لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

"أشعلتُ لقلبك شمعة" (1) اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له... البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 24-05-07, 10:35 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
Wink أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

 

"أشعلتُ لقلبك شمعة"


(1)


اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...

البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!

سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!

وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!

دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!

ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!


المطر........


حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!


حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!

ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....

التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...

عن الجذع أم الجذور؟!

سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...

التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..

السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...

- "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.

التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.

- تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.

استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:

- وما دخلكِ أنتِ؟
- أنا أختك الكبيرة.

الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...

- أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.

كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!

هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...

أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!

أم تراها تتخيل ما تسمع؟!

تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....

لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!

إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..

خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....

- افتحي الباب يا بنت الـ.......

"يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....

شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!

لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.

فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:

- لِمَ ضربته؟

عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!


"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..

أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....

- ألا تُجيبين؟

اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!

وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:

- س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..

هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..

شدها من حجابها...

"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....

حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...

سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..

طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...

لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...

"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!

- وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.

دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...

يا لهذا الوجع..

لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...

يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!

تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..

أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!

أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..

لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..

أتراها لازالت باقية..أصابعي!!


مؤلم مؤلم مؤلم...


وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...

- إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟

ثم خرج....

لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..

ليتني أبقى هكذا للأبد!!

حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...

لقد تشوهت يدي...

وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....

أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..

لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!


ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...

أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!

جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..

ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!

كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..

أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!

أرتفع أنينها....

لا أطيقُ قربها مني....

نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:

- إنها تؤلمني، دعيها...

تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...

تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...

أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!

أجل...قريباً!!

رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!

مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..

لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..

قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....

منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!

أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....


نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!

أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!

يا ليت....

===========
(2)


لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....

كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....

لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..

نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..


سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!

أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...

قال بصوتٍ باردٍ مثله:

- يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.

نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..

- يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.

الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!

لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!

- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..

لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...

وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:

- اشتري بالباقي علبة سجائر لي..

"بأس ما أنجبتي يا أمي"..

حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..

أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....

جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..

جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..

ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..

ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...

سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!

أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!

أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..


خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!

لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..

خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:

- اشتري بسرعة ولا تتأخري.

"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"

سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..

لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...

أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...

وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....

حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!

وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..

- وأخيراً وجدته.

لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..


ودون مقدمات.....

ودون رحمة....

سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..

سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:

- انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..

جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.

- ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.

هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:

- غبية، غبية، غبية.

وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....

أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!

كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!

نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!

مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..

سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..

لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!

هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..

- ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟

أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...

سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...

عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...

من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!

غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!

عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..

"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."

بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...

أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...


لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....


نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...

"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..

سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..

أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..

دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:

- بابا "محمد" موجود؟

هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.

- بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.

شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!


سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...

تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..

"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..

أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..

رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!


- إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.

ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:

- حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...

ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.

- يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..

التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:

- صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.

ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.

- اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.

وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.

- انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.

وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:

- نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.

صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:

- صدقتِ..

وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..

أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....

- بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.

ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.

جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.

- من هذه؟

أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..

صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....

بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:

- غــ..غ..غدير، معقول؟!

ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...

هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..

أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!


- خاااالي ..... خااالي.

كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!

زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!

قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.

أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:

- ماذا تقولين يا ابنتي؟

لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...

أرجوك حسسني بالأمان...

عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.
- ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!

صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!

- سيذبحنيييييييييييييييييييي.



الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها....


=====================
(3)

فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً...


تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....


التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:

- أين أنا؟!!

ردت "ندى" بدلاً عنه:

- أنتِ في المستشفى الآن ياااا ابنة عمتي.

وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.


ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..


ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...

هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..

- غدير.

رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...

- من فعل بكِ هذا؟! حميد؟؟

أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.

- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..

لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:

- لا....لا أحد.

تنهد الخال وهو يستعيذ من الشيطان:

- كيف لا أحد!! إذن من ورّم لكِ فمك وكسر لكِ يدك، الطبيب يقول أن يدك تحتاج لشهرٍ كامل كي يلتأم الكسر.


وبشكلٍ لا شعوري، رفعت بصرها نحو الباب، كان واقفاً يرمقها بتأمل و بريق اهتمام يلمع في عينيه الخضراروين!!!!

حتى الآن لم ينبس ببنت شفه، تغير منذُ آخرِ مرةٍ رأتهُ فيها...

- غدير!!

عادت لتتصفح وجه خالها، عيناه تطالبها بالإجابة لكنها تمتنع...

"إذا أخبرتك، من سيبقى معها في البيت؟! مجيد!! إنه لا يكاد يكون موجوداً هناك، دائماً مع أصدقائه...

هم أولاً ونحنُ...أخيراً..".


تنهد الخال يائساً منها..

تمتمت في نفسها:

- ما كان عليّ أن آتي، ماذا بمقدوره أن يفعل؟! لو عدتُ للبيت مباشرة لأخذتُ جزائي وانتهى الأمر...يا تُرى كم الساعة الآن؟!


دقّ على ركبتيه ثم أضاف:

- على العموم لقد اتصلتُ بوالدتك لأطمئنها، مسكينة كانت قلقة..

"ولماذا قلت لها، لماذا أخبرتها؟!!"..

- متى سأخرج من هنا؟ سألتهُ بخوف.

- يومان هذا ما قالهُ الطبيب، تحتاجين للتغذية والراحة.


"لن يستطيع أن يؤذيني هنا في المستشفى وأمام الآخرين..هذا مؤكد!!".


ابتعد "عمر" عن الباب بعد أن سمع طرقاً خافتاً، غاص قلبها في أوديةٍ سحيقة، إلى القاع....

أتت معه، هذه المرة أنقلبت الآية، تقدمت هي أولاً ثمَّ هو..ألسنا في مستشفى؟!!

- السلام عليكم.
- وعليكم السلام والرحمة.

"أيُّ سلامٍ يأتي منكما..".

كانت تنظر لها وهي تبكي، دائماً تبكي، يا إلهي ألا تنتهي دموعها أبداً؟!

دلفت لتسلم على "عمر"، صافحها ببرود فلم يكن يعرفها جيداً، يا للعلاقات الأسرية المترابطة!!

أخيراً سمعنا صوته:

- كيف حالك عمتي؟
- بخير يا ابني..

"كم تُثيرين الشفقة" رددت "غدير" في نفسها..

تقدمت من السرير، سلمت على أخيها طويلاً، ثم قبلت "ندى" التي فرحت بعمتها....

كانت تنظرُ لي، أعرفُ ذلك، لكني أشحتُ ببصري للجهة الأخرى، فالتقت عيناي به، بذلك الوحش.

- كيف حالك؟! سألها بصوتٍ خافت كفحيح الأفعى.

"بأفضل حالٍ عندما لا أرى وجهك"..

لم ترد، نظرت إلى خالها وهي تزدرد ريقها، تتوسل إليه بعينيها لعلهُ يفهمها...

"أرجوكم أبعدوه، انظر له كيف يبتسم كالشيطان، سيذبحني..."

- كيف حالك؟

خاطبها مرةً أخرى وقد تغيرت نبرة صوته، يبدو أن سكوتها لم يعجبه.


شدّت اللحاف حتى ذقنها، تقدم هو الآخر ليسلم على خالها، ألسنا في مستشفى!!


كان يتقدم وهو ينظر لها لكأنهُ يتوعدها، اقترب أكثر فمسّ حافة السرير، انخلع قلبها....

خافت أن ينقض عليها، يضربها، يخلع ذراعها من جديد، الظلال تسقط والعينان تتقدان، تكادان تفلتان من محجريهما، فزّ قلبها، صرخت:

- كلااااااااااااااااااا، أبعدوه، خاااااالي...

وغرقت في نوبة من الصراخ الهستيري، عيناهُ مخيفتان، وجههُ أسود، كريه كريه كريه..

لا بد أنّ الجميع سمع صرختها، أتت الممرضات، لم تنتبه لأحد، كان همها ذلك الواقف أمامها....

لاح لها "عمر" يمسكه من يده ويسحبه للخارج، والأخير يسب ويلعن.....

لحق الخال بهما، لم تشعر إلا بوخز إبرة في ذراعها وصوت "ندى" يتلو آية "الكرسي" وأمها لا زالت تبكي!!!!



===================


- اسمع يا هذا إن اقتربت من ابنة أختي ستندم..أقسمُ بذلك.

نظر لهُ ببرود وبكل جرأة وقال:

- ماذا ستفعل؟!

هذه المرة تقدم منه "عمر":

- سنوصل تقرير الطبيب إلى الشرطة، أتفهم، لقد كشف التقرير عن رضوض في الجسد وكسرٍ في اليد، ويكفي نظرة إلى وجهها ليعرف الجميع أنها كانت تُضرب، أو تعرف ما هي عقوبة ضرب قاصر؟!

تغير وجه "حميد" وأطلّ الخوفُ من عينيه، قال بعد تردد:

- ومن قال إني ضربتها؟!
- هي..

- أنت تكذب، هي لا تجرؤ.
- بلى وجميعنا شهود.

قالها بثقة ثم أضاف:

- وبإتصالٍ واحد مني ستُلقى في السجن لتتعفن مع الحثالة التي تنتمي إليهم.

عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، صدره يعلو ويهبط والغضب يحتد بداخله، تنفس بعمق ثم زفر وهو يبتسم بإذلال:

- والمطلوب؟!

هنا تكلم الخال:

- سآخذها معي إلى المنزل لترتاح نفسيتها قليلاً.

قاطعه بسرعة:

- ولكن أمها...

- عمتي يمكنها أن تزورها في البيت متى شاءت..أهلاً وسهلاً بها..

نظر إلى "عمر" بكل الحقد والكراهية، ابتسم مرةً أخرى ابتسامةً صفراء وهو يصد للأب:

- إنها في بيت خالها..في أيدٍ أمينة..لو سمحت أخبر زوجتي بأن تأتي هنا، لقد تأخرنا...

تركاه دون أن يردا عليه، تمتم "عمر":

- يا لهُ من حيوان..
- بنت ال...... لن أجعلها ترتاح. ردد "حميد" في نفسه.



==========


انتقلت إلى بيت خالها، رحب بها الجميع، شاطرت "ندى" غرفتها التي تُجاور غرفة أخيها، أما "أبو عمر" فقد كانت غرفته في الصالة، و الطابق العلوي قد أحتله ناصر وزوجته بإعتبار أنّ "وليد" مسافر ليدرس طب ولن يعود الآن.


إذن لم يتغير ترتيب الغرف حتى بعد مرور كل تلك السنين..


- كم أنا سعيدة، بل أكادُ أطير من الفرح، أخيراً وجدتُ من أحادثها في هذا المنزل..يا ربّ سأطير..

ضحكت "غدير" من منظر "ندى"، بدت كطفلة وجدت دميتها الضائعة، كانت جميلة، بشرتها صافية بلون القمح، عينيها صغيرتين لكن فاتحتان كالشهد بعكس أخيها ذي العينين الخضراوين...

من أين اكتسب هذا اللون!!!


كانت في الثانية والعشرين من عمرها، تكبرها ب4 أعوام ومع ذلك بدت وكأنها أصغر منها، أصغر بكثير، ليس وهي تتحدث وتفكر هكذا كالصغار...

لم يطحنك الزمن بعد مثلي يا "ندى"، لم يطحنك بعد....

أكملت وهي لا تزال تتحرك كطائر في الغرفة:

- صحيح أنّ "شيماء" زوجة ناصر تعيش معنا، لكنها عروس، وأخجل أن أجلس معها..

ماتت ضحكة غدير على شفتيها قبل أن تكتمل، لم تصل إلى القلب بعد...

قالت لتغير الموضوع:

- أين القِبلة، عليَّ أن أقضي صلوات اليومين الماضيين..

ابتسمت "ندى" في وجهها وهي تُشير للقِبلة، أحضرت سجادة الصلاة ووشاح..

دخلت "غدير" للحمام لتتوضأ، مسحت على جبيرتها وهي تفكر بتردد:

أأسألها إذا كان عندهم "تربة".....

غبية، بالطبع لا يوجد شئ من هذا القبيل في هذا المنزل، إنهم من المذهب السني مثل أمها، وإلا لما سمّوا ابنهم "عمر"!!!!

نظرت غدير إليها بإرتباك:

- أيمكن أن تعطيني منديلاً..
- بالطبع.

أخرجت "ندى" من حقيبتها واحداً، ثنتهُ "غدير" وشرعت بالصلاة و هي تشعر بنظرات "ندى" الحائرة تخترقها، لكنها ما لبثت أن استغرقت في صلاتها، فعليها الكثير لتقضيه...


دلفت "ندى" إلى حجرة أخيها، كانت لاتزال مصدومة، فتح لها الباب، دخلت على الفور، نظر بإستغراب لمرآها:

- ماذا بكِ؟ ماذا تُريدين؟!
- أتُصدق أنّ ابنة عمتي شيعية!!

سكت برهة وهو عاقدٌ حاجبيه حتى تلاصقا، لانت ملامحه ثمّ عاد ليكمل ربط حذائه:

- وإذن؟!!

تطلعت إليه وهي لم تستوعب بعد:

- أقول لك أنها شيعية.. ألا يعني لك هذا شئ..أمها سنية من مذهبنا، كيف هي مختلفة؟!!

قاطعها وهو يتنهد، كأنهُ ضاق من كثرة الكلام:

- والدي أخبرني أنّ والدها كان بحرانياً من المذهب الشيعي لذلك رفضوا زواجها منه في البداية، ويبدو أنها بقيت على مذهبه...

أكمل ربط حذائه واستعدَّ للإنصراف، نادته، التفت لها وهو يتأفف:

- ماذا أفعل الآن؟!
- تفعلين بماذا؟!!

هزت كتفيها وكأنها لا تعرف عمّا تريد أن تسأل.

ضمّ ذراعيه إلى صدره وهو يبتسم بسخرية:

- يا أختي العزيزة، إنها من مذهب آخر ولكنها مسلمة مثلك، يوجد بيننا وبينهم نقاط اختلاف لكنها لا تضر....

تركها، هزت رأسها وهي تتمتم:

- ولم أنا قلقة هكذا؟! إنها تبدو طيبة..طيبة جداً، يكفي ما لاقته!!!


================



أكان من الحكمة أن آتي إلى هنا، أحتمي بجدران هذا المنزل، إلى متى سأهرب منه، سيأتي اليوم الذي أعود فيه إلى هناك، وسينتظرني هذا أمرٌ لا شك فيه.....


شهرٌ كامل مدة بقائي هنا وهي مدة تكفي لأن تزيدهُ سُعاراً، ولكن لمَ أُوجع رأسي، دع الخلق للخالق، لا أدري ربما تحدث أشياء!!


كأن يموت مثلاً!!! دعوني استمتع بالبقاء هنا، إنها نعمة ما بعدها نعمة...

جلست على السرير وهي تفكر بأغراضها، ملابسها، وخصوصاً دفترها الأسود، كيف تجلبهم إلى هنا...

سمعت دقاً على الباب، اعتدلت في جلستها، كانت "ندى" وكانت تبتسم...

ما أجمل ابتسامتها....

- لقد وضعوا الغذاء، هيّا..جميعنا بإنتظارك.
- لستُ جائعة.

قطبت حاجبيها:

- كيف!! الطبيب أوصى بأن تتناولي الوجبات الثلاث بإنتظام.

- أيمكن أن أتناول طعامي هنا؟ حقيقةً أنا أخجل من الظهور أمام أخوتك بذراعٍ مُجبّرة.

- كلا، والدي أوصاني بأن أسحبكِ معي إلى غرفة الطعام، ثم أخوتي هم أبناء خالك أي بمثابة أخوتك، ليسوا بغرباء...

"ما الغريب إلا أنا"..لم تملك أن ترفض، في بيتهم وترفض، هذه قلة ذوق!!!

- طيب، ساعديني في إرتداء وشاح الصلاة.

دلفتا، كان الجميع متجمع على الطاولة، ألقت السلام عليهم وهي مخفضةً رأسها، لازال الحياء يعقلُ لسانها..


أشارت لها "ندى" لتجلس بجانب والدها، ربما لتؤكد قرابتها منهم، أو لتحسسها بالأمان...

بالأمان؟!!

نظرت إليه "غدير" كان يتحدث إليهم وهو يضحك، جميعهم يضحكون...

اللهم احفظ لهم سعادتهم...

لم تشاركهم في الحديث إلا قليلاً، لم تعتد على هذا الجو بعد، اكتفت بتناول بضع لقيمات وهي تعبث بملعقتها بيدها اليسرى، خاصة أنّ "عمر" كان جالساً قُبالتها وكانت عيناها تسقطان عليه سهواً!!!

- خالي. نادتهُ بصوتٍ أقرب للهمس.
- نعم يا عيوون خالك.

أحمرَّ وجهها، تلعثمت وهي تكمل، فهي لم تعتد على هذا الإطراء والتدليل.

- أريدُ أن أجلب بعض حاجياتي من المنزل.

- لا بأس، في الغد، في مثل هذا الوقت يناسبني، ما رأيك؟!

- كلا "قاطعتهُ فوراً" أقصد لا أستطيع أن أذهب في مثل هذا الوقت لأن..لأن....

"لأنه يكون متواجداً في المنزل، لا أريد أن أراه..".

- يمكنني أن آخذها في الصباح.

كان "عمر" من تكلم، صوبت نظرها تجاهه، أومئ رأسه لها بخفة لكأنهُ فهمها، علم بمخاوفها...


لكن الأدوار ستتغير، أجل لن تلبث إلا أن تتغير!!!!

أليس كذلك؟!

انتشلها خالها من خواطرها:

- وعملك؟
- سأستأذن من المدير، لن يمانع.

أكمل الخال تناول طعامه وكأنه أعلن موافقته، أما هي فلم تعلم بما شعرت...

فرح، خوف، غموض، يلزمني وقت لأحلل خواطري المجنونة..رددت في نفسها.


==================



جلست هي و"ندى" و "شيماء" يثرثرن في أمورٍ شتى، مضى الوقتُ سريعاً، لا أدري لم ساعات السعادة تبدو دوماً قصيرة لا تكاد تحسُ بها!!

تناول الجميع العشاء، لم يكن "عمر" موجوداً....

ذهبت غدير وندى لغرفتهما المشتركة، تحدثتا قليلاً وسرعان ما غطت "ندى" في النوم، إذ تنامُ مبكراً استعداداً للذهاب إلى الجامعة، فصل صيفي، فلم يتبق عليها إلا القليل وتتخرج.


سمعت "غدير" باب الغرفة المجاور يُغلق، لا بد أنهُ أتى...فكرت.

تقلبت على وسادتها ربما للمرة الخمسين، لم تعتد عليها بعد، بل لم تعتد على المكان برمته، يدها اليمنى تعوقها عن التقلب بحرية على الفراش...


أينما تتلفت تحاصرها القيود، تطوقها وتكبّل حريتها....

تطلعت للساعة، كانت الثانية عشر بعد منتصف الليل.

- سأذهب لأشاهد التلفاز!!

لكنها ترددت:

- أألبس وشاح الصلاة؟ من الصعب أن ألفه على جسدي بيدٍ واحدة، ثم من سيخرج في هذا الوقت، الكل نائم والسكون مخيم على المكان..


سحبت خمارها، وأغلقت الباب خلفها بخفوت، توجهت للصالة، قلبت في القنوات، ضغطت على قناة space toon، شاهدت رسوم الكارتون توم & جيري...

كم أحبها!!!

أندمجت وهي تضحك، يغيظها توم دائماً ينتصر على القط المسكين..


- ألم تنامي بعد؟!

التفتت إلى مصدر الصوت، كان هناك واقفاً بفانيلة بيضاء وإزار، وهي جالسة بخمارها وبجامتها فقط!!!

تمتمت بكلمات غير مفهومة، لم تعرف بم ترد، ركزت بصرها على شاشة التلفاز و وجهها يحترق، بدا توم و جيري ضبابيين!!


- في أي صفٍ أنتِ؟ أتاها صوته قوياً ورخيماً خرق سكون الليل.


"يا إلهي، لماذا لا زلت واقفاً، أرجوك اذهب، أريد أن أعود لغرفتي..".

- لقد أنهيت المدرسة هذا العام.
- ألن تذهبي للجامعة؟

- لا أدري.
- ربما نسبتك لا تسمح لكِ بذلك.

التفتت له بكبرياء وأنفة:

- تخرجتُ بنسبة 92.9 % . قالتها بإنفعال.

رفع حاجبيه مستغرباً ردة فعلها الهجومية، سكت برهة يتأملها ثم أردف:

- إذن....
- أعتقد أن هذا أمرٌ يخصني.

- لم تتكلمين هكذا من طرف أنفك. قالها ببرود.
- لم أطلب منك أن تكلمني.

حاولت أن تنهض، لكنها تذكرت أنها تلبس خماراً فقط لا يكاد يستر.

فهم حركتها المبتورة لكنهُ لم يتحرك، تنهدت بتأفف:

- لا إله إلا الله..
- سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.

- سيدنا محمد صلى الله عليه وآله "وهنا ضغطت على مخارج حروفها" وسلم رسول الله.


ابتسم بتهكم وهو يقطب حاجبيه العريضين، يتلاصقان سريعاً عند المنتصف، غاظتها ابتسامته، ردت بحدة:

- إمامكم الشافعي يقول:

يا آل بيت رسول الله حبكم فرضٌ من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخرِ أنهُ من لم يصلِ عليكم لا صلاة له...

كشّر في وجهها:

- أنا لستُ شافعياً.

- لا يهمني ما تكونُ عليه.

- أتعرفين أنتِ وقحة. قالها بشراسة.

- وأنت قليلُ الأدب.


ارتفع فكه قليلاً ثم أطبقه، كان يريد أن يتكلم أو يتحرك، لا تدري، خافت من منظره...

"ما كان عليي أن أشتمه، لكنه هو من شتمني أولاً، لحظة أنا في بيته وليس في منزلنا وهذه نقطة تُحسب له..".

كيف اختلفنا هكذا، كان في الصباح لطيفاً....

لكنها الأدوار، ألم أقل لكم أنها لا تلبث أن تتغير؟!!!


- تستحقين الضرب فعلاً. قالها من بين أسنانه المطبقة من الغيظ.


حزت في نفسها كلماته، أخترقتها، وصلت إلى القلب فوراً، لم للكلمات أثرٌ مدوي في نفسك، تشطرك شطراً، يظل صداها ممتزجاً مع دمك، لا تنساها أبداً...

تظاهرت بأنها لم تسمع، أصبح لون الشاشة أزرق، توقف إرسال قناة "سبيس توون"، غيرت القناة لعلهُ يفهم الإشارة ويذهب...

وذهب فعلاً، أما هي فانتظرت دقائق، انتشلت نفسها بصعوبة إلى الغرفة، بكت بصمت ونامت من شدة التعب...

=============

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  

 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:05 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية