منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f498/)
-   -   (رواية) رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف من سلسلة أسرار وخفايا عائلة الحيتان (https://www.liilas.com/vb3/t206280.html)

SHELL 06-11-18 09:54 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
بعد انتهاء موعد العمل الرسمى بشركة الشرقاوى ,وبدأ الموظفون يتأهبون لمغادرة المكان ,تلّقت هديل استدعاءا من مكتب رئيسها بالعمل ,فتعجبت لاختياره هذه الساعة بالذات ليطلبها ,وما بيدها الا الانصياع لرغبته ,نهضت من أمام شاشة الكمبيوتر الذى أغلقته للتو وأخذت تسوّى من ملابسها التى تجعّدت بفعل جلوسها الطويل على المقعد المريح ,وألقت نظرة سريعة على وجهها فى مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبة يدها وعدّلت من بضعة خصلات شاردة وكانت قد تركت شعرها منسدلا على كتفيها بنعومة ودلال ,تنفست بعمق وهى تستعد لمواجهته ,فبعد سهرتهما الوحيدة تغيّرت معاملته لها تماما , أصبح يعاملها بطريقة شبه رسمية ,وكأنهما لم يتشاركا أمسية جميلة بقيت ذكراها تؤرق لياليها ,تسافر بها فوق سحب وغيوم لتحلّق عاليا فى سماء حلم صعب المنال ,ستبقى بنظره مجرد سكرتيرة لا أكثر فلا حاجة بها الى العيش فى أوهام ,يكفيها وجع القلب الذى لن يفارقها مدى الحياة ,جرّاء حبها المستحيل لرب عملها.
طرقت على الباب مرتين بخفة قبل أن تدلف الى الداخل ,كان كريم مشغولا بقراءة بعض الأوراق على سطح مكتبه ,وبدا عليه أنه لم ينتبه للفتاة الجميلة الواقفة تراقبه بشغف واضح وهى تعتقد أنه غافل عن رؤية مشاعرها الجليّة فى نظرات عينيها الولهى.
-لقد طلبتنى يا سيد كريم.
ترك الأوراق من بين يديه لتستقر باهمال على المكتب وهو يتابعها بنظراته الثاقبة لترتسم ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يرفع حاجبيه عاليا بتساؤل واضح:
-سيد كريم ! آخر مرة كنا فيها سويّا كنت فقط كريم ... ما الداعى لهذه الرسميات المفاجئة ؟
هزت كتفيها بعدم فهم وهى تشير الى المكان باصبعها موضحة:
-نحن بالعمل , وأنا لست سوى سكرتيرتك ,فكيف أدعوك باسمك مجردا ؟
نظر الى ساعته باهتمام ثم رفع بصره اليها يحدجها بنظرات ذات معانٍ كثيرة ,ثم ما لبث أن قال بخفة:
-لقد انتهى الوقت الرسمى للعمل ,ونحن الآن نجرى حديثا عاديا بين اثنين أصدقاء.
-أصدقاء ! أنا وأنت ؟
وأشارت باصبعها نحوه ثم الى نفسها وهى تحاول استيعاب ما يحاول ايصاله لها ,فقام مقتربا منها وهو يلتقط سترته الملقاة على الأريكة الجانبية وهو يقترح متبسطا:
-هل لديك مانع أن أدعوكِ الى الغداء ؟ فلا رغبة لى بالعودة الى المنزل , فهل تشاركيننى ؟
-هل تدعونى لأنك تريد ذلك أم مجرد أنك بحاجة الى رفقة ؟
حك رأسه مفكّرا بطريقة فكاهية ثم زم شفتيه وهو يهمس فى أذنها باغراء:
-لا تنقصنى الرفقة اذا شئت ,وأنا لا أكرّر عرضى مرتين ,اذا وافقتِ فما عليكِ سوى أن تتبعيننى حتى المرآب ,أما اذا قررت الرفض ... فلن يصبح أمامى خيار آخر سوى أن ... أحاول اقناعك ... بطريقة أخرى.
حتى وهو يدعوها الى مرافقته يتعمّد احراجها بهذا الأسلوب ,وساورتها الشكوك هل يعرف بحقيقة لهفتها لوجودها معه حتى ولو كانت مجرد دعوة بسيطة للغداء ,ولكنها تراها فرصة عظيمة بعد تجاهل دام أسابيع ,فالتفتت لتجده فى طريقه الى الخارج ,هرعت ورائه لتحضر حقيبتها وهى تطالبه بانتظارها دقيقتين حتى تجرى مكالمة هاتفية ,فنظر لها متأملا وقد أدرك غايتها , لا بد أنها تريد اخبار والدها بغيابها فأومأ لها مجيبا وهو يردد بانذار:
-فقط دقيقتين ,ثانية واحدة زيادة ... لن تجديننى.
ثم غمز لها بعينيه فذاب قلبها لهذه اللفتة المتبسطة تجاهها,وسبقها منصرفا وهو يصفّر بشفتيه لحنا سريعا.
ما الذى دفعنى للموافقة ؟ لا ينقصنى المزيد من الألم والوجع ؟
كانت تخاطب نفسها ثم اتصلت بوالدها لتعتذر عن الانضمام له متعللة بحجة كاذبة ,وهى تواجه ضميرها : الى أين سيوصلك السيد كريم ؟ الى انتحال الكذب ببساطة وكأنه حق لك ؟ أتخونين ثقة والدك الكبيرة بكِ ؟
أخرست هذا الصوت الضعيف وخرجت مندفعة لتلحق برجل أحلامها.

******************

SHELL 06-11-18 09:57 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
سارت مها بتمهّل وهى تعرج بشكل واضح بعد أن تعثّرت بحجر صغير ملقى باهمال على جانب الطريق مما أدى الى كسر كعب حذائها العالى ,فأخذت تسب وتلعن حظها السيئ وكانت تقف بين الحين والآخر متلفتة عليها تجد سيارة أجرة خالية حتى تقلّها الى منزلها وهى فى قمة الاحباط.
قاد سيف سيارته ببطء على غير عادته فكان منشغلا عن متابعة الطريق باتصال والدته الهاتفىّ ,نظر الى هاتفه بضيق وهو يضغط على انهاء المكالمة مرتين متتاليتين وهو يلعن بغضب:
-ألا تفهم ؟ لا أريد أن أسمع أيا منهما .
مجرد التفكير بأن هذين الشخصين الأنانيين هما والداه يشعره برغبة فى تحطيم هذا الهاتف الى قطع صغيرة حتى يتخلّص من الحاحهما المزعج ,فقد بات يتجنّبهما بعد معرفته بالدور القذر الذى لعباه لتحطيم حياة عمته ,رفع بصره نحو الطريق فوجدها تتلفت حولها باحثة عن شئ ما وكانت مشيتها غريبة جدا وأثارت لديه رغبة مفاجئة للضحك ,أوقف سيارته بهدوء قاطعا عليها الطريق.
فوجئت بمن يحاول ايقافها فلم تملك نفسها الا وهى تصيح بغضب والشرر يتطاير من عينيها بعد أن كادت تقع للمرة الثانية فى نفس اليوم:
-ماذا تظن نفسك فاعلا يا هذا ؟ ألا ترى أمامك ؟
انقطعت أنفاسها وهى تشاهده يخرج من وراء مقعد السائق , طيف ذلك الرجل الذى أصبح يشغل أيامها ولياليها تفكيرا , مجسّدا أمامها يكتم ضحكاته لعصبيتها المفرطة ,وهو يشير نحوها بتساؤل:
-ما الذى صار معك ؟ لماذا تعرجين بمشيتك ؟
كان سؤاله فى ظاهره اهتماما مبطنّا ببعض السخرية وربما الشماتة فرفعت رأسها عاليا بكبرياء جريحة وهى تجيبه وكأن الأمر لا يخصها:
-لا شئ , فقط انكسر كعب حذائى بعد أن اصطدمت بحجر.
-اركبى اذن لأوصلك.
أجابت بشمم:
-لا داعٍ لأن تزعج نفسك من أجلى , فسوف أستقل سيارة أجرة.
تلفت حوله بمغزى وكان الطريق خاليا الا من بضعة سيارات ملاكى تذهب بطريقها غير عابئة بالمارة الواقفين ,وأخذ يتتبع بنظراته ثوبها القصير نزولا حتى كعب حذائها المكسور وهو يضيف متبرما:
-هيا يا مها , سوف تنتظرين ساعات حتى تمر سيارة أجرة خالية ,ولا يمكنك البقاء واقفة هكذا بفردة واحدة ,كما أن المشى سوف يؤلم قدميك.
شعرت بكرامتها تنسحق تحت وطأة منطقه البسيط وكانت تعرف أنه محق ,لماذا لا تنتهز هذه الفرصة التى جاءتها على طبق من فضة بدون سابق تخطيط منها ,فتحركت بوجل نحو المقعد المجاور له بعد أن شعر باستكانتها عاد الى مكانه خلف المقود وهو يأمرها بربط حزام الأمان ,استجابت لطلبه وهى تحاول أغلاق القفل بأصابع مترددة فأخفقت مرتين مما أثار ضجره فمد يده ليحكم القفل حول خصرها فتلامست أناملهما بلحظة خاطفة ,ثم تلاقت نظرات أعينهما فانتقل تيار كهربائى سرى بجسدها ,حاولت أن تزيح يده عن جسدها فأسرع يسحبها ملامسا ركبتها بطريقة عرضية زادت من ارتباكها الواضح ,أدار المفتاح بمرونة وقاد سيارته مسرعا ليحاول التغلّب على عواطفه التى كادت أن تخونه فى لحظة ضعف , لماذا تثير فيه هذا الفتاة احساس الحماية لدى الرجل ؟ لماذا يشعر بأنه تحت هذا القناع المتماسك تقبع روح أنثى ضعيفة تحاول الاعلان عن قدرة مزيّفة على المقاومة ؟
سألها بلا مبالاة وكأن الأمر لا يعنيه:
-لماذا لم تتزوج فتاة جميلة مثلك حتى الآن ؟
-أنه النصيب ,لم يأتِ بعد.
-لا يمكن أن تقصدى أنه لا يوجد رجل يرغب بالاقتران بكِ حتى هذه اللحظة ,فلا بد أنهم قد أصيبوا بالعمى.
-الزواج يتطلب أكثر من مجرد وجه جميل ,فلأن معظم الرجال الذين قابلتهم يفكرون بمثل طريقتك ولا ينظرون الا الى الشكل الخارجىّ للفتاة ,بينما يهملون جانبا هاما وهو أن المرأة أيضا كيان عاطفىّ يحتاج الى التفهّم والمشاركة .
-أنا لم اقل أبدا أنك مجرد وجه جميل ,وهذا يعتبر تواضعا من جانبك فأنت رائعة الحسن ,وتملكين عقلا لامعا حتى استطعتِ التكيّف بالعمل مع شخص مثل رفيق ابن عمى , فهو غول حقيقىّ.
ابتسمت لدى ذكره لكلمة ( غول ) وهو يصف مديرها بدقة متناهية ,ولا يعرف أنهم يطلقون عليهم لقب ( الوحوش الثلاثة ) نظرا لتشابههم الواضح فى تعاملهم مع الموظفين ,الصرامة والحزم اضافة الى المباشرة والوضوح ,مع عدم التهاون مع المقصّر أو اغفال أى خطأ ولو كان بسيطا.
-السيد رفيق يتعامل معى بطريقة أراها أكثر من عادلة بالنسبة لى ,فطبيعة العلاقة هى عمليّة بحتة بلا أوهام ولا مناورات.
كانت تشير بوضوح الى السمعة المعروفة عن معظم السكرتيرات وعلاقاتهن برؤسائهن ,والتى لم تترك مجالا للشريفات بهذا المجال ألا تلوك سيرتهن الألسنة لمجرد اهتمامهن المبالغ به فى مظهرهن وزينتهن.
-أعرف أن رفيق صريح وواضح ,ومن يضمن لك أن كل من تعملين معهم مثله ؟
-ومن أخبرك أننى أرغب برب عمل جديد ؟
زفر بتنهيدة وهو يقول بلهجة العارف ببواطن الأمور:
-الحياة ... لا تستمر على وتيرة واحدة , ربما استجدت بعض الأمور التى ان عرف بها رفيق فلن يتوانَ عن استبدالك بأخرى ؟
اعتدلت بجلستها وهى تتطلع اليه بمزيج من الحيرة والقلق:
-ما الذى يعنيه حديثك ؟ هل أخطأت بعملى ؟ أننى حتى أرفض أخذ اجازاتى المستحقة ,وأعمل بكفاءة يشيد بها الجميع وأولهم رئيسى المباشر والريّس فى نفس الوقت الذى يدير الشركة كلها.
ضغط على مكابح سيارته بقوة حتى توقفت بحركة مفاجئة وهو يواجهها بعنف:
-أنا لا أتحدث عن عملك ,بل أتحدث عما تحاولين اخفائه.
-وما هو الشئ الذى أحاول اخفائه ؟
كانت تتحدّاه بتهوّر ولم تكن على قدر هذا التحدّى فقد استهانت بقدرته على كشف الخبايا والأسرار التى اعتقدت أنها دفنت مع موت ذويها.
-سأخبرك بالتفصيل الممل ,اذا كنت غير متعجلّة العودة الى المنزل .
-لا بد أن أذهب الى البيت حتى أبدّل حذائى.
-اتفقنا , سوف نمر على منزلك أولا ,أو أنك قد غيّرتِ رأيك وسوف تقومين بدعوتى الى فنجان من القهوة هذه المرة ؟ أرى أن الوقت ليس متأخرا كالمرة السابقة , فلا عذر لديكِ.
أشعرها حدس صادق بأنها منساقة نحو فخ لا تدرى أين ينصب لها ,ومع ذلك فهى تسقط فيه بسذاجة مذهلة.


**************

SHELL 06-11-18 10:31 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
-انتظرى يا ليلى.
استوقفها زميلها خالد بينما تسرع لمغادرة المكتب بعد أن طلبت من السيد فهمى بأن يعطيها اجازة لمدة يومين أخبرته أنها بحاجة ماسة اليها ,وانضم لها يرافقها فى سيرها الى الخارج وهو يسألها بفضول:
-لماذا أنت متعجلة للرحيل ؟
بسطت يديها باشارة لا معنى لها وهى تجيبه بعدم اهتمام:
-لقد حان موعد الانصراف ,ومن يحب البقاء ثانية واحدة فى مكان عمله بعد انقضاء يوم شاق جدا ؟
-لديك كل الحق ,فمع غياب لبنى عن المكتب أصبح العمل مكدّسا فوق كتفىّ أنا وجاسر ,هذه الفتاة كانت جبلا تحمل عنّا الكثير من الشغل.
-ما زلت تناديها بهذا الاسم ؟
نظر لها باستفسار وهو يقطّب جبينه متسائلا:
-وبأى اسم تريدين منى أن أناديها ؟
-اسمها الآخر ؟
-على حد علمى لا يحمل المرء أكثر من اسمين والا كانت هذه جريمة يعاقب عليها القانون.
ضحكت على جهله بالحقيقة وهى تنظر له باشفاق محاولة توضيح الأمر له:
-ألم يخبرك جاسر بعد بما حدث ؟ كنت أظنه لا يخفى عنك أمرا.
-اسمعى يا ليلى اذا أردت اخبارى بالأمر فلا تحاولى لعب الاستغماية معى ,أما اذا كنت تمزحين فلا طاقة لى ...
قاطعته وقد هالها مزاجه المتغيّر وهى التى لم تعتد من خالد على هذه الطريقة فى معاملتها ,دائما يحدّثها بأسلوب فيه الكثير من الاحترام والتقدير ,باختصار كان يراها بصورة غير ما يستنتجها الآخرون عنها ,مسيئين اليها ,فتلاشت ابتسامتها ليحل محلها العبوس وهى تعتذر له:
-أنا آسفة , لم أكن أقصد مضايقتك.
-لا عليكِ ,ان ضغط العمل يثير أعصابى هذه الأيام , كما أن حال جاسر لا يعجبنى أبدا.
-دعه وشأنه يا خالد ,فهو يعرف طريقه بدون الحاجة الى ارشادك ونصحك.
-لا يمكننى أن أتخلّى عن صديقى ,فالصديق وقت الضيق.
-وها قد انفرجت الأزمة ,وتحسنّت أحواله الى الأفضل ... بعد أن انكشفت حقيقة أميرة له.
-أميرة من ؟ عمن تتحدثين بالضبط ؟ صرت تتكلمين بالألغاز.
حاولت أن تشيع جوا من المرح فأضافت بهزل:
-نعم صرت أشبه المس ماربل فى قصص أجاثا كريستى ,هكذا كان يحدث فى قريتى.
وأخذت تقلّد طريقة الروايات البوليسية التى تهوى قراءتها.
-أننى أتحدث بجدية , من هى أميرة هذه ؟
-أنها هى بذاتها لبنى من كانت تعمل معنا.
-لا يمكن , وكيف بدّلت اسمها ؟ وما الداعى لذلك التحوّل ؟
-بل قل أنها استعادت شخصيتها الحقيقية ,فهى كانت فاقدة للذاكرة طوال السنوات التى عملتها بالمكتب حين تعرّفنا عليها ,والبقية تطول شرحها ,لماذا لا تعزمنى على الغداء وسوف أقصّ عليك الحكاية بأكملها.
كان الاغراء قويا ولم يكن خالد محصنا من الاستجابة لمثل هذه الدعوة الغير منتظرة من جانب ليلى ,فتأبطّ ذراعها منتشيا متناسيا كل أحزانه ومتاعبه.


******************

SHELL 06-11-18 10:33 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
انتهى الفصل الحادى والعشرون


http://files2.fatakat.com/2013/7/13734083981992.gif

SHELL 07-11-18 10:57 PM

رد: رواية لؤلؤة تائهة فى بحر العواصف
 
الفصل الثانى والعشرون

https://i.skyrock.net/5249/102845249...5_P4WkZOpE.gif


وجدته جالسا بركن قصىّ يتأمل المشهد الرائع لنهر النيل فى ذلك المطعم الشهير المطل على الكورنيش والذى يقع فى الطابق العلوىّ ,وما أن اقتربت من منضدته حتى التفت اليها ناهضا من مقعده ليستقبلها بترحاب ,وهو يمد كلتا يديه يحتضن كفيها بين راحتيه الدافئتين ثم يزيح لها مقعدا مقابلا له حتى تجلس عليه وعاد الى مجلسه بحركة رشيقة,
تطلّع الى عينيها الباسمتين وهو يبثها شوقه الواضح:
-اشتقت لكِ كثيرا.
أخفضت عينيها حياءا وهى تتصنّع الانشغال بهاتفها بينما وجد فى نفسه الجرأة ليسحبه من بين يديها ويضعه جانبا ليضيف بتأنى:
-لا أريد أن يشغلك عنّى أى شئ ,وأنت معى انسِ العالم بأكمله.
ناظرته متطلعة وهى تحاول سبر أغوار عينيه الغامضتين مرددة بتعجب:
-لم أتخيل ابدا هذا ,أكاد لا أصدق ما يحدث لى.
شعر بصدق اعترافها العفوىّ فطعنته براءتها بالصميم وهو يؤكد لها:
-أنا أيضا أكاد لا أصدق حظى السعيد .. فقد تحقق حلمى الغالى أخيرا ,وها أنا أراكِ أمامى ولا أعرف ما الذى قمت به فى حياتى حتى أنال اهتمام انسانة رائعة مثلك ؟
احمرّت وجنتاها خجلا من اطرائه المنمّق فأجابته محدقة بوجهه:
-ليس الى هذه الدرجة , أنت تبالغ كثيرا ,أنا مجرد فتاة عادية جدا ,أحيا مثل الكثيرات على هامش الحياة بلا فائدة حقيقية ,ربما أنتمى لعائلة عريقة ومعروفة ... بيد أننى لا أمثّلها على الاطلاق.
استند بمرفقه الى الطاولة وهو يشعل سيجارا ليدخنّها مدققا النظر الى الفتاة الهادئة أمامه وهى تعترف ببساطة أنها مجرد نكرة فأجابها بحدة :
-لا أعتقد أنك تعرفين قيمتك الحقيقية , ولا ما كنتِ تفوّهتى بهذه الحماقات.
انتفضت خوفا من نبرته الحادة الغير متوقعة فقالت متوترة:
-ما الذى يضايقك فى اعترافى ,أنها الحقيقة مجرّدة من أى تزويق ,لقد تخرجت من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منذ أربعة أعوام بتقدير جيد جدا وحتى الآن لا أعمل شيئا سوى متابعة بعض المسلسلات التافهة التى تعرض على شاشة التلفاز ,وربما أتسلّى قليلا بقراءة الروايات الرومانسية حتى أغرق نفسى فى عالم وهمىّ لا وجود للشر بداخله ,فقط مجرد خيالات لا نسمح بها على أرض الواقع .
لم يرق له تقليلها من شأن نفسها ,الا أنه أدار الحديث جانبا بعيدا فسألها:
-هل تقرأين لاحسان عبد القدوس ؟
زوت ما بين حاجبيها وهى تتساءل عن كيفية تحويله لمسار الحوار بهذه القدرة الفائقة وهى تجيبه:
-نعم ,انه أحد الكتّاب المفضّلين لدىّ.
-قرأت معظم رواياته.
-ليس معقولا ,فغالبية متابعيه من النساء والفتيات.
أشار بيده نافيا وعيناه تلمعان بغموض:
-هذا تقدير خاطئ لقدر الرجل ,لقد اشتهر عنه أنه أفضل من جسّد مشاعر المرأة فى قصصه ولا يعنى هذا أن قرّاءه من الجنس اللطيف فقط
-كلما تعمّقت معرفتى بك أجدنى أكتشف عنك اشياء جديدة لا أتوقعها منك.
-مثل ماذا ؟
-لقد فاجأتنى بأنك تدّخن.
وأشارت الى السيجارة بين شفتيه يمتص تبغها المحترق مثيرا ضبابة كثيفة من الدخان حوله زادت من الغموض الذى يلّف شخصيته ,فقام بسحقها على الفور فى المنفضة بعد أن سحب آخر نفس بها فى حركة أثارت قلقها على الرغم من بساطتها فها هو قد تخلّص منها بعد أن أنهى متعته.
تقلّص فمه المتصلّب وهو يقول:
-فى الحياة مفاجآت كثيرة ,عليكِ أن تعتادى على تقبّلها بصدر رحب حتى لا تتألمى.
ممِ كان يحاول تحذيرها ,أو ربما ينذرها من تعلّقها به ,فغيّرت مجرى الحديث حينما سألته:
-لقد أخبرتنى أنك تعمل بمكتب للتسويق الـعقـارى , أليس كذلك ؟
هز رأسه موافقة فى انتظارها لتكمل حديثها:
-هل يمكنك أن تسدى لى خدمة ؟
اتسعت ابتسامته وقد اثارت فضوله بشدة:
-أنا تحت أمرك فى أى طلب.
-هل لديك معارف بوزارة الاسكان ... أعنى هل لكم اتصالات بهم ؟
فكّر قليلا قبل أن يجيبها متمهلا:
-هذا يتوقف على نوع الخدمة ,ونوع المعرفة .
-أريد وساطة للحصول على شقة باسكان محدودى الدخل.
-هل تنوين الانتقال اليها ؟ ولكننى أحذرك فأنت لا يمكن اعتبارك من محدودى الدخل أبدا.
همّت بالرد عليه بحدة حينما أدركت من لهجته ونظرة عينيه أنه يمزح معها فتألقت ابتسامتها من جديد وهى تضحك بفرح غامر:
-لا ليس لى , أنا أسكن مع عائلتى ولا أعتقد أنهم ينوون طردى قريبا , انها لسعد وسماح.
قاطعهما وصول النادل لاستلام طلباتهما فصرفه جاسر متعجلا بعد أن سأل ريم عما تفضله ,وطلب لنفسه مثلها ثم تابع استفساره:
-سعد وسماح !!
أومأت برأسها ايجابا وهى تستفيض فى الشرح:
-سماح .. الفتاة التى تقوم بشؤون المنزل ,وسعد ... انه شاب مكافح يساعد أحيانا الطبّاخ فى بعض الأعمال ... انهما يحبّان بعضهما وينويان الارتباط عن قريب ,ولكنهما ... أعنى ظروفهما المادية كما خمنّت أكيد لا تسمح لهما بامتلاك شقة فى أى مكان ولو كان شعبيّا ,كما أنهما لا يقويان على أسعار الايجارات المرتفعة ,ففكرت أنه يمكنك أن تساعدهما اذا كان هذا ممكنا طبعا ولا يضايقك.
كان يتطلّع نحوها منبهرا ولم يخفِ اعجابه بمحاولتها مد يد العون لأشخاص قد يمر الجميع أمامهم ولا يلفتوا النظر اليهم ,واسترعى انتباهه أنها لم تشر الى سماح على أنها خادمة فهتف مشدوها بها:
-لا يضايقنى بالتأكيد , هذا أمر بسيط للغاية ولا يحتاج أصلا الى وساطة فاذا كانت ظروفهما كما تقولين فالأمر سوف يتم بالطرق الشرعية .. ولن يحتاج الى تدّخل من جانبنا.
-أعرف ولكنهما ... متعجلان .. احممم ... أنت تعرف هما شابين صغيرين و...
أعفاها من حرجها وهو يكمل عبارتها:
-وهما غارقان فى العشق فلا داعى للانتظار لاتمام الزواج ,أنت محقة يا ريم.
قارنت بين ردة فعله وردة فعل كريم حينما طالبته بالمساعدة فظهر الفارق شاسعا , لشتى ما تظلم المظاهر أصحابها ,كان يمكن لكريم بمنتهى البساطة وبدون أدنى مجهود أن يساعدهما ولكنه تكبّر حين علم بأن صاحب المصلحة هو مجرد مساعد للطبّاخ ... سعد المسكين ... يا لها من نظرة دونيّة للبشر ,فهم بالنهاية أرواح تستحق الحياة ... الفقراء كالأغنياء ... يمتلكون ذات الحقوق.
-كل ما أحتاج اليه من أوراق سوف أبلّغك بها فى الوقت المناسب حتى يتقدم بالطلب ,وأعتقد أنه مستوفي لجميع الشروط المطلوبة ما دامت ظروفه المادية كما تقولين.
-نعم هو شاب لطيف ومكافح ولا يشكو أبدا من ضيق حاله ولا يتذمر من كثرة الأشغال ,كما أن سماح فتاة رقيقة للغاية ولها قلب صافٍ ,شخصية وديعة ستحبها حتما اذا تعرّفت عليها , أننى أعتبرها صديقة لى.
هزّ رأسه بعدم تصديق من الأريحية التى تتحدث بها عن مجرد خادمة تعمل لديهم واصفة ايّاها بالصديقة فتغيّرت تعابير وجهه كليا وهو يخبرها هامسا:
-يكفينى أن أحب صديقتها ,فهى لا تقل طيبة عنها بل أنها تمتلك قلبا من ذهب ,لقد أذهلتنى بجد.
أخذت تحاول الهرب بعينيها بعيدا عن تطلعات عينيه التى سيطرت على مشاعرها بعد اعترافه الصريح وغمغمت:
-أعتقد أننى قد تأخرت ,لا بد أن أرحل ...
ونهضت تلملم أغراضها فتلمست الطريق نحو هاتفها ,فلم يحاول جاسر استبقاءها ككل مرة بل أشار الى النادل حتى يأتى بالفاتورة ,ولم يلحّ عليها حتى يقلّها هذه المرة بل تركها تغادر حرة.

***************


الساعة الآن 12:24 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية