منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله (https://www.liilas.com/vb3/f717/)
-   -   أنثى العنكبوت للكاتبة قماشة العليان (https://www.liilas.com/vb3/t110272.html)

dali2000 04-05-09 03:10 PM

أنثى العنكبوت للكاتبة قماشة العليان
 
بسم الله الرحمن الرحيم

رواية أنثى العنكبوت

للكاتبة قماشة العليان

http://www.liillas.com/up2//uploads/...5c13a630fb.gif


أنثى العنكبوت هي رواية للكاتبة قماشة العليان تتحدث فيها عن واقع عربي سعودي بائس من خلال قصة فتاة بائسة عاشت في القهر والظلم طوال حياتها كأخواتها وأمها من قبلها. تعرض الكاتبة هذه القصة في اسلوب مشوق لا يخلو من الرومانسية والتراجيديا المؤثرة وتضعنا امام واقع يحدث يوميا وبكثرة ولكنه وراء الأبواب المغلقة فلا نعرف وقعه وحجم المأساة التي فيه الا اذا أرانا أحد ما اياها.

قريبًا في ليلاس كاملة إن شاء الله




dali2000 04-05-09 03:13 PM



خيط أول " أحلام


... اعيتها رحلة البحث عن الحرية وسط تقاليد صارمة نصبت كتمثال الحرية منذ عشرات السنين، كانت تحارب طواحين الهواء كما فعل دون كيشوت، حاربت الشمس ووقفت ضد شروقها وحاولت إخراس أمواج البحر وأن يضل الليل طريقه إلى دروب المدينة ... أصمت أذنيها عن سماع تغريد الطيور ودوران الطبيعة من حولها، وجلها تنادي بإحناء الهامات لتهدأ العاصفة... العاصفة لا تهدأ أبدا بل تمور وتمور لتبعثر الآمال وتنثر السحب خيوطا في الرمال فتحلق الحرية بعيدا كطير يطير بنصف جناح.


الحلقة"1"

ما هي الحرية؟
أتساءل عن معنى تلك الكلمة الساحرة الرائعة الحارقة .. أنا المكبلة بالأغلال وقيود لا تري وقضبان تحيطني من كل الجهات .. هل الحرية هي السعادة، الانطلاق ، التحرر من كل شئ وأي شئ، أم هي حرية الرأي، حرية الكلمة، وحرية التفكير، أم تراها الثورة على التقاليد والأحكام البالية المتوارثة من آلاف السنين..؟

اتساءل وأنا أتأمل الجدران العالية التي تسد أمامي منافذ الحياة ووجوه النسوة المنهكات التى تتوالي على ذاكرتي ، كما تتوالى النحطات المختلفة على قطار ضيع دربه وتاه عن الطريق المرسوم له مسبقا..
ضحكات بعيدة ، ضحكات حزينة، ضحكات ليس لها مدى بلا مكان أو زمان ... تطل عليّ في جوف ليلي البهيم وكأنها بقايا نجمات هاربات...

أدرت رأسى تجاه الحائط أتامل الدوائر الحمراء المرسومة بقلم شفاه أحمر رخيص وشفاه أكثر رخصاوابتذالاً... وتساؤلات شتى تدور داخلي وتسحق فى دورانها السريع سؤالي الدائم عن الحرية ومعناها... تذكرت حينها قول تولستوي قبل أن تصدر الحكم على الأخرين تعلم كيف تصدر الحكم على نفسك). وأنا لم أصدر الحكم على نفسي بعد، ولا يهمني تعاقب الأيام وذبول زهرة العمر وانطفاء جذوة الصبا أو تجاعيد الزمن المتسللة_لا محالة_ غلى وجهي لايهمنى كل ذلك لأنني ربما لن أعيش حتى ذلك العمر..

أنتظر كل يوم خطوات النهاية المرتقبة وأحدق في سقف أيامي المتهاوي وهو يقترب من الأنهيار، ما شعوري في هذه اللحظات كما سئلت مراراً وتكراراً ... أأكون كاذبة لو قلت لا شعور؟ .. نعم شعوري بالضبط هو اللا شعور ...هو عدم الإحساس .. انعدام الوزن أو شئ من هذا القبيل ، شعور أخافني يوما ما لكنة الآن لا يعني لي شيئاً أو إنني أترقبه كشئ حتمى منتظر، لاكهاجس مرعب. تلوح لي أيامي الماضية كأطياف من الأحلام .. ترى هل كنت مخطئة طوال حياتي، هل جانبنى الصواب فى كل خطواتي، هل كياني كلة شر مطلق ولم أعرف الخير قط كما صرخ بوجهي البعض ... لا أدري .. لكنني قررت مواجهة الورق بحقيقتي والانكشاف الخير أمام الذات بلا قشور أو زيف أو خداع كما أري نفسي بالمرآة بمميزاتي وعيوبي ... اخطائي وخطاياي .. آمالي وآلامي...أحلامي وأوهامي ... الحيقة العارية حتى من ورثه التوت ... ثم بعد ذلك لا شئ يهم.

لم يكن في حياتي شئ غير عادي أو شاذ أو مميز ..أبداً، كل شئ كان يسير فى مجراه الطبيعي.. شابة ، جميله، من عائلة مرموقة ومعروفه .. الأب متسلط مستبد برأية أو ديكتاتور كما يقال.. والأم طيبة مستكينة بلا رأي ... أقعدها المرض ومنعها حتى من قدرتها على المشاركة ، فبقيت مجردة من كل المزايا كلوحة تزين جدران البيت... لوحة ممزقة مبعثرة بلا أساس ولاملامح . أم بالاسم فقط ، لكن شتان بين الأسم والكينونة . فالأم هى الحنان.. العطاء .. الرعاية ... الحتواء .. الم هى العالم بأسرة مختصرا فى فرد واحد ...الأم هى الأمان حين يكشر العالم عن أنيابة فى وجهك .. الأم هى الجدران التى تحيطك من كل أذى .. وأنا للأسف ولدت فى العراء ولا حوائط تنأي بي عن أذي الآخرين وشرورهم ... ولدت فى المستشفى لكنة ليس كأي مستشفي ..إنة مستشفى الصحة النفسية أو كما يطلق علية العامة" مستشفى المجانين"..
ولدت أثناء إحدي نوباتها التى يودعها ابي على أثرها هذا المستشفى
__________________



كانت مريضة مزمنة بالنفصام وبلا أمل فى الشفاء ... أنجبتني لتحضنني شقيقتى الكبري ذات الأعوام الخمسة عشر وتمنحني ما استطاعته من حنان ورعاية واحتضات فنشأت لا أعرف لي أما سوى بدرية... أما تلك الراقدة على فراشها دوما او قابعة فى مقعدها أحيانا أو الغائبة فى المستشفى شهورا طويلة ، فلم أكن أعتبرها سوي جزء من أجزاء البيت كقطعة أثاث أو ديكور نعيش به أو بدونه ... بوجوده أو عدمه ...هكذا كان إحساسى بها بلا تزييف أو بهتان... لا مبالاه تجاه أمي ...خوف شديد من أبي .. حب وتعلق بشقيقتى الكبرى ... مشاعر أخوية عادية تجاه أشقائي الثلاثة وشقيقتى الأخريين ... كنت الصغري بينهم ... المفترض أنني المدللة والمحاطة بكل رعاية وحنان لكن هذا لم يحدث سوي من بدرية فقط دون الأخرين ... وما زلت أذكر حتى اليوم ليلة زفاف شقيقتى بدرية.. كنت فى السادسة من عمري على وجه التقريب ... بقيت تلك الليلة محفورة فى ذاكرتي لا تبرحها ... أحسست بالفقد والحرمان والضياع ... لعبت فى حفلة زفافها وضحكت ورقصت، وحينما عدنا البيت بدونها صرخت بلوعة تمزق القلوب ... ركضت فى أنحاء البيت أبحث عنها رغم علمي بعدم وجودها .. انتهي بحثي فى حجرتها الصغيرة التى شهدت أمسيات مشتركة بيننا وأحضانا ودموعا ... لم أجد سوى سريرها الخالي وبعض أدواتها الخاصة وثوبها الأخير الذى خلعتة قبل ارتداء ثوب الزفاف الابيض ... احتضنته وانا ابكي وانتحب ، كنت أشم رائحتها خلاله وبقايا عبير كانت تتنسمه...

انتزعتنى سعاد ، إحدي شقيقاتي ، من الحجرة وهى تبكي أيضا واختى الأخري ندي تبكي وفى عيني أمي بقايا دموع ..

أكانت تحس وتشعر مثلما نحن أم أن المرض قد قضى على دقات قلبها كما ألغي فكرها ووجودها؟ تفكرت طويلا رغم حزني الكبير ...نمت تلك الليلة وأنا استشعر فجيعة كبرى وألما لا اقوي على أحتماله ، نمت وسط دموعي بإحساس هائل باليتم تطارني الكوابيس المرعبة ، فاصرخ أثناء نومي بلا شعور، صحوت فى الصباح على ظلام كثيف يتراكم فى داخلي بلا انقطاع.. عفت الطعام .. وبدأت اتقيأ كل ما يدخل جوفى حتى الماء ، ثم مرضت ورقدت طريحة الفراش وأياما لم ار خلالها شقيقاتي، وقد علمت ان أمي قد عاودتها إحدي النوبات ونقلت إلي المستشفى الصحة النفسية مما زاد من ألآمي وعذابي ... لم ينقلني أحد إلى الطبيب، فشفيت تدريجيا وبدات أستوعب درس الحياة القاسى ... وأتلقي اول اللطمات فى عمري الصغير وأن الحياة ليست سوي محطات لقاء ووداع.

زارتنا بدرية بعد زواجها بأسابيع، مضيت أحدق فيها عن بعد دون أن أجرؤ على الأقتراب منها، كانت مرتبكة ذاهلة، وقد زادت نحولا عن ذى قبل ، نادتني طويلا قبل أن أجرؤ على الأقتراب منها... طبعت قبلة مرتجفة على خدي وأعطتني حلوى ونقوداً ثم مضت تتحدث مع شقيقتاي عن البلد الذى زارته مع زوجها أحمد، بعد قليل ألفيت نفسي أسألها ببراءة:
_ بدرية متى تعودين إلى بيتنا وتتركين احمد ؟ أنا أريدك..
اهتزت قليلا قبل أن تقول:
_ سأعود كثيراً لزيارتكم وستريني دائما إلي جوارك حتى تتزوجي .. هل هذا يناسبك يا أحلام؟

ومضت أشهر طويلة قبل أن يتضح لى أن بدرية ليست سعيده فى زواجها وأن زوجها سكير عربيد دأب على ضربها طوال حياتها معه حتى حملت وأجهضت ، حتى عادت إلى بيتنا باكيه طالبة الانفصال عن زوجها مفجرة كل ما أختزنتة من أحزان طوال عام كامل هو عمر زواجها ... أمي التزمت الصمت كعادتها ، لا كلمة لا رأي .. لا أحساس ولا حتى تعبير عن الوجود..


انتهى الجزء الاول ولنا عوده بجزء ثاني


dali2000 04-05-09 03:17 PM

الجزء الثاني

أشقائي كل منهم أبدي رأية وأن تحفظ البعض ، لكن الأغلب يناصرها فى طلب الطلاق ... احتضنتها باكية لبكائها وكاننى أعلن عن أتحادي غير المعلن معها...
أبي كان رده صاعقا حاسما ومباغتا ..وجوده ألجم الأفواه حتى أنني توقفت عن بكائي .

قال بلهجتة الواثقة:
_ ليس عندنا مطلقات فى العائلة ولن يكون ... ستعيشين مع زوجك وتحملي معه كل الصعوبات ثم تموتين معه، فبناتي اللاتي أزوجهن لا يعدن أبداً إلى بيتي ، هيا.. هيا انهضى لتعودي إلى زوجك...

تجمدت ملامح بدرية ، فتحت فاها أكثر من مرة , لكنها لا تنطق أبداً ..لأن كلمة أبى لا ترد أبداً، فقد نهضت إلى حجرتها تجمع أشياءها وهى تبكي ... تبكي بحرقه وألم وأمي لا تفتاً تردد كلمتها الخالده فى المآسي:
_" لا حول ولا قوة إلا بالله" ...
عادت بدرية إلى بيت زوجها مطأطأة الرأس ذليله ليمارس عليها شتىصنوف الإهانة والإذلال وسحق الكرامة...

لم أنس لإبي موقفه هذا ولا موقفه مني بعد ذلك بشهور حيث تعرضت لأبشع موقف تتعرض له طفلة فى مثل سني وظروفي، حينما حاول جارنا أن يغتصبني رغم أن الأغتصاب لم يتم والمحاولة أجهضت فى بدايتها لعناية الله ورحمتة ، إلا أنة ترك نقطة سوداء فى حياتي وأثرا لا يمحى على مر الزمن اهتزت معه كل مبادئ أمام نظري واختلت القيم واضطربت المرئيات ، فبت أري من خلال هذا الرجل المتوحش الذى يغافل زوجتة ليخدش براءة طفلة فى سن ابنته أن الرجال على مختلف أعمارهم وألوانهم سواء فى الخبث والمكر والغدر ... وانة لا أمان مع رجل كائم من كان بدءا بابي وانتهاء بأي رجل آخر على وجه البسيطة. دخلت بيتنا بعد هذا الحادث أرتجف بعنف وآثار الصدمة واضحه جلية على وجهي. وجدت أبي يتحدث فى الهاتف وأساريره منبسطة وعلي شفتيه ترف وابتسامة من ابتساماته النادرة .. اقتربت منه ثم بكيت أمامة برهبة .. سألنى بحده بعد أن أغلق سماعة الهاتف:
_ ما بك؟
رويت له ما حدث لي بصوت متهدج وأنا أنشج بين كل كلنة وأخري ... وما انتهيت من روايتي حتى فوجئت بصفعته المدويه على صدغي تلتها صفعه اخري ثم صفعات وصفعات وهو يدمدم بكلمات متقطعة:
_ لقد انهارت الأخلاق .. سوء تربية .. البنت كبرت وانحرفت وليس فى بيتي من تكون ساقطة الأخلاق ...
جذبنى شقيقى الأكبر من بين يديه بصعوبة وهو يتابع صرخاته :
_ لن تخرج هذه البنت من البيت أبدا ابدا .. سأحبسها حتى تتعلم كيف يكون الأدب والأخلاق ... هيا أغربي عن وجهى

بكيت على صدر أمي طويلا بدون أي طائل ... لاكلمة ولا همسة ولا حتى لمسة تعاطف ... سئمت استجداء العواطف ... سئمت تسول الحب والأمومة واجترار غريزة تجمدت فى قوالب صلبة لا تلين .. مللت انتظار الذى لا يجئ والركض فى من مستحيلة...

وما أن سمعت كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) حتى انتزعت نفسى من بين احضانها وارتميت على على سريري باكيه لتتلقفنى شقيقتاي بكلمات مطمئنة وعبارات هادئة ، وأن ما حدث لا يعدو أن يكون حادثا عاديا يتكرر كثيراً، وانه يجب أحمد الله على نجاتى من براثن ذلك الوحش الغادر... نمت بين دموعي ولم أنس ذلك الحادث ابدا بعد ذلك وتأصل الخوف من ابي فى أعماقي وسلبيتي تجاه امي وشفقتى تجاه اختى بدرية وأشقائي الآخرين..

وظلت أمي على هامش الحاة، تمشى وتري وتنام حتى جاءتها الضربة القاصمة من حيث لا تدري ولا ندري ... فقد تزوج أبي .. تزوج فتاة صغيرة لا تتجاوز سنها العشرين عاماً... أخبرتنا بذلك جاره لنا تربطها علاقة واهية بأمي، فأمي لا صداقات لها ولا علاقات ولا روابط من أى نوع ، فهي متقوقعة على ذاتها مكتفية بها عن العالم أجمع... كانت الجارة تتحدث وفى عينها بريق غريب أدركت فيما بعد انه بريق الشماته.. تركزت أنظارنا على أمي لنري وقع الصدمة عليها ، وكأننا نتفرج على برنامج مسل فى التلفاز، فلم نعرف كيف ستكون ردة فعلها على حدث مريع كهذا... فلم نعرف أبداً أهي تحب أب أم تكرهه، تحترمة أم تخافه، ما نوع العلاقة بينهما، إلى أي حد تستشعر فى حياتها؟ وكم كانت الصدمة مروعة حقا.. فقد انقلب معها أمي إلى كائن آخر لا نعرفه.. صيرتها الفجيعه إلى أمرأة أخري من لحم ودم وعواطف وليست قالب ثلج لا يشعر كما عرفناها دائما.. اهتزت بعنف وبدت عليها مظاهر الحياة والأحساس والمشاعر ... وامتلأت عيناها بالدموع...ثم بكت بعنف وشدة وركضت نحو جهاز الهاتف سمعتها تحادث أبي ثم أغلق سماعة الهاتف وهى تنتحب إلى جوارها، ودون أن يقترب أحدنا منها انتفضت فجاة وكأنما مستها الحياة بعصا سحرية ، ثم مشت بنشاط وحيوية نحو حجرتها لتجمع ملابسها فى حقيبة كبيرة .. وخرجت بعد دقائق ونحن نحدق فيها بصمت واستغراب شديدين ... قطعت الصمت سعاد شقيقتى بقولها:
_ إلى أين يا أمي؟
هتفت أمي بعصبية:
_ إلى الجحيم .. لكنني لن أنتظر دقيقة واحدة فى هذا البيت...
عادت سعاد تقول:
_ لكن يا أمي ليس لك مكان آخر ... فأخوك الوحيد فى مدينة أخرى وبعيدة و...
قاطعتها أمي:
_ سأذهب إلى المستشفى ولن أعود إلى هنا أبدا...
فتح أب الباب بهدوء ثم وقف لحظة يقيس الموقف قبل ان يقول:
_ أعيدي الحقيبة إلى مكانها يا ام صالح... وكوني هادئة وطيبة فلن تخردي من بيتك إلا إلى القبر....

صرخت أمي صرخة مدوية وهى تقذف الحقيبة بوجة أبي ... تفاداها أبي بحركة سريعة قم أقترب من أمي ، وبدلا من أن يهدئ من روعها صفعها بعنف ، وازداد صراخها وهياجها...

فى تلك الليلة أودعنا امي المستشفى بعد نوية شديدة تفوق نوباتها المعتادة صراخا وهذيانا وهياجا ... ولأول مرة يخلو البيت من أمي وأبي فى وقت واحد. أمي تحتضن الألم والرعب فى حجرة باردة تمتلئ بالصراخ والعذاب والجنون وأبي فى بيته الجديد يحتضن عروسة الجديدة، ونحن فى ضياع وأسي تتناهبنا الخواطر المزعجةويعتصر نا الألم على ما وصل اليه حالنا... لم يهتم أبي بوحدتنا وخوفنا، فغاب أياما طويلة لم يزرنا خلالها أبدا ... لا تزال ذاكرتي الحبلي تلهبنى بسياط تلك الليالي الؤرقة..

حينما أجتمع واخواتي فى إحدي الغرف ترتعد فرائصنا عما يمكن ان يحدث لنا فى اللحظة التالية، وتطول اللحظات والدقائق والساعات والخوف يضخم الأوهام وينفخها بروحه ليغدو كل شئ مجسما مخيفا .. فحركة الرياح هى مجموعة لصوص سيقتحمون علينا البيت وشجار القطط هو رجال مقنعون ابتدأوا يكسرون أبوابنا وقطرات المطر هى خطوات أحد المجرمين المسلحين .. كنا نستبشر ببزوغ النهار وأذان الفجر فلا خوف مع أذان الفجر وخروج المصلين للصلاة ، وقتها كنا نتنفس الصعداء ثم ننام بأمان افتقدناه طويلا...

حادثت شقيقتي الكبرى بدرية ورجوتها أتبيت معتا هذة الليالي فقط ، لكننى سمعت زوجها على الطرف الأخر وهو يصرخ ويسب ويشتم .. وتلجلجت بدرية فى جوابها فحز فى نفسي أ احملها ما لا تطيق وهى النسمة الرقيقة والحمل الوديع، فهمست لها وقد تحطم شئ ما فى نفسي:
_ لقد عدلت عن رأيي ... سننام وحدنا هذة الليلة أيضا..
أحسست بها على الطرف الآخر وهى تتمزق وأخيراً أجابت:
_ سأزوركم قريبا.. قريبا جدا ان شاء الله ..
حالما اغلقت سماعة الهاتف بكيت ... بكيت كل شئ .. بكيت ضعف شقيقتى وأنكسارها .. بكيت الأم الحاضرة الغائبة .. وبكيت الأب الغادر القاسي .. بكيت نفسي التى لم أجد لها مرسي تركن إليه ولا حضنا تضم يتمها فيه ولا دنيا تحنو عليها

انتظروا الجزء القادم


dali2000 04-05-09 03:18 PM



الجزء الثالث



النظر في كل شئ... إنسان يحبة ويثق برأيه ... ترى لو كانت أمي أبدت رأيها أفقت على دنيا غير الدنيا وعالم غير العالم الذي عرفته وعشته... أشقائي وشقيقاتي وقد تفرقوا بين بيوت أزواجهن وزوجاتهم وفى السفر للدراسة وأمي التي فقدتها نهائياً بالموت... ماتت حزناً وكمداً... ماتت تكابد آلامها الكثيرة بدءاً بزواج أبي من أخرى غيرها وانتهاء بأمراضها التي لا تحصى... ماتت بعد أن أعياها الدواء وقتلها دورها الهامشي في الحياة فلا هي أم ولا زوجة ولا ابنة... هي كائن مشوه لم يعرف السبب الأساسي من وجوده، تماماً كالزائدة الدودية التي لا يعرف لها فائدة حتى الآن ... ماتت بعد أن ظلمتها الحياة وقهرها الزوج وتجاهلها الأبناء... ماتت دون دمعة ألم ولا كلمة رثاء... ( ارتاحت من الدنيا) كلمة قالها كل من عرفها .. لكني بكيتها .. بكيتها كثيراً... ليس لأنني اعتدت البكاء لكنني أشفقت عليها... نوع من الشفقة المرة اجتاحني على مصيرها، فقد عاشت وماتت دون أن تذوق طعم السعادة... وكل لحظاتها السعيدة النادرة امتزجت بمرارة غريبة... بمرارة اعتادتها ولم تنكرها.

وكما لم يقدرها أبي في حياتها فلم يرع حرمتها وهي متوفاة، فقد أحضر زوجته غداة الوفاة في نفس بيتها وحجرتها وحتى سريرها الذي تشرب دموعها وخوفها وأساها...

لم يسعنا سوى تقبل الأمر الواقع خصوصاً حينما أنجبت زوجة أبي الأولاد والبنات... علمتني الأيام والمآسي أن أعامل زوجة أبي بحياد تام، لا حب أو كراهية أو حقد ... تحاشيت كل ما من شأنه خدش القوالب وتحطيم الحدود وتجاز الأسوار، فعشنا يجللنا الاحترام المتبادل والثقة والوفاق... حتى تخرجت في الجامعة وحزت على بكالوريوس لغة عربية، فجاء تعييني في قرية تبعد عن مدينتنا عشرات الكيلومترات، حينها حدثت كبرى بيني وبين أبي... فقد رفض وظيفتي البعيدة وخيرني بين وظيفة قريبة في نفس مدينتنا أو المكوث في البيت بدون وظيفة... ناقشته ... بكيت كثيراً حتى فوجئت بتدخل زوجة أبي ... تدخلت لصالحي ووقفت تطالب بحقي في العمل ما دمت قد تعبت سنوات طويلة في الدراسة ... صمت أبي... لم أفهم هل كان صمته لاقتناعه بمنطقها... وكلامها الواقعي ورضاء واستسلاماً أم كان صمتا مغلفاً بالرفض والاحتقار والمكابرة حتى عن الرد...
ثم بعد صمت طويل قال بهدوء وربما بذل وخنوع:
- جهزي نفسك يا أحلام، غداً سأذهب بك إلى مدرستك في القرية لتبحثي حينها عن مواصلات لذهابك وإيابك مع زميلاتك والمدرسات...

جمدت واقفة مكاني لا أبرحه... ولا أستطيع حتى الآن تفسير الحالة الغريبة التي مررت بها... مشاعر غريبة اختلطت داخلي، فلم أستطع أن أشكر أبي على تنازله عن رأيه بهذه السهولة المقيتة ولا عكست عيني أية نظرة امتنان لزوجة أبي على تدخلها ووقوفها في صفي... هل ذهلت أو صدمت...؟ لا أدري لكن عادت بي الذاكرة إلى الوراء أعواماً طويلة لأسمع جملة أمي الخالدة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) فتهزني من أعماقي، تهزني في الصميم ... فلا حول لنا ولا قوة ولا رأي حتى أصبحنا كقشة في مهب الريح يتلاعب أبي بمصائرنا وقراراتنا دون أن يجد من يناقشه، من يقنعه... من يفهمه؟ من يحاوره؟

مضى وحده كران طائش لسفينة غارقة بلا دفة ولا اتجاه... تزوجت أختي بدرية دون أن تدري سوى قبل زفافها بأيام, لتكتشف الاختيار الخاطئ لأبيها وتتذوق العذاب ألواناً ثم تعود لإصلاح ما يمكن إصلاحه والانفصال عن زوجها السيئ وتصحيح مسار حياتها المقلوب، تفاجأ بقرار آخر أكثر سطوة وظلما وجبروتاً... أن تعود لزوجها رغم كل مساوئه لتعاود الحياة معه ، بكل عذاباتها وآلامها مسيرة لا مخيرة... ذليلة مهانة محطمة. فعاشت مع زوجها كما عاشت أمي مع أبي وأنجبت منه خمسة أطفال في جو من التشتت وعدم الاستقرار حتى توفاه الله في نوبة سكر لم يفق منها أبداً فأصدر أبي قراره الثاني دون أن يجد من يعارضه، أن تبقي في بيتها مع أطفالها دون زوج طوال حياتها. فالأرملة لا تتزوج مرة أخرى في عرف أبي وقوانينه الجائزة... فعاشت راضية قانعة دون أمل في شئ... أو في غذ مشرق يمسح عنها عذاباتها السابقة وآلامها ودموعها... كذلك أخي صالح فقد أجبره أبي إجباراً على الزواج من ابنة عمة رغم ارتباطه بقصة حب مع ابنة الجيران ووعده لها بالزواج... وقف أمام أبي يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه وهو يقول:
- أنا لا أريد الزواج إلا من واحدة فقط يا أبي....

ذهل أبي ... بل صعق .. هل هناك من يجرؤ على معارضته في شئ أو التصدي له في أي أمر من الأمور ... فوجئت بصفعة مدوية تردد صداها في بيتنا المفجوع من أبي على صدغ أخي وهو يهدر بصوته القوي:
- ستتزوج ابنة عمك شئت ذلك أم أبيت... فقد اتفقت مع عمك على ذلك ولن تكسر كلامي...

وضع صالح يده مكان الصفعة وهم أكثر من مرة بفتح فمه ليتكلم... ليناقش... ليصرخ أو يعترض لكنه لم يستطع... ولا استطعنا نحن، ولا أمي تفوهت بكلمة غير كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) والتي تعني التسليم والانهزام والمرارة... لا أحد استطاع أن يقف في وجه أبي وقتها أو يناقشه في حق أخي في الاختيار، فهو الذي يتزوج لا أي شخص آخر ... مرض شقيقي فترة طويلة... ثم تزوج ... تزوج بعين وعقل أبيه... تزوج مرغماً يائساً كارهاً... لم تفتني دمعة انحدرت على خده ليلة زفافه وقد رضخ للأمر كأية فتاة يزوجونها رغماً عنها...

شقيقتي سعاد كانت دائمة الخلاف مع زوجة أبي على كل صغيرة وكبيرة. منها تعلمت أن الاقتراب الشديد خطر حتى من أعز الناس... فالبعد راحة وارتياح. ولا أحد يدري ماذا تكنه في أعماقك وما الذي لا تجرؤ على إعلانه... ما يحزنك وما يفرحك... الطفل الذي يسكنك ... كل الأشياء الصغيرة التي تحركك... علمت منها ك لذلك وأكثر... علمني اقترابها الشديد البعد... علمني كلامها الكثير الحذر... علمني سؤالها اللحوح الصمت... خلافاتها الدائمة مع زوجة أبي أودت بها إلي مصير لا تحلم إي فتاة بالوصول إليه... عنادها الدائم أودي بها إلي حرمان من الدراسة وزواج غير متكافئ في مدينة بعيدة... دون أي اعتراض من أحد، فقد خنقت كلمة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) إلي الأبد ... الكلمة التي تزيد من جبروت أبي وقسوته... لم يقل مصير شقيقتي التالية ندى عن مصير سعاد بكت ندى ... طال بكاؤها... حسبته حزناً على فراق سعاد وما آل إليه مصيرها ثم ازداد البكاء حدة حتى غدا نواحاً ثم صراخاً، ذهلت وأنا أراها تصرخ وتمزق ملابسها بجنون...

حضرت زوجة أبي على صراخها... حاولت تهدئتها بشتى السبل، ثم جاء أبي، حاول إسكاتها.. صرخ بها... ثم صفعها بقوة لتزداد صراخا ًوهياجاً ليزداد ضرباً لها وركلاً حتى كادت تموت بين يديه وهو يصرخ:
- ستفضحنا بين الجيران.. إن موتها خير لها من الفضيحة...
واستمر يضربها بقسوة حتى هتفت وهي تنتحب:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
حينها فقط كف أبي عن ضربها ووقف يضرب يداً بيد وهو يقول:
- نفس مرض والدتها... يا إلهي لقد ورثت المرض من والدتها...

لم تهدا شقيقتي ندي بل نامت تلك الليلة نوماً متقطعاً تتخلله نوبات بكاء وصراخ... ولم يرحم أبي شبابها وفتوتها بل قيدها بحبال قاسية ونقلها في الصباح الباكر إلي مستشفى الصحة النفسية ليصمها بوصمة العار إلى الأبد ... مريضة بالفصام... ورفض إخراجها من المستشفي مطالبا برعايتها رعاية كاملة ليتخلص من مسؤوليتها... لم يقف أحد ليناقشه. لم يعترض أحد كائناً من كان طريقه، ليقول له بصوت عال أن هذه ابنتك ووصمة العار التي وصمتها بها لن تزول وستفقدها الأمل في حياة مشرقة بعد ذل ... لن يكون لها سوي أربعة جدران كالحة هي حجرتها في المستشفى ونساء فاقدات العقول بدون أهلية هن شريكاتها في الحجرة والحياة ... وطاقم من الأطباء يفترض فيهم النزهة والعفة يحرقونها بالكهرباء كل يوم لتفقد أية بقية باقية من عقلها... وأقراص مهدئة أو مخدرة- لا فرق- تقضي على حيويتها ونشاطها وشبابها إلي الأبد ... وأنها لن تسامحك أبداً ولن يمهلك الله طويلاً.

وانتهت ندى... ابتلعتها بوابة المستشفي لتضع أسواراً بينها وبين الحياة في الخارج... لا تزور ولا تزار بفضل حكم جائر لا يرضى عنه الله ولا خلقه... شقيقاي الآخران خالد وحمد حالفتهما النجاة بجلديهما من بطش أبي وتحكمة في مصائر الآخرين. فدرسا وعملا وتزوجا بالخارج دون أن يكون له في حياتهما أي قرار أو اختيار... ابتعدا عن الطوفان ليسلما بحملهما فتعلمت منهما درساً لا ينسى أن أبتعد بحياتي عن أي مداولة أو نقاش رغم قربي وابتعادهم وأن أنأى بخططي وقراراتي وأفكاري عن كل ما حولي رغم التصاقهم وألا أكون مضغة في الأفواه أو مادة للبحث والاستقراء... لم يكن قراري عبثاً بل إرثي الهائل من العذابات والأحزان وجهني رغماً عني للاستقلال...

حتى جاء أمر تعييني في هذه القرية البعيدة ووقوف زوجة أبي إلي جواري فقد أثبت لي كل هذا إن طريقي الذي سرته بإرادتي لم يكن إلا صائباً، فحيادي تجاههم جميعاً أورث أبي ليناً تجاهي وحدودي الثابتة مع زوجة أبي ألزمها تضامنا حقيقياً معي ... واكتشفت الأسف حقيقة أبي الرهيبة وهى أن رأيه لا يكون حقيقيا ولا ثابتا بل ينتظر إنساناً ما يعارضه ويثبت له خطأ تصوراته ليعيد في شئ ما هل كان سيصيغ لها سمعاً أم كان سيدير لها ظهره كما أداره لها طوال حياته معها..؟

ابتلعت تساؤلاتي داخلي ومضيت أستعد ليومي الأول في مدرستي الجديدة كمعلمة لأول مرة في حياتي...

dali2000 04-05-09 03:19 PM



الجزء الرابع




كان الطريق إلى المدرسة طويلاً موحلاً ومرهقاً... قضيت وأبي معظم الطريق صامتين غير كلمات قليلة متناثرة عن بعد المدرسة ووعورة الطريق ووجوب اتخاذ وسيلة مواصلات جيدة لي في المستقبل... كان أبي يستمع ألي صوت المذياع المنبعث من راديو السيارة وأنا أتأمل الصحراء من حولي المترامية الأطراف... ابتعدنا كثيراً عن الرياض وبدت الطرق أمامي مقفرة منفرة حتى تحولت الطرق المزدوجة إلى طريق واحد متعرج، تتقاطع فية السيارات النادرة القادمة من جهات متعاكسة وعلى جانبي الطريق لا شئ سوى رمال الصحراء حتى نمر ببعض القرى والهجر الصغيرة المتباعدة ثم نعوج لهجير الصحراء من جديد...

سألني أبي بلهجة جافة إذا ما كنت أريد إفطاراً... لم أكن جائعة رغم استيقاظي المبكر في الساعة الرابعة فجراً لكنني كنت قلقة ... حائرة وقضيت ليلة سيئة لم يزرني فيها النوم فأومأت بالإيجاب... دقائق وتوقف أبي عند إحدى محطات البنزين ملأ السيارة بالوقود ثم ابتاع بعض الشطائر التي ما أن شممت رائحتها ورأيت قذارة المطعم الذي ابتاعها منه حتى عافتها نفسي وكرهت مجرد تناولها بيدي... لاحظ أبي نفوري واشمئزازي ... ابتدأ يأكل وهو يقول:
- هذه نعمة من رب العباد ومن عافها فهو جاحد... أستغفر الله.

ومضى طوال الطريق وهو يستغفر ويسب ويشتم، يسب من أو يشتم من لا أدري؟ لكنه كان ناقما عليّ أشد النقمة، ثم أقبلنا على طريق صحراوي غير معبد بعد أن استعان أبي بخريطة يحملها معه انتهي بنا الطريق إلى هجرة صغيرة، بيوتها طينية على النمط القديم المتباعد وكأننا لسنا في القرن العشرين... ابتعدنا عن الحضارة والتقدم وخلفنا التكنولوجيا وراءنا على بعد أكثر من ساعتين ومائتين من الكيلومترات، كانت البيوت طينية متهدمة تتباعد وتتقارب في الصفوف غير مرتبة ومسجد طيني سقفه من الصفيح الصدئ... ترجلنا أمام باب المدرسة.

لم أصدم وأنا أري هذا المبني العتيق الذي لا يختلف عن غيره من البيوت المقامة في هذه الهجرة... دخلت بعد أن قال لي أبي بحدة:
-سأنتظر حتى تخرجي... لا تنسي أن تدبري لك وسيلة مواصلات فلن أكرر هذه الرحلة ما حييت...

أعلم تماما انه لن يكرر تلك الرحلة، فأنا نفسي رغم رغبتي الشديدة في عملي كمدرسة قد كرهت هذه الرحلة وأصبحت ثقيلة على نفسي، فكيف سأكررها يومياً؟... تساءلت وأنا أدلف إلى الداخل برهبة شديدة ونفس متزعزعة ومهزوزة... غاصت قدماي في الأرض الموحلة من آثار المطر فقد كنا في فصل الشتاء... تنقلت بصعوبة حتى وجدت أول حجرة أمامي دخلتها بتردد... رأيت أول أنسانة في هذه الهجرة البعيدة، كانت من دولة عربية شقيقة، رحبت بي وعرفتني بنفسها، هي مديرة المدرسة. ثم اصطحبتني معها إلى الحجرة المجاورة حيث زميلاتي، المدرسات، مضى الوقت وبدأت تغادرني وحشتي وغربتي...

تعرفت إلي زميلاتي: اثنتان من جنسية المديرة و تسكنان معها في بيت طيني في نفس الهجرة وأربعة منهن يحضرن من قرى قريبة من الهجرة واثنتان يحضرن من مدينتي نفسها... لم أتوان عن السؤال عن وسيلة النقل، أفهمنني بأنهن يحضرن يومياً مع أبي راشد وزوجته وهما من مدينتنا ينقلان المدرسات إلى ثلاث قرى مختلفة في سيارة جيمس صالون ومجموع المدرسات المتنقلات معي ثمان بالإضافة لي ... فرحت بأن طرقي أصبحت ممهدة... وسألت عن كل شئ...

ثم قفلت عائدة مع أبي نسير وراء سيارة السائق أبي راشد لكي ندله علي طريق بيتنا فيأتيني صباح الغد لنبدأ العمل... إلى حد ما كنت مستقرة نفسياً، فالطالبات عددهم قليل والفصول لا تربو على خمسة في كل صف منها ثلاث إلى أربع طالبات لا أكثر... المديرة بشوشة طيبة النفس والزميلات ودودات مرحات...

عدنا إلى البيت في الثانية ظهراً... حكيت لزوجة أبي كل شئ ثم ابتدات استعد ليوم الغد ... يومي الحقيقي في مدرستي الجديدة، اليوم الذي سأمارس فيه مهامي الوظيفية وسألتقي فيه بطالباتي القليلات أتحدث معهن وأعلمهن وأعطيهن من كل نفسي، من كل ما أختزنته من تجارب في الحياة... من حبي للعمل... حبي للدنيا بأسرها... كنت مرحة متفائلة, أشعر بأن الدنيا ابتدأت تبتسم لي رغم تكشيرها في وجهي الأعوام السابقة...

همست لنفسي اليوم الأول في التدريس بمرح ونشاط. لم يعكر صفوي سوى المسافة الطويلة المرهقة المخيفة... فمع سقوط الأمطار الشديدة تحتجب الرؤية عن السائق، فيتمهل في السير وهو يدعو الله بصوت عال ان نصل بسلام وألا يحصل لنا مكروه، كنت أرتجف من شدة الرعب ويظل قلبي يخفق بقوة حتى نقف أمام باب المدرسة ثم أتنفس الصعداء. مضت الأيام في المدرسة وأنا مع زميلاتي شيئاً فشيئاً وأتعرف إلى أحوالهن خصوصا من يرافقنني رحلة الذهاب والإياب الطويلة.

فوزية متزوجة وأم لطفلين ورغم خلافاتها المستمرة مع زوجها بسبب الوظيفة إلا أنها مستقرة عائلياً، والأخرى صباح الأقرب لي نفسياً غير متزوجة، لكنها تتمني الزواج بشدة وبأي شكل وكثيراً ما قالت ضاحكة لو خطبنى حارس المدرسة لتزوجته... وهي متخرجة في الجامعة منذ خمس سنوات ولم تتعين في هذه الهجرة سوى منذ عامين فقط، وتنتظر نقلها إلى المدينة بدون أي جدوى فليس لها واسطة ولا زوج يرغب وجودها إلى جواره كما قالت مراراً وتكراراً...

ثم بدأت أتعرف إلى الطالبات القليلات في المدرسة، إنهن أكبر سناً من مستواهن الدراسي بكثير، فأحداهن في العشرين من عمرها أي تقاربني سناً ولا تزال في الصف الرابع الابتدائي... أسماؤهن صعبة... الشقحاء... عبطاء... وضحى رغم وجود بعض الأسماء العادية بينهن. يعانين من الإهمال الواضح في مظهرهن، فثيابهن مهلهلة قذرة وشعورهن طويلة مدهونة بالزيت غالباً... والقمل يرتع رؤوسهن دون حساب.

حاولت كثيراً أن أصلح من أحوالهن رغ تندر الزميلات ووصفهن لي بالجديدة المتحمسة، فكما سمعت منهن أنهن قد حاولن كثيراً رفع المستوي الصحي واللياقي للطالبات بدون جدوى، فإذا تفهمت الطالبة وحاولت، فلن تفهم الأم ولن تحاول، فالأب غالبا ما يكون متزوجا من امرأتين وربما ثلاث أو أربع وك لواحدة من هؤلاء تجرجر وراءها قبيلة من الأطفال فكيف تعتني بهن وأين لها الوقت تتعارك فيه مع الزوجات الأخريات لزوجها... لكنني لم أستمع لهن وحاولت بكل جهدي تعليم طالباتي النظافة كما أعلمهن الدروس اليومية... وذات يوم كنت في فصل رابع أشرح لهن بعد انتهاء الدرس أهمية النظافة وكيفية نظافة الشعر من القمل باستخدام شامبو معين يباع في الصيدليات والاستحمام اليومي وكيف يعود على الجسم بالصحة والنشاط ثم بعد انتهاء الدرس لحقت بي إحدى طالباتي" وضحي" وقالت لي على استحياء:
- أبله إن شعري فيه قمل كثير.
أجبتها بهدوء:
- أعرف يا وضحى ... أعرف.
- أبله إنني أكره القمل واود لو أتخلص منه.
أجبتها بنفس الهدوء:
- حسناً يا وضحى هذا بسيط.
ومضيت أشرح لها الطريقة المبسطة عن كيفية استخدام الشامبو المناسب. أجابت والخجل يعقد لسانها:
- لكن يا أبله... الرياض بعيدة... ونحن لا نذهب إليها أبداً كأهل قريتنا.
ابتسمت وقد فهمت مرادها:
- حسناً يا وضحى... أعدك بأن أجلب لك الشامبو في أقرب فرصة وسأكون سعيدة بهذا جداً.
وفعلاً ابتعت لها الشامبو وأهديتها إياه... لم أنس فرحتها الشديدة به كأنه هدية ثمينة من الذهب، وليس شامبو يباع في البقالات بسعر زهيد.

بعد بأيام قلائل أتتني وفي يدها وعاء وتقول أنه هدية من أمها لي... سعدت كثيراً بتقديرها ووالدتهالي رغم ان الهدية عبارة عن أقراص من اللبن المجفف يطلق عليها اسم" البقل" أو "الأقط" كانت أقراصاً لذيذة جداّ استمتعت بالتهامها مع زميلاتي اللواتي أخذن يتهامسن عن علاقتي بهذه الطالبة...

وفي طريق العودة إلي مدينتنا حكت لي صباح قصة وضحى التي لم تنجب أمها سواها وشقيقها المدرس الذي يكبرها بعشر سنوات ويدرس الأولاد في نفس الهجرة... ولقد أنجبتها والدتها بعد يأس من الإنجاب ففرحت بها كثيراً ودللتها بشكل مبالغ فيه... ولم تنجب غيرها مما اضطر الأب الذي كان يحب الأم كثيراً إلى الزواج مرة أخرى وأنجاب الأولاد و البنات... أشفقت على وضحى كثيراً بعد أن سمعت قصتها فحكيت لزوجة أبي عنها وعن حياتها في دنيا خالية من المسرات والبهجة... فلا تلفاز في القرية ولا جرائد يومية ولا أي شئ يمكن من خلاله معرفة العالم الخارجي وما يدور به.

توثقت علاقتي بوضحى بعد ما لمسته من جدها واجتهادها وتعلقها الشديد بي، فكانت كل يوم تحاول ان تظهر لي بأنها قد أصبحت نظيفة متألقة... وفعلاً فإنها تبز الطالبات جميعاً بالنظافة والترتيب والاجتهاد بالإضافة إلى أخلاقها العالية وحيائها الملحوظ... ثم فوجئت ذات يوم بوالدتها( وهي امرأة لطيفة ودودة تناهز الخمسين من عمرها أو ربما أقل لكن حفر الزمن وأخاديده تبدت على وجهها وحول عينيها) هل كان حزنا ذلك الذي أضاف لعمرها سنوات أم هو خوف ووحدة... لا أدري... لكنني رحبت بها بصدق وحرارة وامتدحت لها ابنتها وضحى. رأيت ألق الفرحة في عينيها واتساع ابتسامتها، ثم صافحتني بود ودعتني لزيارتهم في بيتهم البسيط... اعتذرت لها بصعوبة ذلك حيث إن دوامي الوظيفي لا يسمح لي بمثل تلك الزيارات ثم ودعتني بحنان استشعرته بكل كياني فأيقظت في نفسي جروحاً قد أقفلت على صديد ووعيت على حقيقتي المجردة اليائسة الباشسة, وهي أنني إنسانة محرومة من الأمومة والحنان فلم أعرف لي أماً طوال حياتي الخاوية... بكيت في ذلك اليوم لا أدري لماذا... قطعت رحلة الأياب في بكاء متواصل ... ورفضت الحديث مع زميلات الرحلة اللواتي كان البعض منهن يتحادثن بينما الآخر كن نياماً...

في ذلك اليوم البعيد تسلل الحزن إلى فؤادي فمزقه بلوعة، تذكرت غربة أحياها في بيت ولدت فيه، تذكرت الأم التي كانت كطيف مر بحياتي، كحلم لا جود له... أختي التي استشعرت أمومتها وحنانها لا تزورنا إلا لماماً بسبب الجفاء المتبادل بينها وبين زوجة ابي ولا أستطيع زيارتها لرفض أبي القاطع... وإخوتي المتفرقين على أحزان لا يحدها المحيط.

كانت المفاجأة بانتظاري في الغد... والأقدار تنسج لنا ما لم نتخيله ولو في أقل أحلامنا واقعية وبساطة... كان المطر غزيراً في ذلك اليوم ، وما إن دخلنا المدرسة حتى فوجئنا بالمستخدمة تخبرنا بأن اليوم عطلة نظراً لغزارة الأمطار وأن المديرة أخبرتها أن تبلغنا بذلك. خرجنا بعدها مسرعات إلى الباب خشية أن يذهب أبو راشد كعادته كل يوم... وفعلاً لم نجده أمام الباب وكأن الأرض انشقت وابتلعته مع سيارته فلم ندر أين هو... حتى الحارس لم نجده إلا بصعوبة، ثم طلبنا من أن يبحث عن أبي راشد فبحث بتكاسل تحت المطر الغزير ليأتي خالي الوفاض معلناً بأنه لم يجده... في هذه اللحظة حضرت إحدى المعلمات مع زوجها من هجرة قريبة فأبلغها الحارس بالأمر... تشاورت وزوجها ثم عرضت علينا أن توصلنا إلى الرياض، ترددت صباح بينما وافقت فوزية على الفور من أجل أطفالها كما قالت ... ورفضت أنا. وبين تردد صباح وموافقة فوزية ورفضي... فوجئت بوضحى ووالدتها تأتيان تحت المطر الغزير لتعرضا استضافتي هذه الفترة مع زميلاتي المعلمات حتى يحضر السائق... وافقت على الفور بينما ذهبت صباح وفوزية مع زميلتنا عواطف وزوجها إلى الرياض... لم يكن رفضي ناجماً عن حيائي من زوج زميلتي عواطف بل كان رفضي لأنني أعرف موقف أبي من هذا الأمر وكيف ستكون ردة فعله... فقد أوصلتني ذات يوم مرة إحدى زميلاتي في الجامعة إلى منزلنا بعد تخلف باص الجامعة في نفس الوقت الذي حضر فيه أبي إلي المنزل ، وما إن رآني أنزل من السيارة الغريبة ورأي زميلتي وشقيقها حتى غاض الدم من وجهه وسبقني إلي البيت ليضربني ضرباً مبرحاً ما زالت آثاره باقية... حتى اليوم... ولولا تدخل زوجة أبي لإنقاذي من براثنه لقضيت في ذلك اليوم ... لذلك فإنني وازنت بسرعة بين مخاطرتي في الذهاب مع زميلتي وزوجها إلى إلى الرياض وبين بقائي في الهجرة مع تلميذتي وضحى ووالدتها فاخترت الأسلم والآمن... كان بيتهم غاية في البساطة والرثاثة... مساحة كبيرة مسورة بالطين من كل الجهات ثم حجرات طينية متفرقة في أنحاء الدار. دخلنا إحدى هذه الحجرات البسيطة... كانت مفروشة بحصيرة مخططة بألوان باهتة ومجموعة قليلة من الآرائك الإسفنجية البسيطة تتوسط الحجرة، مدفأة قديمة تتوهج بالحرارة والدفء وفي ركن الأركان وضع دولاب خشبي وصفت عليه مجموعة من الأباريق النحاسية وبعض الأكواب الخزفية والمعدنية...

جلسنا حول المدفأة ... أخذت أرتجف بعنف. لا أدري هل كان شعورا بالبرد اجتحني بعد المدفأة أم كان الأمر خوفاً ورهبة إذ أنني لأول مرة أدخل بيتا غريبا ... كانت الأمطار تهطل بغزارة على الأرض الطينية في فناء الدار الكبير ورائحة الجدران الطينية المبللة بماء المطر تعبق بالحجرة ممتزجة برائحة الشاي بالزنجبيل الذي تعده ام وضحي على الموقد أمامي... رشفت الشاي ببطء مع بعض لقيمات من رقاقات خبز العسل بعدها انطلقت على سجيتي أتحدث عن بيتنا في الرياض وشقيقتي بدرية وأولادها والمدرسة والطالبات...

كاد المطر يتوقف ولم يتبق سوى زخات بسيطة كالرذاذ المنعش... جذبتني وضحى من يدي لتريني حجرات الدار الأخرى... كانت حجراً بسيطة تكاد تخلو من الأثاث عدا بعض الحصائر والفرش البسيطة، وفجأة التقت عيناي بعينين غريبتين تحدقان بي... لحظات وأدركت الكيان ككل .. أنه رجل أختبات في أحضان وضحي لتصرخ بصوت عال:
- سعد... أذهب من هنا... لدينا ضيفة...
رفعت رأسي ببطء وأنا أتلفت حولي... لقد أختفى سعد... لا أدري أين ذهب ... ربما عاد من حيث أتى... أنه شقيق وضحى الأكبر... لم أتخيله بهذا الشكل، شاب وسيم رغم أنه حاد النظرات كغالبية رجال هذه القرى... ترى لو علم أبي أنني تبادلت النظرات مع شاب ما حتى ولو كان بغير قصد... ترى ماذا سيفعل؟ هززت رأسي بقوة وطردت تلك الأفكار المرعبة ومعها ذكرى أبي المخيفة...قالت أم وضحى بسريرة نقية:
- لا تؤاخذيننا يا ابنتي... إن سعد لم يكن يقصد... فلم يعلم ان في الدار ضيفة...
أجبتها بهدوء:
- لم يحدث شئ يا أم وضحى...

ومضى الوقت سريعاً حتى أقترب موعد أوبتي إلى المنزل، فعدت مع وضحى ووالدتها لأجد أبا راشد وزوجته في انتظاري... وفي طريق العودة الطويل لم يكن يشغل بالي سوي ذلك البيت الطيني القديم وساكنيه الثلاثة...


dali2000 04-05-09 03:21 PM

الجزء الخامس


- هل هذا منزل عبد الرحمن محمد صالح؟
- نعم إنه هو...
- هل السيد عبد الرحمن "أبو صالح" موجود؟
- كلا هو في الخارج الآن... هل هناك ما نقوله إذا عاد؟
- نعم ... أنا سالم عبد الله... من قسم شؤون المرضى في مستشفى الصحة النفسية ... أبلغيه يا سيدتي...

صمت الصوت لبرهة جمدت فيها الدماء في عروقي... تابع بأسي:
- إن ابنته المقيمة لدينا في المستشفى قد انتحرت...
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أجيبه...
- وهل ماتت...؟
- يؤسفني إبلاغكم بذلك... إنها موجودة في ثلاجة المستشفى... نرجو سرعة استلام جثمانها...
شهقت بجزع وأنا أسأله:
- كيف انتحرت ... لماذا؟ أرجوك أجبني بصراحة أنا شقيقتها.
- سيدتي نحن لا نعطي معلومات لأحد... إذا حضر والدها إلى المستشفى سيعلم كل شئ... مع السلامة...

خفقان عنيف يتسلل إلي قلبي حتى خلت أنه سينفجر داخل ضلوعي... النبضات تتسارع في جسدي كله... يداي... قدماي... أسفل عنقي ورأسي... كأنني قنبلة موقوتة على أهبة الانفجار ... سال العرق البارد على جسدي المرتجف بغزارة ثم بدأت معالم البيت تدور أمامي حتى سمعت صرخة الخادمة:
- أحلام...
قبل أن أغيب عن الوعي...
صحوت في المستشفي ومن حولي شقيقتي بدرية وزوجة أبي وإحدى الممرضات...
تناولت بدرية بدرية وهي تهمس:
- حمداً لله على سلامتك يا أحلام...
هتفت برهبة:
- هل ماتت ندى؟
نكست بدرية رأسها وتطوعت زوجة أبي بالإجابة:
- نعم يا أحلام... لقد ماتت ندى يرحمه الله... ولا ندري كيف؟ يرجع الأطباء أنها ربما تناولت جرعة دواء زائدة بقصد الانتحار أو إحدى المريضات قد دست لها هذه الجرعة بقصد أو بدون قصد...
سألتها...
- وهل انتهى الموضوع عند هذا الحد؟
- في هذه الأمور من يحاسب من ؟ أبوك لا يريد الفضائح... فرفض تشريح الجثة أو فتح في الموضوع.
- لكن من قتل ندى؟
- ادعي لها بالرحمة والمغفرة... وإذا أردت الحقيقة فإن موتها خير لها من حياة كهذه بلا هدف...
امتلأت عيناي بالدموع وأنا أردد داخل نفسي" موتها خير لمن... لك أنت ولأبي... أنتما المستفيدان الوحيدان من موتها... لقد قتلها أبي ألف مرة قبل أن تغتالها جدران المستشفي المخيفة... قتلها أبي قبل أن تموت تلك الميتة البشعة و كأنها قطة مشردة بلا عائل، ربما انتحرت وربما قتلها أحد... كلا... كلا أيها العالم إن أبي هو القاتل الحقيقي وقد قتل أمي قبل أن يقتلها ويشرد أهلها ويضع لنهايتها ألف علامة استفهام..."

اهتز جسدي وأنا أنتحب وأبكي بعنف وبدرية شقيقتي تضمني وهي تبكي، وزوجة أبي ترمقنا صامتة حتى دخل أبي الحجرة... لدخوله صمت ورائحة... صمت حبس الدموع داخلي ورائحة أرهبتني، قال بجفاء:
- هيا يا أحلام ... كفاك دلالاً وتمارضاً...
ثم مخاطباً الجميع:
- هيا اخرجن جميعاً... أطفالكن بالانتظار..هيا ...

خرجت متحاملة على نفسي وجرح كبير يتوطن أعماقي ليسيل حقداً وكرهاً وصديداً من الأحزان... وندى لحقت بأمي وانتهت كلمة " لا حول ولا قوة إلا بالله" وخمد صوتها إلى الأبد... هل أنت مستريح الضمير يا أبي... هل تنام بعمق دون أن يؤرقك خيالها الحبيب وهي تصرخ وتتوسل إليك أن تبقيها في البيت مع أخوتها ولا تذهب بها إلى المستشفى؟ هل تنام دون أن يقض مضجعك عذاب الضمير ونداء الأبوة الساكن في قلب ك لأب طبيعي يحس ويشعر..؟

تغيبت عن مدرستي عدة أيام فوجئت خلالها بزيارة زميلاتي المعلمات وبرفقتهن وضحى ووالدتها... لم يفاجئني سؤال زميلاتي قدر ذهولي مما وصلت إليه العلاقة بيني وبين وضحى تلميذتي الرقيقة وبيتهم الذي لا يبرح ذاكرتي... قدمت لي والدة وضحة هدية من السمن البلدي المعروف بجودته، وصفيحة معدنية مملوءة عن آخرها بالتمر اللذيذ. شكرتهم وأنا أتصنع الهدوء لكنني انهرت في لحظات وبكيت... بمجامع نفسي وانكسار قلبي... هالني الحنان الذي رأيته في عيون من لا يعرفني... الحنان الذي افتقدته في حياتي منذ ولدت... الحنان الذي بعثرني... شتتني ثم أسال دموعي... أصعب شئ في حياتي الحياة أن تجد ما تبحث عنه بعد أن يئست تماماً من وجوده وانتفت حاجتك إليه، كالفقير الذي يحصل على ثروة بعد أن أصيب بمرض قاتل لا شفاء منه... ضمتني أم وضحى إلى صدرها وهي لا تنفك تواسيني بكلماتها التي تنزل كالبلسم على جراحي. ولكن ندى من منكم يعرفها... أنها لا تشبه أي أحد آخر... إنها بالضبط كقطرات الندى رقيقة لطيفة وعمرها قصير...

ودعوني بعد أن أعطتني وضحى كتاباً عن الصبر والإيمان بالله... كتيب صغير لا يزيد عدد صفحاته على العشرين صفحة. شكرتها ودموعي لا تزال عالقة بأهدابي... ابتسمت هامسة:
- هل تعرفين من هو مؤلفة؟
قلبته في يدي وأنا أهمس بدوري...
- كلا... من ؟
ضحكت بفخر وهي تقول:
- إنه أخي سعد...
هتفت غير مصدقة...
- معقول... أخوك سعد يؤلف كتباً...
تابعت ضحكتها قائلة:
- نعم ولديه أكثر من خمسة مؤلفات.
سألتها وأنا أشير للكتيب:
- مثل هذا؟
أجابت:
- نعم صغير لكنها مفيدة... ثلاثة مؤلفات في الشعر واثنان في الشؤون العامة كهذا الكتاب وكتاب آخر يتحدث عن التفاؤل والتشاؤم.
سألتها بفضول:
- أي مادة هو يدرسها للطلاب؟
أجابت:
- يدرس مادة الرياضيات...
ثم تابعت مبتسمة:
- لقد درس في الجامعة في الرياض وسكن في سكنها بعيداً عنا حتى أتم دراسته ثم طلب التعيين في قريتنا ليكون قريباً منا أنا وأمي، فليس لنا أحد غيره... وسأهديك كل كتبه حينما تعودين إن شاء الله إلى المدرسة، فهمي كتب ممتعة خاصة شعره، فهو شاعر رائع يكتب الشعر كأنه يعزف...

أعجبني منظر الفتاة وهي تتحدث عن أخيها بانبهار شديد. كانت عيناها تبرقان بأضواء خاطفة ووجهها يتورد وعنقها يرتفع ورأسها يطول ليعلوه الفخر والكبرياء... إنها تحب أخاها وتبجله لدرجة الجنون... تساءلت في سري... ترى هل هو يستحق كل هذا؟

استلقيت على فراشي ضائعة بعد أن ذهب الجميع ومضت لحظات أحاول فيها جمع شتات نفسي فلا أستطيع ... أشعر بأنني أشلاء ممزقة في كل ركن تقبع قطعة مني وجزء من أحاسيسي ومشاعري... رباه... ألهذا الحد تأثرت بانتحار شقيقتي... إن موت أمي لم يشكل لي صدمة كهذه ولا دموعاً حارقة كدموعي عليها... هل كانت أغلى من أمي على نفسي أم أ، حياتها القصيرة والظلم الذي حاق بها زاد من إشفاقي وهلعي عليها؟ هطلت دموعي بغزارة لتبلل وسادتي ... رفعت يدي لأمسح الدموع، ففوجئت بالكتيب الصغير... قرأت عنوانه بشرود " الصبر والإيمان بالله" فتحت أول صفحة بتردد... ذهلت... كان هناك إهداء بخط اليد ، عبارة صغيرة لكنها معبرة...

" حين تغيب الشمس وتتكثف الغيوم ويحل الظلام فانظري إلى فوق... إلى السماء... دعاء وابتهال... تسقط نقطة ثم ينهمر المطر بغزارة لتتبدد الغيوم وتشرق الشمس... هكذا هي الحياة ... مصابك تتضاءل أمامه أية كلمة عزاء، لكني آمل أن يخفف هذا الكتاب من بعض أحزانك..."
تحياتي .. سعد

انهمرت دموعي مجدداً حارقة ... مرة ... معجونة بالعذاب والألم، فهذا غريب يحس بآلامي... بغربتي الداخلية... بشجوني الطاغية فيعزيني ويواسيني... هو يعلم تماماً أن الفقد هو أعظم مصيبة تستحق التكاتف والتعاضد وإلغاء المسافات. فالحزن حق مشاع للكل.. فيه يجتمع الناس من كل بقاع الأرض أقارب وأباعد أحباء وغراء لا فرق، فالكل في المأساة سواء... نحن لا نسأل المعزين لماذا يعزوننا وهم أغراب عنا لكن السؤال المهين نوجهه لأقرب الأقارب... لماذا يا أبي؟ أيضيرك كلمة مواساة أو ضمة حنان...؟ هل تنقص من قدرك دمعة مشتركة أو لمسة عزاء؟ هل ما زلت متحجر القلب فاقد الأحاسيس...؟ فقدنا أسرتنا الواحد تلو الآخر دون أن تدمع عيناك أو يرف لك جفن أو تتغير حياتك و لو قيد أنملة ، بل على العكس ماتت أمي فودعتها غير آسف لتحل محلها زوجتك الجديدة... منعت شقيقتي بدرية من الزواج مرة أخرى وحبستها في بيتها مع أطفالها وأنت تفتتح شركتك غير آبه بالحطام الآدمي الذي يتكسر تحت قدميك ... أودعت ندى مصحة الأمراض العقلية وأنت تستقبل مولودتك الجديدة وكأن هذه بتلك... ويتفرق أهل البيت وأنت سادر في غيك، مستمتعاً بحياتك التي لم ينقصها شئ... والآن ندى تموت... بل تنتحر... هكذا بكل بساطة دون أن تتعذب بموتها أو تذرف دمعة شفقة أو رثاء، بل طويت هذه الصفحة السوداء من حياتك وكأنها لم تكن. واستعجلتني أن أشفى من حزني... أنت مخطئ يا أبي، فالحزن هو المرض الوحيد الذي لا شفاء منه بل أنه يتغلغل في الذاكرة ويتعمق في الوجدان ليتحول إلى بؤرة صديدية تسيل أحزاناً ومرارة وكلما عبرت الذكرى أو لاح وجه المحبوب ولو من وراء الغيوم.

وجدت نفسي لا شعورياً أتعاطف مع هذا الشاب سعد... لقد أحس بي كما لم يحس بي أقرب الناس واستشعر حيرتي وعذابي فكتب كلماته تلك مواسياً ومعزياً. إنه شاعر ولا ريب... فلا يكتب كلمات كهذه سوى شاعر من طراز رفيع وإنسان قبل أن يكون شاعراً...

قلبت صفحات الكتيب وأنا أقرأه بلهفة ... تدريجياً تخففت من أحزاني ووجدت سلواي... أحسست بأن كلماته الرقيقة موجهة لي فقط، تحثني على الصبر والنسيان. وقصص عديدة لأناس واجهوا مرارة الفقد بشجاعة خارقة... احتفظوا بصور أحبائهم داخلهم كطاقة تدفعهم على الاستمرار والعطاء، وعاشورا حياتهم وكما أراد الله من حياة...

غفوت تلك الليلة والكتاب بين ذراعي وكلماته تفترش أرض أحلامي...




وللقصة بقية....................


dali2000 04-05-09 03:22 PM



الجزء السادس


خطبت بدرية شقيقتي الأرملة أم الأطفال الخمسة... لم يكن في هذا الأمر ما يدهش أو يريب. فبدرية جميلة متألقة لا تبدو عليها سنها التي تربو على تسع وثلاثين سنة بل تبدو أقل من ذلك بكثير رغم جراحها وعذاباتها المتوالية ومشاكل أولادها التي لا تنتهي ... ليست المرة الأولى التي تخطب فيها شقيقتي بل كثير من المعارف تقدموا لخطبتها، فهي بالإضافة لجمالها وأدبها خلوقة وخجولة ترضى بالقليل وتقنع بأي شئ... لكن أبي رفضهم جميعا لا لعيب فيهم، لكن الأرملة والمطلقة في عرف أبي لا تتزوج مطلقا مرة أخري، بل تدفن مع أولادها حتى تموت... لكم شعرت بالمرارة والأسى وأنا أراها تذبل أمام عيني وأبي يخنق أحلامها ويغتال أي أمل لها في حياة سعيدة متكافئة.

همس لي شقيقي صالح وعيناه تتألقان من وراء زجاج نظارته:
- لقد حضر لي اليوم في المدرسة عبد الله شقيق أحمد زوج بدرية الراحل.
بذهول تساءلت:
- وماذا يريد؟

كنت اعرف تماما أنه لا أملاك لزوج شقيقتي الراحل لينازعها أشقاؤه عليها... أيضا هو لا يريد أطفال شقيقه ليربيهم، لأنه متزوج كما اعلم ولديه أطفال... إذن... تكلم شقيقي صالح:
- قد لا تصدقين ما أقول... لقد حضر ليخطب بدرية مني... أبلغني أن زوجته قد توفيت منذ شهور طويلة، ولن يجد أما لأطفاله خيراً من بدرية، أيضاً هو سيكون أباً وعماً لأطفالها في الوقت نفسه... ما رأيك؟
خفضت رأسي فتابع قائلاً:
- إنه أنسب رجل لها... فهو ليس عربيداً كشقيقه الراحل بل موظف بوظيفة مرموقة ورجل محترم ويقدر الحياة الزوجية... وبدرية لن تعيش طوال حياتها وحيدة...
قاطعته قائلة:
- وأبي...
تنهد وهو يقول:
- نعم إنه يعرف رأي أبي ففي الموضوع وأنه رفض زواجها أكثر من مرة لذلك لجأ لي في البداية لأمهد له الطريق فهو ليس كأي رجل يتقدم لبدرية إن له ظروفه الخاصة... ما رأيك؟

كادت الابتسامة الساخرة تشق طريقها إلى وجهي لولا أني خفت أن أجرحه وأعذبه باختيار أبي لحياته فكيف بمن لم يستطيع الصمود في وجه أبي حين اختار له مصيره وفرض عليه زوجته بالقوة، أن يقنعه بزواج بدرية مرة أخرى... إن الرجل موقف، ومن لم يستطع الصمود مرة لن يستطيعه أبداً. هل بإمكانك يا صالح الوقوف أمام أبي وإعلانه رأيك بكل صراحة في زواج بدرية أم أنك ستخنع وتخضع أمام نظراته اللاهبة وقبضته الأسطورية فتتراجع حينها وتنسي كل شئ حتى نفسك؟ إن حياتك التي صنعتها لك أبي تبدو كالثوب الواسع الفضفاض الذي لا يليق بك فلا هو ضاق ليحتويك ولا أنت تمددت ليتواءم معك فعشت كالضائع الحائر في حياة ليست لك ولست لها... كنت تريد أن تعمل طياراً فاختار لك المهنة الأسلم التدريس، كنت تريد سلمى ابنة الحيران الحلوة التي أحببتها بمجامع قلبك كزوجة لك، لكن أبي اختار لك هدى ابنة عمك الصامتة الكئيبة، فتزوجتها رغماً عنك وعشت معها وحب الأخرى يحول بينكما... وأنجبت منها وما زلت. ومضيت في حياة بلا طعم ولا زوج لمجرد رضا الأب الذي لا يرضي ولن يرضي... أخي الحبيب إذا استطعت أن تغير حياتك ولو بمقدار ذرة فتقدم بشجاعة لتدافع عن حق بدرية في الزواج والحياة مرة أخرى... أعلم حزنك الدامي، أعلم انكسارات قلبك الخفية، أعلم صراعاتك الداخلية ، أفهم مشاعرك تماماً لكن عفواً أخي، فلن تستطيع حيال بدرية شيئاً... أتذكر ليلة زواج سلمى حبيبتك السابقة بعد زواجك بشهور ... أتذكر دموعك التي مزقتك قبل أن تهطل على خديك بغزارة... هل تذكر تلك الليلة الكئيبة التي قضيتها في حجرتي باكياً منتحباً تنقلب على جمر لا ينطفئ أبداً... ثم أردت تسمية طفلتك الأولى باسمها، فرفض أبي وأسماها هو على اسم أمه... ثم عندما طلقت سلمى من زوجها بعد أن عجزت عن التواؤم معه ربما لحبها الكبير الذي عجزت أن تنساه، ناقشت أبي في الزواج للمرة الثانية منها فرفض أ[ي وشتمك ثم طردك من البيت لتأتي في الغداة تقبل رأسه وتطلب منه السماح رغم أن كل شئ من حقك ولست مطالباً بالرضوخ لأي كان ولو لأبيك... لكنك رضخت وأحنيت رأسك للعاصفة مرات ومرات حتى أضحي انحناؤك عادة ورضوخك واجباً وصمتك دائماً فتلاشت شخصيتك حتى اختفت ... فكيف يا أخي الحبيب ستطلب من أبي أن يوافق على زواج بدرية وهو الرافض له دوماً... وممن ... منك أنت العاجز حتى عن المطالبة بحقوقك... العاجز عن النطق... العاجز حتى عن البكاء قهراً وألماً... دعك من هذا أخي ودع بدرية تواجه مصيرها بمفردها، فأن شاءت صمتت وتركته يخطط لها مصيرها كما أراد ويريد دائماً...

أفقت على صوت شقيقي يسألني:
- أحلام ... لم تردي ... ما رأيك؟
نظرت إليه بإشفاق وأنا أهمس:
- رأيي أن تبتعد أنت ولا تتدخل... دعه هو يطلبها رسمياً من أبي ويقنعه بظروفه لو شاء...

زوبعة كبيرة كادت تطيح برؤوسنا جميعا حينما تقدم عبد الله رسميا للزواج من بدرية... صرخ أبي وشتم ثم هدد وتوعد ثم هدأ قليلاً، فأرسل في طلب بدرية... جاءت المسكينة ترتعش من رأسها حتى أخمص قدميها... سألتها قبل أن يراها أبي:
- هل تعرفين أن عبد الله شقيق زوجك المرحوم أحمد قد تقدم لخطبتك؟
فتحت عينيها بدهشة حقيقة ثم تألق وجهها بسرور لم تستطع إخفاءه... أشفقت عليها من قسوة الأب ومرارة الأيام... سألتها بحنان عجزت عن إخفائه:
- هل ستقبلين به يا بدرية؟
أشاحت بوجهها خجلاً ثم رفعت شعرها إلى الوراء بحركة لا شعورية... ابتسمت ثم أجابت بخفر لا يتناسب مع وضعها كأرملة وأم لعدد من الأطفال...
- الرأي لأبي فإن وافق فأنا موافقة...
ويحي...إنها تريد الزواج... إنها ترغب في حياة جديدة تذوق فيها طعم السعادة المفقودة ... تود أن تحس ولو لأيام بأنها أنثى لها رجل مثل بقية النساء لا آلة تعمل بالضخ تطبخ وتغسل وتربي وتنام على دموع تبلل وسادتها كل ليلة... أبي لا تحطم أحلامها... أبي أتوسل إليك أن تراعي الله في حقها بالحياة كبقية البشر... أبي يكفيك جرائمك الماضية فلا تضف لها جريمة بشعة كهذه، أن تذبح روحها التواقة للسعادة والحياة، أبي أبتهل إليك أن تمنحها فرصة جديدة هي تواقة إليها... فرصة تثبت لك فيها جدارتها بالحياة خارج أسوار الألم ولو لسنوات... فرصة تحلم فيها أنها امرأة كأية امرأة أخرى من حقها أن يكون لها مشاعر وأحاسيس وظل رجل تتكئ عليه في عراكها مع الحياة لا كأنثي العنكبوت هي وصغارها والعالم... أبي أعطيها الحلم ... الحلم فقط... وصدقني فلن تخسر شيئاً، بل على العكس ربما يكون ما تفعله تكفيراً عن السنوات التي دفنتها فيها حية في قبر هو بيتها الصغير ودوداً ينهشها همّ أطفالها وطلباتهم التي تنتهي ولن تنتهي... أبي ارحم شبابها وضعفها وامنحها حلما لن تندم عليه... لن تندم عليه أبداً.

ابتلعت لساني خوفاً واستسلاماً ولم أنطق بحرف واحد حينما طلب أبي من بدرية الذهاب إليه في المكتب...

مضت نصف ساعة وضعت يدي فيها على قلبي حتى خرجت بدرية... بدرية التي دخلت غير تلك التي خرجت... دخلت وعاصفة من المشاعر السعيدة تصطخب في أعماقها... دخلت والأمل يخالط بريق عينيها والحلم يلون خطواتها الراقصة بألوان المستقبل، وآمال لا يحدها المستحيل... بيد أنها تبدلت خلال نصف ساعة فقط لا غير ... خرجت وقد كبرت عشرة أعوام على الأقل ... بادية الشحوب والاضطراب... اختفى من عينيها البريق ومعه الأمل، وبقيت نظراتها منطفئة كامدة كعيني لعبة في محل ألعاب خاسر... لا روح ... لا وجود... لقد حطمها أبي...

أسرعت إليها لأضمها إلي صدري... بادرتني قائلة وشفتها السفلي ترتجف بشدة:
- لقد رفض أبي... رفض أبي زواجي...
انقبض قلبي وأنا أسألها بهمس:
- وهل سترضخين له... هل سترفضين الزواج من عبد الله؟
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحاول منعها بقوة جبارة كيلا تبدو ضعيفة أمامي ثم قالت بصوت متهدج:
- أنني أم يا أحلام وأولادي لهم الأولوية في حياتي دائماً وهم رسالتي الأولى والأخيرة فلن أتخلى عنهم من أجل أي رجل كان.
قاطعتها مشفقة:
- إنه ليس أي رجل... إنه عمهم وسيرعاهم كأبيهم الراحل تماماً فلن تتخلي عنهم مطلقاً... أهذا رأيك حقا يا بدرية أم هو رأي أبي؟

أجهشت بدرية بالبكاء رغماً عنها فأخذتها بين ذراعي وأنا أشاركها البكاء بمرارة... إنه ليس ظلماً فقط يا أبي... كلا ... بل أفظع ... إنه إعدام حلم... قتل حياة... بعثرة وجدان وسحق كرامة... امتلأت رغماً عني رغبة في التحدي والجموح... إنها معركة وجود أو عدم وجود... انتصار للإنسانية قبل أي شئ ... همست لها برقة:
- بدرية إذا أردت رأيي الحقيقي فيجب أن تصمدي وتحاربي للنهاية، فهذا الأمر ليس جريمة أو عيباً نحاول إخفاءه... إنه حق ولن يضيع حق وراءه مطالب...
تنهدت بدرية وصدرها يضج بالنحيب المكتوم:
- أنا لا أريد شيئاً يا أحلام غير أولادي والصحة والستر فإذا رفض والدي أي شئ فلن أجرؤ على معارضته لأن الأمر برمته لا يستحق...
هتفت حانقة:
- بلى يستحق...و يستحق... ويستحق...
ثم نهضت واقفة وأنا أقول:
- أنا سأناقشه في هذا الأمر.
قبل أن تمتد يد بدرية لمنعي من الذهاب... سمعت صوت أبي الجمهوري وهو يقول:
- في أي شئ ستناقشينني يا أحلام؟
فتحت فاهي لأتكلم... لكنني عجزت عن النطق... كرهت ضعفي وخنوعي... حاولت استجماع شتات نفسي وأنا أقول:
- أبي .. إن من حق بدرية أن تتزوج ... لتجد رجلاً إلي جوارها يساعدها في الحياة ويساندها... ويربي أطفالها... ثم إنه عم أطفالها وليش غريباً...
بدأ أبي متمالكاً نفسه وهو يقول:
- إن الأرملة تبقى لتربي أطفالها بعد وفاة زوجها وتكرس حياتها لهم...
صرخت بحدة وقد تخلى عنى حذري:
- لكن هذا ظلم يا أبي... إنك تدفنها وهي على قيد الحياة...
ثم أحسست بصفعة قوية على صدغي أطاشت صوابي... وصفعة أخري وأخري سقطت على أثرها غير قادرة على الكلام ولا الصراخ ولا حتى البكاء...


dali2000 04-05-09 03:23 PM



الجزء السابع



قالت صباح ضاحكة:
- غريبة... ألا تلاحظن التغير الذي حدث لي... ملابسي الجديدة... ابتسامتي المثيرة... وجهي المشرق... تباً لكن من نساء لا يهمهن إلا الطبخ والنفخ...
التفت الجميع إليها... قالت فوزية وظل ابتسامة يتراقص على شفتيها:
- بالطبع نحن نلاحظ كل شئ... لكنك كما أنت دائماً صفراء ذابلة كورقة شجرة في الخريف... لم يتغير فيك شئ سوى هذا القميص الجديد... من أين ابتعته؟
التقطت صباح كوباً ورقياً من السفرة الممتدة وعليها بعض المعلبات والمأكولات البسيطة لتقذف به فوزية التي تفادته في اللحظة الأخيرة قبل أن تقول:
- ألم أقل إنكن تافهات... ألا يهمك سوى هذا القميص ابحثي عما وراء القميص...
قالت فاطمة إحدى زميلاتنا ضاحكة:
- وما يكون وراء القميص؟ إنه جسد أعجف أعوج ليس فيه ما يغري حتى على النظر إليه...
قالت عواطف جادة:
- ماذا هناك يا صباح؟ هل هناك خبر جديد...
ابتسمت صباح بعذوبة وهي تهتف:
- لقد خطبت البارحة... تقدم صديق أخي لخطبتي والزواج في الإجازة الكبيرة.
صرخت إحدى الزميلات:
- أخيراً تحقق حلمك يا صباح... العقبي لنا إن شاء الله.

تلقت صباح التهنئة من الزميلات... بينما كنت صامتة واجمة... فقد كانت آثار الضرب المعنوية لا تزال تدمي قلبي وتجرح روحي وإحساسي... أبي يتجرأ ويضربني وأنا في هذا السن... شابة... متعلمة... وأعمل ... لمجرد أنني قد نطقت بكلمة حق؟ إنها آلام لا أقوى على احتمالها...

تعاودني الذكرى البشعة نهاري وليلي... في غدوي ورواحي... وبدرية شقيقتي وزوجة أبي يحاولن إلى فراش وتهدئتي رغم أنني كنت صامتة تماماً بلا حركة ولا نظرة ولا صوت، فالتمزقات داخلي، أصمت أذناي عن سماع أي شئ يحدث حولي...

أفقت على ضحكات الزميلات ونظراتهن المرحة نحوي... قالت صباح:
- ألم تسمعيني... لقد قلت لماذا لم تهنئيني يا أحلام... أم إنها غيرة النساء؟
ابتسمت مرغمة وأنا أبارك لها الخطوبة...
ضحكت صباح بجذل قائلة:
- العقبي لك يا أحلام... سأعزمك على حفل زفافي وإياك أن تتخلفي عن الحفل، فأنا لا أسامح الغيورات. ثم سأقنع زوجي بعد حفل الزفاف أن ينقلني إلى الرياض، فهو كما أخبرني أخي علاقاته كثيرة ووساطته جيدة فأبتعد عنكن إلى الأبد...
تابعت وهي تقهقه:
- أتخيلكن في رحلة الذهاب والإياب اليومية بدوني... وأنا في مدرسة إلى جوار منزلي عش الزوجية السعيد...
قالت فوزية ساخطة:
- هذا إن استطاع نقلك... وضعي تحت إن عشرة خطوط حمراء لأنه لن يستطيع...
وقبل أن يتسنى لصباح الرد عليها التفتت إلي فجأة قائلة:
- ما بك يا أحلام... تبدين شاحبة واجمة... هل أنت بخير؟
كادت الدموع تطفر من عيني لكنني تماسكت بصعوبة وأنا أنهض قائلة:
- لا شئ يا فوزية... مجرد تعب بسيط سيزول إن شاء الله...

خرجت إلى فناء المدرسة الطيني... كان الجو غائماً والأرض موحلة إثر سقوط الأمطار ليلة البارحة على القرية كما علمت... بعض الطالبات يتفرقن في الفناء فرادى ومجموعات...

وقفت أستشعر غربة شديدة تهز كياني بعنف... أين أنا؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟ وإلى أين أسير؟ من غربة إلى غربة... من بيت أفتقد فيه نفسي ولا أشعر بالحنان أو الرعاية أو الانتماء إلى هجرة بعيدة لا تشبهني ولا تمت لي بصلة...روابط هشة مع الزميلات... شفقة مع قليل من الحنان للتلميذات...مقت شديد للمكان والرغبة في الفرار بأسرع وقت وبأية وسيلة... لكن متى وكيف؟ وأبي أهدر إنسانيتي وذبح كرامتي من أجل كلمة حق، إذن ماذا سيفعل حين أطلب منه أن يتوسط لنقلي من هذا المكان؟ أن يرحم غربتي وعذابي... وأخطار الطريق اليومية مع جميع الاحتمالات، لكنه لا يشعر ولا يحس سوى بزوجته وأطفاله منها... هذا إذا كان لدية ذرة إحساس...

- أبله ... لقد جلبت لك ما وعدتك به...
انتبهت على تلميذتي وضحى واقفة أمامي وفي يدها مظروف كبير...
- أهلا وضحى... وكيف حال أمك؟
- الحمد لله ... أمي تسلم عليك كثيراً... هل نسيت يا أبله؟
- ماذا يا وضحى...
- لقد وعدتك بأن أهديك كتب أخي سعد... إنها معي ... تفضلي يا أبله...

أخذتها منها بيد مرتجفة ... المفروض ألا يراني أحد من زميلاتي وأنا آخذ شيئاً من تلميذاتي فربما يفسرنه أي تفسير عدا الحقيقة... طويتها بسرعة أسفل ذراعي وأنا أمشي نحو الفصل... لقد نسيت أن أشكر وضحى على هديتها... اكتشف هذا متأخراً...
حينما غدوت وحيدة في فراشي سألتني زوجة أبي عما إذا كنت أريد شيئاً. نفيت أي حاجة لي وأنا أنفرد بنفسي في الحجرة...

فتحت المظروف لتطالعني الأغلفة الملونة للكتب... ثلاثة دواوين شعر" عينيها" ... اسم الديوان... ترى عيني من يقصد سعد؟ هل توجد فتاة في تلك القرية تستحق أن يتغزل أحد بعينيها... ضحكت في سري وأنا أتخيل تلميذاتي واحدة واحدة... عبطا بعينيها الكبيرتين الفارغتين في غباء شديد... الشقحاء بعينيها المملوءتين دوماً بالقذى، منيرة إنها مصابة بالحول... والجازي، العنود، حصة وجواهر و... ليست هناك واحدة تملك عينين ملهمتين... فكيف بشاعر مثل سعد أن يكتب شعراً دون ملهمة... دون أساس من الواقع. ربما قد اختار عيني إحدى الممثلات أو المطربات المشهورات... لكنه قد عاش فترة في مدينة الرياض ربما رأى خلالها إحدى فتياتها الجميلات...

حانت مني التفاتة نحو المرآة الكبيرة في حجرتي... تساءلت هل عيناي تعدان من العيون الملهمة... ولم لا؟ لأول مرة أرى جمالي في عيون ذاتي... نعم إنني أملك عينين رائعتين حالكتي السواد ورموشاً طويلة غزيرة وجسداً رائعاً فتاناً وشعراً أسود مسترسلاً.. لقد كانت أمي جميلة.. جميلة رغم جنونها وأورثتنا الجمال الذي لم تتمتع به بينما قتلها جنونها الذي انتقل إلى ندى شقيقتي الراحلة... دمعت عيناي لذكراهما ... سقطت دمعة على الكتاب الذي نسيته في حضني... تناولته من جديد " عينيها" قلبت الكتاب في يدي ففوجئت بصورته على الغلاف الأخير... إنه وسيم ... لا يشبه وضحى سوى في الأنف المستقيم فقط... ملامحه تشي بالطيبة والوداعة... نصف ابتسامة توحي بالغموض توجت شفتيه... تناولت الكتاب الثاني.. " صدى الوجدان" اسم الديوان الثاني... اسم جميل يعكس مشاعر طافحة بالحب والخير والأمان ... " إليك أنت" الديوان الشعري الثالث... أغلفة براقة لامعة بخط كوفي جميل بنفس الصورة الخلفية للشاعر... الكتاب الرابع يحمل عنوان " التفاؤل والتشاؤم" كتاب من القطع الصغير بغلاف عادي بدون صور على الإطلاق... واسمه مكتوب بخط دقيق أسفل الكتاب " سعد عبد الله".

تري كم يبلغ من العمر؟ إنه يكبر وضحى بعشر سنوات على الأقل كما سمعت من زميلاتي المعلمات... إذن سنه لا تقل عن الثامنة والعشرين من العمر... إنه صغير على أن يكون له خمسة مؤلفات، وشاعراً أيضاً... قرأت قليلاً في ديوانه الشعري الأول " عينيها" كان بجمل يتحدث عن الحب والعذاب والوداع والهجر.... ترى هل عاش حباً في حياته؟ وإلى ماذا أودى هذا الحب ؟ لقاء أم فراق... يصعب أن تعبر تلك الكلمات المضمخة بالألم والأحزان إلا لرجل عاش الحب حتى المرارة!!

قررت أن أقضي سهرتي مع أحلام ورؤى ذا الشاعر العذب الكلمات.. قررت أن أخوض معه بحار المشاعر والأحاسيس على أكتشف في النهاية من يكون وإلى أي حائط من جدران الحزن يتكئ... أخذت أجمع بقايا المظروف والشريط اللاصق للكتب لأودعها سلة المهملات لأفاجأ بورقة صغيرة وردية اللون تلتصق بالشريط، نزعتها برفق وقلبي يخفق بقوة... إنها أبيات شعر لا غير... أبيات مكتوبة بخط رائع منمق عرفت فيه خطه الذي كتب به إهداءه الماضي. تناولت الورقة بيد مرتجفة وأنا أقرأ أبيات الشعر المنثور...

ظلام حالك... جدران رطبة... رائحة طينية تعبق بالأجواء،
ظهر القمر... غاب الخواء...
لحظة .... نظرة .... أحداق وأنواء...
يا هل ترى كلنا كنا سواء؟
العشق يقتل صاحبه... إذا لم يجد له دواء...

انتقل الارتجاف من يدي إلى سائر جسدي... ترى ماذا يقصد من هذه الأبيات؟ أحسست بحرارة شديدة ترتفع من أسفل قدمي حتى رأسي...

تري هل يشير إلي ذلك اليوم العاصف الممطر في بيتهم الطيني القديم... وتلك النظرة الخاطفة التي لا تعني أي شئ... ترى هل يقصد بأنه أحبني لأول وهلة؟ كلا... غير معقول... هل من المفترض أن أضع حداً لكل هذا... نعم... فالتمادي يشجعه على المزيد... لكنه يجب أن يفهم أن الإهداء الأول قبلته لظروفي النفسية السيئة وأن صمتي إزاءه كان إكباراً وتقديراً وليس تواطؤاً وانحناء... إن عدم رفض الشئ لا يعني قبولة بكل تأكيد فبين هذا وذاك درجات بكل الألوان... في ضعفنا الإنساني نتقبل المواساة والتكاتف الإنساني وتكون كلمات العزاء كبلسم يشفي الجراح، تقربنا من الشخص لكن ليس إلى حد الاستغلال... إلى الحد الذي يمكن فيه فعل كل شئ وأي شئ وفي أي وقت...

هل جن هذا الرجل ليرسل لي اعترافه في قالب شعري مبطن بالألغاز...؟ أم أنني قد ظلمته وقد كان يتعامل معي ببراءة....؟ لكن أين البراءة في كلماته الصريحة المباشرة والتي اخترقتني بحرارتها اللاهبة... لو علم أبي بهذا الذي يحدث لدفنني وأنا على قيد الحياة ... رباه ماذا أفعل ... وكيف أتصرف؟ إن التساهل يؤدي إلي مزيد من التعدي ومحاولة كسر الحواجز... سأوقفه عند حده ليس خوفاً من أبي بل أحتراماً لأخلاقي وكرامتي وحيائي ... فلست أنا من يسقطها شاب بهذه السهولة وتقع في الفخ كأية حشرة قذرة... كلا أنني رغم وطأة عذاباتي الخاصة تبقي لي مبادئي وقيمي التي لا يمكن أن أتعداها أو أسمح لأي كان بتجاوزها أو خدشها، ولست غريرة أو ساذجة لأقع صريعة أبيات من الشعر أو تدير رأسي وتفقدني قدرتي على التفكير الصحيح... وضحى؟؟... كلا لا دخل لوضحى في شئ فهي مجرد فتاة بسيطة تحبني وتحاول إدخال السعادة على قلبي بشتي الطرق التي تستطيعها...هو الوحيد المسؤول عن أفعاله... هو من يجب أن أؤدبه ليعرف أصول الاحترام والتقدير... مزقت الورقة الوردية الصغيرة وأنا أغلي غضباً واشمئزازاً.... قلتها من بين أسناني: حسناً .. حسنا أيها الشاعر القروي سأعرف كيف أؤدبك...

dali2000 04-05-09 03:27 PM



الجزء الثامن


حلم غريب هزني حتى النخاع... حلمت بأمي... بوجهها الحبيب، معالم الحزن المرتسمة في عينيها السوداوين عدا أنها في الحلم كانت ترتدي وشاحاً أبيض على رأسها، كانت تبكي في الحلم وتنتحب وتشد يدي بقوة عجيبة، وعلى لسانها كلمة واحدة ترددها بما يشبه الهمس... لا تتركيه... لا تتركيه... أمي من هو؟ ويطل وجه شقيقتي ندى تضحك وهي تخفي وجهها بيديها... ندى... ندى... أمي...

وينتهي الحلم العجيب وقلبي يقفز بدقاته السريعة حتى خلته سيخرج من مكانه والعرق الغزير يبلل جسدي وثيابي... أمي ... ندى... هل كان حلماً ذلك الذي عشته بكل كياني أم واقعاً مخيفاً أشبه بالحلم؟

وسط حيرتي وذهولي سمعت صراخاً قوياً يصدر من الطابق السفلي في بيتنا. ازداد هلعي وأنا أقفز الدرج قفزاً لأرى ماذا يحدث ففوجئت بالمنظر الرهيب الماثل أمامي... أبي يضرب زوجته بكل عنف وقسوة وأولادها متعلقون بها... هي تصرخ وهم يبكون... هالني مرأي أبي، لقد تحول في لحظات من إنسان إلى شيطان... انتفخت أوداجه وأعمى الغضب بصيرته فنبتت له قرون وذيل الشيطان... إنه لم يكن أبداً في مثل حالته هذه... في يده عصا غليظة يهوي بها على كل ما يستطيعه من جسد زوجته... وقد نال الأطفال نصيبهم غير العادل... كانت الساعة التاسعة صباحاً من يوم الخميس المفترض أنه يوم عطلة للجميع، فماذا يحدث أمامي... أسرعت بغير تفكير إلى أبي أحاول انتزاع العصا الغليظة من بين يديه، فدفعني بقوة من أمامه وهو يطلق سيل شتائمه علي وعلى المرحومة أمي وسابع جد في عائلتنا... صراخها الذي تحول إلى أنين يمزق أعصابي ويفتتني... إنها لم تكن قريبة من قلبي في يوم ما لكنها تعيش معي في بيت واحد وبيننا روابط مشتركة أولها التكاتف والتعاون غير المنظور وليس آخرها أولادها الذين أخوتي... من واجبي كإنسانة لها شعور وإحساس وتجري في عروقها الدماء أن أنقذها أو على الأقل أقول كلمة حق من باب أضعف الإيمان... خرج صوتي مبحوحاً محشرجاً وأنا أهتف:
- أبي... أتوسل إليك.... من أجل الأطفال اتركها... إنك تقتلها.
ثم اندفعت وأنا أبكي لأحول بينه وبينها، فانهالت العصا الغليظة على يدي في ضربة مزقت شراييني وأحالتني إلى شظايا... رباه إذن ماذا فعل هذا الضرب المركز بزوجة أبي.
سقط أحد أخوتي الصغار مغشياً عليه بين أقدام أبي فهدأت أنفاسه أخذ يستعيد ذاته شيئا فشيئاً...

تكومت زوجة أبي على نفسها كخرقة بالية غير قادرة حتى على التنفس مما حدا بي إلى مغالية آلام يدي والهرع لإنقاذ أخي الفاقد الوعي... أسرعت إلى صيدلية المنزل لأحضر صندوق الإسعافات الأولية، وخلال لحظات من محاولة إنقاذه أفاق الطفل باكياً مرتعباً... ضممته إلى صدري وأنا أسمع أبي يصرخ وهو يركل زوجته بقدمه...
- أنت طالق... هيا هاتفي أخوتك ليحضروا ويأخذوك.
ثم صفق الباب وخرج...

تعاونت مع الخادمة في إسعاف الأطفال ووالدتهم وتهدئهم... كانت الأم محطمة تماماً بلا ضلع واحد سليم وقد توقفت عن البكاء، وبدت كالغائبة عن الوعي. تصرفت بسرعة فهاتفت شقيقي صالح وأبلغته ما حدث بإيجاز...

ساعة وكنا في المستشفي المركزي بعد أن روى صالح للأطباء قصة خيالية عن سقوط الأم من الدرج حينما داهمتنا نوبة دوار طارئة ثم تبعها بعض الأطفال خوفاً على والدتهم...

أيضا اتصل صالح بأشقاء زوجة أبي ليكونوا إلى جوارها في المستشفي... وما إن انتهي من المكالمة حتى التفت إلي قائلاً:
- هيا يا أحلام... لقد انتهي دورنا عند هذا الحد...
صرخت قائلة باستنكار:
- ونتركها وأطفالها بهذا الحال المزري؟
تكلم صالح بهدوء:
- لا تنسي لقد طلقها أبي... ثم حينما يعلم أبي بأمرنا ماذا سيكون الحال؟... أعتقد سيكون أسوأ من حال زوجته...
- لكننا لا نعلم حتى الآن لماذا فعل بها ما فعل وطلقها أيضاً...
- أرجوك يا أحلام... أبعدينا عن هذه المشاكل برمتها...وستعرفين كل شئ في حينه... هيا ... ولا تنسي عندما يسألك أبي أن تخبريه بأن أشقاء زوجته هم الذين أخذوها من البيت... هيا...

وقفت في الظلام ألتقط أنفاسي... البيت خاو على عروشه وقد هدأت العاصفة التي كادت تطيح به قبل قليل وتهز بأركانه... وتلاشى الصراخ والضجيج وصوت العصا الغليظة وهي تهوي على أجساد ضعيفة لتمزقها...

لكن بقيت الأشلاء ورائحة القسوة تعبق بالمكان برائحة كريهة أصابتني بالغثيان. فمهما يكن نوع جريمتها يا أبي فليس هكذا يكون العقاب... أسلوب همجي بدائي يتساوى فيه الإنسان ذو العقل والإدراك مع الحيوان الأعجمي الذي لا يملك عقلاً... عودة إلى قرون الجهل والظلام كإنسان غجري لا يملك سوى قوته... المصيبة ليست في ضرب المرأة بل الأفدح منها هم الأطفال الأبرياء ونفوس تتمزق بلا رحمة ولا شفقة... كيف سيواجه هؤلاء الأطفال المستقبل... بقلوب كسيرة وجروح غائرة لا تندمل فرغم شبابي واشتداد عودي أشعر بالوهن في عظامي بعد هذه المعركة غير المتكافئة. يداي وقدماي ترتجفان بشدة وجسدي متهاو وآلام شديدة في ذراعي... لكن آلامي النفسية أكبر وأقسى... فكيف سيكون حال الأطفال وأمهم تضرب أمامهم ومن أبيهم وكلاهما رمز كبير لقيمة كبرى لا يستهان بها... إن ما حدث أمامهم سيبقى عالقاً في ذاكرتهم أبد الدهر يغذيهم ألماً ومرارة ويفقدهم الأمان في حياتهم القادمة... كانت مشاعري دوماً حيادية تجاه زوجة أبي وأطفالها ولا روابط عاطفية من أي نوع كانت تربطني بهم بيد أن الضربة الأخيرة كانت قاصمة، ففجرت ينابيع الأحزان داخلي فأحسست فعلاً بأن زوجة أبي مهيضة الجناح، فلم يحدث طوال حياتي معها أن مستني بشئ ما أو أوغرت صدر أبي عليّ أو فتحت المشاكل من أي نوع... كما أنها لطيفة معي اجتماعية متفاعلة وليست كأمي، أيضاً هي جميلة خلوقة وتصغره بكثير ولم يسبق رأيت بينهما خلافاً أو خصاماً إلا فيما ندر وباستتار نوع ما... لكن ما حدث أمامي فاق كل عقل وكل تصور وتعدى كافة الحدود... أيقظني رنين الهاتف من تأملاتي... وما إن رفعت السماعة حتى فوجئت بها... إنها زوجة أبي... تدافعت الكلمات في جوفي فلم أدر ماذا أقول... أخيراً نطقت... حمداً لله على سلامتك... كيف حالك الآن؟
بصوت واهن مرتجف أجابت:
- الحمد لله ... أحسن ... اطمئني... الأطفال أيضاً بخير... أين والدك الآن؟
- لا أحد في البيت سواي...
تهدج صوتها ثم بكت وهي تقول:
- صدقيني يا أحلام ...أنا مظلومة وبريئة، مما يتهمني والدك به... لست أنا من تفعل هذا أبداً أبداً حتى ولو فيه موتي ... أنت تعرفيني جيداً ثم إنني زوجة وأم لخمسة أطفال...
قاطعتها بجزع:
- أنت تعرفين أن سخان المياه في حمام حجرتي قد انفجر منذ فترة قليلة... فاتفق والدك مع سباك لإصلاحه... السباك حضر اليوم صباحاً بعد خروج والدك من البيت وطلب أن يدخل لإصلاح عطل السخان لأن لديه موعداً آخر بعد ساعة...

حاولت أن أطلب والدك هاتفياً، لكنني لم أجده فاضطررت، لإدخال السباك وتواريت أنا وبعض الأطفال في المطبخ لحين انتهاء الرجل من عمله وأيضاً لتناول طعام الفطور. بعد فترة حضر والدك وفوجئ بوجود الرجل في البيت وفي حمام حجرة النوم... طرده لكنه لم يعطني أي مجال لأتكلم ... لأدافع عن نفسي... عن أطفالي والخادمة يشهدون بأنني لم أقابله ولم أر حتى هيئته... فقد فتحت له الخادمة الباب وأوصلته إلى المكان بنفسها... إنني مظلومة يا أحلام...

وانتحبت بعنف على الطرف الآخر من الهاتف ... لم أستطع مواساتها والتخفيف عنها، فكل كلمات البشرية تتضاءل أمام ظلم الإنسان وتجبره وقسوته... لقد قتلها بظنونه وسحق كرامتها وكبرياءها بقدميه ثم جاءت ثالثة الأثافي فطلقها بدون أي ذرة عقل أو تفكير... ألهذا الحد يصل أبي في إلغاء والعقل والمنطق والاحتكار لشريعة الغاب في المحاكمة والتصرف؟ ألهذه الدرجة يفتقد أبسط مقومات الاتزان والثقة بالنفس...؟ لقد عاشت معه أكثر من خمسة عشر عاماً... ألم يتأكد خلالها من إخلاصها وطهارة ذيلها ونقاء سريرتها.. ألم يعلم أية امرأة هي خلال كل تلك السنوات..؟ إن عاماً واحداً من العشرة تبين حقيقة الإنسان وأصالة معدنه وطيبته أو خبثه فكيف بسنوات طويلة بحلوها ومرها وأطفال خمسة وحياة حافلة بالأحداث المتنوعة... أيلصق بها هذه التهمة البشعة من أجل شك... سوء نية؟ يا له من جبار معتوه... ألم يفكر، ألم يتدبر... ألا يسأل من حوله... ألا يتحرى الحقيقة والصدق من الكذب؟ إنه يختال بقوته، بصحته، بقدرته على فعل كل شئ دون أن يحاسب على شئ... لكن لا يا أبي، فالقوة ليست في البطش، واليد العليا القوة في الحنان والرحمة، في التفكير العقلاني ... في الاتزان .... التروي... والحكمة...

انتشلني صوتها البعيد من أفكاري...
- أحلام... هل تصدقينني؟
- بالطبع يا أم بدر أصدقك... وأتمنى لو أن أبي تأني وفهم الأمر على حقيقته قبل أن يفعل ما فعل... لكن اطمئني فالحق لا بد أن يظهر... شمس الحقيقة لا تغيب طويلاً...

كلمة أخذت أرددها بيني وبين نفسي بعد أن انتهت مكالمتي مع زوجة أبي، ثم هاتفت أخي صالح وأبلغته بكل ما حدث... سألته النصيحة قال إنه سيحاول إفهام أبي حقيقة الأمر...

لم أضيع الوقت، أسرعت إلى الخادمة وسألتها عما حدث صباحاً، فحكت لي كل شئ بالتفصيل كما روته زوجة أبي... يالها من زوجة بائسة مظلومة... لو كنت مكانها لفرحت بالتخلص من أبي وسجنه البغيض ذي القضبان الحديدية المتهالكة وأسرعت بالفرار إلى مكان آخر في العالم لا أراه فيه.. لكنها أم وللأمومة حسابات أخرى لا أعرفها...

تضاعف إحساسي بالحنق تجاه أبي... فلم أدر شعوري الطبيعي تجاهه... هل هو ود... أم حقد... تقدير... أم تحقير... احترام وإجلال... أم مقت وازدراء؟ لم أعرف مشاعري الحقيقية تجاهه لكنها بكل تأكيد تختلف عن مشاعر أية فتاة تجاه والدها...

لن أحادثه في أمر زوجته ولن أٌف أمامه بخنوع أترافع عنها ليرحمها ويعيدها إلى زنزانته الحقيرة... لن أعيش موقف الذليلة المهانة أسأله الصفح والغفران لإنسانة بريئة مظلومة هو يعرف أكثر من أي شخص آخر مقدار عفتها ونزاهتها. لن أسقط في نظر نفسي مرتين... مرة بدفاعي عن شخص فتها برئ والأخر بالتوسل لظالم لا يعرف الرحمة... شمس الحقيقة لا تغيب طويلاً بي أو بدوني كل شئ سيظهر وتتجلي الحقيقة الساطعة...

رأيته يدخل البيت بهدوء... وسحب من الظلام قد تكثفت في وجهه الشاحب ... شعور بالإشفاق حل داخلي تجاهه بعد أن رأيته يحادث الخادمة مطولاً ثم ينكس رأسه بأسي... تبخر غضبي منه فاقتربت غير عابئة برفضي السابق ... وقفت خلفه صامتة... رفع رأسة تجاهي ... بادرته قائلة:
- إن أم بدر مظلومة يا أبي... إنها لا يمكن...
قاطعني بهدوء مثير...
- أعرف يا أحلام... أعرف...

dali2000 04-05-09 03:28 PM

الجزء التاسع


طوال الطريق في رحلتنا إلى المدرسة وأنا أفكر ... لم أنتبه لصباح وكلامها الكثير عن خطيبها... أغلب الزميلات كن نياماً... وأنا غارقة في لجة من الأفكار العميقة التي تقودني إلى وديان سحيقة... لقد هزتني الأزمة الأخيرة بين أبي وزوجته وأوضحت لي أشياء ما كنت اعرفها وخبايا يصعب علي الاطلاع عليها لولا هذه الطاقة من الضوء.. إن أبي غيور شكاك وانفعالي.... لقد كاد يقتل زوجته وطلقها وحطم أطفاله وهدم البيت على من فيه لمجر شك... فقط وهم ... إذن ماذا يفعل حينما يعلم بقصة هذا الشاعر الذي يطاردني ويحاول نسج خيوط خفية من الحب المتبادل معي... المشكلة ليست في الشاعر وإنما في عدم ممانعتي لذلك وتقبلي للأمر بسهولة شديدة وكأنني أرحب به... فكتابه الأول الذي بعثه مع شقيقته كان يحمل أولى الرسائل وترمومترا لقياس مدى استجابتي... لقد فاق رد فعلي كل توقعاته، فقد كانت استجابتي مذهلة... تقبل وصمت... الصمت في أعرافنا يعني القبول والرضا فتمادى أكثر وأرسل كتبه كلها مع كلمات شعرية تعبر عن الحب من أول نظرة وربما لو صمت هذه المرة لجاء بنفسة ليحادثني... ويحي... ماذا يظن بي هذا الشاب... ترى هل يعتقد أنني فتاة مستهترة من بنات المدن الوقحات الخليعات اللاتي يعاكسن الشباب بسهولة ويسر كما يشربن الماء؟ ترى هل يعتقد أنني فتاة لاهية ضائعة تستجيب لأول رجل يطرق بابها؟ كلا... يجب إفهامة الحقيقة... وتعريفه حقاً من هي أحلام ومن هو والدها...

أفقت على هزة من يد صباح وهي تقول:
- أحلام... هل نمت... هيا فقد وصلنا المدرسة...

دخلت وأنا مثقلة بأفكاري... مقيدة بأوهامي... مشتتة النفس... ممزقة الأهواء... وقفت أمام المرآة أصلح هندامي كعادتي كل صباح حين وصولنا للمدرسة... كانت المرآة عبارة عن قطعة زجاج مكسورة مثبتة بمسمار صدئ على الجدار الطيني... كنت أرى فيها نصف صورتي وإذا انحنيت قليلاً أرى فيها صورتي كاملة إلى حد ما... ابتسمت وأنا أتذكر معاملة أبي لزوجته حينما أعادها إلى البيت... لم أتصور أبداً أن يعيدها بهذه السرعة المذهلة... أيضاً هي كيف تنسى كل شئ وتعود معه، وكأن شياً لم يحدث، وكأن جسدها يتحطم على يديه ولا كرامتها تبعثرت بين قدميه... وأطفالها تمزقوا لغياب عقله واتزانه... إنه لم يحترم عشرتها معه ولا قدر سنوات سعادتهما سوياً... ونسف الماضي ورصيد الحب بلحظة شك واحدة وأطاح بكل شئ في غمضة عين فكيف تأمن لحياتها معه بعد ذلك...؟ وكيف تحمي عشها من الانهيار تحت أية هفوة أو أي اشتباه من هذا النوع...؟ لكنها سعيدة بعودتها... سعيدة رغم آلامها النفسية والجسدية وهو يعاملها بمنتهى الرقة والاحترام...

ترى هل هي تحبه لدرجة أن تغفر له كل زلاته وهفواته، أم أنها تريده لأجل أطفالها، أم لأن لا معيل لها غيره، فقد توفي والدها وتفرق أخواتها كل في بيته. هل هو بالنسبة لها مجرد أب وسكن ومال أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير...؟ امرأة أخرى في نفس سنها وجمالها ما كانت تعود إليه ولو بذل الدنيا تحت قدميها فما فعله بها كثير...

أكبر من قدرة أي إنسان على التسامح والغفران وأقوى من قدرته على النسيان ما فعله سحق كرامتها وكبريائها كامرأة وشك بأخلاقياتها وتربيتها كابنة أسرة عريقة واستهانة بدورها وعاطفتها كأم... فأية بشاعة أكثر من هذه وأية تضحية كبرى هي مقدمة عليها... لكن أملي ألا يخيب أبي رجاءها وألا يجعل تضحياتها تذهل سدى وأن يتمسك بها كما تتعلق هي به... لكنني لم أسأل نفسي أبداً هل يحبها أبي؟ لقد آمنت بهذا كشيء مسلم به فقد تزوجها على أمي ونسينا تماما حينما تزوجها... ثم أتي بها لتعيش على أنقاض بيت المرحومة أمي، وكان يقدرها وينظر لآرائها بعين الاحترام والإجلال حتى أنها قد غيرت كثيراً من أقدارنا أنا وأخوتي، فما كان شئ أن يتم إلا وكان لها اليد الطولى فيه لكن الحدث الأخير زلزل كل معتقداتي وأجبرني على الانحياز فقد اتضح أنها في حياة أبي شئ مملوك لا تقدير له لا احترام، لا رأي له ولا صوت... كقطعة أثاث... أو كجهاز كهربائي أو مقعد... شئ تبقي قيمته بقدر ما يفيد، ثم يلقي به في أقرب سلة مهملات... مسكينة هذه المرأة، فبقدر ما أشفق عليها وأرثي لحالها فإنني أكره ضعفها وخضوعها وأتمني لو استطاعت الإمساك بزمام الأمور يوما ما... لكن يبدو أن أبي فيه سحر ما يسلب فيه نساءه من إرادتهن ويجعلهن طوع بنانه...

ابتسمت لصورتي في المرآة... فاجأني صوت صباح:
- ألن تكفي عن استعراض جمالك في هذه المرآة المكسورة؟ لقد انتظرتك طويلاً...
ابتعدت وأنا خجلة بينما تابعت صباح قائلة:
- أخبريني بصراحة... هل تقدم أحد لخطبتك؟ فإنني أراك ساهمة غير طبيعية حتى أنني في السيارة استشرتك في أمور كثيرة ولم تردي علي إطلاقاً...
اغتصبت ابتسامة وأنا أقول:
- سأحاول يا صباح أن أرد على استشارتك ونحن في طريق العودة إن شاء الله... عن إذنك الآن سأحضر الدرس القادم...

وما إن سرت خطوات حتى طلبتني المديرة وأخبرتني بأن زميلتي عواطف غائبة ويجب أن أحل محلها الحصة الأولى...

دخلت الفصل واجمة فقد رأيت وضحى بين الطالبات ترمقني وفي عينيها بريق. ترى ماذا يدور بمخيلتها عني...؟ هل تتبني فكرة أخيها عني بأنني فتاة سهلة منحلة، أم تقدرني وتحترمني؟ لكن كيف يتطرق الاحترام إلى نفسها وشقيقها يبعث لي برسائل حب... كلا... لن أسمح له بالتمادي... اشتعل الغضب في عيني ولم أدر كيف أدافع عن نفسي ولا متى وأين؟ ما إن جلست على المقعد في الفصل حتى اقتربت مني وضحي... كانت خجلة، خائفة، نظراتها غير طبيعية وكأنها تخفي شيئاً ما، سألتها وأنا أتحاشى النظر إليها:
- كيف حال أمك يا وضحي؟
- الحمد لله .
- هل تذاكرين دروسك جيداً... فالاختبارات على الأبواب...

أطرقت ولم تجب... التفت إليها فجأة دست في يدي شيئاً ما وعادت إلى مقعدها... اضطربت بشدة وأنا أنظر لبقية الطالبات، لكنهن لم ينتبهن إلى ما حدث... دق قلبي بقوة وأنا أتفحص هذا الشيء الذي أعطته لي وضحى في غفلة من زميلاتها... كان دفتراً وردي اللون بتفرعات خضراء صغيرة، ينتهي بأسلاك دائرية فتحت أول صفحة ليندفع الدم ثائرا إلى رأسي ويحتقن وجهي بشدة، فقد كتب الشاعر بنفس خطه الأنيق كلمات واضحة لا تحتاج إلى تفسير:

إلى أ.ع
امنحيني لحظات فقط
وسأمنحك العمر كله
الأربعاء – الرياض- 9 مساء ت 4776234

إنه وبكل جرأة ووقاحة يعطيني موعداً هاتفياً في الرياض، حيث سيكون هناك على هذا الهاتف الساعة التاسعة مساء يوم الأربعاء المقبل... يا له من معتوه أبله... لكنه محق في طلبه... فكل الشواهد تدل على قبولي واستسلامي وترحيبي بأي شئ... امتلأت نفسي غضباً وغيظاً كدت أمزق الدفتر وألقيه في سلة المهملات أمام وضحى وبقية الطالبات لكنني خفت الفضيحة ، فأدني الأشياء التافهة هنا تعظم وتكبر حتى تغدو على لسان أهل القرية بأسرها، يتناقلها الصغار قبل الكبار... الرجال والنسوة... كتمت غيظي داخلي وأنا أغلي كمرجل من شدة الغضب وفي أعماقي يتردد سؤال كيف أرد له الإهانة بأعظم منها وأبين له كيف يعامل بنات العائلات المحترمة...؟

فلو أن شاباً ما رأي شقيقته وضحى ولو بطريق الخطأ لقتله هذا الشاعر الرومانسي وقد نسي كل مؤلفاته الخمسة وآراءه الكاذبة بالحب والعواطف ... فكيف يريد لغيره ما لا يريد لنفسه؟

سألتني إحدى الطالبات:
- أبله ... متى سيكون اختبار مادة القواعد؟
رفعت وجهي المحتقن بشدة... تلجلجت قبل أن أرد:
- نهاية هذا الأسبوع سأحدد لكن الموعد...

أنت أيضا أيها الشاعر الأحمق نهاية هذا الأسبوع سيكون موعدك معي... إنها فرصة لي لألقنك درساً لن تنساه مدى الحياة وستتوب بعدها ولن تعترض لأية فتاة حتى ولو بدأت هي بالمطاردة، فدرسي أيها الشاعر كبير... كبير بحجم خطتك وعظيم بعظم خطيئتك وقاس كقسوة إهانتك، وسترى إن شاء الله... ابتسمت الطالبات وهن ينظرن باتجاه الباب... تابعت نظراتهن لأرى زميلتي فوزية ضاحكة وهى تقول:
- أحلام... أين كنت؟ إنني أقف هنا منذ دقيقة أتأملك وأنت غارقة في أحلام اليقظة...
ثم اقتربت هامسة:
- هيا اخرجي ... فقد بدأت حصتي...

خرجت بعد أن وضعت الدفتر الصغير داخل دفتر التحضير الكبير الخاص بي... وحالما انفردت بنفسي وخلت حجرة المعلمات منهن عدا اثنتين يتلحفن بعباءتهن وينمن باستغراق شديد ... فتحت الدفتر الصغير.. طالعتني رسالة الشاعر الثالثة والتي سأجعلها الأخيرة... تخطيت الصفحة الأولى " الموعد" إلى الصفحات التالية.

كانت أشعاراً مطولة وخواطر جميعها تتحدث عن الحب من أول نظرة والعشق والهيام... كلها رسائل غرام مغلفة بأسلوب شعري راق... ربما تكون مخطوط كتابه المقبل، لكن ماذا يهدف من إرساله لي؟ عن علاقته بي تتطور بشكل خطير وإذا لم أضع حداً لها فإنها ستشكل خطراً يقضي على حياتي ومستقبلي.

عدت إلى بيتنا ذلك اليوم ممزقة حائرة، تتناهبني الهواجس وتفتتني الظنون... ترى هل حكت وضحى لزميلاتها ما يحدث بيني وبين شقيقها على سبيل المباهاة... فهم في تلك القرية النائية يفتخرون بأي شئ له صلة بالعلم والتحصيل حتى ولو كانت علاقة أخيها بحارس المدرسة... ترى هل تكلمت تلك الفتاة الصامتة ووشت عيناها بما لم يستطع لسانها أن ينطق به؟ فتلاقفته الطالبات لينتقل من ثم إلى الأهالي ثم إلى معلمات المدرسة ومديرتها فينظرون لي شزراً مع أنني لست بخاطئة ولا مجرمة، لكنها القوانين والعادات القبلية التي تفخر بشاب من هذا النوع وتعد عمله بطولة تستحق الإشادة وتنظر للأنثي بتحقير وإهانة ورغبة في وأدها وهي على قيد الحياة... ترى هل أسرت وضحى لصديقتها المقربة باستسلامي وخضوعي... وكيف كنت أتقبل خطابات الحب برغبة ولهفة دون ضيق أو غضب .. حنقت على نفسي وقتها... لو ثرت مرة واحدة فقط، لو رفضت استلام أي شئ من شقيقها لمجرد انه رجل... لو مزقت الدفتر الأخير وألقيته في سلة المهملات أمامها لربما تغيرت نظرتها لي وازداد تقديرها وإعزازها لي... لكن الآن وفي هذا الموقف الذي لا أحسد عليه ستكون سمعتي سيئة ونزاهتي مشكوكاً فيها وكرامتي مجروحة....

فحتى ذلك الوقت الذي سأنتقم فيه لكرامتي لن أنظر في عيني وضحي المتسائلتين ولن أحادثها بكلمة وسأتحاشى كل ما من شانه فتح حوار جانبي معها...

فوجئت بطرق على باب حجرتي... طرق خفيف ناعم لكنه مسموع... فتحت الباب برقة، كانت الخادمة تنبئني بمن يطلبني على الهاتف... أسرعت بالنزول إلى الطابق الأرضي حيث الهاتف وأنا أتوقع شقيقتي بدرية التي كثيراً ما تحادثني راغبة في الفضفضة والتخفف من أحزانها ومسؤولياتها الجسيمة... فلا صديقة لها سواي... وهي تمثل لي كل شئ .. الأم والشقيقة و الصديقة والابنة وأحبها كمل لم أحب بشراً سواها ولا حتى أمي....

التقطت السماعة ضاحكة:
- أهلا بدرية...
فاجأني صوت واجم... ثقيل ... بارد...
- لست بدرية يا أحلام... أنا صباح....
- أهلا صباح ... كيف حالك... هل أنت مريضة؟
جاءني صوت بكائها على الطرف الآخر ... حاراً ... يائساً... موجعاً.
- صباح ... ما بك؟
قالت ونشيجها العالي يخترق أذني:
- لن أحضر في الغد يا أحلام، أبلغي السائق ألا يمر علي...
- ماذا حدث يا صباح؟
انتحبت مرة أخرى وهي تقول:
- لقد فشل مشروع زواجي وانسحب خطيبي إلى الأبد... لقد مات يا أحلام ولن أتزوج أبدا... أبدا...

dali2000 04-05-09 03:30 PM

الجزء العاشر




أشرقت السعادة في بيتنا وانبثقت السحابة الغائمة عن مطر غزير اكتسح طريقه كل شئ حتى أحزننا... فوجئت حينما عدت ظهراً من المدرسة بحركة غير عادية في البيت... أخواتي متأنقون في ملبسهم تعيق من أعطافهم رائحة العطور... في المطبخ عدة أصناف من الطعام لم تحدث في بيتنا سوى في المناسبات... البيت مرتب نظيف يفوح برائحة البخور في أرجائه... همست لزوجة أبي مازحة:
- أم بدر... ماذا حدث؟ هل تزوج أبي مرة أخرى... أم ماذا؟
ابتسمت برقة وهي تقول:
- أليس في وجودي كفاية؟
ثم أردفت قائلة:
- أخوك خالد... لقد حضر من تبوك اليوم صباحاً...
صرخت فرحة:
- حقاً... هل حضر بمفرده... أم بصحبة عائلته... هل.. أين هو الآن؟
ضحكت زوجة أبي قائلة:
- رويدك... رويدك فأنا لا أستطيع الإجابة على جملة أسئلة... عموماً هو الآن يخلد للراحة... فقد حضر متعباً من رحلة طويلة بالسيارة مع بعض رفاقه كما أخبرنا بذلك...

رغم تعبي وجوعي الشديدين فقد صممت ألا أرتاح ولا أكل شيئاً حتى أراه أولاً.

صرخت فرحاً حين رأيته باتجاهي... ألقيت نفسي في أحضانه مبتهجة وأمطرته بوابل من الأسئلة عن زوجته وأولاده وعمله ومدينته الصغيرة وحتى جيرانه وأصدقائه... ضحك وهو يقول:
- أمهليني قليلاً حتى أتنفس.

تناولنا الغداء مع أبي في جو من السعادة والحبور... علمنا منه أنه سيمكث معنا يومين فقط ثم يعود إلى مدينته وعمله...

بعد الغداء وخلود أبي وزوجته للنوم جلست مع خالد نشرب الشاي ونتحدث... تحدثنا كثيراً في كل شئ وحكى لي عن زوجته وطفليه " عبد الرحمن وريان" والقادم الجديد الذي يأمل أن تكون بنتاً يسميها على اسمي...

لاحظت ارتجاف صوته وهو يحكي عن طفليه، خمنته الشوق لهما واللهفة على لعبهما وشقاوتهما... ثم تطرق إلى عمله ومشاكله مع زملائه ... ومدينته الرائعة الصغيرة ثم سألني أن أحضر لزيارتهم... كان سؤالاً غير جاد لأنه يعرف أبي وأنه لا يحق لي الخروج من بيت أبي إلا لبيت زوجي ومن ثم إلى القبر... أعتقد أنه يذكر جيداً تلك الزوبعة التي أثيرت منذ سنوات خلت، حينما دعتني شقيقتي بدرية لأنام في بيتها ليلة واحدة معها وأطفالها فقد كانت أرملة... يومها قامت الدنيا ولم تقعد ولم يترك أبي كلمة من قاموس الشتائم والكلمات النابية إلا وأطلقها على شقيقتي بدرية... أرغى وأزبد هدد وتوعد ثم حلف وأقسم ألا أخرج من البيت أبداً في حياته...

سألت "خالد" إذا كان يحمل صوراً لأطفاله... اهتزت رموش عينيه ثم اكتسى وجهه بحزن شديد... ارتجفت يداه وهو يخرج الصورة الوحيدة من حافظته الجلدية...

بهرتني البراءة المرسومة في الأحداق الصغيرة والجمال الطفولي المميز. كانا يجلسان على مقعد خشبي في حديقة جميلة... عرفت الأكبر عبد الرحمن فقد كان صورة طبق الأصل من خالد بعينيه الواسعتين وفمه الصغير ولونه الخمري بشعر أسود حريري... ريان كان يختلف عن شقيقه كثيراً، فقد كانت ملامحه دقيقة صغيرة وشعره فاتح اللون أجعد... ابتسمت برقه وأنا أقول:
- ريان يشبه والدته أليس كذلك؟
ضحك خالد قائلاً:
- أنت ذكية يا أحلام...
أجبته بابتسامة واسعة:
- أيهما تحب أكثر؟
فوجئت ... بل صعقت... التمعت عيناه بالدموع وبصوت ليس صوته قال:
- كما قالت أعرابية حينما سئلت يوماً: أي أطفالك أحب إليك؟ فأجابت: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى...
ازدادت دهشتي وأنا أساله...
- وهل لك غائب ليعود؟
قاطعني:
- بل لي مريض أتمني شفاءه...
صمت... وصمت هو أيضاً... لم يكن صمتنا متطابقاً أو متشابهاً أبداً...
صمت خالد لأنه بكى.. بكى بحرارة وألم ... بكاء الرجل الذي انهار أخيراً بعد مقاومة جلد... بكاء يأس وحيرة وضياع...

بكاء لمريض لا يرجى برؤه.. بكاء منبعث من نفس صدئة من أعماق مبعثرة. دموع غالية تخرج من نفس ممزقة، كالبترول يخرج من الصحراء الخاوية...

صمتي كان خوفاً أكثر منه تقديساً... رهبة تفوق الاحترام... هلعاً يعلو على أي كلام... هل هو السرطان المخيف؟ كلمات وشت بها عيناي الدامعتان لأرى في انهياره ألف نعم ونعم ... وعلى واحد من حبتّي قلبك، وضع الوحش رحاله؟! أيهما البراءة المخطوفة ببراثن المجهول... ترى من منهما يحلق طائر الموت على رأسه ويترقب لحظته الدانيه، هل هو الأسمر ذو الوجه الحبيب أم الآخر الشقي الأجعد الشعر؟ لهفي عليك يا أخي وهذا الحزن المرير يعتصر قلبك عصراً... لكن ... أما من شفاء... أما من دواء ولو كان في آخر الدنيا.. أما من أمل ولو بعيد ضئيل لطرد شبح هذا المرض القاتل وقمعه للأبد...

سألته وفي صوتي رجفة وفي عيني دمعة وفي قلبي انطلقت طيور الأحزان:
- خالد... بالتأكيد يوجد دواء... ليس هناك داء ليس له دواء...
ابتلع دموعه الكثير وأجابني بصوت مخنوق:
- إنه سرطان الدم يا أحلام... هذا المريض الوحشي الغادر... لقد أصيب به عبد الرحمن من أشهر مضت...
تعالت الشهقات داخلي... إذن هو عبد الرحمن ذو الوجه الأسمر الحبيب الطفل ذو السنوات الأربع وخيبات سنوات مقبلة لا ندري كم عددها...
تابع خالد بأسى:
- لقد انتابته حرارة مفاجئة، في البدء ظنناها حمى عابرة أو مرضاً طارئاً كغيره من الأمراض... احترنا واحتار معنا الأطباء حتى أدركنا تشخيص مرضه الحقيقي... ومنذ ذلك اليوم ونحن ندور في حلقة مفرغة من العلاج بدون جدوى...
ابتلعت غصة ألم وأنا أقول:
- بالتأكيد يوجد أمل ...
برقت عيناه... لا أدري أكان أملاً، أم دمعاً... ثم قال:
- هناك أمل ... ولكن في جراحه صعبة بالخارج تتكلف مبالغ طائلة...
قاطعته بفرحة:
- خالد... لايهم. أجمع نقوداً.. بع كل شئ لديك حتى ملابسك ... استدن... تسول .. المهم أن يشفى عبد الرحمن...
وأد فرحتي حين قال:
- أنا محدود الإمكانات يا أحلام... تعرفين بأنني قد بنيت نفسي بنفسي ولم يساعدني أحد... درست ... عملت ... تزوجت .. وقد خسرت الكثير في علاج ابني ... خسرت كثيراً لدرجة قد لا تصدقينها... أنت لا تعرفين أنني لا أملك بيتاً خاصاً بي وإنما أستأجر سنوياً بمبالغ كبيرة... لقد بعت يا أحلام ... بعت من أجل شفاء ابني كل ما أملكه حتى مجوهرات زوجتي القليلة وأشيائي الصغيرة ... استدنت.. كل أصدقائي أنا مدين لهم ولا أدري متى سأسدد هذه الديون وقد تسولت يا أحلام. نعم فقد وصل بي الأمر إلى التسول وعقد أحد الزملاء ندوة تبرع لأجلي... ماذا أفعل أكثر من ذلك؟ إن ابني يذبل أمامي ونهايته المرتقبة تقض مضجعي والأمل موجود، لكنه بعيد بعيد كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعس... وزوجتي حامل وبحاجة إلى كل رعاية ومساندة... ولا أدري كيف أتصرف؟
أطرقت والحزن يعتصرني ثم أجبته داعية:
- خالد أبي لن يتخلى عنك وسيساعدك حتماً... أنا واثقة من هذا ... نحن معك يا أخي في معركتك ضد هذا المرض الشرس وسينصرك الله حتماً... وأبي سيساعدك بكل ما يملك... فأنت ابنه وطفلك حفيده الذي يحمل اسمه...
أجاب خالد بوجوم:
- من أجل هذا أنا هنا يا أحلام... سأطلب من أبي المساعدة.

خفق قلبي بجنون وأنا أري خالد شقيقي ينتحي بأبي جانباً... وأسرعت كيلا أراهما ، أرى الانكسار في عيني أخي خالد، وربما الدهشة والألم في عيني أبي.. ترى هل يتقاعس أبي عن مساعدة خالد ابنه في ظرف كهذا ... ويحي كلا .. كلا ... يستحيل أن يرفض أبي إنقاذ حفيده من الموت كن أجل حفنة من النقود، وهو من يملك الموال الطائلة والعقارات في كل مكان من بلادنا الشاسعة... ولأول مرة أتساءل ... ترى ما علاقة أبي بأبنائه أو علاقته بخالد بالتحديد؟

إن علاقة أبي بنا جميعاً علاقة الملك برعيته... الحاكم بالمحكومين، ومن يتمرد عليه أو يخرج عن طاعته فقد انتهى من رعايته إلى الأبد... وهذا ما حدث من خالد من زمن ليس ببعيد.. فبعد أن عصفت المشاكل بيتنا وفقدنا الأمن والاطمئنان وأصبحنا نعاني الغربة في بيت ولدنا فيه تقدم أخي خالد لأبي يطلب منه أن يتم دراسته في كلية المعلمين بتبوك... غضب أبي واربد وجهه ثم رفض أن يدع أحداً من أولاده يغادره إلى أي مكان... تمسك خالد برأيه وصمم عليه مقنعاً أبي أنه سيجد راحته هناك مع صديقه الوحيد الذي رحل مع أهله إلى تلك المدينة... اعتصم في حجرته رافضاً الأكل والشرب ... ابتعد وانزوى حتى رضخ أبي لقراره، وقال له بغضب: اذهب إلى تلك المدينة كما أردت، لكن لا تنتظر مني أي مساعدة في أي شئ تطلبه ولو قرشاً واحداً... أتفهم؟ وقد فهم أخي ولم يعترض على شئ ، بل لم يهمه من أمر أبي شئ فسافر سعيداً مبتسماً آملاً مستقبلاً زاهراً بعيداً عن أبي وزوجته ومشاكل تغص بها قلوبنا الصغيرة... لكن أخباره المطمئنة بدأت تسكن حروق القلب وجروح النفس، فقد درس في كلية المعلمين ثم تخرج فيها معلما وتعين في المنطقة نفسها... ثم تزوج فتاة متعلمة من عائلة مرموقة ، وأنجب منها...

وقد لحق به شقيقي حمد بعد عامين من رحيله دون معارضة جدية من أبي، وشق هو الآخر طريقه، فدرس ثم عمل وتزوج... ولم يدر بخلدي أن شقيقي خالد ممكن أن يتعرض لمحنة قاسية كهذه المحنة التي تعصف به وتكاد تقضي عليه....

طال الوقت به وبأبي وأنا أتشبث بحلم وردي.... حلم الأبوة الحانية الذي يضم أولاده تحت جناحه مهما كانوا ومهما فعلوا... إن أبي لن يتأخر في موقف كهذا ولن يقسو ويتجبر، فهو أب ويعرف جيداً مشاعر الأب الملكوم المهدد بفقد أحد أبنائه... لكن أبي لم يشعر بفقد ندى، بل ألقاها في مستشفي الصحة النفسية دون مشاعر واستلمها جثة دون أن يطرف له رمش، وواراها الثرى بلا إحساس. حتى أمي لم يذرف دمعة واحدة على فقدها، بل لم يشعر بأنه فقد شيئاً ذا بال كأنما تعطل لديه جهاز التلفاز فاستبدله بآخر، فقد أحضر زوجته الأولي في نفس ليلة وفاة أمي دون أدني تأثر أو حزن!! ترى هل مثل هذا الرجل القاسي الجبار المتبلد الإحساس سيشعر بمصيبة فلذة كبده وسيسارع بمد يد العون له بكل ما يستطيعه من جهد وأموال، أم ... لا... لا .. أرجوك يا أبي.. أتوسل إليك ألا تخذل خالد وهو في قمة احتاجه لك... لا تخذل رجلاً إنساناً كسيراً ممزقاً أجبرته الدنيا على أن يمد يده لأي إنسان... لا تخذل رجلاً أغلقت دونه الأبواب سوى رحمة الله... لا تخذل بائساً ضاقت في وجهه السبل حتى ولو كان ابنك!! أبي أبتهل إليك ألا تتركه يصارع العالم بمفرده ويدخل حرباً غير متكافئة؟؟؟ هو والفقر وطفله المريض أحد طرفيها؟ وعلى الطرف الآخر مرض قاس لا يرحم. أ[ي إنك لو تخليت عنه في عز احتياجه لك فلن ينسي لك هذا طوال حياته ولن أنساه لك أنا أيضاً...
سمعت صرخة قوية آتية من جهة صالون الجلوس، حيث أبي وأخي خالد. انقبض قلبي بشدة وأنا أستشعر شراً ما قادماً. أسرعت لأجد خالد منكفئاً على وجهه بحالة انهيار تام وأبي يردد غاضباً:
- ما شاء الله هذه آخر تربيتي وتعبي... يقول لي أعطني ميراثي منذ الآن...
صرخت بهلع:
- هل صفعته يا أبي؟
- إنه يستحق أكثر... إنه يستحق القتل...
- إنه مهزوم يا أبي... هزمته الدنيا والظروف... وهو بحاجة إليك بحاجة إلى حنانك وعطفك ووقوفك إلى جواره ... إنه بأزمة يا أبي... إن ابنه يموت...
صرخ بحدة:
- فليموتا كلاهما... ما شأني أنا... فليرثني بعد أن أموت وليس وأنا على قيد الحياة...
- أبي إنه بحاجة إلى مبلغ بسيط لعلاج ابنه وسيرده إليك بإذن الله عندما يشفى عبد الرحمن...
هدر بقوة وهو يغادر المكان:
- ليس عندي نقود له ولا لابنه...
- أبي... أبي...
ثم التفت إلى خالد وهو يحاول النهوض بصعوبة... حزن الدنيا يرتسم على وجهه اليائس وعيناه دامعتان مقتولتان... إنسان مهزوم بكل ما تعني هذه الكلمة...

مد يده إليّ وهو يرتجف قائلاً:
- مع السلامة يا أحلام ... سلامي إلى بدرية وصالح، فلن أستطيع زيارتهما...
صرخت في وجهه..
- بل تستطيع... لا تيأس يا خالد زر أخوتك وسيساعدونك... لن يتأخروا عن المساعدة، وأنا سأرسل لك كل مدخراتي المالية وما أملكه... صدقني يا خالد سيشفى عبد الرحمن بإذن الله...

ابتسم بمرارة وهو يودعني خارجاً، ودموعه تحفر أخاديد من الأحزان داخلي وتخضر بذرة الحقد على أبي في نفسي لتنمو زهرة وأنا أراه يمرغ كرامة أولاده في الوحل حفنة من النقود... لقد خذلتني يا أبي!

dali2000 04-05-09 03:31 PM

الجزء الحادى عشر




أدرت قرص الهاتف بأصابع مرتجفة، وما إن وصلت لسادس رقم حتى وضعت السماعة مكانها... الساعة كانت تقترب من التاسعة وخمس دقائق مساء... تباً لي ... أين الشجاعة... أين القوة التي أستمدها من كرامتي كامرأة لا ترضى لأي كان أن يمسها بنظرة أو بكلمة؟ إن صمتي ليس له سوى معنى واحد أنني أطمع بالمزيد، وما المزيد إلا خدش لسمعتي كفتاة وإهانة لمكانتي كمعلمة محترمة... كلا... يجب أن أستجمع شجاعتي وألقنه درساً لن ينساه طوال حياته. نظرت للدفتر الوردي بحنق ثم أدرت قرص الهاتف للمرة العاشرة ربما ... جاءني صوت دافئ واثق يسألني من أكون ... تلجلجت بالكلام قبل أن أقول :
- لو سمحت أريد أن أحادث الأستاذ سعد عبد الله .
سمعت آهة ارتياح من الطرف الآخر قبل أن يقول :
- أهلاً ... أنا سعد ... من يتحدث ؟
اشتد غيظي وغضبي للثقة العالية في صوته ، وكأنني انسقت إليه ووقعت تحت سحره ... فقلت له بنبرة عالية :
- أنت تعتقد يا أستاذ سعد أن الفتيات متماثلات ... لكن لا أنا لست مثلهن .... أنا بنت ناس تربيت تربية عالية وأخلاقي فوق مستوى الشبهات ، لذلك أرجوك أن تحفظ أدبك معي وأن تلتزم بأدب الحوار ... لقد قبلت كتابك الأول لأنني كنت في حالة نفسية يرثى لها ، وكتبك الأخرى فوجئت بها رغم أن وضحى قد وعدتني أن تهديني إياها ... وذلك الشعر السخيف الذي أرسلته ماذا تقصد به ؟ والله لو وقع في يد أبي لمزقك إلى قطع صغيرة ... ثم الطامة الكبرى تعطيني موعداً على الهاتف ... يا إلهي ... من تظن نفسك ، وماذا تظن بي ؟ إنني لست فتاة عابثة ولا لاهية ... وأنت ماذا أقول عنك ... إنك بلا ضمير بلا إحساس أنت ... ألا تشعر ؟ ماذا لو حاول أحدهم التحرش بوضحى ماذا تفعل بالتأكيد ستقتله ... إذن لماذا تعاملني هكذا لماذا ؟
أجهشت بالبكاء رغماً عني ... جاءني صوته الدافئ كشمس تخترق الغيوم لتظهر ...
- كلا... لا تفهميني خطأ أرجوك... لست عابثاً بدوري ولا أتسلي... لي أخت وأعرف كيف أحترم بنات الناس... لكن هل تسمحين لي بأن أعبر لك عما في داخلي بصراحة تامة...
خفت بكائي شيئاً وأنا أستمع لكلماته... ثم غرقت في الصمت إزاء سؤاله، فلم بماذا أجبته... هل من الصواب أن أرد بلا فأجرح مشاعره بدون أن أعرف ماذا يريد قوله، أو أجيب بنعم فأبدو كالمتواطئة معه الراضية بكل شئ وأي شئ...
تابع قائلاً:
- آسف جداً يا آنسة ولا أعرف كيف أعبر لك عن عمق أسفي لجرح مشاعرك وكرامتك. لكن الحقيقة إن سمحت لي بإبدائها سوف تبين لك كل شئ وبأنني لا أقصد سوءاً من وراء ذلك.
قلت بصوت خافت:
- ماذا تريد أن تقول؟
علت نبرة الشجن في صوته وهو يقول:
- هل تصدقينني عندما أقول لك بأنني صعقت عندما رأيتك للمرة الأولى في بيتنا... لا أقول أحببتك من أول نظرة... كلا... فمشاعري أكبر من ذلك بكثير، كيف أعبر لك... كنت الفتاة التي أريدها إلي جواري طوال حياتي زوجة ورفيقة درب... صديقة وحبيبة... أماً لأطفالي وربة بيتي وأولاً وأخيراً ملهمتي التي لا أستغني عنها أبداً...
قاطعته بخجل:
- أرجوك!
تابع:
- بل أرجوك أنت... لا تظني بي السوء... فأنا لست من شباب المدن اللاهين العابثين... إنني قروي ابن البدو الذي لا يعرف
إلا الصدق والحقيقة وقد أحببتك وأردتك زوجة لي منذ أول لحظة رأيتك فيها...
صمت، وصمت بدوري... كان لصمتنا لغة أقوي من أي لغة في العالم... كنا لا نسمع سوى دقات قلوبنا وأصوات أنفاسنا اللاهبة...
همس:
- أحلام...
نبض قلبي بجنون وأنا أهتف:
- أرجوك... دعني الآن ... مع السلامة.
رد بصوت خافت وكأنما قد استنفد قواه...
- آسف مرة أخرى... مع السلامة...

ألقيت برأسي على الوسادة وجسدي كله يرتجف بعنف... ماذا حدث... وهل هذا ما أردته من مهاتفته... أن يسقيني حبه وعشقه وولهه كما تسقى الزهرة العطشى بالماء... أن يبث في أعماقي سمه الزعاف فلا يبقي ولا يذر... هاتفته لأقرعه وأشتمه وأصرفه عن طريقي بكرامة وكبرياء... فماذا حدث؟ وكيف أخطأت المهاتفة هدفها وأصبحت لقاء غرامياً وبذرة حب تلقى في أرض مهيأة لتنمو وتخضر... ويحي، إنه لم يطلب علاقة غرامية بلا هدف، أو لهواً ينذر بمأساة... بل أحبني وأرادني زوجة له على سنة الله ورسوله، وأنا... ألم شراييني وسار مع الدماء باتجاه القلب ليستوطن كل جزء به... إنني أشعر بصدق كلماته، بتلقائية بوحه، بدفء عباراته وهذا ما دك حصوني واقتحم قلاعي المشيدة، فبت بالعراء معرضة لأية عاصفة أو سحابة عابرة تقصف أجوائي... رباه ماذا دهاني وما الذي غير الدنيا في عيني فبدت أجمل والسماء أشد زرقة والنجوم أكثر لمعاناً؟ ما هذه الفرحة الغريبة الطارئة على عالمي؟ ما هذا الإحساس بالخفة والانتعاش الخدر والذهول وكأنني قد ابتلعت شريطاً كاملاً من الأقراص المهدئة...؟ غابت من ذاكرتي كل المآسي العالية، ودموعي التي ذرفتها لأجلها... لتبقي صورته الوحيدة في تلك الدار العتيقة عالقة بوجه ذاكرتي، تأبي الزوال وكلماته الناعمة تشنف آذاني كمعزوفة موسيقية رائعة أهدتني نوماً هادئاً قلما يتكرر مثله...

صباح السبت فوجئت بصباح تجلس إلى جواري في السيارة التي تقلنا إلى القرية. تبعثرت كلمات العزاء في جوفي، فلم أدر ماذا أقول لها ولا كيف أعبر لها عن ألمي وحزني لمصابها... بادرتني قائلة:
- لقد وجدت رقم هاتف أبي راشد مع إحدى زميلاتنا فهاتفته البارحة ليمر علي اليوم... لقد غبت عن المدرسة بما فيه الكفاية... أليس كذلك يا أحلام؟
ابتلعت ريقي بصعوبة باحثة عن كلمات رقيقة مواسية... لكنها تابعت قائلة:
- أتدرين يا أحلام... أن وفاة خطيبي عادل غريبة... فهل تعتقدين أنها عين شريرة عرقلت موضوع زواجي؟
قبل أن أتفوه بحرف أردفت برنة حزن دخيلة على صوتها:
- كان يجهز شقة الزوجية في ذلك اليوم المشؤوم... تقول أمه إنه كان يرتب غرفة النوم الجديدة ومعه عاملان وفجأة سقط على رأسه المكيف الذي لم يتم تثبيته جيداً... ونقل إلى المستشفي لكنه مات في الطريق. أليس هذا عجيباً؟!
فتحت فاهي لأنطق لكنها قاطعتني قائلة:
- الأعجب والأغرب من هذا ... أن والدته تعتبرني شؤماً ووجه نحس، فلم يمت إلا حينما خطبني! أحلام أليس هذا قدراً مكتوباً... أليس هذا قضاء الله وقدره... ما ذنبي أنا...؟ لقد انتظرت طويلاً طويلاً، وحينما فرحت خنقت فرحتي وقتلت داخلي... أتدرين أن ثوب زفافي الأبيض معلق في دولاب ثيابي أراه ليل نهار يسخر مني... يهزأ بي، يثبت لي أني لن أتزوج مدى الدهر...
ثم بكت صباح... مضت تنشج بصوت مسموع وشهقاتها تكاد تمزق صدرها اليائس... ثم خرج صوتي وأنا أقول:
- صباح... ما هذا ... ألست مؤمنة بالله... ما هذا اليأس والقنوط؟ مات خطيبك لأنه ليس من نصيبك... ونصيبك آت بلا ريب، فما زلت صغيرة وجميلة، كما أنك متعلمة ومئات يرغبون بالزواج منك...
قالت بصوت متهدج بالبكاء:
- إنني يائسة يا أحلام... يائسة وحزينة ومحطمة، ولا أري حولي سوى السواد... لا أمل في ماض ولا مستقبل ولا حاضر... إنني ..

وانهارت في بكاء حاد مرة أخرى لتجتمع عليها زميلات الدرب ما بين مواسية ومعزية... لا أدري لماذا دمعت عيناي أنا أيضاً؟ أكان تجاوباً مع دموع صباح ومشاطرة لأحزانها، أم حزناً آخر بدأ ينبثق من داخل أضلعي وقد دفنته الأحداث الأخيرة لكنها لم تمحه أبداً... خالد وقد ودعنا مثقلاً بالأحزان ومترعاً بالخيبة ومحملاً بالهزيمة عاد إلى ابنه المريض خالي الوفاض إلاً من حقد ومرارة وآلام لا توصف بعد أن ودعه والأمل يحلق به إلى أحلام ورؤى وأطياف رائعة من وهج المستقبل، لكن أباه قد خذله وأعاده بخفي حنين... الدموع عصية في عينيه والقلب تعصف به أحزان أقوى من القدرة على الاحتمال... أحزان الفشل والخيبة وضياع الحلم وفقدان الأمل... أحزان من يكتشف فجأة أن لأسوار العالية من حوله ليست سوى جدران هشة من زجاج تتحطم لأقل حركة فتصيب الشظايا نفوسنا بجروح لا دواء لها ولا شفاء... أحزان الخذلان المرير فيمن كنت تعلق عليه أكبر الآمال... أحزان العودة بأيد خاوية لطفل يموت وأم تنتظر على حافة الانهيار... أحزان الضعف والضآلة لقلة الحيلة وانعدام الرجاء...

لكن الأمل في الله كير، وقد بعثت إلية كل مدخراتي القليلة مع ما تملكة شقيقتي بدرية وما تبرع به صالح، مع اعتقادي بأنها غير كافية لكننا نطمح بالمشاركة بكل ما استطعنا لعل وعسى أن يقدر الله أمراً ويشفى هذا الصغير من أجل أبويه...

همست لي إحدى الزميلات:
- إن صباح منهارة تماماً... المفروض أن تحصل على إجازة حتى تنسي أو تسلو أو حتى تعود لحالتها الطبيعية..
التفت لأجد صباح تهتف غير مبالية بصوتها العالي الذي يصل إلى السائق أ[ي راشد:
- شئ غريب... بالتأكيد هي عين وأصابتني... مات... مات فجأة... وأنا .. لن أتزوج أبداً أبداً... وثوب العرس.. وجهازي الذي ابتعته من أفخم الأسواق...

تعاونا على إنزالها من السيارة إلى المدرسة وأجلسناها في حجرة المعلمات مع إحدى الزميلات، ثم جلسنا مع المديرة نتباحث في شأنها ، فقررت المديرة تحويلها للوحدة الصحية لتتمكن م الحصول على إجازة رسمية ترتاح فيها وتعود كما كانت، صباح المرحة المازحة المتفائلة دائما...

بعد أن اطمأنت على صباح ذهبت لإعطاء الطالبات درساً، وما إن كتبت عنوان الدرس حتى صرخت إحدى الطالبات:
- أبله... اليوم هو اختبار مادة القواعد...

ابتسمت وأنا أمسح ما كتبت على السبورة لأبدلها بكلمة اختبار... وقع نظري على وضحى وأنا أكتب أسئلة الاختبار للطالبات، اندفع الدم إلى وجهي وارتجفت أطرافي، تذكرت ذلك القابع في أعماقي... بل إنني ما نسيته لحظة واحدة، كلماته الدافئة لا تزال ترن بأذني، عاطفته الصادقة أيقظت حنيني الغافي، حبه الصريح فجر ينابيع مشاعري فتدفقت كسيل جارف لا يحده شئ... رباه إنني أحبه... أحبه بكل ما في هذه الكلمة من معنى... أحبه بصورته الرقيقة بصوته الواثق الحنون... بكلماته المعبرة الشجية وحتى بخطه الدقيق الأنيق... أحبه كما لم أحب بشراً في حياتي... وأحببت لأجله قريته النائية ومدرستي العتيقة، وبيتهم الطيني القديم، و سكان القرية، أيضاً طريقي اليومي إلى المدرسة... سبحان الله كم كنت أمقت هذا الطريق الوعر وأشعر بالخوف والوحشة حينما أصحو صباحاً، ثم أشعر بضيق في الصدر وغثيان شديد حينما أنضم لزميلاتي في السيارة وأمضي بقية الطريق في قلق لا يسرقني منه النوم كزميلاتي حتى عودتي إلى بيتنا مرة أخرى... لقد تبدلت الأحوال في لمح البصر فأصبحت أصحو دون منبه بنشاط وحيوية وبهجة وأركب السيارة مع زميلاتي بفرحة زاعقة كفرحة الطفل بنزهة في مدينة الملاهي وأغيب في نشوة الطريق حتى نصل للقرية الحلم فيدق قلبي بجنون، وأرقب الطرقات البسيطة لعله يكون في أحدها سائراً... أتابع بعيني المارة لعله يكون بينهم... أحدق في وجه شقيقته أمامي بحثاً عن ملامح حبيبة غائبة أو بالجوار... قالت وضحى باسمة:
- لقد انتهيت يا أبله من حل الاختبار...

أخذت منها لورقة لتنهال عليّ بقية الأوراق من باقي الطالبات . في نهاية اليوم وقبل أن تبدأ رحلة المغادرة اقتربت وضحى منني لتبلغني سلام والدتها وتعطيني وعاء صغيراً من السمن البلدي الذي تبرعت والدتها في صنعه...

في السيارة قلبت الوعاء في يدي لأفاجأ برسالة ملتصقة أسفل الوعاء... كانت أول رسالة حب أتلقاها في حياتي...

dali2000 04-05-09 03:33 PM

الجزء الثانى عشر



أول مرة في حياتي أركب طائرة... أشعر بأنني أحلق بين السماء والأرض بلا ثوابت أو رواس، أتعمق داخل السحب وتبتعد عني الأرض شيئاً فشيئاً حتى تغيب عن ناظري، فلا أرى سوى سماء زرقاء من مختلف الجهات وقطع ضخمة من السحب، ترى ه لمعنى هذا أنني قريبة من الله... أيكون دعائي وأنا على الأرض... إذن فلأدع وأتوسل إلى ربي أن يشفيني عبد الرحمن ابن أخي خالد ويزيح هذه الغمة من صدره... سألني شقيقي صالح الراكب بجواري في الطائرة وكأنه يقرأ أفكاري:
- هل تعتقدين أن عبد الرحمن سيشفى؟
تنهدت بقوة وأنا ألملم أطراف عباءتي السوداء...
- أرجو ذلك... فلندع الله يا صالح أن يشفيه والله لا يخيب رجاء عبد إذا دعاء.
بسمل صالح وتمتم بمناجاة طويلة لم أسمعها ثم غرق كل منا في أفكاره....

تداعت ذكرياتي القريبة حينما هاتفني خالد قبل ليال. سألته بلهفة إذا قد استطاع تدبير السفر إلى الخارج لأجراء الجراحة لابنه عبد الرحمن... أجابني بصوت يخيم عليه اليأس والقنوط:
- أحلام أنا بحاجة إليك، بل في أمس الحاجة لوجودك إلى جوراي، فبعد الرحمن في حالة صحية حرجة جداً ولم أتمكن من تدبير المبلغ اللازم للسفر.. زوجتي أيضاً مريضة وترقد الآن في المستشفي، فهي حامل بالشهر الثامن كما تعلمين، لكنها تعاني من نزيف حاد وهبوط في الضغط وحالتها حرجة أيضاً فهي تعلم حال جيداً وتعلم أنه يموت...
صرخت هلعاً:
- لا يا خالد... لا تقل هذا... إن عبد الرحمن سيعيش عمراً مديداً بفضل الله ورحمته فلا تتشاءم يا أخي رجاء...
أجابني بهدوء:
- إنك رقيقة يا أحلام، وتحاولين تجميل الحقائق، لكننا نعلم جيداً أنه لا أمل... أحلام هل تستطيعين أن تحضري إلى تبوك وتمكثي لفترة بسيطة حتى تتحسن الأحوال أو يأخذ الله أمانته..؟
امتلأ قلبي بالأحزان فلم أعرف بماذا أجيب... أردف خالد قائلاً:
- أعرف أن أبي سيعارض مجيئك لكن هل ستحاولين...؟ لا أحد إلى جوارنا هنا، فزوجتي ليس لها شقيقات، وأمها متوفاة كأمي ولا صداقات قوية تتيح لنا أن نثقل على الآخرين...إنني وحدي في البيت مع الأطفال وإجازتي التي أخذتها من مدير المدرسة قاربت على الانتهاء وأنا مضطر أن أعود خلال أسبوع...
حاولت إخفاء نبرة الحزن من صوتي وأنا أقول:
- عموماً الإجارة الصيفية على الأبواب... أسبوعان على الأكثر وتبدأ الإجازة... خالد أعدك بأنني سأحاول مع أبى ولن يرفض مساعدة إنسانية كهذه...
أحسست به يبتسم في سخرية على الطرف الآخر لكنني تابعت:
- لن أتأخر يا خالد في مساعدة بسيطة، سأحاول بكل جهودي...
قامت زوبعة في البيت ليس لها أول ولا آخر منذ أخبرت أبي بطلب أخي خالد... انتفخت أوداجه وبرزت رقبته نافرة جلية وهو يصرخ:
- أنت فتاة... ألا تعلمين ما معني فتاة... يعني أي شئ يخدشك ويقضي على سمعتك وسمعة أهلك...
- لكنني يا أبي سأذهب عند أخي وليس عند أحد غريب...
- ولو .. أي مكان تغادرين فيه بيت أهلك هو خطر عليك وأي خطر... لن تخرجي من هذا البيت إلا لبيت زوجك، وليتصرف خالد كما كان يتصرف دائما بدوننا... ألم يشعر بالحاجة إلينا سوى الآن... الآن فقط...
- إننا أهله يا أبي... لمن يلجأ إذا لم يلجأ الابن إلى أهله... فالظفر لا يخرج من اللحم...
- إنسي هذا الموضوع واغربي عن وجهي وإلا حرمتك من التدريس...

انكفأت أبكي بحرارة وأنا أتصور خالد يواجه الدنيا بمفرده، بلا أب ولا أم ولا أخوة وكأنه يتيم لا حول له ولا قوة... أتق الله يا أبي وقف إلى جوار ابنك ولو مرة واحدة في حياتك ليذكروها لك بعد الممات...

لقد رفضت مساعدته وهو في أحلك الأوقات وأتعس الظروف وقبضت يدك عنه وأدرت ظهرك له... لا تقض عليه يا أبي بهذه الضربة القاصمة بأن تمنع أخوته من مساعدته، فلن يضيرك في شئ أن سافرت له ووقفت إلى جواره في مأساته المزدوجة باسمك وتحت رعايتك... وتأكد أنني شريفة طاهرة سأحفظك في أي مكان أحل فيه فوق أي أرض وتحت أي سماء فلا تخذلني يا أبي..

عجزت عن النطق بحرف مما يدور في أعماقي ومضيت أنهنه في بكاء خافت يحمل عجزي وضعفي ويأسي... حتى تدخلت زوجة أبي... سمعتها تناقشه وتقنعه ثم تقترح أن يرافقني أخي صالح في غدوي ورواحي... علا صوته في البداية حتى ملأ فضاء الحجرة من حولي ثم تضاءل شيئا فشيئاً حتى خفت، فترقبت قدومه ليعلن لي موافقته المشروطة... إنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها زوجة أبي لصالحي، فقد تدخلت مرات كثيرة أذكر منها حين رفض أبي تعييني في مدرسة بعيدة عن مدينتنا، فأقنعته حتى وافق... وقتها أيقنت بأن الأب لا يحب أولاده إلا إذا كان يحب والدتهم، وربما بل بالتأكيد أبي يحب زوجته...

جاءني بعد لحظات قائلاً:
- استعدي للسفر قريباً... لكن مع أخيك صالح ولمدة قصيرة فقط... أفهمت؟

مرت أيام قبل أن يستأذن صالح من عمله وأستأذن من مديرتي في إجازة اضطرارية قصيرة ثم نحلق في الطائرة...

سمعت صوت الميكرفون يعلن وصول الرحلة إلى تبوك... نزلنا مع أفواج المسافرين وأنا أقبض يد شقيقي بقوة شديدة وكأنه سيهرب مني...
لفحتني الأجواء الحارة بمجرد خروجي من جو الطائرة المكيف... إن الأجواء متشابهة في بلادي، لكن إحساس المرء قوي بما هو غريب عنه أكثر من القريب...

رأينا خالد في المطار... غصة ألم في حلقي شعرتها حينما اقترب منا، لقد نحل عوده وشحب وجهه وذبلت عيناه، بيد أن الألم الأكبر أحسست به حينما رأيت طفله عبد الرحمن في المستشفي... لم أشعر إلا بدموعي تجري حارة على خدي، لقد هالني مرآه لدرجة كبيرة... فقد كان كومة عظام ملقاة على سرير، لم يبق فيه سوى عينين سوداوين كبيرتين... خالد كان على حق... إن عبد الرحمن يموت لكن ببشاعة وبطء...

استقبلتني زوجة أخي خالد بنواح أفزعني رغم أنني توقعته... هي الأخرى ترقد على سرير المرض هزيلة ناحلة إلا من حزن كبير تشي به عيناها... رباه ألهذا الحد تنهار الأسرة وتتحطم... رباه إنني ابتهل إليك أن تشفي عبد الرحمن لتعود أسرة أخي كما كانت وتعود الابتسامة إليهم من جديد... لكن أحقاً كنت أمل؟ أكان لدي رجاء بأن تحدث معجزة في هذا الحطام البشري؟ لكنه يحيي العظام وهي رميم وهو قادر على كل شئ سبحانه... الوحيد الذي كان لاهيا مبتسما غير عابئ بشي هو ريان.... إنه لا يدري بالمأساة المروعة التي تحيط بالأسرة... لا يدري شيئا عن نعيق البوم وعن طيور الموت القادمة لتخطف شقيقة. أحسست بألم شديد يعصف بكياني... لماذا بخلت عليه يا أبي بحفنة من النقود لينقذ حياة ابنه أو حتى ليلقيها في البحر أو ليحرقها إن شاء، فمهما يكن من أمر تكون قد فعلت ما يجب على أي أب أن يفعله وضميره مرتاح... لكن ما فعلته يا أبي يخالف كل الشرائع والقوانين وسنن الحياة وضمائر البشر... لقد قتلت ابنك مرتين... مرة برفضك مساعدته والمرة الأخرى بتنكرك لإحساس الأبوة داخلك وكأنه ليس ابنك ولست أباه...

حادثت شقيقتي بدرية عبر الهاتف وأنا أبكي... وما لا تعبر عنه الكلمات ولا تفي به العبارات أحسست به بدرية بأعماقها تدعمه قوة الترابط بيننا. همست لي بأن أتماسك ولا أنهار أمام خالد حتى لا يفقد هو الآخر رباطة جأشه، أوصتني أن أدعمه بالأمل رغم غيابه وأبدد طائر الموت بالوهم والرجاء وأن أعين زوجته المحطمة على تقبل أعباء الحياة... ويحك يا بدرية إن ما تطلبينه منى هو المستحيل بعينه، كيف أبدو رزينة هادئة أمام براءة يغتالها وحش كاسر، أبوه يتمزق لوعة وأمه تتلوى حسرة وألماً... كيف أري الحياة وهي تسلب منه رويداً رويداً ولا أصرخ... أبكي... وانتحب بجنون... أعذريني يا أختاه فالموقف أكبر مني والوضع لا طاقة لي بالتجمل أمامه... لقد نسيت نفسي وقريتي وحبي الوليد... ضاعت قيمة الأشياء وازدادت تفاهتها أمام رهبة الموت القادم...

تحاملت على نفسي ومضيت أرفع من معنويات أخي وزوجته... فوجدت بي زوجته متنفساً لحزنها المكبوت، وعذابها الصارخ ودموعها الحبيسة، فبدأت شيئا فشيئا تتخفف من همومها وتتماثل للشفاء حتى استطاعت العودة إلى البيت على قدميها والصغير لم نملك إزاءه إلا الدموع وآيات من القرآن الكريم أتلوها عليه بصمت شفيف وعينين دامعتين...

حينما تخف وطأة المرض قليلا ينظر لي بعينيه الواسعتين ثم يبتسم بوداعة قائلا بصوت خافت:
- أريد أن ألعب بالكرة...
شئ ما يجثم على صدري.... خالد يختنق بالدمع فلا يجيب فأقول له ببشاشة:
- ستلعب بالكرة إن شاء الله قريباً....
- وريان...؟
- ريان سيلعب معك لكنك ستفوز عليه...
- لكنني متعب ورأسي يؤلمني...
- ستشفى إن شاء الله ولن يعود رأسك يؤلمك...
ثم أدير رأسي إلى الحائط وأبكي... أبكي بصمت وحسرة تجاوبني عيون أخوي خالد وصالح... يهتف خالد بمرارة وهو يضرب الحائط بقبضة يده:
- أشعر بالعجز الشديد... لماذا لم يساعدني أبي وهو يملك الأموال الطائلة... ما نفع أمواله إذا لم تسعد أولاده في حياتهم... تبا لها من أموال...
أتبادل وصالح نظرات صامته حائرة... يتابع بأسي:
- كان هناك أمل كبير بالشفاء بعد العملية الجراحية أخبرني الأطباء أن نسبة الشفاء عالية تصل إلى 90% لكن ماذا أفعل؟ لقد فعلت كل ما في وسعي ولم أستطع استكمال بقية المبلغ... إلهي إنني عاجز... عاجز...
وجلس على أرضية المستشفي الباردة يبكي بمرارة.

حادثنا أبي بضرورة العودة إلى الرياض، قال بأن الحاجة انتفت لوجودي، فقد خرجت زوجة خالد من المستشفي ولم يعد هناك مبرر لبقائي...

ودعتهم وأنا أتجلد وأقاوم كيلا أسفح الدموع كلأنهار... ثم مررنا بالصغيرة في المستشفي... كان يعيش نوبة قاسية من ارتفاع الحرارة الشديد وجسده يتفصد من العرق...

قبلته على جبينه قبلة انحدرت على أثرها الدموع لتبلل وجهه الحبيب وعينيه وفمه الصغير... انتزعني صالح من بين أحضان الطفل وهمس لي بأن أتجلد من أجل خالد الذي ينتظرنا بالخارج...
ودعنا خالد وقد بدا مذهولا ضائعا...

وفي الطائرة بكيت كثيرا لدرجة أنني لم أر الناس من حولي ولا المضيفات ولا أدري أين أجلس وبجوار من؟!

بعد وصولنا البيت بفترة قصيرة، رن جرس الهاتف... لا أدري لماذا شعرت بانقباض النفس... تناولت سماعة الهاتف وأنا أقاوم غثياني.... جاءني صوته.... خالد.... وكأنه قادم من عالم آخر... تماسكت بصعوبة كيلا أتهاوى سألته ونذير الشؤم يقترب أمام عيني....
- كيف حال عبد الرحمن؟
بصوت معدني بارد أجاب:
- لقد أنجبت طفلا...
قبل أن أبارك له، أردف قائلا بنبرات الصوت البارد القاتل:
- وأسميناه عبد الرحمن...
شهقت برعب وأنا أهتف...
- هل تعني ... تعني... أن...؟
- لقد مات عبد الرحمن منذ نصف ساعة فقط...
صرخت بلوعة وأنا أسقط في عالم من فراغ...

dali2000 04-05-09 03:34 PM

الجزء الثالث عشر




إلى أحلام
عيناك عيناك... ماذا أقول؟ فجر يضئ سمائي وبدء أفول...
عشقتك دهراً... أريد الحلول... حصوني دكت ليلي نهار وجبالي سهول...
أحلام...
أعذريني فلن تلجمي لسان محب فصيح عن التعبير... اعذريني إن أحرجتك أو جرحتك أو آلمتك بأية كلمة أو حركة أو عبارة... لكن المشاعر تمور في صدري، فلا أجد لها متنفساً سواك... أتدرين أنني أقف صباحا أراقبك حين قدومك إلى المدرسة وما إن أطمئن عليك حتى أعود راضيا إلى مدرستي... أتحسبين أنني لا أعرفك وأميزك من بين ألف فتاة أخرى... أنت مخطئة، فقلبي يدلني عليك أينما كنت وحيثما حللت...
أحلام... أشعر بأن حبي لك نادر الوجود، ليس مثل أي حب في هذا العالم...
إنه حب متفرد يسري مع الدماء ليأخذ بمجامع قلبي وعقلي وكياني... وهذا الحب نهايته الطبيعة هي الزواج فهل توافقين؟ هل تحلمين بي كما أحلم بك ليل نهار؟ هل تحبينني كحبي الأهوج لك؟ هل أنا فتى أحلامك مثلما أنت فتاة أحلامي... أنتظر ردك لأحضر على جناح السرعة خاطباً وأخطفك على الحصان الأبيض...
متى ستعرف كم أهواك يا أملا أبيع من أجلك الدنيا وما فيها لو تطلب في عينيك أسكبه أو تطلب الشمس في كفيك أرميها

أسير هواك
سعد
الرياض 9 مساء ت: 4776234 كل أربعاء

إلى أحلام ...
لا أدري لماذا أسطر لك هذه الكلمات... أهي رغبة في البوح أم هو احتياج للمشاركة، أم هي أخوة وصداقة لا أكثر... وأياً كان السبب فإنني أتألم... أتألم بكل ما في هذه الكلمة من معنى... في صحوي ومنامي، غدوي ورواحي، تطاردني عينان سوداوان لجسد ناحل أصفر... يغلبني إحساس المهانة والضعف بأنه كان في مقدوري عمل شئ ما لإنقاذ ولم أفعله... كان بإمكاني أن أبيع كليتي، أعضائي كلها واحداً واحداً.... نفسي حتى... لأنقذه من المصير المحتوم... كان يجب أن أفعل شيئا، أسرق أقتل ولا أتخلى عنه بهوان كما تخلى عني والدي... ما الفرق يا أحلام بيني وبين أبي... أحدنا باع ابنه من أجل حفنة نقود، والآخر باع ابنه لأنه ضعيف... كلانا أنذال جبناء... كلانا لا يستحق سوى الازدراء والمقت... لكن ماذا أفعل أكثر من ذلك... لقد ازدريت نفسي ومقتها وقتلتها حزنا وندما... ماذا أكثر؟
أتعرفين أنني أتحاشي النظر إلى عبد الرحمن الجديد... عبد الرحمن الصغير أشعر بأنه قد سلب أخاه روحه كما سلبه اسمه وسيسلبه حب أمه وأبيه وعطف شقيقه ريان، ومن ثم الاهتمام والرعاية ثم نسيان الراحل شيئا فشيئا حتى يهال على ذكراه التراب كما أهلناه على جسده ذات يوم...
أحلام ... سامحيني، إنها تداعيات أب ملكوم ونفثة من غليان تكاد تفجر صدري.

أخوك
خالد... أبو عبد الرحمن


خطابان قرأتهما في اليوم ذاته، الأول أقرأه للمرة الثالثة على التوالى، وتنتابني الأحاسيس نفسها و المشاعر الفياضة ذاتها.... إحساس غريب بأنني أحلق فوق السحب خفيفة منتشية أشعر بأنني مختلفة عن بقية البشر متفردة بذاتي، لي كينونتي الخاصة وأحلامي التي ليست كأحلام... إنني أحبه بالفعل وهو أول حب يتفتح عليه قلبي ويزهر، أحببت كل شئ فيه، شخصيته العبقرية التي تشفها كتبه بنبوغه، تميزه، وسامته وصوته أهفو إليها بك لكياني... صورة بيت الزوجية المقبل المملوء حبا ودفئا وحيوية وزوجا يأسرني بعاطفته وحنانه الدافئ وعينيه الآسرتين وأطفال كأزهار صغيرة يانعة...

تري هل يوافق أبي على زواجي من سعد؟ أم يحطم أحلامي كما فعل مع أشقائي من قبل... لكن سعد رجل لا يرفض أبداً... شاب متعلم مثقف طموح من عائلة مرموقة محترمة، فبأي مبرر يرفضه ويقضى على مستقبلي... كلا إنه لا يستطيع ولو حاول، فسعد لي وأنا له... ارتبطنا بخيوط لا مرئية تشابكت فيها أحلامي مع أحلامه، طموحي وطموحه، ورسمنا مستقبلا باسما نرغب في تحقيقه. لا يهم أن انتقل هو إلى مدينتي أو انتقلت إلى قريته البعيدة أو أقمنا خيمة في الصحراء هي عش الحب المأمول، ما يهمني أن نكون معا يدا بيد في أي مكان وزمان يجمعنا الحب والود ويدفعنا الطموح لتحقيق كل ما يمكن تحقيقه. سأهاتفه في موعده المرتقب ولن أخيب رجاءه لا لأبثه لواعج حبي بل لأطلب منه كفتاة محترمة تقدر وضعها جيدا وتحافظ على سمعتها أن يلج البيوت من أبوابها ولن يخيب رجاؤه أبدا بإذن الله...

بيد أن خطاب أخي خالد أحبطني ونشر في داخلي مشاعر الأسى والإحباط فتذكرت الصغير الراحل بعينيه السوداوين المتسائلتين وقبلتي الأخيرة التي اختطلت بالدموع على جبينه الملتهب... رجفة شديدة تسري في كياني وأنا أتصور ذلك الجسد الصغير تحت الثري.... هل كانت نقود أبي ستساعده وتمنع شبح الموت عنه... إنه مقدر ومكتوب ولا مفر منه لكن أبي بقسوة قلبه لم يدرك فائدة الأمل وبث الرجاء في نفوس من حوله وكسب أولاده إلى صفه بجزء تافه لا يذكر من النقود بالنسبة لثروة أبي الكبيرة... لكنه- سامحه الله- يتفنن في أبعاد أولاده وقتلهم واحدا بعد الآخر حتى صغاره من زوجته الثانية لم يشملهم بعطفه وحنانه سوي فيما ندر، وكأنه يخشي أن تضيع هيبته حينما يلاعبهم أو يضمهم إلى صدره... أخي خالد تجلد فأنت تعاني مرارة الخذلان أكثر منها مرارة الفقد... الإحساس البشع المريع بأنه لا حائط تتكئ عليه وأن ذلك الجبل الصامد في حقيقته ليس إلا بئراً جافة هاوية، فخاً أكثر منها نقطة حماية... لست الوحيد يا خالد الذي عاني خذلان أبي له فواقع أخوتك يشهد على ذلك... لا تيأس يا أخي الحبيب، فعزاؤك أننا دائما معك بقلوبنا وأرواحنا وكل ما نملك، وأحمد الله أنه عوضك بسرعة عن عبد الرحمن بعبد الرحمن آخر، وما أراده الله هو الخير دائماً، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم... قبّل عبد الرحمن بالنيابة عني وابعث لي صورة له وهو يبتسم... لا تيأس أخي فالدنيا قادمة.

بعثت له الرسالة ليجاوبني بعد أيام قليلة بصورة للصغير الذي كان لدهشتي صورة طبق الأصل من أخيه الراحل بعينيه الواسعتين وشعره الأسود الحريري، وحتى ابتسامته الرائعة، وقد كتب خلف الصورة إلى عمتي الحلوة... شكراً. فرحت بتخفف أخي من أحزانه رغم المرارات العالقة بوجدانه وانتظرت الساعة التاسعة من يوم الأربعاء بفارغ الصبر لأسمع الصوت الذي لا يفارقني دفئه، وقد استعددت استعداداً حقيقياً، كأنني سألتقي معه وليس مع صوته فقط، فارتديت ثوباً أبيض ناصعاً بلا أكمام وأطلقت شعري من أسره وقيوده، فتهادى على ظهري بفوضاوية محببة معلنا الفرح باستقبال حبيب العمر وزوج المستقبل. ما إن خرج أبي من البيت حتى اختطفت الهاتف وقلبي يدق في خوف... ثم أدخلته حجرتي وأغلقت الباب بالمفتاح...

انتظرت لحظات ليتوقف قلبي عن الخفقان ثم أدرت قرص الهاتف وشوقي يسبق الأرقام...
جاءني صوته مضخماً باللهفة:
- أحلام... أخيراً... لقد انتظرتك دهراً...
أغمضت عيني وكأنني أختزن صوته الرائع في ذاكرتي قبل أن أجيب:
- لقد انتظرت أبي حتى يخرج... رغم أنني أعرف أن ما أفعله هو الخطأ بعينه لكنني لا أدري لماذا أفعله... إنني لم أحادث رجلاً في حياتي، ولا أتصور تلك العلاقات القائمة بين الفتيات والشبان، فإنها في عرفي محرمة وممنوعة ومستحيلة أيضا...
- أحلام... أنت تعرفين جيداً بأنني لا ألهو ولا أعبث... إنني أحببتك لأتزوجك ... لا لأي غرض آخر... وقد أخبرت أمي بذلك ولا تتصوري مقدار سعادتها وفرحها، فقد أثنت عليك كثيراً وقالت إنني لن أجد أفضل منك جمالً وأخلاقاً وتديناً. حتى وضحى... إنها تحبك كثيراً يا أحلام... كلنا نحبك يا أحلام...
ضحكت على الرغم مني... وأنا أقول:
- نسيت أن أبارك لك نجاحها... ماذا تفعل وضحى بالعطلة الصيفية؟
خيّل لي أنه ابتسم قبل أن يقول:
- لا شئ... تقرأ أحياناً... تجتمع مع بنات الجيران أحياناً أخرى... ونادرا جدا آخذها معي الرياض وأمي بالطبع، كما أنا الآن ربما لا تدرين أنني أحادثك من بيتنا في الرياض، فنحن نملك عمارة كبيرة تتكون من 12 شقة...
أعطاني أبي هذا السكن لأتزوج فيه فيما بعد، لأنني أنوي جادا الاستقرار في الرياض.
ثم أردف قائلا:
- متى تريدين أن أتقدم لوالدك يا أحلام؟
تلعثمت وتلجلجت قبل أن أهتف:
- كلا... ليس الآن.. وقت آخر...
صاح بحزن:
- أحلام ... أشعر بأنك غير راغبة في الزواج مني... تحاولين التأجيل أو المماطلة... لماذا؟ هل هناك آخر؟
شهقت بفزع:
- أبدا أبدا... مستحيل... لا يوجد سواك في حياتي.. لكن...
ومر طيف عبد الرحمن الصغير بخيالي كما رأيته آخر مرة بعينيه السوداوين ووجهه الشاحب المودع... فتابعت بأسي:
- إننا نمر حالياً بظروف سيئة... لقد توفي ابن أخي منذ أيام وهو في حالة يرثى لها...
- أنا آسف... لم أكن أعلم... عموماً أحببت إبلاغك بأن هناك قصيدة ستنشر لي في جريدة الرياض... ربما بعد غد... أرجوك أقرأيها ، فهي موجهة إليك بالدرجة الأولى...
- حسنا أعدك بقراءتها.. وداعاً فأبي على وشك الحضور...
- إذن سأنتظر كل أربعاء في الموعد نفسه... ألن تعطيني رقم هاتفك؟
- بلى في المرة القادمة... وداعاً...

أعدت الهاتف إلى مكانه وحمدت الله أن أحدا لم يلحظ غيابي... ثم عدت إلى فراشي هائمة في عالم آخر لا يمت لعالمي بصلة... لقد أصبح هذا الرجل جزءاً لا يتجزأ من حياتي، بل أضاف معنى بريقاً لوجودي، فقبل أن أعرفه كانت حياتي عادية باهتة تكر كما حبات سبحة عتيقة... أو كالماء النقي بلا لون ولا رائحة ولا طعم... وبمجيئه تغيرت الأشياء وارتدت لون البهجة والفرح، تبدل الماء الصافي إلى ألوان وألوان وسلب شتى النكهات والروائح... غدوت أدرك معنى الحياة وسر السعادة والبهجة... إن الاهتمام بشخص ما معناه أن أدور في فلكه كقمر تحركه الأرض بجاذبية لا تقاوم وأستمد السعادة من وجوده وعطائه... سبحان الله... كانت حياتي السابقة كئيبة جافة بلا روح فأشرقت الأنوار بوجوده وبت أجد السعادة في أشياء صغيرة لم ألتفت إليها سابقاً حتى ابتسامة طفل من أخوتي تمدني بعاطفة حسبتني لا أملكها... لماذا صددته حينما عرض التقدم لخطبتي... أهو حقا من أجل أخي أخي خالد أم خوفا من أن يصده أبي وتوارى أحلامي الثرى... أردت أن أعطي نفسي مجالا أكبر للأمل.. فسحة أكبر للرجاء... أحلاماً أطول وأطول... ترى ماذا يكون موقفي لو رفضه أبي؟ هل سأقف في وجهه رافضة ساخطة معارضة أم سأنكس رأسي باستسلام مرير وأنسي كل شئ...؟ وهل أستطيع أن أنسي...؟ وهل مثل سعد ينسى....؟ إن أبي لن يرحم ضعفي ودموعي... لن يأبه لألمي وانكساري... لن يثنيه رجائي واسترحامي... إنه أبداً سادر في غيه ماض في حكمه دون النظر لأي اعتبارات أخرى حتى لو كان من يتكسر تحت قدميه هي قلوب أبنائه وليست أوراقا خريفية صفراء...

قلبي يؤلمني وأشعر بضغط شديد على صدري حتى أنني لا أقوى على التنفس حينما أتخيل أبي وهو يجهض حلمي الوحيد... أشعر أنني في حاجة لإنسان ما ... إنسان قريب حبيب أفضي إليه بما يقض مضجعي دون عقد ودون حياء.... فوجئت بنفسي أسرع لأجلب الهاتف... وفي لحظات أدرت رقم هاتف شقيقتي بدرية...
- أهلاً يا أحلام... هل أنت متعبة؟
- لا ... لا شئ...
- هل يؤلمك موت عبد الرحمن؟
- كثيرا.... كثيرا جداً....
وأجهشت بالبكاء... سمعت صوتها على الطرف الآخر رقيقاً مواسياً لا يحتمل آلاما أكثر... يكفيها ما تعانيه...
- شكراً يا بدرية... لقد ارتحت الآن...
- هل هناك شئ آخر يزعجك؟
- إنه مغص لا يلبث أن يزول....
أغلقت سماعة الهاتف ودموعي عالقة بالسماعة....

dali2000 04-05-09 03:36 PM

الجزء الرابع عشر



مرض أبي... نعم سقط الجبل الشامخ الصامد في نوبة حمى طويلة.... أحالته سهلا منخفضا منبسطا بلا ارتفاعات أو التواءات... سقط بلا حول ولا قوة كرضيع ما زال يتلمس خطواته الأولى عبر الآخرين...

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه أبي البيت مرتبكاً مهزوزاً على غير العادة، سألته زوجته إذا كان يريد الغداء فوراً لكنه أبلغها بأنه متعب ورف كل شئ ودخل لينام، لتصرخ أم بدر بعد ساعات: أسرعي.. أسرعي يا أحلام إن أباك لا يفيق ولا يتحرك ولا يتكلم...

تجمدت في مكاني لحظات لأستوعب المفاجأة، ثم أسرعت ركضاً لجهاز الهاتف أطلب شقيقي صالح ليحضر طبيباً على وجه السرعة...

عايشنا قلقاً رهيباً واحتمالات مخيفة وتوجسات وأوهاماً حتى طلب الطبيب نقله فورا إلى المستشفى وطمأننا أنها حالة عارضة وستزول خلال أيام.

انتقلنا جميعاً إلى المستشفي ليرقد أبي على السرير الأبيض لمدة يومين عاد بعدها إلى البيت ناجيا من ذبحة صدرية كادت تخسره حياته، فقد اكتشف الأطباء أنه يعاني من ضيق في الشرايين التاجية يلزمه علاج دوائي طويل الأمد وراحة نفسية وجسدية...

وقفت بمحاذاة فراش أبي أغالب دموعي... فقد كان ضعيفاً... في منتهى الضعف والخوار... لم أره إلا قاسياً مستبداً يبطش بلا رحمة ويقبض عطفه حتى عن أقرب المقربين إليه... يغتال الدمعة ويجهض الفرحة.. أبي ليس أبي...

فقد تحول إلى إنسان آخر لا يمت لأبي بصلة... أبي الجديد إنسان كسير مهزوم لا يملك سوى دموع شفافة تترقرق بها عيناه كل حين... أثارتني المفارقة واستدرت عطفي ودموعي، فوقفت إزاءه مواسية... قال بصوت خافت متهافت:
- أحلام.. هل تهاتفين سعاد؟؟

فغرت فاهي دهشة... سعاد... يا إلهي ما الذي جعلها تخطر في باله بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ سعاد المتهورة المندفعة التي تتحدث بلا تفكير وتعمل بلا عقل يحركها الجنون والطيش، سعاد الجميلة الجريئة ذات الابتسامة المميزة واشعر الأسود الغجري، سعاد التي أخرجتها يا أبي من مدرستها، ودفعت بها في زواج غير متكافئ من أجل خلافات تافهة مع زوجتك على كل شئ، أتذكر سعاد يا أبي بشقاوتها وعنادها وحركتها السريعة التي لا تهدأ، وكأنها تريد إنجاز كل شئ في وقت واحد، فيضيع الوقت ولا تنجز شيئاً أبدا، سعاد يا أبي فتاتك المميزة بكل شئ فيها، حتى جنونها المستعر وحرائقها الدائمة... لقد بكت طويلاً يا أبي ليلة أحضرت فيها زوجتك الجديدة إلى بيتنا.. بكت حتى تقرح جفناها من كثرة البكاء، ثم قالت كلمتها التي لم تحد عنها أبدا" لن أدع هذه المرأة تأخذ مكان امي في البيت بسهولة... لن أدعها ترتاح... إما هي في البيت وإما أنا". بالتأكيد كانت هي، وليست سعاد... هي بريئة يا أبي رغم شراستها، طيبة رغم جنونها، لم تكن تدري لسذاجتها أنك قد دفنتنا وقتما واريت أمي التراب، فمتنا معها في نظرك لتبدأ حياة جديدة وأولاداً جدداً... لم تكن تدري أنك لم تحب سوى نفسك، وأنك لا تتورع أن تبيع أبناءك من أجل راحتك وطمأنينة بالك...

لم تكن تدري أن خلافها الدائم مع زوجتك سيؤدي بها إلى هذا المصير... وأي مصير؟؟ إنه قتل بطئ متعمد مع سبق الإصرار والترصد... لقد حرمتها من الدراسة التي عشقتها ووهبت فيها وأحبت مجتمعها من صميم قلبها، ولم تكد تصحو من هذه اللطمة الموجعة حتى فاجأتها باللطمة التالية الأشد قسوة ومرارة لتموت سعاد واقفة!! ما زلت أذكر ذلك اليوم البعيد حينما قلت لها بصيغة الأمر: غداً زواجك فاستعدي...

كانت الصدمة قاتلة فلم تحر جواباً... المتكلمة كانت شقيقتي الراحلة ندى حينما سألت بذهول:
- ومن هو يا أبي؟!
قلت بلا اهتمام وأنت تدير ظهرك لنا:
- إنه رجل عاقل توفيت زوجته ويعيل أولاداً...
هتفت ندى بلا وعي...
- مثلك يا أبي...
فوجئنا بالصفعة المدوية التي هوت على صدغ ندى لتهتز لها دران البيت وتتحطم نفس ندى إلى الأبد ... عاد صوتك حاداً متحدياً من جديد:
- وماذا يعيبني.. ماذا في الأمر إذا كان مثلي... ألست بقادر عليكن؟ ألا أملك المال والجاه...؟
بكت ندى وتقوقعت سعاد وصرخت أعماقي... لا يا أبي الحياة ليست مالاً وجاهاً إنها أشياء أخرى... أشياء لا تشترى بالمال ولا تعوضها الجاه وإن كثر...

تركتها تتزوج يا أبي... خطفت شمعة الدار المتوهجة لتزفها إلى رجل في سنك لا يملك سوى المال وعقلية متحجرة وحفنه من الأولاد.... أي مستقبل باسم يعدها به هذا الرجل وأي قبر دفنتها فيه حية...؟ اقترن الشباب بالفناء، الربيع ببرودة الخريف، وفعلاً كما توقعنا أحاطها بأسوار وأغلال من الغيرة والشك والعذاب وخطفها إلى منفاه البعيد بلا أية صلات وكأنها زهرة ربيعية اقتلعت من جذورها إلى صحراء بلا ماء ولا غذاء... لقد اغتلتها يا أبي...
- أحلام ... أين سعاد؟؟
أعادني السؤال من غفوتي مع طيف سعاد التي تملك ما يفتقده الكثيرون من الجمال والشباب والصحة... أشفقت عليه فلم أجب... وبماذا أجيبك يا أبي؟ لقد بدأت في أبعادها عن محيطها فأكمل زوجها ما بدأته بكل همة ونشاط. إنني لا أعرف عنها يا أبي سوى أنها أنجبت ثلاث فتيات وولداً واحدا من زواجها ولا أدري عنها شيئا آخر...
جاءني صوت أبي فيه رجاء وإلحاح:
- أحلام... ابحثي عن سعاد بأية طريقة... يجب أن أراها قبل...

لا .. لا يا أبي لا تقلها. أنت لن تموت، لن تموت قبل أن ترى بعينيك ما فعلته بزهرات فؤادك، لن تموت قبل أن تتجرع كؤوس الندم والألم على أنانيتك وظلمك... إني لا أحقد عليك يا أبي ولا أتمنى لك الموت، بل إنني مشفقة عليك لكن رغبة قوية جامحة تجعلني أهفو إلى رؤيتك وأنت تحصد ما بذرت...

أن أرى دموع الندم تنسكب من عينيك ونشيد الغفران والتسامح ينطق به لسانك ولمسات التعاطف تشي بها يداك... فما حال أولادك أبتي وماذا جنيت عليهم؟

بدرية مع أطفال يتامي... وقضبان لا ترى، بدون بارقة أمل في مستقبل زاهر.. وصالح وحياة باهتة بلا طعم ولا لون يعيش فيها مجبراً خاضعاً كرجل يعيش على الهامش... وندى التى لم تعرف السعادة طوال حياتها وماتت غلية على يديك... ويعاد التي دفنتها مع رجل طاعن في السن دون وازع من ضمير، فعاشت محنطة في بيت لا تريده، كسلعة لا ترد ولا تستبدل... خالد الذي فر من بين أصابعك ليشكل مستقبله بنفسه تركت طفله يموت أمام عينيه وأعيننا دون أن تمد له يد المساعدة، رغم أنه لم يطلبها منك يوماً، لكنك كنت قاسيا متحجر القلب حينما أدرت ظهرك ليده الممدودة وقتلته ألف مرة قبل أن يموت ابنه الذي يحمل اسمك ويرجوك بعينين بريئتين أن تنقذه من حتفه... وحمد الذي غادرنا شابا يافعا هاربا من غربة تسكن خلايا جلده لائذا بأخيه من قسوة متعمدة للهروب القسري ولا ندري بعدها عنه شيئا سوى بعض الأخبار المتطايرة يتناقلها الرواة... ألم تلحظ أبي مواسم هجرة أولادك، اختيارا أو قسرا، هربا من القسوة أم تعطشا للحنان... لقد قتلتنا يا أبي وحان دورك لتتلقى الحصاد...

أسرعت إلى أخي صالح ليحاول البحث عن سعاد وإبلاغها بالحضور على وجه السرعة... و دونما استشارة أبي اتصلت بحمد وخالد للحضور...

اكتمل عقد الفل، واجتمع شمل العائلة الممزقة حول فراش الرجل الذي مزقهم وشتتهم ولم يسعدهم يوما... بدرية بوجهها الشاحب الذابل الذي أخذ يذوي شيئا فشيئا مع ذوبان شموع الأمل وانطفائها التدريجي... وحدتها القسرية أكسبت عينيها حدة لا تتناسب مع رقة ملامحها وقوامها فبدت أشبه بشبح أسطوري لا يرى منه سوى عينيه... سعاد الشقية... سعاد الجميلة... سعاد الجريئة وقد سحقتها أيام البؤس والتعاسة في ظل شبه رجل أذلها حتى النخاع، فتحولت الجرأة إلى جبن والشقاوة إلى جمود والمرح إلى عبوس، وتمزقت روحها الحلوة الشفافة تحت أقدام جاهلة بغيضة لا ترى من الحياة غير رنين الذهب... تعاودني شهقتنا المشتركة ونحن نحتضن بعضنا بعد غياب طويل قائلة لي:
- لقد أصبحت فتاة رائعة...
تحولت شهقتي إلى غصة بكاء وألم وأنا أحتضن جسدها النحيل المتهاوي... كبت دموعي الغزيرة لتنساب داخلي دون حساب ولم أصارحها بما يدور في خلدي من أنها قد أصبحت عجوزاً في الثلاثينات من عمرها حتى يخال إلى من يراخا بأنها تكبر شقيقتي بدرية بعشرة أعوام على الأقل.

صالح وعينان كسيرتان... بيأس متغلغل في الوجدان ضارب في جذور الذات لا يرى من الحياة سوى أن يأكل ويرى وينام ويربي أولاده بلا أحلام أو أمنيات أو فرح آت....

وخالد الذي جاء مرغما من أجلي بدموع حائرة في عينيه وحزن عميق مرتسم على وجهه البائس، همس لي بضحك كالبكاء:
- لقد كبر عبد الرحمن الصغير وبدا شبيهاً بأخيه الراحل بدرجة غير معقولة...
بعد أن أنهى كلماته البسيطة أدركت بأنه لم ولن ينسى وأن الجرح يملأ فؤاده ويفيض به...

لم يأت حمد وربما لن يأتي، فأبي لم يهتم به في حياته حتى يهتم هو به عند اقتراب النهاية...

ولكنها ليست النهاية كما اعتقد أبي واعتقدنا... فبعد يومين من اجتماعنا معاً، نهض أبي من فراشه صباحا وهو أكبر نشاطا وحيوية، ثم بدأت جحافل المرض تنهزم أمام قوة الإرادة ورغبة الحياة، فبدأ بتحسن شيئا فشيئا، فأمر الطبيب بتخفيض كمية الأدوية التي يتناولها يومياً والاكتفاء بدواء واحد يتناوله مدى الحياة، وبهذا خلع أبي رداء الضعف والمسكنة والحنان المزيف ليظهر على حقيقته مارداً جباراً لا يحنو ولا يلين... انسحب الأخوة تباعاً هرباً من المخالب التي بدأت تظهر مع عودة الصحة تدريجيا إليه... لم يتفوه بكلمة عزاء لخالد بل قال له بسخرية أصابتني في مقتل:
- هل تتفاءل باسم عبد الرحمن لدرجة أن تطلقه على طفلك الجديد وقد مات لك طفل بهذا الاسم من قبل... لا تسمّ أولادك باسمي.
غلالة رقيقة من الدمع غشت عيني خالد وهو يقول:
- انتهي الأمر يا أبي... والله كريم... لن يخيب رجاؤنا إن شاء الله...

ثم غادرنا غير آسف ليترك في قلبي غصة وألم ونهراً من الأحزان... ليأتي دور سعاد في الرحيل، تشبثت بها راجية أن تطيل المكوث لدينا فترة أخرى لأفاجأ بها تنخرط في بكاء مرير اهتز معه جسدها النحيل الصغير...
وقفت أتأملها برهة قبل أن أشاركها البكاء بكل تعاسة الدنيا التي اختزنتها داخلي سألتها ودموعي عالقة بأهدابي:
- ألست سعيدة في حياتك؟
أجابتني بعاصفة من الدموع... لأعيد لها السؤال بشكل آخر:
- مملكة أنت ملكتها الموتوجة وأطفال هم أولادك زهر قلبك. لا بد أن تكوني سعيدة حتى لو لم تتبادلي عاطفة صادقة مع زوجك...
بقيت الحجرة غارقة في صمت لا يقطعة سوى صوت شهقاتها الباكية، وكأنها لم تبك منذ أمد طويل... قلت لها مواسية:
- المهم أن تتفاءلي وتنظري للحياة بمنظار وردي حتى ولو كان زوجك طاعنا في السن، المهم أن تتعاونا على تربية الأطفال وتكونا سندا لبعضكما فى الحياة...
ردت أخيراً بزفرة حرى:
- إنه ليس معي يا أحلام... لقد رضيت به ولم يرض هو بي... تحملت من أجل أطفالي كل شئ، قسوته وبخله وجفاءه وتعذيبه لي، ورغم هذا أزاحني من حياته بقسوة ليتزوج بأخري ويهجرني...
قلت مندفعة:
- ألم تطلبي الطلاق يا سعاد؟
ردت بهدوء أنكرته فيها:
- ولمن أذهب بعد الطلاق... أبوك سيطردني بالطبع... وزوجي بعد الطلاق لن يبقيني في بيت دقيقه واحدة، فهو أبخل رجل في الوجود. إنه يستبقيني الآن لأنني أمثل له خادمة بدون أجر ومربية لأطفاله...
قاطعتها بحماس:
- كلا.. كلا يا سعاد إنها ليست حياة تلك التي تعيشينها، إنها موت بطئ يجب أن تثوري على أوضاعك وأن تتطلبي الطلاق، لتبدأي حياة جديدة مع رجل آخر يقدرك حق قدرك... سعاد...
همست ودموع جديدة تلوح في عينيها:
- أحلام .. أرجوك... دعيني أرحل بسلام...
عانقتها بحرارة وأنا أبكي...

dali2000 04-05-09 03:37 PM

الجزء الخامس عشر




بدأت الدراسة من جديد... ودعنا عاما دراسيا ليبدأ آخر... ألفيت نفسي أستقبل العام الجديد بلهفة غير مسبوقة وآمال تسبقني على الطريق ونفس تواقة للحب والحنان... ابتعدت عن سعد فترة طويلة، مكانية وزمانية، فلم أحاول محادثته على الإطلاق بعد آخر محادثة رغم يقيني التام بأنه ينتظرني بشوق كل يوم أربعاء، لكنني لم أستطع... بدءاً بمرض والدي وحتى زيارة أخوتي لنا في البيت، وحتى فترة طويلة أخرى بعد مغادرة سعاد أحاول فيها مداواة الجروح التي خلفتها تلك الزيارة، وكياني الذي تبعثر جراء ظروفها القاسية... نعم كنت أخمن بأن " سعاد" ليست سعيدة، لكنني لم أتصور ذلك الرجل القميء الهزيل المجرد من العاطفة يغمد خنجراً لأنوثتها المتفجرة فيهجرها ليتزوج بأخرى.... عجباً... بدلا من أن يركع تحت قدميها منفذا كل أوامرها كفتاة صغيرة جميلة تتزوج رجلا في سن أبيها، ينعكس الوضع فيعافها هو، مبعثرا كرامتها في الأوحال ليطبق المثل القائل " رضينا بالهم والهم لا يرضى بنا" الأنكى والأمر أنها لا تستطيع التذمر ولا التمرد ولا حتى المناقشة، فهي بلا حائط تستند عليه كقطعة مشردة بلا سند ولا حماية وزوجها يعلم هذا تماما لذلك هو سادر في غيه ممعن في الهجران والإذلال مغلقا كل خطوط العودة وطرقها، لا أب ولا بيت ولا زوج... فليساعدك الله يا سعاد...

جلست صباح إلى جواري في السيارة صامتة لا تتحدث إلا لماما وتجيب على أسئلة الزميلات إجابات مقتضبة... يا الله كم تغيرت صباح، لم تعد تلك الفتاة المرحة الضحوك التي تلقي بضحكاتها ذات اليمين واليسار وتهزل أكثر مما تتحدث جادة، أغلب كلماتها كانت مزاحاً، ونصف عباراتها ضحكا وابتسامات لا تأخذ من الدنيا غير وجهها الضاحك لتتبدى الخلفية البشعة والحقيقة المهولة بأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة وبأنها مزيج من المتناقضات التي يجب أن نتواءم معها لنحيا بسلام فهي الفرح والترح، السعادة والتعاسة، الأمل والألم وعجلة الحياة تدور وتدور وكل شئ إلى زوال... عندما كشرت الدنيا عن أنيابها انتزعت معها ابتسامة صباح ومرحها وحتى صباها، فبدت كامرأة في منتصف العمر ملت الحياة كما ملتها الحياة لتعيش على حافة الجرح... تهاويات وتداعيات بلا بصيص من نور...

سألتها بمرارة متحاشية جرحها وساعية لمعرفة حالتها النفسية:
- هل أنت مستعدة للعام الدراسي الجديد يا صباح؟
أجابت بهدوء أنكرته منها:
- لا أدري... لكنني متشائمة... ربما هذا أصبح طابعي أخيراً " التشاؤم" لكنني منقبضة النفس وأرغب في النقل من هذه القرية بأسرع وقت وبأية طريقة، حتى لو دفعت كل أموالي التي ادخرتها ثمنا لهذا...

همست لنفسي: وأنا على النقيض منك يا صباح، مستعدة أن أبذل كل ما في وسعي لأبقي في هذه القرية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتي وموطناً لأحلامي وصباحا يختلف عن كل الصباحات الأخرى في أي مكان في العالم... إنه دار الحبيب، منه أستمد بقائي، وفيه تزهر عواطفي الظليلة، تسقيها شمس حبي بالماء والهواء، دخلنا القرية وكياني كله يرتجف بعنف، قلبي يخفق بشدة، وشئ ما في نفسي يتوق للمجهول... يتوق لسعادة مجهولة ونبض حبيب وآمال بلا مدى، بعد أن تبادلنا القبلات والتحيات مع الزميلات، ذهبت إلى فصلى لتقع عيناي على وضحى دون غيرها كأول ما أرى....

حادثت تلميذاتي وسألتهن كيف قضين إجازتهن وأين، لكنني كنت مع وضحى فقط أبحث في ملامحها الهادئة عن وجه حبيب يؤرقني غيابه... عن كلمات دافئة تلون أيامي بلون الفرح، عن همسات تسكب الحياة رويداً رويداً في شراييني، عن حلم وأمل وبدايات...

إليك يا رجل يسكنني بجنون، إليك حب سأسكبها في عيني شقيقتك فأصلك أنا بدلا منها... رسالتي يا حبيب العمر أنني أنتظرك... فأدركيني يا عينيها وأوصلي عمق مشاعري وحرارتها... أفهميه كيف أن الهجرة الصحراوية المهجورة تحولت إلى جنة من بساتين في وجوده... أفهميه كيف أن الأجواء الحارة ولفحات الصيف التي لا تطاق أصبحت نسمات باردة عليلة وزخات من مطر خفيف يندي الوجوه دون أن يبللها... أفهميه يا عينيها أن الطرق الوعرة أصبحت سلالم أنيقة توصل بعرش الحب وأن مدرسة القرية الطينية المتهاوية تبدلت بمدرسة نموذجية رائعة، كأرقى الأكاديميات في العالم منذ مسها الحب بعصاه السحرية... عينيها إنني أحملك أمانة فلا تخيبي رجائي....

وكأن الأمانة قد وصلت، فما إن انتهي وقت الحصة حتى فوجئت بوضحى تلحق بي قائلة:
- ابله... أمي تسلم عليك وتهديك هذا البقل، فهو من صنع يديها...
ابتسمت لها بهدوء رغم اهتزاز يدي الواضح وأنا أستلم منها الوعاء المعدني... فقد وصلتني الرسالة...

لم أفاجأ وأنا في البيت حينما وجدت خطاب سعد أسفل الأقراص اللبنية المجففة. قرأتها وأنا أتذوق قطعة منها، يسري مذاقها معاً إلى جوفي فأبتسم... أبتسم لسعد وهو يعاتبني على الغياب الطويل.... أبتسم له وهو يعلن لي حبة وشوقه ولهفته... أبتسم وهو يطلب أن يتقدم لخطبتي في أسرع وقت ممكن. أبتسم وهو يطلب أن يتقدم لخطبتي في أسرع وقت ممكن. أبتسم وهو يهديني قصيدة شعرية غزلية، هي آخر إنتاجه، كتبها لي كما قال لي وقد أضناه الشوق والهجر والحرمان، فجاءت رائعة معبرة... ابتسمت لطرفته الأخيرة في نهاية الرسالة هل تتزوجيني أم أخطفك؟....

ما إن طويت الرسالة لأخفيها عن الأعين حتى بكيت بشدة... بكيت لا أدري لماذا... ونمت وسط دموعي ترافقني رسالته في أحلامي وطعم لاذع حامض لأقراص البقل يذوب في فمي ببطء...



dali2000 04-05-09 03:38 PM

الجزء السادس عشر




لم أكن أتصور أنني سألتقي بسعد بهذه السرعة، وبطريقة لا ترقي إلى أي خيال. بل لم أتصور أن أراه أمامي رؤي العين ولا في أكثر أحلامي تفاؤلا لكنه القدر الذي يرسم لنا ما لا نتخيله ولا يخطر في قلوبنا... بعد خطاب سعد بيومين فقط، وبعد أو أوصلنا أبو راشد إلى المدرسة بساعة واحدة سقط فجأة مغشيا عليه ثم نقله بعض أهل القرية إلى أقرب مستشفى كما أخبرنا الحارس....

دارت مناقشات طويلة بين المعلمات، ثم أعلنت فوزية أنها ستهاتف زوجها ليأخذها، وسألتني إذا ما كنت أرغب في مرافقتها، لأن صباح غائبة، فرفضت بحسم، وأخبرتها بأنني سأحادث أبي بدوري، ثم تناولت عباءتي وارتديتها لأذهب مع زميلاتي إلى حجرة الحارس الخارجية، حيث يوجد بها هاتف لاسلكي. تعاونت المعلمات مع أهل القرية على شرائه ليكون حلقة وصل بين القرية وخارجها إبان الأزمات... أدرت أرقام النداء الآلي الخاص بأبي ثم انتظرت قليلاً. أدرته مرات عدة بعد ذلك وأبلغت الحارس أن يخبر أبي بمرض أبي راشد حال اتصاله وأن يبلغه بضرورة حضوره للعودة بي... ثم عدت إلى المدرسة وانشغلت في حصصي ومشاكل المعلمات التي لا تنتهي وعيني وضحي اللاقطتين. مضى الوقت دون أن أشعر به، لأفاجأ بذهاب كل المعلمات عداي... سألت الحارس، نفى أن يكون أبي قد اتصل... أدرت الأرقام مرة أخري ثم اتصلت بزوجة أبي لتبلغني أن أبي غير موجود، ثم اقترحت علي أن أعود مع أية زميلة لي... ضاقت الدنيا بي ولم أدر ماذا أفعل، فزميلاتي قد رحلن، ولم يتبق غير المديرة التي عرضت استضافتي لديها، وقبل أن أبلغها بردي، سلبا كان أم إيجابا فوجئت بوضحى تقترب مني في خجل وهي تقول:
- نحن سنوصلك يا ابله... فسيارتنا أمام الباب وأنا سأذهب برفقتك...
فغرت فاهي لا أحير جوابا ... فهتفت المديرة:
- هيا يا أحلام لا تضيعي الوقت فأبوك لم يرد عليك... ثم إنهم ناس طيبون فجزاهم الله ألف خير... هيا يا أحلام... هيا...

ثم دفعتني بيدها خارجا وهي تغلق الباب الكبير، ثم تلوح لي بيدها مودعة وكأنها تتخلص من عبء كبير يثقل كاهلها... ومن يولمها، فهي أم وزوجة ووراءها متطلبات لا تنتهي... ثم هي غير مستعدة للانتظار ساعات طويلة حتى يحضر أبي من الرياض... مشيت بلا اختيار ودلفت إلى السيارة كالمسيرة وأنا لا أدري ما حولي...

مشاعر كثيرة تختلط في كياني... خليط من الخجل والغضب والخوف والترقب والمرارة... أفكاري تتري... ما موقف أبي حيال تصرفي هذا؟ إنه ليس لموقفي القديم، فالمسافات شاسعة وسأبرر لأبي موقفي بشتى الطرق. إنني لم أفعل جرما أستحق عليه العقاب... إنني فقط سمحت لتلميذتي... وشقيقها بتوصيلي... يا إلهي... شقيقها... أنه سعد... سعد بشحمه ولحمه وهو السائق، هو من سينقلني هذه المسافة الطويلة إلى بيتنا.... وهو وأنا وشقيقته... لا يفصل بيني وبينه إلا نصف متر أو أقل، رائحته المميزة تقحمني بعنف، تحاصرني من الجهات الأربع، تنتزع سلاحي وتصفعني بوجودها فلا أملك إلا الاستسلام. صوته يخترق أذني رائقا شفافا قريبا تحمله لي ذبذبات الهواء التي نتنفسها جميعا ليصل لي مباشرة دون وسائط، طازجا كأنه رغيف خرج لتوه من الفرن... يداه السمراوان بعروقها النافرة وبساطتهما العجيبة أراهما أمامي على المقود، أكاد ألمسهما بيدي وأري كيف تعبر الدماء وتتدفق إلى هذه اليد السمراء الخشنة... شعره الناعم اللامع الذي تتدلي بعض خصلاته من تحت غطاء الرأس سوداء حالكة متحدية وكأنها تتحدي أصابعي المتجمدة أن تعزف عليها أحلي النغمات...

رباه أن القرب مخيف وممتع... حلو ومغرق في المرارة... كيف يكون فتي أحلامي قاب قوسين أو أدني مني؟ كيف أري خيالي متجسداً أمامي على أرض الواقع مرتديا عباءة الحاضر يلتحف بالممكن والمستحيل... إنني لا أعي قربه، لا أعي غير هذه الجاذبية الشديدة والذبذبات اللأمرئية التي تشدني إلية، وكأن وضحي ليست موجودة، وكأنها تمثال من تماثيل الماضي السحيق، أو قابلة متمرسة تشهد ولادة حب نادر الوجود لا يولد إلا مرة كل مائة عام... ويحي إنه يحادثني فبماذا أرد عليه؟

- فرصة سعيدة أن نري أنا ووضحي منزلكم...
مضيت أرتجف بعنف، فماذا أقول وكيف أتكلم وكيف تخرج الكلمات ولساني ملتصق بسقف حلقي رافضا التحرك... الحب الهادر يلفح أجوائي بنيرانه الحارقة وخوفي من أبي يشلني حتى الصدمة، فأي حمق وأي جرأة وما هذا الذي أفعلة بنفسي؟ أخيرا خرج صوتي مرتجفا مبحوحاً:
- لو علم أبي يا سعد بأن رجلا أوصلني إلى بيتنا سيقتلني حتما...
جاءني صوته حنونا مطمئنا:
- أحلام أنت لم ترتكبي خطأ... لقد علمت من وضحي أنك حاولت الاتصال به مراراً... فماذا تفعلين أكثر من هذا؟ هل مبيتك بالمدرسة أهون ضررا من أن توصلك إحدى زميلاتك إلى البيت؟
- لكنه... أقصد... حصل في وقت سابق أن أوصلتني إحدى زميلاتي مع شقيقها من الجامعة إلى البيت ... فكدت أموت على يديه...
لمجت ابتسامته الجانبية وهو يقول:
- لن تموتي إلا إذا قدر الله لك ذلك...

ثم انسابت الموسيقي الهادئة لتنزع الرعب والهلع من أعماقي وتلقيها بعيداً كزبد البحر.. . ثم تغلغل صوت المطرب العذب إلى كياني ليحلق بي بعيداً بعيداً في جزر لم تلمسها قدم أنسان من قبل وأنهار عذبة وبساط أخضر في كل مكان... أشعر أن الصوت يحتويني، يزلزلني... يخترقني حتى النخاع ( فحبيبة قلبك يا ولدي ساكنة في قصر مرصود... فمها مرسوم كالعنقود... ضحكتها أنغام وورود) أذوب في عوالم وردية لا نهائية ... الصمت هنا له لغة ... لغة تركع أمامها كل اللغات... لم أعد أحس بالطريق ووعورته... بالصحراء المترامية الأطراف التي اعتدت التطلع إليها يوميا عبر النافذة... اللوحات الزرقاء التي حفظتها عن ظهر قلب وأسماء القرى والهجر الغربية التي نمر عليها في رحلة الذهاب والإياب... وهلعا... العبارات التي تصافح أعيننا صباحا وظهرا كل يوم... الحمد لله... مع السلامة.. رافقتكم السلامة... وغيرها من العبارات التي غابت بعض حروفها، فغدت أقرب للملهاة منها لغرضها الأساسي... تلاشى كل هذا ولم أعد أرى سوى شخص واحد يقود أمامي تطالعني تعبيره العاشقة في مرآة السيارة، فتملأ نفسي فرحا وحبوراً... انتهي الوقت بسرعة لا أدريها فلم أدر بنفسي إلا وأنا أصف له الطريق إلى بيتنا متعجبة من السرعة التي وصلنا بها وقد كنا مع أبي راشد نقطع الطريق بأوقات طويلة مملة لا تنتهي. ما إن وقفت السيارة أمام الباب، ووضعت يدي في يد وضحى لأسلم عليها مودعة حتى خرج أبي لا أدري من أين... كمارد خارج لتوه من قمقمه... نظر إلى السيارة ومن بداخلها نظرة صاعقة قاتلة ارتعدت لها فرائصي... تحادث مع سعد بكلمات بسيطة، فهمت منها أن سعد يشرح له كيف عرضت عليه شقيقته أن يوصلاني إلى البيت...

في البيت تلقيت صفعات دار لها رأسي فنسيت كل شئ....

dali2000 04-05-09 03:40 PM

الجزء السابع عشر




علمت أن زوجة أخي حمد حامل توأ- نقل شقيقي حمد من القريات إلى الرياض نقلاً تأديبياً!!
جزعت لهذه العبارة ليتابع صالح هامسا:
- قد نقل إلي مستشفى الرياض المركزي وطلب مني أن ابحث له عن سكن بسعر مناسب...
خرج صوتي هزيلا لا يتناسب مع عظم الموقف:
- لكن يا صالح ماذا فعل حمد لينقل بهذه الطريقة التي تسئ إليه؟
قال بتردد :
- إنه لم يشرح لي كل شئ بتفاصيله ...لكنه قادم إن شاء الله خلال أيام ويمكنك حينها أن تسأليه ....

حمد أحد ضحاياك يا أبي وليس آخرها ... ماذا فعل ليستحق هذا المصير البشع المهين لأي إنسان ....نقل تأديبي ... ما معناه ... نقل بالرغم عنه ، نقل للتأديب والتهذيب ، نقل عقاباً لشيء فعله .. شئ كبير ومنذر بالخطر يتكافأ وهذه النهاية السيئة ، ترى هل غش أو سرق أو قتل أم ماذا بال ضبط ؟ منذ غادرنا قبل سنوات وأنا أجهل مصيره ... كل ما عرفته أنه التحق بالمعهد الصحي في تبوك ثم تخرج ممرضاًً ، ليتعين في مستشفى القريات العام ، ثم تزوج من إحدى زميلاته الممرضات التي أحبها قبل الزواج وسكن إلى جوار أهلها ، ثم لا شئ سوى أنه بصحة جيدة ويحيا حياة زوجية طبيعية ... لكن هذا الموقف الأخير زعزع كل أفكاري السابقة وأدركت أنه ربما كان يعيش في محنة ...

منحة قادته إلى المصير المؤسف الذي يرهبه أي إنسان طبيعي... ألا تشعر بالخجل يا أبي ...بالأسف ؟ أي شعور ينتابك وولدك يعود إليك بعد سنوات مبعدا مهانا مطرودا وأصابع خفية تشير إليك بالاتهام بأنك السبب في كل شيء ، خروجه وعودته ، سفره الهارب وعودته الاضطرارية، ابتعاده بحلم وعودته القسرية بحلم مجهض ، تحطم آماله ومستقبله على صخرة قسوتك وظلمك ... أشعر بآلام شديدة تفري عظامي ، ليست هي آلام ضربك المبرح لي ، بل هي معاناة أخوتي سكنت جسدي وأبت أن تفارقه...

تردد صالح قبل أن يقوله وكأنه يقرأ أفكاري أو رأى دلائل الألم على وجهي :
- أما زلت تتألمين لضرب أبي ؟
كفكفت دمعة فرت من عيني ، ومضيت دون أن أجيبه على تساؤله ... فلم يكن يهمني ضرب أبي لي بقدر ما آلمتني الزوبعة والفضيحة التي أثارها دون أي داع، وما زلت أتذكر أصداء الصفعات وهي تتردد في جنبات البيت و هو يصرخ بأعلى صوته :
- الفاجرة ...سأقتلها ولن أرحمها....

تدخلت زوجة أبي دون جدوى، ولما شعرت بأنه سيقضي علي، اتصلت بشقيقي صالح على عجل ويتلقفني منه كجثة هامدة بدون أي روح... وأبي يهدر بكل قاموسه المعروف من الشتائم البذيئة، ثم حلف بأغلظ الأيمان أن يفصلني من عملي ويحسبني في البيت... أغمي علي، ولم أعد أشعر بشيء حتى صباح اليوم التالي...

أفقت بجسد مضعضع متهاو ونفس كسيرة وأنة وروح تمزقها الآهات، لم أستطع تحريك ذراعي أو قدمي، فانسابت دموعي غزيرة لاذعة لتثبت لي بأن الجسد مهما تمزق أو فني، فإن الروح باقية نشطة لا يحدها حد ولا تربطها قيود. وقتها تذكرت أحد حكماء الهند " راجيش" حينما قال: " إذا ربطوا يديك وقدميك بالسلاسل وكبلوك بالأغلال فلا تيأس... فباستطاعتك أن ترقص أليس كذلك، وأن تجعل من رنين أصوات السلاسل نغماً ترقص عليه" وأنا لم أرقص لكنني بكيت، بكيت وجحافل اليأس تدب في أعماقي وطاردة كل أمل لي في حياة باسمة سعيدة، وصورة سعد تغيب شيئا فشيئا عن عالمي مخلفة بؤراً صديدية وحرماناً... وفي ضباب الآمي وأوهامي جاءتني زوجة أبي وشقيقتي بدرية يعلنان لي بأن أبي قد عفا عني وسمح لي بالعودة إلى عملي بشرط الالتزام بكل قوانينه بحرفيتها، ثم حاولت النهوض بكل ما أستطيعه من قوة لأجثو على قدمي أبي أبللهما بدموعي طالبة العفو والمغفرة... ليعفو عني بركلة من قدمه وهو يهتف:
- لو كررت هذا ثانية فلن يمحو عارك إلا القبر...

بكيت على صدر شقيقتي بدرية وصالح يثبت لي بأنه متفهم للأمر، وأنني لم أفعل شيئا يستحق أي عقاب، وأن مرافقة زميلتي وشقيقها ليس عيبا على الإطلاق... ابتلعت غصة ألم وأنا أحاور ذاتي " آه لو تدري يا صالح من هو شقيق زميلتي هذه كما تسميها... آه لو تدري، إنه حياتي التي أعيشها ودنياي التي أحياها".

لكن أحدا لم يعرف ما بداخلي سواي، ومضيت أجتر آلامي في صمت وأنا أترقب عودة شقيقي حمد المحبطة...

حضر حمد وزوجته ذات مساء... هالني الفارق الشديد بينهما، هو بوسامته اللافتة وطوله الفارع وبشرته الوضاءة، وهي بقامتها الضئيلة ودمامتها المنفرة وبشرتها المائلة للاصفرار...

كان هذا أول شئ لفت نظري فيهما، ثم اكتشف أنهما بدون أطفال وأدركت أن هذا الأمر يشكل لهما مشكلة حينما سألت حمد بعفوية:
- أليس لديكما أطفال؟
حينها فقط تجهم وجهه وغابت الإشراقة المميزة عن ملامحه لتعبر سحابة سوداء عينيه، فتمتلئ بالدموع المتجمدة اليائسة...
أجابت زوجته وهي ترتجف:
- بلي.. ليس بعد...

ندمت على سؤالي، وأيقنت حينها أنني قد وضعت ملحا على الجرح ينزف فزدته ألما واشتعالاً... تقلصت عضلاتي ألما وحسرة، فنكست برأسي دون أن أنبس بحرف وكأن شقيقي قد استشعر ندمي وألمي، فهمس لي بأنه سيوصل زوجته إلى البيت ثم يعود ليسهر معي....

وكانت سهرة دامعة دامية أثارت لواعجي وبثت الحزن والألم في نفسي طويلاً. فقد حكى لي قصة حبه وعذابه حيث التقي بزميلته الممرضة في المستشفي نفسه... التقاء روحي ليس أكثر، أعجب بنشاطها وذكائها وكفاءتها.. وبادلته إعجابا بإعجاب، فنما الحب وتطور ونضج، ولم يكن من نهاية ملائمة له سواي الزواج، فتقدم لأهلها خاطباً ورحبوا به أيما ترحيب، ولم يسألوه عن أهله وأبية ولم يشترطوا عليه أي شروط، بل كان كل شئ سهلا ميسرا بشكل يدعو للريبة والخوف من المستقبل، فلا سعادة نقية خالصة بدون شوائب ولا طريق ممهد بدون عراقيل وأسلاك شائكة، فبدأت رحلتهما المرهقة المكلفة بعد شهر واحد فق من زواجها بدون حمل... بدأت الرحلة في المستشفيات والمراكز الصحية المجاورة ثم تجاوزتها إلى المستشفيات الخاصة الباهظة الثمن... لم يكن الموضوع عدم ثقة بالمستشفي الكبير الذي يعملان به سويا لكنه الخوف من انتشار المر بين زملائهما، فيصبحان موضوعاً للحديث ومادة للتندر والسخرية أو على أحسن الفروض تحوطهما نظرات الشفقة والرأفة بحالهما وهما لا يريدان شيئا من هذا... يريدان تعاطفا حقيقيا نابعا من قلب، صادقا مخلصا وبمرور السنوات بدأت مدخراتهما تنفد وديونهما تزداد والأمل يذوي شيئا فشيئا في نفوس متعطشة لطفل واحد فقط يملأ عليهما حياتهما ويسقي بذرة الحب التي بدأت تعاني من جفاف المشاعر وتصحر العواطف. طفل واحد يا أحلام ولا أريد غيره أبدا أبدا....

وأطلق تنهيدة انخلع لها قلبي وارتعدت لها أطرافي، فلم يسعني سوى أن أقول...
- إن الله كريم يا حمد ولن يخذلك أبداً...
نظر لي بدهشة وكأنه في يشك إيماني ثم هتف بمرارة:
- سبع سنوات من الزواج بدون أي ثمار... هل هناك أي أمل؟
قبل أن أتفوه بكلمة تابع بحزن:
- أتدرين... لقد اضطررنا للجوء إلى المستشفى نفسه الذي نعمل به وهو ما حاولنا تحاشيه مراراً... لكن حالتنا المادية المتدهورة وسفرنا المتكرر خارج البلاد أوصلنا إلى طريق مسدود، فلم نجد بدا مما ليس له منه بد فحادثت أفضل طبيب استشاري في المستشفى، وبدأنا نخضع لعلاج مكثف وأدوية باهظة الثمن صرفها لنا الطبيب من صيدلية المستشفى... لقد كان سبب مشتركا بيننا... فأنا أعاني من ضعف في الإخصاب، وهي دورتها الشهرية غير منتظمة والتبويض ليس طبيعياً، ومع هذه الأدوية وعلاج الطبيب المتمكن ارتفعت نسبة الإخصاب لدي وانتظمت الدورة الشهرية لزوجتي...

صمت حمد فجأة فرفعت وجهي إليه لأجده هائما يحدق في الفراغ وكأنه قد نسي وجودي كليا وغرق في عالمة الخاص... ذلك الماضي الذي يحمل بين طياته كما هائلا من الأحزان والمواجع تشي بها عيناه الدامعتان وحركات يديه العصبية. لم أشأ أن أقاطع صمته أو أستحثه على الكلام، فقد توحدت معه في دنيا مضخمة بالحسرات تخلو من صدر الأم الحنون وعطف الأب ومؤازرته وتشتت الأخوة ومعاناة مستمرة مع الحياة...

" خلق الإنسان في كبد" همست بها دون أن أشعر لأنتشل شقيقي من رحلته الداخلية إلى دنيا الواقع... تنهد قائلا:
- نعم ... نعم صدقت الآية الكريمة " خلق الإنسان في كبد" مكابدة مستمرة وصراع من أجل البقاء... لن تصدقي حينما أخبرك بأن زوجتي قد كتب لها الله الحمل على يد هذا الطبيب الشهير لكنه لم يتم، ولا أستطيع أن أصف لك مهما عبرت عن مشاعر الفرحة الزاعقة والسرور الطاغي، ما إن علمت بالخبر ثم التعاسة الخالصة والحزن القاتل اللذين أعقباهما... أتدرين ما معني أن يتعرض إنسان ما لمشاعر متناقضة بل شديدة التناقض في وقت وجيز تماما كما يحدث للجسد حينما يتعرض لحرارة ثم برودة والعكس... إنه يمرض ... ينهار... يفقد صوابه أو يتخبط، وهذا ما حدث لي يا أحلام... لم أتحمل رؤية أحلامي وهي تنهار أمام عيي دفعة واحدة. لم أتحمل الأمل وهو يتحول إلى وهم وسراب، وطفلي المنتظر يتمزق إلى أشلاء يحويها التراب... جننت... افتعلت مشاجرة مع الطبيب واتهمته فيها بتعمده إجهاض زوجتي... حاول أن يفهمني وأن يشرح لي، لكنني صددته... وتطور النقاش إلى أن اتهمه بسرقة الأدوية من صيدلية المستشفي وبيعها... هنا فقد الطبيب هدوءه وصبره فطردني من العيادة ليتطور الأمر بعد ذلك إلى تقديم شكوى ضدي، تلتها شكاوى من زملائي بأنني أهملت عملي في الفترة الأخيرة وأعاملهم بشيء من الحدة والعصبية، ثم شكوى من مديري المباشر بأنني لا أصلح للعمل، ثم تم عمل تحقيق، وأحمد الله على نتيجته فليس النقل التأديبي لمنطقة أخري كمثل الفصل من الوظيفة أو الوقف عن العمل أو أي عقاب آخر...

لا تحزني من أجلي يا أحلام، فصدقيني أنني لست حزينا فليس هناك في تلك المنطقة ما أحزن من أجله حتى ممن ارتبطت معهم بصداقات عميقة ، فقد بينت لي هذه الأزمة أن صداقتي لهم أوهي من خيوط العنكبوت، وأنه لا دائم سوى وجهه سبحانه وتعالى... والأمل في الله كبير...

خرج صوتي مبحوحاً خشناً وأنا أقول:
- إنك لم تفعل شيئا منه يا حمد، فقد كانت مشكلتك مع الطبيب منطقية من وجهة نظرك، لكنها الظروف السيئة التي وضعتك في هذا الموقف... ومن يدري " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" فربما يكون انتقالك إلى هنا بداية عهد خير ونماء بالنسبة لعملك وحياتك ككل... المهم أن تستقبل حياتك الجديدة يأمل وبنظرة تفاؤل وحب، ولن تخسر بإذن الله...

انسحب حمد لأبقى بعده فترة طويلة عاجزة عن استرداد ذاتي وكأنني أقف على فوهة بئر عميقة أمد يدي بدون طائل جاهدة لانتزاع نفسي المفقودة في قاع البئر. رباه ماذا فعلت بالدنيا وماذا فعلت الدنيا بي؟ تضعني على حافة المآسي... مأساة وكأنني أفتقد التعاسة داخلي لتمتلئ كأسي المترعة بالمزيد حتى الفيضان وتصفعني بالحياة الصفعة تلو الصفعة حتى لم أعد أقوى على تحمل المزيد...

أخوتي ومعاناتهم التي أحملها، هموم تضاف إلى هموم، وعناء يثقل كاهلي، أتألم لألمهم وأعيش حياتهم مرتين، حتى أنني أكاد أنسى حياتي ومستقبلي وشبابي الذي تسرب من بين أصابعي كدفقات الماء....

صفعات أبي لا تزال موسومة على خدي تؤرخ نهاية حريتي وبداية معركتي الخاصة مع العالم وأولهم أبي... لكن الصفعات تلاشت وكأنها رذاذ مطر عابر، ليغرقني طوفان أحزان أخي حمد وأنسي على أثره كل شئ حتى نفسي..

توضأت وتأهبت للصلاة " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وانبثقت الدموع من عيني حارة صادقة وحقيقة ... يا رب... يا ودود ... يا ذا العرش المجيد ... فعال لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام ونورك الذي ملأ أركان عرشك بأن تهب أخي حمد ذرية تحمل اسمه... يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني... لم أفاجأ بعد ذلك بشهور حينما علمت أن زوجة أخي حمد حامل توأم....

******************


الجزء الثامن عشر





أحبك لكنني موجـــــــــــــــع *** فهل أنت يا هاجري تسمع
صددت فأدميت مني الفــــؤاد *** فلم تهدأ النفس والأضلع
ولم أر بعدك ما يستـــــــطاب *** ولم أر بعدك ما ينفــــــع
وإن غرد الطير فوق الغصون *** عجبت له صادحاً يسجع
وأصبح قلبي كطفل يـــــــنوح *** يدور ويطلب من ضيعوا

ورقة وردية معطرة تفوح عذابا وأنينا وقعت في يدي وأنا أصحح دفتر وضحى. لبثت برهة لا أريم وأنا أحدق في الكلمات السجعية أمامي، ثم سحبتها ودسستها بلطف في جيب معطفي وقلبي يخفق بعنف.... ألن يكف هذا الفتي... أن ينسي ... ألن يسلو... حتى متى... وإلى أين؟

تراءى لي وجهه الوسيم ينبثق من وجه شقيقته... عيناه السوداوان تبثاني الشوق والهيام، وابتسامته المميزة تتلو آيات الحب والحنان، ملامحه الوادعة تسألني ألا أبتعد وأسلو...
- أبله... هل تريدينني؟
هززت رأسي وأنا أعيد لوضحى دفترها وأخرج من الفصل إلى حجرة المعلمات لأجدهن يتناقشن بصوت هامس على غير العادة... أمرتني إحداهن بأن أغلق الباب بهدوء فأيقنت أن في الأمر سراً....
قالت فوزية:
- أحلام لقد قررنا جميعاً تقديم شكوى في مديرتنا لمكتب الإشراف التربوي بالمنطقة ثم لمدير التعليم أيضاً...
وقبل أن أسال لم... تابعت فوزية بصوتها الهادئ...
- أنت تعرفين بأنها غير عادلة في المعاملة بيننا خاصة نحن السعوديات والأخريات بنات بلدها. ففي اجتماعاتهن السرية لا نحضر وفي الحصص نصيبهن أقل منا وهن من يتولين الإشراف على الأنشطة وأمور الطالبات... أيضا معاملة هذه المديرة لنا غير لائقة فهي عصبية تشتمنا بداع وبدون داع وتعاملنا بحدة ولا تقبل تأخيرنا في الصباح مهما كانت الأسباب...
قالت فاطمة:
- و لا تنسي ما فعلته معي قبل أيام حينما دخلت على الفصل واتفقت مع الطالبات أمامي على إلغاء الامتحان دون أي اعتبار لوجودي وكثير من المواقف الأخرى التي لا ننساها...
تكلمت صباح بهدوئها الذي اكتسبته أخيراً...
- هذه الورقة دونا فيها أسماءنا جميعا لنرفعها إلى المكتب الإشراف... هيا دوني اسمك ووقعي على الورقة...
ألقيت كتبي جانيا وأنا أهتف:
- لن أوقع؟
صرخت الزميلات في وقت واحد:
- أحلام...
تجاهلت صرخاتهن قائلة:
- عزيزاتي صدقنني لن نجد أفضل من هذه المديرة... ولكل إنسان في الدنيا سيئات وحسنات... إيجابيات وسلبيات... وإيجابيات هذه المديرة تغطي سلبياتها ولا أخفيكن بأنني مرتاحة جدا معها لدرجة أنني لا أود النقل إلى الرياض...
ضحكت إحدى الزميلات باستهزاء... وتهامسن أخريات، فقالت صباح بدون مواربة:
- مرتاحة مع المديرة أم مع وضحى....

جفت ريقي فجأة وامتقع لوني فلم أستطع الرد... لبثت لحظات أحاول أن أستجمع شتات نفسي وأستعيد هدوئي ورباطة جأشي لأتمكن من الرد... ولكن ماذا أقول وأي كلمات ممكن أن تسعفني؟ فمن الواضح أن أمري قد انكشف بين الزميلات وربما في المدرسة ككل بل قد يكون الأمر قد تعدي الهجرة أو القرية بأسرها... يا إلهي... رغم تكتمي للأمر ومحاولتي مداراته بكل الطرق الممكنة والمستحيلة وإخفاءه بقدر الإمكان، اكتشفت مؤخرا بأن العالم أجمع يعلمون عداي أنا... ترى ماذا يعلمون وإلى أي مدى انتشرت أخباري وعلاقتي بوضحى وشقيقها والمراسلات السرية بيننا...

سيطرت على نفسي بصعوبة وتظاهرات باللامبالاة وأنا أقول:
- إن وضحى إحدى طالباتي المتفوقات لذلك فأنا أحبها وأميزها عن بقية الطالبات...
رنت ضحكة ذات مغزى وقالت فاطمة بسخرية مبطنة:
- نتمني ذلك...
اشتعلت غضبا وامتلأت نفسي بالحنق والخجل والاشمئزاز، فمضيت خارجة لا ألوي على شئ ولم أتناول فطوري... استوقفتني صباح قائلة:
- أحلام ... الورقة...
قلت دون أنظر إليها:
- لن أوقع شيئا لست مقتنعة به...

وفي طريق العودة إلى الرياض جلست إلى جوار صباح كعادتي أحيانا... لكنني كنت أعاني تشتتا داخليا مفزعا وأسئلة شتى تطرق رأسي بلا جواب... ماذا عرفت الزميلات بالضبط؟ هل تحدثت وضحى إلى أحد؟ هل اكتشفت شخص ما علاقتي بسعد؟ وما مدى انتشار هذا الاكتشاف؟ هل هو على مستوى المدرسة أم على مستوى القرية ككل؟ وماذا سيحدث لو انتشر الخبر بين زميلاتي؟ كيف ستكون نظرتهن لي؟ وهل سيصل الخبر لأبي فيقضي على حياتي فورا؟ هل أسأل تلك القابعة إلى جواري بصمت لعلها تخفف بعض ما بي؟

ترددت قليلا قبل أن أهمس لها بوجل:
- صباح.. هل... هل... أعني خبر...
قاطعتني بحدة:
- اطمئني فقد مزقنا الورقة وألغينا الشكوى... هل ارتحت الآن؟

وفعلا تنفست الصعداء بأنني لم أتهور وأسألها ما كنت أنوي معرفته، فمهما يكن من أمر، في لحظة أن أحادث" سعد" بما علمته وأسأله الحل...

وفي الموعد المتفق عليه أدرت أرقام الهاتف بأصابع مرتجفة وقلب واجف وعينين حائرتين... كنت أخشى ألا أجده في المكان والزمن نفسيهما ولا أجد من يشاركني هذا الحمل الثقيل الذي ينوء به كاهلي وسمعتي التي أصبحت في مهب الرياح عرضة لكل عاصفة هوجاء وألسنة لا ترحم... إنني لا أخشى على نفسي فقط، فشرفي وكرامتي ليسا ملكي بل هما أمانة أهلي وأبي وأشقائي وأحملهما كرسول يحب أن يحافظ عليهما، ليعيدهما كما هما إن لم يكن أفضل... إنني أحترم اسمي واسم عائلتي عن عقيدة بأن هذا واجب وليس ترفا... أساسي وحتمي وليس جانبيا أو لهوا وعبثا...

صوته الممتد عبر الأسلاك يزلزلني ... يخترق كياني:
- أحلام ... هل أنت مريضة ... ما بك ...لقد انتظرتك طويلا طويلا دون جدوي... هل أنت بخير؟
وتدافعت الكلمات على فمي... تدفق صوتي يحكي له بحرارة عما سمعت ورأيت، عن خوفي وألمي، ترقبي وضياعي، استهزاء الزميلات وغمزهن... سألته في النهاية... هل يعلم أحد ما عن شئ؟
قال بصوت واثق بعث الهدوء والاطمئنان إلى نفسي الخائفة:
- إننا لا نفعل ما هو خطأ أو عيب... ولا يعلم عن علاقتنا الشريفة سوى شقيقتي وضحى وهى لم ولن تخبر أحد ولا تجرؤ على أن تفعل ذلك وهي كتومة جدا بالمناسبة... لكن لا تخشى شيئا ربما لاحظت إحدى زميلات المراسلات بينك وبين وضحى فتوقعت شيئا ما أو شعروا أنها تخصك بالهدايا وحدك ... لكن .. أحلام... لقد قررت التقدم لخطبتك في أسرع وقت ممكن ولن أقبل معارضتك في هذا الأمر...
شهقت بفزع حقيقي:
- إن أبي يعرفك منذ أن قمت بتوصيلي إلى بيتنا وسيكتشف كل شئ....
قاطعني برقة:
- ليس بيننا شئ معيب ليكتشفه ثم إنني أتقدم لك على سنة الله ورسوله ولا أبغي منه أن يبارك لنا الزواج ولن أرفض أي طلب له حتى لو طلب مال قارون... ما رأيك؟
ضحكت بسعادة وأنا أتناسى وجه أبي... أردف قائلا:
- سأحضر لكم بعد غد ومعي أبي وأمي وشقيقي... وسيجمعنا بيت واحد قريبا إن شاء الله وسأسكن معك في الرياض حالما ينتقل عملك إلى الرياض... لكنني أود أن أسألك ماذا تحبين أن يكون اسم طفلنا الأول؟
ضحكت حتى دمعت عيناي وأنا أجيب:
- ليلة الزفاف سأخبرك....

ولم أنهم ليلتها... إحساس بالسعادة أوصلني لمرحلة التعاسة فلم أضحك في حياتي ضحكة قط إلا وأتبعتها بكلمة (اللهم اجعله خير ) هكذا هي أنا أرى السعادة تحمل التعاسة و ألوان الفرح المضيئة تخفي بين طياتها ألوان الحزن القاتمة ولا تعبر البسمة حتى تعقبها دمعة ، لذلك أخشى أيام السعادة وأرتعد خوفا من فرح آت لا ريب ، فخنقت فرحتي تلك الليلة بتشاؤمي المعهود ولم أطلق لخيالي العنان كبقية الفتيات لأتصور ليلة زفافي الرائعة وثوبي الأبيض الناصع يحوطني سعد بذراعه ويجتاز معي خطوات نحو الأمل والسعادة القصوى ... كلا ... كنت أركز أفكاري فقط على الأيام القادمة وما سيحدث بها ...

يوم الجمعة الساعة السادسة مساء ... ما إن خرجت من الحمام حتى تلقفتني زوجة أبي هامسة بأن هناك ضيوفا يرعبون في رؤيتي ... ارتعدت أوصالي بعنف وتسارعت دقات قلبي وأنا أسألها من هم لتشير علي بأن أتبعها بسرعة ... أدركت أنه سعد ... هرعت إلى حجرتي لأنتقي ثوبا للمناسبة ، ولسرعتي واضطرابي لم أجد الثوب الملائم فأخرجت كل أثوابي من الخزانة وألقيتها على الفراش ، ثم وقع اختياري على زي المدرسة اليومي ، قميص أبيض محلى بنقوش سوداء و تنورة سوداء طويلة ثم شرعت في تهذيب شعري الطويل وتجميل وجهي ببعض الرتوش الخفيفة ... وأسرعت إلى حجرة الضيوف لأجد وضحى بوجهها الباسم الخجول تجلس إلى جوار والدتها ... أخذت مكاني بينهم لحظات قبل أن أسمع صوت أبي وهو يعلو ثم صراخه الذي أخذ يتردد في أنحاء البيت :
- ابنتي ليست للزواج ... إنها مخطوبة ...

نزلت علي كلمات أبي كالصاعقة ، فلم أحر جوابا بل مضينا نتبادل نظرات صامتة ذاهلة تغلب فيها الدهشة والتعجب على أي إحساس آخر ... ثم علا صوت أبي مرة أخرى ... علا أكثر فأكثر فملأ الفضاء من حولي وسد جميع الثغرات ليختبئ الصمت في أعماقنا خوفا و خجلا ... قال أبي مواريا آمالي التراب وموجها أولى رصاصاته إلى قلبي :
- قلت لك ليس لدي فتيات للزواج ... إنس الأمر ولا إلى هنا مرة أخرى وإلا طردتك ... ابنتي زفافها بعد شهر واعتبر نفسك مدعوا منذ الآن ...

ضباب كثيف هبط على نفسي فجأة ، فلم أعد أرى شيئا أمامي سوى سماء سوداء كئيبة وطرق تلتف حولي كأفاع سامة تود التهامي ... وخراب في كل مكان ... انهارت معنوياتي وفقدت كل أحلامي دفعة واحدة ، فلم أعد أرى يستحق العيش لأجله أو تحمل الحياة من أجل عينيه ... جفت عيناي فلم أبك وانهمرت دموع الداخل بلا حساب و تزدحم الشهقات الباكية في صدري دون أن تخرج، فتفرز غيظا وقهرا بلا حدود ... أسرعت خارجة من الحجرة دون توديع للضيف إثر كلمة أبي القاطعة ( مع السلامة ولا تريني وجهك مرة أخرى ) .

استوقفتني زوجة أبي فد فعتها عني دون أن أرى ومضيت أصعد السلالم وأشلائي تتمزق مع كل خطوة أخطوها وصوت أعماقي يبعثرني هاتفا: لماذا... لماذا ... لماذا يا أبي ؟ ليأتيني الجواب سريعا على غير انتظار بصفعة مدوية على صدغي ثم أخرى وأخرى وهو يهدر غضبا :
- أوصلك إلى البيت ثم حضر ليخطك ... ما معنى هذا ؟ ما معنى هذا؟ على حافة الانهيار كنت حينما أمسكت أذناي بتلابيب صوته الجهوري وهو يصرخ :

- الفجور والانحلال مكانهما ليس بيتي ، قبل الآن ... قبل أن أغيب عن الوعي أطلق على قلبي رصاصته الأخيرة وحكم علي بالإعدام ...

- استعدي ... زواجك على أبي علي بعد واحد فقط.. لقد طلبك مني مرات عديدة والآن فقط سأجيبه لطلبه ...

أبو علي ... من هو أبو علي هذا... رباه ... كلا ... إنه الشيخ السبعيني تاجر قطع الغيار ،زوج لامرأتين وأب لخمسه عشر ولدا و بنتا ... إنه مصير سعاد يعود لي مرة أخرى ... كلا بل إنه أسوأ من مصير سعاد ، ثم دخلت في غيبوبة أنستني كل شيء مؤقتا.




dali2000 04-05-09 03:41 PM

الجزء التاسع عشر


لم أكن أدرك قبل الآن أن المصائب لا تأتي فرادى بل جماعات وركائب متتالية لمن يعيشها بأنه ليس وحده المصاب والمبتلى، ففي قمة عذابي ويأسي ومصابي شق أذني صراخ ليس غريبا على مسمعي... صراخ حبيب ذكرني بصراخ أمي حينما أهداها أبي الزوجة الأخرى. انقبض قلبي بشدة وتهاوت أقدامي وأنا أسمع صوت شقيقتي بدرية تصرخ من أعماقها... أسرعت أهبط السلالم وبرودة غريبة تسري في جسدي ومئات الخواطر تتزاحم في مخيلتي عما يكون قد جرى لها، دعوت في سري ألا يكون شئ ما قد أصاب أحد أولادها فهم كل حياتها ومستقبلها...

بيد أن دعوتي ربما لم تصل إلى السماء حالما سمعتها تسرد ما حدث لها لزوجة أبي... كنت أقف في آخر درجة من درجات السلم وصوت بدرية يصلني حيث أنا، بل يتردد في أرجاء البيت متعبا متهالكا حزينا، فوقفت في مكاني لا أبرحه تتناهى إلىّ كلماتها الحائرة... سعود طفلها الأكبر ورجلها القادم وفارس أحلامها وأحلام أطفالها الآخرين... سعود الفتي ذو السادسة عشرة من عمره من غذته بدمها ودموعها وأنينها... من نفخت فيه روح الرجولة صغيرا وأطعمته أحلامها وأمانيها وزرعت فيه الحب والخير لك الناس... سعود ذلك الأمل الصغير الذي بدأ يكبر ويكبر ليتضاءل كل شئ ويبدو الأمل سرابا والحلم وهما والمستقبل ضربا من الجنون... سعود ذلك الطفل الذي تشرب اليتم صغيرا وتلفت حوله بحثا عن قدوة ومثل أعلى لرجل يقتدي به في كل أفعاله فلم يجد سوى امرأة... امرأة كسيرة مهيضة الجناح محطمة ممزقة تنظر إليه على أنه إله أو شئ مقدس، فتعطية كل شئ بلا مقابل لمجرد ذكورة مؤجلة وتعطش مرير لرجل يملأ البيت بالهيبة والتقدير... ميزته أنه الذكر الأول يليه بعد ثلاث بنات وذكر آخر... أمل صغير آخر لكنه ليس بحجم الأمل الأول والأكبر. تدفقت عليه ينابيع الحنان من أم تعايش عاطفة بلا رجل وأنوثة بلا رجاء، وأحاسيس معطلة حتى إشعار آخر... ظلم سعود... رغم طفولته وكم الحنان الهائل فقد كانت المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة... كبيرة لا تتحملها طفولته الغضة ولا يتمه المبكر، فدور الأب والأخ والزوج والابن لم يكن يليق به أو يناسب سنه الصغيرة فنشأ يحاول الهرب ويمارس لعبة الابتعاد حتى حطم القيد الذي يكبله بأمه، فابتعد أكثر وأكثر ليضم إلى جماعة فتيان عابثين، ثم تدرج الأمر من تدخين لفافات التبغ إلى استنشاق المذيبات المتطايرة ثم التحول الرهيب والكبير بتعاطي المخدرات... كانت تحاول إعادته إلى حظيرة الأسرة بكل الطرق الممكنة ولم تكن تحكي أو تشكو لأحد، بل فضلت معالجة الأمر بنفسها كيلا يتطور الأمر وتصبح فضيحة تهدد العائلة ويعلم والدها بالأمر فتكون العاقبة وخيمة... فحاولت معه بكل الطرق بالود والملاطفة ثم السياسة والمداهنة إلى الشدة والقسوة والعقاب ثم الحرمان من النقود، لكنه لم يرتدع بل أمعن في غيه وازداد إصراراً على المعصية حتى جاءها اليوم صباحا في حالة غير طبيعية يهذي ويصرخ ويتهم أشخاصا مجهولين بملاحقته، فحادثت أخي صالح لينقلوه على وجه السرعة إلى المستشفى... المصيبة أن المستشفى حولوه إلى مستشفى الأمل بعد ظهور نتيجة التحاليل بأنه مدمن، ثم أخذت تبكي بحرقة شديدة، تبكي خيبة أملها وتحطم حلمها الوردي إلى أشلاء متناثرة... تبكي الماضي والحاضر... ماضيا لم تختره وأجبرت عليه قسراً وحاضراً بحرمانها من كل حقوقها المشروعة انتهاء بحصادها المر بعد سنوات طويلة من الحب والرعاية ثم انتهى كل شئ بلا شئ...

أسرعت لأضمها إلى صدري، فلا ملجأ لها سواي ولن تجد صدراً يستوعب أحزانها سوى صدري، ولا يداً تمسح عنها عذابها سوى يدي، ولا صوتاً حنوناً يداوي جرحها سوى صوتي... تعانقنا وفي داخل كل منا عواصف من الأحزان. هي بأملها الذي انهار أمام عينيها ومستقبلها الزاهر الذي بنته لبنة لبنة لينتهي في مستشفى الأمل بلا أية بارقة من أمل... وأنا بقتل أحلامي وآمالي على يد أبي وانتهاء قصة حبي نهاية مؤسفة ستظل طوال عمري جرحا عميقا ينزف داخلي بغزارة، سعد حبي الأول والأخير أول إنسان يفتح عليه قلبي... وتزهر به آمالي... أحببته حبا ملأ عليّ حياتي وملك عليّ عقلي وقلبي، أحببته بكل كياني وبكل قطرة دم تسوي في شراييني... ولم يكن اختياري خاطئا... لم أقع في يد سكير عربيد أو لص خبيث أو عاطل متسكع أو حتى عابث يتلاعب بقلوب الفتيات... كلا فمن أحببته واخترته بملء إرادتي كان رجلا بمعنى الكلمة، صادقا وشريفا... أحبني مثلما أحببته بل ربما أحبني أكثر مما أحببته ولم يأت من النافذة سارقا كلص، بل أتي من الباب كأي رجل صادق الوعد والعهد يحترم نفسه كما يحترم حبيبته، ولم يكن ينقصه شئ ليرفض، فهو شاب له مستقبل، مدرس من عائلة مرموقة، أخلاقه فوق مستوى الشبهات، مستواه المادي ممتاز أيضا، فهو مشروع أديب أمامه مستقبل عريض ومع كل هذا فقد رفضه أبي... رفضه بكل قسوة وعنجهية وظلم...

رفضه لمجرد أنه أوصلني ذات يوم فتنبأ بان هناك شيئا ما بيننا وبدلا من أن يوافق ويسارع للم الشمل يرفض الرجل ويصر على الرفض ثم يطرده بلا حياء. وزيادة في العنجهية والغرور وإثبات السلطة يقرر زواجي من عجوز سبعيني لا يعرف الفرق بين الألف والعصا لمجرد إبعاد الشاب عن طريقي ودفعه لأن ينسى أمري ويبحث عن نصيبه في مكان آخر... أي تفكير هو تفكيرك يا أبي وأي ظلم هو ظلمك! قتلتني وأنا لا أزال على قيد الحياة.... حرمتني حق الاختيار وطعم الحرية وإحساس الحب والسعادة وأردتني أداة لظلمك وقسوتك... أداة تحركها كيفما تشاء... تقتلها... تحرقها... تحرمها... أداة طيعة بين يديك بلا اختيار ولا أي إحساس... أردتني كأخوتي تصنع مستقبلهم كما أردت أنت لا كما أرادوا هم، فعاشوا وما زالوا تعساء يعانون خطأ الاختيار ومرارة الانصياع والانحناء للعاصفة... أبي أستطيع أن أقف في وجهك وأرفض اختيارك الظالم لي وأثور على كل الأوضاع، بل أستطيع أن أهرب، أن أنتحر وأقتل نفسي بتوقيعك... كعادتك دائما... لكن لا.. شئ ما في داخلي يمنعني بشدة ربما هو آثار " لا حول ولا قوة إلا بالله" التي جملتها في داخلي إرثاً من أمي أو هو طريق رأيت أخوتي ساروا عليه فسرت عليه كشيء لا بد منه كحال المحكوم عليه بالإعدام حينما يرى رفاقه يعدمون أمام عينيه فهو يحني رأسه باستسلام... كشيء حتمي لا مفر منه أم هي رغبة داخلية في الانتقام... الانتقام من أبي في نفسي... ليراني سلعة ذليلة في يد رجل لا يعرف قدري... ليراني بأم عينيه مهانة كرامتي مستباحة وجمالي يذبل شيئا فشيئا ليغدو إلى سراب... ليراني حزينة ضائعة باكية أرنو إلى أشياء لا أمتلكها وأزهد في أشياء تطفح بها حياتي. ليراني مبعثرة أجاهد حلما يسكنني وأبحث عن أمل مستحيل أهفو إليه... ترى هل بعد كل هذا أرى دموع الندم في عينيه... الدموع التي أتحرق شوقا لأن أراها فتطفئ بعضا من النيران المشتعلة في جوفي والتي لا تطفئها المحيطات. إنه رغم قسوته وجبروته يشعر ببعض الأسى حينما يرى حال أولاده... غصة مرارة... أو ربما سحابة ألم عابرة يمر بها في فترات استشعرتها به في أحوال مختلفة حتى حال سعاد الأخيرة وهي تعود لزوجها ذليلة مهانة بلا آمال وربيع العمر يتبعثر تحت أقدام رجال لا يستحقون... أبي ألا تعتبر... ألا ترى في أحوال أخوتي الكفاية كل الكفاية من هذا المصير الذي تدفعني إليه... ألا زالت شهوة التشفي والانتقام جزءا لا يتجزأ منك؟ لماذا لا ترضى إلا أن تحصد المرارة كاملة والعذاب مضاعفا وعقاب الرب شاملا... لم لا تخفف من الآثام وتكفر عن ذنبك في حق أخوتي بي... فتزوجني من أحببته وأحبني... من سيرعاني حق الرعاية وأخدمه برموش عيني... ممن سنعرف أنا وهو سيمفونية حب كاملة لا يعرفها سوى العشاق... لم يزين بها بيته تضاف إلى قطيع كامل من البشر لا يربطه بها سوى المال والمال فقط لا غير يا أبي.. أبي أين ضميرك وكيف يهنأ لك بال ويغمض لك جفن وابنتك تباع وتشتري كسلعة لها ثمن يضمها بيت واحد موحش مقفر مع رجل عجوز يفوق أباها عمراً لا يجمعهما شئ سوى عقد الزواج، فلا حوار متبادل ولا حب أو ود أو أي شئ مشترك بينهما... فأية هاوية تدفعني إليها يا أبي بقرارك وباختيارك دونما تقدير لإحساسي ومشاعري وشبابي الذي حصدته قبل الأوان...؟

أي تفكير هو تفكيرك يا أبي؟ وأي ظلم هو ظلمك؟ وأي جرف عميق ننحدر إليه جميعا بتخطيطك وتقديرك ومباركتك...؟ حتى سعود هذا الصبي المراهق الغض أشم في انحرافه رائحة غدرك وتخليك ونكرانك. فأي سجلات حافلة سطرها تاريخك أبي بدءا باغتيال زوجتك على مذبح شهواتك مرورا بتدمير أبنائك الواحد تلو الآخر وانتهاء بتشريد أحفادك... عفوا وعذرا يا أبي أستميحك المعذرة، لكنها الحقيقة البشعة التي لو لم أحكها بلساني لنطقت بها عيناي... سعود هو الضحية وأنت الجاني الأول والأخير... سعود طفل غرير نشأ في أحضان امرأة هي أمه ولا وجود لرجل في حياتهما على الإطلاق سوى لمسات بعيدة... بعيدة تأتي أحيانا من الأخوال... ولأنها نادرة وبعيدة ولأنك رفضت زواج بدرية من أي رجل على وجه الأرض نشأ الطفل وهو يشعر نفسه محور الكون والنبي المنتظر بلا محظورات أو محرمات أو أسلاك شائكة يحيطه بها المربون من الرجال، فبدرية رغم فطنتها لن تستطيع ملاحقة الصبي على أرصفة الشوارع لتعرف مع من يتحدث ويسير ويصادق وماذا يفعلون أو يأكلون ويشربون، فهي امرأة أولا وامرأة مقيدة ثانيا وامرأة مكبلة بالأغلال ثالثا، لأنك يا أبي حرمتها الزواج كما حرمتها الحرية وممارسة حقوقها كامرأة، فلا زوج ولا صداقات. تسير ضمن دائرة مغلقة لا تتعداها هي بيتها وأطفالها تحيط بها المحرمات من كل جانب فلا دخول ولا خروج ولا علاقات مع أي كان سوى في أضيق الحدود... مسكينة أنت يا بدرية وتعيس هذا الصبي اليتيم...

همست من بين دموعها:
- أحلام... هل تعتقدين أنه سيشفى ... هل سيعود ... فتي... سويا كما كان؟
جاهدت كثيرا كيلا تسقط دموعي وأنا أقول لها :
- بالتأكيد سيعود يا بدرية وسينسى كل شئ حدث له، فجميعنا نكبر وننسى لكن كفي عن معاملته كرجل بالغ وعامليه بمستوى طفولته وأنك لا تطلبين منه سوى أن يتفوق وينجح... ينجح فقط لا غير... أليس كذلك يا بدرية؟
انهارت في بكاء عاصف حينما دخل أبي وكان رد فعله تماما كما توقعت فقد غضب وصرخ وشتم وكاد يتهجم عليها بالضرب قائلا:
- أنت السبب... أنت من أفسدته بتدليلها حتى حدث ما حدث... إنها فضيحة... فضيحة كبيرة... لكنه لن يعيش معك بعد اليوم بل سيعيش معي وسأربيه كما ربيت أبنائي ولا تتدخلي في شؤونه أبدا بعد اليوم ... أفهمت؟

ومن بين دموعها وقعت بدرية إقرارا لأبي بأنها لن تتدخل في شؤونه ابنها بعد اليوم ولا حتى عندما يتزوج وينجب...

قبل أن تعود إلى بيتها مشتتة النفس حائرة تتقاذفها الهواجس والظنون ويؤرقها مصير ابنها الذي يفارقها لأول مرة في حياتها وحياته قررت أن أبلغها خبر زواجي المرتقب لتكتمل ثالثة الأثافي... نظرت إلى غير مصدقة ثم ضربت صدرها بيدها وهى تهتف:
- هل أنت جادة أم تهزلين؟
قلت لها بلا مبالاة:
- وهل عهدتني إلا جادة يا بدرية ... إن زواجي بداية الشهر القادم كما أخبرني أبي ولا مفر...
انبثقت الدموع من عينيها مجددا وهي تقول:
- وهل ستقبلين هذا الأمر... هل سترضخين .... كلا .. افعلي شيئا يا أحلام... ناقشي أبي... امرضي... اهربي.. افعلي أي شئ.
أشحت بوجهي عنها وأنا أمسح دمعه هاربة من عيني:
- لن أفعل شيئا يا بدرية... وليقدر الله أمرا كان مفعولا...

ثم أدرت ظهري لها وأسرعت أرتقي السلالم بسرعة مذهلة لألقي بنفسي على فراشي وأنا أنشج ببكاء مرير...

*******************

الجزء العشرون





حلم بشع أو هو كابوس مريع رافقني على مدى ليلة بأكملها... أرى نفسي خلاله على قمة جبل عال وحيدة أنظر إلى مجموعة من الناس أسفل الجبل وأشير لهم بعلامة الوداع... لم أميز هؤلاء الناس سوى زميلتي صباح، والبقية لم أكن أعرفهم أو ربما كنت أعرفهم ولم أميزهم جيداً لكنهم ليسوا غرباء عني أبداً...

نهضت من نومي منقبضة النفس ممزقة الفؤاد أحمل فوق كاهلي أكواماً من الأحزان والعذابات. أجر قدمي جراًُ إلى الحمام ثم أهبط درجات السلم وفي حلقي مرارة، يحيط بي السواد من كل جانب، أرى الدنيا كئيبة تعيسة لا تستحق من يحياها أو يتنفس هواءها... أحسست بضيق شديد في صدري حينما صعدت إلى سيارتنا التي تقلنا إلى الهجرة. أخذت دقائق أجاهد لمحاولة التنفس بشكل طبيعي، لكنني فشلت فقد كان شئ ما لا أدركه يجثم على صدري ويكتم أنفاسي دون أن أراه أو أعرفه...

سألتني صباح وصوتها مغلف ببقايا النوم:
- ماذا بك؟ تتنهدين بقوة كأنك ستموتين...
أجبتها محاولة أن أخرج من قوقعة ذاتي المحطمة:
- لا أدري لماذا أشعر بالاختناق والهبوط النفسي والمعنوي....
قالت ضاحكة:
- ربما هو الحب...
رددت بحسرة عجزت عن إخفائها:
- أين أنا والحب أين... أتدرين يا صباح أن زواجي بعد شهر واحد أو أقل...
شهقت صباح شهقة عالية ودارت بجذعها نصف دورة لتقترب مني أكثر فأكثر ثم قالت بصوت رائق صاف وقد تطايرت منه بقايا النوم تماما:
- حقا... أحقا زواجك بعد أقل من شهر... ومن هو سعيد الحظ هذا؟ هل هو من ... أقصد يمت للقرية التي ندرس فيها بصلة؟

تعالت الصرخات داخلي وازداد وجداني ألما ونحيبا... تقصدين سعد يا صباح بالتأكيد أنت تعنينه بكلماتك... الآن فقط عرفت بأن الزميلات كلهن يعرفن قصة حبي بل ربما الهجرة بأسرها تعرف ذلك... لكن ما لا يعرفه هؤلاء أن سعد ليس من نصيبي وأن أبي قد فرق بيننا إلى الأبد... كلا يا صباح... كلا يا زميلتي العزيزة، فحبي الوحيد لن يتوج بالزواج بل سيداس تحت الأقدام ويموت شر ميتة وإن لم يمت في القلوب فستقتله المرارة والحرمان...
تمالكت دمعي وأوقفت طوفان حزني وأنا أقول:
- كلا يا صباح... زوجي المقبل...

وخنقتني العبرات بيد أنني خنقتها وتغلبت عليها بشجاعة خارقة ولم أشأ إخبارها بالحقيقة الموجعة! فماذا سأجني لو صارحتها بأن زوجي المقبل في خريف العمر يخطو خطواته الأخيرة في الحياة ويرغب في ممرضة للمرافقة أكثر منها زوجة وشريكة حياة؟ تابعت بصوت مخنوق:
- إن زوجي المقبل هو من أقارب والدي...

أمطرتني صباح بعدها بالأسئلة حتى ندمت على تسرعي بإبلاغها بأمر زواجي، لكنها شغلتني إلى حد ما عن آلامي الكثيرة وبددت جزءا من وحشة كنت أستشعرها داخل نفسي... كانت صباح منطلقة مرحة على غير عادتها وكأنها عادت إلى الوراء فترة طويلة.... فترة ما قبل خطوبتها ووفاة خطيبها وكأنها استردت روحها الغائبة مرة أخرى... قالت بمرح:
- هل ستعزمينني على حفل زفافك؟

وفجأة قبل أن أتفوه بحرف حدثت هزة قوية بالسيارة وتعالت صرخات الزميلات الفزعة... لحظات خارج الزمن وقف شعري خلالها ذهولا ... فلم أدر ماذا يحدث لنا.. أدركت لوهلة أنه اصطدام بصهريج مياه ضخم خرج علينا دون أن ندري... ربما غفا السائق أو سها أو أصابه دوار لكن الحادث تم والصدمة القوية ساهمت في تدحرج سيارتنا على رمال الصحراء مرة واثنتين وربما ثلاث مرات... لا أدري... كل ما أدريه أن الصدمة والانقلاب أطاحا بي خارج السيارة من خلال زجاج النافذة المهشم... لحظات رهيبة قاتلة توقف فيها عقلي عن التفكير وعجزت عن الاستيعاب وكأنني في عالم آخر، خيط ما يربطني بالحياة وخيوطي الباقية تقطعت.... صراخ وتأوهات وحريق... حريق هائل يشعل سيارتنا بأسرها فبدت ككتلة عملاقة من النيران اللاهبة تصل الأرض بالسماء ... وعويل ... عويل يصم الآذان و يوقف الدماء السائرة في العروق ، ثم لا شيء ... تلاشى كل شيء في لحظات و لم يبق إلا السكون ... السكون القاتل المخيف ، ينبثق من صمت الصحراء الممتدة بلا نهاية يشكلان لي رعبا بلا حدود... سيارتنا الصالون التي تقلنا وقد غدت كتلة هلامية متفحمة صامتة ... صامتة بكل ما فيها من أجساد وأرواح كانت تتطلع نحو الأمل ... وصهريج المياه بكل ثقله وضخامته منكس على رمال الصحراء بلا حركة ولا أدرى من بداخله هل هم أحياء أم صعدت روحهم إلى بارئها كما حدث مع زميلاتي ... زميلاتي ... آه رباه لا أكاد أصدق ... من دقائق فقط كنا نتبادل الحديث بكل حيوية ونشاط ثم يا إلهي ...مضيت أتحسس جسدي بوجل ... لا شئ ... سوى جروح بسيطة في القدم اليمنى حدثت إثر اندفاعي من زجاج النافذة ... أشعر بصداع شديد يكاد يحطم رأسي... لم أستوعب بعد كوني الناحية الوحيدة من حادث مريع كهذا، فلم يسعفني تفكيري بأي شيء سوى النظر في شتى الاتجاهات لمعرفة أين أنا وفي أي مكان نقبع ... فوجئت بصرخاتي تنطلق بلا وعي منادية : صباح ... صباح ... أبو راشد ... أم راشد ، وترتد صرخاتي إلي مضمخة بالألم والحسرة وبأنه لا حياة لمن تنادي ... دقائق أخريات وبدأ تفكيري يصفو شيئا فشيئا ... أدركت هول ما حدث ... تلفت حولي باحثة عن مخرج ولحسن الحظ تذكرت أنه بعد هذا المرتفع الصخري تكمن الهجرة التي نعمل فيها ،أي أنني قريبة جدا من القرية ، مسافة كيلو متر واحد أو يزيد فقط لا غير ... أحكمت عباءتي الممزقة حولي ومضيت في السير بلا حقيبة أو حذاء ... مضيت أسير دون التفت ورائي ، أحمل الفاجعة داخلي لتمزقني إلى شظايا ، هل يعقل أن زميلاتي كلهن لقين حتفهن ... احترقن ... كلهن ذهبن سدي،لا حول و لا قوة إلا بالله ، منهن الأم والزوجة والفتاة التي تحلم بمستقبل باهر وبزوج يحملها على أجنحة الأحلام ... أمهات تركن وراءهن أطفالا رضعا ينتظرونهن بفارغ الصبر و أزواج عشاق يحلمون باليوم الذي تنتقل فيه زوجاتهم إلى المدينة لينعموا بالاستقرار و الحب و الحنان ... وحدي فقط أنجو ... يا لسخرية القدر ... أنا التي لا أمل لها في حاضر أو مستقبل ... فبعد أن حبي وحياتي فقدت معهما كل شيء...

dali2000 04-05-09 03:43 PM

الجزء الحادي والعشرون


أيام قلائل وأدخل شرنقة الاحتضار الأخير فزواجي من هذا الشيخ العجوز موت آخر ... موت بطيء وأيام أبعثرها في اللاعودة تمتص شبابي رويدا رويدا حتى أغدو عجوزا في العشرين ... تماما كشقيقتي سعاد . رباه إن الموت أهون علي ألف مرة من زواج كهذا ، ليتني مت كزميلاتي , لو كنت أستطيع افتداء إحداهن لما ترددت أبدا ... حتى السائق أبو راشد و زوجته هما أحق بالحياة مني . ليتني حشرت نفسي في السيارة المحترقة لأموت معهم حرقا كما متن ، لكن وفجأة بدأت الفكرة تلتمع في ذهني المكدود ... نعم لماذا لا أموت ؟ لماذا لا أموت فعلا وصدقا ... أبدو أمام في عالم أبي والعالم أجمع أنني قد احترقت مع زميلاتي بينما أنا أعيش في عالم آخر... وأين أعيش ... ؟ لم أفكر طويلا ... بل غذذت السير حتى وصلت إلى الهجرة التي نعمل فيها . درت من حولها نصف دورة لأصل إلى بيت سعد ... تمنيت من أعماقي أن أجده في البيت لكنني لم أجده سوى والدته التي رحبت بي أيما ترحيب مندهشة من وصولي إليها بهذا الشكل المزري ... فوجئت بنفسي لم أستطع الحديث أو حتى التفوه بحرف واحد, كنت أرتجف بعنف من رأسي حتى أخمص قدمي , أسرعت أم سعد لتحيطني بالدثارات السمكية وتمددني على الأرض ثم ناولتني القهوة والمشروبات الساخنة ... كانت الصدمة قوية بحيث إنني شعرت بأنني كائن هوائي ,لست بأنسانة حية ولا ميتة بل شيء ما يسبح في الهواء ... في الفضاء ... بين النجوم وكأنني قد أصبت بحالة انعدام وزن ... ففقدت توازني واتزاني ... أدركت أم سعد بخبرتها الطويلة أنني أعاني من شيء ما فتركتني لفترة عادت بعدها لتدلك أقدامي ويدي بماء ساخن ...

جزعت لجروحي الظاهرة فانبرت تعالجها مهارة تحسدها عليها أمهر الممرضات , وقالت إن هناك كدمات برأسي و جبيني ثم صمتت ... أتى بعدها دوري بالحديث أو المفترض أن أتحدث لكنني انتحبت بشدة دون أن أنبس ببنت شفة , ضمتني لصدرها بحنان أم حقيقية ... أم أستشعرها لأول مرة في حياتي , أحسست قي أحضانها الدفء الذي افتقدته والأمان الذي أنشده وأنهارا من الحنان ... رباه كيف أعيش في ماضي أيامي بدون أن أعرف طعم حنان الأم وحب الأم ,إنه شيء مختلف تماما عن كل ما عرفته و عشته ... كم أنت محظوظ يا سعد وأنت يا وضحى بأمكما الرائعة.... إنني أحسدكم حقا... وتمنيت لوهلة بل إنني دعوت لربي بأن يبقيني كما أنا في حضنها وفي هذا المكان الذي أستشعر الأمن في جدرانه الصدئة أكثر من أي مكان آخر في العالم. أتمني لو أغمض عيني في حضنها وأنام إلى الأبد ... مر الوقت سريعاً لأسمع صوت سعد ينادي على أمه في ساحة الدار ، وعندما حاولت النهوض أمسكت بيدها برقة متشبثة بها كيلا تغادرني إلى أي مكان ، فإحساسي المؤلم بالضياع قادني إلى يقين أنني قد وصلت أخيراً إلى شاطئ الأمان الذي لن أغادره أبداً سوى إلى قبري ... لحظات ثم دخل سعد الحجرة ... وحاولت أمه أن تغطيني بوشاحها ، فرفضت الوشاح ودفته بعيداً عني ... أرعبتني نظراته الذاهلة المصعوقة وكأنه ينظر إلى كائن من كوكب آخر ، فاغراً فمه من هول المفاجأة ... قال أخيراً بدهشة :
- أمي ... أحلام ... هل هي أنت .... أحلام ...؟
ولدهشتي الشديدة فكت عقدة لساني فرددت عليه بصوت ليس صوتي :
- نعم أنا أحلام ...
اقترب مني غير مصدق ما يراه محاولاً الإمساك بيدي ... نهرته أمه بأن هذا لا يجوز ... توجه لامه بالكلام قائلاً – أنت لا تدرين يا أمي بما حدث .... لقد كنت أعتقد أن أحلام قد ماتت محترقة ... فقد اصطدمت سيارتهم بصهريج مياه في حادث شنيع وتوفي الجميع محترقين عدا سائق الصهريج الآسيوي ، فهو لم يمت لكنه في قسم العناية المركزة في المستشفى في حالة حرجة ... لقد انتشر الخبر في القرية يا أمي والناس يعتقدون بأن أحلام قد احترقت معهم فلم أتوقع ولا في أكثر أحلامي تفاؤلاً بأن أراها مرة أخرى وأمام عيني هاتين ...
خرج صوتي مبحوحاً محشرجاً وأنا أسأله :
- هل مات الجميع فعلاً ؟
هز رأسه علامة الإيجاب دون أن تحيد نظراته الموجهة صوبي بلهفة ممتزجة بدهشة ... أمسك يدي برقة وهو يقول :
- أحقاً أنت يا أحلام ... أحقاً لم تموتي مع الأخريات ... هل أنت أمامي أم شبحك حضر ليقتلني في الصميم ...؟
إغرورقت عيناه بالدموع ... جاوبتها عيناي وبكت والدته وهي تحمد الله على سلامتي ... سمعنا صوتأً في الخارج لتدخل وضحى ممتقعة الوجه تنظر لي بذهول قاتل ، ثم أسرعت لتلقي نفسها بين أحضاني وهي تجهش بالبكاء ... مر الوقت سريعاً وأنا أشعر باطمئنان غريب وخدر لذيذ يسري في أوصالي المرتجفة . لا أدري هل هو فرحة بالنجاة من موت محقق أم هي سعادة الوصول إلى مرفأ آمن ، أم أنه إحساسي المفاجئ بأنني قد وجدت نفسي أخيراً وأن مكاني الحقيقي بين هؤلاء الأحبة في بيت متواضع عامر بالحب والمودة ... أم بسيطة هي كتلة من الحنان والعطف ... رجل أشعر إلى جواره بأمن والأمان والراحة والاطمئنان فتاة هي أكثر من أخت وأعز من صديقة ... همست أم سعد برقة :
- هيا يا ابنتي ... هيا لتطمئني أهلك على نفسك ... بالتأكيد هم في حالة لا يعلم بها إلا الله ...
عادت ذاكراتي إلى ذلك البيت الكبير والصقيع الذي ينتشر في أرجائه ... الأب الظالم القاسي وزوجته اللامبالية رغم طيبتها وأخوة غير أشقاء لا أشعر بهم . تذكرت زفافي المقبل والقبر الحقيقي الذي ينتظرني فيقضي على سعادتي قضاء مبرماً ... فصرخت جزعة :
- لا يا خالة ... لا يا سعد ... أرجوك لا تعدني إلى هناك أبداً . دعهم يعتقدون بأنني مت محترقة فالموت أهون عندي من أن يزفوني إلى شيخ في عمر أبي...
ثم مضيت أحكي لسعد ووالدته وشقيقته ما حدث لي بعد زيارتهم الأخيرة... وكيف قرر أبي زواجي وسعي إليه... ثم أجهشت في البكاء... احتضنتني أم سعد بحنان وهي تهمس:
- لا عليك يا ابنتي سنحاول أن نوسط الجميع لدى أبيك كيلا يزوجك بهذه الطريقة...
صمت سعد وعلى وجهه سيماء تفكير عميق ثم قال أخيراً:
- لا قائدة يا أمي إنه سيزوجها رغماً عنها شاءت أم أبت...
ضربت أمه صدرها بقوة وهي تهتف:
- ألا تخاف الله يا سعد... وهل تخطفها أنت إذا كان أبوها سيزوجها... ألا تدرك سوء العاقبة؟
تكلم سعد بهدوء وروية:
- أمي... إنني لن أخطفها... ولكنني أفضل اختفاءها المؤقت حتى نجد حلا... ولتختر أي أحد تضمنه من أقاربها بأنه لن يفشي سرها وسأوصلها عنده بكل أمان...
صرخت بلا وعي:
- بدرية... نعم... أوصلني يا سعد لشقيقتي بدرية... وأرجوكم أن لا تخبروا أحدا بوجودي على قيد الحياة...

أمضيت النهار بطوله في بيت سعد ووالدته... وبعد حلول الظلام صعدنا إلى سيارة سعد التي أقلتنا إلى الرياض... لكنني كنت ذاهلة معظم الرحلة أستند إلى ذراع والدته في صمت، وهو ووضحي القابعة إلى جواره في المقعد الأمامي لا ينظران سوى للطريق أمامهما...

ما إن رأتني بدرية شقيقتي حتى وقعت على الأرض مغشيا عليها...


***************************

الجزء الثاني والعشرون




صباح وابتسامتها الوضيئة هل غابا إلى الأبد وتشتت أحلامها العريضة على أرصفة الأحزان... صباح تلك الفتاة المبتسمة أبدا وروحها المرحة اللاهية تعربد حولها بفرح طاغ... كلماتها ... ضحكاتها... حركاتها الكثيرة كلها تدل على حياة عريضة كاملة حافلة ممتدة حتى نهايات البشر أو حتى نهاية الكون... لم أتوقع أو أصدق أن هذا الكائن الخرافي ممكن أن يطويه قبر ما.. وللأبد... وأن يصمت صوت الحياة بداخلها للأبد... تلك الضاجة بالمرح، المزيج الرائع من الأمل والحلم والإرادة، هزمتها الدنيا الدنيا مرات لكن انطبق عليها المثل القائل " الضربة التي لا تقتلني تقويني" فخرجت من معركتها قوية رغم حزنها متماسكة رغم ألمها، مبتسمة رغم مرارة الجرح واستجداء النسيان... كانت تطمح بالنقل إلى المدينة إلى جوار أسرتها وتطمح بالزوج الذي ينتشلها من براثن الوهم والكآبة، وينفض عن ثوب عرسها الأبيض عذاب الانتظار، تطمح بأشياء كثيرة لم يمهلها القدر في تحقيقها.. وأراد لها أن تزف إلى قبرها متوجة بأحلام لم تتحقق وآمال تبعثرها الرياح... لحقت بعريسها الذي بكت دوما عليه. رب اجمعهما في الآخرة كما لم يستطيعا في الدنيا، ارحمهما برحمتك يا أرحم الراحمين... تتراءى لي فوزية بوجهها الشاحب وعينيها القلقتين أبدا... دائما قلقة متوترة يخنقها الإحساس بالمسؤولية والتشتت بين عمل بعيد لا يرحم وبيت زوج وأطفال يحتاجونها باستمرار... دموع أبدية تسكن عينيها تهفو للعودة والاستقرار مع أطفالها... لكنه العمل والحاجة له ... لمحتها مرات تبكي في صمت منزوية في الفناء الخلفي للمدرسة، تنظر إلى لا شئ وتبتلع دموعها مع قطعة خبز مبتلة بالعرق والدمع الغزير... تواريت كيلا يجرحها وجودي، سألتها يوما عن سر حزنها، تنهدت وهي تحكي لي عن تمزقها وضياعها وتشرد أطفالها في بيوت الأقارب والعقارب وتهديد زوجها المستمر لها بأنه سيتزوج من أخرى إذا لم تتدبر وسيلة تنقل بها إلى الرياض... وانتقلت نعم انتقلت ولكن إلى الدار الآخرة، انتقلت قبل أن تكتحل عيناها بمرأى قرار نقلها، قبل أن يضمها بيت هادئ وأطفالها الصغار، قبل أن يهدأ بالها وتقر عيناها ... ماتت معذبة مشتتة تعيسة ترقب الأمل بعيون قلقة عله يطرق بابها ذات يوم ولم يطرق بابها سوى الفناء....

حكت إحدى الزميلات للمديرة وأنا أستمع للحديث الدائر بينهما أن الخلافات بين فوزية وزوجها قد ازدادت كثيراً في الفترة الأخيرة، وأنه قد قال لها صراحة إنه لا يشعر بها كزوجة، فهي تخرج قبل شروق الشمس وتعود بعد الغروب متعبة منهكة لا تقوي حتى على الحديث، فما بالك برعاية بيت ومداراة زوج واحتضان أطفال، لذلك هي تشعر جيداً بتأفف زوجها ونفوره بل أخطر من ذلك أنها تعلم العلاقة التي بدأت تنمو بالسر بين زوجها والخادمة. لكن ماذا تفعل... إذا خرجت الخادمة من البيت فستخرج هي منه حتماً ... يؤلمها منظر أطفالها في الصباح الباكر وهي تنتزعهم من سررهم الدافئة لتودعهم عند جارة أو قريبة لحين عودتها عدا قسوة برودة الصباح هناك. ما هو أقسى وأشد مرارة هو الوداع الإجباري اليومي لرحلة لا يعلم إلا الله كيف ستنتهي وعلى ماذا، صراخهم وبكاؤها... تشبثهم وتخليها القسري... تقربهم وابتعادها ثم تمضي رحلتها بقلب ممزق ونفس كسيرة تعد الدقائق والثواني لتعود إليهم ويضمهم حضنها الدافئ، فتتلاشى كل متاعبها وأحزانها ثم تعيد الأيام دورتها من جديد دون أن تتمتع برفقة زوجها وأطفالها إلى رحلة أو نزهة أو حتى زيارة عائلية عادية... يكبر أطفالها دون أن تدرك ... دون أن تتبع نموهم لحظة بلحظة كما تفعل الأمهات، دون مشاركة حقيقية لها بأي شأن من شؤونهم أو شؤون أبيهم، تشتتها الصراعات في أعماقها بين واجبها كزوجة وأم وعملها ودخلها الذي تحتاج إليه لقد انطفأ كل شيء فجأة وماتت فوزية لتموت الصراعات داخلها ولينتظر أطفالها عودتها كثيرا بدون طائل ... سيبكي الأكبر كثيرا لأنه يفهم ويعرف أن الموت معناه الفناء وأنها لن تعود إليهم مرة أخرى, فقد ابتلعتها القرية النائية في جوفها إلى الأبد ولن تقذفها قلقة مجددا، فقد طوتها داخلها بدون عودة... الأصغر لن يفهم سر اختفاء أمه و لن يفهم معنى الموت و الحياة، لذلك سيتعذب كثيرا وكثيرا وسيبحث عنها في أرجاء البيت الصغير وفي وجه كل امرأة يراها ... سيناديها في ليالي الشتاء القارسة وفي حمى المرض الملتهبة ولن تلبي النداء ... سيبحث في ثيابها وأشيائها الصغيرة عن روحها... عن أم كانت له واختفت فجأة ولن يجدها... ثم يكبر وينسى لكنه لن ينسى أبدا تلك القرية التي طوتها وابتلعتها وسيكرهها للأبد... لقد ارتاحت فوزية لكن أطفالها لن يرتاحوا بعدها مطلقاً...

أخذت أنتحب بقوة وأنا أقرأ الخبر في الجريدة، كان يحتل الصدارة في الصفحة الأخيرة وأعلى الخبر صورة لوزير التعليم وهو يعزي أسر الضحايا... كان اسمي من بينهم وأسماء زميلاتي تحفر أخاديد من الأحزان داخلي... لقد ذهبوا بدون عودة... لم يتبق منهن سوى أسماء لامعة وأشلاء محترقة ولا شيء آخر...

احتضنتني شقيقتي بدرية ودموعها معلقة بأهدابها... قالت لي بحسرة:
- ثم ماذا يا أحلام؟
ابتلعت شهقاتي وأنا أقول:
- لا أدري... لكنني لن أدع أبي يتحكم بمصيري، لن أرضخ للطوفان وأحنى رأسي للعاصفة وأتزوج الرجل العجوز ثم أحيا على الهامش وأموت ... كلا لن أعيد مأساتك يا بدرية ومآسي أخوتي، لن أتركه يدفنني وأنا على قيد الحياة، بل سأتشبث وأحاول وأقاوم وأدافع عن حريتي ... عن و جودي ... عن كياني الذي أراد له الاضمحلال ووضعه داخل قفص كعصفور كناري جميل يغرد لكنه لا يطير. يتمتع بالأكل والشرب لكنه محروم من الحرية... كلا يا بدرية فليعتقد أبي بموتي .... ليقم لي سرداقاً ويتقبل العزاء بوفاتي، فهذا أفضل ألف مرة من أن يقتلني وأنا حية... لأحي وأنا ميتة بنظر الناس خير من أن يراني الناس أحيا وأنا ميتة في الحقيقة...
همست بدرية:
- ولكن إلى متى؟
هتفت بثقة:
- حتى أختار الحياة التي أريدها وأشق طريقي بنفسي بلا وصاية من أحد، حتى أتزوج سعد يا بدرية...
صرخت بدرية بلا وعي:
- ماذا؟ تتزوجين سعد؟؟ بدون ولي أمر... هل جننت؟ ماذا يقول أبي لو عرف وقد أضفت إلى جريمتك السابقة بإخفائك خبر نجاتك من الكارثة جريمة أخرى أدهى وأمر وهو تزويج نفسك بنفسك دون علم أبيك...
قلت بهدوء:
- أرجوك يا بدرية كفي عن الصراخ والتشنج، فأنا لست طفلة ثم إن سعد رجل لا يعيبه شيء وهو قد طلبني للزواج فلن أرفض...
نظرت لي بدرية بدهشة شديدة وهى تقول:
- لقد تغيرت يا أحلام... غيرتك تلك الحادثة كثيراً، فبدأت تتمردين على العادات والتقاليد وما عشنا ونشأنا عليه... لكنك لست وحدك المخطئة، بل أنا مخطئة أكثر منك، لأنني رضيت بأن أدخل معك هذه اللعبة السخيفة منذ البداية... وتعذبت كثيراً... تعذبت وأنا أرى أبي وقد أذهلته الصدمة... تعذبت وأنا أرى بيتنا الكبير وقد عم الحزن والصمت أرجاءه.... تعذبت بتمثيلي وخداعي وتحملت... وفي النهاية تصدمينني بخير كهذا.... بالتأكيد أنت مجنونة...

ألقيت نفسي بين أحضانها وأحطتها بذراعي بينما أؤكد لها أنها سندي الوحيد في الحياة وأنني بدونها لا شيء أبداً... أقنعتها بأن زواجي من سعد سيقطع الطريق على أبي من أن يفكر بتزويجي ذات الرجل العجوز وسيضعه أمام الأمر الواقع وربما تنسيه فرحته بوجودي على قيد الحياة أي تفاهات أخرى وسيقبل الأمر بكل شيء بل سيباركه أيضا وسيحتفي بزواجنا ربما...

تنهدت بدرية بقوة حتى أنني أحسست بقلبها ينسحب تحت أضلاعها وهي تقول:
- أنت مصممة إذن...
هتفت بقوة:
- كل التصميم...
ابتسمت رغم دموعها وهي تقول:
- إذن على بركة الله...

ثم دار بيننا نقاش حول الرجل الذي سيحل محل ولي أمري وسيعقد زواجي على سعد... استعرضنا أسماء أخوتي الواحد تلو الآخر... كلهم لا يصلحون... صالح الأكبر والأكثر قربا والتصاقا عاجز عن فعل شيء... رغم رجولته واستقلاله وقربه أن يقف أمام أبي... لا يستطيع أن يخالف له أمراً أو يقوم بعمل دون مشورته ليتجنب غضبه وتحقيره... صالح بشخصيته الباهتة وإرادته التي تقترب من الصفر وخوفه الشديد من كل شئ لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية عظمى كهذه، وقد عجز عن تغيير دفة حياته التي لا يريدها وزوجته التي لم يحبها يوما وسجنه الذي رفض أن يحطمه، فبقي سجينا أبد الدهر، زوجاً رغم أنفه يستنشق هواء فاسداً بلا أكسجين ويحلم بحياة يعجز عن تحقيقها ... أحلامه ... أمنياته... طموحاته.... حتى حبيبته الوحيدة، كلها داسها بأقدامه من أجل إرضاء أبي وشراء لمودته... فكيف سيقف إلى جواري في محنة كهذه وهو عاجز عن السير على قدميه والنهوض بنفسه الكسيرة... كلا إن صالحا لا يصلح ولن يصلح أبداً...

خالد أكثر أخوتي فهما وأكثرهم لظلم أبي وجبروته... بالإضافة لهزات الحياة القاسية والضربات المتوالية التي لم تخلق منه شخصا جبانا...

إنه الأصلح والأقدر... لكنه لا ... إنه لا يستحق مني هذا المصير... لن أضاعف أحزانه وإحباطاته بالزج به في معركة غير متكافئة مع أبي... ربما يطرده.... ربما يقاطعه وربما يحرمه من أن يرثه... كل الاحتمالات قائمة وكل الخواطر واردة عدا إقحام خالد في موضوع هو لا ذنب له فيه... يكفيه ما لقيه من أبي، يكفيه ما تعرض له من إذلال تأنفه رجولته وكرامته... وإعراض يجرح صورة الأبوة في نظره فلن أزيده عذابا وإيلاما... لذلك فخالد رغم رجولته وشجاعته ونفسه الأبية لا يصلح إشفاقا عليه من الآتي الذي لا يرحم...

حمد... بعد طول جدب وعذاب ومرارة أشرقت حياته بقدوم توأميه عبد الرحمن وهشام... فأدار ظهره للعالم بأسره ليستقبل وجه طفليه فقط لا غير... يعلم مواعيد رضاعتها وأوقات تبديل ثيابها وأوقات اللعب والنوم... غدت حياته أشبه بمدرب في سيرك، لا يري غير الوحوش التي يدربها... غاب عن الدنيا وعن همومها ومتاعبها باستغراقه الشديد في عالم آخر، عالم طفولي بريء نقي لا يرى الأشياء سوى محاسنها... لذلك لا أدري كيف وقع عليه خبر وفاتي المزعوم... ترى هل انتشله من عالمه المثالي أم أنه مر عليه مروراً عابراً، فلم يشعر به على الإطلاق؟ هل بكى وانتحب أم استمر يدندن بأغنيات البراءة والحلم والمستقبل...؟ هل أحس بفقدانه شقيقته أم أن هذين الطفلين عوضاه عن الدنيا بأسرها، فلم يحس بفقد أحد أو أحزانه غياب أحد..؟ كلا إن" حمد" لا يصلح، ليس انتقاصاً من شأنه... لكن رحمة بفرحته الوليدة وسعادته المتأخرة ودنياه المتخمة بالسرور الطاغي... لن أنتزعه من عالمه البريء لنواجهه بقسوة الحياة الحقيقية... لن نعيد أحزانه من جديد ونحمله مسؤوليات هو أكثر صفاء من أن يتحملها... فلندعه يلهو مع أطفاله وندعو له باستمرار البهجة...

وأخيراً صرخت بدرية... سعود... نعم إنه سعود وليس غيره... طفلها الذي غدا رجلاً... وقد أكسبته التجربة الأخيرة مع الإدمان قوة وصلابة وقدرة على الاحتمال، إنه يعيش مع أبي وتحت رعايته، لكن هذا لا يمنعه من زيارة والدته بين الفينة والأخرى والاطمئنان على أحوالها...

كما حلمت طويلاً حدث... ارتديت ثوب الزفاف الأبيض وتأبطت ذراع سعد زوجي وشريك حياتي... تشيعنا عيون الأحبة من حولنا بالسعادة والحبور... بكت بدرية طويلاً وهي تحتضنني قائلة:
- أنت الصغرى بيننا لم أتوقع يوما زواجك على هذا النحو... سرياً بدون زفة واحتفال أو فرحة من أي نوع...
همست لها ضاحكة:
- هل اشتقت للرقص... وتريدين أن ترقصي؟
ابتسمت قائلة:
- أتمني لك التوفيق من كل قلبي يا أحلام...
أمسكت يد سعد ومعها كل أمنياتي بحياة سعيدة، يملأني الأمل ويزف خطواتي الراقصة قلب لا يعرف المستحيل...

لكنه كان حلماً لا أكثر كعادة الدنيا معي حينما تعطيني كل شيء ثم تبخل علي بأغلى شيء، فقد رفض مأذون الأنكحة زواجي من سعد لأن سعود أصغر من أن يكون وليا لأمري، ثم إنه لن يكون وليا لأمري وأبي على قيد الحياة... حلقت طيور السعادة من عالمي ولن تعود مرة أخرى...

dali2000 04-05-09 03:46 PM

الجزء الثالث والعشرون

لم يعد هناك جدوى من الاختفاء والاختباء والتواري... وجودي من عدمه سيان... إذا كان أملي لن يتحقق وحلمي الذي سعيت وراءه طويلاً يوغل في الابتعاد والتلاشي... ما جدوى دفن الرأس في الرمال كالنعامة؟ وشطب اسمي من سجل الأحياء إلى الأبد؟ إذا كنت سأبقي حية بالهواء الذي يتردد في صدري فقط دون أن يجد صداه في حياتي... سجينة بيت شقيقتي وقبلها سجينة نفسي وظروفي... أتطلع لآمال لا تسعها حياتي تماما كصائد الرمال بشبكة صياد... من زرع الخوف في أعماقي؟ متى أثمرت حياة القسوة التي كنت أعيشها؟ لماذا أجني حصاداً لست أنا التي بذرته، دوامة سوداء اقتلعتني من جذوري فوجدت نفسي في بيت ليحل محله الألم والغضب وأشياء أخرى... تكلفت بدرية بسرد كل ما تم الاتفاق عليه للأسرة... حكت كيف وجدني بعض الرعاة فاقدة الوعي خلف إحدى التلال القريبة من مكان الحادث وكيف نقلوني إلى المستشفي المركزي لأبقي فيه أسابيع قليلة حتى استرددت وعيي، فحادثت بدرية لتحضر مع شقيقي حمد ويعيدوني إلى بيت أبي... قبل ذلك بأيام ذهبت شقيقتي بدرية إلى حمد وانتشلته من عالمه الوردي إلى دنيا الواقع المليء بالأشواك.... هزته حد الصدمة وأفاقته على شئ لم يخطر له على بال، فحضر إلىّ مهرولاً من جنته الصغيرة، لأعانقه ونبكي سويا ثم اتفقنا بعدما عرف الحقيقة أن يكتب لي تقريراً طبيا من المستشفى الذي يعمل فيه يفيد بأنني كنت أرقد في المستشفي في قسم العناية المركزة حتى استعدت وعيي...

لم يعلم بالحقيقة سوانا " حمد وأنا وبدرية" وحاولنا إقناع من حولنا بما رويناه، اقتنعت زوجة أبي وأخوتي جميعاً... بيد أن أبي بدا غاضبا وغير قانع... احترت كثيراً في تفسير موقفه وشككت أكثر وأكثر في حزنه لموتي المزعوم، بل كان يبدو حزينا لعودتي للحياة مرة أخرى ويتمني اختفائي من أمامه بأية طريقة...

حدجني أبي بنظرة صاعقة قبل أن يسألني:
- لماذا بم تتصلي بي مباشرة بعد استعادتك وعيك؟
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أستشعر كتلة حجرية في جوفي لا تخرج ولست بقادرة على ابتلاعها... قلت برهبة:
- ل... لم أتذكر سوى بدرية... وحدها... التي تذكرت!
ضمتني زوجة أبي وهي تبكي قائلة:
- كم كان البيت موحشا بدونك... وأشياؤك... إنها...
ثم انتحبت بصدق وحرارة ليبكي الجميع لبكائها...
ثم قالت شقيقتي الصغرى ببراءة متناهية:
- سامحيني يا أحلام لقد سرقت ثوبك الأحمر وأطواق شعرك الملونة لكنني سأعيدها لك فوراً...

ومضت تصعد السلالم بسرعة قبل أن أتفوه بحرف واحد... مشاعر الحب من حولي لم تعد لي سلامي الداخلي، ولم تبث الفرحة المتلاشية في قلبي، بل على العكس من ذلك، فقد أثارت شجوني وبعثت أحزاني المدفونة من رقادها لتعود حية قوية متدفقة من جديد... وتطرق أبوابي بعنف وصلابة.... حبي الذي انتهى قتيلاً بلا أمل في حياة، وزميلاتي اللاتي تبعثر شبابهن على رصيف الحاجة والمستقبل، فانتفت الحاجة وضاع المستقبل، فلقين حتفهن شهيدات لمعركة لم يختزنها ولم يخضنها بإرادتهن وتركن وراءهن نفوساً ضائعة وقلوباً تحترق... ثم جاء قرار نقلي المتأخر إلى الرياض كرصاصة الرحمة التي أطلقها الجلادون على قلبي... أرادوا الرأفة بوضعي كناجية وحيدة من موت محقق، لكنهم بهذا قذفوا بي إلى أتون الجحيم، فقد انتهي كل شئ يربطني بسعد، بعد هذا النقل المفاجئ، لن أراه بعد اليوم ولن تخطو قدمي أرضه الحبيبة، ولن ألتقي بعيني شقيقته المعبرتين... لن أعيش الأجواء التي أحببتها حتى الثمالة، منظر القرية من بعيد، بيوتها الطينية المنخفضة... مدرستي الحبيبة... حجرة المعلمات التي كانت ميداناً لأفكاري، صراعي اللذيذ بين قلبي وعقلي، حجرة الصف وطالباتي الحبيبات بطيبة قلوبهم العجيبة المعجونة بماء هذا التراب الحبيب... حتى المديرة المترعة بحنان الأمومة وروعة التعامل الودي، إلى الأرض الطينية لفناء المدرسة الكبير... لقد بنيت عليه بيوتاً من خيال ورأيت أحلامي تدرج فيه وتمضي وتكبر... نصبت عليه خيمتي الصغيرة التي ضمتني وسعد وسعادة بلا حدود... وتشرب التراب الحبيب دموعي الغزيرة فشكل عجينه طينية أرتق بها ثقب أحلامي لماذا؟ لماذا يأتي نقلي الآن بالذات بعد أن ضمر أمل زواجي من سعد وبات يندرج في خانة المستحيلات... لماذا يضن عليَ المسؤولون بأمل البقاء معه في مكان واحد وأرض واحدة وتنفصل خطواتنا، فلا نعود ندرج على قريتنا الحبيبة سويا بل يخطوها سعد وحيداً دامعاً ينظر إلى مدرستي السابقة بحزن يمزق الضلوع وقلب يعصر ألما ومرارة ودموعا متحجرة تزرع البؤس والفناء... لم يكن همي النقل منذ وطئت قدماي تلك القرية، ثم تشبثت بها كما يتشبث الغريق بالقشة التي تطفو على الماء، ثم ضربت جذور حبها عمقا كبيرا في قلبي وكياني فلم أعد أستطيع البعد عنها يوماً واحداً... حتى بعد الحادث الأخير فقد كان أملي الكبير في الحياة على أرضها يخفف من ألم ابتعادي المؤقت عنها... لكن بعد النقل... الذي لم أطلبه يوماً ولم أكتب به طلبا كزميلاتي اللاتي كن فعلا بحاجة إليه، فمنهن الابنة والزوجة والأم والحبيبة ولم أكن من هؤلاء، لكن الدنيا هكذا تعطي الإنسان ما هو ليس بحاجة إليه وتسلبه ما يحتاجه ويطلبه وحدث ما كنت أخشاه منذ عدت لدار أبي، فقد اجتمع بي أبي ذات مساء وأنهى إلى أمر زواجي وأنه بات مقرراً بعد أسبوعين... شهقت بهلع وقد اهتز كياني:
- ومن هو يا أبي... أقصد... زوجي القادم...؟
قال بحسم وهو يمد لي يده بصورة فوتوغرافية:
- الشيخ أبو علي تاجر قطع الغيار... وقد طلب سرعة تجهيزك لذلك أبدأي منذ الغد في التسوق... سأعطيك مبلغا من المال لترافقي أم بدر وأختك بدرية للسوق...

تنازعت المشاعر فلم أدر بماذا أجيب... إنه يبيعني بثمن بخس ويعرض عليّ ببساطة أن أكفن نفسي للموت وكأنه ليس موتاً... وكأنه ليس انتهاء وتلاشياً... لملمت أشلائي الممزقة وجراحي الندية، وبقايا من كرامتي السليبة ومضيت أحدق في الصورة التي احتوتها يداي. ملامح صارمة جامدة لوجه مجدور منفر مترهل وقبيح... فرت الدماء من عروقي وجف ريقي وتصلبت يداي... أضحت الصورة ترتجف بين يدي... وصرخات عالية تدوي داخل كياني... كلا... لن أتزوجه كلا يا أبي أرجوك لن أتزوج هذا المسخ الآدمي المشوه... لن أدفن شبابي معه... كيف أجالسه وأبادله الحديث وأتناول الطعام معه... بل كيف أراه وأنظر إليه دون أن أتقيأ ويصيبني الاشمئزاز والغثيان... أبي ارحمني واتق الله في ابنتك التي تقودها نحو الهاوية... ربما تكون مجبراً على هذا الزواج لتنسيني سعد، لكن يا أبي ليس هذا هو من سينسيني " سعد" ولا عشرة من أولاده وأحفاده سينسوني " سعد"... إن " سعد" يا أبي كالمرض الخبيث، قد تمكن من نفسي وروحي فملكهما واستشرى دخل نفسي وضلوعي وامتد يسري مع الدماء والشرايين ثم يضخه القلب مرة أخري ليعاود الكرة مرات ومرات... إن سعد يا أبي هو حياتي التي أعيشها ودنياي التي أحياها وإذا أردتني أن أنساه فاقتلني فوراً وحالاً فسيطويني وحبه قبر واحد على أمل اللقاء في الآخرة... إن هذا الرجل المنفر الماثل في الصورة سيزيد من حبي لسعد بل سيؤججه ويشعله ويقطع أي أمل لي في حياة سعيدة هانئة... أبي أرجوك لا تقتلني مرتين... فإذا كنت قد رفضت " سعد" زوجاً لي فدع الزمن يداوي جراحي... ويبرئ نفسي ويخفف أحزاني... وبعدها ربما أتزوج وأنسي وربما يقتلني الحرمان فأموت... سألني أبي بهدوء:
- ما رأيك يا أحلام؟

تدافعت الكلمات لتخرج من جوفي فلم أنطق... لم أحر جوابا... بقيت أحدق في الصورة ذاهلة وقد تجمدت الدموع في المآقي وتحجرت الصرخات في الأعماق وتصلبت اليدان على الصورة بجنون... أردت أن أتكلم... أعبر عن رأيي، عن رفضي، عن عذابي، أن أصرخ بوجهه مهددة بأن أقتل نفسي لو أجبرني على هذا الزواج أو اهرب من البيت أو في أحسن الأحوال ألجأ إلى القضاء... تملكتني لحظتها بجنون عنيف أردت أن أمزق ثيابي وأدوس على الصورة القبيحة بأقدامي ثم أنثر شظاياها بوجه أبي...
قال أبي بنفس الصوت الهادئ:
- السكوت علامة الرضا... إذن فأنت موافقة...
سحب مني الصورة بنفس الهدوء القاتل المعذب... ومضي ينشب مخاليه الحادة فيما تبقي من رفاتي المتحللة، بنفس تجردت من كل معالم الإنسانية ومعاني السمو والرحمة...
- سيدفع زوجك المقبل مهراً كبيراً اتفقت معه عليه سأعطيك جزءاً منه والجزء المتبقي من حقي، فقد ربيتك ورعيتك ولم أبخل عليك بأي شئ أردته...

اندلعت النيران في أعماقي وأنا جالسة أتشبث بمقعدي خوفاً من الانهيار والتجاوز... لقد طالني ظلمك أخيراً يا أبي وأنا التي انتظرت أياما وشهورا في سلسة لا تنتهي... مضيت أنظر عذاب اخوتي وخذلانك لهم وأنا أرتقب دوري بحدس لا يخيب وخوف يخالطه رهبة كمن ينتظر دوره لدي طبيب جراح بعد سلسة من المرضى... كنت أنتظر واثقة بأن أجلي سيحين عاجلا أم أجلا... وقد حان أجلي وبدأت يا أبي بضمير غائب ونفس متجردة من كل معاني الإنسانية والرجولة بظلمي وسلبي من أبسط حقوقي، بدءاً من حبي الذي قضيت عليه بدون وجه حق، وفرقت بيني وبين حبيبي للأبد، مروراً بدفعي إلى زواج غير متكافئ ويفتقر إلى أدني مقومات الزواج الطبيعي دون بارقة أمل أو بادرة تدل على انسجام أو سعادة في قادم الأيام، وانتهاء بقبض ثمن بيعي لتضيفه إلى رصيدك المتنامي في البنوك بعد أن ألقيت لي بالفتات، وكأنك كنت تربيني وترعاني لتأخذ ثمني أضعافا مضاعفة، رغم أنني كنت أعتمد على نفسي منذ التحقت بالجامعة وبدأت أتسلم مكافأتي الشهرية... وقتها فقط بدأت أعرف طعم الحياة التي لم أعرفها قبلاً... ابتعت لنفسي ما أحب من الثياب والحلى والحلوى والهدايا الصغيرة التي أهديها لمن حولي في المناسبات ولم تدفع من جيبك قرشاً واحداً عليّ منذ التحاقي بالجامعة عدا الطعام الذي نتناوله جميعا مع الخدم... أحسست بدموعي تحرق عيني... تود الانهمار بغزارة احتجاجا على الظلم والقسوة والألم وأمنعها قسراً كيلا أستبيح ما تبقي كرامتي وكبريائي... تراءى لي وجه أمي... لا أدري لماذا تراءى لي وجهها هذا الوقت فقط دون بقية الأيام السابقة... ترى هل كنت أشعر بحاجة إليها، أستمد من خيالها طاقة على الصبر والاحتمال، أم كانت تمثل لي الاستسلام اليائس والخنوع الذليل والامتثال على ما ليس لنا طاقة بتغييره أو احتماله...؟
فوجئت بنفسي أهتف:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...

نظر لي أبي فجأة بذهول وترقب وكأنه خشي أن أكرر مأساة أمي أو أعيد الكرة كشقيقتي ندى، لكنني فاجأته بعيون صلبة صلدة لا تحمل أي معان ووجه جامد خاو خال من أية تعابير... تحول ترقبه إلى نظرات مقت وازدراء ثم تجبر وقسوة قبل أن يقول:
- استعدي من الآن... فزوجك قريب.

أي زواج يا أبي هذا الذي تتحدث عنه... ؟ أية فرحة تنتظرها بانكسارات الآخرين؟ أي رقص على الجراح سترقصه؟ أي شراب يمتلئ بدموع العروس، ستفرقه على مدعويك...؟ أي قلب معذب ستهديه لصديقك العريس ومع أطنان من التعاسة والتمزق وحب يتشبث بالروح مختبئ في أزقتها ودهاليزها، مقسماً أن لا يفني حتى تفني هي... أو يفنيا معا... أي عروس تلك التي تتباهى بها وبأنها فتاة غضة طاهرة الذيل لتقدم لعجوز فان... قسماً إن العجوز أفضل منها بكثير، فشبابها يتآكل من الداخل ويذوي بلا حساب وروحها كسيرة وقبلها انطوى على الأحزان... إنك تخدعه يا أبي وستكتشف خدعتك قريباً...

ثم أجهشت ببكاء مرير...

***************************

الجزء الرابع والعشرون


أكنت حية أم ميتة تلك الليلة...؟ أكنت ملء السمع والبصر أم في غياهب النسيان؟ لا أذكر سوى أطياف باهتة لخيالات ضئيلة ثم تذوي حتى يطويها الزمان... يتناهى إلى سمعي ضحكات خافتة ونساء يتحدثن وصراخ أطفال... تتسلل إلى أنفي رائحة البخور مختلطة بشذا العطور المختلفة وروائح العرق. أصداء لأصوات بعيدة ورائحة طعام زكيه.... تخترق ذاكرتي ثم صمت أبدي... اختلط عليّ الأمر مراراً... بدوت جثة ثلجية محاطة بكومة من الثياب البيضاء اللامعة... أكنت أنتظر الدفن أم أنتظر جثة أخرى قادمة لاصطحابي؟ إلى أين؟ بالتأكيد قبر واسع بارد يسعنا نحن الاثنين بحوائط ثلجية راسخة وبقلوب دامية ونفس صدئة بالأحزان...

سمعت صوتها بقربي... إنه صوت أعرفه... صوت حبيب وقريب إلى قلبي:
- أحلام... هل أنت بخير؟

لم أرد... وبماذا أجيبها وهي تعرف تمام المعرفة ما بي... تعرف قلبي المعلق بسعد وروحي المشتته لبعده عني... تعرف أيضاً قصة بيعي وشرائي وقصة تحنيطي استعداداً للدفن... وكم قضيت وإياها ليالي ساهرات نبكي وننتحب دون أن تعطيني أملاً واحداً في مصير آخر أو حياة أخري غير تلك التي أنساق إليها رغما عني... دون أن تغذي نفسي بالتحدي والتصميم أو تغريني على الرفض والتحدي... ولكن ماذا بيدها هي حتى تفعله، إنها غير قادرة حتى على الكلام، إن فاقد الشيء لا يعطيه، وهي تفتقد كل شيء، الحرية والأمل والمستقبل وحتى القدرة على التعبير... إنها ميته مثلي حتى لو سارت وأكلت ونامت... إنها مسلوبة الإرادة مشلولة التفكير، إنها عاجزة حتى عن اختيار مستقبلها وإخضاع أبي لإرادتها، إنها عاشت وستموت كما أراد لها تماماً، أرملة وحيدة كسيرة تربي أولادها وهم يكبرون أمام عينيها ولا شئ آخر... أعادت عليَ السؤال بطريقة أخرى:
- أحلام... ما بك؟

وجدت نفسي أبتسم بمرارة... أبتسم بألم... أبتسم وكياني كله يبكي، أشفقت عليها من جوابي، فمهما يكن فهي شقيقتي الكبري... الضعيفة العزلاء، التي ليس بيدها لا حول ولا قوة...

ثم دخلت في نوبة من الذهول والصدمة أنستني كل ما يدور أمامي، فلم أعد أرى بعيني سوى ضباب... ضباب كثيف يهطل بلا انقطاع ويملأ الصمت داخلي ومن حولي... غرقت في عالم داخلي بلا حدود أو عوالم، وخفتت الأصوات من حولي شيئا فشيئا، حتى تنبهت فجأة لوجه حبيب يقترب مني... وجه خفق له قلبي واضطربت جوانحي، وجه سكن قلبي وتربع على عرشه بدون منازع... وجه أحيا له ومن أجله وأحببت الحياة لوجوده فيها، وما إن يغيب عن عالمي حتى تتبدى لي البشاعة في كل شيء، حتى في وجوه أحبتني، وأفتقد طعم كل شئ وأمقت كل شئ... كلا... مستحيل هتفت بلا وعي ودموعي تغرق وجهي... سعد... سعد...
تلقفتني اليدان برهبة وجاءني صوت نسائي أعرفه جيداً وأحببته مراراً:
- كلا يا أحلام... أنا وضحى...

حتى هذه اللحظة، وفقدت كل تماسكي ورزانتي وهدوئي... ألقيت نفسي بين أحضانها أنتحب بيأس، تحول وجهي في لحظات إلى خارطة ألوان ممزقة... لماذا جئت يا وضحي؟ لماذا الآن فقط أقبلت؟ لماذا ذررت الملح على جرحي ونكأت جروحاً أقفلت على صديد؟ لماذا جئت وجلبت معك الحنين والأمل واسترجعت معك حب الحياة والتشبث بالإرادة..؟ لماذا تعودين الآن فقط وتبذرين في صحارى يأسي قطرات رجاء لا تتحملها إرادتي الضعيفة ويعجز عنها عالمي التعس...؟ لماذا تعودين فتقضين على الباقي البقية من تجلدي وصمودي...؟ وكيف أتقبل الآن حضنا غير حضنك ونفسا غير نفسك وذراعين غير ذراعيك المحملتين حبا وشوقاً بلا حدود من ذلك الواقف في الظل في أحد الشوارع الخلفية المظلمة يبكي بلا انقطاع ويمتلئ صدره بالحسرات والآلام... ذلك الذي يرى أنوار عرسي تزيد ليله الحالك ظلاماً ودقات الدفوف تملأ قلبه الظامئ اشتياقاً وحنينا وضجة العرس خواء مريعا وصمتا داخليا يقتله ألق مرة ومرة... قولي له يا وضحى أن يخفف دموعه ويتعالى على أحزانه ويطوي جرحه داخله وينساني... قولي له يا وضحي إنني قد مت منذ ودعته آخر مرة وإن هذا العرس ليس إلا مأتما حزينا يقودني نحو القبر الأخير... أقسمي له يا وضحى بأنني لن أكون لغيره ما حييت... ولينسني هو... لينس أنه أحبني يوماً وليحب أخرى غيري ويتزوجها، أما أنا فليرحمني الله... أوصيك يا وضحى بسعد خيراً، فلا تنكأي جراحه ولا ترغموه على ما لا يريد، وإن رأيته يوماً باكياً أو دامع فقولي له بأنني لن أنساه أبداً طوال العمر.

من بين ضباب دموعي أحسست بمن تنزعني من أحضان وضحى بشدة وعنف ثم سمعت صوتاً يقول لوضحى:
- لماذا حضرت...؟ لقد كانت هادئة وصامته قبل أن تحضري...
تناهي إلى صوت وضحى وأنا في غيبوبة أحزاني:
- إنه سعد قد أمرني أن أوصل لها رسالة...
رد الصوت عليها حانقا وقد عرفت أنه صوت شقيقتي بدرية...
- رسالة!! وفي ليلة زفافها؟ هيا أذهبي من هنا رجاء... وليعنا الله على تهدئتها...

حاولت أن أتكلم... أن أطلب رسالة سعد بعد أن طلبتها كل جوارحي... حاولت أن أنطق لكن دموعا هادرة كاسحة اعتصرتني اعتصارا حتى غدوت كقطعة بالية لا يحويها شئ... سمعت أصواتا كثيرة من حولي... أحدها ينصح بإعطائي أقراصا مهدئة والآخر يوصي بإعادة تزيين الوجه مرة أخرى... وامتثلت لكل شئ... تناولت أقراصاً كما طلب مني، وسلمتهم وجهي ليضعوا عليه ما شاؤوا من ألوان... فلن ترسم تلك الألوان الفرحة على وجهي ولن تعيد صفائي وابتسامتي... لن تخلق روحاً مرحة ولن تصنع سعادة مفقودة... لن تزرع ألوانهم الضحكة على شفتي ولن توشي عيناي بتألق سرور لست أستشعره داخلي... مضيت متجمدة صلدة كقطعة ثلج خرجت لتوها من التجميد وزادتني الأقراص المهدئة خدراً وابتعاداً، فلم أستشعر شيئا مما يدور حولي، وكأنني كنت في عالم آخر أتفرج على إنسانة أخرى يحدث لها ما يحدث لي وتساق لحتفها كما أساق لحتفي وتؤخذ غدراً واحتيالاً..

تعالت أصوات حادة من حولي خلتها في بداية الأمر نواحاً وعويلاً ثم اكتشفت أنها زغاريد مع دخول العريس... لدهشتي وذهولي لم أشعر بشيء على الإطلاق. لا خوف ولا رهبة ولا ترقب ولا مشاعر من أي نوع ... فقط هدوء وتبلد مشاعر ثلجية لا تذوب...

اقترب الوجه البشع مني... يداً باردة تحاكي مشاعري، تمسك بيدي، أمشي باستسلام وتجلد، أساق إلى نهاية لم أخترها وحياة لم أردها... عالم سطره والدي سطراً واختاره حرفاً دون أن يفكر في تبعات أي شئ يفعلة...

غبت في غيبوبة أخري والوجه القبيح يتفحصني بدقة وكأنه يعين بضاعة استلمها للتو ليتأكد من صلاحيتها وخلوها من العيوب...

أعجبته رغم تمزقي وضياعي... أعجبته البضاعة الشابة الجديدة رغم قلبها المسلوب وروحها المفقودة... اكتشفت ذلك من ابتسامة وضيعة كشفت عن فم يخلو من معظم الأسنان...

ابتلع عدة أقراص لا أرفها وشرب أدوية ومساحيق أجهلها ثم تخلي عن آدميته دفعة واحدة وتحول إلى وحش كاسر يلوح بأنيابه ومخالبه... ثم أفقت على الحقيقة المروعة... ثيابي ممزقة بلا رحمة وشيخ يئن عجزاً وانكساراً... عيناي تبتلعان الدموع، فما عاد لها جدوى أو نفع. أحدق في السقف الماثل أمامي بعيداً كقاع بئر مخيفة ثم قريباً كفوهة بركان يوشك أن ينفجر ثم ترقص الجدران أمامي بدون غناء أو موسيقي... تدور بي الدنيا، أكاد أدخل غيبوبة متواصلة قبل أن أرى نحلة في منتصف السقف أو ربما كانت ملكة النحل كبيرة ومخططة باللون الأسود... تنظر لي بعينيها السوداوين وقد أنهت أحد أمورها الخاصة... لم أكن أدرك ما يحدث لي تماما حتى توالت الصفعات على وجهي قوية ثابتة وكأنها ليست الأيدي التي كانت تهتز منذ برهة ضعيفة عاجزة... صرخات حادة من حنجرة تحتضر:
- لماذا لا تساعديني...؟ أنت لا تريدينني ولا ترغبين بي كزوج... أنت فاجرة وتريدين فتي صغيراً من سنك...

لم أفهم... كيف أساعده... وماذا أفعل... ولا كيف لطماته العشوائية على صدغي وكتفي وكل مكان من جسدي...
نظرت إليه بصمت وبلا دموع... بعينين فزعتين متسائلتين أثرت غضبه من جديد فأعاد الكرة الفاشلة مع مزيد من الضرب والتعذيب...

وأدركت كل شئ فجأة وبلا مقدمات. إنه يبحث عن حائط... حائط فقط وليس زوجة، حائط يلقي عليه بكل إحباطاته وفشله وقذارته، حائط يجلده كل يوم ليفرغ به حمولة أعوام طويلة من القهر والصمت والانحناء... في ليلة واحدة طالت قامته حتى تجاوزت كل الحدود وتقزم كل من أمامه ليمارس تجاربه المكتوبة على بشر أسوياء فيفشل المرة تلو المرة فيتحطم حاجزه أمام ذاته... فتبدو نفسه على حقيقتها بشعة ضئيلة عاجزة، لأنه لا يقر بالعجز ولا يعترف به يمضي في ممارسة سلطاته العنترية على من هو أضعف منه فيقسو حتى لا يتبقي لمن أمامه ذرة كرامة أمام فقدانه الإنسانية والعطاء...

كان واقعي حقيقيا، لم تفاجئني به أيامي أو تفرضه علي ظروفي... كنت أستشعر التعاسة مقدما وأدرك حجم مأساتي قبل أن أغشاها وأعلم أنني أسير في درب مظلم شائك لمستقبل أكثر ظلاماً وإعتاماً... لذلك كان تقبلي لواقعي هادئاًً حد الركود، مثيراً حد العجب، لم أصرخ أو أبك احتجاجا وألما، فزمن البكاء قد انتهي منذ فقدت حبي وحريتي، أما الاحتجاج والتحدي فلا مكان لهما في خارطة عقلية أبي وتفكيره، فلن أجني سوى المزيد من القمع والإذلال... لم يكن من أمر سوى الخنوع والصمت والامتثال مهما كابدت أو قاسيت... تعذبت أو بكيت... ضربت رأسي بالحائط أو بحجر لا فرق وسيان... لا بد مما ليس له بد...

بكيت طويلاً على صدر شقيقتي بدرية. بكيت وأنا أستشعر حنانها الدافق وأحضانها الدافئة أسألها بشوق ودموع تنثال على وجهي بغزارة:
- ما أخبارك... وسعود... هل كل شئ على ما يرام؟... و..
قاطعتني بإشفاق:
- رويدك يا أحلام... تخاطبنني وكأنك لم تريني منذ أعوام لا منذ أيام فقط...
ثم أردفت ضاحكة:
- أخبارك هي المهمة... ما هي أحوال العروس؟
شردت نظراتي طويلاً حتى جفت دموعي وغرقت في دوامة صمت جديدة. غاضت الابتسامة عن وجه بدرية ولاحظت ارتجاف يديها وهي تهتف:
- أحلام... لقد أقلقتني؟ هل أنت حزينة لأنه رجل عاقل وكبير في السن لقد كنت تعرفين هذا جيداً قبل أن تتزوجيه... أم أنه لا يعاملك جيداً...

عاودني التمزق والضياع وأسئلة حيري تتقاذفني دون رحمة... هل أشركها في مأساتي الجديدة... وهل في قلبها متسع للعذاب؟
ألا تكفيها مأساتها الأزلية كأرملة أبدية بدون أمل أو رجاء عدا تشتتها بين عشرات المشاكل الصغيرة والكبيرة التي تتوالد في بيتها بلا انقطاع... إهمال من أبي، برودها مع زوجة أبي وافتقادها الحنان والرعاية من أخوتها...

همست بقلب واجف:
- بلي يا بدرية إنه يعاملني جيداً...
أحسست بارتياحها النسبي وهي تقول:
- لم إذن لا تنسي سعد؟

سعد ... ياه... لقد ذهب تفكيرك بعيداً يا بدرية... لقد قطعت أشواطا لم أفكر لحظة في تخطيها... لقد عبرت الفيافي والقفار والمحيطات التي حالت بيننا، في غمضة عين... كلا بدرية... كلا يا حبيبتي إن " سعد" أصبح بمنأي عن كل ما يدور في حياتي من نكبات متواصلة... إن " سعد" أصبح بعيداً كحلم بعيد المنال أو كنجمة لا تطالها الأيدي، بل غدا سعد كرابع المستحيلات الثلاثة... أحتفظ به في قلبي منجماً للحب يغذي نفسي التائهة بومضات حب تساعدني على الصمود والاستمرار... تساعدني على احتمال كل الظروف مهما قست واستبدت.... سعد يا حبيبتي هو من أعطي لحياتي معني، ولوجودي بريقاًً، ولكابوسي الذي يتجدد احتمالا... سعد هو سعادتي المفقودة فكيف تريدين مني أن أنساه يا بدرية؟ إن هذا هو المحال بعينه...

أردفت مغيرة الموضوع ككل وكأنها قد ندمت على فتحه:
- هل انتهي كل شئ مع زوجك على ما يرام؟

حانت مني نظرة عابرة إلى وجهها، فألفيتها تبتسم بخجل... أشحت بوجهي لأتابع ابن بدرية الصغير الذي كان يرافقها وهو يحاول بصعوبة فتح زجاجة المشروب، ولما فشل حطمها بقوة على الأرض لتتناثر شظاياها في كل الاتجاهات... أحسست بألم الانكسار وقسوة التحطم فانكفأت باكية بلا شعور...

dali2000 04-05-09 03:47 PM

الجزء الخامس والعشرون


اتخذت مكاني بين زميلاتي جسدا بلا روح وعينين لا تبصران وأعماقا تنزف بلا حساب ... وبين ضحكاتهن وقرقعة فناجينهن ورائحة القهوة العابقة بالهيل رحلت بعيداً بعيداً حيث جروح جسدي التي تأبي الاندمال وتعيش حية نابضة بالألم والتحدي، تتجدد كل يوم وتسطر صفحات من اليأس والهوان بين يدي من يدعي رجولة لا يملكها ويملك قسوة لا يدعيها... تراءت لي ليلة الأمس بكل تفاصيلها المخزية البغيضة بدءاً من تناوله أقراصا زرقاء اللون ثم ارتدائه ثياب حيوان بري متوحش حتى ارتداده على عقبيه يجرجر أذيال الهزيمة، تلوح علائم الانكسار والخيبة على وجهه الدميم...عرق غزير، أنفاس كريهة تعبرني ببطء متعمد، ثقل يجثم على صدري، الخشونة تطارد أجزائي فلا أشعر لها وقعا ولا أملك لها دفعاً. أحاول الهرب... أغمض عيني وأشغل تفكيري ثم أحسب الثواني والدقائق لتمر الأزمة ونجتاز ممرات لا تسمح بالعبور... بيد أن النهاية تتكرر وكأن العجز إذا الركيزة الوحيدة لعلاقتنا وكل ما عداه من قبض الريح... أوهام وأحلام نسجناها ببراعة لتدير شبكة الوهم عقولنا فلا نرى مواضع أقدامنا... انزوى جانبا يخلع ثياب الحيوانية ليعود إنساناً من جديد وأي إنسان!! إنه ليس سوى كومة قذرة من الشيخوخة والعجز والانكسار... انحنيت اجمع بقاياي وألملم ما تبقي من ذاتي الكسيرة وكرامتي المبعثرة، حتى فوجئت بصفعة تدوى في فضاء الحجرة البارد... ثم انهالت الصفعات والركلات تطول ما عجزت الشيخوخة عن الوصول إليه... صرخ بصوت جريح:
- ماذا تريدين، تكلمي... ماذا تريدين؟ سأعطيك كل شئ مجوهرات وأموالاً... ماذا تريدين؟

وماذا فعلت؟ حقا ماذا فعلت ليسألني ذاك السؤال... لقد أتيته مسلوبة الإرادة ذليلة خاضعة ليفعل بي ما يشاء... لم أرفض شيئا ولم أعارض أو أمنع... بل على العكس كنت له مورداً وماء عذباً ملقي تحت أقدامه ليغترف منه كيفما شاء، لعبة خالية من الروح والحركة... تمثالاً من خزف أو معدن ثمين أو ذهبي حتى يضعه حيث يريد ويكسره إن شاء أن يكسره ويلقيه في البحر إن شاء أن يلقيه لكن العيب يكمن داخله... عجزت بقايا الرجولة الكامنة في أعماقه أن تتواءم مع جسد مسجى بلا روح كجثة باردة تبحث عن كفن يضمها، أو ربما هي الشيخوخة التي عجزت إلا أن تطلق عنانها أمام الشباب الحي والأمل المتجدد، وربما هو عجز المالك عن احتواء البضاعة الجديدة بعد أن اعتاد على البضائع القديمة وتعامل معها طويلاً...
صرخ بصوت أكثر حدة:
- ردي... أجيبي على سؤالي... ماذا تريدين؟

الحب... هل أقول له أريد الحب... أريد من أهفو له نفسا وقلبا لتتداعى أمامه حصون جسدي وترفع قلاعي راياتها البيضاء... أريد من أري نفسي بين عينيه ويراني روحا قبل أن أكون جسداً يري السعادة في وجودي وأري الدنيا ملك كفيه، من ينبض قلبي له حبا وشوقاً... من تهتف أعماقي باسمه ليل نهار... من يستعبد تفكيري ويأسر روحي ويملك قلبي بكل زواياه وأركانه... من يحيلني كتلة نار بنظرة أو بكلمة وأغدو قطعة ثلج لا تذوب حينما يلمسني غيره... من أشرقت دنياي لوجوده وازدان عالمي بحضوره وعدت منه وإليه...

صرخ كثور جريح...
ماذا تريدين؟؟

الطلاق... هل هو أملي ومناي، هل فيه راحتي وسعادتي، هل أستعيد بعده حبي وحريتي أم أنه بعيد المنال كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعيس... الطلاق في عائلتنا مرفوض فهي ترفض النعمة وتثور على المجتمع وتتحدي التقاليد والعادات وتقف أمام الجميع كريشة في مهب الريح... ومن تطلق على الرغم منها فهي وضيعة منحرفة بلا أخلاق أو ضمير... وهو؟ هل سيطلقني؟ هل يتنازل بسهولة عمن بذل في سبيلها الغالي والنفيس ولم يجن منها سوى الذل والانكسار... هل يعيدها كما هي ليكتشف عجزه رجل آخر ويمضي بقية حياته سخرية الآخرين وشماتتهم... كلا إنه لن يطلقني ولو كان الثمن هو حياته... فأنا حصيلة عجزه وفشله وشرخ رجولته، لذلك فلن يفرط بي أبداً، ولن يفرقنا سوى الموت!

جذبني من شعري بكل قواه حتى خلت خصلاتي تتساقط بين أصابعه... صرخت من شدة الألم فضرب رأسي الحائط مرات ومرات حتى رأى الدماء تسيل على وجهي بغزارة فركلني وخرج...
تحسست موضع الألم بينما قالت إحدى الزميلات ضاحكة:
- من منكما الغالب ومن هو المغلوب؟
احمر وجهي بشدة لتقول الأخرى مشفقة:
- إن وفاء كثيرة المزاح والسخرية فلا يعرف أحد جدها من هزلها فاعذريها...
ثم تابعت وهي تنظر إلى رباط رأسي بحذر:
- هل سقطت على رأسك... أم؟
قاطعتها مضطربة:
- لقد اصطدمت بدولاب المطبخ عفواً...
كانت هذه إجابتي النموذجية التي سهرت طويلاً لأطلقها في وجه من يسألني عن ضمادتي، وقد كنت أعرف أنني سأسأل، ولن يدعني أحد في حالي، أعانق جروحي الكثيرة بلا أمل في الشفاء... نحن نعيش في الشرق حيث لا حوائط وأقبية... الأسرار مشاعة للكل والحرية الشخصية جماعية والمرأة مهشمة ذليلة والإنسان يعيش في بيت من زجاج حيث باستطاعة كل البشر أن يقذفوه بالحجارة...
- تفضلي هذه حلوى جديدة اخترعتها وأسميتها باسمي... اسمها " فياجرا ليلى" لا تنسي... احفظي هذا الاسم جيداً وأذكريه لي كلما أعددتها لزوجك...
تابعت بضحكة ذات مغزى...
- سيعجبه طعمها بالتأكيد...

دسست القطعة في فمي ليسري مذاقها الحلو وينعش خلاياي، إنها حلوى مصنوعة من التمر وبعض المكسرات المعروفة، ليس فيها أي جديد سوى اسمها المبتكر والذي يشكل جزءا لا يتجزأ من ليالي البيضاء التي يحيطها ضباب أزرق بلون السماء... ابتدأت الأحاديث النسوية تأخذ منحي آخر وتعالت الضحكات الخافتة والكلمات المغلقة، كرهت أن أبدو كتلميذة بليدة تخطو أولى خطواتها على سلم الحياة، ابتلعت خجلي وترددي واحمرار وجهي المعبر، لأغادر في أول فرصة متحججة بدرس إضافي سأعطيه لطالباتي... ويتوه عقلي بين عيون طالباتي المحدقة في وجهي كأسراب من الخفافيش تطاردني حيثما كنت وحللت... ويبدأ القلب ينفض أوجاعه في سراديب الظلام... يتراءى لي وجه حبيب يحجبني عن العالم ويسدل أستارا من النسيان على واقعي الكئيب... حينما كدنا نقترن بزواج أبدي همس لي ضاحكا:
- هل ستبقين تحبينني طوال العمر يا أحلام... أم سينتهي حبك شيئا فشيئا مع قدوم الأطفال وضجيجهم...؟
قلت بخجل:
- لن أنجب لك سوى دستة أطفال فقط لا غير...

ويضيع صدى ضحكاتنا في غياهب الصمت والألم لينبع صوت جديد يمزق شراييني بأنني لن أحمل ولن ألد أبدا وسأخرج من الدنيا بقصة حب لم تتم، بيد أنها ملأت حياتي طولا وعرضا وأكسبتها مذاقا أقتات منه سنوات طويلة مترعة بالجفاف والتصحر...

- أبله... كلمة منفي هل هي مذكر أم مؤنث؟
انتشلت نفسي بصعوبة من براثن تفكيري... مشيت إلى السبورة ببطء لأكتب الكلمة وإعرابها، ثم أطلب منهم تدوينها في دفاترهم رغم أنها ليست في المنهج. منفي... نعم أنا أقبع في المنفي، زنزانة انفرادية تفصلني عن أهلي وأشقائي وأحبائي، يزورني السجان كل مساء لأذوق على يديه ألوانا من الإذلال والمهانة والسقوط البشع... أشعر بأنني أتردي في هاوية بلا نهاية... انحدار بشع لإنسانيتي وكرامتي وأنوثتي، يقودني نحو الهلاك... لابد من فعل ما، لا بد من ثورة، لا بد من تحرر وإلا انتهيت ذليلة راكعة بلا مبدأ أو هوية. حضرتني مقولة لأحد الكتاب " أن النمل بقي نملا طوال حياته لأنه لم يسع لتغيير ذلك، لم يثر ولم يرفض فاستمر نملاً إلى الأبد". وأنا لن أبقي نملة صغيرة تداس تحت الأقدام... إنني إنسانة أملك كل مقومات الحرية والشجاعة ولن أقف صامتة هكذا إلى الأبد، لا بد أن أفعل شيئا وسأفعل....
- أبله أحلام... متى سيكون الاختبار؟
تدافعت الأصوات الصغيرة إلى أذني لتزيح جبال الهموم التي أصمت أذني عن سماع أي صوت... نظرت لمن أمامي مباشرة... طفلة جميلة لم تتجاوز العاشرة من العمر...
- أبله... كل المعلمات قررن أن يكون أن تكون اختباراتنا غدا... نرجو أن ت}جلي اختبار القواعد قليلا...
سألتها بابتسامة انتزعتها من بحار الكآبة التي تعج بها نفسي:
- لماذا يا صغيرتي؟
أطرقت قائلة بأسي:
- زوجة أبي لا تسمح لي بالمذاكرة سوى ساعتين فقط باليوم... وبقية الوقت أساعدها في أعمال المنزل...
خفق قلبي وأنا أقول:
- وأمك...؟
غشاء رقيق من الدموع غلف عينيها وهي تهمس:
- أمي ماتت... ماتت منذ زمن طويل... وقد كنت أحبها كثيراً.
ابتلعت دموعي التي تحشرجت داخلي، وقد فجرت مأساتها شظايا من الأحزان تؤلمني بلا حساب...
قلت بصوت عال أنكرته:
- سنؤجل الاختبار إلى يوم السبت القادم...

هللت الصغيرات فرحاً لتعكس بريقا من اللؤلؤ في عيني اليتيمة الصغيرة ثم تركض لتحضنني هامسة:
- شكرا يا أبله... أنا أحبك كثيراً...
رفعت ذقنها بيدي لأمسح لؤلؤتين من الدمع الحقيقي انحدرتا على خديها وقلت لها برقة:
- أنت ذكية وجميلة وستنجحين دائما بإذن الله...

عادت إلى مقعدها ترقبها عيناي... رأيت فيها صورتي القديمة، أحلام الطفلة اليتيمة المهيضة الجناح بلا أم أو أب أو سند، ريشة تتقاذفها الرياح في كل اتجاه وتمزقها أعاصير الشتاء وزمهريره... ما زلت في أولى خطوات العذاب صغيرتي، مازالت قدمك الطرية تلامس أول سلالم الموت البطيء... ستضربين وتهانين ثم تحملين جروحك داخلك وتسيرين داخل متاهات الحياة وتضيعك الدروب التي ضيعتني وتمزقك الأنياب التي مزقتني، ثم ستكبرين وتحبين، ينمو الحب داخلك قليلا لتزهر نفسك كثيرا ثم تتخاطفك المخالب والخناجر وتمزق قلبك إلى مئة قطعة وقطعة لتنسيك حبك ومن خفق له قلبك... ولا تنسيه... لتعاود الأقدام الشريرة تفتيت قلبك تحت ثقل خطواتها... ولا تنسيه... فيشعلون الدنيا حطبا ونيراناً ليحرقوا كل شئ ويتفحم جسدك عدا قلبك فلا تنسيه... فيكتشفوا متأخرين أن حيه قد استوطن ذاتك وجرى جريان الدم في العروق وغلف الشرايين والأوردة ولا مناص من انتزاعه إلا بانتزاع الروح ذاتها وهذا ما لا يريدونه... ستكبرين حبيبتي وسيكبر معك العذاب، فكأنما توأمان لا تفترقان وصنوان لا بد أن يجمعهما طريق واحد... ثم تلطمك الحياة اللطمة إثر اللطمة. تمتطين فجيعتك وترحلين في دروب الأسى حتى يدفنوك مع رجل، أي رجل، ليس مهما اسمه أو رسمه... المهم أنه ليس من اخترته وأحببته بكل كيانك فغدا محرما عليك حرمة المحارم والأشقاء ولن تلقيه سوى في الجنة...

ستبكين كثيرا وكثيرا ولن تكون لؤلؤتاك اللتان أهدرتهما توا سوى أول الغيث وليس نهايته...
- أحلام.... لقد انتهت حصتك منذ دقائق...

انتفضت بعنف وأنا أواجه زميلتي الجديدة عائشة... حييتها بارتباك ثم سرت على عجل دون أن أنظر إلى الماضي من خلفي... إلى أحلام الصغيرة البائسة التي عادت من الماضي لتذكرني بشوط كبير قطعته من المآسي ولم يعد في مقدوري تحمل المزيد... طريق طويل موحل وقذر لن يخلو من الحفر الصغيرة والسقطات رغم ما صادفته في الواحة الأخيرة من آمال وأحلام داعبتني حد التصديق إلا أن عورة الطريق أعادتني مرة أخرى لتصطدم أحلامي بصخرة الواقع المرير فتتحطم ببشاعة وقسوة أقسى من قدرة أبي على تحطيمي وأبشع من تعمد زوجي إذلالي... وأفجع من تخلي أخوتي عني لدنياهم الخاصة...
سألتني إحدى زميلاتي باسمة:
- ما رأيك؟ هل أعجبتك المدرسة الجديدة... أعني مدرستنا؟
أحسست بهسيس الاحتراق داخلي وأنا أجيبها:
- نعم...

********************

الجزء السادس والعشرون


يا أحبائي
لماذا ترحلون
بين أدغال الليالي القاتمة
أحرق الشوق فؤادي والظنون
أيقظت كل الجراح النائمة

" بشير عباد"

كفراشة... كحمام... كيمام
غادرت عش تلك العاتية... في هدوء في سلام في وئام
امتطت صمتي ذيول الفاجعة
انتهيت... تاه عقلي... هل ألام... ذوب روحي في سماء سابعة

" سعد"


ورقة صفراء ممتقعة تحاكي شحوبي المائل أمامي في المرآة... عينان سوداوان فارغتان، وجه جامد بملامح باردة كئيبة كوجوه الموتى... شفتان ذابلتان بلا روح أو حياة... الورقة مثبتة بإحكام في بطاقة دعوة... دعوة زواج سعد على ابنة عمه... هل تمزقت... تداعيت تبعثرت أجزائي في كل مكان؟ لكن مالي أنا وزواجه؟ فليتزوج أربعاً لو شاء، فقد تحدد مستقبلي وانتهيت ولن يجمعني وإياه طريق واحد إلى الأبد فلماذا تشتعل حرائقي ويمزقني الألم بنصله الحاد لأمضغ في فمي مرارات الدنيا بأسرها وأستعيد ذكريات ذهبت ولن تعود... ذكريات حبي وشجني وقطاري الذي يمضي مسرعاً ملتهماًً أحلامي وآمالي موارياً قلبي التراب... تقوض عالمي الداخلي كزجاج هش، ولم يبق سوى هيكل يتحرك بلا شعور أو تطلعات... سعد حبي الوحيد... حب الماضي والمستقبل، فرحتي اليتيمة وومضة الضوء الوحيدة في حياتي القاتمة... لماذا أصبح لي هاجساً ملحاً؟ لماذا عاد حبة بقوة كاسحة مدمرة وكأنني لم أحبه أبداً سوى الآن...

استسلمت للطوفان داخلي ليندفع محطما كل شراييني وتفيض عيناي بالدمع الغزير...

همست وضحي مشفقة:
- أتبكين يا أبله أحلام؟
وكأنها سكبت نقطاً على نيران جراحي فاندلعت ألسنة اللهب حارقة موجعة تئن هل من مزيد؟ احتضنتها ببؤس العالم كله وبيأسي وانهياري أزلزل دهوراً من الصمت على صدرها المشفق الحاني ونبضات قلبها تضخ الحياة في أوصالي المرتجفة...
قالت وكأنها تحكي لي قصة:
- لقد تعذب سعد... تعذب كثيراً وبقي طريح الفراش أسابيع طويلة لا يري خلالها سواك ولا يهذي سوى باسمك... اغتالته نوبات الحمي التي لا ترحم ولم يجد الطب له شفاء... حتى الشيوخ ومحترفو طب الأعشاب قرأنا في أعينهم ظلال النهاية ولم نملك له سوى الدعاء ثم دخل في نوبة نوم متواصل لمدة أسبوع كامل كان لا يفيق خلالها إلا لماما... وفي نهاية الأسبوع نهض فجأة من فراشه بين ذهولنا وفجيعتنا من أن تكون الصحوة الأخيرة قبل الموت...
بيد أن قلقنا تلاشى حينما رمقناه يصلي... يصلي صلاة طويلة، يبكي بحرقة وهو يدعو ثم يسجد مرة أخري... ومضى ليلة بطولها على هذه الحال... وفي الغداة استحال إلى كائن آخر ليس هو سعد المريض ولا الشاعر المرهف قبل أزمته بل رجل لا نعرفه... هادئ الطباع متزن تملؤه السكينة والثقة... عرف وقتها أن سعد أخي الذي كان قد انتهي، سحقته الأحزان، وقتله اليأس، وتوارى في رمال الاستحالة، وأن رجلاً جديداً بطباع جديدة قد سكن جلده وتقمص روحه وسرق دوره... سعد الجديد إنسان ساخر يحتقر الحياة بماديتها وجمودها ويشكك في كل القيم النبيلة على وجه الأرض... إنه لا يعرف سوى أن الدنيا قد سرقت منه روحه فليسرق هو من الدنيا روحها... أذهلني قبل أيام حينما عرض عليه والدي الزواج من ابنة عمي... وافق سعد بسرعة دون مماطلة أو نقاش كعادته دائماً... ومضى يستعد لشيء لا أدري كنهه لكنني أخافه. حينما ناقشته بضرورة إبلاغك بالأمر استلهمني قليلا ليعطيك هذه الورقة ملصقة ببطاقة الدعوة، فعرفت أنك مازلت تحتلين أعماقه وتتنفسين خلاياه...
همست لها وصدري يعلو ويهبط:
- أريد أن أراه...
انتزعت نفسها من بين أحضاني هاتفة بجزع:
- هل... أقصد... يمكن... أن يحدث... هذا؟
ابتلعت دموعي الكثيرة وأنا أقول بثقة:
- وضحى... يجب أن أرى " سعد" وبأسرع وقت ممكن...
اقتحمت بدرية جلستنا المنفردة وهتفت بصوت جزع:
- أحلام... لم تبكين؟
ثم قالت لوضحي مؤنبة:
- ألم أقل لك يا وضحى أنه من الأفضل ألا تلتقيها... لقد تحملت الصعاب من أجل لقائكما في بيتي، لكنني لم أتوقع أن يحدث هذا... هيا يا أحلام أزيلي آثار الدموع وأعيدي تجميل وجهك فزوجك ينتظرك في الخارج...

مضيت معه منقبضة النفس مكلومة الفؤاد بيد أن أحلاماً غافية نبضت في قلبي وأملا ساطعا كسهم مضيء ومض في طريقي المعتم بأنني سائرة إلى لقاء سعد شئت هذا أم أبيت فهو قدري الذي أتطلع إليه...

كان لقاؤنا قويا عاصفا محطما لكل السدود والعراقيل والحواجز... لقاء اختصر الزمان بلحظة واعتصر المكان بخطوة وألغى كل المسافات... التقت عينان ظامئتان، عينان محترقتان، عينان أضناهما البعد واللوعة والاشتياق... فتفجرت البراكين من حلولنا لتطلق حممها وشظاياها النارية تحت أقدامنا لنتوغل بخطوط زلزالية فنسقط في فوهة البركان... مرت شهور زواجي سريعة أمام ناظري لأنسي أنني زوجة موصومة بعار العبودية الأبدي، ونسي سعد أنه عريس في ليلة زفافه... جرفنا تيار الشوق حتى الثمالة لأفيق في اللحظة الأخيرة:
- كلا... إنني عذراء!!
التهمتني نظراته المتسائلة وملامحه التي استفاقت تواً على كابوس خيالي لا يصدق... طفقت أروي له كل شيء وكأنني أزيح أكواما من الجبال على عاتقي. قال بصدق وحبات من العرق تلتصق بجبينه:
- أحلام... أريد أن أتزوجك...
نظرت في عينيه وأنا ألهث:
- وزوجي... وعروستك التي تنتظرك...
اغرورقت عيناه بالدموع ليقول بثقة:
- لا مستقبل لك مع زوجك... يجب أن تنفصلي عنه بأسرع وقت ممكن أفهمت وبأية طريقة ممكنة، وأنا لن أتزوج... لن أعقد القران الليلة ولن أدخل على عروسي وليقولوا جن سعد أو فقد عقله فلا يهمني في الدنيا سواك...

رافقتني وضحى حتى باب قاعة الزفاف الرئيسية لأغادر المكان مع زوجي وكياني كله يرتجف... ترى ماذا سيحدث الليلة؟

لقد كان لقاؤنا من الصعوبة بمكان بحيث لم يكن هناك أكثر أماناً من قاعة الزفاف المحجوزة لسعد... وفي ليلة زفافه بالتحديد... قبل موعد الزفاف بساعتين على وجه الدقة... أقنعت زوجي بأنه زفاف صديقتي المقربة. رفض، وإمعانا في إذلالي أغلق باب حجرتي من الخارج لأبقي محبوسة فترات طويلة. انتظرت حتى عاد... ألقيت بنفسي تحت قدميه باكية وأنا أعده أنه هذه آخر مرة أطلب منه هذا الطلب، وأنني لن أخرج من البيت مطلقاً... حدجني بنظرة متفحصة ثم وافق على مضض بشروط غير مكتوبة ولا تقرأ سوى في الأعين الصدئة المغلفة بغبار الشيخوخة... أرهبني الفارق الشايع بين حنان سعد وعاطفته المتدفقة المشبوبة وبين الجيف المتعفنة التي تمزقني ليلا ونهارا بمخالبها النتنة وتلون أمسياتي بلون الحداد، أذهلني الفارق بين الحياة والموت، الحيوية المتقدة سحراً وجمالاً... والعجز المتفتق عن برودة وخواء، الاحتواء الرقيق المباغت وعنف الانكسار وفقدان الرجولة... تساءلت بكل مرارة الدنيا كيف أعود إلى الصقيع البائت بعد أن عرفت نفسي حرائق العشق ومتعه البوح... كيف أستسلم وأنسي كعادتي... كيف أنظر إلى السقف أرقب عش العنكبوت الذي اكتمل وأعدو خلف الثواني البطيئة لتسير بسرعة:

سألني بصوت أجش بارد:
- لماذا هاتفتني بسرعة لتعودي باكرة... الزفاف لم يبدأ بعد؟
قلت بمرارة:
- ربما لن يحدث زفاف أبداً... صديقتي قد تغير رأيها...
ضحك بصوت محشرج مختلط بالسعال ليبدو فمه الخالي من الأسنان ثم قال:
- ربما هي خائفة من ليلة الزفاف...

استمر يضحك وكأنه يسخر مني ومن جمودي وصمتي الغبي... نز جسدي عرقاً غزيراً حتى كدت أغرق... يا إلهي ألهذا الحد يستضعفني وينكر وجودي ويسخر من عجزه وصمتي، انعدام رجولته وفقدان أهليتي، ظلمه وذهولي، وغربان سوداء تنعق فوق عشنا المتهالك آذنة بالخراب... ويحي، خاضعة ذليلة، ويحي خائفة متهاوية لا أملك جرأة سجين ثار على سبحانه ، ولا أتمسك بذرة كرامة تعينني على الهروب... أبي هل هو كلمة السر أم كلمة الظلم والأنانية والجبروت والقسوة؟ ماذا يفيدني أبي عندما أموت مظلومة مسحوقة كنخلة سامقة يقطع عنها إمدادات المياه... لن يقلدني نيشان الشجاعة أو وسام البطولة المستحقة بل سيركلني بعيداً عنه في قبر بالكاد يحتويني ثم يعود إلى بيته متنهداً في راحة " لقد سترنا البنت" هكذا أنا في عقيدته شئت أم أبيت... ولادتي عار وزواجي خلاص وموتي سترة، أقفز على الحدود الموجعة وأستخلص حياة رفضتني في البدء وكرهتني في المنتهي... أعيش في مثلث خطر يهون أمامه مثلث برمودا الشهير وينحني له إجلالا وهيبة، ليس هناك حدود متعارف عليها للممنوع والمباح... كل شئ ممنوع ولا شئ مباح... أشعر بأيد خفية تتسلل إلى عنقي لتخنقني... أجاهد لأتنفس... أجاهد لأستجلب نسمة هواء لرئتي المنهكتين، وتبدت لي الحرية فجأة غامضة مغرية... لماذا لا أعود حرة أبية من جديد؟ لم لا أتخلص من هذا القيد الذي يخنقني ويسرق الهواء من محيطي؟ لم لا أهرب بعيداً حتى لو ذهبت إلي الجحيم... لماذا أسلم نفسي وشبابي وحياتي مطية لمن لا يرحم ولا يقدر ولا يفهم؟ وحتى متى... حتى أصحو ذات يوم وقد فقدت كل شئ وأعود بيدين خاويتين ونفس ممزقة وجسد متهاو ولن يرحمني أحد...

كلا... دبت بي قوة مفاجئة وعاصفة من الرفض لم أعرفها قبلا تدوي داخل أعماقي ورنين كلماته الأخيرة يبتر أي موجة استسلام تخضع لها نفسي من جديد. سأكون كما كنت دائماً حرة أبية ولن أستجدي تراثي من أحد فجداتي كن دوما نساء عظيمات لا يخضعن لأحد ولا يسمحن لكائن من كان أن يسيطر أمجاده المقدسة على حساب ضعفهن واحتياجهن... سواك يا أمي... واعذريني يا أماه، فضعفك كان يسري في شراييني ورئتي كما أورثته أخواتي من قبلي رجالاً أم فتيات، أورثتنا ربما رغما عنك... الذل والاستجداء ونكس بيتنا من زجاج يرانا الناس ونحن لا نراهم لذلك نعمل لهم حساباً في كل ما نقوم به ضاربين باحتياجاتنا عرض الحائط... لقد تركتنا يا أمي ضعافا كقش تذروه الرياح.... أدوات... لعب في يد أبي يحركها كيفما يشاء وأينما حطت مصالحه ونزواته. تركتنا نتخبط دون أن نعرف خيوط اللعبة... دون أن نعرف أن لنا حقوقا كما أن علينا واجبات وأن لنا لسانا يجب أن نستخدمه وأيديا لم تخلق عبثاً... وأقداماً لن تعرف سوى الهروب... سامحك الله يا أمي وغفر لك فما أورثتنا إياه لم يكن سوى إرثك الذي حصلت عليه من أجدادك وسنورثه نحن أيضا لأحفادنا إذا لم أقم بثورة ضد سجاني وجلادي...

احتوتنا حجرتنا الكئيبة وأجوائي تضطرم بنيران صاخبة تعكس لهيبها على وجهي الصامت... اقترب مني ملاطفا لم أر منه سوى حيوان متوحش بأنياب بارزة ومخالب حادة توشك تمزيقي... طفحت رائحته الكريهة لتزيد من لهيب النار التي تفوح داخلي وتوشك على الانفجار... انقلبت أمعائي وأنا أسعر بغثيان شديد... دفعته بيدي وأنا أهتف لا... برزت عيناه من محجريهما وكأنني قد كفرت بالله وأعلنت إلحادي.... صرخ قائلاً بصوت جريح:
- هل جننت يا امرأة؟

أعاد الكرة فدفعته بشدة أكبر وبحقد أعظم وبكراهية أشد... أشهر سلاح الضعيف سلاحه الذي لا يملك غيره... انهال علي بالصفعات والركلات والضرب المبرح... وغلياني يزداد والحرارة اللافحة في جوفي تطلق حممها حتى نسيت نفسي وخرج المارد الحبيس داخلي ليعلن عن انتهاء فترة صمته... دفعته بكلتا يديّ... ازداد جنونه وهو يرى تمردي وجسارتي، فأمعن في ضربي، ولم أشعر إلا ويداي تمتدان إلى عصاه الغليظة الملقاة على الأرض وأهوي بها بكل قواي على رأسه الفارغة فأحطهما بضربة واحدة... ليتهاوى إلى جواري فاقداً الوعي... وفاقداً الحياة كذلك...

dali2000 04-05-09 03:50 PM

الجزء السابع والعشرون




تغيم الحياة في نظري من جديد وتبدو الأشياء من حولي ضبابية سرمدية لا شيء حقيقي أو واضح، ارتدت الوجوه من حولي أقنعة كابية ترابية كالحة، فلم أعد أميز الوجوه... يقترب وجه أمي رويداً رويداً حتى ليكاد يلتصق بوجهي، أبتعد قليلاً، لأتمكن من رؤيتها بوضوح... تخرج كلمتها المأثورة بسرعة واندفاع وكأنها تبصقها في وجهي " لا حول ولا قوة إلا بالله" أرفع يدي... أتحسس وجهي لأمسح البصقة فلا أجد سوى دموعي... دموع غزيرة كاسحة لا أدري أمن نهر اندفعت! أو من محيط غادر هادر انسكبت، شلال عاصف الأمواج يتلاعب بروحي المنكمشة فغدوت كقارب أضاع مرساه فتاه في لجج لا يملك له دفعاً... أمي... أماه لا تغادريني ولا تحتقريني... ولمن تتركينني؟

ألأب أضاعني ولم يصن الأمانة، أم لأخوة نسوني في متاهات حياتهم ووضعوني في خانة المهملات... أم لزوج ظالم قاس قتلني مئات المرات قبل أن أقتله!! ثم كيف تحتقرين من هي أفضل منك... نعم... أنا أفضل منك بكثير يا أمي، أنت صمت وصمت وصمت... اغتالتك المهانة والمذلة وسبقت اغتيال أبي لك. أهانك وسحقك وظلمك... ضربك حتى أدماك، ظلمك، نهبك، أبكاك، ثم ابتدأ السلب... سلبك نقودك ومجوهراتك ثم سلبك حقوقك وأحلامك وانتهي بأن سلبك عقلك حتى جننت على يديه، اتخذك مطية له وآلة لتفريخ أولاده ثم خادمة تحت أقدامهم جميعاً... ولضعفك وقوته، وهشاشتك وعظمته، ومهانتك وجبروته قبلت أكثر من ذلك... بدأ بعجرفة لا يعرفها سوى الجبابرة يسحق عظامك يسحق عظامك بقدميه الغليظتين ويجرف ما تبقي من كرامتك في بالوعة ليس لها بداية أو نهاية... تزوج عليك ولم تحركي ساكناً وكأنه لم يوجه طعنه غادرة لأنوثتك السلبية وجرحاً نافذاً لقدراتك كامرأة وأم وزوجة... لم تثوري ثورة النساء ولم تفعلي ما تفعله النساء الواثقات من أنفسهن وأزواجهن، ثورتك يا أمي كانت ضعيفة مثلك ورد فعلك كان واهياً كذاتك... ضعفك كان وقوداً لنار غضبي الذي ما يفتأ يزداد أواره يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، حتى انتقمت لكيلينا من أقدار لم نخترها وإنما فرضت علينا فرضاً وأجبرنا على أن نخوضها خانعين... لكنني كنت أشجع منك يا أمي يا أمي فلا تغضبي أو تبصقي علي... أماه إني بحاجة إلى مساندتك، إلى أحضانك الدافئة ولو من خلال الأثير...

- هل قتلت زوجك...؟

نعم ... نعم قتلته... قتلته مع سبق الإصرار والترصد ولو عاد إلى الحياة مرة أخرى سأقتله ولست نادمة على ذلك أبداً... لقد قتلته وقتلت الشر والأنانية والطمع معه... وقتلت أبي فيه... قتلت ذلك الرجل الذي لا يربطني به سوى رباط واه من الأبوة المزعومة... الرجل الذي ملأني أحقاداً على كل الرجال وطبع صورته في وجه كل رجل أعرفه واغتصب مني حريتي وسعادتي ومستقبلي... وحقي في أن أعيش كأية فتاة أخرى في مثل سني... قتلت فيه أباً مجرداً من كل معاني الأبوة، تفتحت عيناي على ظلمة وأنانيته، نشأت أجاهد بذرة الحقد التي زرعها بيديه داخل أعماقي، أقسر نفسي على حبه أو عدم كرهه على الأقل، أرهب نفسي بعقاب الله والنبذ من رحمته إذا استمرأت هذا الشعور... بيد أن البذرة تنمو وتترعرع وكأنني بكبتي لها قد دفعتها أكثر نحو النضوج والطغيان حتى لم يتبق في قلبي ذرة حب له ولا حتى شفقة...

- أجيبي... هل قتلت زوجك؟

تتصاعد الشهقات في أعماقي لتزدحم في حلقي، فلا أقوى على الكلام ولا البكاء... إن هي إلا نظرات هاوية خاوية تدور بلا معنى في فضاء لا أعرفه ولا يمت لي يوماً بصلة... صوت دافئ حبيب يخترقني:
- تكلمي يا أحلام ولا تخشي شيئاً أنا معك... هل قتلت زوجك حقاً؟؟

أهي بدرية من يتكلم... أهي أنت أيتها الحبيبة... وهل قتلت زوجك أنت أيضاً؟ أما كان من الواجب أن تقتليه أن تمزقيه بألف طعنة ثم تمثلي بجثته ليراها القاضي والجاني ويعرف كم كنت مظلومة وشهيدة...؟ ألم تكن لك جرأة كجرأتي أم أن عذابك لا يوازي عذابي، بلي يا بدرية... بلي لقد ذقت على يديه ألواناً شتى من العذاب وأسقاك المر قطرة قطرة حتى لم تعودي تعرفين هل أنت تعيشين في جحيم الآخرة أم أن هذا جزء لا ينفصل عنها... أتذكرين يا بدرية أم قد نسيت... إنني لم أنس أبدا ذلك اليوم السوداوي البغيض حينما كنت في زيارتك في لحظة مسروقة من عمر الزمن. كنا نأكل ونضحك أنا وأنت والأطفال حينما علا صوته يطلبك و يعلن قدومه ... اختبأ الأطفال على الفور، وكأن القادم هو وحش مفترس لا أبوهم رمز الحنان و التضحية ... اصفر وجهك على الفور وزاغت عيناك الطيبتان ثم نهضت من فورك لتلبية النداء ... سألك كسيد يسأل خادمة أين عشائي يا ... أسرعت تجيبين طلبه .. ارتجت جدران البيت لصوته أهذا فقط عشائي ؟؟ تأكلين أنت وأولادك و تستبقين لي الفضلات ؛ لم يعطك فرصة لأفهامه أنه على خطأ وأنك احتفظت له بنصيب الأسد وحرمت أولادك منه ... فسكب الطعام على وجهك وثيابك ثم بدأ ينهال عليك بالضرب والكلمات البذيئة القبيحة التي لا تخرج من فم إنسان سوي .. كنت تكتمين آلامك وصراخك باستماتة لا أدري أكان من أجلي أم من أجل أولادك !! ثم جئت تتحاشين النظر في وجهي ... جئت ( وبأي حال عدت يا عيد) ... جئت ممزقة مشتتة في عينيك كرامة شعب مسلوب وعلى شفتيك فضيلة مرغت في الأوحال ... جروح هنا وهناك وجروح غائرة لا ترى ونفس صدئة حرى ... كنت جثة تتحرك على قدمين يملأك الخزي والخجل والعار... أصدقيني القول أخيّة... ألم تتمني لحظتها أن تقتليه، أن تواتيك الجرأة لتحطمي رأسه كما أحال كل شيء فيك إلى حطام ثم سجنك بين قضبان الترمل إلى أبد الآبدين...

أجيبيني صادقة مخلصة ألم تقتليه فعلاً كما تمنيت قتله مراراً؟ أرجوك يا أحب الناس أن تغفري لي وتسامحيني ، فلم أقبل حياة الذل مثلك ولم أرغب أن تمتد مهانتي أعواماً طويلة، فليس في جعبتي المزيد من الصمت وليس لي طاقة على الصبر والتحمل...
- أحلام... أرجوك يا حبيبتي تكلمي فالتهمة سوف تثبت عليك إذا صمتّ...

وما يهمني يا بدرية إن ثبت أم لم تثبت... في كلتا الحالتين لن أخرج من سجني، ولن أختار الحياة التي أهفو إليها من كل قلبي، ولن أتزوج بمن اخترته بملء إرادتي...

القضبان تتشابه يا بدرية في كل مكان، منذ وعيت على الدنيا وأنا أشعر بالقضبان تحوطني من كل الجهات... قضبان سوداء وبيضاء ومن مختلف الألوان، لذلك فلن يكون هناك فرق كبير إذا احتوتني قضبان مرئية...
- تحول إلى مستشفي الأمراض يا أماه أخيراً... أهذه هي نهاية المطاف لكل امرأة واعية عاقلة رفضت الظلم وتصدت للمهانة والإذلال وقررت أن تختار مصيرها بنفسها بدلاً أن يختاره لها الآخرين... على طريقك يا أماه... ذات الطريق الذي اختاره لك أبي وسارت فيه شقيقتي ندى دون ذنب أو جريرة... ضباب يغشي عيني فلا أرى ماذا يحدث أمامي... وجوه كثيره تحيط بي، أفواه تفتح وتغلق... عيون لامعة وأخرى كابية خابية بلا لمعان، غضب وسخرية وألم تلون الوجوه تفصلها عني غلالة سحرية لا أري منها سوى ذاتي... أدوية كثيرة ابتلعتها، إبر طويلة تغرس في ذراعي على امتداد الليل والنهار، أقطاب كهربائية تشل عقلي وتدمر حواسي وتعطل قدراتي... ولا يصدر مني في النهاية سوى صراخ... صراخ متقطع كعواء الذئاب... ثم تنتابني إغماءه طويلة لا أفيق منها إلا على سراب...

شممت رائحة أحببتها ذات يوم... تلونت عيناي بألوان الفرح ورقصت الجراح على حافة الألم... وضحى... همست باسمها على الرغم مني... أعلنت بنفسي انتهاء الحداد فانطلق لساني باسم سعد...
- هل عرفتني... الحمد لله... شكرا لله... أحلام من أجلي ومن أجل سعد تكلمي... قولى بأنك لم تقتلي زوجك... ارفضي التهمة وأعلني احتجاجك، لا تصمتي زوجك هكذا فالصمت ليس في صالحك... لقد حاول سعد بشتي الطرق أن يكلمك لكن الدروب كلها مغلقة كما تعلمين يا أحلام من أجل سعد تكلمي...

سعد ... نعم إنه حبي الوحيد وذوب قلبي وواحتي التي أختبئ فيها من غدر البشر... لكنني لن أكون له يا وضحي ولن يكون لي... مهما فعلت وكافحت وسعيت لن يتحقق أملنا سوى في الجنة. وحتى الجنة لا أضمنها بعد أن قتلت زوجي... أتدرين لماذا قتلته يا وضحى ولأي سبب أنهيت حياته... ربما لأنه ظلمني كثيراً وأهانني مراراً وقتلني مرات ومرات، بيد أن السبب الحقيقي الكامن داخل نفسي هو أنني لن أتحرر منه سوى بالموت... فلا أمل الطلاق كان يداعبني ولا ضوء الفرار كان يلامس أفقي... فكان لا بد مما ليس له بد أن أعيش حرة أبية داخل نفسي حتى ولو كنت مقيدة فعلياً، أن أتنسم الحرية التي لم أذق لها طعماً، أن يحلم بي سعد كما شاءت له أحلامه أن تصورني، وحيدة بلا قيود، بلا رجل يستنزفني، أو أغلال زوج تقيدني... أن تكون فتاة أحلامه شجاعة انتصرت على الظلم والاستبداد والأنانية... إنني أثق به وأعرف تماما أنه لن يخلني حتى لو خذلني الناس جميعاً. أتدرين لماذا؟ لأن حينا ليس كأي حب آخر في الوجود، إنه حب مختلف امتزج بدمائنا وسرى فيها كسريان النار في الهشيم... لن أنساه يا وضحى أبد الدهر...
أحلام ... أستحلفك بالله أن تتكلمي... قولي أى شيء... أي شيء ولا تصمتي هكذا...

أعذريني يا وضحى، وليعذرني سعد وكل أحبائي، فما عادت لي لغة سوى الصمت، في حروفها أستكين وفي جملها الباردة المقتولة أجد ذاتي الهاربة... تبتعدين... تغادرين... تسير خطاك النائية على قلبي فتترك بصماتها الدامية عليه... ترتجف الورقة التي دسستها في يدي ربما هلعاً أو أملا أو استسلاما، أفردها بأصابع محترقة، تخترقني الكلمات الموجعة فأتأوه لألم الطعنات.

أبداً تحن إليكم الأرواح *** ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشاقكم ***وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلفوا *** ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم*** وكذا دماء البائحين تباح


تدمع عيناي ثم تغرق فتسيل الدموع بغزارة كاسحة وأنا أرقب طيف وضحى وهي تغادر عبر زجاج النافذة، فأشعر أن روحي تغادر معها ولم يبق إثرها سوى جسد ممزق مبتور بلا أية هوية... تسقط عيناي على شجرة قريبة أرقب عصفوراً يصارع جلاديه، يحاول أن يحمي عشه من عبث الصغار، يختبئ ثم يقفز... يحني رأسه، يحتمي بغصن ضخم...

تعود نظراتي خائبة كسيرة إلى ذاتي المضعضعة ونفسي المضعضعة بالأحزان وإلى تلك الورقة المبللة بالدموع... ويحي... سعد ألم تنس؟ ألم تسل؟ ألم تفقد الأمل؟ وحتى متى؟ وهل بعد جريمة القتل منفذ أو مخرج أو حتى حلم، إنها النهاية سا سعد فحاول أن تبتعد وتسهو وتجد لك ملاذاً آخر، وسكناً ليس محكوماً بعادات وتقاليد وقائمة طويلة من المحاذير والعقبات... حاول فأنت تستحق كل خير وكل سعادة...
- ويحك يا أحلام أهذه هي النهاية؟ تفضحيننا أمام الناس وتغمرين رؤوسنا في الأوحال...

أبي قادم أنت من واقع أم من خيال... اختلطت المرئيات بناظري فلم أميز الحقيقة من السراب... تأتيني صورته من وراء غلالة غليظاً قاسياً جافاً كما عهدته دائماً...
- أنت تستحقين القتل غسلاً للعار وانتقاماً لشرفنا المهدر على يديك...
عار... شرف... ألا زلت تتشدق بالمثاليات يا أبي وأنت أبعد الناس عنها، ألا زلت تتباهي بالقيم والمثل التي لا تعرفها؟ ألا زلت ترتدي رداء القديسين وتتمسح بمسوح الرهبان وتتخفى خلف قناع الملائكة، ألا تدرك أن الحقيقة ظهرت وأننا لم نعد كما كنا ولا عاد الزمان هو الزمان... أمي ليست هنا لتركع تحت قدميك ولا أخوتي سيرضخون لك بعد الآن ولا حتى زوجتك ستحني رأسها لك... لقد حطمت أسطورتك بيدي، وخلعت النقاب عن وجهك المزيف، لتتبدى كل الحقائق القابعة خلفه وبأنه لا يصح إلا الصحيح والحقيقة لا بد ظاهرة في النهاية... لم أحنك يا أبي أو أمرغ شرفك في الأوحال. كل ما فعلته أنني كسرت أغلالي وعدت حرة من جديد... هل فهمت يا أبي؟
- لماذا فعلت هذا يا أحلام؟
دموع حقيقة على وجه أبي... دموع يعتصرها وجدانه قطرة قطرة لتحلق في سماء الوجع والأنين وتتحدر على وجه شاحب كئيب صافية متبلورة شفافة... حانت منى التفاته إلى حيث العصفور البائس على الشجرة وقد أصابته الضربات الطائشة ثم حملته يد قوية إلى قفصه الجديد جريحاً لا يقوى على الطيران... صرخت بكل ما أملك من قوة:
- أبي أنا لم أقتل زوجي... أنا قتلتك أنت...

********************


الجزء الأخير

وتصرمت خيوط العنكبوت




أكان حلماً أم حقيقة أم هذياناً... أيا أحلام حبيبتي الصغيرة وزهرة الحزن الجميلة، كيف يثمر الحزن، لا أدري؟ بيد أنها بذرة تشبعت برطوبة اليأس وانطمرت تحت تربة التعاسة تغذيها دموع الندم وآهات الحسرة لتنبثق عن زهرة معطرة برياح الأسى... ماذا يربطني بك أو ماذا يربطك بي أو ما الذي يربطنا معاً؟ هل هو حبل سري ممتد من الخيبات المتلاحقة أم هو مخاض واحد قذف بك كما قذف بي، لتتلقفنا أرض جرداء ويكون الصدى وقعاً لارتطامنا... ربما توارينا خلف الظنون معاً، أو حكنا من ظلام الليل وشاحاً يسعنا معا، أو دثرتنا خيمتنا المتوارثة عن الأجداد في خباء لا يرى منا سوى عينين خابيتين مدججتين بالوحشة والألم... معلقتين بسؤال لا إجابة له...

أختاه لست وحدك غزالة جانحة بين أسوار الألم، ففي موسم اصطياد الغزلان تنحنى كثير منها نحو أقدام جلاديها... وجلادنا شخص واحد يا أحلام رغم تعدد الأقنعة. فالوجوه تتلون... زوجي وزوجك لكن الأب واحد والمصاب واحد... أمتطي فجيعتي يوم ميلادك ينفتح فوك الصغير كلما ضممتك إلى صدري تبحثين عن نبع أمومة لا ينضب ويذبحني سؤال: هل تلك القطعة الحية تنبع من ذاتي؟ تنتمي إلىّ؟ تحمل دمي وأحشائي وذوب قلبي؟ حملتها داخلي شهوراً مرت دهوراً، ثم خرجت لتبقي شقيقتي. هل انتهكت براءتي يوماً وقطفت الثمرة قبل نضجها لتنتج حصاداً يانعاً يضم إلى الشجرة الأصل كفرع صغير... لم تعد التساؤلات تجدي لم تعد الدموع دواء للأحزان... أرقبك من طرف خفي... كنت متفردة كشعاع نور انبجس من ظلام. لا تمتين لنا بصلة، لا نملك جرأتك وتنبذين استكانتنا، يرهبنا إقدامك ولا تملكين خنوعنا، قوتك وضعفنا، أمالك ويأسنا... أحلام طويلة عريضة بحجم شفافية قلبك الملائكي عجزت أن تدرك ذبول الأزهار على بابنا وأفول الشمس وانتحار القمر. كنت نسيجا خاصا لا يماثلك أحد، نسيجك إبداع الخالق أودعتك فيها خلاصة حبي وذوب قلبي... كبرت وتعالت أحلامك حتى تعلقت بهدب السماء... آمال لا تقر بالممنوع ولا تعترف بالعيب ولا تذعن للمستحيل. أناف عليها الحب وعباءته الفضفاضة فانطلقت تباري طواحين الهواء... آه يا حبيبتي... كنت أخشي عليك رغفم عذابي وكنت تعين عذابي... تدركين أية امرأة كنت وعلى أي شاطئ منبوذ ألقيت مرساتي بدون أن يسكنني حلم الباخرة القادمة من الشاطئ الآخر...

أتعرفين يا أحلام... لقد كان الأمل يلعب معي لعبة الاختباء.... يزورني وأنا منصرفة عنة، وما أن أقبل علية حتى يلملم ثيابه ويرحل... هكذا كان يداعبني وحينما سئمت المماطلة هجرته إلى غير رجعة، هجرته لعله يدركني ذات يوم قبل أن يفوت الأوان... وقد فات الأوان يا أحلام... فات الأوان لكل شئ. تبددت الأحلام على أرصفة الظلم والتعسف ولم يبق سوى الأوهام وجروح لن تندمل... أوصد الأبواب والنوافذ فتقتحمني أهازيج الكون، تجردني وتغويني، فأشرع ألف باب وباب أسكب على عتباتها دموعي العصية...

جرني موج إلى بحر البجع
كيف صفو الماء لم يبد اهتماما؟
جرني الموج
إلى صفو الوجع
فانسكبنا
في أناشيد الختام

وقد جرفتنا أمواج وأمواج وسقطنا في دوامة العاصفة... آه يا أحلام كيف لم تدركين سر الحياة رغم علمك وثقافتك... كيف لم تفهمي بأن الحياة أخذ وعطاء، ومقايضة للأبد... إذا أردت أن تسلم أو تنجو فأحن رأسك للعاصفة... أعرف أنه منطق الضعفاء البائسين، لكنه مفتاح الأمان فى عالم يخلو منه... كلتانا وقف ضد التيار بيد أن الفرق بيني وبينك أنني سقطت بإرادتي وطفقت أحنى رأسي حتى امتهنته... أنت سرت ضده بكل قواك وجاهدته حتى أسقطك هو... المرارة هى النتيجة الحتمية في النهاية، لكن الإرادة لا يملكها سوى الأقوياء... أنت ضعيفة يا أحلام واهية... مستكينة... من خدعك بوهم القوة؟ من أومض في ذاتك المضعضعة معني الأقدام؟ من ولغ في دماغك ليسرى فيها شبح التمرد؟ القوة هى ما يراه الآخرون بك لا ما ترينه في نفسك... وقد كنت ضعيفة ... ضعيفة حد الشفقة، شهدت تمزقاتنا بدموع صلدة وأيد موثقة مغلولة بالعجز والانكسار... حظر عليك أبي كل شئ وأقسرك على وأد حبك دون أن تحركي ساكناً... أجبرك على الزواج بمن لا يناسبك ولا ترغبينه، ولم تعترضي بل ألقيت رأسك بين جنبيك استسلاماً، وأحلام المتمردة تعربد داخلك... حتى طغي صوت الداخل على كل ما عداه فارتكبت أجبن عمل يقوم به أي أنسان... اخترت الأسهل والأسرع...

أرهبتك المواجهة... لم تستطيعي أن تعبري عن حقوقك وأحلامك ومتطلباتك كأية إنسانة شجاعة... بل غافلت العالم وغدرت ذاتك و أزحت العقبة من طريقك بأبشع الوسائل وأرخصها... أنت جبانة فزعة يا أحلام، أقولها من قلب مخلص محب ومن يقول لك غير هذا فهو كاذب....

الحرية يا أحلام هي وهم سكن عقولنا، ولا أساس له في أرض الواقع فالإنسان مكبل بالأغلال منذ ولادته... قيود حديدية تشده للأرض ومئات للسماء... الإنسان هو الذي يصنع الحرية ويجملها ويعيشها لكنها لا تصنع الإنسان ولا تحميه...

هذه يا أحلام الحرية التي بحثت عنها طويلاً، وضللت الطريق إليها لتنتهي من حيث بدأت... بل من حيث بدأنا جميعاً ولا خيار آخر...

" بنتم وبنا" صرخها " ابن زيدون" في وجه " ولادة" لأصرخ بوجهك " وضعت وضعنا" ضعت يا أحلام وضيعتنا من خلفك، فلم نجن حرية لهثنا وراءها طويلاً، ولم يعد في الأمكان العودة إلى ما كان... فبتنا معلقتين في الهواء نتوجس النزول إلى الأرض ونهاب التطلع للسماء، ولا نستطيع البقاء حيث نحن...

دموعي كطوفان هادر يجرف في طريقه كل شئ عدا غضبي منك، فهو عصي على الانقشاع، متشبث بتلابيب القلب قبل العقل وبقدر حبي لك كان غضبي منك... أفهم حبك وحيرتك وغذابك وضياعك، فهي قواسم مشتركة لنا معاً، لكنني عجزت عن فهم تهورك واندفاعك وتدمير ذاتك دون جدوى...

سامحك الله يا أختاه... وأسبغ علينا مزيداً من الصبر والجلد " ولا حول ولا قوة إلا بالله" .




النهاية


دنيتي غير 09-02-10 01:07 AM

×
،
رائعة ...فقد هي رائعة ...
من اروع الروايات التى قراتها وهي اول رواية اقرها لقماشة ..ياللله
جسدت واقع تعايشت معه البعض وتمرت اخريات عليه ,,,

هذه الرواية ستصبح فاتحة لقراءة كنوزك الاخر بأذن الله قماشة ...

dali2000

كل الشكر لك اخي على تنزيلك لهروايتة <<<تعبت حتى وجدت هالرواية .
كل الود لك...






**

dali2000 09-02-10 07:24 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دنيتي غير (المشاركة 2164481)
×
،
رائعة ...فقد هي رائعة ...
من اروع الروايات التى قراتها وهي اول رواية اقرها لقماشة ..ياللله
جسدت واقع تعايشت معه البعض وتمرت اخريات عليه ,,,

هذه الرواية ستصبح فاتحة لقراءة كنوزك الاخر بأذن الله قماشة ...

dali2000

كل الشكر لك اخي على تنزيلك لهروايتة <<<تعبت حتى وجدت هالرواية .
كل الود لك...






**


كم يسعدني مرور احدهن على الرواية

منتهى الشكر والامتنان لك على التشجيع

موفقة

frogoo 13-02-10 09:23 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اخي لا يسعني الا ان اشكرك على هذا الجهد الجميل ويعطيك العافية

سلمت يمناك

تحياتي

خذني بقايا جروح 17-02-10 04:39 PM

يعطيك العافيه أخي على المجهود بصراحه الروايه روعه
وتستحق القراءه

al7eeloh 24-02-10 02:39 PM

يسلمووووووو


الساعة الآن 11:24 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية