منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الارشيف (https://www.liilas.com/vb3/f183/)
-   -   *&* قصـــــص ما ورااااااء الطبيعــــــــــــــــة *&* (https://www.liilas.com/vb3/t4679.html)

^RAYAHEEN^ 12-12-05 10:49 AM

علاااااااااء اي اقعد شو انت قاعد على قلبي انت قاعد على الكرسي
هههههههههههههههههههههههههههههههههه

^RAYAHEEN^ 13-12-05 12:34 AM



الواجهة الرابعة ‏
عينا راسبوتين ‏
‏-1-


قال ( مازن ) : ‏
ـ" بالطبع تحول الصبي ( جان بيير ) الى كتلة هلامية هي التي تراها أمامك .. وقد ‏حصلت على الكتلة وحصلت على المسحوق إياه .. قبل ان ينتهي الصبي تماما حكى ‏القصة لأبويه كاملة .. وقد جرى تحقيق عن الموضوع ولم تعرف الصحف شيئا عنه ‏‏. وظل المسحوق في المختبرات الفرنسية لكني حصلت على بعضه .."‏
قلت له وانا اعيد تأمل الكتلة خلف الواجهة :‏
ـ " إذن هذا طفل او ما بقي منه !"
ـ" هو كذلك .. ويجب القول إنه تلقى أقسى عقاب ممكن على شيطنته .. هذه طريقة ‏تربوية ناجحة أخرى .."‏
ـ" وهل جربت المادة ؟"‏
قال باسما وهو يتجه إلى الواجهة الرابعة :‏
ـ " ماذا تظن ؟ إن الفضول هو القوة المسيطرة على الوجدان الجمعى .. اقوى من أي ‏شيء آخر .. والآن لنر هذه الواجهة .."‏

نظرت إلى ساعتي .. لقد توغل الليل كثيرا . لقد صارت العودة إلى القاهرة اليوم ‏وهما .. والغريب أننا كنا واقفين طيلة هذا الوقت فلم تتعبني ساقاي .. لكنني قدرت أن ‏أمامي ساعتين على الأقل قبل أن اعرف ما يجب معرفته ، ومعنى هذا ان علي ان ‏امضي ما بقي من الليل في الإسكندرية ..‏
طلبت منه ان نستريح قليلا فوافق ، وعدنا إلى غرفة مكتبه ..‏
غاب بعض الوقت ثم عاد حاملا صحفة عليها بعض الشاي والشطائر .. وقد سرني ‏هذا .. جلس يراقبني وانا التهم الطعام وهو يتأمل سيجاره اكثر مما يدخنه ..‏
ـ" هناك غرفة نوم يمكن كأن تقضي فيها ما تبقى من الليل .."‏
ابتلعت ما بفمي ، وقلت ضاحكا :‏
ـ" لا اعتقد ان الأمور بهذا السوء .. إن النهار قد اقترب .."‏
صمت وراح يراقبني في نفاد صبر ، ولسان حاله يقول : ‏
ألن تنتهي أبدا من هذا الأكل ؟ ما زال أمامنا الكثير ..‏
بالفعل فرغت من الطعام وشربت الشاي ، فنهض متعجلا الى المتحف دون ان يقول ‏كلمة أخرى ، وهكذا نهضت وراءه وانا لم افرغ من المضغ بعد ..‏
ووقفنا امام الواجهة الرابعة ..‏
كانت الواجهة تحوي إناءا آخر من أوعية الفورمالين الشفافة .. وبالداخل كان هناك ‏قضيبان من الزجاج ثبتت على كل عود عين بشرية كاملة .. كأنه عود من المكرونة ‏في نهايته بيضة مسلوقة ، لو لم تكن ممن يكرهون هذه التشبيهات .. على العموم كل ‏أطباء علم الأمراض يحبونها ويطلقون عليها ( باثولوجي مطعم الوجبات الجاهزة ‏Deilcatessen Pathology‏ )‏
قال الرجل :‏
ـ النوع الرابع من الرعب يتعلق بالتغيرات التي تطرأ ولا يمكن تفسيرها ، على اكثر ‏مخلوق تعرفه في الوجود ـ او هكذا تحسب ـ أنت !"‏
قال ( مازن ) :‏
لم يحب ( عادل السلاموني ) زيارته لـ ( موسكو ) قط ..‏
كان يشعر طيلة الوقت بأن هناك جوا خانقا يحيط به طيلة الوقت ، وبأنه مراقب وبأن ‏هناك نوعا من التوتر في كل شيء .. كانت هذه فترة السيطرة المطلقة للحزب ، مما ‏يعطي الجو كله طابعا ( أورويليا ) لا يمكنك أن تتحمله ..‏
كان ( عادل ) طبيبا في العقد الثالث من عمره ، لم يتزوج بعد .. وقد جاء الى الاتحاد ‏السوفييتي في بعثة تعليمية بهدف الحصول على درجة الدكتوراه في أمراض العيون ‏‏.. كانت أكثر البعثات الدراسية تتجه إلى الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت ..‏
قلت إن ( عادل ) لم يحب ( موسكو ) قط . والسبب على الأرجح كل قصص ‏الجاسوسية وأفلام ( جيمس بوند ) التي قرأها في صباه ، والتي جعلته يشعر بأن ( ‏موسكو ) مخبر كبير يراقب كل سكناته ، وكان يؤمن بان لدى الناس ما يقولونه لكنهم ‏خائفون ..‏
هكذا راح في لهفة يترقب الفرصة التي تنتهي فيها بعثته ويعود الى مصر ..‏
‏( أولجا ) ؟ من أخبرك بموضوع ( أولجا ) ؟ إنها فتاة رائعة حقا من ناحية الجمال ‏وتمثل كل أحلامه عن المرأة ، حتى إنه يتخيل صورتها في أي قاموس تحت كلمة ( ‏امراة ) .. وهي تحبه بجنون ويعتقد أنه يحبها بجنون .. لكن هناك تلك المشكلة التي لا ‏حل لها .. إنها لا تؤمن بشيء .. تكتب في خانة الديانة في أية استمارة تملؤها كلمة ( ‏لا يوجد )..‏
وكان ( عادل ) متدينا وقد ادرك أنه لا يستطيع الزواج منها لأنه ــ ببساطة ــ لا يريد ‏لها أن تربي أطفاله ..‏
لهذا ــ يمكننا أن نفهم ــ لم تحمل له ( موسكو ) أية ذكرى سارة على الإطلاق سوى ‏ذكرى الحب المستحيل .. وهي ذكرى تناسب الشعراء والأدباء .. ويمكنها ان تجلب ‏لهم رزقا واسعا بكل القصائد التي سيكتبونها عنها .. لكنها لا تناسبه هو الإنسان ‏العملي الذي لم يقرأ قصيدة ولا رواية في حياتة ..‏
كان يعد الأيام والأشهر بانتظار انتهاء البعثة ، الى ان صار شهر يفصله عن الوطن ‏‏..‏
قال ( مازن ) :‏
كان الأستاذ السوفييتي ( يوري زاجالوف ) رجلا غاية في البدانة .. ثقيلا جدا من ‏الطراز الذي لو جلس لجلس للأبد ، ولو وقف لوقف للأبد .. هناك نظرة منهكة في ‏عينيه من الطراز الذي يقول : ( أنت لن تبهرني بشيء فلا داعي لأن تتعبني معك ) ‏‏.. كان هو المشرف على دراسة ( عادل )..‏
قال له وهو يعبث في نموذج صغير للكرة الأرضية على مكتبه :‏
ـ" يؤسفنا أنك سترحل قريبا يا د. ( عادل ) .. كنت طالبا مجدا وأعتقد بشكل ما أنك لم ‏تحب ( موسكو ) .. لكني ما زلت أتمنى ألا تنسى أصدقاءك هنا .."‏
لم يرد( عادل ) حتى لا يتورط في مجاملة هي اقرب الى كذبة .. لكنك كان متأكدة ‏من شيء واحد : لربما كره ( موسكو ) لكنه أحب الكثيرين من الموسكويين بلا شك ‏‏..‏
قال البروفسور وهو ينهض : ‏
ـ" إنني راغب بحق في أن اهديك شيئا .. كلما رأيته تذكرت أستاذك ( زاجالوف ).. ‏لو جئت معي الى مكتبي .." ‏
كانا يتكلمان في غرفة الجلوس في منزل البروفيسور .. الثلج ينهمر بالخارج ، ‏والمدفأة مريحة تجعل فكرة الانصراف من هنا كابوسا .. لا بد أنك ستتلقى نزلة برد ‏تزيلك من على وجه الأرض ..‏
كان يشرب الشيكولاته الساخنة ، وهو يستشعر لذة المشروب الساخن الجسم يتسرب ‏إلى أحشائه .. لهذا حمل الطبق في يده ومشى وراء البروفسور ..‏
كان مكتب البروفسور مريحا دافئا هو الآخر ، ومنسقا بعناية .. هناك جدار تحتله ‏بالكامل كتب طبية أكثره اكتب بالروسية.. الجدار الآخر تحتله مكتبة أدبية عملاقة ‏تحمل أسماء مثل ( تشيكوف ) و ( جوجول ) وغيرهم من الكتاب الكبار الذين لم يعد ‏أحد يرحب بهم في الاتحاد السوفييتي ( لأنهم رجعيون )..‏
ثمة جدار ثالث تحتله واجهة زجاجية ملأى بالتذكارات .. تشبه الواجهة التي نقف ‏امامها ..‏
اشعل البروفسور سيجارا روسيا غليظا كريه الرائحة وقال مفكرا :‏
ـ" هل درع التميز الطبي ؟ لا .. إنني بحاجة إليه ..
ثمة قلادة من سيبيريا أحتفظ بها .. لكن .. ماذا عن هذه الرصاصات ؟ إنها المانية من ‏ايام حصار ( ستالينجراد ) .. وهذه ؟ قطعة من شظية .. هل تحب الدمى :؟ هناك ‏دمية من ( أوكرانيا ) لكن .. نعم .. هي الدمية .. إنها جميلة .."‏
ومد يده الممسكة بالسيجار والتقط دمية خزفية تمثل فلاحة روسية تربط شعرها ‏بإيشارب ..‏
فوجئ ( عادل ) بذلك الإناء الزجاجي .. الإناء الذي نراه أمامنا الآن .. وكان متواريا ‏بين التذكارات فلا تكاد ترى ما فيه .. فقال في دهشة : ‏
ـ" ما هذا يا بروفسور ؟ " ‏
نظر البروفسور الى الإناء وهز رأسه في تقزز :‏
ـ" هذا .. كلام فارغ . .قل إنه تذكار لحماقتي .."‏
عاد ( عادل ) يلح على الرجل :‏
ـ" ما الذي يدعوك للاحتفاظ بعينين كاملتين في خزانة ذكرياتك ؟"‏
قال البروفسور : ‏
ـ" في شبابي كنت أحمق . .مثلك .. كل الشباب حمقى في الواقع .. وكان هناك ذلك ‏العراف الذي قالوا إنه يعرف الكثير من الأسرار .. وقد باعني اشياء كثيرة ، غريبة ‏لكن أغربها كان هاتين العينين .."‏
ثم ابتسم في سخرية ونفث سحابة كثيفة من الدخان :‏
ـ" ما رأيك في امتلاك عيني ( راسبوتين ) ذاته ؟"

^RAYAHEEN^ 13-12-05 11:48 PM



-2-


قال ( مازن ) :‏
بالطبع ارتجف (عادل ) لهذه الكلمات الغريبة .. وعاد يستوثق من المعلومة ..‏
قال البروفسور وهو يتأمل الدمية الخزفية :‏
ـ" زعم العراف أن جثة ( راسبوتين ‏Rasputin ‎‏) لم تدفن بعينيها .. لكن هناك من ‏انتزعهما ، ووضعهما في سائل حافظ ثم حشا المحجرين بالصلصال .. من يومها ‏يتوارث العرافون هذه التحفة العتيقة .. قال لي ان لهاتين العينين قوة مغناطيسية لا ‏يمكن وصفها ، وإنه من الخير لي ألا اطيل النظر فيهما .. قال كذلك إنني لو ‏زرعتهما لأي شخص لاكتسب قوة ( راسبوتين ).. دعني أقل لك إنه لو كانت هاتان ‏عيني ( راسبوتين ) لوجدت منظمة ( اليونسكو ) كلها تقف خارج باب هذه الغرفة ، ‏ولربما ارسلوني الى ( سيبيريا ) بتهمة اختلاس أملاك الدولة .. طبعا انبهرت بهذا ‏الشيء وقتها وابتعت هذه العينة المقززة ، وحرصت على ألا انظر إليها أبدا .. ومن ‏حينها هي عندي في هذه الخزانة لا أجد الشجاعة كي أتخلص منها .."‏
قال ( عادل ) باسما :‏
ـ" هذا العراف كان يفترض أنهم يزرعون العين كاملة في محجر العين .."‏
ـ" طبعا .. هذا ما يعتقده العامة .. لا يعرفون أننا نأخذ القرنية فقط بالــ ( كيراتوم ‏Keratome ‎‏ ) .. وحتى على هذا الصعيد لا يمكن ان تزرع قرنية تعود لعام 1916 ‏‏.. الخلاصة أن مالي ضاع هباءا .."‏
وقف ( عادل ) يرمق الإناء في نهم .. الحقيقة أن العينين فتنتاه ولا يعرف لهذا سببا ..‏
ـ" بروفسور .. هل تهديني هاتين العينين ؟"‏
مضغ البروفسور سيجارة ونظر لـ ( عادل ) كأنما يرى مجنونا .. نفث سحابة كثيفة ‏وقال : ‏
ـ" هل جننت ؟ هل هذه هدية ؟"‏
ـ" قلت إنك راغب في الخلاص منها .."‏
ـ" نعم .. لكني لا أحب إهداءها لأصدقائي .."‏
ـ" إن هذه ما أتمناه فعلا .."‏
نظر له البروفسور طويلا ، ثم مد يده في الخزانة وأخرج الإناء الزجاجي ..
‏*** ‏
كلما ذكرت كلمة ( كاريزما ) تداعت إلى الذهن صورة الروسي ( جريجوري ‏يفيموفتش راسبوتين ) .. الرجل الذي كان راهبا جوالا ثم مرق واتجه الى حياة ‏الرذيلة .. إن صوره ما زالت حية بعينيه القويتين الثاقبتين ولحيته السوداء الكثيفة ‏وثيابه السوداء التي تجعله ينضم بجداره إلى عالم المسوخ .. الفارق هنا أنه كان ‏شخصا من لحم ودم يمشي على الأرض ..‏
كان يقدم نفسه للناس على أنه معالج روحاني ..‏
كانت له سطوة نفسية لا يمكن وصفها ، وكانت عيناه قادرتين على جعل أقوى ‏الرجال يرتجف خوفا .. أما النساء فكن يسقطن صرعى هواه بلا تحفظ ، ويقال إنه ‏نموذج للرجل الذي تعلن النساء أنهن يكرهنه ويشمأززن منه فقط لأنهن يعرفن كم ‏هن ضعيفات أمامه ..‏
يجب أن نضيف هنا انه كان في غاية الفجور ، وكان يتحدث دوما عن ان الأرض ‏السوداء تنتج اشهى الثمار .. لهذا كان يبحث عن الرذائل بالمجهر ليرتكبها ..‏
بشكل ما وصل صيته الى البلاط القيصري ، حيث كان ابن القيصر يعاني مرضا ‏نزيفا متكررا هو ( الهيموفيليا ‏Hemophilia‏ ) .. وكان هناك من نصح القيصرة ‏بأن تجرب قدرات هذا الرجل العجيب ..‏
هكذا بدأ الطفل يتحسن ، وسرعان ما تنامي نفوذ ( راسبوتين ) في البلاط الى حد أنه ‏كان يالفعل يحكم روسيا كلها من خلال القيصر وزوجته .. فقد كانت الزوجة تثق به ‏ثقة عمياء وتعتقد أنه اطهر رجل عرفته ..‏
وفي العام 1916 قررت مجموعة من نبلاء البلاط أن يتخلصوا من هذه الكارثة .. ‏هكذا دسوا له السم في شرابه .. فقط ليعرفوا ان السم لا يؤثر فيه .. وقد كاد يفتك بهم ‏بجسده العملاق المخيف ، هكذا أطلقوا عليه الرصاص ..‏
ويقال إن ( راسبوتين ) كان هو المسمار الأخير في قبر آل ( رومانوف ‏Romanov ‎‏ ) الذين لاقوا نهاية مفجعة في ثورة 1917 التي جاءت بالشيوعيين إلى الحكم ‏وأطاحت بالنظام القيصري ..‏
أين دفن ( راسبوتين ) ؟ لست متأكدا من هذه النقطة .. لكن السؤال الأهم هو :هل دفن ‏وعيناه في محجريهما ؟
هكذا عادل ( عادل ) إلى مصر وهو يحمل في متاعه إناء زجاجيا حرص على ‏تبطينه وتغليفه بعناية كل لا يتهشم ، ولحسن حظه لم يفتح أحد حقائبه لأنه كان سيجد ‏عسرا في تفسير حمله لعينين آدميتين معه ..‏
التذكار الوحيد الذي يحمله من ( موسكو ) هو هاتان العينان وبعض الصور مع ( ‏اولجا ) وخطابات منها ..‏
لم يكن ( عادل ) متزوجا كما قلنا ، ولم يكن له بيت في المدينة .. كان حتى هذه ‏اللحظة يقيم في بيت أسرته بقريته وهي قرية تتبع محافظة ( ...) لديهم هناك بيت من ‏الطوب من طابقين .. فهي أسرة على قدر من اليسر .. لكنه كان يخطط للحياة في ‏المدينة فقط ما إن يستقر ويجد زوجة المستقبل .. وقد حرص على أن يعد غرفته ‏هناك بعناية ، ووارى الإناء في خزانته التي احتفظ بمفتاحها منعا للحوادث المؤسفة ‏‏..‏
فلما جاء الليل وانتهى مسلسل استقبال الأقارب والأصدقاء ، صعد إلى غرفته ‏وارتدى جلبابا للنوم ..‏
لا يعرف اسبب .. لكن لهفة غير عادية كانت تغمره ، مع رغبة عارمة في أن يتأمل ‏هاتين العينين ..‏
فتح الخزانة وأخرج الإناء ووضعه على منضدة صغيرة هناك .. ثم جذب مقعدا ‏خشبيا عتيقا وجلس عليه ينظر إلى هاتين الكرتين ترمقانه من خلال الزجاج عبر ‏السائل الشفاف ..‏
من الخطأ أن يتكلم المرء عن عينين قويتين .. إن ما يعطي الانطباع بالنظرة هو ‏أشياء أخرى .. شكل الأهداب .. شكل الحاجبين .. اتساع فتحة العين .. كل هذه أشياء ‏لا بد منها لتعرف إن كانت النظرة قوية أم لا ..أما ان تضع كرتين في حوض ‏زجاجي فهما ذات الكرتين لدى أي شخص آخر .. كأنك تتأمل إطار سيارة منزوعا ثم ‏تحاول الكلام عن فخامة السيارة ذاتها وانسيابيتها..‏
لكن هاتين العينين كانت تملكان قوة جذب لا يعرف سببها .‏
ولوقت لا باس به ظل يتأملهما في ضوء الغرفة الشاحب الخافت الذي يبعثه مصباح ‏وحيد يتدلى من السقف ..‏
كان تنقلانه إلى عوالم غريبة لم يرها من قبل .. إنه يرى ( الكرملين ) والثلج يتساقط ‏من حوله .. هناك عربة تجرها الخيول .. أميرة روسية تغمض عينيها في افتتان ‏‏..حفلات راقصة صاخبة .. الضباط بثيابهم الأنيقة المزركشة يرفعون سيوفهم في ‏رشاقة .. وجوه تضحك .. وجوه تبكي .. خيول .. ذئاب بيضاء ..‏
كل هذا وهو ينظر الى العينين الثابتتين ..‏
فجأة نظر الى ساعته ففطن لحقيقة مروعة .. إنه هنا ينظر لهاتين العينين طيلة ‏ساعتين كاملتين ! هكذا اعادهما الى الخزانة .. وأطفأ النور ..‏
كانت هذه أول ليلة له في مصر منذ اعوام ، وقد نام نوما عميقا بلا احلام ..‏
‏*** ‏
قال الأستاذ المصري وهو يقلب صفحات الرسالة السميكة :‏
ـ" ليس بوسعنا الانتهاء من هذه سريعا .. أعتقد انك ستتأخر خمسة اشهر على الأقل ‏‏.."‏
قال (عادل ) في ضيق وهو ينهض من مقعده :‏
ـ" سيدي ..أنا في وضع معلق بين مصر و ( الإتحاد السوفييتي ).. اريد الانتهاء ‏سريعا كي اعرف موضع قدمي .. هم قد فرغوا مني هناك ولم تبدءوا معي هنا .. لا ‏يمكنني العودة لهم .. ولا يمكنني معاودة حياتي هنا .."‏
قال أستاذه وهو ينزع عويناته :‏
ـ" أفهم كل هذا لكني لا اعرف كيف افيدك .. هل أجيز بحثا لم أقرأه ؟"‏
ـ" إذن لماذا لا تفعل ؟"‏
لاحظ دون قصد أنه يتكلم في حدة .. الاستاذ نفسه لاحظ هذا فرفع عينه متسائلا ..‏
فجأة اتسعت عيناه .. نبتت قطرات عرق على جبينه ، فأخرج منديله بيد مرتجفة . ‏وقال :
ـ" نعم .. نعم .. أعدك ان انتهي من ذلك في اسرع وقت .."‏
بنفس اللهجة الحازمة التي لم يتعمدها قال ( عادل ):‏
ـ" أسبوعا واحدا على الأكثر ؟"‏
ـ" شكرا يا سيدي .."‏
قالها بذات الطريقة الحازمة الآمرة .. ودون ان تفارق عيناه عيني الرجل ، ثم غادر ‏المكتب ..‏
حينما اختلى بنفسه لم يصدق أنه فعلها .. قال لنفسه : لا بد أنني املك تأثيرا نفسيا ‏هائلا لا أستخدمه .. كل هذا الحزم وكل هذا الإصرار .. والغريب أنه لم يتعمد ذلك ‏قط ..‏
من الغريب ان تكتشف في سن الثلاثين أنك قوي الشخصية .. يحس بالمرء أنه عرف ‏كل شيء عن نفسه متى بلغ العشرين .. لكن النفس البشرية تشبه البصلة .. كلما زالت ‏المزيد من الأغشية عنها بدت لك طبقات أخرى لامعة نظيفة لم ترها من قبل ..‏
لا بد أن تجربة الغربة قد أفادته وصقلته .. هو يكره ان يخاطب أستاذه بهذه الطريقة ، ‏لكنه إلى حد ما كان يرغب في ذلك .. إن حياته متوقفة على رأي هذا الأستاذ ..‏
‏*** ‏
ـ" السينما هذه الليلة ؟ مستحيل !!"‏
قالتها ( تغريد ) وهي تتراجع الى الوراء في غضب ..‏
كانت ( تغريد ) هي مشروع زواجه قبل أن يسافر إلى الاتحاد السوفييتي ، وهي فتاة ‏لا بأس بها لكنها لا تقارن بـ ( أولجا ) من ناحية الجمال طبعا .. لا يزعم أبدا أنه ‏أحبها لأنه كما قلنا رجل عملي جدا .. كان يريد زوجة وكانت هي تصلح ، وقد راق ‏له أنه الم تكن قد ارتبطت بأحد لدى عودته من البعثة .. ‏
قال لها بلهجة حازمة :‏
ـ" لا ارى ما يضير في دخول السينما معي .. لست مراهقا سخيفا .."‏
ـ" هذا هو بيت القصيد .. لست مراهقا سخيفا ولا أنا مراهقة سخيفة .. لهذا لا ارى ‏داعيا على الإطلاق لهذه الدعوة .. ان توعدت بأن تطلب يدي هذا الأسبوع .. ‏فلنفترض أن أبي رفض ؟ لماذا اختلى برجل لن يكون لي ؟"‏
ـ" لن يرفض .."‏
ـ" وقد يفعل .. لهذا ارى ان الانتظار قد .."‏
نظر لها بحدة وقال وهو يضغط على كلماته :‏
ـ" ( تغريد ) .. ستذهبين معي الى السينما لأنني اريد ذلك .. موعدنا في السادسة ‏مساء .. يجب أن أنتهي مبكرا كي اعود الى قريتي .."‏
كانت تنظر له وقد اتسعت عيناها .. متى رأى هذه النظرة من قبل ؟ .. شفتاها ‏منفرجتان ترتجف السفلى منهما .. ثم قالت بصوت مبحوح : ‏
ـ" ليكن .. أمرك .. أمرك .."‏
سر من نفسه .. لم يكن يريد شيئا من هذه الدعوة إلا ان تقبلها .. فقط يريد أن تحقق ‏إرادته انتصارا ما .. وقد حققه .. حياته كلها تتحول الى انتصارات متلاحقة..‏
وقال لنفسه وهو ينتظر أمام باب السينما :‏
ـ إن شخصيتي تزداد قوة .. إنني أتمتع بكاريزما لا شك فيه !!"‏

^RAYAHEEN^ 13-12-05 11:49 PM



‏-3- ‏


قال ( مازن ) : ‏
في الفترة التالية توالت انتصارات ( عادل ) في معركة الإرادة.. الأب رحب به بلا ‏تردد ووافق على أن يتزوج ابنته.. صاحب البيت الذي كان متمسكا بمبلغ معين ، ‏وجد نفسه يتنازل عن نصفه بسهولة مطلقة .. وهكذا وجد ( عادل ) نفسه وقد خطب ( ‏تغريد ) وامتلك شقة لا بأس بها في المدينة ، وأجيزت رسالة الدكتواره الخاصة به ..‏
وقد أخبر أهله في القرية أنه سينتقل إلى المدينة .. إنه بحاجة إلى البحث عن عيادة ..‏
لم يرفض أحد .. بالواقع لم يعد أحد يرفض أي طلب له من زمن ..‏
وهكذا نجد الآن ان ( عادل ) يقيم في شقة وحده في المدينة ، وقد كون عادات جديدة ‏‏.. لكن العادة الوحيدة التي لم يتخل عنها هي الجلوس امام العين ومراقبتها لمدة ‏ساعات .. لقد أدمن تلك العوالم الغامضة التي تنقله إليها ..‏
قالت له ( تغريد ) ذات مرة وهو في دارها :‏
ـ" لا اعرف السبب لكن هل ثمة مرض ما في عينيك ؟"‏
مط شفته السفلى في تهكم ، لكنها واصلت الكلام : ‏
ـ " انا لا امزح .. لقد تغيرتا كثيرا وإنني لاخافهما احيانا .."‏
تجاهل ما تقول .. لكنه إذ دخل الحمام وقف بعض الوقت أمام المرآة .. وهو لم يكن ‏من الأشخاص المولعين بوجوههم على الإطلاق .. كان يعرف أنه لا بد من وجه ‏حتى لا يمشي بعظام الجمجمة عارية .. لكنه في هذه المرة أطال النظر .. وبرغمه ‏شعر برجفة تتخلل عموده الفقري ..‏
كأنما قد أحاط عينيه بكحل كثيف قبل أن ينزل من داره .. الحاجبان صارا كثين جدا ‏يتدليان فوق عينيه .. فتحة العين ذاتها صارت واسعة جدا .. الخلاصة ان هناك ‏بحيرة كاملة من اللون الاسود تحيطان بعينين لا يمكن مقاومتهما .. عينين من الطراز ‏الذي لا تستطيع معه تذكر إن كان هناك وجه ام لا ..‏
شعر بقلق فحاول المنظر عن ذهنه ..‏
إنه طبيب عيون .. ولو كان هناك مرض اسمه ( نظرات اعين الثاقبة أكثر من اللازم ‏‏) لكان هو اول من يسمع به .. قال لنفسه إن عينيه نافذة على روحه ..وروحه قلقة ‏عجول لا تريد ان يضيع من العمر يوم واحد آخر.. لهذا لم يعد يقبل من يجادله أو ‏يخالفه الرأي .. يريد طاعة عمياء ..‏
هذا هو كل شيء ..‏
على أن القلق عاوده حين كان في ذلك المتجر تلك الليلة ، وكانت هناك ام تحمل طفلا ‏رضيعا على كتفها وتمسك بيد طفلة في الثامنة .. وقف وراءها فرأى الرضيع يرمقه ‏بعينين متسعتين في رعب ثم انفجر في صراخ هستيري مجنون .. عواء إذا اردت ‏الدقة ..‏
نظر لأسفل فرأى الطفلة تنظر له بذات الرعب .. ثم تنكمش في ثوب أمها دون أن ‏تفارقه بعينيها ..‏
نظر لأعلى من جديد فوجد الام تنظر للوراء .. تغمغم في جزع :‏
ـ" بسم الله الرحمن الرحيم .."‏
ثم تجر طفليها بعيدا عنه بسرعة الفار من المجذوم ..‏
ما معنى هذا ؟ والأسوأ هو ان البائع ظل يرتجف وأوقع اشياء على الارض .. وبدا ‏كأنما لا يريد شيئا في العالم قد ان يرحل هذا القادم ..‏
في اليوم التالي كان في المستشفى .. حين صرخت الممرضات أن المريضة الفلانية ‏تعاني الما عنيفا ..‏
دخل العنبر ليجد مجموعة من الأطباء الشبان يحيطون بفراش مريضة .. هناك الكثير ‏من الصراخ والهستيريا .. هناك من يحقنها بأشياء .. نظر لهم متسائلا رافعا حاجبيه ‏على شكل علامتي استفهما ، فقال له طبيب شاب يعرفه بغزارة : ‏
ـ " إننا نعدها للجراحة غدا .. لكنها تصرخ من ألم مبهم في عينيها .. تشعر بأنهما ‏ستنفجران .." ‏
راجع التذكرة الخاصة بالمريضة ، ثم غمغم :‏
ـ" جراحة حول بسيطة ستجري لها غدا .. هذه المريضة لا تعاني ألما حقيقيا .. هذه ‏هستيريا لا اكثر .."‏
كانوا قد جربوا كل الأساليب المعروفة فعلا بدءا بالكلام الهادئ المطمئن ، مرورا ‏بحقن محلول الملح الزائفة ، وانتهاء بالصفعات .. لكنها كانت تصرخ كقطار السكك ‏الحديدية ، وبدا انها لن تكف حتى الموت .."‏
ـ" ربما لو طلبنا من يخدرها يا سيدي .."‏
ـ" ليس إلى هذا الحد.."‏
ودنا من المرأة .. الحقيقة أنها كانت قد كفت عن الصراخ فعلا في اللحظة التي رأت ‏فيها عينيه .. نظر لها في ثبات وضع انامله على جبهتها وإبهامه على جفنها العلوي ‏‏.. بدأت تصمت .. تراخت معالم وجهها ، ثم أغمضت عينيها ونامت .. لماذا فعل هذا ‏‏. من أخبره أنه قادر على هذا ؟ لا يعرف ..‏
وقال أحد الأطباء الواقفين :‏
ـ " هذا سحر يا سيدي .."‏
الحقيقة أنه كان يعرف ذلك ..يعرف أن الكلمة تعني معناها حرفيا ..‏
ابتسم في تهكم يداري الكثير من التوجس وانصرف ..‏
هكذا بدأ القلق يعصف به .. وكان اول ما ابتاعه في طريق العودة إلى الدار نظارة ‏سوداء .. هكذا يخفي هاتين العينين القويتين فلا يكشفهما إلا عند الضرورة ، وكما ‏يفعل الفارس الذي لا يخرج سيفه من غمده إلا عند الحاجة .. الآن يفهم كلام شعراء ‏العرب عن ( جردت نظرتها ) أو ( أعادت عينيها إلى غمدها ) ..‏
من الغريب أنه ـ وهو الذكي ـ لم يربط حتى هذه اللحظة بين العينين وما يحدث ..‏
وهكذا راح يمضي أيامه في تأمل العينين وفي مراقبة ما يحدث لعينيه هو في دهشة ‏بالغة ..‏
إن الأمر يزدد وضوحا ..الكل يفسح له الطريق حين يمشي في الشارع .. في الحافلة ‏يتحاشى الناس الاحتكاك به ويطرقون بأبصارهم .. في العلم لم يعد احد يواجهه على ‏الإطلاق ..‏
كان قد أطال شعر رأسه قليلا في الفترة السابقة ، وهو ناعم منسدل بطبعه .. مما ‏جعله يبدو بالفعل مثل صور ( راسبوتين ) التي نراها ذات خشونة في بدايات القرن ‏العشرين ..‏
لكنه لم يع هذا التحول إلا في وقت متأخر للغاية ..‏
وفي مساء يوم جلس كعادته إلى المنضدة يراقب العينين خلف السائل الشفاف .. هذا ‏اللون الأزرق الغريب .. هذا الصفاء الذي يخترق كل شيء ..‏
بعد ساعة من المراقبة غمغم هو يغمض عينيه ..‏
ـ" الآن اعرف أن الأسطورة حقيقية .. هاتان العينان هما عينا ( راسبوتين ) .. لا ‏ارى الموضع على أي ضوء آخر !!‏
ثم ماذا ؟ ‏
إن هذا الاكتشاف لم يفقده حياته .. لم يكلفه مالا .. فقط جعله أكثر نجاحا وتأثيرا .. ‏فقط جعل الناس يعاملونه على أن أحلامه أوامر .. على قدر علمه لم تسبب التجربة ‏أي ضرر ..‏
إنها الثامنة مساء ..‏
عليه ان يبدل ثيابه لأن لديه موعدا مع خطيبته .. يجب ان اقول هنا إن الفتيات صرن ‏ينظرن له بمزيج من الخوف والانبهار في كل مكان .. إنها تلك النظرة الثاقبة التي ‏تخبرهن أنهن بلا دفاع .. وخطيبته ( تغريد ) لم تكن استثناء ..‏
هكذا وقف أمام المرآة يصلح من ربطة عنقه .. إنه وسيم .. على الاقل هو يعتقد هذا ‏‏.. لو تناسى متاعبه الأخرى فهو شاب ناجح في الثلاثين من عمره وما زال العمر ‏أماه و ....‏
إنها التاسعة والنصف !‏
نظر في هلع إلى الساعة المعلقة على الجدار خلفه ..‏
هذا صحيح ! ساعة ونصف مرت وهو امام المرآة يصلح ربطة عنقه ..‏
الأخطر أنه مشعث مغبر .. وأن هناك بقعة دم على كتف القميص !!‏
متى حدث هذا ؟ كيف ؟ ‏
من الواضح ان ( تغريد ) انتظرته طويلا .. ثم رحلت .. ولكن هذه ليست المشكلة ‏الآن ..‏
ماذا حدث وما الذي فعله في ساعة ونصف ظل يرمق فيها نفسه في المرآة؟ من اين ‏جاء الدم ؟
في كل لحظة كان يدرك الحقيقة المخيفة أكثر .. لقد صارت عيناه ضده .. إنهما ‏تتلاعبان به !‏
ما حدث هو أنه نوم نفسه مغناطيسيا وهو أمام المرآة !! ‏
‏*** ‏
من هذه اللحظة صارت عيناه غريبتين عليه .. إنهما عدوان خطران ..‏
صار يقضي أغلب اليوم حتى في الظلام واضعا النظارة السوداء على عينيه .. ما ‏الذي فعله في تلك الساعة والنصف ؟ ومن أين جاء الدم ؟ ‏
هذا ما لم يعرفه قط ولم يحاول معرفته .. لقد غاب عن العالم ساعة ونصف ساعة ‏صار فيها مشعثا مغبرا ببقعة دم على قميصه .. إن النتائج واضحة لكن التفاصيل لا ‏تهم ..‏
لقد صار غريبا مخيفا .. الناس يهابونه وهو يهاب نفسه .. والسبب ..‏
هاتان العينان اللعينتان .. اللتان حملتا كل شرور صاحبهما ..‏
إنه يملك قوة هائلة لكن ما نفعها لو استدارت هذه لقوة نحوه هو نفسه ؟ إنها نوع تمن ‏الأسلحة الفاسدة في حرب 1948 التي كانت تنفجر في صدور أصحابها بدلا من ‏صدور الصهاينة ..‏
جلس إلى مكتبه ومسك بالقلم وكتب في حسم جملة واحدة :‏
ـ" هاتان العينان .. يجب ان تزولا للأبد .."‏
اتجه إلى الخزانة حيث احتفظ بالوعاء الزجاجي ..‏
في حسم حمله إلى الحمام ..‏
أزال الغطاء الذي أغلقوا به الوعاء يوما ما منذ خمسين عاما .. ومن الوعاء ‏تصاعدت أبخرة زيت الغنطرة الكريهة الحارقة.. نظر الى المرحاض واخذ نفسا ‏عميقا ..‏
سيقوم الآن بعمل كان يجب أن يقوم به منذ أشهر ..إنه سهل لكنه كان عسيرا امس ‏فقط ..‏
نظر إلى المرآة المعلقة فوق الحوض فرأى وجهه الصارم ينظر له في حدة .. هل هذا ‏وجهه فعلا ؟ بشيء من الخيال يمكنه أن يقول إن ها وجه ( راسبوتين ) ذاته ..‏
إنه .......‏
لقد اقتنصته العينان !‏
إنه يرى ( الكرملين ) والثلج يتساقط حوله .. هناك عربة تجرها الخيول .. اميرة ‏روسية تغمض عينيها في افتتان .. حفلات راقصة صاخبة .. الضباط بثيابهم ‏المزركشة يرفعون سيوفهم في رشاقة .. وجوه تضحك .. وجوه تبكي .. خيول .. ‏ذئاب بيضاء .. فلاحون يرقصون ( الكازاتشوك ).. رجل مدثر بالفراء يمشي ‏بصعوبة وسط العواصف .. طفل ينزف من أنفه .. طلقات رصاص .. خيول ( ‏القوزاق ) تنقض من أعلى التلال ..‏
لا داعي لتدمر عيني ( راسبوتين ) .. إنهما اثر ثمين .. إنهم االشاهدتان على تاريخ ‏بأكمله .. هناك عينان مؤذيتان يمكن تدميرهما ولن تسببا خسارة لاحد ..‏
لا يعرف متى ترك الإناء سليما بما فيه .. متى ذهب الى المطبخ .. متى انتقى سكينا ‏حادا مدببا ..‏
متى عاد ليقف امام مرآة الحمام ..‏
متى ..‏
إن مأساة ( اوديب ‏Oedipus‏ ) قد تتكرر بذات التفصيل في زمننا هذا ..‏

^RAYAHEEN^ 13-12-05 11:50 PM



الواجهة الخامسة ‏
‏( سليم ) قد عاد ‏
‏-1- ‏



قال ( مازن ) : ‏
ـ" هكذا فقد ( عادل ) عينيه.. قد عرفت منه القصة فيما بعد ، واحتفظت بهاتين ‏العينين كأثر ثمين لا يجب أن تبدده ، برغم أنه توسل الي الا افعل .. اعتقد ان اللعنة ‏قد تركته الآن لكنها دمرته الى الأبد .. والآن اسألك عن رأيك في هذه القصة ؟"‏
فكرت قليلا .. إن هذه القصة بالذات تحمل الكثير من الجو المقبض الكريه ..‏
قلت في كياسة :‏
ـ" لست متأكدا .. لكن هل حاول أن تطيل النظر في هاتين العينين انت نفسك ؟"‏
ابتسم ابتسامته الغامضة اياها وقال :‏
ـ " كثيرا جدا ! ربما عدة ساعات .."‏
ـ" نظراتك لم تزدد حدة أو إقناعا .."‏
ـ" لم تزدد حدة لكن كل شيء في أعماقي تغير .. إن كل جزء من هذ المتحف الأسود ‏قد ترك علامة دائمة في ذاتي .. وأعتقد أن نفسيتي تشبه هذه الواجهات ذاتها .."‏
وقبل أن اعلق قال :‏
ـ" القصة التالية سأريك الواجهة الخاصة بها فيما بعد .. فقط أقول الآن إنها تحكي ‏عن رعب ( إن ما فعلته لن يمر .. لا بد من انتقام مخيف .."‏
‏*** ‏
قال ( مازن ) :‏
في الواحدة بعد منتصف الليل على الطريق الزراعي قرب ( بنها ) .. هناك تلك ‏الشاحنات المنجفعة بأقصى سرعة ، وسائقها الذي لم ينم منذ وقت طويل .. إن ( ‏التباع ) يغفو جواره منذ زمن ، وصوت المذياع الذي يبعث بصوت فايزة أحمد ) لا ‏يساعده على الاستيقاظ ..‏
في الواحدة بعد منتصف الليل والمطر قد بدأ يهطل .. والطريق زلق كظهر ضفدع .. ‏والسائق يشعل لفافة تبغ أخرى متظاهرا بأن الدخان يساعده على البقاء متيقظا لكنه ‏يعرف أن هذه أكذوبة ..‏
هنا تأتي اللحظة الدرامية المتوقعة .. هناك من يعبر الطريق .. يا للكارثة ! يضغط ‏على آلة التنبيه .. يحرك الضوء متراقصا .. لو ضغط لفرملة الآن لانقلب فورا .. كلا ‏‏.. لا يستطيع .. فقط يأمل ان يتوقف هذا العابر او يتراجع للوراء ..‏
او يسرع ..‏
لكن العابر يواصل طريقه في تؤدة كأنما لديه كل الوقت ..‏
ورأى السائق شيئا يختفي تحت مقدمة الشاحنة .. ثم لا شيء ..‏
إنه يستطيع التوقع بعد خمسمائة متر .. لكن ما جدواه ؟ هو يعرف ان هذا العابر ‏العابث قد انتهى امره .. وهو لم يكن ممن يملكون الشجاعة الأدبية الكافية .. على ‏الأقل هو لم يرتكب خطأ .. القتيل هو من فعل ..‏
وهكذا واصل طريقه وكل عضله في جسده ترتجف ..‏
‏*** ‏
هناك من وجد الضحية وحملها إلى المستشفى ..‏
كان الدكتور ( ممدوح ) طبيب الامتياز الشاب يحاول ان يبقى ساهرا باحتساء كوب ‏شاي أعدته الممرضة .. لكنه كان يتوقف للحظات وكوب الشاي في الهواء .. يغي ‏بعن العالم .. ثم يفيق فيشرب جرعة أخرى .. إن البرد مع تأثير الدفء داخل ‏المستشفى مما يجعل النعاس قوة لا تقهر .‏
فقط سمع صوت سيارة الإسعاف الكئيب وهي تقف .. كان يحفظ هذه الأصوات جيدا ‏‏.. صوت الباب المنزلق في ظهرها يفتح .. صوت فرد المحفة .. صوت العجلات ‏وهي تجري على الأرض .. كان لهذا تأثير أقوى بمراحل من أي منبه يأخذه بالفم او ‏بالحقن ..‏
هب على قدميه وضم لمعطف ..وركض إلى الخارج ليرى المصيبة القادمة ..‏
بالفعل كانت مصيبة .. هناك رجل أشيب في الخمسين من عمره ، يرقد على المحفة ‏وهو متدثر بخرق لا تدري كنهها بالضبط لكنها ملوثة بالطين والدم ومبتلة .. وبدا من ‏شحوبه أنه لم يعد بوسع ( إبن سينا ) نفسه ان يساعده لو كان ساهرا في الاستقبال ‏العام في هذه اللحظة ..‏
بقدمين ترتجفان جرى الطبيب الشاب محدود الخبرة ، وطلب من الممرضة التي ‏كانت شبه نائمة بدورها أن تلف جهاز الضغط حول ذراع المصاب .. ودلس طرفي ‏المسماع في أذنه .. لا شيء يحدث .. لا يوجد صوت على الإطلاق .. جرب مرتين ‏فلم يسمع شيئا ..‏
الصق المسماع بصدر الضحية فلم يسمع شيئا .. راح يفرك صدره .. لا شيء ..‏
لا داعي لإيقاظ الطبيب المقيم إذن .. إن يوما عصيبا ينتظره غدا ، ولسوف تنهمر ‏عليه الصواعق لو أيقظه من اجل رجل ميت فعلا ..‏
هكذا مط شفتيه علامة العجز ، ونظر إلى المسعف نظرة تقول كل شيء ..‏
ومن دون كلمات جاءت الممرضة بملاءة وغطت بها وجه المتوفى ، على حين اتجه ‏المسعف إلى الهاتف ليطلب جهة ما .. كان الدكتور ( ممدوح ) يشعر الآن انه حارس ‏مرمى لم يختبر ، لكن ـ على الأقل ـ لم تهتز شباكه .. لم يتسبب في موت مريض .. ‏هذا يعوضه بعض الشيء عن وفاته ..‏
وبيد مرتجفة كتب الديباجة التي حفظها عن ظهر قلب : ‏
يبلغ السوتيش وينقل المتوفي الى المشرحة بعد ساعتين ..‏
بعد قليل جاء ذلك المريض المعتاد .. المريض الذي أصابه مغص كلوي في الثالثة ‏صباحا .. إنه قادم مع خمسة من أهله وهو لا يكف عن العواء .. بعض العواء مفتعل ‏لا شك في ذلك ، يبرر به المريض إزعاج كل هؤلاء في ساعة كهذه وتحت هذه ‏الامطار ..‏
هكذا انهمك د. ( ممدوح ) في عمل يعرفه ويجيده وينجح فيه .. ووقفت معه ‏الممرضتان الموجودتان تعينانه .. الكثير من الصخب والصراخ والضوضاء .. لا بد ‏أن الامر استغرق نصف ساعة ..‏
ثم عاد الهدوء الى المكان ..‏
وعاد د . ( ممدوح ) يشرب آخر جرعة من الشاي الذي تحول الى ماء بارد سكري ‏أسود ..‏
هنا سمع الممرضة تشهق ..‏
ـ" د. ( ممدوح ).."‏
ـ" همممم .."‏
ـ" د. ( ممدوح ).."‏
صاح بلهجة متذمرة وقد نفد صبره :‏
ـ" ماذا عندك ؟"‏
ـ" المتوفي الذي كان على المحفة .. لقد اختفى !"‏
نهض ( ممدوح) مذهولا لا يفهم ما يحدث .. ركض الى الردهة الجانبية حيث كانت ‏المحفة .. حقا لا يوجد أحد .. لكن اين وكيف ولماذا ؟
لا يوجد إلا احتمال واحد هو أنه لم يسمع جيدا .. لقد كان الرجل حيا لكنه فقد الوعي ‏‏.. لا بد أن الارتباك جعله عاجزا عن قياس ضغط الدم وسماع القلب .. هذا هو ‏التفسير الوحيد ..‏
وشعر بالدم يحتشد في وجهه .. ماذا يقول للشرطة حين تتصل بعد قليل ؟ ماذا يقول ‏للطبيب المقيم حين يصحو ؟ ‏
ليته يستطيع ان يكذب عليهم .. ليته يستطيع ان يقول إن القتيل قد نهض وانصرف ‏لحال سبيله ..‏
لكنه لم يدر ان هذه هي الحقيقة .. بالضبط هي الحقيقة ..


الساعة الآن 05:46 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية