اللون . أحبت لويزا طراز هذا الثوب . قالت البائعه : - يشبه هذا الثوب أزياء العصر الفيكتوري ، أليس كذلك ؟ إن تسريحة شعرك كلاسيكية وتتلاءم معه . كانت النساء يجعدن شعرهن في ذلك العصر . لكنني أظن أن هذه التسريحه تناسب الفتيات الشابات وليس السيدات اللاتي في سنك . ضحكت لويزا من دون بهجة ، لم تبلغ الفتاة العشرين من عمرها لذا وجدت أن لويزا ، البالغة من العمر سبع وعشرين سنه . مسنة ، والغريب أن كلماتها جعلت لويزا تشعر وكـأنها كبرت فجأة من دون أن تلحظ ذلك. إنما لم تكن مسنة فعلاً ! فلم لا تجعد شعرها ؟ عندما عادت إلى بيتها ، غسلت شعرها ، وأمضت بعض الوقت في تجعيده على الطراز الفكتوري . عندما أنتهت من أرتداء ملابسها ، وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها وتعض على شفتيها . بدت مختلفة في هذا الزي الجديد ! لقد غيرّ ، في الواقع ، مظهرها كلياً . وإحمر وجهها ، إذ شعرت أنها سخيفة ، وأوشكت أن تعيد تسريح شعرها كما اعتادت أن تفعل ، لكن وصول دايفيد منعها من ذلك . - لويزا ؟ يا الله ، كدت لا أعرفك ، شعرك .. فتأوهت قائلة : ( يبدو غريباً ، أليس كذلك ؟ لا أعلم لماذا سرحته بهذا الشكل ! ولكن ..) - لقد أعجبني جداً. فنظرت إليه بحيرة ، وسألته : ( أحقاً ؟) - إنه رائع ، ويتناسب مع هذا الثوب . ثم نظر إليها بحرارة وأضاف : ( وهذا الثوب مغر للغاية ). ضحكت ، واصطبغت وجنتاها بحمرة الخجل ، فابتسم دايفيد وقال لها وهو يضغط على أصابعها : ( حمرة الخجل مغرية أيضاً). |
فقالت بإحتجاج وقد ازداد احمرار وجهها : ( لا تسخر مني ، يا دايفيد هالوز). - بل أنا أعني ما أقول . عندما تحمرين خجلاً بهذا الشكل ، تبدين كاملة الأنوثة . فأحس بأنك تحتاجين إلى من يحميك .. - في هذا العصر وهذا العمر ؟ - آه ، أعلم أن هذه أمور رجعية .. كفتح الباب للمرأة ، والوقوف حين تدخل إلى الغرفة ..لا بأس ، يبدو هذا مضحكاً في إيامناً . لكنني رجل رجعي الطراز ، أحب الفرق بين الرجل والمرأة ، ولا أعلم لم عليّ أن أعتذر عن قناعاتي هذه . ردت عليه باسمة : ( ولا أنا ) . فقد أدركت من عملها الطويل معه أنه ليس فناناً ، وأنه لا يعامل المرأة كدمية .. بل هو بعيد عن ذلك كل البعد ، فهو يعاملها باحترام كبير ومساواة تامة . بادلها ابتسامتها معلقاً : ( هذا ما جذبني إليك أولاً ، أنوثتك ). حدقت به مدهوشه ، إذ لم يصرح لها بهذا من قبل ، ولطالما تساءلت عن سبب بقائه حتى الخامسة و الثلاثين من دون زواج ، فهو محبوب وذا شعبية بين الممرضات . وقد خرج من قبل مع فتيات أخريات لكن علاقاته فشلت كلها . فهل الساعات الطويلة التي يمضيها في العمل ، واهتمامه البالغ به ، عائق يقف بينه وبين أي امرأة تربطة بها علاقة ؟ لكنه بدا الليلة مختلفاً ، ومميزاً في بذلة السهرة السوداء . بدا نحيفاً للغاية . وأسبغ القميص الأبيض وربطة العنق السوداء عليه تألقاً لم يكن جلياً ، في الأيام العادية , وسألها بمرح : - هل تتأملين شكلي ، يا لويزا ؟ أم أنك نفرت مني عندما قلت إنني أحب الفتيتا اللواتي يتمتعن بالأنوثة ؟ فضحكت وهي تهز رأسها : شدّ على يدها وجذبها نحوه محنياً رأسه ، فرفعت رأسها بحركة غريزية ، وشخصت إليه بنظرها . عندها ، رن جرس الهاتف فجمدا مكانهما يتبادلان النظرات بغيظ ، قال دايفيد : - لا تجيبي . - تعلم أن عليّ ذلك ، لعله أبي . لكن الأتصال لم يكن من أبيها ، بل من المستشفى ، فتنهدت واستدارت آسفة . وقفت لويزا تنظر إليه ، ويدها تعبث بسترتها المخملية . ان كانوا يستدعون دايفيد إلى المستشفى ، فلن تستطيع الذهاب إلى الحفلة . وضع الشماعة مكانها ثم استدار نحوها ممتعضاً : - قلت لك ألا تجيبي على الهاتف . - لم أكن أعلم أنك الطبيب المناوب في المستشفى . - لست كذلك ، لكن أحد مرضاي ينتظر إجراء عملية له منذ ثلاثة أيام. يظنون أن حالته اساقرت الليلة . يطلبون مني أن أمرّ على المستشفى لألقي نظرة على المريض وأوافق على إجراء تلك العملية . - هل أنت من سيجريها . - أظن ذلك . - هل يعني هذا أننا لن نذهب إلى الحفلة ؟ - بل سنذهب ، لكن من الأفضل أن نمرّ بالمستشفى لنرى ذلك المريض ونقرر . - ربما من الأفضل أن تنتظروا حتى الغد ، على أي حال . - هممم .. لكنه مريض مراوغ ،ولست واثقاً من أنه يحتمل المزيد من الإنتظار ، لكنني سأرى . |
عندما وصلا إلى المستشفى ، سألها دايفيد : ( هل ستنتظرينني هنا ؟) لكنها هزت رأسها باسمة : - ربما تأخرت دهراً ، سأدخل معك وأنتظر في قسمي ، سأحتسي فنجان قهوة مع الأخت ( جينكنز ) - لتتباهي بثوبك الجديد ؟ - ولم لا ؟ افترقا في المستشفى ، فسارت في الممر ، وابتسمت ابتسامة عريضة حين تفاجأت احدى الممرضات وهي تمرّ بجانبها . كان تالأخت جنكنز في القسم ، تشرف على عمل ممرضة توزع أدوية المساء . توجهت لويزا ناحيتها ، فنظرت الأخت جنكيز حولها ، ثم أخذت تحدق فيها ، وقد فغرت فاها : - ألا يمكنك أن تبقي بعيدة عن القسم ؟ فضحكت لويزا : ( كان على دايفيد أن يرى أحد مرضاه ). علقت الممرضة : ( ما أروع هذا الثوب !) - شكراً ، هذه المرة الأولى التي أرتدية فيها . فرددت الممرضة وهي ترفع نظرها إلى تسريحة شعر لويزا : ( إنه يناسبك تماماً). فقالت الأخت جنكنز: ( لم أرك تصففين شعرك بهذا الشكل من قبل ). - لم يسبق لي أن فعلت ، ولا أظنني سأفعل ذلك مجدداً. فعلقت الممرضة : ( آه ، ولكنه جميل جداَ). وأومأت الأخت جنكنز برأسها موافقه . - لقد أعجبني أيضاً ، فأنت تبدين مختلفة . شكرتهما لويزا وقد توردت وجهها قليلاً . ثم استدارت لتعود إلى المكتب ، وإذ بصوت ضعيف يسمرها مكانها . نظرت إلى سرير زاكاري ويست . فرأته يتحرك قليلاً . تقدمت نحوه ، وكانت عيناه مفتوحتين : - هل ناديتنا يا سيد ويست . راح يحدق فيها بصمت . - ظنن أنني سمعت صوتك تنادي . فأغمض عينيه دون أن يجيب ، ثم تمتم يحدث نفسه : ( أصبحت تتراءى لي الآن ). انحنت لتسمع كلمات ، فسمعته يتمتم من بين شفتيه المتورمتين : - هذا جنون ! سأجن ، فليساعدني الله . فتح عينيه ثانية ، واضطرب حين رآها بقربة ، فإبتسمت له مواسية : - هل أنت بحاجة لشيء ياسيد ويست ؟ فأجابها بنظرة عنيفة غاضبة وزمجر : - ابتعدي عني ، بحق الله ، لا أستطيع أن أحتمل أكثر ..ابتعدي ! فوجئت بردة فعله هذه فأطاعته من دون أن تنبس بكلمة . وسمع حفيف ثوبها وهي تسرع نحو المكتب . تملكها الرعب حين رأت عينيها تغرورقان بالدموع ، وأخذت تتساءل عما يجري لها . وهي تبحث عن منديل لتمسح به دموعها بغضب . لا يستطيع هذا الرجل السيطرة على طباعه السيئة ، فهو مريض جداً ! وهو ليس أول مريض يهاجمها ، فلم البكاء ؟ أخذت تحضر القهوة كما طلبت منها الأخت جكنز لكنها لم تجد فرصة لتشربها . فما أن عادت جنكنز إلى المكتب ، حتى رن جرس الهاتف ، ليصلها صوت دايفيد : ( هل أنت جاهزة ؟) - نعم ، طبعاً كيف حال مريضك ؟ - مزال غير جاهز لإجراء العملية . سأراك في السيارة بعد دقيقتين ! وضعت السماعة ثم التفتت إلى زميلتها : - آسفة ، يا هيلين ، لم يتأخر دايفيد بقدر ما كنت أتوقع ، إلى اللقاء فيما بعد . - نعم ، أتمنى لك وقتاً ممتعاً ، إنما لا تتأخري في العودة ! خرجت لويزا من المكتب ، ووقفت لحظة تنظر إلى سرير زاكاري ويست . يبدو أنه عاد إلى النوم ، تنهدت . ثم أسرعت نحو دايفيد . أثار وصولهما معاً إلى حفلة المستشفى التي أقيمت في أفخم فندق في وينبري اهتمام وانتباه الجميع . كانوا يعلمون أنهما يخرجان معاً ، ولكن حضورهما معاً إلى مثل هذا الحدث البالغ الأهمية بدا كتأكيد للنوايا . واقترن بذلك اسمها بأسمه اجتماعياً ، واعترف بهما صديقين تربطهما علاقة غرامية . قالت لها إحدى صديقاتا أثناء الحفلة : ( عندما تختارين وصيفات عرسك ، لا تنسيني ) . فردت لويزا بنفاد صبر : - مهلاً ، يا جين ! لم يمض على بدء علاقتنا يوى بضعة أشهر ولا نفكر في الزواج حالياً. فقالت جين ضاحكة : ( ربما يفكر هو في الأمر ، فقد لاحظت ظراته إليك ). احمر وجه لويزا مما جعل الفتيات يغرقن في الضحك . لم تكن المرة الأولى التي تستاء فيها من سهولة احمرار وجهها . وقد يرى دايفيد في ذلك دليل أنوثة ، لكنها لعنة ودت لويزا التخلص منها . أعادها دايفيد إلى المستشفى عند الساعة الواحدة والنصف بعد إنتهاء الحفلة . وركن السيارة في ساحة المستشفى ثم سألها : ( هل استمتعت بالحفلة ؟) فأومأت وقد تألقت عيناها : ( أمضيت وقتاً رائعاً ، يادايفيد ، شكراً لك . ليتني لم أعد إلى العمل !). بعد أن تناولا عشاءً فاخراً ، وضحكا وتسامرا مع الأصدقاء ، وبعد أن رقصت مع دايفيد لساعات ، لم تعد ترغب بالعوده إلى رتابة العمل . رد دايفيد برقة : - صدقيني ، لو لم يكن عليك العودة إلى العمل الليلة ، لتعرفنا إلى بعضنا البعض بشكل أفضل . دفعت تلك الكلمات بالحمرة إلى وجنتها ، مما جعله يبتسم : ( ما أجملك يا لويزا !) ومال نحوها يعانقها فأغمضت عينيها ، لكنها لسبب ما ، لم تتجاوب معه . فابتعد عنها بالرغم من أنها لم تدفعه بعيداً. رفع رأسه بعد قليل ، ونظر إليها بجفاء : ( اخترت لحظة غير مناسبة ، أليس كذلك؟) - أسفة يا دايفيد ، لقد تغير مزاجي وحسب ، أظن أن السبب هو عودتي إلى العمل مباشرة . فابستم لها مواسياً : ( لا بأس ، من الأفضل أن تسرعي إلى عملك ، تصبحين عللا خير يا لويزا ) استبدلت لويزا ملابسها بثياب العمل ، وسارت إلى سرير زاكاري ويست . كان نائماً ، فوقفت تتأملة ، متمنيه لو تفهم هذا الأحساس الغريب الذي تملكها طوال السهرة ودفعها لرؤيته . كان جسمها مع دايفيد فيما بقي عقلها هنا . مع هذا الرجل الغريب العدائي ! بعد لحظات ،تابعت جولتها على بقية المرضى ، وعادت إلى المكتب لتكمل عملها . أخذت تنظر بين الفينه والأخرى إلى سرير زاكاري ويست وهي تتنهد وقد تملكها الإرتباك لمشاعرها هذه . بقي زاكاري ويست في قسمها طوال الأسبوع التالي . وأظهر تحسناً مستمراً ، بانتظار أن يوافق دايفيد على نقله إلى المستشفى في لندن . تمنت لويزا لو يوافق ، فرحيل زاكاري عن القسم سيشعرها بالإرتياح . ولكن ، هل هذا صحيح ؟ أرادته أن يرحل ، لكنها كانت تشعر بالإكتئاب كلما اقترب موعد قرار دايفيد . كانت تأتي إلى العمل في المساء لتجد زاكاري ويست في سريره ، فتشعر بإرتياح يزعحها . وبعد مرور أثني عشر يوماً على الحادث ، دخلت القسم ذات ليلة فوجدت مريضاً جديداً في سرير زاكاري ويست . لقد رحل ! منتديات ليلاس |
الساعة الآن 01:58 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية