لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

قصص من وحي قلم الاعضاء قصص من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack (1) أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-05-22, 02:32 PM   1 links from elsewhere to this Post. Click to view. المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2022
العضوية: 338274
المشاركات: 10
الجنس ذكر
معدل التقييم: Hya ssin عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Hya ssin غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : Hya ssin المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: قلبك منفاي

 

الفصل الرابع

في إحدى مقاهي المدينة حيث يمكن لزائريه التمتع بنكهة القهوة المميزة وبساطتها في أجواء مريحة وهادئة، جلست سهر مقابل شيرين تستمتع إلى ما في جعبتها من حديث..
زاد وجه سهر شحوبًا أثناء كلام شيرين وما إن أنهت الأخرى ما لديها حتى سألتها جاحظة العينين بلا تصديق
((هل جننتِ؟ من أين جئتِ بمُعاذ هذا؟))
حرّكت شيرين الثلج في كوبها وهي تقول مبتسمة أمام وجه صديقتها المذهول
((إنه الرائد مُعاذ الكانز.. لقد سبق وأخبرتك عنه في الماضي.. ذاك الذي توفيت زوجته منذ.. ربما ثمانية سنوات.. المهم كان هو من وقف بجانب أبي عندما التاع بالكارثة التي تسبب بها وليد، وفي أيام مرضه الأخيرة عاد تواصله معه والتقاه لعدة مرات))
هدرت سهر بصوتٍ خافت والصدمة أكبر من أن تصدقها
((نعم.. نعم تذكرته.. رأيته عدة مرات في بيتكم قبل وفاة والدك رحمه الله.. لكن لم تذكري لي أي شيء عن تطور علاقة بينكما))
قالت شيرين بصوتٍ متحمس مبتهج
((حسنًا سأخبرك التفاصيل))
أخذت نفسًا عميقًا تستعد لسرد ما حدث ثم أردفت
((أنتِ تذكرين أن والدي أوصاه أن يهتم بي قبل وفاته.. خاصة من أخوالي وأولادهم.. فقد كان يخاف أن تجبرني عائلة أمي على المكوث معهم في القرية وتزويجي من أحد أولادهم الفاشلين رغمًا عني))
رفعت سهر إحدى حاجبيها تقول بتهكم مرير
((وطبعًا هو أخذته الحمِية وعرض عليكِ الزواج فقط ليحميكِ من أخوالك الأشرار! وأنتِ وافقت على الفور غافلة عن أنه ابن عم وليد؟))
زمّت شيرين شفتيها تقول بحنق
((وماذا فيها لو كان ابن عم وليد؟))
سألتها سهر على الفور باستنكار
((وهل ستتقبل عائلته زواجه منكِ وقد كنتِ مخطوبة بالماضي ولسنوات لابن عمه؟ بل هل تظنين أن وليد قد يلتزم الهدوء عندما يعرف بزواجه منكِ؟))
استهترت شيرين
((وماذا سيفعل وليد؟))
شدت سهر على كلماتها المغلّفة بالغضب وهي تقول
((سيفعل الكثير))
قرَّبت شيرين وجهها لصديقتها متحدية بسفور
((لن يفعل شيء عندما أصبح زوجة مُعاذ وأم أولاده))
كادت سهر أن تشل من صدمتها من كلامها فقالت لها
((أنتِ مجنونة شيرين.. وهل تظنين أن وليد سيسكت عندما يعرف بزواجه منكِ وينتظرك حتى ترزقين بالأطفال منه؟))
ردت شيرين عليها بصوتٍ أجش مضطرب
((ولهذا سيكون زواجنا غير معلن لمدة))
ظلت سهر صامتة باهتة الوجه لدقائق تمعن النظر بوجهها علّها تجد شيء يدل على مزاحها.. وعندما لم تجد تمتمت عاقدة الحاجبين
((ماذا يعني؟))
تنحنحت شيرين تجلي صوتها ثم تململت مكانها تعدل من جلستها وهي تقول بتيقظ
((عائلة مُعاذ فعلا لن أن يتزوج ابنهم الرائد مني، لذلك زواجنا لن يعلن لعائلته ولا حتى لمن في القرية، إلا بعد أن أنجب منه))
فغرت سهر شفتيها تحاول النطق بشيء دون أن تقدر..
لا تصدق أن شيرين المعروفة برزانتها وكياستها وحكمة تدبريها قد تدخل نفسها بهذه الدوامة! لا تصدق بأنها هي التي كانت دائمًا ما توبخها على استهتارها وعدم جديتها في الحياة موافقة على ما تقوله! فاكتنفتها الجدية وتساءلت رافضة أن تلتزم الصمت وهي ترى صديقتها تدمر نفسها
((وهل وافق أخوالك على هذا الهراء؟ هل وافقوا على زواجك منه بدون إعلانه؟))
أومأت شيرين برأسها وقالت بتلقائية
((نعم بالتأكيد وافقوا بدون نقاش وعلى الفور، فبالنسبة لهم أنا في عمر حرج ولا يجب عليّ أن أبقى بلا زواج أكثر من ذلك.. مرة حاولوا إقناعي بقبول الزواج من رجل عجوز.. تخيلي؟))
لم ترد عليها سهر بل ظلت شاردة الذهن وكأن ما تقوله شديد الوطء عليها لتستوعبه! فغمغمت شيرين بعد لحظات متسائلة بمرارة
((ما بكِ يا سهر؟))
أجابتها بشتات وهي تهز كتفيها
((لست مرتاحة لهذا الرائد المدعو مُعاذ.. هل هو من أقنعك بأن زواجكما عليه ألا يكون معلن؟))
عضت شيرين شفتها السفلية وبدت مترددة إلا أنها قالت
((سهر.. ممممم.. في الحقيقة هناك شيء أخر عليّ أن أخبرك به))
طالعتها سهر بتوجس ثم هدرت
((ماذا؟ أنتِ ترعبيني))
أجابتها بصوتٍ مخنوق وهي تعبث بأناملها بتوتر
((في الواقع أنا أخبرت مُعاذ بأن زواجنا سيكون على الورق))
اتسعت عينا سهر وهي تسألها
((ولماذا أخبرته بذلك وأنتِ لا تريدين هذا؟))
بدا الذنب جليا على ملامحها وهي تجيب
((لأني بالغتُ قليلًا واختلقت له عن اضطهادي على يد عائلة أمي وأخوالي الأشرار ليتعاطف معي ويطلب يدي للزواج.. لكنه لم يفعل.. ربما بسبب عائق وليد.. فاضطررت أنا أن اقترح عليه أن يتزوجني فقط أمامهم حتى يمنعهم من التحكم بي))
مالت سهر برأسها وهي تسألها بحذر
((وهو وافق على أن يكون زواجكما صوري على الورق؟))
تنهدت شيرين قبل أن تجيب
((كان التردد ورفض عرضي ظاهرًا عليه.. ولم يزل إلا بعدما أشعرته بأني لا أريد منه زواجًا حقيقيًا ولا أريد إعلانه لعائلته في القرية))
هزّت سهر رأسها بيأس منها وقالت وهي تفتح يديها بضياع
((شيري أنتِ أكثر امرأة مجنونة في هذا العالم.. ما الذي يجبرك بالمرور بكل هذا الذل؟ عمرك ليس مشكلة.. أنا في الثانية والثلاثين من عمري مثلك ومع ذلك فأحيانًا لا أرى أي ضرورة في تعجيل زواجي أنا وقصي حتى لو طالت فترة خطبتنا لسنين أخرى))
عقدت شيرين حاجبيها تقول
((عمري ليس مشكلتي الوحيدة، المشكلة الحقيقية تكمن في ماضيي المخزي.. فمن سيقبل الزواج بفتاة لم يكتفي خطيبها بهجرها يوم زفافها بل وعمل هو وعائلته على تلويث سمعتها وأخلاقها!))
سألتها سهر بقنوط
((حسنًا ولكن لماذا مُعاذ بالذات؟ ألا يوجد غير ابن عم وليد تستطيعين الزواج منه دون أن تخوضي أمرا مذلا؟))
نكَّست شيرين رأسها تقول بيأس بالغ
((يا ليت كان أمامي خيارًا أفضل منه، لكن من أين أجد رجلًا مناسبًا لسني ولا يطمع في راتبي، ومتفهم لماضيَّ ويقبل بي؟ لو وجدتِ أنتِ أخبريني وسأتزوجه على الفور))
رفعت سهر يدها تمسد بأناملها جبهتها وهي تقول بإجهاد
((سلوكياتك وأفعالك تميل للجنون مؤخرًا))
حركت شيرين حلقها وهي تحاول التغلب على الغصة المؤلمة التي تسده وهي تدرك مقدار استهتارها وعبثها في قرارات مصيرية تخص حياتها.. ثم قالت لسهر
((لقد طلبني معاذ من أخوالي الأسبوع الماضي وأخبرهم بأنه لن يقيم لنا زفافًا بسبب وفاة ابن عمه يحيى.. وأخبرهم بأنه لن يعلن زواجنا قبل أن ننجب حتى يضع عائلته تحت الأمر الواقع))
قالت سهر بغضب ولوم رغم هدوء نبرتها
((لا أصدق أنكِ تتبلين على أخوالك من اجل أن تتزوجي من مُعاذ))
ردت شيرين من بين أسنانها المطبقة
((حسنًا ربما أبالغ.. ولكن صدقيني أنا أتعرض لمضايقات منهم منذ وفاة أبي.. يريدون مني أن اترك العمل وأعود لأسكن عندهم ليزوجوني من أول رجل يطلب يدي.. كما أني لا ارتاح لأسئلتهم عن مدخراتي وراتبي بين الحين والآخر))
استنكرتها سهر هادرة
((إلى الآن لا أفهم كيف طلبتي من مُعاذ أن يكون زواجكما صوريًا سريًا إذا كنتي لن تعلنيه إلا بعد الإنجاب منه! أعني كيف سيحدث هذا!))
أغمضت شيرين عينيها تحاول أخذ نفسٍ عميق قبل أن تتحدث مع سهر بلهجة شديدة وكأنها تتعامل مع طفلة صغيرة
((سهر.. سهر.. سهر أيتها الغبية وهل شبابنا يستطيع أن يطبق الزواج الصوري؟))
ظهرت البلاهة على وجه سهر حرفيًّا وهي تتمتم
((لا أفهمك))
ابتسمت شيرين تلك الابتسامة الغير مريحة وهي تقر
((سيكون زواجًا صوريًّا في البداية فقط، لكن صدقيني أسبوع أو أسبوعين وبالكثير سأسحر مُعاذ وسيطلب مني بنفسه أن يفعله!))
لم تستطع سهر منع نفسها من أن تشهق بصوتٍ عالي جذب شيء من انتباه الجالسين بجوارها ((ماذا!))
قالت شيرين بإصرار
((نعم يا سهر الليالي.. وهل تظنين بأن أي رجل طبيعي يمكنه تحمل البقاء مع امرأة تحل له في نفس البيت بدون أن يلمسها أو يتقرب منها؟))
رغم تجمد ملامح سهر من الصدمة إلا أنها هزت رأسها نافية
((لا.. لا أظن أنه يمكن لرجل أن يفعلها))
تألقت ابتسامة عريضة على ثغر شيرين هامسة
((أحسنتِ))
=============================
جلست رتيل فوق سريرها الواسع الأنيق تلاعب شعرها الأسود بأنامل يدها وبيدها الأخرى تمسك الهاتف وتحدث صديقتها غنوة التي كانت تسألها
((وماذا فعلتي عندما عرفتي بخيانة الأستاذ "مانع"؟ ألا يكفي أنه يمنع عنكِ السعادة والحياة وكل شيء؟ وفوقها يخونك؟))
هزّت رتيل كتفها تقول ببساطة
((صدمت وبهت في البداية بشكل مؤلم لكن تخطيت الأمر بظرف ساعات وها أنا أعيش وكأني لم أسمع شيء))
قالت غنوة بصدمة
((ألم تخبريه أنكِ سمعتي ما تحدث به مع أخيه؟))
همهمت لها رتيل نافية لتعاود غنوة نصحها
((حاولي أن تخبري عائلته))
قالت رتيل بنبرة باترة
((لا مستحيل.. هذا قد يعقد الموضوع بشكل أكبر ولن يأخذوا الموضوع بجدية، سيلجئون إلى الكذب لأجل تغطية عمله المشين أو يأخذون صفه فهو ابنهم.. بل قد ينبهونه حتى يقوم بإخفاء وتغطيه ما يفعله!))
هتفت غنوة ((إذن عليكِ أن تخبري الأستاذ "مانع" أنكِ تعرفين عن خيانته، وأن عليه أن يتوقف عن فعل ذلك بحقك فورًا.. وكلما كانت المواجهة معه أسرع كان ذلك أفضل))
قلّبت رتيل حديث غنوة في عقلها لدقيقة ثم سارعت تقول
((لن أواجه مؤيد مهما شعرت بالألم وإلا سأكون كمن يحرق أوراقه ويرمي بدفاعاته))
عادت غنوة تحذرها
((لكن عليكِ ألا تتجاهلي خيانته يا رتيل أو تتصرفي على أساس أنها غير موجودة، فإدراكه أنكِ تتجاهلين ما يفعله في المدينة يكون بمثابة إعطائه الضوء الأخضر والموافقة الضمنية على استمراره فيما يفعله طالما أن الأمر يتم في الخفاء))
غمغمت رتيل بامتعاض
((أعرف، لكن طالما أنه سيستمر فيما يفعله فليكن بالخفاء))
حذرتها غنوة بنبرة ذات معنى
((أنتِ حرة لكن تذكري كلما أجلتِ موضوع المواجهة كلما زاد تعلقه بمن يقابلها من وراء ظهرك، ستتطور علاقته بها ويغدو أمر تركها أكثر صعوبة، وفي النهاية ستزدهر وتنمو ثم تخرج للنور))
تنهدت رتيل بعجز وقلة حيلة ثم قالت ساخطة
((وماذا بيدي لأفعل يا غنوة؟ أنا لا أملك أي دليل مادي وحقيقي على خيانته ومن دون دليل لن أقدر على مواجهته لأنه سيكذب بلا شكَّ، بل والأنكى بأنه قد يعترف بلامبالاة بخيانته ويخبرني أن أتقبل الأمر بكل بساطة))
زفرت رتيل بضيق ورفعت يدها الأخرى تبعثر شعرها الأسود الناعم لتقول بجنون وقهر
((تبًا له.. فليمت لأرتاح أنا.. إنه يلهو في المدينة طوال الأسبوع ويتركني هنا أحيا كامرأة بليدة ومتخلفة))
عمّ الصمت للحظات ثم سألتها غنوة وهي تدخل في موضوعها الأساسي التي اتصلتِ بها من أجله
((إذن هل تحدثتِ مع السيد مانع بخصوص زيارة عائلتك؟))
((لا لم أتحدث معه.. إنه يرفض نهائيًا خروجي من البيت.. ولولا أني أحكم إخفاء وسرية زيارتي لكِ لقلت بأنه عرف بحقيقة سري لذلك يمنعني من الخروج))
((حاولي أن تُلحي عليه))
((لن ينجح صدقيني، إنه عصبي عند الإلحاح عليه.. يصعب التفاهم معه أو إدارة أي نقاش ناجح))
((لا أدري بكل صراحة بماذا أدعو على الأستاذ مانع خاصتك فليس هناك أي إيجابية فيه.. إنه متسلط وشخصية مسيطرة.. عنيد.. قاسي القلب وحاد الطباع))
كانت ملامح رتيل تمتقع مِمَّا تسمعه من صديقتها محاولة تنظيم أنفاسها المشتعلة.. لم يكن يعجبها أن يشتم أو يدعو أحد على زوجها مُؤيد.. غيرها هي.. فقالت تنهي المكالمة
((حسنًا.. تأخر الوقت يا غنوتي سأنام حتى استيقظ غدًا باكرًا لمدارس الولدين.. تصبحين على خير))
=============================
صباحًا..
ارتبكت سمية وهي تفتح باب بيتها الصغير في ساعات الصباح الباكر ثم قالت بتردد والمفاجأة تغمرها
((رتيل.. صباح.. صباح الخير))
أجابتها الأخرى ببشاشة ابتسامتها التي زينت محياها على غير العادة
((صباح النور.. أين هو يزيد؟))
التفتت سمية بحيرة لابنها الذي كان يحمل حقيبته المدرسية ثم عادت تنظر بنفس ملامح لرتيل تجيبها
((أنا أجهزه للمدرسة))
رفعت رتيل حاجبيها تسألها
((هل ستأخذينه للمدرسة مجددًا؟))
أومأت سمية بوجهها وهي تجيبها باستغراب
((نعم، أنا بالفعل منذ أكثر من أسبوع من أقوم بتوصيله لنصف طريق المدرسة وهو يكمله لوحده))
ظهرت تلك النظرات المتعجبة على رتيل وهي تسألها بمرح
((لماذا؟ ألا تستطيعين انتظار أولادي حتى يتجهزوا ويذهب معهم للمدرسة مع السائق؟))
تراخى فك سمية السفلي وهي لا تفهم ود رتيل هذا الغير مألوف فيها بشكل دائم، عدا ظنها بأنها أكثر المرتاحين الأيام الفائتة لأنها لم تراها.. فأجابت بخفوت وهي تشيح بنظرها بعيدًا
((لا داعي، لا أرد إزعاجك يا سيدة رتيل))
زمّت رتيل شفتيها تصحح لها
((أنا لا أفعل هذا إلا من أجل فهد وباسم لأنها يحبان رفقة يزيد))
مدت رتيل يدها ليزيد الذي كان يخرج رأسه من خلف الباب ويطالعها قائلة بود
((هات يدك، تناول الفطور معنا ولتذهبوا جميعكم مع السائق كما كنتم تفعلون من قبل))
قطّب الصغير حاجبيه ونظر لأمه الصامتة بارتباك ليأخذ إذنها.. فأومأت له برأسها موافقة ثم ناظرت رتيل تخبرها
((لقد تناول فطوره بالفعل، ولكن يمكنه الانتظار حتى يتجهز ولديكِ يا سيدة رتيل فهو الأخر يحب رفقتهما))
أمسك يزيد بيد رتيل يذهب معها أمام أنظار سمية التي لم تكن تريد أبدًا جعله يختلط مع أولاد رتيل ولكنها أشفقت على الطريق الطويل الذي يسيره رغم صغر سنه لمدرسة القرية البعيدة نسبيًا عنهم!
.
.
دلفت رتيل للمطبخ وهي تمسك يد يزيد فسألتها منال باستنكار
((ما هذا! ماذا يفعل ابن البستانية هنا؟))
ابتسمت رتيل لها تعلمها بألا تهتم بوجود يزيد وهي تسألها
((هل وضعتم الفطور على منضدة الطعام؟))
أومأت لها نجوم قائلة وهي تدلف المطبخ بنشاط
((نعم يا سيدة رتيل، لقد جهزناه))
ثم تقدمت من يزيد تبعثر شعره بيدها وهي تخرج لسانها له بمشاغبة
((اشتقت لكَ أيها الشقي، لماذا لم تعد تزورنا!))
أخفض يزيد وجهه بخجل يداري ابتسامته.. في حين لكزت منال ابنتها نجوم وحدجتها بغضب متقد لودها معه!
وصلت رتيل للصالة وسحبت كرسيًّا لزيد ليجلس مقابلها عندما رفعت الحاجة زاهية الجالسة حول منضدة الطعام وجهها وتساءلت بحدة
((لماذا جاء هذا الولد هنا؟))
توترت رتيل من لهجة حماتها إلا أنها أجابتها دون أن تنحسر ابتسامتها الصباحية النادرة
((أنا أحضرته حتى يذهب مع ولديّ للمدرسة))
تطلعت زاهية لمدبرة المنزل نعمة التي كانت تقف بجانبها تسألها بصرامة
((ألم تنبهي على سمية يا نعمة ألا تُدخل ابنها هنا حتى إذا ما تكرر ما حدث سابقًا لا يظن أحد به سوء الظن؟))
أومأت نعمة لها طائعة وهي تقول
((سأعيد التنبيه على سمية مجددًا يا حاجة))
ثم حدجت نعمة الصغير يزيد بنبرة تحمل التحذير والتوبيخ كما نظراتها
((تعال فورًا يا يزيد لنذهب للخارج))
لم يناقشها يزيد بشيء بل على الفور قفز من مقعده قبل أن تحيد نعمة بنظرها المحتد عنه على صوت مَالك الذي كان ينزل من الدرج الذي ينتصف الصالة مسرع الخطوات.. وما إن وصل لهم حتى قال بسخط لنعمة
((كيف تبعدينه عن مائدة الفطور؟))
أجفل يزيد قليلًا على صوت مَالك الذي انخفض بمستواه يسأله باهتمام
((كيف حالك يا يزيد لم أراك منذ أيام!))
فهم يزيد من وجوم مالك أنه بمثابة عتاب رقيق لأنه لم يزره كما هو معتاد ومع ذلك أجابه بنبرة عادية دون أن ينظر له
((أنا بخير))
بالكاد أخفى مَالك استغرابه من طريقة حديث يزيد معه بملامحه الواجمة.. ثم تطلع نحو نعمة غير عابئًا بنظراتهم جميعًا إليه
((ماذا قلتي له يا نعمة؟))
أجابته نعمة بصرامتها المألوفة
((لا يجوز يا سيد مَالك له أن يظل هنا، لكن الحق على أمه هي التي..))
قاطعها مَالك هامسًا بعصبية وقد أكتفى حقًا منها هي ومن كل العاملين في القصر الذين يعاملون يزيد وسمية بهذه الدونية
((سيظل يزيد هنا))
رغم أن نعمة كانت تتحدث بصرامة وثقة تستمدها من وجود الحاجة زاهية لأن مَالك يخشى إظهار اهتمامه وعطفه على يزيد أمامها إلا أن سخطه الظاهر الآن أخافها.. فآثرت أن تبتعد ولا تدخل بنقاش محتد معه متمتمه باقتضاب
((كما تريد يا سيد مَالك))
تدخلت رتيل الجالسة معهم منتصرة ليزيد
((أنا من جلبته إلى هنا حتى يذهب مع ولديّ للمدرسة مع السائق فحاسبيني يا نعمة لا هذا الصغير))
لكن لم تطل رتيل موقف شجاعتها عندما حدجتها زاهية بنظرات نارية محذرة سرعان بل أشاحت بعينيها جانبًا بقلة حيلة..
أمسك مَالك بيد يزيد يجذبه ليعاود الجلوس فوق كرسيه قائلًا بحنو
((عد لمكانك))
دمدم الصغير بعناد يحرضه ضعفه ومشاعره المتذبذبة التي ترهق روحه الطفولية من كل ما يلاقيه من أصحاب هذا البيت
((لستُ جائعًا سأنتظر في الخارج))
إلا أن مَالك أصر عليه قائلا بلهجة حاسمة بينما يُجلسه عنوة ممزوجة بالرفق فوق الكرسي
((بل ستتناول الفطور أولا))
اختلس يزيد النظر بطارف عينيه لأقرانه فهد وباسم اللذان كان يتطلعان للموقف بحيرة فاشتد ألمه لأنهما كانا شاهدان عليه وهو يهان من قبل العائلة.. ثم أخفض رأسه يعاند بنبرة مختنقة
((لا أريد أن اجلس))
خفتت نظرات زاهية المحتدة لرؤية هشاشة يزيد ونظراته التي تذيب وتفتت القلب.. لكن كرهها لوجوده كان رغمًا عنها.. إنها لا تطيقه ولا تطيق النظر لملامحه هذه.. قد يعتقد من حولها أنها تكرهه من كرهها لامه سمية والتي بالمناسبة تكرهها بسبب اهتمام مالك بها.. فليس أحب أولادها على قلبها ومن أشبعته دلالًا وعزًا ستسمح له بأن يحب أو يتزوج من أي أمراه كانت!
لكن الحقيقة أن لا علاقة لسمية بكرهها ليزيد.. بل السبب المبهم في كرهها له هو شيء متعلق بملامحه التي تجعلها تتخيل أمورًا مستحيلة وتظن الظنون الرابيات! فقالت أخيرا بجفاء
((لا تضغط عليه يا مالك إذا كان لا يريد الجلوس، قد يريد تناول الطعام في المطبخ على راحته))
عقب يزيد على كلامها يقول بنبرة أشد اختناق تنذر بالبكاء
((لا أريد آكل شيء لا هنا ولا هناك، لستُ جائع))
أمسك مَالك كف الصغير الغض يسأله بلهفة وقلق
((هل تبكي؟ أخبرني ماذا حدث يا يزيد؟ هل أزعجك أحد؟ أجبني؟))
تطلعت الحاجة زاهية لوهلة خلفها تأخذ حذرًا قبل وصول زوجها الذي لن يعجبه منظر مَالك وهو يفيض في اهتمامه بيزيد.. في حين انزلقت عبرة صامتة من عين الصغير وهو يتمتم
((لا أحب الجلوس هنا))
أغمض مَالك عينيه يأخذ نفسًا عميقًا ثم فتحهما يسأله بألم
((لماذا لا تحب؟ هل أزعجك أحد؟))
وعندما لم يستطع يزيد أن يكبح المزيد من الدموع المتجمعة في عينيه غمغم بصوته المتهدج وهو ينفض يدي مَالك عنه
((لا أحب فقط الجلوس مع عائلتك))
ثم هرول مبتعدًا فوزع مَالك نظره لكل المتجهمين الجالسين حول المنضدة لعله يفهم ما حدث قبل أن يستقيم واقفًا ويسارع في اللحاق به..
دلف للمطبخ ليجد الصغير واقفًا في منتصف المطبخ يجهش بالبكاء ويغطي وجهه براحة كفيه.. ومنال التي كانت واقفة تنظر له بعدم فهم لكن بمجرد أن انتبهت لوجود مَالك حتى سألته على الفور
((ما به هذا الشقي؟ بماذا يتعبك يا سيد مَالك؟))
لم يجبها ومنظر يزيد يبكي بهذا الشكل جعل قلبه يهتز بين ضلوعه بغضب يعتليه فاقترب منه وحرره من حقيبته الظهرية ثم حمله وهو يهدهده ملهوفًا عليه
((يزيد حبيبي.. ماذا هناك؟ ما سبب بكائك؟ فقط أخبرني وأعدك بأن أتصرف))
حضرت الحاجة زاهية بعد دقائق للمطبخ تتطلع بنظرات ممتعضة على ابنها وهو يقوم بترضية الصغير.. فدمدمت له
((ستتأخر على عملك يا مَالك.. دعه منال ترى مشكلته فربما يكون مريضًا))
كانت منال تناظر الموقف بنظرات مشمئزة وهي ترى أن الصغير الذي ينحدر من أصل وضيع لا يستحق اهتمام أصحاب هذا القصر.. ثم اقتربت مغمغمه من زاهية تهمس في أذنه بخبث
((لا أكذب إن قلت بأن السيد مَالك لم يعد يدلف للمطبخ أبدًا منذ أن توقفت سمية عن الحضور))
جحظت عينا زاهية والتفتت لمنال تزجرها بصوتها الحازم
((إلى ماذا تلمحين يا منال؟ هل تقصدين بأن ابني عديم التربية ولعوب يلاحق النساء اللاتي يعملن تحت ظل الحاج يعقوب؟))
بهت وجه منال وعرفت بأنها استثارت غضب سيدة هذا المكان فسارعت تصلح موقفها وتتراجع
((لا مَعاذ الله أن ألمح لذلك، لا أحد بمثل أخلاق ومروءة السيد مَالك.. لكن ما قصدته..))
تلكأت منال متلعثمة في نهاية حديثها فقاطعتها زاهية على الفور وهي تأمرها بصرامة
((يكفي إلى هنا حديثًا يا منال وابتعدي))
بنبرة مرتبكة اعتذرت منال مجددًا واستأذنت الانصراف في حين كان مَالك يتوعدها سرًا بتسميعها ما يليق بها هي وغيرها هنا واتخاذ الإجراء المناسب لهن!
وجهت زاهية باقي كلامها له وهي ترشقه بنظرات ساخطة غير راضية
((وأنتَ يا مَالك اترك الولد هنا ليذهب لأمه واذهب إلى عملك حتى لا تؤخر نفسك وتؤخره على مدرسته الابتدائية))
لم يجد مَالك بدًا من الكلام فسارع يقول منهيًا هذا الحديث بهدوء قاتم
((سأذهب أنا وهو معًا، السلام عليكم))
أخفض جسده يضع يزيد أرضًا ثم أمسك برسغه بيد، وحقيبته الظهرية باليد الأخرى مغادرا إلى الحديقة الخلفية..
أغلق مالك باب المطبخ الخارجي ثم جلس فوق العشب الأخضر متكئًا بظهره على الحائط وجذب يزيد الذي كان خاضعًا تمامًا له من يده ليجلس فوق حجره..
وكأن الأخير أخذ راحته أخيرًا بخروجه من هذا القصر وابتعاده عن أصحابه الذين يطبقون على صدره ويشعرونه بالسوء من نفسه فأنفجر أخيرًا في نحيب عالي..
اتسعت عينا مَالك بوجوم لكن أحاطت ذراعه بكتف يزيد يضمه له فاستجاب الآخر له وهو يخفي ملامح وجهه المُدَمَرة وروحه المتعبة..
تشبث يزيد بيديه الاثنتين قميص مَالك فقد مرّ أيام عليه من دون رؤيته أو التحدث معه كما هو معتاد.. وكان مَالك هو الآخر يمرر يده على ظهره المختض من بكائه وهو يحدثه بريع من حاله العجيب
((يزيد بني لا تبكي، أخبرني ماذا حدث معكَ؟ من أزعجك من أهل البيت؟))
أجابه من بين بكائه بصوتٍ متهدج يكاد يكون مفهوما
((لا أحد، لكن لم أعد أحب الدخول إلى هنا))
أغمض مَالك عينيه بألم وعويل يزيد بصدره يبكي بأسى.. مرت دقائق طويلة عليهما وبعدما اكتفى الصغير من إفراغ كل الدموع الكامنة داخله ابتعد تدريجيًا عنه يبحث بنظره المتشوش من إثر بكائه عن حقيبته..
فتحها وأخرج منديلًا يمسح بنفسه وجهه المحتقن والملطخ بالدموع..
كان مالك متأكدا من وجود خطب ما معه، فيزيد لم يتحدث معه منذ أيام.. وحتى عندما يلقاه صدفة ويلقي السلام عليه يرده بخفوت واختصار كأنه يتهرب منه ويتجنبه عن قصد! وهو فقط كان يمرر الأمر له لأنه كان مشغولا في أمور يخص عمله في المدرسة! فسأله وهو يمرر يده فوق خده المشوب بحُمرة واضحة
((لماذا لم تعد تحب الدخول إلى هنا يا بُني؟))
كان مَالك يحدثه بعتاب وكأنه يخاطب رجلًا كبيرًا لا طفلًا في السادسة من عمره.. لكن ما تلقاه منه كإجابة هو صوت زفيره الواهن ثم صوته الخفيض وهو يجيب
((أمي فقط أمرتني أن أتوقف عن إزعاجك لأنك ستكون مشغولا بالعمل))
ابتلع مَالك مرارة حنظلية بجوفه ثم قال بتأنيب رقيق أنعش أوردة الصغير
((لكنك لا تزعجني، بل أنا المقصر بحقك من كل الجهات.. ومهما أفعل فلن أوفيك شيء من حقوقك عليّ أو أكفر عن ذنبي تجاهك))
صمت الصغير لدقائق يحدق فيه ثم أشاح بنظره وقال متهربًا
((قالت لي العمة رتيل أن اذهب اليوم مع السائق مع فهد وباسم.. اتركني الآن وإلا سأتأخر))
ضيّق مَالك عينيه يستدرك ما يقصه ثم سأله بصوتٍ خطير
((لم أفهم! ألم يكن يوصلك السائق كالعادة في الأيام السابقة؟))
تردد يزيد في الإجابة إلا أنه قال بخفوت
((لا أمي كانت توصلني))
احتدت عينا مَالك بشعور صادم ثم تساءل بغضب وحمية
((كيف توصلك؟ مشيًا على الأقدام؟ لماذا تمنعك من رؤيتي ومن الذهاب مع السائق؟))
عادت الدموع تتجمع في عيني يزيد وتقوس ثغره الطفولي للأسفل ثم أجاب بتلعثم
((ربما.. بسبب..))
شد مَالك على ضروسه وغمغم بعجب يشوبه الغضب
((سمية تلك تجلب المشاكل فقط!))
استقام مَالك واقفًا وعاد يحمل حقيبة يزيد ويجره معه بيده الأخرى هادرًا وبريق خضرة عينيه تتوعدان سمية بالكثير..
تبعه الصغير لكن تساءل بحيرة عندما قادة مالك الى طريقٍ بعيد عن البوابة الخارجية
((إلى أين؟ أين سنذهب؟))
.
.
عدلت سمية الوشاح على شعرها الأسود ثم فتحت الباب للطارق الغاضب الملح لتجد مَالك يقف أمامها وهو يرشقها بنظرات قاتمة..
انتبهت أنه يحمل حقيبة يزيد الذي كان يقف معه فتساءلت بقلق وهي توزع نظرها بين الاثنين
((مَالك! ماذا تفعل هنا؟ ولماذا لم يذهب يزيد لمدرسته حتى الآن؟))
كانت تمعن النظر بوجه ابنها المحتقن وعينيه المحمرتين بخفوت قبل أن تقطع نبرة مَالك النارية تفكيرها
((هل يمكن أن أعرف لماذا تمنعين يزيد من الذهاب مع سائقنا كما هي العادة؟ هل جعلتيه يمشي على أقدامه إلى المدرسة كل تلك المسافة؟))
فهمت سمية سبب غضبه الثائر هذا لتكتف ذراعيها وترد بجمود
((كم مرة عليّ أن أخبرك فيها ألا تطرق بابي وتقف أمام بيتي إلا للضرورة! ستجلب الأقاويل لي!))
ظل مَالك على نفس وقفته وعاد يزجرها وعينيه بعينيها
((لا تغيري الموضوع، لماذا جعلتِ يزيد يذهب لمدرسته مشيًا على الأقدام وقد عينت السائق ليوصله مع فهد وباسم في كل مرة لا أقدر على إيصاله أنا بنفسي؟))
ردت عليه بنفس النبرة الثابتة التي تحمل حزمًا وأمرًا
((والله هذا ابني وأنا كأمه أعلم مصلحته أكثر من أي أحد آخر، وبالتأكيد سأجعله يقوم بما يريحه أكثر.. أو يشقيه بشكل أقل))
شدت على كلماتها الأخيرة وفهم مَالك مغزاها.. إلا أنه غمغم بصوتٍ يفيض غِلًا
((لا ينقص إلا أن تحاولي بتر أي حبال تواصل متبقية لي مع يزيد!))
تصدعت خطوط دفاعها وتمتمت له بخواء صوتها
((أنا لستُ ظالمة لهذا الحد))
ثم أومأت بعينيها لابنها تأمره
((انتظرني يا يزيد حتى أغير ملابسي وأوصلك للمدرسة))
قال مَالك بصوتٍ باتر
((أنا من سأوصله وابقي أنتِ هنا، أساسًا تأخر الوقت ولا وقت للمشي هناك))
تنهدت بنفاذ صبر ثم عاندته
((لا أريد إتعابك، أنا من سأوصله))
رفع أحد حاجبيه يقول بخشونة
((بل أنا من سأفعل))
علت نبرة صوتها قائلة وقد سئمت من تبادل الحديث العقيم بينهما
((لو سمحت لا تتدخل بقراراتي، أنا من سأوصله))
أمال مَالك وجهه قائلًا بنبرة متسلطة خافتة
((اخفضي صوتكِ يا سمية أمامي، من يقف أمامك هو رجل في السابعة والعشرين من عمره ولم يعد ذاك المراهق!))
تراجعت بتلقائية خطوة للخلف تقول بنبرة أقل انفعالًا
((أنا لم أقصد أن يعلو صوتي عليكَ ولكن لو سمحت توقف عن التحكم بيزيد فأنا أفعل ما أشعر حقًا بأنه يريحه، هو حقًا لا يحب أن يذهب مع السائق..))
قاطع كلامها بحنق منها
((هراء! لن أجعله يمشي كل هذه المسافة لأنه يمتلك أمً برأس صلب عنيد مثلك))
لم يحدثها يومًا بهذه الطريقة وهذا الأسلوب ولم يقلل يومًا من احترامها.. لكنها أخرجته من طوره هذه المرة وهو نال كفايته ونفذ صبره من كبريائها البغيض وتفكيرها العقيم وما يؤدي له من نتائج تؤثر على يزيد قبل أن تؤثر عليهما! ثم إنه وبعد كل ما مر به وكل ما يعانيه بسببها يجعله متيقن من أن وصوله إلى مصلحة الثلاثة لن يتم سوى بإيلامها وجعل نفسه المتحكم.. فأكمل بصوت المهدد
((أنتِ ستطيعين أوامري دون زيادة أو نقصان يا سمية، وإياكِ أن تختبري صبري في مثل هذه الأمور حتى لا تري وجهًا آخر مني لن يعجبكِ صدقيني))
ارتجت خفقات قلبها بعنف ولا تعرف لماذا هابته.. ربما لأنها تعرف أنه يملك القدرة بل ويستطيع دون مجهود أن يسلبها أهم شيء في حياتها حتى دون أن يحاسبه أحد! إلا أنها تحلت بصلابة وهمية وغمغمت
((توقف عن التهديد))
زجرها بنبرته المحذرة
((لا تتعنتي فقط نكايةً بي، ومن الغد سيأخذه السائق كما الماضي فإياكِ أن تمنعيه))
ابتلعت ريقها من طريقة تسلطه في الحديث معها.. في حين شعر مَالك بارتعاش يد يزيد التي يمسكها فالتفت له يواجه وجهه الصغير البريء الحائر.. مدركا أن المشهد هذا أربكه إذ أنه يراه أول مرة يوبخ أمه ويتحدث باحتدام معها بهذا الشكل! لقد أخطأ عندما غفل عن وجوده واستماعه لهما.. فابتسم له قليلًا يفرج عن حدة ملامحه الواجمة.. ثم التفت لسمية التي كانت تهم بإغلاق الباب عليه فمنعها بوضع قدمه فوق العتبة يقول بصوتٍ فيه شيء من الخطورة
((لم أسمع كلمة موافقتك على كلامي يا سمية؟))
لم تجبه بل دخلت في صراع مع ترددها للحظات طويلة ليعاود الترديد عليها بصبر جميل
((سمية أنا لا زلت انتظر ردك))
رمته ببغض وغيظ نظراتها وهي تقول
((لا تقلق، لن أمنعه))
بابتسامة متكلفة وارى بها رغبته السادية بلكمها قال بينما يبعد قدمه عن العتبة
((يمكنك الآن إغلاق الباب حتى لا يثير وقوفي هنا طويلًا الأقاويل، وأنا من سأقوم بإيصال يزيد للمدرسة اليوم))
التفت يزيد إلى أمه كأنه يأخذ إذن الذهاب كما هو عادته لتومئ برأسها إليه مطمئنة!
=============================
طرقت نورين باب مجلس النساء وعندما جاءها الإذن دلفت للداخل بخطوات مترددة لتهدر بخفوت وهي تنظر للحاجة الزاهية التي كانت تجلس منحنية بشرود وبجانبها رتيل ترتشف من فنجان قهوتها
((مساء الخير يا عمتي))
نظرة واحدة من ملامح حماتها أخبرتها بأن ما طلبتها من أجله لا يبشر بالخير.. خاصة وهي ترد عليها بعبوس
((مساء النور، ألم يخبرك مُصعب متى سيعود؟))
أجابتها متمتمه والشعور بالذنب يطفح على ملامحها
((هو فقط أخبرني أنه سيبين خارج المنزل لعدة أيام بدون أن يشرح أي تفاصيل أخرى))
عادت زاهية تسألها بشك وهي تمعن النظر بملامحها لعلها تستشف شيئًا
((هل هذا ما قاله فقط؟))
أومأت نورين برأسها بخشية ثم سألتها ببديهية
((نعم.. ألا تستطيعين الاتصال به؟))
لم تتجاوب في البداية ملامح زاهية مع سؤالها البسيط العفوي إلا أنها قالت أخيرًا بصوتٍ مهيب وهي تنظر أمامها
((لم يرد إلا على مكالمة واحدة وأخبرني بأنه مضطر أن يبتعد عن البيت لعدة أيام))
خفت بريق عيني نورين ثم سألتها بنبرة باهتة
((هل هذا فقط ما قاله؟))
أجابت زاهية بنبرةٍ حذرة بطيئة وعينيها تبرقان تهديدًا
((أصدقيني القول، هل فعلتِ أو قلتِ ما يزعج ابني؟))
اضطربت ملامح نورين عند هذا السؤال إلا أنها قالت بخفوت وارتباك
((لا لم أفعل شيء.. هل أخبرك عني أي شيء؟))
ظلت زاهية صامتة بعض الوقت وهي تدقق النظر في عينيها بطريقةٍ سارعت في نبضات قلبها ثم قالت لها بقنوط
((إذا لم تكن منكِ أي فائدة مرجوة فعلى الأقل لا تفعلي أي شيء يعكر من مزاجه أو يثير ضيقه))
تصلب جسد نورين بالأرض للحظات وصمتت قليلًا بملامح متألمة وهي تذكر آخر ما حصل بينهما لكنها دافعت عن نفسها بشجاعة
((لم افعل أي شيء، بل دائما ما أتحرى راحته ورضاه))
كانت زاهية تشعر بقهر على مُصعب وعلى زواجه بتلك الطريقة.. ألا يكفي انتهاء زواجه الأول بابنة عمه رشا رغم الحب الذي كان يكنه لها؟ هو الوحيد من أبنائها الذي تشعر بأنه لم يحظَ بالاهتمام الكافي بين إخوته.. ففي حين كل اهتمام زوجها في مُعاذ ومُؤيد انصب اهتمامها هي في التؤام مَالك ومَازن.. ولا يهون عليها أن يفقد مُصعب نفسه بهذا الشكل الذي آل إليه ويدفن أمانيه ورغابته لأجل مصلحة العشيرة..
نفضت زاهية عنها غبار التفكير وهي تنظر للتي أمامها مغمغمه بغضب مكتوم
((منذ زواجه منكِ اعتلّت صحته وانعزل بنفسه وصار منغلقًا، يمضي حياته في البيت بل ويرتب احتياجاته حتى لا يخرج منه إلا للعمل.. لا أدري ما الذي فعلته بابني!))
ضاقت عينا نورين وقد اتقد فيهما سعيرٌ خطير وهي تنتبه على رتيل تسكب لها فنجان قهوة وترفعه لترتشف منه القليل باستمتاع بينما تشهد على حديثهما.. رتيل تلك الأفعى هي السبب في إفساد علاقتها مع والدة مُصعب التي كانت شبه طيبة معها في البداية.. ثم الجميع يعرف أن مصعب هكذا منذ زواجه بها لأنه تزامن مع وقت وفاة ابن عمه!
أشاحت الحاجة زاهية بيدها وهي تقول من بين شفتين غاضبتين متصلبتين
((يمكنك الانصراف، فقط نادي ياسمين لتشاركنا احتساء القهوة))
ازدردت نورين ريقها وأسرعت تخرج من مجلس النساء وتنفذ ما أمرتها به على الفور..
.
.
وكانت دقائق حتى عادت الحاجة زاهية تتكئ في مجلسها بصلابة عند دلوف ياسمين المجلس ملقية السلام.. فأمرتها برفق أن تجلس جانبها ففعلت وهي تجاملها بابتسامة..
سكبت رتيل لها فنجان قهوة فتناولته ياسمين منها مغمغمه بالشكر ثم ارتشفت منه بينما الهدوء يلف المكان..
كانت ياسمين تدرك أن حماتها طلبتها لحاجة تخص مَازن إلا أنها آثرت الصمت حتى تبدأ هي الكلام.. واستشعرت الحاجة زاهية تساؤلات ياسمين الغير منطوقة فقالت بهدوء لها
((لم انده عليكِ لشيء محدد، نريد أن نجلس معكِ قليلًا، نكاد ننسى ملامح وجهك.. الجلوس وحيدة في غرفتك دون فعل شيء غير صحي بالنسبة لكِ))
أومأت ياسمين برأسها في صمت وعادت ترتشف من فنجان قهوتها لتسألها زاهية أخيرًا
((هل تتواصلين مع زوجك جيدًا؟))
تجمدت عينا ياسمين كملامحها تمامًا قبل أن تتبدل للحنق عند ذكر سيرته، لكنها أجابت بهدوء قاتم
((نعم، لا تقلقي هناك اتصال دائم بالهاتف بيننا ولساعات يوميًا..))
قالت الحاجة زاهية بحزم مخفف
((جيد يا ياسمين، يجب أن يكون هناك تواصل دائم بين الزوجين فهو يذيب الحواجز الجغرافية بينكما ويشعر كل طرف بأنه ليس بعيدًا عن الآخر))
ضيق شاب روح ياسمين وحماتها تردف بصوتٍ يلفه الحزن
((لا بد أن مَازن يمر بظروف صعبة منذ ذهابه وحيدًا إلى بلد غريب، فحاولي دائما أن تخففي عنه وحدته وغربته بإشراكه في كل أمور حياتك حتى لا يشعر وكأنه في معزل عنكِ وعن هدى ابنته!))
بدت علامات التبلد والتجهم بادية على وجه ياسمين وهي تتمتم
((فليكن الله بعونه، سأفعل))
تنهيدة عميقة خرجت من صدر زاهية ثم ناظرت رتيل التي كانت تلتزم الصمت منذ وقت طويل فقالت لها وهي تتذكر مسألة الصباح
((رتيل لا أريد ما حدث صباحًا أن يتكرر لو سمحتي))
ارتفع احدى حاجبي رتيل ببطء شديد ثم قالت متسائلة
((هل تقصدين مسألة يزيد؟ ولكن أولادي حقًا يحبون رفقته))
رمقتها زاهية شزرًا وهي تعقب بصوتٍ واجم
((لا أحب أن يدخل الصبيان داخل منزلنا هنا بلا حسيب أو رقيب.. لدينا حفيدتين يا رتيل))
قامت رتيل بالتوضيح والاعتذار
((لكنه صغير، فقط في السادسة من عمره))
رفعت زاهية كف قاطع أمامها بشكل متصلب ثم غمغمت بنبرة باترة
((حتى ولو يظل غريبًا علينا ومحظورًا عليه الدخول هنا))
بدأ ذاك الضيق الغريب الذي يستبد بها عند ذكر ابن تلك البستانية يتفشى في داخلها.. فثارت أنفاسها وتشتت أفكارها وبشكل تلقائي انزعجت ملامحها باختناق لتتمتم وهي تنظر بعيدًا
((كم أكره وجود هذا الصغير بالذات هنا.. أكرهه هو وأمه.. أكره ملامح شكله، وأكره اسمه))
ثم وضعت القهوة على المنضدة الصغيرة واعتدلت بهدوء واقفة تقول بينما تغادر
((سأذهب للحاج لأرى إذا ما كان يحتاج لشيء))
وبمجرد أن أغلقت باب المجلس خلفها حتى رسمت ياسمين تلك الملامح المستغربة وهي تتمتم بخفوت كمن تحادث نفسها
((تكره اسم "يزيد".. عجيب أمرها!))
رفعت رتيل حاجبيها تسألها
((ما هو العجيب؟))
ردت ياسمين بعفوية
((أتذكر عندما كنت حُبلى بابنتي هدى أعلمتني برغبتها في تسمية الجنين بيزيد لو كان ذكرًا، على اسم والدها لأنها حلمت به))
عقدت رتيل حاجبيها ورفعت أناملها لذقنها لتقول بتفكر وفطنة
((نعم أتذكر هذا.. لقد ولدت هدى ويزيد وفهد في نفس السنة.. أخبرتكِ أن تسمي ابنك يزيد لو كان ذكرًا لأن مُؤيد كان مصرًا على تسمية كل أولادنا بأسماء أجداده من طرف أبيه))
هزّت ياسمين كتفيها تقول ببلادة
((غريب أن تكره عمتي هذا الاسم وهو على اسم والدها))
=============================
اجتمعت سهر مع والديها حول سفرة الطعام في المنزل تجيب والدتها
((نعم يا أمي ستتزوج شيرين قريبًا، ولكن بدون أن تقيم أي احتفال بسبب حداد العريس على ابن عمه))
همهمت تمارا وهي ترفع الشوكة وتمضغ قطعة اللحم بهدوء.. وبجرد أن انتهت حتى قالت بفضول
((هل حقًا يعمل رائدا؟ متى تعرفت عليه وطلبها للزواج فجأة؟))
أجابتها سهر بنبرة عادية
((نعم أمي إنه رائد رأيته عدة مرات في السابق عندما كان يزور منزل والدها، إنه من القرية التي كانت تسكن فيها في الماضي.. قرية أمها))
بدأ العبوس يتسلل لملامح تمارا فقالت بغبطة
((أوه حقًا؟ هذا جميل، صديقتك فجأة خُطِبت وستتزوج ونحن لا زلنا بانتظار الأستاذ خطيبك حتى يدفع المهر المكتوب بالعقد، ويبتاع فيلا زوجية، ويقيم زفافًا أسطوريًا يليق بكِ))
وضعت سهر شوكتها فوق الطاولة وشبّكت أناملها ببعضهما بارتباك تحاول استعادة رباطة جأشها ثم قالت
((أمي بخصوص هذا الأمر.. أعني.. ألا تعتقدين أن متطلباتك المالية تثقل كاهل قصي وسبب تأخير زواجنا؟))
غطت تمارا عينيها بكفها وهي تطرق برأسها بغضب منبعه الحقيقي شدة التوتر المسيطر عليها بسبب هذا الموضوع.. ولا ينقصها دفاع ابنتها عنه الآن.. ثم عادت ترفع وجهها هامسة من بين أسنانها كأن من أمامها عسيرة الفهم
((أيتها الغبية شخص استطاع شراء ساعة اليد الماسية هذه لي كهدية بلا مناسبة فهل سيكون عاجزًا عن دفع مهر عالي لكِ؟))
قالت سهر متذمرة بحنق
((ولكن يا أمي رغم ذلك لا ينبغي أن تكوني أسيرةً وضحيَّةً للمادة، فأنا لا أبيع نفسي لرجلٍ حتى أغالي في مهري ومتطلباتي، إنما أبحث عن شراكة حقيقيةٍ))
زجرتها والدتها بانزعاج وهي تلوح بيدها أمامها
((أيتها الغبية أنا أضمن لكِ حقك بحياة مرفهة لا تختلف عن حياتك الآن معنا بل تزيد))
علا صوت سهر بإدراك جاد غاضب
((بل تريدين التفاخر والتباهي أمام صديقاتك من المجتمع الراقي))
قالت تمارا بلامبالاة
((نعم، هذا سبب آخر))
خرجت تنهيدة عميقة من فايد والد سهر الذي قرر التدخل أخيرًا والتفت لزوجته يقول بروية وحكمة
((ابنتك محقة يا تمارا، حتى لا تخسري هذا الرجل مستقبلًا تتنازلي عن بعض حظِّ ابنتك وخففي من مهرها، ومتطلباتك المالية الخيالية فيما يخص الزفاف والشقة في سبيل إعانته والوقوف معه، لا تثقلي عليه فيكون في نفسه شيءٌ فيما بعد عليكِ))
تاهت الكلمات على لسان تمارا وهي ترى زوجها وابنتها يهاجمانها فقالت ذاهلة لزوجها
((فايد خطيب ابنتك يرأس الشركة التي تمتلكها عائلته خارج البلاد.. لقد عينت بنفسك مخبر يتفقد حاله.. إنه ثري ولا مشكلة معه في طلباتي المالية، والدليل هي تلك الهدايا التي يغدقها علينا باستمرار والتي تساوي ثروة صغيرة!))
تكدّرت ملامح والد سهر ولم يعرف كيف يرد أو يفسر أمورا لا تعلمها زوجته أو ابنته..
أما سهر فصمتت تهز رأسها بيأس من أمها وقد فقدت الأمل منها فهي لن تغير فجأة أفكارها التي اعتنقتها منذ عقود.. ضغطت على جبهتها لدقائق ثم عادت تمضغ طعامها بدون شهية..
بينما لم تُرِد تمارا أن تعارض زوجها كثيرًا خاصة وهي تعرف بمرضه مؤخرًا الذي يخص كبده المنهك.. فأطلقت عدة أنفاس كانت تجيش صدرها..
هي لا أنها لن تتحمل فقدان صهر كقصي فهو شاب جذاب يحافظ على قواعد الإتيكيت والأخلاق.. لديه توازن مثالي بين كونه شخص يجيد الغزل وفي نفس الوقت محترم.. يعلم متى يعلق بطريقة مرحة ومتى يعبر عن حكمته.. ولطيف في كل الأحوال.. ولكن هناك أمور هي غير راضية عنها فيها.. فهو لم يحضر والديه أو جاهة في الخطبة وادّعى بأنهما لا يستطيعان العودة للبلاد.. وحتى الآن لم يستطع تحديد موعد الزفاف لأنه لم يوفر أي شيء من شروطها وطلباتها..
وهنا اجتذبت ذاكرة تمارا إلى أول يوم تعرفت فيه على قصي.. قبل سنتين..
كانت آنذاك قد انتهت هي وابنتها سهر من التسوق بينما يغمرها الندم لإنفاقها مبالغ مالية كبيرة على منتجات غير قيّمة.. فقد تجاوزت الخمسين من عمرها بسنوات وما تزال غارقة في حبها للتسوق وتشتري أي شيء بمجرد أن يقع بصرها عليه، ولكن ما حيلتها والتسوق إدمانها فلا تشعر إلا من خلاله بالمتعة والسعادة التي تشبه حالة النشوة التي يشعر بها مدمني المخدرات! ولم تجد أفضل طريقة للانتقام من ذاتها ووخز ضميرها للندم على إنفاقها هذه المبالغ إلا أن تذهب لمعرض المجوهرات.. فأمرت السائق هادرة
((أوقف السيارة أمام متجر المجوهرات الفخم مقابل النادي الذي اذهب له أنا وسهر بشكل منتظم لملاقاة صديقاتنا من الطبقة الراقية))
ناظرت سهر والدتها بإحباط
((أوه لا أمي..))
ردت تمارا بإصرار
((أوه نعم هيا اتبعيني))
تمتمت سهر بحنق وأمها تترجل من السيارة
((ستنزلين لذلك المتجر لمعاقبة نفسك على هوسك الأنثوي في التسوق، ولكن ما ذنبي أنا!))
تطلعت لها هامسة بامتعاض
((أنتِ ابنتي، وأنا بحاجة لمؤازرتك بينما أرى ساعة الألماس تلك التي أحلم منذ سنة بامتلاكها دون أن أستطيع ادِّخار المبلغ المطلوب لها! أكاد أقسم بأني لم أرَ ساعة مرصعة بكمية ألماس أكثر منها في حياتي قط))
أطلقت سهر تنهيدة قبل أن تقول لأمها
((أقسم يا أمي لو توقفتِ لسنة.. فقط لسنة عن التسوق تمامًا لكنتِ استطعتِ شراء هذه الساعة))
ثم بترت سهر كلامها عند باب متجر محل المجوهرات وهي تخبرها
((سأذهب لشراء بعض المرطبات حتى تنتهي من تحديقك الروتيني بها))
وضعت سهر يديها في جيبي سترتها وتركت أمها تدلف المتجر وحيدة.. وهناك وبمجرد أن رأى الموظف الذي يحفظ شكل تمارا حتى اقترب منها ليلقي التحية عليها بتهذيب ثم اعتذر فعقدت تمارا حاجبيها تسأله
((لماذا تتأسف؟))
قال الموظف بابتسامة عملية مهذبة
((أنتِ زبونة وعميلة مهمة وقديمة لمتجرنا بالتأكيد، وتم وضع هذه الساعة في هذه الزاوية حتى تستطيعين التحديق بها براحتك في كل مرة تأتين إلى متجرنا، لكن وللأسف فلم يعد متاحًا لكِ فعل هذا بعد اليوم، لقد بيعت))
ظهرت الصدمة على ملامح تمارا وهي تقول
((ماذا؟ تم بيعها! ولكن من اشتراها!))
وفي خضم ذهول تمارا حانت نظرة منها لشاب يرتدي حِلة بيضاء ويقف أمام موظف آخر للمتجر من خلف الرخام بينما يخبره
((مبارك يا سيد قصي الساعة الألماسية))
وبالفعل فتح الموظف الزجاج ليلتقط بحذر الساعة المرصعة بالألماس ثم وضعها داخل العلبة المخملية وسلمها لذاك المدعو قصي الذي استدار لتتبين تقاسيم وجهه لتمارا.. وبدا لها شابًا وسيمًا في آخر العشرين من عمره أو في بداية الثلاثين على أكبر تقدير.. فجاءتها الجرأة لتقترب منه تسأله بعفوية وغرابة أطوار لا تتناسب مع وقار امرأة في سنها
((إذن أنتَ من اشتريت هذه الساعة الفاخرة يا سيد قصي! ولكنها ساعة نسائية! هل أنتَ من هؤلاء الذي يشترون الألماس بهدف الاستثمار وتحقيق أرباح عالية، أم اشتريتها لتستحوذ عليها بهدف الاقتناء وحسب! فكما تعلم الساعة التي ابتعتها فيها كمية كبيرة حقًا من الماس))
بدت الصدمة المصطنعة ظاهرة على قصي من رؤيتها أمامه وكأنه لم يتوقع وجودها فتخشب مكانه للحظات قبل أن يرسم ابتسامة قائلًا بنبرة مرحة
((المبلغ الذي دفعته لا شيء، فهذا هو أسلوبي في الحياة، أما عن هذه الساعة الفاخرة فقد اشتريتها كهدية من أجل سيدة مميزة وذات ذوق رفيع))
رفعت تمارا حاجبيها تقول بهدوء وتعجب
((هدية! وضعت مبلغ باهظ من أجل هدية! لا بد أنها سيدة مميزة جدًّا بحياتك لتستثمر فيها مبلغًا كهذا))
قاطع حديثهما أحد الموظفين الذي اقترب منهما عارضًا خدمة متاحة للعملاء المهمين للغاية
((هل نرسل حرسًا أمنيًّا من متجرنا مع حضرتك يا سيد قصي لإيصالك للمكان الذي تبغيه برفقة الساعة درءً لعدم تعرضك لأي حالة سرقة لا سمح الله؟))
رد قصي عليه بلطف
((لا.. لا داعي.. حارسي الشخصي يقود سيارتي))
ثم ناظرها قصي يلقي عليها الوداع قبل أن يغادر المحل، فما إن تخطى عتبته حتى صدح هتاف سهر شاهقة
((أوه.. انتبه يا هذا))
سارعت تمارا خطواتها للخارج بلهفة وقلق لترى سهر تغمغم بعصبية وهي تمسك قميصها الملطخ بالعصير في حين قصي يقف أمامها يعتذر بقلق وأسف شديد
((أنا آسف يا أنسة.. آسف جدًّا.. لم أقصد الاصطدام بكِ وسكب كأس العصير الذي تمسكينه عليكِ))
قالت سهر متذمرة بحنق شديد وهي تشير لقميصها الملطخ
((يا إلهي! كيف سأذهب الآن إلى النادي بهذا المنظر!))
هتف قصي كمن كان ينتهز فرصة كان بانتظارها
((هناك محال تجاري مخصص للملابس، أرجوكِ رافقيني وانتقي ملابس أخرى تناسبك عوضًا عن هذه التي أفسدتها يا أنسة))
رفعت سهر وجهها له بحيرة ثم قالت بابتسامة مرتبكة وهي تتطلع للمتاجر العديدة في هذا الشارع
((أوه نعم هناك العديد منها، سأذهب إلى إحداها الآن مع أمي، لا داعي لمرافقتي))
أرخي قصي ربطة عنقه بتوتر وقال مُلِحًا
((أرجوكِ يا أنسة أنا مُصِر أن أرافقك لأدفع ثمن الملابس التي ستشترينها))
قالت سهر بإحراج واستحياء وهي تسترق النظر لوالدتها التي كانت تتابع الموقف باهتمام
((لا أظن بأنه من اللائق أن ترافقني))
رفع قصي يديه يفرك رقبته كأنه متردد في الشيء الذي يريد قوله لكن قاطعته سهر بشيء من الحزم
((صدقني لا بأس، لم يكن اصطدامك متعمدًا بي، يمكنك الذهاب بدون أن تشعر بأي ذنب تجاهي))
وقبل أن تستدير سهر متوجهة نحو أمها سألها بصوتٍ خافت
((يا أنسة.. يا أنسة هل يمكن أن تعطيني رقم هاتفك؟))
تخضب وجه قصي بحمرة الخجل ونكّس وجهه أرضًا عندما نظرت له من فوق كتفها بعدوانية تسأله
((ماذا تريد من رقم هاتفي؟))
ازدرد قصي ريقه ثم تلعثم
((أنا.. أقصد.. أريد أن.. اقصد أني مُصِر على دفع ثمن الملابس التي ستشترينها لذا أنا بحاجة أن..))
فجأة ومن حيث لم تشعر وجدت سهر أمها تشبك يدها بيدها وتقول لها بابتسامة مدروسة ونظرها مصوب تجاه قصي
((إنه يبدو شابًا مهذبًا ومُصِر على إصلاح خطئه فلماذا لا تسمحين له بتعويضك يا سهر؟))
تطلعت سهر لأمها متسعة العينين إلا أنها لم تعرها انتباها بل مدت راحة يدها لقصي تقول
((هات هاتفك يا سيد قصي))
رفرفت سهر بعينيها وهي تشتت نظرها بين الرجل مقابلها وأمها لتغمغم بتعجب وهي تشير بسبابتها إليه
((هل تعرفينه يا أمي؟))
ابتسامة لطيفة حرجة ارتسمت على وجه قصي وهو يخرج هاتفه على الفور ويفتحه ثم يعطيه لوالدة سهر بلباقة.. فتناولته تمارا وضغطت على أرقامه لتعيده له قائلة
((لقد دونت رقم هاتفي هنا، يمكنك التواصل متى ما شئت للتحدث عن خطئك الغير مقصود بحق ابنتي الجميلة سهر))
شعر قصي بخيبة أمل من حصوله على رقمها هي بدلا من ابنتها سهر.. إلا أنه قال لها مجاملًا برقي وتهذيب
((أشكرك يا سيدة.. رافقتك السلامة))
تحرك قصي مبتعدًا ونظره لا زال مصوبًا بسحر نحو سهر التي كانت لا تكاد تستوعب شيء مِمَّا حدث..
بمجرد أن استقل قصي سيارته حتى سارعت سهر تحدث أمها ممتعضة
((هل يمكن أن تشرحي لي ما حدث قبل قليل؟))
هزّت والدتها كتفيها وأجابتها وهي تسير بخطوات متمهلة للأمام نحو النادي
((مظهره ينم عن شخص فاحش الثراء ومن عائلة ذات صيت فضلًا عن أنه شديد الوسامة، فما المانع من أخذ رقمه؟ ألم يعجبك؟))
رمقت سهر والدتها بازدراء وهي تغمغم من تحت أسنانها
((تتحدثين يا أمي وكأنكِ تنتقين نوعًا من الفاكهة من السوق))
وتكرر بعدها موقف آخر بأسبوع عندما خرجت تمارا من النادي وتفاجأت بسائقهم الذي وصل لهم بأن هناك عطل في السيارة سيمنعه من إكمال قيادتها.. حينها ومن حيث لا تدري ظهر قصي من العدم يتطلع لسائق سيارتهم ويسألهم وهو يقف أمامهم بطوله الفارع ووجهه الوسيم
((مرحبًا يا سيدة تمارا، هل تواجهون أي مشكلة بالسيارة؟))
لف الذهول ملامح تمارا وانفرجت أساريرها لتقول
((سيد قصي! كيف حالك ها قد التقينا مجددًا))
التفت قصي ينظر لسهر بطريقة أربكتها وجعلتها لا تعرف التصرف ولا الرد عليه عندما سألها عن حالها.. فتدخلت تمارا تقول مصطنعة الحزن
((سيارتنا لم تعد تعمل، يقول السائق بأن البطارية على الأغلب قد فرغت.. كيف سنعود للمنزل وقد قاربت الشمس على الغروب! هل نطلب سيارة أجرة يا سهر؟))
حينها تطوع قصي بشهامة رجل نبيل
((هل تسمحين لي يا سيدة تمارا بإلقاء نظرة عليها؟))
أومأت له تمارا بتقرير ففتح قصي باب السيارة ودلف للداخل وكانت أقل من دقيقة حتى بدأت السيارة تعمل فتعجب السائق قائلًا بدهشة بالغة
((ماذا فعلت بها يا سيد؟ كيف استطعت أن تجعلها تعمل؟))
التفت قصي بابتسامته الجذابة يقول بمزاح مشوب باللباقة
((إنه سر لن أفشيه))
اقتربت تمارا منه منبهرة لتقول
((لم تتح لي الفرصة حتى الآن أن أسألك يا سيد قصي عن مجال عملك؟))
فهم قصي بأن سؤالها هو الصيغة المؤدبة للسؤال الشهير الأخر "كم تجني من عملك؟".. فسعل يجلي صوته ثم أظهر واجهة اللامبالاة وهو يجيب ببطء وتروي يساعده على الاختلاق
((عملي ممل.. يتعلق بالإنترنت والإلكترونيات.. أدير شركة العائلة بنفسي.. وأيضًا..))
كان لا زال بريق الانبهار يشع من عيني تمارا وهي تسأله
((ما هو اسم هذه الشركة؟))
ازدرد ريقه الوهمي مرة أخرى ليقول مبتسمًا بشيء من الارتباك
((إنها في الخارج ولكن أديرها من هنا، ربما أحدثك عنها في وقتٍ لاحق))
رحبت تمارا بفكرة لقاء أخر بينهما للتعرف على قصي ثم شكرته وهي تستقل السيارة مع ابنتها..
بدأ السائق يقود ومرت دقائق على انطلاقه عندما علا رنين هاتف تمارا فأجابت فورا على المتصل
((مرحبًا قصي؟ هل هناك شيء؟))
((أردت فقط أن أتأكد من أن السائق لا يواجه أي مشكلة في القيادة))
تطلعت تمارا لسهر المتجهمة بنظرة مغترة لها معنى ثم أجابت على الهاتف
((لا نواجه أي مشاكل يا سيد قصي، وكل الشكر لكَ فما رأيك أن تأتي لمنزلنا في مساء اليوم لتقابل زوجي ويشكرك على صنيع معروفك؟))
بدا قصي وأنه كان بانتظار هذه الدعوة منها فلباها على الفور.. وفي نفس ليلة هذا اليوم كان في استقبال والد السهر الذي جلس معه مطولًا يتجاذب أطراف الحديث.. وقد حاول قصي حينها أن يثير إعجابه بكل إنجازاته ونجاحاته.. فبدأ بذكر أسماء معارفه، وأخبره كم يعرف الكثير من المشاهير ورجال الأعمال في البلاد.. وعن سياراته وولعه فيهم..
ولم تنكر سهر أنها في هذه الجلسة بالذات شعرت بشيء تجاه قصي بل كانت مشدوهة له وهي تراه يسترق النظر لها بين الفنية والأخرى بنظرات تخترقها وتأسرها تمامًا..
عادت تمارا للواقع وبريق ساعتها المرصعة بالألماس لا زال يخطف أنفاسها وكأنها تراها لأول مرة.. لا يمكن أن تشرح كيف كان شعورها عندما اكتشفت في ذاك اليوم أن قصي جلب هذه لها لتكون هدية مميزة لها في نفس يوم عقد قرانه على ابنتها سهر!
=============================
عند شروق الشمس.. خرجت الحاجة زاهية في حديقة منزلهم تسرح فيها وتذكر اسم الله لا يرافقها شيء سوى صوت الطبيعة بينما تتأمل يقظتها ومجيء الصبح..
لطالما كان للصباح جمال جذاب بالنسبة لها ففيه تتجانس أنغام الطيور مع رائحة القطرات الندية فيجدد ما في نفسها من أمل وتفاؤل..
تناهى إلى سمعها فتح بوابة منزلهم الحديدية لتعرف أنه مُصعب.. فهو الوحيد من يدلف للمنزل في هكذا وقت تبعًا لطبيعة عمله في المشفى..
على مهل طالعته وهو يتقدم منها ويلقي السلام عليها لترده عليه قبل أن تسأله
((أين كنتَ يا مُصعب؟))
صوّب مُصعب عينيه في عيني والدته ليرى قلقًا عظيمًا رغم ملامحها الصارمة وتعابيرها الحازمة.. فاقترب منها يخبرها بابتسامة مطمئنة رغم انطفاء عينيه
((لا تقلقي أنا بخير))
أشفق قلبها على حاله رغم ابتسامته ليتلاشى حنقها الأمومي من غيابه ثم أخبرته بحب متفشي في صوتها
((والدك مستيقظ يقرأ وِرده اليومي وأخبرني إذا ما جئت الآن أن تأتي إليه))
مال مصعب لأمه أكثر يلثم جبينها قبل أن يغادر منصرفا فتمتمت له داعية بهدوء البال..
.
.
طرق مُصعب الباب وأذن له والده في الدخول.. ألقى السلام وتقدم ليجلس بجانبه مباشرة.. عم صمت ثقيل بينهما لدقائق قبل أن يبتسم الحاج يعقوب بشجون وهو يناظره هادرًا
((كيف حالك يا بني؟))
أجابه مصعب بصوتٍ خافت وبهدوء مألوف فيه
((الحمد لله بألف خير))
تمتم يعقوب بكلمات الحمد هو الآخر.. ثم عاد يسأله بصوتِ الرخيم
((هل شعرت بالظلم عندما طلبنا منك أن تتزوج قريبة من قتل ابن عمك يحيى؟))
لف الذهول وجه مُصعب كردة فعل على كلام والده الذي سري في مسامعه وتطلع له بانشداه لدقيقة.. إلا أنه أجابه بعد ذلك بصدق وعيناه تنطقان كلماته معه
((لا يا أبي.. لو كان يحيى رحمه الله على قيد الحياة لكان هو الآخر طلب أن يتم هذا الزواج حتى لا تراق الدماء ويقع بريء آخر لا ذنب له ضحية الثأر))
أخذ يعقوب يحدِّق في ملامح ابنه بنظرة عميقة غريبة بعض الشيء.. وكأنه يستكشف شيئًا ما.. ثم هزّ رأسه برضا.. مدمدمًا له
((وهذه كانت فكرتنا أنا ومعاذ وكل من وافقنا من الوجهاء، رغم رفضي في البداية اختيارك أنتَ لتتزوجها، إلا أني لاحقًا اقتنعت بكَ أنتَ دونًا عن الباقي لعلمي بأنكَ خير من سترعى تلك الفتاة التي لا ذنب لها بما فعله أحد أبناء أقارب والدها.. أنتَ لن تظلمها حتى لو لم تحبها))
كان في مضمون كلام يعقوب رجاء من ابنه أن يؤكد كلامه.. فجاءه الرد منه بصدق يلفه الحزن
((لا تقلق يا أبتي))
أمسكت يد يعقوب كف ابنه ليقول دون أن تحيد عينيه عنه
((أنا أثق بكَ يا مُصعب.. عندما اقترحنا أن يتم الصلح عن طريق الفصيلة، كنا نريده زواج فصيلة بالاسم فقط، فلا إنسان في هذا العالم يستحق أن تُهان كرامته))
تطلع مُصعب طويلا في أبيه.. صوته الوقور.. هيبة نظراته التي تضاعفت مع السنوات.. ثم شدّ على يده في إشارة ألا يقلق أبدًا.. فرقّت ملامح والده باطمئنان.. ثم عاد يسأله باهتمام وقد تجلّت على ملامحه تلك الابتسامة الخاصة بمشاعره الأبوية وهو يمسك دلّة القهوة ويسكب منها في فنجان فارغ
((أين كنتَ في الأيام السابقة يا مُصعب؟))
أجابه وهو يلتقط منه فنجان القهوة
((كنت أنام في المشفى! أما في الأمس نمت في أرضنا البعيدة كما كنت معتاد أن أفعل مع يحيى رحمه الله وبعض الأصدقاء))
قال أبيه بصوتٍ شجي مثقل بالشوق
((رحمه الله.. بعد أن أسعد الناس بروحه المرحة وشخصيته المحبوبة وقلبه الطيب رحل عن هذه الدنيا في عز شبابه غدرًا تاركًا أثره الطيب فينا جميعًا.. ادعُ له يا مُصعب دائمًا فقريبًا يأتي دور كل واحد فينا))
تمتم مُصعب داعيًا وصوته يحمل بين أوتاره الرقيقة بعض الشجن
((لقد ترك مكانًا لن يملئه أحد فاغفر له يا ï·² واجزِه عن الإحسان إحسانًا واملأ قبره بالرضا والنور والسرور))
ارتشف مُصعب قليلًا من فنجان القهوة واستمر الحوار الدافئ بينهما لدقائق بأريحية.. قبل أن يخبره والده برقة
((اصعد لجناحك ونل قسطًا من الراحة، تبدو متعبًا يا بني))
.
.
في جناحه..
غيّر ملابسه ثم تمدد على السرير بجانب نورين التي كانت مستغرقة في نومها.. لم يمضِ الكثير من الوقت قبل أن يشعر بها تقترب منه وتلفه بيديها..
دفت وجهها في عنقه فجفل لوهلة والتفت لها متجهمًا ظنًّا منه أنها تزيف نومها!
تنفست عطره الرجولي المألوف لها متلذذة به بتأوه مهلك لرجولته رغم نفوره منها الذي لم يفارقه حتى الآن.. بالكاد تماسك وهو يهزها ويبعدها قائلًا بحزم
((نورين لا تدّعي النوم وابتعدي عني.. نورين.. نورين))
تراخت ذراعيها الملفوفتين حوله وفتحت عينيها المغمضتين تدريجيًا وهي تتمتم بصوتٍ ناعس أجش
((ما.. ماذا يحدث؟ ما بكَ؟))
ثم سرعان ما جحظت عينيها على اتساعها شاهقة وهي تحرره وتبتعد للخلف.. لتسأله بصوتها الناعس المشوب بالدهشة
((متى جئت يا مُصعب؟))
أجابها بنبرة اعتيادية
((قبل دقائق))
وبدون أن يعي ابتسمت شفتاه لعينيها قائلًا
((لقد ارتحت منكِ في الأيام السابقة.. حقًا))
لم ترد على مزاحه الثقيل.. ولم يرَ ابتسامتها في عينيها بل كان هناك تعبير دفين فيهما.. أقرب للحزن.. مما جعله يهمس سائلًا بقلق
((هل حدث شيء أثناء غيابي يا نورين؟))
أومأت برأسها نافية.. ثم نكّست رأسها.. فمد يده يمسك بذقنها ليرفعه وهو ينظر لعينيها سائلًا بصوتٍ خفيض خشن
((هل أزعجتك زوجة أخي؟ أو ربما إحدى العاملين هنا؟))
لم ترد عليه بل سرحت تحدق به بدهشة غريبة في عينيه المتجهمتين.. قبل أن ترسم أخيرًا ابتسامة باهتة دون أن ينحسر تعبير الحزن عن عينيها
((هذه أول مرة تسألني عن حالي أو شيء يتعلق))
ضاقت عيناه وهو يرمقها بنظرة تهديد لتضحك بخفوت قبل أن تسعل قليلًا.. فازداد انعقاد حاجبيه قلقًا لإرهاقها الواضح وسألها بنبرة جدية
((أخبريني الحقيقة.. ماذا حدث لكِ؟ هل أنتِ مريضة؟ وجهك شاحب يا نورين))
حافظت على ابتسامتها لكن لف نبراتها نفس الحزن الموجود في عينيها بينما تجيبه بصراحة
((لست مريضة، لكن مررت بوقت عصيب أثناء غيابك الأيام الماضية، شعرت باتهامات غير منطوقة من قِبَل الجميع بأني سبب تركك البيت لأيام.. حتى وزنك علَّقوا عليه وقالوا بأنكَ فقدت الكثير من الكيلوغرامات منذ زواجك بي))
زفر بضيق ثم أسند جسده لظهر السرير وهو يقول
((أنا بطبيعتي لا أحب الأكل كثيرًا وشهيتي دائمًا ضعيفة.. وزاد الأمر منذ وفاة ابن عمي تزامنًا مع زواجي منكِ))
راحة عجيبة تسللت إلى قلبها وروحها لسماعها إجابته التي بدت منطقية دون مجاملة كما توقعت هي تماما..
ترددت إلا أنها مدت يدها تمسك كتفه وهي تسأله بحماس
((إذن دعني أحضر لكَ الطعام الآن.. سأجلب لكَ فطورًا خفيفًا ولذيذًا ومن الأطباق التي تحبها))
اتسعت عيناه صدمة منها وهو يقول متعجبًا
((هل أنتِ مجنونة؟ بالكاد طلعت الشمس))
ثم تغضن جبينه وهو يسترسل بنزق
((أنا أشعر بالنعاس وأريد النوم))
عبست وقربت وجهها منه ترجوه بصوتٍ متوسل
((أرجوك دعني أحضر لكَ شيئًا سريعًا.. صدقني أنا صرت أحفظ ما تحب وما تكره من مراقبتي لكَ في المرات القليلة التي كنت تأكل فيها في البيت))
قلّب مُصعب عينيه للأعلى ثم زفر بسأم وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة كمن يعيش وقتًا عصيبًا بسببها..
إلا أنها عقدت حاجبيها عابسة ثم ألحت في رجائها هادرة
((أرجوك يا مُصعب.. فقط شيء خفيف.. أريد أن أغديك جيدًا حتى يتوقفوا عن سوء ظنونهم بي))
ضيّق عينيه يقول متهكمًا
((تتحدثين وكأنني فرخة تريدين حشوها قبل وضعها بالفرن))
اتسعتا عيناها ورفعت يديها تلوح أمامه نافية
((ماذا! لا أبدًا لم أقصد.. أنا فقط..))
رفع مُصعب يديه يمسح وجهه المنهك ثم قال مستسلمًا على مضض
((فقط اذهبي واحضري أي شيء لأكله))
انفرجت أساريرها وهي تقول وعيناها تشعان بوميض المنتصرين
((حقًا؟ هل أذهب لصنع الطعام لك؟))
تمتم من بين أسنانه بغيظ مصبوغ بالحنان
((لا تتأخري حتى لا أغير رأيي فأنا أكاد أموت تعبًا وأريد النوم حالًا))
انتفضت واقفة على الفور وتوجهت للمطبخ تصنع الفطور ثم وضعته أمامه ليتناول منه بقدر ما يستطاع تحت أنظارها المراقبة له حتى لا تحتج.. أخيرا أمسك المنديل يمسح يديه مغمغمًا
((الحمدالله، لقد شبعت.. هل أنتِ راضية؟))
هزت رأسها تقول بسعادة
((نعم.. راضية جدًّا حتى نسيت كل ما مررت به الآن))
غمغم مستنتجًا
((هذا جيد.. أنتِ سهلة المنال والإرضاء حقًا يا نور، لا أسهل من مصالحتك))
بدأت توظب الأطباق فوق المنضدة الصغيرة وتضعها فوق الصينية وهي تقول بشرود جميل
((معكَ حق.. أنا أبالغ في فرحي حتى في أبسط الأشياء في الحياة.. ربما لأني أريد أن أثأر من الأيام التي خذلتني ومن المرار الذي عشته))
حملت الصينية واعتدلت واقفة لتزمّ شفتيها فجأة بعبوس كمن تنبهت الآن لما قاله، فالتفتت تنظر له من فوق كتفها قائلة
((بالمناسبة لا تختصر اسمي.. أنا نورين لا نور.. إذا كان لا بد من الاختصار فناديني "ين" ولا تقل "نور"))
ثم غادرت الجناح متجهة نحو المطبخ في حين هو عاد يتمدد فوق سريره وثغره يرسم شبح ابتسامة متهكمة على طفولية حديثها.. إلا أنه كان من الجيد تحولها خلال دقائق إلى تلك العفريتة ذات النشاط والعافية والممتلئة بطاقة لا تنضب بعيدًا عن الضعف والبؤس الذي كان يلفها قبل قليل..
شعر بعودتها ثم بقيامها بإغلاق الستائر حتى لا تدخل أشعة الشمس وتؤرق عليه مضجعه..
وما إن تمددت تحت الغطاء حتى أمرها محذرًا قبل حتى أن تفكر بالاقتراب منه
((أريد أن آخذ راحتي في النوم يا نورين))
تنهدت في إشارة منها لتلبية رغبته.. ثم خرجت ضحكة خافتة منها وهي تطالع ظهره الذي يعطيه لها أثناء تمدده..
وعندما لم يستدير لها ولم يسألها عن سبب ضحكتها صاعدت من ضحكتها الشقية تستفزه فأغمض عنينيه يكظم غيظه قبل أن يريحها ويسألها أخيرا
((لماذا تضحكين؟))
قالت بصوتٍ منتشي من السعادة
((حرصك على رضاي وراحتي رغم أنكَ لم تخطئ من الأساس بحقي ولطفك معي يجعلني أظن بل أتأكد بأنكَ تحمل مشاعر لي مثلما أفعل أنا تمامًا))
هنا فقط التفت برأسه لها يحدجها بنظرات متجهمة وهو يرد عليها باختصار بنبرته الخشنة ألمألوفة
((هذه طبيعتي مع الجميع.. فلا تستفزيني ببلاهة تفكيرك على التعامل معكِ بعكسها))
رفعت يديها باستسلام قم قالت وهي تزم شفتيها ((حسنًا))
وبابتسامة راضية تابعت
((طابت ليلتك.. أقصد صباحك.... إنسَ.. فقط احظَ بنوم هانئ))
تمتم لها بهدوء وهو يغمض عينيه
((متى ما تسكتين سأفعل))
أغمضت عينيها ودثرت نفسها شاعرة بالحسرة لارتدائها ثيابًا صيفية رقيقة وقد كانت تمني نفسها بأنه لو عاد ستنام بين ذراعيه بعد هذا الغياب تحظى بدفئه وحنانه!
لو يعلم كم تحتاج لقربه حتى لو فقط لبضعة دقائق إضافية..
لكن لا بد أنه مجهد جدًّا.. فما إن وضع رأسه على الوسادة حتى غطّ في نوم عميق وانتظمت أنفاسه..
ارتسمت بسمة مريرة على وجهها.. قبل أن تتسع تلك الابتسامة وتزول منها غمامة المرارة.. وبدا أنها تذكرت أمرًا ما.. ذكرى مؤلمة.. وفي نفس الوقت جميلة.. للتقارب الذي حصل بينهما بأول مرة..
بدأت نورين تستعيد تلك الذكريات الخاصة بأول يوم زواج لهما.. قبل أشهر..
عندما كانت جالسة على السرير تدفن وجهها بين كلتا يديها.. وإذا بها فجأة تشعر بدلوف أحدهم لجناحها الزوجي بخطوات هادئة.. فرفعت رأسها الملطخ بالدموع تدريجيًا لتتلاقى عينيها بعيني مُصعب..
تحفزت هامسة بخوف وتلعثم وهي تراه يحدجها بجمود مريب بينما يغلق الباب خلفه
((أين.. عمـــ.. عمتي؟))
=============================
انتهى الفصل.

 
 

 

عرض البوم صور Hya ssin   رد مع اقتباس
قديم 22-05-22, 04:14 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2022
العضوية: 338274
المشاركات: 10
الجنس ذكر
معدل التقييم: Hya ssin عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Hya ssin غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : Hya ssin المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: قلبك منفاي

 

الفصل السادس

وصل مُصعب بسيارته عند مزرعتهم البعيدة ليركن السيارة جانب الطريق المُعَبَّد ثم يرتجل هو ونورين منها..
مضى يسير الطريق ونورين خلفه فوق بساط مزرعتهم الأخضر الممتد على مساحة شاسعة بينما الأشجار الخضراء متباينة الأطوال موزعة في كل مكان..
لامست نسمات الهواء النقية المنعشة بشرة نورين التي كانت توزع نظرها في الأرجاء وعينيها لا تتعبان من التحديق والتمتع بسحر هذه المزرعة..
توقف مُصعب عند مسافة بعيدة نسبيًا عند خلية نحل كبيرة مثبتة على شجرة بارتفاع ما يقارب خمسة أمتار عن الأرض.. فتساءلت نورين ونظرها مأخوذ للنحل
((هل خليات النحل هناك هي لكَ؟))
((نعم.. إنهم لي))
ثم أشار إلى صندوق من الخشب الرقائقي حوله شبكة وقال
((تلك هي المصيدة التي صنعتها لجذب سرب النحل))
تساءلت وهي تراه يحدق في خلية النحل
((العسل الشهي الذي نتناوله عادة مع خبز الفطور يأتي من هنا إذن، لكن متى سيحين موعد عملية جني العسل مرة أخرى؟))
((بعد أشهر.. سيكون العسل المخزن في الأقراص العسلية ناضج))
((هل ستبيع لاحقًا هذا العسل؟))
((اهتم بهذه الخلية هنا كشيء يصب في مصلحة الطبيعة والزراعة لا كهواية أو من أجل بيعهم، تربية النحل من الأساس لا تجلب الكثير من المال لما تحتاجه من الكثير من الوقت والجهد والمساحة))
همهمت له ثم أسرعت نورين خلفه عندما بدأ يسير للأمام.. وكلما سارا أكثر تبين لها في نهاية الطريق مَعلَم عبارة عن بركة ماء.. بركة ماء المزرعة.. فاقتربت أكثر من البركة بذهول يجتاحها ثم أخفضت نفسها لتغمر يدها في الماء المنعش.. قائلة وفي عينيها بريق خاص
((كان هناك بركة مشابهة لها في مزرعة جيراننا..))
ثم أكملت ساخرة بشيء من المرح
((لكن مساحة تلك البركة لم تكن تتجاوز أربعة متر مربع وكانت مبنية من الإسمنت وتصب فيها ماسورة ممتدة من أسفل الأرض تلتصق بجدرانها الطحالب الخضراء العالقة في القاع أيضًا))
ابتسم مُصعب الواقف خلفها ابتسامة جانبيه لما قالته لكنه لم يعقب.. بل سألها بعد دقيقة وهو يضع يديه بجيبي بنطاله بينما يقترب منها
((هل كنتِ تنزلين فيها؟))
حدَّقت نورين ببهجة في بريق الشمس المنعكس على سطح الماء كحبات اللؤلؤ من شدة صفاء الماء بمشهد يذهل العقول.. ثم انتبهت لسؤاله لتناظره وتخبره مبتسمة بشجن الماضي
((نعم كنت أنزل أنا وإخوتي، ولا حاجة لأخبرك أن صوت الآلة التي ترفع الماء فيها كان يصل إلى القرى الأخرى من شدة إزعاجه، لكن لم نكن ننزعج منه بل كنّا نستمتع به كأنّه لحن لموسيقى السعادة))
شيء ما فيما يتجلى على ملامحها جعله يطالعها باهتمام وتركيز أثناء حديثها.. يمعن النظر بعينيها البنيتين ذات البريق الخاص كيف تعود لتحدق بالماء وهي مستمرة بتمرير أناملها المغمورة في الماء.. فأنخفض جالسًا القرفصاء بجانبها ثم سألها
((هل ترتدين ملابس ساترة تحت عباءتك؟))
تطلعت له عاقدة الحاجبين تجيبه بصوتٍ مستغرب
((نعم ارتدي بنطالًا قطنيًا وقميصًا طويلًا))
أنزل سَحّاب قميصه مرددا
((يمكنك إذن خلع العباءة، لن يمر أي أحد هنا، لا تقلقي))
اتسعت عينيها بحيرة تسأله دون كلام فاسترسل بهدوء وهو يخلع حذاءه الذي ينتعله
((ألا تريدين النزول للماء؟ أرى الرغبة واضحة في عينيكِ))
مالت شفتاها في ابتسامة غير مصدقة تلقائيًا لتقول ببهجة عذبة
((نعم أرغب حقًا في السباحة رغم أني لا أجيدها))
وبمجرد أن رأته ينزل للبركة حتى تحررت من عباءتها دون حجابها.. ثم سارعت تغمر ساقيها داخل البركة.. وما إن رست بتوازن مختل على أرضها حتى قالت بسعادة تجتاحها
((كم تمنيت أن أخذ دورة سباحة..))
دمدم مُصعب وهو يغمر نفسه أكثر داخل البركة
((لديكِ أمنيات كثيرة..))
همهمت وهدرت له
((السباحة بالذات حاول أبي بصغري تعليمي إياها عندما كنا نزور البحر، أعطاني عدد وافر من الدروس بلا فائدة حتى يأس))
قال لها بتلقائية
((إذا كتب الله لي في الوقت القريب أن اذهب للبحر.. سأصحبك معي هناك وربما أنجح فيما فشل والدك به))
نظرت له فجأة بتعابير مندهشة غفل عنها لأنه لم يكن ينظر لها.. غير مصدقة أنه يعرض ذلك من تلقاء نفسه! وعند هذه النقطة بدأت تتقافز دقات قلبها بهياجٍ صاخب.. وبالكاد تماسكت وازدردت ريقها في محاولة منها لتتماسك وألا تعلق على جملته فتستفزه وتجعله يركز فيما يعرضه عليها ويتراجع..
تنهدت براحة وسعادة ثم رفعت وجهها للأعلى لتشعر بالسماء سقفا للبركة مرتكزة على أشجار النخيل المحيطة بها.. حتى تغريد الطيور يرافقهم وكأنهم مصريين على مشاركتهم المتعة والانسجام.. فقالت بمرح
((كان علينا جلب بعض الوجبات الخفيفة، بسكويت أو عصائر منعشة))
رفع مُصعب رفع ذقنه يطالع الأشجار قائلًا
((لم الوجبات الخفيفة؟ انظري لأشجار النخيل من حولك، سأجلب لكِ منها تمرًا لذيذًا))
زمّت شفتيها بعبوس ثم قالت له محتجة
((تقصد تمرًا غير مغسول يحوي آثار مناقير الطيور التي ذاقته قبلنا؟ لا شكرًا لستُ جائعة))
هز كتفيه بهدوء لها ثم جلس على بلاط البركة واتكأ بظهره لجدارها.. فقالت نورين محاولةً ألا تسمح للصمت أن يكون ثالثهما
((لو كنت لا زلت أعيش عند والدي في قريتنا لكان الآن قد حان موسم قطف اللوز الأخضر أو الكرز))
((هل تحبين موسم القطف؟))
((نعم استمتع به وكأنه نزهة، وعلى سيرة النزهة فلماذا لا نذهب بين الحين والآخر إلى هنا كرحلة؟ يتخللها حفلة شواء أو جلسات قراءة؟))
عقد حاجبيه ينظر لها مدمدمًا
((قراءة؟))
هزت رأسها بعفوية تقول وهي تسرح بشرود جميل
((نعم فما أمتع القراءة وأنتَ في أحضان الطبيعة، ليتني جلبت من بيت عائلتي كتاب تاريخ الأندلس لأكمله في وقت فراغي، الحقيقة معظم وقتي هنا هو وقت فراغ))
كان مُصعب يغمر نفسه بالماء أكثر فلا يظهر إلا رأسه وهو يخبرها بفتور
((استغلي أوقات فراغك في النوم، النوم أفضل شيء لتقضي على الملل والفراغ وتتعافي من المتاعب))
رفعت ذقنها له تخبره بشفة مزمومه
((شكرًا لاقتراحاتك الثرية، ولكن أنا أُفضِّل أن امضي وقتي في أمور أفضل من النوم كالحضور هنا، لكن لن أقدر المجيء هنا وحيدة))
نظر لها يسألها بوجوم
((ماذا كنتِ ستفعلين لو كنتِ تستطيعين الحضور؟))
تنهدت نورين وعيناها تجولان في المكان من حولها ثم تجيبه
((سأقرأ الكتب.. وأيضا سألتقط صورًا للطبيعة، وأتمشى بين أشجار النخيل))
قال لها بنفس ملامحه السابقة
((يمكنك فعل هذه الأمور في حديقة منزلنا..))
نظرت له عاقدة الحاجبين
((أحيانًا اشعر بأن والدتك لا تحب أن اخرج إلى بيت سمية فما بالك الجلوس في الحديقة لوحدي!))
اختلج شيء فيه بعدم رضا إلا أنه قال
((لربما تخشى من مرور أحد المزارعين أو العاملين في الحديقة عليكِ))
قالت نورين ببؤس
((معها حق في ذلك))
عاد الصمت ينتشر بينهما فقالت متسائلة بأي شيء على طرف لسانها لتقطعه
((هل تتذكر ما هي دراستي التي أخبرتك بها؟))
رفع مُصعب عينيه للأعلى في محاولة تذكر فشل بها قبل أن يعود لينظر لها متسائلًا
((ماذا سبق وأخبرتني بأنكِ درستِ؟))
لم تحزن لنسيانه الأمر كما ينسى معظم الأمور المتعلقة بها بل ابتسمت لقابليته للحوار معها الآن وعدم إظهاره أي صد..
فكم هي دافئة فكرة أن يكسر مُصعب إحدى قواعد الصمت لأجلها.. وكأنه يعتاد عليها أكثر مِمَّا سبق.. فتنهدت بشيء من السرور ثم أجابت
((أنهيت هندسة الجينات، وحصلت على درجة الماجستير فيها.. كان حلمي أن أترقى للدكتوراه، لكنها غير متاحة إلا في الخارج))
زمّت نورين شفتيها وهي تشرد بعينيها وتذكر بأنه سبق وتقدم ابن صديق والدها لها ووافقت عليه بلهفة بعدما أخبرها بنيته في السفر خارجًا لإكمال دراسته.. فكان هو فرصتها الذهبية لتكمل تعليمها غير المتاح هنا وقد نشأت في عائلة محافظة جدًّا لا تقبل سفرها وحيدة! حتى جاء ذاك المشهد المشؤوم الذي أخبرها والدها فيه بشكل صادم ومفاجئ بأنه قرر رفض طلب زواجه منها لأنه سأل عن الشاب واتضح بأنه غير مناسب لها.. فاستغربت من كلام والدها غير المنطقي وقد كان أكثر من شاد وأثنى على أخلاق ابن صديقه.. لكنها أدركت فورًا أن سبب رفضه له هو موافقته على جعلها عروسًا للثأر، عروسا لوقف النزاع بين عشيرتها وعشيرة الكانز..
رمشت بعينيها وهي تحاول التخلص من تلك الغصة المسننة التي اعترضت حلقها بينما سمعته يقول
((لقد أخطئتِ اختيار التخصص، فالرغبة وحدها ليست معيارا كافيا للدراسة، كان عليكِ أن تتحري سوق عمل التخصص أيضًا))
((لو أكملت الدكتوراه لكنت استطعت التدريس في الجامعة.. وأظنه عمل جيد للمرأة))
((صحيح))
أخفضت نورين جسدها المغمور تحت الماء أكثر مثل مُصعب شاعرة بالانتعاش والحيوية ووجدت نفسها تقول له بنظرات متلكئة
((كانت النساء عند أمك يتحدثن عن زوجتك السابقة، ابنة عمك، وبأنكما لم تنجبا خلال فترة زواجكما))
ضاقت عيني مُصعب قليلًا دون أن يفقد رباطة جأش
((صحيح.. فرشا لم تكن تريد الإنجاب في بداية زواجنا، وأنا احترمت رغبتها، ثم حصل الطلاق بيننا بعد سبعة أشهر..))
ظهر شيء من الذهول عليها وهي تتطلع عليه رغم أنه كان يتجنب تواصل النظر بينهما.. وبدا أمر تسامحه بشأن الإنجاب مع رشا مثيرًا للريبة.. خاصة وأن مسألة زواجه منها برمتها حدثت بعرف النهوة ورغمًا عنها!
تحرك حلقها عندما لاحت في عينيه الجميلتين آثار الغبن والقهر.. والغضب أيضًا.. وبصوت خافت لا يخلو من اهتمام وفضول شديد لم تنجح في لجمه
((لماذا تزوجت من ابنة عمك بعرف النهوة رغمًا عنها وعن الرجل الذي كانت مخطوبة له؟ هل كنت تهيم بها عشقًا وتخشى أن تذهب لغيرك؟ أم كانت غايتك الانتقام من والدها كما يروجون في الإشاعات عنكَ؟))
تصلَّب وجه مُصعب بغضب للموضوع الذي فتحته الآن ليقول صارمًا بلا تردد
((لا أحب الحديث عن موضوع ابنة عمي، لقد تطلقنا منذ زمن وهي تعيش بجانب والدتها في إحدى الدول الأوروبية.. وصدقي أو لا لكن لم أحبها يومًا.. لا قبل الزواج.. ولا أثناءه حتى.. بسببها مررت بالكثير من الأمور التي لا أحب تذكرها))
برقت عيناها باستنكار.. ثم قالت بحيادية تواجهه بشجاعة
((بسببها؟ ولكن أنتَ من حجرت عليها وجعلتها تفترق عن خطيبها الذي تحبه ويحبها، هربها منكَ لم يكن صحيح ولكنه ردة فعل متوقعة على زواجك منها رغمًا عنها))
ازدرد مُصعب ريقه ببطء.. وكان كلامها بمثابة طعنة طائشة فوق صدره.. طعنة غير عادلة.. وكأنها حرفيًّا شقّت صدره وأصابت موضع نزفه وأوغرت فيه.. قبل أن يسمعها تقول بخشية وشيء من التردد
((هل غضبت مني؟ أنا أسفه.. انسَ كل ما تحدثت به))
قال مُصعب بهدوء قاتم بوقع الألم به
((أنتِ محقة في كل ما قلتيه، لقد أخطأت في الزواج منها بهذا الشكل.. ولكن كانت لدي أسبابي، وإلا لم أكن لارتكب ذنب عظيم بتفريقها عن رجل مخطوب منها!))
لفها مزيد من الذهول! وعرفت رشا ليست امرأة عادية في حياته! لكنها غمغمت بنعومة وعاطفة صادقة وهي تمد أصابعها ببطء فوق كتفه
((أنا أصدقك..))
جفل عند لمستها وهو يبعد كتفه عنها لكنه التفت ينظر لها بهدوء يشوبه بعض العبوس.. ثم قال برباطة جأش
((حتى لو كنتِ لا تصدقيني/ فأنا بالفعل دفعتُ ثمن حجري عليها، يكفي نظرات احتقار كل من في القرية لي لأني تزوجتها بهذا الشكل.. يكفي شماتتهم بي عندما تسللت هاربة رغم أن الطلاق وقع بيننا قبل ذلك على عكس ما يشاع.. لقد قررت آنذاك ألا أتزوج بعدها ما حييت، لكن قبل الزواج منكِ بأشهر غيرت رأيي مع إلحاح والدتي التي كانت تخطط لتزويجي من نجلاء..))
تحرك حلقها وهي تحاول التغلب على الغصة المؤلمة التي سدته فجأة.. ثم سألته بصوتٍ مضطرب ومختنق
((ولماذا لم يُتَمم الزواج؟ بسببي أنا؟))
((لا ليس بسببك.. لم يكن ليحدث الزواج في أي حال من الأحوال))
هزت رأسها وكأنها تحلل ما سمعته منه ثم همست
((قالت رتيل بأن والدها لم يكن موافقًا على زواجك منها قبل أن تنهي جامعتها وتعليمها..))
شرد نظره أمامه وهو يرد
((يمكنك اعتبار هذا أحد الأسباب، المهم الآن نورين..))
بتر كلامه للحظات يحاول التحكم في غضبه الذي تأجج في داخله ثم طلب منها بلهجة آمرة ونبرة خافتة
((أحب أن أتجاهل الماضي بكل ما فيه من أمور حدثت لي، لننهي هذا الموضوع لأني لن أتحمل أن يلاحقني الماضي حتى الآن ويفرض نفسه بمنتهى التسلط عليّ))
قطبت حاجبيها تقول بصوتٍ واجم
((أي ماضي؟ من تقصد؟ ابنة عمك أم نجلاء؟))
قال بصوتٍ أجش غاضب رغم هدوءه
((نورين، لقد قلتُ لكِ بأني لا أحب الحديث بأي شيء متعلق بماضيَّ، لذا فلنتوقف إلى هنا))
شعرت بشيء من الضيق.. فهي تكره الغموض الذي يلف مُصعب.. لا والأنكى بأن هذا الغموض زاد أكثر بعد حديثهما هذا.. فتمتمت باقتضاب
((حسنًا سنتوقف))
لم تنل ملامحها راحة مُصعب فقال بحزم ولهجة شديدة
((أنا جاد.. لا أحب الحديث في أي شيء متعلق بالماضي.. خاصة زواجي السابق بابنة عمي.. لو سمحتي لا تفتحيه أبدًا.. أبدًا.. فكل شيء بيننا انتهى..))
تطلعت له حانقة وقالت له بنزق
((حسنًا لا داعي لتكرر، لقد فهمت..))
استنكر ما قالته فهتف عاليًا معترضًا
((لستُ غاضبًا))
بالكاد منعت دمعة حارة من الانزلاق على خدها وهي تقول بحاجبين معقودين
((بل أنتَ كذلك))
انفلتت أعصابه بشيء من الانفعال وهو يزجرها
((قلتُ لكِ بأني لستُ غاضبًا))
كانت صرخته عليها كفيلة أن تجعلها تزم شفتيها بقهر وتنكِّس نظرها..
اتسعت عيناه قليلًا وهو يدرك حاله، ليغمض عينيه ويزفر نفسًا ضائقًا.. أما هي فأحتلها صمت حزين واعتراها الشرود وهي تغمر جسدها أكثر تحت ماء البركة..
مرت دقائق عليها قبل أن تجفل على مُصعب يمسك يدها ويقول بهدوء واسترخاء نجح في استعادته
((أنا آسف، لم أقصد الصراخ عليكِ، لكن أي شيء يتعلق برشا يثير غضبي رغمًا عني، فلا تذكري سيرتها أبدًا أمامي..))
تطلعت بذهول ليده الممسكة بكفها تحت الماء وقالت بتسامح
((حسنًا لن أفكر بالأمر حتى، أساسًا لا يحق لي أبدًا التدخل في علاقتكما السابقة بما أنها انتهت..))
أفلت يدها قائلا بشيء من العرفان بينما يحرر كفها
((شكرًا لكِ..))
وسرعان ما تألق ثغرها ببسمة لطيفة.. إنه يهتم ألا يكون سبب حزنها..
ازدادت ابتسامتها وهي تمعن النظر بجانب وجهه.. مُصعب.. غامض.. غامض جدًّا.. لغز كبير.. محكم الإغلاق.. يلفه شيء من التناقض.. ورغمًا عنها يأكلها الفضول بشأن ماضي علاقته مع ابنة عمه..
لماذا تزوجها؟ ومن خلال النهوة؟ ولماذا هربت من البلاد إذا كان قد حررها منه بالفعل؟
لقد عاشرت مُصعب أشهر طويلة وهي لا تصدق بأن شخصًا يتمتع بدماثة خلقه مثله يمكن أن يقدم على شيء كهذا!
فماذا حدث في الماضي؟ وماذا كان في ابنة العم تلك لتجعله يقدم على ما فعله ويخرج عن رزانته المألوفة عنه!
هل فعل ما فعله لأنه كان يحبها ولا يتحمل أن يمتلكها غيرها؟ أم كان فقط يريد الانتقام من عمه فيها كما سبق وسمعت؟ هي لا تنكر أن ما فعله خطأ لا يمكن التسامح به.. إلا ولأنها لا تعرف دوافعه التي تحدت عنها بشيء من المقت قررت أن تعذره.. فعلى الأقل استردت ضحية ما فعله بعض من حقوقها في التحرر منه والسفر بعيدًا..
كان غروب الشمس قد بدأ بمشهد خلاب فوقف مُصعب من مكانه بحذر.. يخرج نفسه من البركة بثيابه المثقلة بالماء..
عرفت نورين بأنه اكتفى من البقاء ويريد العودة فخرجت منها هي الأخرى ثم وقفت فوق الأرض الصلبة تعصر طرف قميصها وبنطالها المبللين بالماء بقدر استطاعتها..
التفتت من حولها وسألت بشيء من التوجس
((مُصعب.. هل هناك حمامات قريبة؟))
رمقها مصعب بتسلية صامتة ثم قال
((الحقيقة هي مرات معدودة نزلت لهذه البركة في طفولتي وكنت أسير بثيابي المبللة طوال الطريق مشيًا إلى المنزل الذي نقطن به واترك مهمة تجفيفي إلى التيارات الهوائية الآتية من جميع الاتجاهات))
ارتفع حاجباها استخفافًا مع ابتسامتها الساخرة وهي تتجاوزه بينما تقول بما يشبه الدعابة
((تمر غير مغسول.. وتترك نفسك مبللًا لساعات؟ لهذا أنتَ معتل الصحة))
ثم التفتت له تكمل بحماس ورقة
((لكن فكرة السير للمنزل ستكون جميلة))
مرت عينا مُصعب على تفاصيل جسدها والملابس المبللة الملتصقة به أمامه لتنطبق شفتاه بقوة ثم قال بهدوء
((ليست فكرة جيدة، سنعود بالسيارة، لكن ضعي عباءتك فوق مقعدك ومقعدي في سيارتي الغالية حتى لا نفسدها كثيرا))
اعترى العبوس ملامحها فقالت
((إذن لنجلس هنا أكثر قبل أن نعود))
حدجها بنظرات متجهمة بمعنى الرفض لكنها لم تبالِ به بل استلقت فوق العشب تغمض عينيها وهي تمد ذراعيها في الهواء كما لو كانت تسبح وتضرب العشب الطويل بكلتا يديّها كالسابح في الماء..
أطلق زامور السيارة عدة مرات لها لتأتي ففتحت عينيها تتنهد باستسلام إذ أنها لا تريد مبارحة المكان وكأنها طفلة..
انتصبت واقفة من مكانها متجهة نحو سيارته حافية القدمين فوق العشب الغض.. ثم استقلت السيارة ورغم عدم رغبتها بالعودة لذاك القصر الكئيب إلا أنها كانت فرحة ومبتهجة للوقت الذي قضته هنا.. ومعه..
ركن مُصعب سيارة عند مصف عائلته وارتجلا من السيارة بخفوت متجهين نحو باب المطبخ.. الذي فتحه ودلف للداخل مطرق الرأس فتراخى فك منال التي كانت متواجدة في المطبخ للأسفل وهي ترى مُصعب ونورين يدلفان للداخل متسللين بمظهر أشعث رث..
تجاوزاها وبمجرد أن وصلا جناح مُصعب حتى أغلق الباب خلفهما لتنفجر ضحكات نورين المكتومة وهي تقول
((لا بد أنه مصدومة من أشكالنا للآن))
ردّ والغيظ يسكن صوته
((هل رأيتِ كيف تسببت لنا أفكارك المجنونة بالإحراج!))
تطلعت له بابتسامة مشرقة على الرغم من الفوضى التي تلطخ وجهها وملابسها
((كان اليوم من أجمل أيامي منذ أن دخلت لحياتك الكئيبة الروتينية المملة))
مال بشفتيه بابتسامة متهكمة يرد وهو يخلع قميصه
((ارحميني، لا تشعريني بأنكِ كنتِ تعيشين مغامرات في كل يوم من حياتك قبل دخولي لها))
.
.
أنهت نورين تجفيف شعرها بعد أن اغتسلت هي الأخرى ثم أطفأت إنارة الغرفة وقفزت فوق السرير ليقول هو على الفور بينما يرشقها بنظرات صارمة
((ظهري حرفيًا محطم فلا داعي لثرثرتك الليلية أرجوكِ واسمحي لي بالنوم باكرًا))
كانت بالفعل قد قررت ألا تتحدث معه الليلة.. فرجل كمُصعب عديم الإحساس بالعاطفة ويتميز بالغموض ويفضل الصمت دائمًا عن الإفصاح عن مشاعره.. لا أفضل من مكافأة تمحنها له على خروجه معها ألا أن تتركه يتنعم بصمتها.. فرفعت يدها بجانب رأسها تلقي تحية عسكرية هادرة بمرح
((عُلم يا باشا))
رمقها بغيظ ثم أسدل جفنيه.. لكن تناهي لسمعه صوت نورين وهي تقول
((قبل أن أقول طابت ليلتك، أريد أن اطلب منكَ متى ما تجد وقتًا أن تشتري لي أحد الكتب التي سبق وقرأتها وأعجبتك))
فتح إحدى عينيه مغمغمًا
((لستُ مولعًا بالقراءة، ربما آخر كتاب قراته كان قبل أشهر))
ابتسمت لعينيه وهمست وأنفاسها تمتزج بأنفاسه
((لا بأس، المهم أن تكون قد قرأته لعلي أفهم قليلًا عن شخصيتك من الكتب التي تقرأها))
تبدلت أنفاس مصعب وابتعد ليدمدم باضطراب مكتوم
((ظريفة جدًّا!))
قالت له بعفوية مغلفة بالمرح
((لا أنا جادة، من الأساس أنا أريد كتبًا حتى اقرأها وأقلل من الملل الذي أعيشه هنا.. ولا هاتف لدي لأقرأ الكتب الإلكترونية.. فاشتري لي بعض الكتب))
سألها بصوتٍ باهت وملامح منزعجة
((أحقًا لا تجدين شيء تفعليه هنا؟))
ارتسم الأسى على ملامحها الجميلة، وهمست بشحوب رغم ابتسامتها ونظرها شارد
((أبدًا.. فزوجات إخوتك لا يحباني، وسمية مشغولة بعملها في الحديقة وأشعر بأني أشغلها عنه))
احتدت مقلتاه بضيق شديد، وبدا أنه ضيق من نفسه، ثم قال لها
((أنا مقدر لوضعك وليت بإمكاني فعل أي شيء آخر لكِ))
أجلت حنجرتها التي حلت بها غصة لتقول بامتنان صادق
((أنا لا أريد أكثر من هذا منك.. طابت ليلتك))
تقارب حاجبي مصعب وعقب
((وأنتِ أيضًا))
بمجرد أن نام حتى خرجت من سريرها بخفة وذهبت للثلاجة تخرج كل علب مشروبه الغازي الذي يستمر بإحضاره وتركت له علبتين فقط.. ثم خبأت الباقي حتى تتخلص منهم لاحقًا.. ثم عادت تضجع عليه وأسدلت جفنيها وضلت تتقلب في سريرها لدقائق طويلة دون جدوى.. لم تقدر على النوم من فرط البهجة التي كانت غمرت قلبها اليوم.. فتطلعت لجانبها إلى مُصعب حيث كان هذه المرة لا يعطيها ظهره أثناء نومه..
تنفسه المنتظم دل على عمق نومه.. فمدت يدها الناعمة تلامس خصلاته البنية تنظر لوجهه عن قرب مبتسمة..
لكن بعد دقائق ابتلعت ريقها بصعوبة وفكره خبيثة تراودها بدفن نفسها في أحضانه كعادتها.. هل سيستيقظ لو فعلت؟
وبالفعل اقتربت وأحاطته بأوصالها لتتسلل راحة رهيبة لروحها وتغمض عينيها.. وبعض الرضا يتسلل إليها فيملأ فراغ ورقة مشاعرها..
=============================
أنهت رتيل تصفيف شعرها بأناقة أمام منضدة زينتها ثم عادت تمسك هاتفها وتتمدد على سريرها وهي تسمع غنوة تخبرها بتوق
((لقد اشتقتُ لكِ يا رتيل، متى ستأتين لزيارتي؟))
تجلّى الإحباط فوق ملامح وجهها كما نبرة صوتها وهي تقول
((لا أدري يا غنوتي، عاد مُؤيد بالأمس للبيت كما عادته كل أسبوعين، الآن انتظري فقط حتى أستطيع إقناعه بأني مشتاقة حقًا لزيارة أمي حتى يوافق على خروجي))
خرجت تنهيدة فاقدة الصبر من غنوة
((من وجهة نظري يا رتيل، بما أنه لديكِ شهادة، أقنعيه بحاجتك للعمل، ووقتها نستطيع الالتقاء ببعضنا دون الحاجة لاختلاق الحجج والانتظار كثيرًا في كل مرة))
عبست ملامح رتيل لتجيبها
((مستحيل، أنا أعرف مُؤيد لن يقبل، وحتى لو قبل فعائلته ستكون له بالمرصاد، فغير مسموح عندهم للمرأة العمل لأن عليها أن تجلس معززة مكرمة وكل احتياجاتها وما تريده يصلها إلى عقر بيتها))
قالت لها غنوة بإصرار
((اقنعيهم أن حاجتك تكمن في العمل والخروج والتعامل مع البشر بدلًا من دفنك داخل الجدران))
انعكف فم رتيل بمرارة لتقول
((مستحيل، فعقلهم راسخ بأن خروج نسائهم للعمل إهانة لها ولهم ويعني أن لا رجال بعائلتها ينفقون عليها.. ألم أخبرك قصة أخيه الأكبر الذي لم توافق عائلته على زواجه من زميلة له في الجامعة إلا بشرط أن تعيش معهم في هذا القصر وألا تعمل أبدًا، أشك بأن سبب وفاتها هو غمها من هذه العائلة لا مضاعفات ما بعد الولادة))
وصلت الصورة كاملة لغنوة فقالت بصوتٍ ممتعض مائع
((حياتك هذه تشعرني بالاختناق!))
اعترى العبوس ملامحها رتيل وقالت
((اصبري يا غنوتي عليّ قليلًا، أعدك بأني سأحاول أن اخذ موافقته.. عليكِ أن تشكري الله بأن عائلتي تسكن في قرية أخرى لا هنا، حتى أستطيع أثناء زيارتك المكوث عندك دون أن يلاحظ أحد))
همهمت لها غنوة ثم عادت تقترح بمكر
((هل فكرت قبلا في الطلاق مثلي وكسب حريتك والتخلص من سجنه الذهبي؟))
شيء من الضيق اكتسح رتيل فاعترضت على الفور وقد تكدرت ملامحها
((لا.. لا أريد..))
سألتها غنوة باستنكار وكأن رتيل تنطق بالعجب ((لماذا؟))
للحظات لم تعرف رتيل ماذا تجيبها وتجولت بنظرها في أرجاء غرفة نومها.. حتى قالت أخيرًا بصوتٍ لا يحمل شيء من روح كلماته
((أحيانًا أشعر باني أحبه))
خرجت من غنوة شهقة مستهجنة طويلة ثم قالت
((ماذا قلتِ؟ تحبينه؟ "الأستاذ مانع"؟ ولكن أنتِ هكذا تنسفين كل ما سبق وقلتيه عنه!))
تأففت رتيل من سخرية صديقتها فردت باستخفاف
((حسنًا أنا لا أحبه بل أخاف أن أفقد كل ما حصلت عليه من حريات شحيحة بعد زواجي منه))
لم تفهم غنوة عليها فسألتها
((ماذا تعنين؟))
هدرت رتيل بجدية وهي تتخلل شعرها بأناملها
((نعم يا غنوة أخاف أن أخسر كل ما لديَّ لو تحررت منه.. ألا تعرفين كيف هي الحياة في عائلتي؟ هل تظنين بأن شقيقاي سيتركانني بحالي عند طلاقي؟ بل سأترحم على الأيام التي كنت أعيشها هنا، فأفراد عائلتي المتخلفين أصحاب عقليات متحجرة، أكثر من مُؤيد))
بدا الإحباط جليًا في نبرة صوت غنوة
((إذن ابذلي جهدًا في إقناعه بالخروج في أقرب وقت ممكن، الجئي لتلك الحيل الأنثوية في إقناعه))
قالت رتيل بقنوط وحسرة
((وهل تظنين أن مُؤيد قد يتأثر بتلك الحيل الأنثوية مثل باقي الرجال؟ إنه من الأساس يصر دائما على وضع حاجز نفسي بيني وبينه، فيظل متجهمًا معي ولا يبتسم على عكس ما يظهره من أريحية وضحكات عندما يكون مع عائلته أصدقائه))
صمتت رتيل ومشهد قديم لمُؤيد مع شقيقه مُعاذ عندما كانا في السطح يعود ليحتل المشهد أمام بصرها الآن..
اعترف مُؤيد فيه بلسانه بأنه لا يسمح لها بتجاوز تلك المسافة أو الحاجز بينما لأنه لا يحبها وليست فتاة أحلامه..
وتزوجها فقط ليثبت للآخرين أنه رجل صالح مطيع لعائلته ومتزوج من أمرأه تليق بإنجاب أبناء لهم..
نفضت رتيل رأسها تخرج تلك الكلمات من عقلها ثم قالت بصوتٍ حزين لغنوة وهي تعتدل جالسة
((سأقفل الآن فقد ينهي مُؤيد حمامه ويخرج الآن.. هل تريدين أي شيء مني يا..))
بترت رتيل كلامها وهي تنتفض بذعرٍ للخلف.. التصقت بظهر السرير بتيهٍ بينما تشاهد زوجها يرتدي مئزره ويتقدم منها بوجه غير مقروء الملامح..
اقترب مُؤيد الذي كانت تتساقط قطرات المياه من شعره المبلل منها وبصلابة سحب منها الهاتف الذي تمسكه وضغط على مكبر الصوت ليصله عاليًا الصوت الأنثوي
((رتيل.. رتيل.. أين أنتِ يا رتيل؟ حسنًا لا أريد شيئا إلا سلامتك.. وأعانك الله على أستاذ مانع.. إلى اللقاء))
ما إن أُغلق الخط من الجهة الأخرى.. حتى همس مُؤيد بصوتٍ جليدي متشنج
((مع من كنتِ تتحدثين ولماذا كنتِ تريدين أن تقفلي قبل مجيئي؟ ما هو الشيء الذي لا أعرف عنه هنا))
كان مُؤيد يغلي من الغضب الكامن بداخله من الظنون التي تكالبت فوق رأسه في هذه اللحظة رغم أن شيء طفيف في داخله هدأ لان الصوت كان لأنثى لا رجل..
نبش الرعب مخالبه على خافق رتيل لأن مؤيد قد سمع أخر ما تحدثت به مع غنوة.. ورغم أنها شعرت بحلقها جاف إلا أنها قالت بصوتٍ يرتجف خوفًا
((إنها صديقتي، صديقتي أقسم لك))
سألها بصوتٍ أجوف
((من هذا "الأستاذ مانع" الذي تحدثت عنه معكِ؟))
تمتمت رتيل بصوتٍ خافت لا يكاد يسمع ووجهها يزداد شحوبًا
((ما.. ماذا!))
هدر مُؤيد بجنونٍ مطبق ووقد اسودت الرؤية أمام عينيه من الاحتمالات في رأسه
((أجيبي من هو الأستاذ مانع؟))
انكمشت على نفسها وأغمضت عينيها تخبره بخوف جلي
((إنه.. إنه.. أنتَ))
انفرجت ملامحه فجأة لتتبدل بأخرى مصدومة وهو يسألها ببلاهة
((ما.. ماذا! أنا.. لماذا دعتني أنا بـ "الأستاذ مانع"؟))
فتحت رتيل عينيها تسترق النظر لوجهه وأمارات عدم الفهم المتجلية عليه تجيبه بتلعثم
((لأنه.. لأنه..))
كرر عليها بعصبية
((لأنه ماذا؟ هيا أجيبي؟))
اختلجت شفتا رتيل وهي تجيبه باختناق
((لأنكَ من وجهة نظرها رجل نكدي و"تمنع" عن عائلتك كل شيء له علاقة بالسعادة))
نظر لها ببلاهة لا يستوعب
((ماذا تقولين؟))
رمقته رتيل بنظرةٍ قوية غير آسفة ثم كررت
((نعم يا مُؤيد أنتَ "مانع" للسعادة، واسم مانع مناسب لكَ أكثر من مُؤيد.. حتى أنه يبدأ بنفس حرفك الأول))
ما إن أدرك مقصدها حتى هتف بها بعينين غاضبتين وهو يلوح بالهاتف الذي يمسكه
((ما اسم هذه الصديقة؟ أخبريني اسمها))
ازدردت رتيل لعابها بصعوبةٍ بينما تجيبه
((إنها غنوة..))
نظر مُؤيد للهاتف يطالع اسم غنوة على المكالمة ثم استفسر وهو يرفع إحدى حاجبيه
((غنوة؟ لم اسمع باسمها سابقًا أثناء حديثك))
حادت رتيل نظرها عنه وهي تهدر له بصوتٍ باهت
((أنا أتحدث معها بشكل يومي يمكنك حتى تفقد سجلات هاتفي))
وضع مُؤيد إحدى يديه على خصره بخشونة يرمي لها بوابل أسئلته
((ومنذ متى عندك صديقات؟ أخبريني من هي عائلتها؟ أين تسكن؟ ما هو اسم زوجها وعمله واسم عائلته؟))
قالت له بتروي بينما تحبك كذبها
((إنها جارتي في بيت عائلتي.. أعرفها منذ زمن.. عندما تأتي لبيت عائلتي يمكنك التعرف على زوجها والسؤال..))
مال مُؤيد ثغره بامتعاض ثم أمرها وهو يرمي هاتفها على السرير
((لا أريد التعرف على شيء متعلق بها، من الآن احذفي رقمها من عندك، ولا تتحدثي معها مرة أخرى))
هتفت له ساخطة وهي تشعر بالظلم
((ولكن لماذا؟ بماذا أخطأت لكي تطلب مني بكل تعسف أن احذف رقمها؟ أكل هذا لأنها تلقبك بـ "أستاذ مانع"؟))
أشاح بيده وهو يقول من بين شفتين غاضبتين متصلبتين
((ليست هي بل أنتِ المخطئة هنا وأنتِ تسمحين لها أن تستهزئ بزوجك بكل بساطة وتجارينها بدلًا من أن تزجريها وتتوقفي من تلقاء نفسك عن الحديث معها! كيف سمحتي لها بتسميتي "أستاذ مانع"؟))
قالت رتيل بنبرة قوية مغلولة
((ليست هي الوحيدة، بل كل من يعرف حياتي التي أحياها معك يوافق تسميتك ب"مانع" يا مُؤيد، أنتَ تمنع السعادة عنا))
اتسعت عينا مُؤيد مصدومًا منها.. الناس؟ هل حقًا يدعوه هكذا من خلف ظهره؟ زوجته الموقرة تقوم باطلاع الناس على طباعه الصارمة وطريقة معاملته لهم هنا! هتف بها متوعدًا
((إذن أنتِ تُخرِجين أسرار البيت للخارج ولا تحافظين على ما يحدث هنا، سأريكِ من الآن وصاعدًا وجهًا آخر وأعلمك كيف تحافظ الزوجة الصالحة على أسرار بيتها وزوجها))
شارت رتيل بيديها وهي تسأله بدهشة
((لا تبالغ يا مُؤيد، أنا لا أنشر أي من أسرارنا للناس، لا تبالغ بغضبك لمجرد دعوة صديقتي لكَ "أستاذ مانع"))
لكن بدل أن يهدأ همس بها من بين أسنانه وهو يضغط عليهم بشراسةٍ
((وترفعين صوتك عليّ ولا تحترميني! ما بوادر التمرد هذه! وضعك لا يُسكت عليه.. أبدًا.. ستتغير معاملتي معكِ ولن أظل على تساهلي، وسأحرمك من الامتيازات التي كنتُ أعطيها لكِ))
رمقته رتيل بغل.. ولم تشعر بأي خوف من كلامه.. فلطالما ألقى بها بهذه التهديدات الكلامية لإخافتها بدون أن يفعل شيء.. وحتى لو كان حقيقيًا فلِمَ قد تخاف من تغيير معاملته!
فليغيرها ولن يختلف شيء معها.. فسألته ببراءة باطنها خبث
((أي امتيازات ستحرمني منها؟))
فتح فمه يهم بالإجابة بغضب إلا أن الأمر انتهى به متلعثمًا والحيرة تسكن وجهه
((سأحرمك من الكثير منها.. مثل.. مثل.. مثل..))
رفع يده يحك مؤخرة عنقه ببلاهةٍ لا يعرف ما يكمل به تهديده ووعيده.. فأكملت عنه رتيل بسخرية ممزوجة بالحسرة
((هيا قل من ماذا ستحرمني؟ من السفر؟ من هداياك الثمينة؟ من مبادراتك الرومانسية؟ من كلامك المعسول وغزلك؟ من بثي كلمات العشق والغرام؟ أي حقوق.. أقصد امتيازات من التي سبق وسردتها ستحرمني منها؟))
اتسعت عيناه من تهكمها وقال لها باشمئزاز وكأن فعل هذه الأمور تنقص أو تجرح رجولته وشرقيته
((ما هذه الترهات التي تتحدثين عنها؟ هذاما ينقصني أن أقوم به من أجلك.. كلام عشق وغرام! مبادرات رومانسية! هل نحن مراهقان؟))
تطلعت له بحزن خالص وهي تهتف به بسخط
((ولماذا لا تفعله؟ بماذا ستنقص منك؟ أليس هذا ما يفعله الرجال لزوجاتهم؟))
رشقها بنظرات حانقة ثم ابتعد عنها يتجه لخزانة الملابس ليخرج منشفة يجفف فيها شعره.. في حين هي تنهدت ببؤس وهي تلتقط هاتفها وتقوم بإلغاء رقم والدتها لتضع عوضا عنه رقم غنوة.. على كل حال أمها دائمًا ما تحدثها من رقم أخيها..
=============================
شركة القاني..
رغم الارتباك الذي كان يلفه إلا أنه أخذ نفسًا عميقًا يستعيد رباطة جأشه ثم تشجع يطرق بيده المزمومة الباب المفتوح لمكتب المشرفة التي انتقلت حديثا لقسمه..
أذنت شيرين له في الدخول هاتفة
((تفضل يا قصي ادخل))
ابتسم ابتسامة مهتزة سائلًا بخفوت وهو يتقدم للداخل ويجلس على المقعد أمام مكتبها
((كيف حالك يا شيرين؟))
رمقته شيرين بنظرة نقمة مشوبة بالصرامة قبل أن تقول بنبرة مقتضبة
((لقد تأخرت لساعتين كاملتين.. هذا هو تنبيهك الثاني.. بقي لكً تبيه أخير قبل أن تحصل على إنذارك الأخير وتُفصل من الشركة يا قصي سامح))
عقَّب قصي على كلامها بطريقة ودودة
((أنتِ يا شيرين تعرفين أننا مضطرون هنا كموظفين خدمات عملاء للتبديل أسبوعيًا بين كل المناوبات.. مناوبتي في الأمس كانت مسائية، ومناوبتي اليوم صباحية.. وكإنسان فمن الطبيعي أن أتعرض لاضطرابات في الساعة البيولوجية ويفوتني موعد الاستيقاظ وأتأخر عن العمل أحيانًا..))
طالعت شيرين وجهه البشوش للحظات بصرامة ثم قالت بواجهة مشرفة حازمة دون أن تبادله الابتسامة أو الود
((أنتَ لست موظفًا جديدًا في شركة القاني يا قصي، بل تعمل هنا منذ سنتين، ويفترض بأنك تعرف أن عملك هنا في خدمة العملاء والرد على اتصالاتهم لها مشاكلها وعيوبها))
للحظات صفن بها بغير استيعاب ثم رفع إحدى جابيه يصحح لها بتردد
((تقصدين مزاياها وعيوبها؟))
أجابته بهدوء دون أن تنحسر ملامح جمودها
((لا.. لقد قلتُها بشكل صحيح))
أومأ قصي برأسه يقول متفهمًا
((نعم فهمت.. المهم أني أريد أسبوع إجازة من إجازاتي السنوية في الأسبوع القادم..))
قاطعته شيرين بنبرة برود تفيد الرفض مسبقًا
((يمكنك تقديمها لكن لا أتوقع أن يتم الموافقة على أكثر من يومين))
احتج بجدية اكتنفته
((ولكن أنا لدي سفر ملح، وليس من المنطقي أن أسافر وأعود خلال يومين))
ردت عليه شيرين بمهنية
((قصي سامح هناك الكثير من المآخذ عليك، كان بإمكاني إخبار قائد فريقك أن يتحدث معكَ بشأن ما أقوله لكَ الآن.. لكن فضَّلت أن أنبهك بنفسي.. كن أكثر حذرًا وأقل استهتارًا حتى لا تخسر وظيفتك))
لعق قصي شفتيه بتوتر ثم نظر لها مبتسمًا
((أنتِ مشرفة صارمة جدًّا يا شيرين، أعرف بأنكِ انتقلتِ حديثًا لمنصب مشرفة في قسمنا هذا، ولكنكِ تعملين في شركة القاني منذ سنوات طويلة جدًّا، وتعرفين بأن العمل فيها في أي قسم كان يتطلب جهدًا وطاقة يكافئها راتبًا أكبر مِمَّا نستلم منهم، لذا لا بأس أحيانًا ببعض التقصير من جهتنا))
أُثار تبريره السخيف لإهماله حنقها، لكن ظلت ملامحها هادئة تمامًا دون أي تعبير يعكس ما بداخلها ثم تكلمت بنبرة جليدية شديدة الخفوت
((معظم الذي يعملون في شركة القاني يا قصي هم من طلبة الجامعات الذين يسعون إلى استغلال أوقات الفراغ التي بحوزتهم بالتوجه إلى سوق العمل للانخراط فيه، لذا راتب الوظيفة التي تقدمها شركة القاني لهم يتناسب مع ظروفهم بشكل لا يؤثر على واقعهم الدراسي، فليس من السهل أن يجدوا فرصة عمل بساعات متفرقة وأيام متباعدة.. لكن أنتَ كرجل في الثلاثينات من عمرك فلا أعرف سبب بقائك في وظيفة تعطي هذه الرواتب المتدنية.. خاصة وأن من هو في مثل عمرك ينفق على عوائل))
فتح قصي كلتا يديه يعلق
((للأسف لم أجد أي وظيفة أعمل بها إلا في شركة القاني البائسة))
ضرب في عينيها غضب عارم وهي تهتف
((إذن يجب أن تكون وظيفتك البائسة هنا رغم راتبها المتدني فهو مسعى لك، على الأقل يفي بمصروفاتك اليومية))
أدركت بأنها تجاوزت حدودها مع الموظف أمامها وأن انفعالها كان مبالغًا فيه.. فسعلت بإحراج ثم استطردت كلامها بتوبيخ مغلف بلباقة يمليه عليها موقعها في الشركة
((على كل حال أتمنى منكَ يا قصي سامح أن تتحدث باحترام عن شركة القاني، ففضلًا عن سماحها لك في العمل هنا أنتَ وأكثر من ألف موظف أخر.. هي أول مزود من نوعه لتقديم خدمات الإسناد والدعم وأحدث شبكة متكاملة من مراكز الاتصال على مستوى المنطقة))
رفع قصي أصابعه يدلك بها مؤخرة عنقه وقد لفه التوتر ليقول
((حسنًا سأفعل يا شيرين، أنا أعتذر لكِ ولشركة القاني المبجلة، لا تغضبي، لكن أريد نهاية دوامي ساعتين مغادرة..))
رفعت حاجبيها بتهكم لتقاطعه بمنتهى العملية
((متأخر ساعتين وتريد مغادرة لساعتين إضافيتين؟ طلبك مرفوض قبل حتى أن تقدمه..))
اعترض قصي بتلعثم
((ولكنني مضطر جدًّا، هناك حالة وفاة..))
قاطعته شيرين بكل ما تظهره من برود يناقض الانفجار داخلها من كثر اختلاقه حجج الوفاة للغياب
((هذه المرة إذا كان أحد جديك قد توفي حقيقة وليس اختلاقًا كما أنتَ معتاد فعليكَ أن تقدم أوراقًا رسمية تثبت وفاته ولن نكتفي بمنشور إعلاني تنشره على مواقع التواصل الاجتماعي حتى نتأكد من صدق ادعائك))
استقام من مكانه بضيق عارم وهدر بغيظ قبل أن يغادر المكان
((حسنًا يا شيرين سأذهب لأبدأ عملي وأضع السماعة ولن أغادر الشركة قبل انتهاء دوامي المحدد.. سلام))
أوصد قصي باب مكتب شيرين خلفه ثم ذهب إلى حيث يجلس مئات موظفي خدمة العملاء في قسمة أمام حواسيبهم..
جلس على مقعده خلف الحاسوب وأخرج هاتفه من جيبه يخفض رأسه خفية أن يراه أحد.. طلب رقم سهر وعندما ردت عليه قال بصوتٍ خافت حتى لا يتم الإمساك به متلبسًا في مخالفة إحدى القوانين القسم
((مرحبًا يا باربي، حبيبتي كيف حالك؟))
ردت عليه سهر بصوتها الناعم
((أهلًا قصي، لا زال هناك عدة ساعات على موعدنا..))
تنهد قصي ثم قاطعها يقول مبررًا
((تواصلت معكِ بهذا الخصوص، العمل اليوم المكتظ ولن أستطيع المغادرة))
لف الإحباط وخيبة الأمل صوتها وهي ترد بدلال حزين
((قصي أنا مشتاقة لكَ، لم أراك منذ الأمس، ألا ينفع أن تؤجل عملك قليلًا؟))
تنهد بعمق وهو يمرر أنامله بين خصلاته الناعمة ليقول
((للأسف لن أقدر يا باربي، أنتِ تعرفين حساسية موقعي وليس من السهل أن أدير شركة العائلة، لنتحدث ونلتقي في وقتٍ آخر))
حاولت سهر ألا تبدي الضيق وتتفهم ظرفه وهي تقول
((حسنًا يا حبيبي المُجِد.. لا تقلق.. على كل حال سألتقي بشيري بعد أن تنهي عملها اليوم))
اقترح عليها على الفور
((يمكنك أن تجتمعي معها في نفس المطعم الذي كنا سنلتقي به يا باربي))
سألته بدهشة ممزوجة بالسعادة
((أوه حقًا يا قصي؟))
ابتسم لاإراديًا لسعادتها وأكد عليها
((نعم يا حبيبي فأنا حجزته على كل حال، اطلبا ما تشاءان هناك وسأسدد من بطاقتي للمطعم فأنا عميل قديم عندهم))
لوهلة عبس قصي وهو يفكر بأنه لن يذهب مع سهر بسبب مشرفة عمله الصارمة التي ستأخذ مكانه معها! هل من العدل أن يحجز هو في مطعم له ولسهر من أجل أن يحظيا بوقت دافئ ورومانسي لتأتي شيرين في النهاية وتستولي عليه!
في حين قالت سهر له بامتنان شديد
((أوه حبيبي شكرًا لكَ اتعب أنا من لطفك الذي تغمرني فيه دائمًا، عليكَ أن تلتقي بشيري يومًا ما فأنتما لم تتقابلا إلا مرة أو مرتين قبل سنتين فقط))
توتر بشدة لا إراديًا عند حديث سهر عن شيرين! هو مقتنع بحتمية قدوم هذا اليوم الذي ستلتقي شيرين به وتعرف حقيقته! فمن المستحيل أن يعمل في نفس المكان دون أن تعرف هي أنه خطيب سهر طويلًا!
اكتسحه توتر فظيع عن هذه الأفكار إلا أنه تمَالك نفسه وهو يقول
((لا تقلقي يا حبيبتي سنلتقي أنا وصديقتك اللطيفة يومًا ما.. لكن ليس اليوم.. لاحقًا.. إلى اللقاء الآن))
اغلق الهاتف بسرعة مفكرا أن أيامه القادمة ستكون عصيبة جدًّا.. منذ عمله في شركة القاني قبل سنتين وهو يعيش في رعب شديد فقط لأن شيرين والتي تكون صديقة سهر المفضلة تعمل في نفس الشركة معه هنا.. رغم أنها كانت موظفة في قسم ومبنى آخر غيره.. فكيف الآن وبعد أن انتقلت شيرين لقسمه بل وصارت مشرفة عليه!
وبينما قصي غارق في دوامات من القلق والضيق لما يعيشه مال زميله الجالس بجانبه هامسًا له بتحذير
((اغلق الهاتف يا قصي وخبئه جيدًا، سيراك أحد المسؤولين وستأخذ تنبهيك الأخير ومن ثم الطرد!))
وضع قصي هاتفه حالًا في حقيبة ظهره ثم التفت لزميله طه الجالس بجانبه يجيبه بنفس الهمس
((لقد خبأته لا تقلق))
أشار طه لحاسوب قصي وقال له مستنكرًا عدم بدئه بعد في العمل
((حسنًا الآن سجل دخول للنظام وابدأ في العمل وتلقي المكالمات.. ماذا تنتظر؟))
امتقعت ملامح قصي ثم قلب عينيه بالسقف وقال بضجر
((لا رغبة لي في العمل.. لقد مللت.. اشعر بالاختناق رغم أني لم أبدأ بعد دوامي اليوم))
أومأ زميله طه برأسه ثم غمغم بتفهم
((الحال من بعضه، لكن أنا على الأقل طالب جامعي بمجرد أن أُنهي جامعتي حتى أجد وظيفة بشهادتي لكن أنتَ.. لا أعرف عمرك بالضبط.. تبدو على مشارف الثلاثينات.. وما زلت تعمل في وظيفة غير دائمة! بدلًا من أن تكون قد أسست قدمك في وظيفة محترمة بدخل أكثر احترامًا! وضعك صعب.. جدًّا!))
ارخى قصي جلسته على الكرسي وسأله بعبوس
((أنتَ يا طه لا زلت في الجامعة؟ إذن لماذا تعمل هنا؟ لماذا لا تركز على عيش حياتك الجامعية بين لهو ودراسة بدلًا من العمل في مثل هذه الوظيفة التي تقتل في حياتك كل أشكال الآدمية!))
أجابه طه بعفوية
((لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب، ومع تزايد أعباء المصاريف اليومية والحياتية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمنطقة ككل وببلادنا بشكل خاص يستوجب عليّ مساعدة والدي في تقليص المصاريف المالية))
زمّ قصي شفتيه ثم قال له مشيدًا بلا مزاح
((أنتَ ابن صالح يا هذا))
عقّب موظف آخر يجلس على الجهة الأخرى من قصي ويدعى فائق ساخرًا
((بل أنتَ حالم يا طه، هل تظن بأنكَ ستجد وظيفة سريعًا بمجرد تخرجك! لقد تخرجت من كلية التجارة قبل شهرين ولم أجد فرصة للعمل إلا هنا.. فمجال خدمة العملاء هي الوظيفة الأشهر والأسهل والأكثر إتاحة لكل الخريجين الشباب ولا تطلب أي خبرة سابقة.. فقط لو تزيد هذه الشركة الخرقاء رواتبها وزيادتها السنوية))
لوح قصي بيديه وهو يقول
((هذا ما كنت أقوله للمشرفة شيرين قبل قليل..))
برزت عقدة بين حاجبي فائق وهو يقول
((وهل هناك شيء بيدها تلك المشرفة الخرقاء الصارمة! إنها موظفة مثلها مثلنا لكن براتب وصلاحيات أعلى بقليل))
التفت قصي له بتحذير مطل من عينيه.. فبعد كل شيء تظل شيرين أعز صديقة لسهر.. ثم قال له بجدية تامة خالية من أي ود أو مزاح
((لا داعي للتحدث عنها بهذا الشكل فكما قلت هي موظفة مثلها مثلنا ولا صلاحية لها في التحكم في الرواتب))
ظهر الامتقاع على وجه فائق والتفت لجهاز الحاسوب أمامه يضع السماعة فوق رأسه يكمل عمله متجاهلًا الرد على قصي.. بينما يقول الأول
((نعم؟ حقًا يا قصي هي ليست مذنبة بل الحق كله يطول على أصحاب شركة القاني ومسؤوليها الحقراء فهم يقومون على تنمية أعمال عملائهم من خلال خفض التكلفة عليهم، من خلال وضع تكاليف تشغيلية متدنية للموظفين))
هز قصي كتفيه لصحة ما يقوله زميله ثم سجل دخوله المتأخر للنظام ووضع السماعة فوق رأسه يبدأ عمله..
أخذ أول مكالمة يبدأ فيها العميل الكلام بما يكيل له الاتهامات ويصفه بالمتقاعس عن عمله.. وبعد دقائق من الاستماع لشكوى العميل لم يجد قصي أن يفيده إلا بالنصيحة الشهيرة لموظفي خدمة العملاء
((اعد تشغيل الجهاز يا سيدي وسيعمل))
بدأ العميل يقوم بما أخبره قصي به وبعد أن نجح الأمر سأله بفظاظة
((هل ستتكرر هذه المشكلة في المستقبل؟))
قال قصي من بين أسنانه ببلادة
((لحظة سيدي.. دعني انظر في المستقبل لأتأكد قبل الإجابة))
علا صوت العميل وهو يقول بامتعاض
((أيها الموظف لو كررت مزحة كهذه مجددًا فسأرفع شكوى عليك))
تأسف قصي منه على مضض قبل أن يغلق العميل المكالمة
((أعتذر منكَ سيدي))
وهكذا تابع يأخذ المكالمات على مدار اليوم..
=============================
جلست شيرين على مقعدها مقابل سهر في المطعم وكل ما فيها مأخوذ بتصميمات المكان الفخم الذي يتناغم برشاقة مع الإضاءة الهادئة والموسيقى المريحة التي تبعث السلام في النفس.. لكنها انتشلها صدوح صدح صوت رنين هاتفها لتجد شاشته يعلوها اسم "الرائد مُعاذ"..
اختلست النظر لسهر أمامها ولوهلة شعرت بالتردد في الإجابة عليه أمامها.. فرغم بروده وجفائه معها إلا أنه في الفترة الأخيرة وعقب لقائها به في المطعم ازدادته معاملته معها سوءً.. فهي من تبادر في الاتصال به دائمًا.. ومع ذلك فهو لا يرد عليها في معظم الأحيان وإن رد يتحدث بإيجاز وبرود كمن يتهرب من أي فرصة تتيح لها خلق موضوعًا للنقاش معه..
كادت أن تقسم في أيام والدها الأخيرة بأنه يكن لها الكثير من مشاعر الإعجاب ولولا علاقتها في الماضي من وليد لكان هو من طلب يدها للزواج في حياة والدها.. لكن معاملته ونظرته الآن مختلفة كليًّا.. يتصرف وكأنه مقدم على موته لا الزواج..
هل من الصحيح لها أن تمضي قدمًا في هذا الزواج رغم كل ما يبديه ويظهره لها؟
قررت أن تجيب على الاتصال قبل أن ينتهي رنينه
((مرحبًا مُعاذ.. كيف حالك؟))
رد بجفاء وبرود لها كعادته مؤخرًا
((لقد اتصلتِ بي عدة مرات في الصباح، هل هناك أي شيء؟))
اختلست شيرين مجددًا النظر لسهر أمامها والتي كانت تصغي لمكالمتها بكل اهتمام.. ثم عادت لمُعاذ تجيب بشيء من التلعثم
((نعم اتصلت بكَ.. كنت أريد.. أعني كنت بحاجة أن أسألك إذا ما كان اتصل بكَ أحد أخوالي واستفسر عن شيء بخصوص عقد القران فقد سبق وتحدثوا..))
قاطعها مُعاذ بنفاذ صبر
((قلت لكِ اتركي مسألة أخوالك لي فأنا من سأتحدث لهم، هل هناك شيء آخر؟))
أغمضت شيرين عينيها بينما لعابها أصبح كغصة مسننة يصعب ابتلاعها.. ثم قالت بعد لحظات بوجه محتقن من شدة الإحراج
((لا أحتاج شيئًا آخر))
وكأنها الكلمة التي كان بانتظارها فما كان منه إلا أن سارع في غلق الهاتف على وجهها دون أن يتفوه بكلمة إضافية..
هتفت سهر على الفور باستياء
((لا يعجبني هذا الرائد المغرور، فهو يتصرف بثقل شديد معكِ، لا أريد إحباطك لكني اشعر بأنه ليس هناك أمل فيه، لن يتحول زواجكما الصوري الي طبيعي أبدًا، فهو لا يبدِ أي رغبة بكِ))
أطرقت شيرين بعينيها ثم قالت وهي تمسد كفها براحتها الأخرى ((ربما..))
ظلت سهر تنظر لها باستغراق، تتأمل ملامحها البائسة بغير رضا.. ثم سألتها
((هو أرمل صحيح؟))
أومأت شيرين تجيبها بخفوت
((نعم منذ ثمانية سنين، لديه ابنة في الثانية عشر من عمرها اسمها دارين))
قالت سهر بعفوية ما خطر على بالها
((ربما لا يزال يعشق زوجته المتوفاة ولا يتقبل امرأة وإلا فما الذي يجبر زوج مثله على العزوبية طوال هذه المدة!))
تراخت أجفان شيرين مع تراخي رأسها كأنها تتأوه من وجع شوكة جديدة انغرزت فيها إلا أنها قالت بصراحة
((ربما.. وهذا ما يجعلني أحبه.. إخلاصه لزوجته حتى بعد وفاتها شيء مؤثر.. وعاطفي))
قالت سهر هي تستغرق بالتفكير
((هو شيء مؤثر فعلًا، ولكن إن استمر طويلًا فلن يكون جيدًا بالنسبة لكِ وسينعدم أي امل لك معه.. المهم ما أخبار وليد؟ ألا يزال يزعجك؟ أحيانًا أشعر بالقلق والخوف عليكِ، يبدو بأنه رجل واصل ومتجبر))
انتفضت شيرين فجأة عند ذِكر سيرة وليد لتسحبها من دوامة أفكارها من مُعاذ.. فغمغمت بغل من بين أسنانها المطبقة
((هو كذلك، ولكن الرائد ليس أقل منه، لن يستطيع وليد مَسّي إذا ما كان مُعاذ هو زوجي، حتى عشيرته التي يتغنى بها لن تفيده بشيء إذا كان خصمه هو الأخر واحد منهم))
مطت سهر شفتيها لتقول بنبرة شديدة الوطأة
((حسنًا بدأت أتفهم لِمَ اخترتِ مُعاذ، أسبابك ليست عاطفية ولكنها معقولة))
أطلقت شيرين زفرة طويلة ثم قالت
((ستأتي العاطفة بعد الزواج صدقيني، فكل شيء فيه يشجع على الحب.. وسامته.. مركزه.. اسم عائلته.. شهامته ودماثة خلقه))
هزت سهر كتفيها وقالت
((مع ذلك يا شيرين أنا لا أستطيع أن أخدعك وأقول بأني متفائلة بذلك الرائد))
تغضن جبين شيرين بالضيق وتساءلت
((وماذا قد أفعل الآن؟))
مالت سهر للأمام تنصحها
((أظن بأن عليكِ أن تطلعيه على رغبتك الحقيقية، أخبريه بأنكِ تشعرين بالأمان معه وأخبريه عن ملاحقة وليد لكِ.. وبأنكِ تريدين أن يكون زواجك منه طبيعيًا.. وبأنكِ لم تحبينه بعد ولكنك ستقدرينه وستبذلين ما بوسعك من أجله.. المواجهة الصادقة هي حل مشاكلك..))
هزت شيرين رأسها نافية تقول بإصرار
((لا سهر مستحيل، لو أخبرته كل ذلك فلن يوافق، كنت أشعر في البداية أنه منجذب ومعجب بي لكن الآن لا أرى منه تجاهي إلا الجفاء والبرود، لذا لو أخبرته عن وليد، فسيحاول إبعاده عني بدون أن يتزوجني..))
ألحت عليها سهر مكررة
((إذا كنتِ تشعرين بأن لا رغبة له بكِ فالأفضل ألا تُقدِمي على هذه المهزلة من البداية))
قالت شيرين بنفس إصرارها وبعينين زائغتين
((لا يا سهر.. بل سأمضي قدمًا نحوه، وبعد ذلك فأنا متأكدة من قدرتي كامرأة أن أسحره بعد زواجنا، سيحبني وأنا أيضًا سأحبه، فكما سبق وأخبرتك كل شيء فيه يشجع على الحب، أشعر بقبول رهيب تجاهه، وسأنسى وليد، سأنسى الرجل الوحيد الذي أحببته في الماضي فأنا لا أُكِن له حاليًا إلا كل الشر والكره والحقد))
ضاقت عينا سهر قليلًا ثم قالت بنبرة يشوبها القلق
((الكره هو الوجه الآخر للحب يا شيرين، عليكِ أن تلغي وليد من حياتك ولا تشعري بأي شيء تجاهه، لا حب ولا كره حتى تنسيه))
قالت شيرين بقلة الحيلة تغمرها
((لا أستطيع يا سهر أن أمحي كل مشاعر المقت تجاه وليد وأتوقف عن كرهه، فهو من لوث روحي وجعل الكره والحقد يتغلل فيها على مدار السنين بكل ما فعله بي))
كانت شيرين فعلا قد قامت بحظر وليد، فهي قررت أن تبيع كل ما تملكه بما فيه سيارتها، وتدخر كل أموالها في البنك مع ما تبقى من مدخراتها حتى تستطيع دفع تعويضات لموكله.. وستبقى في عملها وتبقى تدخر المزيد من المال إذا قام هؤلاء برفع قضية أخرى ضدها مستقبلًا..
سارعت تنفض هذه السيرة وتستطرد
((الرائد مُعاذ أخبرني بأني سأنتقل إلى شقته في المدينة وأعيش معه تحت سقف واحد.. فهو لن يقبل أن أبقى على ذمته وأعيش في بيت ناس أغراب))
بهت وجه سهر قليلًا ثم قالت متشككة
((نحن لسنا أغراب يا شيري.. لكن أصدقيني القول هل قبلتِ أن تحطي من قدرك بهذا الشكل وتطلبي الزواج منه خجلا من أن تبقي في بيتي؟ إذا كان هذا السبب فعائلتي تعتبرك ابنة لنا ولن أقبل أي نقاش..))
قاطعتها شيرين بصلابة رغم صوتها المهزوز
((سهر لا.. الموضوع ليس موضوع بيت ولا حتى مال، ولا يمكن أن يكون سبب طمعي في الزواج منه هو ثروته! أنا أيضًا أعمل في وظيفة مرموقة ولدي راتب عالي نسبيًا.. وأنتِ تعرفين أني كنت لأملك الآن في حسابي البنكي ثروة صغيرة لولا المبالغ الهائلة التي دفعتها ولا زلت أدفعها لعائلة ذاك الصبي بعد القضايا التي رفعوها عليّ.. لذا ثقي بي ودعيني أمضي فيما أخطط له))
أذعنت سهر لرغبتها فازدردت شيرين ريقها بصعوبة..
وبمجرد أن أحضر النادل الطعام لهما حتى تطلعت تسأله بتهذيب
((عفوًا.. هل يمكن أن ترشدني لدورة المياه؟))
أجابها النادل وهو يشير للمكان بيده
((نعم بالتأكيد يا سيدتي، دورة المياه الخاصة بالسيدات من هناك ثم انعطفي يسارًا))
‏دلفت شيرين إلى دورة المياه وأغلقت الباب خلفها بملامح صارمة لامبالية.. ثم انهارت باكية خلفه بصوتٍ مكتوم خشية أن تنال من عين أحدهم نظرات الشفقة..
بدا واضحًا بالنسبة لها أن الأشفاق والاحتقار كانا يلفان ملامح سهر طوال حديثها عن خطتها المثيرة للشفقة عن الرائد إلا أنها جاهدت ألا تظهر هذه المشاعر جلية حتى لا تحرج من نفسها أكثر.. لقد اتضح بأنها كانت في أخر أيام حياة والدها الأخيرة مجرد متوهمة بائسة عندما ظنت بأن ذلك الرائد يُكِن لها شيء من الانجذاب أو القبول..
شعّت عينا شيرين المحمرتين بالإصرار والعزيمة فهي لن تتراجع... أبدًا لن تتراجع.. هي جميلة وستبذل جهدها لتكون أجمل أمامه.. ستجعله رغمًا عنه يضعف ويستسلم أمامها..
ستذهب لأفضل صالونات التجميل وسترتدي ثوبًا أجمل من الذي سبق وحجزته مع سهر ليوم عقد القران.. ستذهله وتجعله غير قادر على إبعاد ناظريه عنها ويطلب بنفسه ودها من أول ليلة!
.
.
تململت سهر مكانها بانزعاج من تأخر عودة شيرين فقد بدأ يبرد الأكل.. تنهدت بضجر ثم تناولت هاتفها وبدأت تتصفحه..
رفعت حاجبياها بدهشة عندما وردها اتصال لترد عليه بلهفة تقول
((مرحبًا قصي كيف حالك؟))
وصلها صوته هادئًا
((أنا بخير سهر.. كيف حالك؟))
عبست ملامحها وقالت
((عندما تدعونني بسهر أعرف أن هناك شيء لا يسر ستقوله))
ضحك بخفوت ثم تنهد قبل أن يقول لها بشيء من الاعتذار
((نعم وهذا بالفعل ما سأقوله.. لن أستطيع أخد إجازة لمدة أسبوع لنسافر لذلك المكان الذي وعدتك به مع عائلتك بسبب عملي، تعرفين أن تقع مسؤولية شركة كاملة على عاتقك ليس سهلًا وسيكون من الصعب أخذ أي إجازة في الأشهر القادمة))
غمغمت ببؤس متفهمة
((نعم معكَ حق!))
رد عليها بصوته الدافئ القوي
((على كل حال بما أني اشتريت التذاكر وانتهى الأمر فيمكنك السفر مع والديك بدوني))
لفّ إحباط وقنوط صوتها وهي تقول
((ولكن ستكون رحلة تعيسة من دونك، ثم لمن سأعطي التذكرة الرابعة؟ شيرين أيضًا لن تستطيع الذهاب معنا بسبب عملها))
أخذ نفسًا عميقًا ثم أخبرها
((اعطيها لأي أحد.. ربما لإحدى صديقات والدتك لتذهب هناك بشكل منفرد عنكم))
ردت عليه بتلقائية
((حسنًا سأخبر أمي أن تعطيها لإحدى صديقاتها فأنتَ تعرف بأن لها مكانتها ورزانتها بين صديقاتها الراقيات..))
لم يستطع قصي بهذه اللحظة إلا أن يقاطعها قائلا بضجر
((يا إلهي كم أمقت عالم سيدات المجتمع الراقي التي تتواجد أمي فيه مثل أمك! إنهن مجموعة من النساء المنافقات اللاتي لا يعرفن إلا النميمة والمجاملات الكاذبة في مناسبتهن وحفلاتهن الخيرية..))
شعرت سهر بشيء من الضيق من فكرة بأن هذه المرة هي الأولى تقريبًا التي يتحدث فيها عن أمه فهو نادرًا ما يجلب سيرتها أمامها بل وحتى هي الآن لم تلتقِ بها.. عندما استرسل
((لكن أنا ممتن أن زوجتي المستقبلية ليست منه))
ابتسمت سهر عند مديحه.. فهو وهي متشابهان إلى أقصى الحدود..
كانت تهم بالرد عليه عندما وصلها من الهاتف صوت رجل آخر يهتف بكلمات غير مفهومة ساخطة في قصي فسألته باستغراب
((هل هناك أحد عندك يا قصي؟ يبدو غاضبا))
من الجهة الأخرى عند قصي الذي كان يجلس عند رواق الشجرة انتبه لقدوم قائد فريقه معتز.. فقرب الهاتف لفمه يقول بخفوت
((انتظري يا سهر قليلًا فهناك أحد يريدني في موضوع مهم يخص العمل))
أبعد الهاتف عنه يتنحنح ليجلي صوته ثم قال بنبرة لطيفة لا تخلو من غرور ذكوري يناسب رجل أعمال فاحش الثراء
((مرحبًا يا معتز.. ما الذي تريده؟))
استغرب معتز من نبرة قصي في الحديث معه إلا أنه لم يعقب واكتفى القول بتحذير
((اغلق الهاتف يا قصي وعد لعملك، لقد انتهى وقت راحتك.. تجاوزك وقت الراحة لن يتسبب في خصم راتبك وحسب بل سيجبرني أن أعطيك تنبيهك الأخير، مشرفة هذا القسم بنفسها متوعدة لك))
كان لا زال قصي يتسم بالحذر لعلمه بأن سهر لا تزال على الخط وتسمع ما يقوله هو.. فرد على معتز بنبرة رجولية لها وزنها
((لا تقلق سأفعل.. يمكنك الذهاب من هنا))
مال معتز فاهه ببلاهة من نبرة صوت وطريقة قصي في التحدث معه.. هذا الصعلوك يخاطبه وكأنه رئيسه في العمل لا العكس! لكنه مجددًا.. تجاوز الأمر وابتعد من الرواق.. في حين قال قصي لسهر مدَّعيًا الإجهاد
((مشاغل العمل لا تنتهي أبدًا حتى بعد انتهاء وقته.. هذه ضريبة أن أتسلم منصب مرموق كهذا الي أشغله حاليا))
شعرت سهر بالإطراء وهي تراه يوليها جل اهتمام ووقته حتى في أوج انشغاله في العمل.. وقالت له مودعة قبل أن ترسل قبلة شغوفة
((إلى اللقاء يا حبيبي..))
ما إن أغلقت الهاتف حتى انتبهت لشيرين تجلس أمامها مبتسمة برقة لها بعد أن عرفت بأنها تحدث خطيبها..
أمسكت شيرين الشوكة والسكين وبدأت تتناول من الطبق البارد أمامها.. وتمنت في داخلها أن يتم زواج صديقتها عاجلًا.. فبكل صدق هي لم تشعر يوما بالغيرة من صديقتها.. بل مجرد "غبطة" لامتلاكها إنسان مثل خطيبها قصي في حياتها يتحدث معها كل يوم بل في كل ساعة بحب واهتمام..
يسهر ويتسامر معها على الهاتف لساعات الصباح الأولى بينما تذوب بكلماته وهي التي لم يسبق وأن عرفت للخجل معنى إلا عندما خُطِبت لقصي..
اتسعت ابتسامة شيرين متيقظة لحقيقة أن سهر هي الشيء الوحيد في حياتها الذي اختارته بشكل صحيح.. وجميل..
فهي الكتف الذي يسندها وتميل له.. هي البئر الذي ترمي فيه أسرارها.. هي الضحكة التي تخرج من قلبها.. هي الراحة التي تلقاها بعد التعب..
=============================
تفتت قلب الحاجة زاهية وهي ترى ابنها مَالك متمدد على السرير بوجه ذابل ومرض واضح عليه لتقول بصوتٍ متحشرج وهي تمرر أناملها بحنية بين خصلات شعره
((لا بد أنكَ متعب جدًّا يا بني فأنتَ حتى في أيام مرضك لا تبدُ بهذا الذبول والضعف))
رد مالك بصوته الأجش بلا تعبير
((نعم أمي حرارتي مرتفعة قليلًا))
تناولت زاهية الكمادات الموضوعة على جبينه المتفصد عرقًا ثم وضعتها داخل الوعاء قائلة
((سأذهب لأبدل ماء الكمادات وعندما أعود أريد منكَ أن تكون قد انتهيت من تناول الطعام أمامك))
قال لوالدته بصوتٍ مجهد من إعياءه
((حلقي يؤلمني ولا طاقة لي ببلع أي شيء يا أمي))
قالت زاهية بحزم ممزوج بحنان أمومتها وهي تخطو للخارج
((حاول يا مَالك لأنه لو تطلب الأمر مني فسأطعمك بيدي، المهم أن يدخل معدتك شيء من الطعام حتى تستطيع شرب دوائك))
بمجرد أن أوصدت والدته الباب خلفها حتى مد يده يلتقط هاتفه رغم شعوره السليط بالإعياء.. ضغط على عدة خيارات ثم قربه من أذنه.. وما إن فتح الطرف الآخر الخط عليه حتى قال مَالك بنبرة مكتومة فاقدة للسيطرة دون أن يتمَالك مشاعره بحضرة صوتها
((مرحبًا يا سمية))
سألته سمية باستغراب من بحة صوته
((مرحبًا، هل حدث شيء؟))
ارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه وهو يقول باشتياق
((لا وهل يجب أن يكون قد حدث شيء لأتصل بكِ))
وصله محاولاتها لأخذ نفس عميق قبل أن تقول بجفاء تلجأ له لتقطع عليه كل سبله إليها
((مَالك كم مرة أخبرتك ألا تتصل بي إلا لو حدث شيء ضروري ليزيد! غير ذلك فلا!))
صمت قليلًا وتلك الرسمية التي تتعامل بها معه بالإضافة لمحاولاتها الدائمة في وضع حواجز جديدة بينهما تحرق دمه رغم علمه بأنه الصواب.. قال لها بصوته الأجش
((أنا مريض، ولا أظن بأني قادر على الخروج من البيت أو حتى السرير في الأيام القادمة، ولم أسمع صوتك أو صوت يزيد..))
أرخت سمية التي كانت تتحدث معه على الهاتف من الجهة الأخرى أهدابها ونبضها يتصاعد برقبتها حرارة لترد ببرود قاتم
((سلامتك.. عندما تتعافى سترى يزيد.. هل تريد شيء آخر قبل أن اغلق الهاتف؟))
عبس مَالك يستنكر طريقة حديثها معه حتى بعد معرفتها بإعيائه
((لماذا تتحدثين معي بهذا الشكل؟ ما الذي تغير لتصبحي أكثر قسوة وجفاءً معي عن قبل؟))
ردت عليه بثبات غاضب محترق
((بعد آخر موقف حدث بيننا ومحاولتك التدخل في تربية ابني والتحكم به وبأمر بسيط كرحلة مدرسية رأيت بأن عليّ البدء في إعادة النظر لكل من يحيط بي، ولمن لهم بالغ الأثر في تكوين صورتي عن ذاتي ويتسببون في إشعاري بالنقص))
قرب ما بين حاجبيه يسألها
((لا أفهم كلامك.. ماذا تعنين؟))
ردت عليه بحزم
((ستصبح لدي حدود صارمة أكثر من قبل معكَ/ فليس لأني وحيدة ومطلقة ولا ظهر لي سأسمح لكَ أن تستنقص مني ومن طريقة تربيتي ليزيد رغم عدم إنكاري حقك فيه.. إلى اللقاء))
أغلقت سمية الهاتف في وجهه فصمت مَالك وقلبه يُخسَف هاويًا كصرخة رجولة موجوعة داخله..
وضع الهاتف على المنضدة الصغيرة بجانبه بقوة ثم أغلق عينيه.. في حين أظهر ذهنه له مشهد من الماضي قبل عِقد مضي.. تحديدًا قبل ثلاثة أيام من موعد زفاف سمية من خطيبها الأخرق كامل..
وقتها كان رافضًا للطعام والشراب بشكل تام حتى أن والديه أخذاه للمشفى وهناك وضعوا له محلولًا وفيتامينات لأنه فقد الكثير من جسمه.. وعندما سأله الطبيب عن السبب النفسي الذي دفعه إلى الإضراب عن الطعام والشراب تحجج بإنه في انتظار نتائج قبول الجامعة والأمر يتسبب بتوتره.. وعندما عاد بقي طوال اليوم مستلقيًا فوق السرير منهار القوى وحرارة جسده الذي يسري مرض العشق في أوردته مرتفعة..
آنذاك عندما كان ابن الثامنة عشر فتح عينيه ينظر للسقف الأبيض لدقائق طويلة قبل أن ينتشله من شروده طرقات باب غرفته فأذن للطارق الدخول ثم قال وهو على نفس وضيعته
((ضعي يا منال الحساء جانبًا، أريد شرب شيء الآن))
بخلاف ما توقعه وصله صوت مختلف ناعم يعتريه القلق
((أنا سمية يا مَالك))
اعتدل مَالك جالسًا على الفور بصدمة دون مراعاة لحالته الصحية جعلت منه يغمض إحدى عينيه ويشهق ألمًا وهو يشعر بشيء يفتك رأسه.. حتى أن المنديل البارد الذي كان موضوعًا فوق جبينه المتعرق سقط أرضًا..
فتح عينه الأخرى وهو يقول دون إدراك إن كانت أمامه فعلًا أم أنه يتوهم
((سمية! ماذا تفعلين هنا؟))
ردت عليه وهي تتحاشى النظر في صوب عينيه بصوتها الذي كان كالبلسم عليه بينما لا تزال تحمل صينية الحساء
((سمعت أنكَ مريض بشدة فأخذت الحساء الذي كانت تعده منال لكَ وجلبته لأطمئن عليكَ، فربما تكون هذه المرة هي الأخير قبل حفل زفافي من كامل))
همس لها مَالك متسائلًا بصوتٍ مضطرب كما ذهنه
((المرة الأخيرة للقائنا؟ لماذا!))
صمتت ولم يعرف ما يدور في خلدها تلك اللحظة لتجيبه بصراحة بعد لحظات بحذر شديد
((كامل غضب مني وتشاجر عندما عرف بأني أعطيتك الدعوات وحذرني من التحدث معكَ أو غيرك أو حتى الدخول لهذا القصر بعد زواجنا))
أظلمت خضرة عينيه المجروحة مسبقًا بعذاب الرحيل ليدمدم بخفوت
((حذَّركِ من التحدث معي وأنتِ وافقتِ ببساطة؟))
عقدت سمية حاجبيها تقول مستنكرة
((بالتأكيد سأوافق، كيف أرفض ما يقوله وغدًا سيكون زوجًا لي!))
رد مَالك عليها بعصبية غير طبيعية وعيناه تتقدان بنيرانٍ مضطرمة
((هل تتخلين عني بهذه السهولة؟ ألا أعني لكِ حقًا أي شيء؟ الم تعتبريني سابقًا صديقًا لكِ وأخًا صغيرًا وقلتِ بأن ما بيننا علاقة عميقة.. أنتِ مخبأ أسراري وأنا أيضًا هكذا بالنسبة لكِ.. أنا من أحب الناس إليكِ.. أعرف هذا جيدًا))
ثم استرسل لها بنفس تعابيره السابقة
((ثم أنا بنظرك وبنظره لستُ إلا مراهقًا يصغرك بسبع سنوات فلماذا قد يمنعني من التواجد بحياتك بعد أن يتزوج منكِ! إلا أذا لم يكن عنده ثقة بكِ! أو عندكِ أنتِ ثقة بنفسك!))
كانت آخر جملة في حديثه بنبرة ذات معنى لم تستطع سمية أن تستنبطها فتنهدت ثم قالت بصبر دون انفعال
((الأمر ليس هكذا))
هتف مَالك بها وكل عصب فيه يرتجف غضبًا
((بلى هو هكذا.. ثم أنتِ أليس لديكِ شخصية؟ كيف تسمحين له أن يملي شروطه عليكِ؟ لو كان يحبك لما طلب منكِ أن تقطعي علاقتك بي نهائيًا))
اتسعت عيناها لوهلة من طريقة كلامه الهجومية.. فتسلل الحزم لملامحها وهي تسحب نفسًا عميقًا ثم قالت بجدية
((مَالك.. أنصت لي.. أنتَ تعني لي الكثير.. وعلاقتنا مميزة.. لطالما كنت بجانبي وقت حزني.. ولطالما ساعدتني عندما كنت أقع في المشاكل.. أنتَ ملم بكل شيء يتعلق بي.. ولكن كنت أسمح لكَ أن تأخذ هذه المساحة في حياتي لأني لم أراكَ إلا مراهق وفتى يصغرني بالكثير لكن الآن أرى خطأ استمرار هذا الود بيننا.. فأنتَ لم تعد ذاك المراهق الصغير.. انظر لنفسك يا مَالك أنتَ تفوقني طولًا.. ربما بعشرين سنتيمترًا.. ومن يراك يظن أنكَ في سني.. لا يصح أن تتواجد هذه الأريحية بيننا.. حتى لو لم يطلب مني كامل ذلك كنت لأقطع علاقتي بكَ نهائيًا))
ازداد وجه مَالك الشاحب شحوبًا لما سمعه منها.. وهو يدرك في صميمه صحة ما تقوله! أما هي تابعت حديثها الصائب وأكملت قائلة
((ثم إن الأمر لا يتعلق بكامل بل أي رجل في العالم مهما كان متفتحًا لم يكن ليقبل أن يكون لزوجته صديق رجل ويرافقها في السراء والضراء، ليس لقصور في عقله بل لأنه لا يجوز وغير مشروع، لا كبرياء الرجل ولا كرامته ولا دينه يسمح بذلك.. وخاصة أن علاقتنا هذه وطيدة جدًا جدًّا.. حتى الحيوانات تتقاتل أن اقترب ذكر من أنثاها فكن حيادي يا مَالك أرجوك في هذا الأمر وضع نفسك في مكان كامل فأنتَ رجل مثله))
ساد صمت ثقيل بينهما.. وشعر مَالك بالذنب الشديد بعد أن استرد شيء من صوابه وعقله الذي يميز له الصواب من الخطأ.. لكنه ورغم كل شيء لا يتمنَ في حياته أكثر من بقائها فيها ورؤيتها من حين لآخر.. فقد زهد بكل شيء وهو قابل أن يكتفي فقط بأن يستمتع بهذا الحب من طرفة لوحده فقط.. ولا يطمع كثيرًا أن تبادله فيه.. نعم.. هو راضٍ وسعيد بما يصله منها من مشاعر رقيقة بريئة واهتمام وخوف عليه كأخ صغير.. ولا يريد أن يتلاشى بعد زواجها فهي لن تستطيع حتى رؤيته!
احمر وجه مَالك وبدا كأنه يصارع في داخله بين حبه لها وبين ما هو صواب وصحيح.. يمنعه ألف تهديدٍ وتحذير رغم ثوران مشاعره وفي نفس الوقت يتزايد الضغط عليه دون أن يظن بأنه قادر على ترويض مشاعره.. فعادت سمية تقول له برجاء
((يا مَالك تفهمني أرجوك.. أعرف أن الأمر شائك.. ولكني حتى وضعت نفسي مكان كامل.. ووجدت بأنه لو امتلك صديقة مقربة جدًا منه فسأجن.. لن أتحمل هذا وستأكلني الغيرة عليه مهما بدت العلاقة بريئة بينهما))
قست ملامحه بهذه اللحظات إلا أنه أخفض نظره أكثر وأكثر كطفل مذنب في تفكيره من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه..
خفق قلبها بقوة تأثرًا به لكنها قالت له بعبوس تحاول إقناعه أكثر
((مَالك عندما تصبح في عمر الزواج، هل تعتقد بأن خطيبتك سترضى أن أبقى في حياتك بحجة أني مجرد صديقة وأكبرك في السن؟ بالتأكيد لا.. بل ستشعر بأني أشاركها في زوجها وستراني عدوتها اللدودة حتى لو كنتُ لا أقارن بها بشيء))
ارتفعت عينا مَالك لها بحذرٍ شديد.. وحركه التهور والسخف ليقول بصوتٍ هادئ خال من أي مشاعر ظاهرة إلا التردد مندفعًا بأنانية
((حسنًا إذن.. لن أتزوج من أي امرأة أخرى لأجلك فافعلي أنتِ نفس الشيء ولا تُتِمي زواجك من أجلي))
عقّبت سمية على كلامه بفتور وهي تضع الصينية فوق المنضدة
((العمر يمر بي بسرعة وعليّ أن أفكر بعقلانية بدلًا من سماع ترهاتك، لست مجنونة لأختار أن أبقى بلا زواج من أجل أي أحد))
أشاح بوجهه عنها بألم هي مصدره.. تذبحه من الوريد للوريد.. اهتزت عضلة فكه وهو يغلق عينيه لثوانِ قبل أن يقول من بين أنفاسه اللاهثة بفعل انفعاله الآن رغم مرضه
((لن تحتاجي أن تبقي بلا زواج للأبد، أنا في الثامنة عشر، انتظري القليل.. القليل فقط وسأتزوجك أنا))
أرخت فكها وهي تنظر له بلا تصديق لتتمتم بخفوت باهت
((تتزوجني؟ هل أنتَ مجنون!))
قال بإصرار وعينيه تقدحان عزيمة
((لماذا مجنون؟ أنا أحبك وسأكون مجنونًا لو أفلتك من يدي))
اتسعت حدقتيها ملء جفونها وهي تتمتم بنفس النبرة السابقة
((تحبني؟))
همس بحشرجة مخنوقة.. وكل مشاعره المتألمة وحرارة مرضه تهاجمانه
((نعم أحبك.. يقال بأن الروح تشرق برؤية ابتسامة من يحب، وهذا ما أشعره في كل مرة تبتسمين لي))
راقب مَالك ملامحها الساكنة لثوان قبل أن يراها تنفرج لتنفجر ضاحكة حتى أدمعت عيناها..
هنا انسحب الدم منه كالمرض وهو يقول بتحفز
((لماذا تسخرين مني! أنا سأتزوجك حقًا وأريد منكِ أن تنتظريني))
رفعت أناملها تمسح عينيها وهي تقول من بين ضحكاتها التي بدأت تخفت بشكل تدريجي
((لطالما شعرت أنكَ تبادلني مشاعر جميلة من أجل صداقتنا هذه لكن لم أتخيل أنكَ تحبني، أنا لا أراك إلا أخ صغير.. صحيح أن عقلك يكبر من هم في جيلك لكنكَ تظل أمامي هكذا وعليكَ ألا تراني أكثر من أخت كبرى لكَ))
عاودت النظر لساعة يدها أمام عينيه المحترقتين لتهكمها من مشاعره وهي تقول على عجل
((عليّ الآن أن أعود للبيت، لم أنهي بعد استعدادي للزواج))
قاطعها وهو يزعق فيها وقد أطل من عينيه الغضب والقهر
((ولكني لا أراكِ أختًا كبيرة.. بل حبيبة لا أريد الزواج إلا منها.. أنا أحبك.. أحبك بكل جوارحي))
رفعت عينيها تناظر وجهه وتنتبه لأنفاسه المتلاحقة المتعبة التي بفعل مرضه.. أو ربما مشاعره الموهومة! طال حوار الروح وصمت اللسان بينهما.. وشعرت بأنه يصارع بين عقله وقلبه.. بين مشاعره وبين واقعه..
فأغمضت عينيها للحظات تحاول استعادة رباطة جأشها ثم قالت مبتسمة ببهوت
((ثق بي يا مَالك بأنكَ في المستقبل ستحب عشرات الفتيات غيري وستضحك من نفسك على ما قلته قبل قليل..))
لم يرد على الفور إلا إنه ما إن رآها تسير نحو عتبة الباب حتى قال
((أبدًا.. لن أفكر بغيرك.. وسأظل أحبك حتى آخر عمري))
التفتت برأسها له فاغرة الشفتين قليلًا دون أن تجد ما تقوله أمام ملامحه التي تضج باختناق نار الغيرة وعتاب القلب وهو يسترسل لها بصوتٍ أجش خافت
((أرجوكِ لا تتركيني أتجرع الموت بفراقك!))
لكنها قاومت ضعفها تجاهه وهي ترد عليه بقسوة
((لقد جئت فقط لأتفقد مرضك وبما أني اطمأننت بأنكَ بخير، سأغادر))
قطَّب جبينه في استنكار جمّ يقول بصوتٍ حاد وعنفوان رغم إعيائه
((أنا واقع في الحب، لستُ بخير))
زفرت بقوة وهي ترفع يدها إلى جبهتها الباردة محدقة في السقف بعينين مضطربتين.. ثم قالت له بنفاذ صبر
((بل موهوم بذلك، وهذا أمر طبيعي يمر به جميع الأولاد الذين بسنك.. الأمر فقط أنكَ حساس))
عقد حاجبيه يقول بغضب
((سمية توقفي عن السخرية مني))
حولت نظرها له تقول
((مَالك أنا أعشق كامل ومكتوبة له منذ سنوات والآن فقط استطاع أن يُكِّوِن نفسه وثلاث أيام قبل أن نعقد قراننا ونتزوج.. على كلٍ.. أنا لن أقول لأحد شيئا عن كلامك السخيف، لأنكَ ستنسى بعد أسابيع أو أشهر ولن يكون من الجميل أن يُذَكِّرك أحد بهذا الأمر.. إلى اللقاء))
كانت قد خرجت من غرفته وهمت في إغلاق الباب خلفها عندما قال لها هاتفا
((أنتِ تتوهمين حبه، لم أراكِ يومًا تتحدين عنه وعن حبك له بل كنتِ أحيانًا تنسين بأنكِ ستتزوجين منه فأمضيت فترة الخطبة دون أن تتحدثي معه أو تريه))
شعرت بالغضب من تشكيكه بحبها لمن سيكون زوجها خلال أيام.. هي تملك الكثير من المشاعر العميقة لمَالك لكنها لا تضاهي حبها تجاه كامل بشيء..
لجمت سمية غصبها منه واكتفت أن تقول
((لا تكثر يا مَالك من كلامك السخيف هذا، لو سمع الحاج يعقوب ما تقوله لقتلك حرفيًا، فليس رجل صالح من يخَبَّبَ أمرأه على الرجل الذي سيكون زوجًا لها أو يخطُبُ على خِطبةِ أخيه))
صفقت الباب خلفها بقوة وابتعدت.. أما هو فأصابته نوبة من البكاء الهستيري ودفن نفسه تحت غطائه يبكي بدموع مراهق عاشق حبه الذي سيضيع من بين يديه.. شعر بارتجاف أوصاله بينما يفكر بطريقة ليمنع هذا الزواج ويبقيها له لكنه لم يتوصل إلى نتيجة بالرغم من الأفكار التي كانت تتراكض وتتسارع في رأسه!
فهل يضرب بكل المنطق عرض الحائط ويخطفها بمنتهى الأنانية؟
كادت هذه الفكرة أن تشع حرفيًا بعقله وتتداخل حتى تتعمق وينفذها.. لكن لا.. مستحيل.. لقد خيَّب ظنها وخسر احترامه لنفسه.. ولا يجور عليه أن يتجاوز حدوده أكثر من ذلك..
وفي يوم زفافها صمّت أصوات المفرقعات والزغاريد المنطلقة من منزلهم أذانه فضل لساعات يضع يديه على أذنيه.. لم يستطع أن يفعل شيئًا.. لم يستطع رؤيتها وهي تخرج بفستان الزفاف كما طلبت منه متأملة.. لكن حاول ترويض كل ما يشعر به وهو يخبر نفسه بأن عليه أن يكون في أقصى سعادته من أجلها.. طالما تزوجت من الرجل الذي تريد أن تتزوجه.. ورجى أن تعذره لاحقًا على حبه لها وأن تقبل اعتذاره الذي لن ينطقه لها لأنه أحبها.. دون أن يقصد..
=============================
بمجرد أن انتهت صاحبة الصالون من زينة وجه شيرين حتى ابتعدت تنظر لوجهها مشيدة بعملها بكل فخر
((ما شاء الله يا عروس تبدين في غاية الجمال والبهاء، وعينيكِ المكحلتين هما ما يزيدانك فتنة وجمالًا))
إطراء العاملة في الصالون بعينيها الكحيلتين جعل شيء من الضيق والانزعاج يتجلى على ملامحها لتعبس بتلقائية..
هذ ما يدعوها دائمًا وليد به!
وافقت سهر على كلام العاملة مؤيدة
((معكِ حق فعينيّ صديقتي يليق عليهما الكحلة وتكسبهما حجمًا أكبر وجمالًا وجاذبية))
تضرجت وجنتي شيرين بالخجل من هذا الكم الكبير من الإطراء من سهر فلكزتها.. لكن سهر هدرت بعتاب بينما تبارحهما صاحبة الصالون لتنشغل بعميلة أخرى
((لماذا لم تحجزي جلسة تصوير لي ولكِ؟ ألن أهمك بعد زواجك؟))
نظرت لها شيرين تمط شفتيها بعبوس ثم قالت
((أيتها البلهاء سأقيم الكثير من جلسات التصوير لكن الآن أريد من زواجي أن يتم بدون أي مشاكل))
التفتت شيرين تنظر للمرآة أمامها وهي تستقيم من جلستها فتبتسم فرحًا وعيناها تتألقان بالبهجة..
كانت ترتدي فستانًا يلف جسدها بنعومة حتى أسفل خصرها ثم يتسع الحرير وينساب حتى الأرض..
شيء فيها كان يشع بالتفاؤل لأن الرائد مُعاذ أخبرها بأنه قد حجز فندقًا لأسبوع لها.. لم قد يحجز أي رجل أسبوعًا كاملًا في الفندق من أجل زواج صوري إلا إذا كان يمتلك خطط أخرى!
سألتها سهر بفضول وهي تراها غارقة في سعادة عارمة
((ماذا لو طلب يا شيرين منكِ أن تسكني في القرية عند عائلته بعد أن يعرفوا بزواجكم؟ فأنتِ بت تكرهين أجواء القرى ولا نية لكِ للعودة هناك))
قالت شيرين بعفوية
((لا أدري يا سهر، لقد حجز لنا بفندق واسع لأسبوع، باقي الأمور سنتناقش فيها لاحقًا))
قالت سهر وهي تكتم ابتسامتها المبتهجة بالسعادة لأجل صديقة عمرها ((هذا أفضل))
تنهدت شيرين ثم قالت بصوتٍ حيادي
((ربما أكون قد بالغت في تشويه صورة قريتي السابقة أمامك لما لاقيته من ظلم مجحف بحقي من قبل معظم أهلها عندما ألغى وليد زفافنا، ولربما البعض منهم ليسوا أناسًا لطيفون ولا يبذلون الكثير من الجهد في التعبير عن سعادتهم ومحبتهم لمن حولهم لكنهم ليسوا بهذا السوء))
تمتمت سهر بتردد وهي لا تعرف ماذا تجيب ((ربما))
شردت عيني شيرين بخضرة الحنين وهي تقول بصوتٍ يغمره دفئ الماضي
((قريتي التي كنت فيها قبل أن ترحل عائلتي كانت على عكس المدينة.. فهناك لم تكن مواعيد زيارة ولا إتيكيت بل كان أهل كل بيت يشربون الشاي وقت الضحى وكل من أراد المشاركة فهو مرحّب به.. الحقيقة ورغمًا عني اشتاق لها، واشتاق لأهلها الطيبون منهم.. لن أمانع أن أعود للعيش هناك.. ولكن بالطبع كزوجة للرائد مُعاذ فقط))
خرجت شيرين من شرود ذهنها وهي تنتبه لرنين هاتفها الموضوع فوق المنضدة.. فتناولته وهي ترى اسم مُعاذ يعلو الشاشة
((أوه إنه مُعاذ يتصل بي..))
قالت سهر بلهفة وهي تمسك حقيبة شيرين الصغيرة
((هيا.. هيا سارعي في الخروج))
ألقت شيرين السلام على صاحبة الصالون التي كانت منشغلة مع مساعداتها بزينة وجه عروس أخرى في حين هي خطت برزانة نحو خارج الصالون حيث يركن مُعاذ سيارته..
بمجرد أن لمح مُعاذ شيرين تخرج من الصالون المتفق عليه حتى ترجل من السيارة يدمدم بخفوت لها
((مرحبًا شيرين..))
لا تعرف لماذا قلبها أخذ يدق بسرعة هكذا وهي تتطلع لوجهه عن هذا القرب.. تتعلق نظراتها للحظات بلحيته الكثيفة التي يتخللها قليل من الشيب قبل أن تنكس نظرها خجلًا وهي تقول بحياء ((أهلًا مُعاذ))
في حين لم تكن سهر تشعر بالرضا وهي تراه يقف أمامهن بملامحه المتجهمة هذه.. لم يبدُ حتى أنه حاول أنه بذل أي جهد ليبدو مظهره في أفضل حال.. بل بدا كمن هو ذاهب لجنازة مجبرًا.. فتنحنحت من مكانها تجلي صوتها قبل أن تقول بنبرة غلفها البرود
((سأذهب معكما للمحكمة، هل جلبت شهود؟))
التفت مُعاذ لسهر وقد ازداد انعقاد حاجبيه ثم رد عليها بخشونة مريبة
((بهذا الشأن أريد أن أتحدث معكِ يا شيرين ولكن ليس هنا، في البداية اصعدا السيارة))
استقلت سهر السيارة في المقعد الخلفي قبلها بجرأة.. أما شيرين فشعرت بوجود خطب ما وريبة إلا أنها لحقت بسهر تجلس بجانبها وصعد مُعاذ السيارة أخيرًا خلف عجلة المقود..
عندما شغل المحرك استرقت شيرين النظر للمرأة الأمامية لتطالعه.. بدا وجهه متصلّب وعيناه لا ترفّان.. وكأنه يحمل في داخله كلامًا لها سيتسبب بتوترها.. لكنها ارتأت أن تتجاهل هذه الأفكار السلبية وألا تسمح لشيء في إفساد هذا اليوم، رغم أنه بدا غير مبشرًا فهو لم يكلف نفسه ولو لثانية في امتداح مظهرها الفاتن بكلمة أو تأمل جمالها..
ظل الصمت الثقيل يلف الأجواء داخل السيارة حتى أوقفها مُعاذ أمام إحدى الفنادق بهدوء مريب لا يقطعه إلا صوت مرور السيارات المسرعة على الطريق العام.. فتغضنت ملامح سهر بتوجس لتسأله دون تروي
((ألا يجب أن نذهب للمحكمة أولًا؟))
صوت سهر المستفزّ لأعصابه كما وجودها الآن بينهما جعله يستدير نصف استدارة للخلف لهما يقول
((هل يمكن يا سهر أن تتركينا أنا وشيرين نتحدث لدقيقة واحدة هنا منفردين؟))
توترت شيرين أكثر وهي تنصت لكلامه.. لكن قالت سهر بشيء من الانفعال وقد شعرت بشيء خاطئ فيه
((شيرين ستخبرني ما ستقوله لها حرفيًا فاختصر على نفسك وتحدث أمامي، لماذا توقفت هنا؟))
نظر مُعاذ حوله قليلًا بانضباط انفعالي ثم أغمض عينيه مستعيذًا من الشيطان.. فليتجاهل مسألة وجود سهر المزعجة طالما أن الأمر يريح شيرين..
فتح عينيه يقول بصوتٍ باهت كما ملامحه المجهدة
((لا أظن أن علينا يا شيرين المضي قدمًا في هذا الزواج))
بدأ صدر شيرين يعلو ويهبط بينما تنظر إليه غير مصدقة وكأن ما قاله معضلة صعبة الفهم..
=============================
انتهى الفصل.

 
 

 

عرض البوم صور Hya ssin   رد مع اقتباس
قديم 22-05-22, 04:15 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2022
العضوية: 338274
المشاركات: 10
الجنس ذكر
معدل التقييم: Hya ssin عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Hya ssin غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : Hya ssin المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: قلبك منفاي

 

الفصل السابع

تغضنت ملامح سهر بتوجس وهي تسأل معاذ بجدية لا تحمل تروي
((لماذا ركنت السيارة أمام الفندق؟ ألا يجب أن نذهب للمحكمة أولًا؟))
صوت سهر المستفزّ لأعصابه كما وجودها الآن بينهما جعله يستدير نصف استدارة للخلف لهما يقول
((هل يمكن يا سهر أن تتركينا أنا وشيرين نتحدث لدقيقة واحدة هنا منفردين؟))
توترت شيرين أكثر وهي تنصت لكلامه.. لكن قالت سهر بشيء من الانفعال وقد شعرت بخطب ما
((لا أريد.. أنا صديقتها المفضلة والمقربة.. شيرين ستخبرني ما ستقوله لها حرفيًا فاختصر على نفسك وتحدث أمامي، لماذا توقفت هنا؟))
نظر مُعاذ حوله قليلًا بانضباط انفعالي ثم أغمض عينيه مستعيذًا من الشيطان.. فليتجاهل مسألة وجود سهر المزعجة طالما أن الأمر يريح شيرين..
فتح عينيه يقول بصوتٍ باهت كما ملامحه المجهدة لشيرين
((لا أظن أن علينا أن نمضي قدمًا في هذا الزواج))
بدأ صدر شيرين يعلو ويهبط بينما تنظر إليه غير مصدقة وكأن ما قاله معضلة صعبة الفهم.. واستغرق الأمر منها لحظات طويلة قبل أن تغمغم له متسائلة بصوتٍ خافت
((لا أفهم ما تقوله، ألن نذهب للمحكمة الآن؟))
رد عليها بصلابة حاول التحلي بها
((لا لن نفعل))
بدأ الاستيعاب يتسرب لعقلها لتستنتج ما يقصده الآن فيحتقن وجهها.. شعرت بما يقوله بمثابة طعنة غدر منه فهتفت تستهجن تراجعه عن الاتفاق
((وماذا عن أخوالي! لقد ذهبت بنفسك لإقناعهم أن نتزوج بهذا الشكل))
عيناها المصوبتان في عينيه كانت خضرتهما تتوهجان بألم لامس قلبه.. إلا أنه لم يكن ليتراجع عن قراره الذي اتخذه، فما تفكر فيه ما هو إلا سخافة ومهزلة!
الزواج ارتباط مقدس وأكبر من أن يتم تدنيسه بالتعامل معه وكأنه عقد عمل أو شيء مشابه لهذا..
لقد أخطأ في استسلامه لطلبها سابقًا..
ولكن لم يفت الأوان بعد للتراجع عن هذه الحماقة التي تريده أن يقبل عليها معها..
فأغمض عينيه مجددًا للحظات يحاول التركيز ثم قال بصوته الرزين
((سأتولى مسألة إخبارهم بأننا لم نتمه))
تساءلت باضطراب وتوجس
((تتحدث عن الأمر ببساطة بالغة! أنتَ تسيء لي))
لف العبوس ملامحه وهو يجيبها بعقلانية
((تراجعي عن هذه المهزلة التي تريدين مني أن أُقدِم عليها ليس إساءة في حقك، الإساءة الحقيقية أن امضي قدمًا في زواج تريدينه أن يكون صوريًا!))
قالت له باضطراب شديد يغزو صوتها كما ملامحها
((لا أصدق ما تفعله بي في نفس اليوم المقرر أن يكون يوم زواجنا!))
رغم إرهاقه وضعفه أمام ملامح الألم الظاهرة من ملامحها سيطر على نفسه وقال بصوتٍ هادئ
((بل صدقي لأني أريد مصلحتك، فلا يصح أن يحسب هذا الزواج عليكِ بعد أن ننفصل، الطلاق ليس سهلًا لكِ كامرأة.. وسأتحدث مع أخوالك في مسألة الضغط على زواجك، إنهم متفهمين جدًّا ولن يصعب عليهم إدراك أنه من حقك الزواج فقط من الرجل الذي ترينه مناسبًا لكِ))
ظلت عينيها تنظر في عينيه في مشهد رهيب بينهما وكأنهما انعزلا عن كل شيء.. كل شيء سكن وهما يحدقان ببعضهما.. تناظره هي بألم بينما يبادلها هو الاعتذار الذي لا يحمل من الندم أو التراجع شيء..
قالت سهر التي كان تعيش هي الأخرى حالة من الصدمة بما أعادهما للواقع
((حسنًا أوصلنا للبيت يا مُعاذ، فلم تجلب أي واحدة منّا سيارتها.. أعدنا ولننهي كل شيء لم يبدأ أصلًا))
تطلع مُعاذ ببرود نحو سهر بينما يهدر
((بما أن حقائب شيرين معي في السيارة سأنزلها إلى الجناح الذي حجزته أنا في هذا الفندق))
زعقت به سهر بغضب مطبق على عينيها
((لن تنزل صديقتي الى أي فندق لوحدها))
نظر مُعاذ لها بصرامة يقول وهو يفك حزام أمانه
((لذلك حجزته لفردين لتقيمي معها عدة أيام))
نظرت سهر في عينيه وهي تقول بشموخ
((شكرًا لكَ لكن لا نريد أي معروف منك))
إلا أنه تجاهلها وهوي يترجل من السيارة مدمدمًا
((سأسبقكنّ للبهو لآخذ مفتاح الجناح الذي حجزته..))
نظرت سهر بقلق لصديقتها الجالسة جانبًا بوجه شاحب قبل أن تراها تفتح المقبض وتترجل من السيارة بحركة لا حياة فيها..
صدح فجأة صوت رنين هاتفها إلا أنها أغلقته بلا اهتمام وترجلت هي الأخرى تلحق بها.. وبمجرد أن دخلتا الاثنتين بهو الفندق حتى تقدم منهما مُعاذ وناول سهر مفتاح الجناح
((تفضلي يا سهر، سأغادر الآن))
وضع أحد الموظفين حقائب شيرين العديدة أمام جناحها.. فأخرجت سهر بقشيش تسلمه للموظف الذي شكرهما بامتنان..
تصاعد مجددا رنين هاتف سهر لكنها أغلقت الاتصال الذي وردها مرة أخرى رغم انتباهها هذه المرة أنه من أمها..
فتحت باب الجناح لشيرين ثم أوصدته خلفهما عقب أن جرّت باقي الحقائب بصعوبة للداخل لثقل حجمهم..
تطلعت بحزن وقهر على حال صديقتها لتجد دمعاتها قد انسابت بحرارة على وجنتيها الشاحبتين فسارعت تقول وهي تقترب منها بينما تكفكف هذه الدموع
((هل تبكين يا شيري؟ ذاك الرائد الحقير لا يستحق بكائك))
زمّت شيرين شفتيها تحاول كبح المزيد من الدموع ثم قالت بصوتٍ مرتعش وهي تشيح بوجهها جانبًا
((لا بأس يا سهر أنا بخير، ليست أول مرة أُترك في نفس اليوم المقرر لزواجي، هل سأكون بحاجة أن أُترك سبع أو ثمان مرات حتى اعتاد الأمر!))
كانت سهر تهم بالتحدث بما قد يخفف عنها إلا أن صوت قدوم رسالة لهاتفها داهمها.. شيء مريب في داخلها جعلها هذه المرة تنتشل الهاتف من حقيبتها وتتفحص محتوى رسالة أمها على الأقل بما إنها لم تكن قادرة على الإجابة..
لحظات مرّت عليها قبل أن تهتف بصدمة تعتريها
((يا إلهي.. لا يا إلهي))
كانت ملامح القلق المفرطة تغلف ملامحها وهي تسارع الاتصال بأمها ووضع الهاتف بارتباك في القرب من أذنها..
انتبهت شيرين لحال سهر فتساءلت بخفوت وقلق
((ماذا حدث يا سهر؟))
أجابتها وارتباكها يزيد
((أبي في المشفى، أحاول أن اتصل بأمي الآن ولكنها لا ترد))
اتسعت عينا شيرين بقلق يجتاحها على حال والد سهر فتساءلت على الفور
((ماذا كتبت لكِ؟))
قالت سهر وهي تحاول الاتصال بوالدتها مرة أخرى
((أخبرتني أن التعب داهم أبي فجأة وذهب للمشفى، حاله صار أفضل ولكنهما لن يعودا اليوم للبيت))
مدت شيرين كفها تضعها فوق كتف سهر تطمئنها
((الحمد لله أنه أصبح بخير، أنتِ تعرفين أن الكبد لديه متعب..))
بالكاد منعت سهر عَبَارتها من الانزلاق وهي تقول بصوتٍ مرتجف من فرط خوفها على والدها
((لن أشعر بالراحة قبل أن أذهب للمشفى ورؤيته، لماذا أمي لا ترد!)
سيطرت شيرين على مشاعرها سريعًا كما اعتادت أن تخمدها ولو مؤقتًا لتحثها قائلة
((اذهبي فورًا ولا تقلقي بشأني، ولو كان حالي يسمح لكنت لحقتك على الفور))
تطلعت سهر لها بحيرة تلفها وهي تشعر نفسها واقعة بين نارين لا تعرف هل تذهب إلى والدها وقد تحسنت حالته على حسب قول أمها أم تظل مع شيرين التي هي في موقف لا تُحسَد عليه! لكن نظرات شيرين التي كانت تطمئنها على حالها وتحثها على رؤية والدها جعلتها تقول لها بصوت مثقل بالاعتذار وهي تهم بالمغادرة
((سأذهب الآن وأعود مساءً لأبيت معكِ))
ودعتها شيرين هاتفة
((لا تعودي، أنا بخير المهم أن تطمئني على والدك))
أوصدت شيرين الباب خلفها متنهدة بإجهاد وبدأت ترفع أناملها تحرر نفسها من وشاحها.. ثم تجولت بأنظارها في المكان الذي تدخله أول مرة وهي تحاول تقصّي مكان دورة المياه.. بمجرد أن وجدتها ودلفت لداخلها حتى أطلقت العنان لمشاعرها البائسة وسمحت لنفسها في الانهيار بمرارة وهي ترتجف من إثر الألم الذي تشعر به يعتريها.. كانت تبكي بحرقة كما لم تبكِ يومًا.. تشعر بالذل.. بالمهانة.. والخسارة.. بكل شيء دفعة واحدة..
وضعت يدها تستند إلى المغسلة.. تدير الصنبور ليتدفق الماء فتغسل وجهها وتفركه بيديها فينزل الماء ملونًا بفعل أصباغ مساحيق الجميل..
.
.
في الأسفل كانت سهر تنزل درجات السلم بخطوات سريعة لتغادر الفندق.. تقف أمام الشارع العام وترفع يدها بغية إيقاف سيارة أجرة غافلة عن الشخص الذي كان يركن سيارته في جانب الطريق يراقبهم بعد أن تبعهم خلف سيارة مُعاذ منذ أن كانتا في صالون التجميل!
=============================
في الصباح الباكر جدًّا.. وبينما كان مُصعب يمشط شعره ينهي تجهيز نفسه قبل الخروج للعمل وصله صوت أجش ناعس ممزوج بالحنق الضمني
((مُصعب لا تنسى مجددًا أن تجلب لي الليلة كتابًا سبق وقرأته لأقراه أنا الأخرى.. أكاد أموت من الملل هنا، والكتب في مكتبة والدك لا تستهويني))
التفت مُصعب برأسه ينظر لها من فوق كتفه كيف تعتدل شبه جالسة وعينيها بأجفان مرخية للنصف بعد أن استيقظت من النوم على حركة جلبته.. فرد باقتضاب
((حسنًا، إذا أتيح لي بعد العمل بعض الوقت سأذهب لإحدى المكاتب، المشكلة هي بأني غالبًا أنسى ما اقرأه))
أسندت ظهرها للسرير تفرك عينيها الأخرى مغمغمه
((هذا مذهل))
أخرج مُصعب من خزانته إحدى أحذيته الرياضية ثم قال لها
((نورين أنا قراءتي أغلبها في مجال عملي ولكن بين حين وآخر اقرأ بعض الكتب التي تقع بين يدي من كتب تتحدث عن تنمية التفكير ومهارات الاتصال والتواصل والتدريب، لكن في الحقيقة لم يعجبني ولا كتاب واحد إلى الحد الذي يبقى مترسخًا اسمه في عقلي))
قطبت حاجبيها تقول بامتعاض
((هل مفاد هذا الكلام أنكَ لن تُحضِر لي أي كتاب اليوم مجددًا!))
وقبل أن يمسك مقبض الباب للمغادرة رفع حاجبيه كمن تذكر شيئًا جعله يعود إلى حيث أجرار المنضدة.. يفتحهم من أولهم لأخرهم ثم يفتش ما بداخله واحدًا تلو الآخر.. فتساءلت بتوجس
((عن ماذا تبحث؟))
استطاع إيجاد مراده أخيرًا فقال وهو يرفعه أمام نظر نورين
((لقد تذكرت فقط الآن هذا الكتاب، تناوليه مِنِّي))
رماه لها فتلقفته بمهارة منه ثم سهمت في التفكير وهي ترخي رأسها نحو الكتاب الذي تمسكه متسائلة
((هل قرأته قبل هذه المرة؟))
أومأ برأسه ثم قال بهدوء وهو يفتح ثلاجته الصغيرة بينما هي تطالعه بملامح توحي بالإنصات التام
((نعم قرأته ويمكنك القول بأنه كتاب هادئ ولطيف، أهدته لي أمي في وقت كنت أمر به ببعض المشاكل والضغط النفسي قد بلغ مني مبلغًا كبيرًا، وكنت اقرأه بين فترات مناوبتي))
لاحظ وهو يفتش في أدراج الثلاجة بأنها لم تترك له إلا عبوة مشروبات غازية واحدة لكنه لم يعقب بل أخد هذه العبوة وهو يحدجها بنظرات ساخطة.. في حين حانت منها نظرة امتنان وهي تخبره بملامحها الناعسة
((شكرًا لكَ يا مُصعب))
بمجرد أن غادر المكان حتى تململت مكانها وهي تتثاءب ثم عادت تدثر نفسها لتخلد في النوم..
=============================
أوصدت تمارا باب غرفة النوم على زوجها بعد أن سجَّلوا خروجًا من المشفى له وعادا للمنزل.. ثم تطلعت لابنتها التي تقف أمامها تخبرها بإجهاد لا يقل عن إجهادها ((لقد غط بالنوم قبل قليل))
أخذت سهر نفسًا عميقًا منهكًا ثم تطلعت لأمها تدمدم بامتنان
((الحمدالله لقد كنتُ قلقة جدًا))
شردت عينا تمارا بحزن ودعت بصوتٍ متحشرج
((أتمنى أن يكرمنا الله عاجلًا غير أجلًا ونجد من يتبرع لوالدك الذي بدأ يعاني من مضاعفات نتيجة إصابته بمرض الكبد المزمن حتى يزيلوا الكبد المتضرر منه ويستعيضوا بجزء من كبد آخر سليم))
تمتمت سهر بـ"آمين" ثم قالت بنفس نبرة صوتها المجهد وهي تخرج هاتفها
((سأذهب لاتصل بشيرين))
تحولت ملامح تمارا لأخرى مدققة وقالت بفضول يكتنف نبرتها
((بعد أن يهدأ بالي عليّ أن أتحرى أمر صديقتك هذه فلماذا أوقفت فجأة أمر زواجها ولم تعد تريد الزواج من ذاك الرائد!))
عقدت سهر حاجبيها بيأس من أمها، وقالت وهي تحيد مبتعدة
((سأخبرك السبب فيما بعد أمي، فيما بعد))
جلست سهر على أريكة طويلة موضوعة في بهو منزلها وبدأت تطلب رقم شرين..
في الأمس اتصلت شيرين بها لتطمئن على والدها وكانت مُصِرَّة على القدوم لولا قسمها عليها بأغلظ الأيمان ألا تفعل لأن والدها بخير وسيعود للمنزل صباح اليوم التالي..
بمجرد أن فُتح الخط حتى قالت سهر بلهفة وقلق
((مرحبًا شيري، لا أدري إذا كنت استيقظت بعد فلا زال الوقت مبكر ولكن سأمر الآن عندك حتى..))
قاطعتها شيرين بصوتٍ ثابت ومشدود كالوتر لم تتعرف عليه
((أنا في العمل يا سهر))
جحظت عينا سهر وفغرت شفتيها للحظات طويلة لا تستوعب ما سمعته ثم زعقت بها باستهجان
((هل أنتِ مجنونة؟ كيف تذهبين للعمل؟ ألم تأخذي إجازة طويلة؟))
أطلقت شيرين زفيرًا منهكًا ثم قالت بعملية
((سهر لا يصح أن استخدم الهاتف طويلًا في فترة العمل.. سأتحدث معكِ بعد أن أعود))
ظلت سهر تناظر الهاتف بصدمة بعد أن أغلقت شيرين عليها الخط.. وبمجرد أن تصاعد رنين هاتفها باسم خطيبها حتى سارعت تفتحه وتضعه بجانب أذنها
((مرحبًا قصي حبيبي))
وصلها صوت قصي الهادئ المستفسر
((أهلًا سهر.. مممم كنت أريد أن أسألك أين أنتِ الآن؟))
تجاهلت سهر أسئلته وطلبت منه وكل تفكيرها منصب على صديقتها
((قصي هل أنتَ بعملك؟ إذا كنت متفرغًا فأنا بحاجة لرؤيتك الآن وحالًا، هناك شيء متعلق بصديقتي شيرين))
اعترت الحيرة قصي الذي كان يركن سيارته على جانب الطريق.. لديه علم سابق بزواج شيرين ولكن أحد زملائه في شركة القاني أخبره برسالة قصيرة أن شيرين سحبت إجازتها الطويلة وحضرت للدوام كأي يوم عادي.. فوجد نفسه تلقائيًا يتصل بسهر ليستفسر منها..
تنحنح قصي يجلي صوته قبل أن يقول مفتعلًا الدهشة
((شيرين! أوه بالتأكيد أنا متفرغ.. مسافة الطريق وأكون أمامك يا باربي.. فأي شيء مهم بالنسبة لكِّ هو كذلك لي بالطبع))
في الطريق سردت سهر كل ما حدث مع شيرين لقصي بإيجاز شديد وبتمويه بعض الأحداث بطريقة تحفظ فيها كرامة صديقتها مما جعل قصي يهمهم لها بتفكير قبل أن يتساءل باستغراب
((إذًا هي لم تتزوج في الأمس! ولكن لماذا تراجعت في اللحظات الأخيرة؟ ألم تقولي بأنها تعرف ذلك الرائد منذ زمن؟))
أطلقت سهر نفسا بائسا ثم توسلت برجاء ضمني وهي تتراجع للخلف باسترخاء
((قصي أرجوك لا تستفسر! أنا لا أستطيع أن أتحدث بأي تفاصيل أخرى إضافية عن صديقتي، أنتَ تعرف الطريق لفرع شركة القاني في مدينتا.. صحيح؟))
نظر لها قصي للحظة يقول بابتسامة
((نعم أعرف يا باربي، ها قد اقتربنا))
بمجرد أن أوقف سيارته حتى أمسكت مقبض الباب تفتحه وهي تقول على عجل
((شكرًا على إيصالي يا قصي وأسفة على إتعابك))
تشبث بيدها يمنعها من الخروج للحظات بينما يخبرها
((لا تقولي ذلك، سأنتظرك حتى تنتهي يا سهر))
شعرت بالسوء لإشغاله معها رغم عمله المنهك كمدير شركة لعائلته كما سبق وأوهمها فتذمرت بصوتٍ مثقل بالذنب
((ولكن أنا لا أريد إتعابك أكثر وقد يطول بقائي عند شيرين))
ابتسم قصي لعينيها المشعتين بالامتنان بحنو ثم ترك يدها يحثها على الذهاب معلما إياها
((لا تعب عليّ، سأنتظرك حتى تنتهي من زيارتك ثم أعيدك للبيت))
أرسلت سهر قبله بالهواء له وقالت بعاطفة خالصة
((شكرًا يا قصي لا تعرف كم يعني وجودك في حياتي))
تابع قصي بنظره سهر تبتعد مهرولة نحو الشركة بخطوات سريعة.. وكم أجج هذا شعوره بالذنب لأنه لم يوقف السيارة داخل مصف الشركة الكبير.. إلا أنه كان مضطرًا لذلك فهو لا يستطيع المخاطرة والدخول من باب الشركة فيتعرف عليه أحد زملائه أو مدراءه أو حتى الحارس! إذ أنه يعمل منذ سنتين هنا ووجه مألوف للكثير رغم أنه لم يخلق أي صدقات عميقة مع من يعمل في الشركة
.
.
دلفت سهر لمكتب شيرين المفتوح لاهثة وصوتها يصدح عاليًا
((شيرين.. أنتِ هنا!))
جفلت شيرين المنهمكة في مراجعة شكاوى العمل على حاسوبها لتلتفت جانبًا ناحية الباب ويستقر نظرها بارتياع على سهر ثم تتمتم بلوم
((ماذا تفعلين هنا يا سهر؟))
تقدمت منها سهر التي كان صدرها يعلو ويهبط جراء هرولتها ثم مالت بجسدها للأمام ووضعت كلتا يديها فوق مكتب شيرين تقول بغضب رغم رقة عتاب صوتها
((بل أنتِ ماذا تفعلين هنا؟ كان عليكِ أخذ قسطًا من الراحة وعدم التوجه للعمل مباشرة))
نكَّست شيرين وجهها ضاغطةً بإصبعيها بين عينيها وهي تقول بصوتٍ يقطر تعبًا
((أنا بخير يا سهر ولم يكن عليكِ القدوم هنا، إذا عرفوا بأن صديقتي هنا وتشغلني عن عملي لأغراض شخصية فلن يكون موقفي لطيفًا أبدًا.. خاصةً وأنا المعروف عني الصرامة في العمل))
استنكرت سهر وهي تبعد يد شيرين عن وجهها وتشير له
((تبدين كالأموات بوجهك الشاحب، لربما علينا زيارة للطبيب))
بلعت شيرين ريقها وفي مقلتيها تحتشد دموع القهر والعجز لصحة كلام سهر وكادت الحروف تهرب من على لسانها ومع ذلك ظلت على هيئتها الشامخة وهي تقول
((لا داعي للطبيب، ربما سر شحوبي هو تفويت وجبات الطعام في الأمس.. لكن بفترة راحتي سأطلب من كافيه الشركة وجبة دسمة جدًّا لأعوض جسدي))
امتقعت ملامح سهر واعترضت
((لكن هل من المنطقي أن تذهبي ثاني يوم لك للعمل مباشرة..))
قاطعتها شيرين بشيء من الحدة خرجت رغمًا عنها
((وماذا تريدين مني أن أفعل؟ هل أموت وأقتل نفسي أم أوقف حياتي وأتوقف عن ممارسة حياتي الطبيعية؟ استئنافي العمل أكثر شيء طبيعي ومعقول كان عليّ فعله!))
اختلجت شفتا سهر بصدمة يجتاحها من ردة فعل شيرين المنفعلة.. في حين بهت وجه الأخرى وهي تشعر بأن غضبها الذي أفرغته على سهر كان مبالغًا به فهي لم تكن تريد إلا الاطمئنان عليها..
غزا الندم الشديد ملامحها وعادت تفرك ما بين عينيها بإرهاقٍ بالغ.. تبًا لكل شيء.. هي حقًا لا يمكنها التركيز على أي شيء.. أنكى ما في الأمر أن اليوم بأوله ولا زال هناك سبع ساعات عمل أخرى قبل أن تعود للفندق.. ليتها استطاعت النوم لو لساعتين على الأقل في ليلة الأمس..
تنهدت بإجهاد وهي تبعد أناملها عن وجهها لتقول بينما تنتبه من زجاج نافدتها الزجاجي الكبير لمعتز يقف جانبًا خارج المكتب
((إحدى الموظفين يقف عند باب المكتب بانتظار خروجك حتى يدلف إلى هنا، أرجوكِ غادري))
جمود وفتور صوت شيرين جعل البؤس يتسلل لقلب سهر عليها.. إنها حقًا متألمة مِمَّا حدث ولكن فضلت أن تدع لها مساحتها وتراقبها من بعيد عن كثب وحسب! فأومأت برأسها ثم قالت بصوتٍ ضعيف
((حسنًا سأفعل))
وما أن استدارت سهر للمغادرة حتى توقفت شيرين مكانها تقول بصوتٍ لطيف يحمل الكثير من الاعتذار وهي تناديها باسم الدلال التي تخصه بها هي فقط
((إلى اللقاء يا سهر الليالي.. اليوم ستنامين معي بالفندق.. صحيح؟))
داعبت ابتسامة جميلة وجه سهر وهي تغمز لها
((بالطبع، سبق وأعلمت أمي وخطيبي))
بادلتها شيرين ابتسامة ممتنة ثم قالت لها بشيء من التسلية رغم إجهاد ملامحها وصوتها
((انقلي أحر تحياتي لخطيبك قصي))
مدت سهر يدها تلوح بها لشيرين وهي تغادر المكتب ليدخل معتز فورًا للداخل لترد عليه شيرين بنبرة عملية هادئة
((نعم يا معتز.. ماذا هناك؟))
فتح معتز كلتا يديه باستسلام قبل أن يقول وقد وصل حده في كظم الغيظ
((لقد يئست من هذا المدعو قصي، إنه يفقدني جنوني..))
قاطعته شيرين متسائلة بهدوء
((من هو قصي؟ أوه))
لقد بدأت تشتت من كثرة المدعوين باسم "قصي" الذين تقابلهم يوميًا فأغمضت عينيها للحظات وهي ترفع يدها لجبينها تقول متذكرة
((أتقصد قصي سامح ذاك الذي طلبت مني بالسابق التحدث معه بخصوص مخالفاته الكثيرة؟))
! أومأ معتز بإيجاب ليقول بمرارة وغضب مكتوم مما يلاقيه يوميًا من قصي
((نعم إنه الموظف الوحيد في فريقي الذي أتمنى خنقه، ألا يمكن أن تنقليه لقائد فريق آخر يكون أكثر حزمًا معه..))
قاطعته شيرين بصرامة لا لين فيها
((لم نتعب أنفسنا وننقله من قائد فريق لآخر؟ بغض النظر عن هوية قائد فريقه عليه الالتزام، سأرفع كتابًا به لمدير الفرع ليصدر أمرًا في فصله لكثرة مخالفاته، نحن لا نتعامل مع شابًا أهوج بل موظف كبير وناضج بما فيه الكفاية ويعمل هنا منذ سنتين ويجب أن يكون مسؤولًا عن تصرفاته))
زفر معتز وهو يهز رأسه يائسًا
((لا أدري صدقًا ماذا أُعَقِّب على كلامك بشأنه..))
قالت شيرين له باختصار وهي تعود لتنظر لشاشة الحاسوب باقتضاب
((بمجرد أن يحضر هنا اطلب منه الحضور إلى مكتبي للحديث بشأن تأخره اليوم أيضًا))
=============================
رافقت الحاجة الزاهية زوجها من القصر إلى الحديقة حيث من حولهم الأشجار الخضراء.. بينما تدمدم له بهدوء ورزانة
((كنت أتحدث قبل قليل مع مَازن وقال بأنه لن يقدر هذه السنة أيضًا على زيارتنا، يبدو أنه احتسب قدومه القصير لعدة أيام من أجل عزاء ابن عمه يحيى رحمه الله زيارة!))
توقف الحاج يعقوب مكانه ولف شيء من الضيق ملامح الكبر على وجهه.. ثم تطلع لزوجته متسائلًا
((هو من أخبرك ذلك؟))
أومأت زاهية ثم قالت بجدية يشوبها بعض الحزن والألم
((نعم.. كل سنة يرفض العودة مع اختلاف الحجة.. أخبره على الأقل أن يلزم زوجته وابنته بزيارته هناك ولتكن زيارة صيفية طويلة.. سوف يكون له مردوده الإيجابي جدًا عليهم جميعًا وخاصةً على هدى الصغيرة))
لامس قلبه صوت زوجته الشجي الحزن فقال لها بجديّة ممزوجة بالحنان
((سأكون صريحًا معكِ، لظروف كثيرة قد لا يعود مَازن هنا قريبًا.. لكن قد أحاول جعله يستقدم زوجته وابنته عنده))
لم يوضح بشكل جلي السبب الذي يمنع مَازن من القدوم هنا.. هي متأكدة من وجود سبب قاهر جعل زوجها يُخرج ابنها للخارج خلال يوم وليلة ولم يكن قد مر الكثير على إنجاب ابنته متحججًا بدراسته رغم أنه كان في سنته الأخيرة في جامعته التي يدرس بها هنا.. لكن لو كان له أي نية للكشف عن هذه الأسرار لكان تحدث قبل الآن! إلا أنه لم يفعل..
لم تجد زاهية إلا أن تومئ برأسها وتقول بصوتٍ خافت
((حسنًا جيد))
ابتسم يعقوب بينما تمسك كفه يد زوجته ويربت فوقها بخفة مُطَمئِنًا إياها لتبادله الابتسامة رغم إنهاك تفكيرها..
تجاوز يعقوب أسوار حديقته يتقدم للخارج في حين بقيت زاهية تقف مكانها تتطلع له حتى ابتعد من أمام ناظريها ولم تعد ترى إثره.. استدارت للخلف تسير بوقار إلى حيث تجلس رتيل لتجاورها وتتحدث معها قبل أن يقطع حديثهم صوت نورين التي ألقت السلام وهي تتقدم منهما ممسكة بصينية فوقها إبريق شاي ضخم وقدوح زجاجية..
وضعت نورين الصينية فوق المنضدة الخشبية الدائرية ثم قالت بصوتٍ مفعم بالحيوية واللطف
((لقد جلبت الشاي لنا جميعًا وأخبرت ياسمين أن تنضم لنا كما طلبتِ))
دمدمت لها الحاجة زاهية بكلمات الشكر هي ورتيل فازدادت ابتسامتها اتساعًا.. كانت سعيدة أن تبادر بين الحين والآخر للجلوس معهن وتجاذب أطراف أي حديث بسيط معهن.. ولم تجد أفضل من هذا الوقت.. فنساء القرية لا ينقطعن أبدًا عن مجلس حماتها ودائمًا ما يجتمعن في المساء عندها لاحتساء القهوة وأكل المقبلات..
سكبت نورين الشاي في الكأس بينما التفتت الحاجة زاهية تقول لرتيل
((هل اتصل بكِ مُؤيد وأخبرك في أي ساعة سيعود الليلة؟))
تنهدت رتيل قبل أن تجيبها
((أعلمني بأنه قد يعود في الغد))
قطبت زاهية حاجبيها قليلًا معقبة
((لماذا؟ هو في العادة يأتي كل أسبوعين.. تحديدًا يوم الخميس))
أجابت رتيل ((أعرف ولكن عندما حاولت أن استفسر منه عن السبب الذي قد يأخره صرخ عاليًا بأنه لا يحب أن يدقق أحد أين ومتى يخرج.. تعرفينه))
ردت زاهية بوقار صوتها قبل لهجتها
((وهل هناك أحد يعرف مُؤيد غيري أنا! هو دونًا عن إخوته أكثرهم تسلطًا وعصبية، ولكن أنتِ زوجته وعليكِ أن تتعاملي معه بالرغم من ذلك البحث عن حلول تجعلك قادرة على التعايش معه بإيجابية))
قالت رتيل وهي ترفع أناملها تخفي خصلات شاردة من وشاحها الأبيض المرخي حول رأسها
((هذا ما أحاول فعله معه، أنا أتحمل الكثير))
عادت تقول زاهية بهدوء يكتنف صوتها
((نحن النساء علينا أن نكون قويات وقادرات على تحمل المصاعب وطباع الزوج مهما بدت صعبة ولا تُحتمل وإلا كيف سنعمر بيوتنا؟ أنا واثقة بأنكِ امرأة قوية ولستِ ضعيفة))
دمدمت نورين لا شعوريًا بصوتٍ خافت كمن تحدث نفسها
((أول مرة معكِ اعرف أن قوة المرأة في استكانتها وقدرتها على تحمل الظلم والطغيان، لا بإنجازاتها ونجاحها وتحقيقها أهدافها وطموحاتها!))
أظلمت عينا رتيل وتلبد وجهها بغيوم عاصفة مقتربة لا تصدق بأن المرأة التي جاءت كـ"فصيلة" هي من تحدثها عن قوة المرأة وإنجازاتها وطموحاتها! في حين حدَّجت زاهية نورين بتهديد التي سارعت تبتسم بارتباك تواري حماقة ما قالته مجاهرة.. ثم غطت ثغرها المتهور بيدها وهي تقول مغمغمه
((سأسكت الآن لا داعي لتنبيهي))
أخفضت زاهية نظرها لكأس الشاي الزجاجي الذي مدت يدها لتتناوله وترتشف منه القليل ليأتيها بعد دقائق صوت ياسمين وهي تلقي عليها السلام..
سكبت نورين الشاي لها وناولتها إياه بلطف ثم تساءلت باستغراب وهي تنظر لابنتها الجالسة عند الشجر تتحدث بالهاتف الذي تمسكه
((ماذا تفعل هدى خلف الشجرة هناك جالسة؟))
نظرت الحاجة زاهية لها تجيبيها بشيء من الفتور
((أعطيتها هاتفي لتتحدث مع أبيها، ولو أني لا أرى فيها أي لهفة للتحدث معه وأنا من أُلِح عليها في كل مرة أن تحادثه لتفعل.. والخطأ عليكِ يا ياسمين أنتِ الأم.. أنتِ من عليكِ أن تتحدثي دائمًا مع ابنتك عن والدها وتزرعي فيها حبها ولهفتها تجاهه.. عندما كان يسافر الحاج للخارج كانت لا تمر دقيقة دون أن يتساءل جميع أولادي عنه وعن موعد رجوعه))
قالت ياسمين لها شارحة
((هذا يا عمتي لأنهم كانوا معتادون على وجوده منذ صغرهم أما هدى فهي بعيدة عن والدها ولم ترَ شيئًا من حنانه أو اهتمامه منذ ولادتها، لا دخل لي))
اعترضت زاهية على كلامها بقوة
((غير صحيح، هاكِ انظري لباسم وفهد أولاد رتيل، منذ ولادتهم وهم معتادين على عدم وجود والدهم إلا مرة كل أسبوعين، ومع ذلك يتلهفون دائمًا عند قدومه.. أنا لا أريد الدخول في نقاش عقيم لكن كل ما أطلبه أن تهتمي بعلاقة ابنتك مع والدها))
ظهرت ملامح يأس على وجه ياسمين من هذا الحديث فعادت إلى آليتها المعتادة عليها كلما تحدثها عن زوجها مَازن وردت ببلادة ((حسنًا..))
استفزت هذه الكلمة كل ما في زاهية وكادت أن تفقد وقارها ورزانتها وتصرخ بزوجة ابنها إلا إنها تمَالكت نفسها بشِق الأنفس وهي تعود لتقول بانضباط انفعالي ((لا أريد أن أكرر كلامي مثل كل مرة، لكن عليكِ أن تشاركي مَازن يا ياسمين بتفاصيل حياتك اليومية أنتِ وهدى))
ظهر الضجر والاكتفاء على وجه ياسمين إلا إنها تحاملت على نفسها لتقول أي شيء على طرف لسانها يزيد عن كلمة واحدة
((سأفعل ولكنه في خضم انشغالاته يطلب مني ألا أكلمه لفترة))
أمرتها زاهية بحزم وهي لا تلمس أي جدية أو اهتمام في كلماتها الباردة
((تحدثي وتواصلي معه برقة وعذوبة ولن يرفض التحدث معكِ حتى لو كان مشغولًا))
فقدت ياسمين قدرتها على تحمل المزيد من النصائح التي تستفز برودتها لتعود لكلمتها المفضلة والتي تفي بالغرض أمام نصائح حماتها ((سأفعل))
رفعت زاهية حاجبها بامتعاض لتقول بحدة
((سنحاول جاهدين أن نستقدمك أنتِ وهدى للخارج عند مَازن، ادعي فقط أن تجري الأمور كما نخطط))
ظهرت الصدمة جليًّا على ملامح ياسمين ولم تستطع إخفائها وهي تقول بصراحة لم تعي بها
((ماذا تقولين؟ استقدامي إلى هناك؟ كيف تخططون لهذا دون الرجوع لي؟ ثم كيف تريدين مني أن اذهب لبلد غربي في الخارج أنا وابنتي؟ كيف ستأمنون علينا هناك وحيدتان؟))
صححت زاهية لها باستهجان
((لن تكونان وحيدتان! ستذهبان عند مَازن!))
اعترضت ياسمين ((ولكن..))
قالت زاهية بلهجة باترة
((بدون لكن، لقد كان عليكِ بنفسك أن تطلبي من مَازن أن يسحبك أنتِ وهدى لتعيشا معه..))
عجزت ذاكرة ياسمين للحظات عن إسعافها بأي عذر تقوله قبل أن تقول أخيرًا أول ما خطر على بالها
((وماذا بشأن مدرسة هدى؟ ليس من الجيد لها أن تدرس في مدارس الغرب..))
قاطعتها زاهية بنفس اللهجة السابقة
((لا تتحججي بدراسة هدى فتلك البلاد أيًا كانت تحتوي على مدارس وعلم.. المهم أن تدركي حالك قبل أن تجدي نفسك مضطرة للقيام بدور الأب والأم ويصبح المنزل بالنسبة لمَازن مجرد فندق يقضي به عطلة لطيفة كل عدة سنوات))
ظلت ياسمين تنظر لها مشدوهة لا تعرف ماذا ترد حتى احتقن وجهها بصلابة وكتَّفت ذراعيها وهي تقول بصراحة دون أن يرف لها جفن
((أنا لا أثق بابنك أبدًا ولا استأمنه عليّ أنا وابنتي في الخارج، إنه مستهتر وأناني))
اشتد الحوار بينهما ولاحظت رتيل ونورين ازدياد التوتر في الأرجاء.. وكانت تريد زاهية الرد عليها بلهجة أشد وأكثر حدة إلا إنها جفلت وهي تنظر جانبًا على هتاف عالي متحمس..
ظهرت الصدمة على وجوههن جميعًا وهن يرين نجلاء تهرول كفتاة صغيرة شقية باتجاههن لتقف أمامهن قائلة من بين أنفاسها اللاهثة
((مرحبــــًا جميعًا))
قالت زاهية باستهجان للفتاة التي خرجت لهم بغته من اللا مكان
((نجلاء! ماذا تفعلين هنا؟))
قالت نجلاء بصوتٍ مفعم بالحماس واللهفة
((أمي لا تزال تزور الجيران هنا وهناك قبل أن نعود للمدينة في الغد.. كانت الآن ستذهب لبيت خالتي وطلبت منها أن توصلني لهنا وفتح لي البواب الآن))
وضعت زاهية كأس الشاي فوق المنضدة ثم قالت بخفوت رغم استيائها من وصول نجلاء وحيدة ((هذا جيد))
بحثت نجلاء في الأرجاء على مقعد فارغ لتجلس عليه ثم قالت بحرارة صوتها ولهفتها
((ما زال على جامعتي أسبوع حتى تبدأ، أرجوكِ اقنعي أمي أن أبقى هنا وأنام في بيتكم، سيوصلني مُصعب لمنزلنا قبل الدوام بيوم..))
قاطعتها زاهية بصرامة دون أن تستطيع أن تمنع امتعاضها من الظهور
((لا.. لا يصح هذا يا نجلاء))
تلاشت ابتسامة نجلاء العريضة وهي تقول
((ما هو الذي لا يصح؟))
ردت عليها بحزم وصرامة
((أنتِ لم تعودي صغيرة بل صبية، عروس، كيف تريدين أن تبقي هنا في هذا المكان ومن حولك شباب يمكثون فيه!))
تشبثت نجلاء بيد زاهية تقول بنبرة متوسلة حارة
((أي رجال؟ لا يسكن هنا إلا مُصعب ومَالك، إنه قصر ما شاء الله يمكن لأي أحد أن يأخذ غرفة منفصلة دون أن يُضَيّق على أولادك))
تنهدت زاهية وهي تنهض من مكانها مستندة بكفيها إلى سطح المنضدة أمامها تحوقل بيأس..
تقبضت يديّ نجلاء بغل ثم قالت بقهر ونظرها مصوب نحو زاهية التي كانت تسير مبتعدة عنها
((أين تبتعدين كلامي هكذا كأني لم أقل شيء؟))
قالت رتيل مبتسمة بنعومة وهي تتمتع بإغاظتها
((الآن موعد قيلولة عمتي التي تمثل الحياة بالنسبة لها.. أنتِ تعرفين أنه بالنسبة لكبار السن فإن الاستمتاع بساعة القيلولة في منتصف اليوم شيء أساسي حتى لو لم يكونوا متعبين))
تقوست شفتا نجلاء بحزن للأسفل قبل أن تنظر لنورين التي كانت ترمقها بشماتة وتشفي طوال الوقت.. فضيَّقت حاجبيها بعدوانية وعينيها ترسل شرارات مفادها بأنها لن تستلم.. إلا أن نورين استقامت من مكانها بهدوء وهي تبتعد من المكان بخطوات مغترة.. سعيدة بأن تلك الصغيرة نجلاء ابنة الثمانية عشر عامًا وفي كل مرة تحاول القدوم إلى هنا والانتقاص منها أمام الجميع ينقلب الأمر عليها!
=============================
شركة القاني.. مكتب شيرين..
بمجرد أن قرع قصي الباب حتى أغمضت شيرين عينيها بغيظٍ للحظات من رؤيته ثم تحاملت على نفسها وقالت من بين أسنانها بعملية ((تفضل يا قصي سامح))
ابتسم قصي بارتباك وهو يعرف سبب طلبه ثم دلف للداخل وجلس على الكرسي أمام مكتبها يقول بتوتر دون أن تنحسر ابتسامته الملازمة له
((قال معتز بأنكِ طلبتني))
قالت شيرين بجفاء
((قصي سامح هل يمكن أن تخبرني عن السبب المُلِح الضروري الذي أخرك اليوم؟ لأنه لا يمكن أن يكون سببًا عاديًّا بعد أن حذرتك في لقائنا الأخير من أنه تبقي تنبيه أخير لكَ قبل أن تُفصل من هذه الشركة))
ازدرد لعابه بصعوبة وهو يشبك أنامله ببعضهم ثم قال كاذبًا بنبرة لا تجعلها تظن بأنه يستهين بها أو يتعمد إغضابها فما في حياتها يكفيها
((لقد تعطل إطار سيارتي لهذا تأخرت لثلاث ساعات))
رمقته شيرين بنظرة نقمة قبل أن تتشدق بغضبٍ مكتوم
((إذا كانت المشكلة بإطار السيارة فهو عذر مقبول ولكن بما أنكَ قد استنفذت كل ساعات المغادرة الشهرية فسينقص هذا التأخير من راتبك))
اكتنف قصي الراحة لتمريرها عذره الذي لا يدخل في عقل طفل ثم قال بهدوء سخيف وهو يستقيم واقفًا
((ممتاز.. هل يمكنني الذهاب لعملي الآن؟))
أشارت له بعينيها للخارج وهي تغمغم بصوتٍ مقيت
((يمكنك ذلك لكن كن أكثر حذرًا لو سمحت، حتى لا يتكرر شيء كهذا مجددا))
رماها قصي بابتسامة بشوشة وهو يقول بينما يستدير خارجًا
((سأفعل.. شكرًا لكِ يا شيرين))
اندفع للخارج يدخل إلى الطابق الذي يعمل فيه مع باقي مئات الموظفين.. ولم يكن مظهره بائسًا في هذه اللحظة.. فقد أضاع ثلاث ساعات عندما كان مع سهر وبقي أمامه فقط ست ساعات قبل أن ينهي عمله لهذا اليوم.. مذهل!
جلس قصي خلف حاسوب، وضع السماعة فوق رأسه ثم سجل دخولًا للنظام يستعد للرد على العملاء بمشاكلهم وطلباتهم وثقافاتهم المختلفة دون أن يكون أمامه إلا أن يعاملهم جميعًا بنفس القدر من الترحيب والمودة والاحتواء مهما كانت طريقتهم التي عادة لا يكون له ذنب فيها! لأنه مجرد ممثل للخدمة وليس صاحب الموقع الإلكتروني الذي يعمل فيه.. فهناك موظفين غيره قائمون على الخدمة.. أما هو مجرد موظف خدمة عملاء يمثلهم رغم أنه يتحمل في النهاية أي فشل أو تقصير من أي أحد!
=============================
قبل أن يغادر وليد مكتبه وقف من مكانه يزرر قميصه ويرتب أوراقه يستعد للخروج عندما جاءه اتصال من الشخص الذي عيَّنه لمراقبة شيرين.. لقد عيَّنه منذ الأمس عقب أن استغرب هدوئها وعدم محاولاتها هي أو محاميها التواصل معه بخصوص القضية المرفوعة ضدها..
تناول وليد هاتفه يرد بفتور ليصله صوت متردد
((مرحبًا سيد وليد))
تمتم وليد باقتضاب للشخص الذي يتصل به وكان يعمل لدى عائلته منذ سنوات طويلة
((أهلًا، عَجِّل وقل لي باختصار أبرز نشاطات شيرين))
قال الرجل بنفس تردده السابق
((لقد خرجت من بيت صديقتها نحو إحدى صالونات التجميل، ثم جاء رجل وأقلهم بسيارته إلى إحدى الفنادق))
هتف وليد بحدة والريبة المقلقة تتسلل لقلبه
((رجل؟ ولماذا ذهب بهما إلى فندق؟))
ابتلع الرجل على الخط الآخر ريقه بصعوبةٍ ثم قال بصوتٍ خائف من الغضب المتوقع أن يصبه سيده عليه بعدما يفضي له
((لا أدري.. لكنه دخل معهما للفندق وهو يحمل الكثير من الحقائب ثم ابتعد بسيارته عن المكان.. وبقيت أنا في الفندق أراقبهما))
هتف وليد به بحدة وانفعال
((من هو؟ أريد الآن معلومات تخص الرجل الذي رافقهما.. شكله أو عمره التقريبي.. ربما يكون والد صديقتها!))
قال الرجل بتلعثم زاد من فتيل غضب وليد
((لن يعجبك، أقصد يا سيدي لن يعجبك أن تعرف هويته))
بدت عينا وليد الناعستين في هذه اللحظة مزيجًا من الوحشية وهو يقول
((هل هو شخص أعرفه؟))
قال الرجل عقب أن ازدرد ريقًا وهميًا
((إنه ابن عمك.. الرائد مُعاذ))
خرج صوت وليد ذاهلًا هامسًا يحمل كل الكره والحقد في العالم وهو يتساءل
((مُعاذ؟ ولكن ماذا يفعل هناك!))
وقبل أن ينتظر وليد إجابته التي لا نفع لها أغلق الخط عليه وضرب بقدمه الطاولة قالبًا إياها رأسًا على عقب ومثيرًا رعب زميله الذي دلف فورًا لداخل مكتبه بصدمة..
بدأ وليد بطلب رقم آخر ووتيرة أنفاسه المتأججة غضبًا تزداد.. عليه الآن أن يحصل على الأقل على رقم صديقتها لعله يصل لشيرين.. وأثناء ذلك شعر وكأن روحه ستبثق من جسده.. والوجع في قلبه أيّما وجع..
امسكه زميله من كتفه متسائلًا بقلق من هيئته
((وليد أخبرني ماذا حدث؟))
التفت وليد له يصرخ بأنفاس مزمجره وهو ينفض يده عن ذراعه بقوة
((ابتعد عني فليس هذا وقتك))
حاول زميله الاعتراض وقلقه يزداد إلا أن وليد أوقفه بنظرة صارمة وهو يرد على الهاتف ما إن جاءه صوت أحد الرجال المعتاد على التعامل معهم
((بدون أي مقدمات، أريد منكَ الآن أن تجلب لي رقم أمرأه ما ولو من تحت الأرض!))
=============================
مساءً..
خرجت شيرين من شرودها أثناء ركنها سيارتها أمام الفندق عندما اصطدمت بالسيارة المركونة أمامها مما جعل جسدها يندفع للأمام ولولا حزام الأمان لارتطم رأسها في زجاج السيارة الأمامي..
فتحت شيرين عينيها المغمضتين ووتيرة أنفاسها تتزايد بهلع.. سارعت تتحرر من حزام الأمان وارتجلت من سيارتها تعاين السيارة التي اصطدمت بها وقامت بإتلافها من الخلف..
كادت أن تبكي ببؤس وهي تتصل بسهر.. وبمجرد أن وصلها ردها حتى قالت
((سهر، انزلي حالًا من الفندق فقد اصطدمت بسيارة من الخلف، ليّ الآن أن أعرف صاحبها لنتفق وديًا على تعويضه وإبلاغ شركة التأمين))
كانت تتحدث شيرين بصوتٍ مثقل بالقهر والإحباط.. فكأنه ينقصها أي التزامات مالية أخرى لدفعها! والأنكى بأنها هذه المرة هي المسؤولة عن الحادث بسبب شرودها وقلة انتباهها..
كانت سهر أثناء حديثها معها تخرج من الفندق وبمجرد أن استقر نظرها عليها حتى أغلقت هاتفها وهرولت باتجاه الواقفة بشرود مجهد أمام السيارتين..
لكزتها سهر من كتفها وهي تقول مازحة
((لا تقلقي يا شيرين إنها سيارة قصي))
تطلعت شيرين لها بصدمة تكتنف ملامحها لتكمل سهر مخففة عنها
((إنها سيارة خطيبي، أعطاها لي فقط اليوم وركنتها هنا قبل أن انتظرك في جناحك بالفندق، لا تقلقي))
زاد القهر الذي يلف وجه شيرين وهي تقول
((يا إلهي الوضع أسوأ، لا أصدق بأني تسببت في هذا لسيارته، تبدو حديثة جدًّا وباهظة الثمن))
قالت سهر بلهفة وجدية وهي ترى شيرين تخفض جسدها في محاولة لمعاينة درجة التلف الذي تسببت به
((صدقيني لا داعي لأي قلق.. قصي لن ينزعج أبدًا.. من الأساس إنها سيارة عمه، أعطاها له وعنده سيارتين غيرها.. عائلته مغرمين بامتلاك أحدث أنواع السيارات.. لن يأبه لما حدث لها أبدًا.. إنسِ الأمر واصعدي لجناحك في الفندق.. أنا سأذهب لأشتري شيئًا يؤكل وأعود))
استسلمت شيرين لكلامها متهدله الكتفين وهي تشعر بأنها لا تسبب لسهر في حياتها إلا المتاعب..
.
.
أغلقت سهر باب الجناح خلفها ثم تقدمت من شيرين التي كانت مستلقية فوق السرير تطالع التلفاز بكآبة بينما تقول
((لقد اشتريت بعض المعجنات والفطائر الطازجة، تناولي شيئًا منها))
أمسكت شيرين جهاز التحكم عن بعد تغلق التلفاز ثم اعتدلت شبه جالسة على السرير تتناول الأكياس من سهر وهي تقول
((مع أن شهيتي معدومة تمامًا لكن سآكل شيئًا من أجلك))
ساعدتها سهر في فتح الأكياس وهي تسألها بقلق يعتريها عليها
((هل أنتِ بخير؟ لا زال وجهك شاحب جدًا))
أطلقت شيرين شهقة تمنت أن تسحب معها روحها علها ترتاح من بؤسها.. ثم قالت ببلادة
((أنا بخير، الأمر فقط أن ليلة الأمس علمتني يا سهر أن رغبتي بأن أكون محبوبة من شخص مناسب هي أكبر وهم في حياتي وعليّ إخراجه منها.. حتى أكون حرة))
شملتها سهر بنظرات أكثر قلقًا ثم قالت
((ما هذا التشاؤم؟))
هزت شيرين كتفيها تقول برتابة
((ليس تشاؤمًا بل نضج))
أسدلت سهر أهدابها بحزن عليها ثم سألتها
((ماذا ستفعلين الآن يا شيرين بعد..))
ترددت سهر في نهاية جملتها لتكمل عنها شيرين بجمود
((بعد ما هجرني مُعاذ هو الآخر؟ وماذا سأفعل؟ سأمضي قدمًا في حياتي وكان لا شيء سبق وحدث))
قالت سهر بدعم لها
((أنا متأكدة بأنكِ قوية))
تنهدت شيرين بإحباط تمسح دمعة فرت من سجن مقلتيها.. وقد كانت تعيش في هذه اللحظات أشد شعورًا بالبلادة.. بلا شيء وانعدام المشاعر.. لا شيء يقبع في داخلها.. بل لشدة ما تخلو من كل هذا تكاد تطفو على الفراغ.. لكنها قالت بشيء من التصورات الإيجابية التي تغذي نفسها بها لتبقى على قيد الحياة
((لقد دربتني كثافة الآلام على المضي، لذا سأتجرد من كل الأعباء التي ملأت قلبي وسأمضي لا أحفل بشيء آخر.. أنا فقط لا أصدق غبائي الذي جعلني أطلب منه الزواج ظنًا مني بأنه معجب بي لولا موضوع وليد.. لم أجني شيئًا من هذا الأمر إلا مزيدًا من الهوان والذل لنفسي.. لن أستطيع أن انظر في وجهه مجددًا.. حمدًا لله بأنه لم يعرف أحد بشأن ما حدث))
قالت لها سهر مقطبة الحاجبين
((خذي مني يا شيرين الحكمة بما أنه سبق وكان لي تجارب أكثر منكِ في السابق.. الرجل إن لم يتحدث إليكِ من تلقاء نفسه ومباشرة دون مواراة بأنه يريد الزواج منكِ فهو فعلًا لا يريد ذلك.. ذلك الرائد لو أرادك فعلًا لم يكن ليهتم بموضوع وليد ولم يكن سينتظر منكِ حتى أن تمهدي له موضوع الزواج أو تلطفي الجو أو حتى تحاولي استدراجه لقولها.. جنس الرجال أوعى من أن يوجههم أحد..))
تنهدت سهر وهي تسترسل
((أنا أشعر بالذنب لأني لم أردعك عن حماقة ما تفعلينه ولم أقولها صراحة لكِ بأن عرضكِ الزواج عليه بتلك الذريعة كان مذلًا جدًّا لكِ، لم يكن عليكِ فعلها مهما كانت الظروف، أنتِ لستِ صغيرة في السن لأعذرك على عدم رزانتك.. ثم إن الحب في هذه الأيام يحتاج إلى نساء عاقلات))
أومأت شيرين الصامتة برأسها موافقة.. وبشِق الأنفس كانت تمنع نفسها أن تهرب من نظرات سهر المشفقة حتى لا تنهار مجددًا أمامها.. فمهما ادعت الصلابة والبلادة في هذه اللحظة ستباغتها الهشاشة وتقتحمها الدموع رغمًا عنها..
مدت سهر يدها تتناول إحدى المعجنات تحشرها في فم شيرين وتجبرها على المضغ لتسألها بعد دقائق
((هل اتصل وليد بكِ؟))
طالعتها شيرين وهي تقول
((لا لم يتصل ولكن لأكون صريحة معكِ أنا قلقة بعض الشيء مما سيفعله.. حتى في شركتي شددت على الحرس عدم إدخال غير الموظفين للشركة ممن يحملون بطاقة تعرفيهم))
قالت سهر بصراحة
((تصرفاته مؤخرًا تصرفات شخص يلاحق حبيبته التي يحبها حتى النخاع، لو لم يكن متزوجًا لطلبت منكِ أن تفكري بالعودة له.. ربما يكون نادمًا..))
أصدرت شيرين صوتًا ساخرًا متهكمًا.. وليد! يحبها! حتى النخاع! سهر لا تعرف حتى إلا نصف الأمور المذلة التي فعلها بها! ويا لا لكثرة الكلمات التي تراكمت في أعماقها ولم تبُح بها لسهر فقط حتى لا تبدو مثيرة للشفقة والمأساة أكثر من ذلك.. فردت عليها بصوتٍ فاتر أجوف
((في كل الحالات وليد ليس له مكان في حياتي، لم أعد أتمنى إلا أن يتركني في حالي أعيش في هدوء وسلام بعد أن ترك من خراب في حياتي))
مدت سهر يدها فوق كتف صديقتها تغمرها بالتفاؤل
((الأيام القادمة ستكون أفضل، وسينتهي هذا المرار فما يمضي ليس بالضرورة هو الأفضل، الحاضر دائمًا أجمل من الماضي))
توقفت يد سهر عن التطبيب فوق كتفها عند رنين هاتفها.. وشكّت بأن تكون أمها ففتحت هاتفها على الفور.. إلا أن الشاشة كان يعلوها رقم غريب فعقدت حاجبيها وهي تفصل الخط على المتصل.. وقبل أن تعيد الهاتف مكانه كان يتصاعد رنينه عاليًا مرة أخرى بنفس الرقم.. ففصلت سهر عليه مجددًا بامتعاض.. لكنه لم يستسلم واتصل بها مرة ثالثة..
تطلعت شيرين لها بتوجس هادرة
((ردي على الرقم لعله اتصال مُلِح من أحد تعرفينه))
استجابت سهر وهي تفتح الخط بانتظار أن يبادر المتصل بالكلام ليصلها صوت لهف غاضب
((سهر.. سهر؟))
اتسعت عينا شيرين وهي تتعرف على صاحب الصوت مباشرة في حين قالت سهر بتوجس ((من معي؟))
سارع ليجيبها بصوته المشبع بالعدوانية والغضب المستعر
((معكِ وليد.. وليد الكانز))
نبرة وليد أشاعت القلق في نفسها إلا أنها سألته
((كيف حصلت على رقمي؟))
تجاهل وليد سؤالها بسؤال آخر خرج من شفتيه بنبرة خطيرة
((ما علاقة شيرين بابن عمي مُعاذ؟))
ترددت سهر لوهلة ثم التفتت جانبًا تناظر وجه شيرين الباهت وهي تتساءل بارتباك
((ماذا! كيف عرفت؟ من نقل لكَ الخبر؟))
أخذ صدره يعلو ويهبط وهو لا يركز إلا بتصويب أسئلته هو
((لماذا كان مُعاذ في الأمس معكما وأوصلكما للفندق؟ منذ متى وهو يقابلكما؟))
عقدت سهر ما بين حاجبيها وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقول بصلابة بعيدة عن التوتر
((منذ مدة طويلة، غريب ألم ينقل لكَ الشخص الذي وضعته لمراقبتنا بأننا كنا طوال الأشهر الماضية نلتقي به؟))
لم يفهم إلى ماذا ترمي سهر وكل خلية فيه تأبي تصديق الإشارات التي ترمي له بها.. ومع ذلك تساءل ببطء وهو يشعر بدقات قلبه تكاد أن تتوقف
((ماذا تقصدين؟))
في هذه اللحظة كانت شيرين قد استعادت رباطة جأشها وانتشلت الهاتف من يد سهر تتسلم زمام أمرها
((لقد تزوجت أنا ومُعاذ منذ أشهر طويلة، ألم تعرف بعد؟))
تراخت يد وليد الممسكة بالهاتف وللحظة كاد أن يقع من يده من شدة صدمته.. وكأن قلبه أنسلخ عن جسده فانقطع نفسه للحظات..
باغت وجه شيرين ابتسامة شماته وهي تتمنى لو كان وليد الآن في هذه اللحظة أمامها لترى ملامح وجهه العنيفة وهو يستمع لها..
وصلها زئيره وكأنه أسد جريح يصرخ بشراسة صوته بما جعل جدران مكتبه ترتج
((تزوجتما منذ أشهر طويلة؟ اخرسي وكفِ عن الكذب، كنت لأعرف لو تزوجتِ به حقًا))
أبعدت شيرين الهاتف عن أذنها أثناء صراخه حتى لا يثقب طبلة أذنها وبمجرد أن انتهى حتى قربت الهاتف منها، ثم قالت بصوتٍ ميت لا حياة فيه لا يخلو من استمتاع سادي
((لم نسجله بالمحكمة، لكن قريبًا سنفعل.. ربما أكون حامل الآن.. فبالأمس حجز لنا في الفندق لنقضي وقتا خاصا بنا..))
توقد لهيب بعيني وليد الناعستين وقد احتقن وجهه القاسي من إثر الدم المتدافع بعروقه النافرة.. فقاطعها بحدة وعنف
((اخرسي، هل تظنين بأني سأسمح لكِ بأن تبقي على ذمته؟ ستُطلَّقين منه الآن.. الآن وقبل أن يتم تثبيت زواجكما في المحكمة! وبعدها سأستعيدك وانتقم منكِ على مهل على ما فعلتيه يا شيرين، ستدفعين الثمن باهظًا))
قهقهت شيرين بسخرية ((فلتحلم))
هتف لها بتوعد خطير
((سأفعل يا شيرين وسترين، أنا مستعد لاستعمال أقذر الطرق في سبيل الحصول على ما أريد، وأنا أريدك، ولن يعتقك مني إلا موتك.. كلما أدركتِ هذه الحقيقة كان لصالحك))
انقطع صوته فجأة فأبعدت شيرين الهاتف عن أذنها تنظر لشاشته ثم تشدقت بنبرة مقيتة
((لقد أغلق الهاتف))
أمسكت سهر كتفها بعنف وصرخت بها ساخطة وهي تهزها
((مجنونة أنتِ.. مجنونة حرفيًا.. لماذا تصرين على تلطيخ سمعتك؟ كيف تقولين بأنكِ تزوجتِ منه منذ أشهر بدون عقد في المحكمة!))
كانت شيرين مغمورة بالاستهتار وهي تقول
((لم أفضح نفسي، قلت هذا فقط أمام وليد ولو لم أقلها كان ليستشف حقيقة ما حدث ويتشمت بي، ولن أسمح له بذلك))
نظرت سهر إليها بذهول مجنون على وشك أن تفقد رشدها تمامًا.. فردت بحدة صوتها الجهوري
((وماذا لو فضحك في الأرجاء يا مجنونة؟ لو كنتِ تتعمدين تشويه سمعتك لما قلتي ما قلتيه الآن))
تنهدت شيرين بوهنٍ بينما تنطق بيأس ينتابها ((لا يهم))
لامبالاتها أفقدت سهر آخر ما تبقى من ذرات عقلها فانفجرت بها صارخة
((إذا كانت سمعتك وكرامتك لا تهمانك، فلا بد أن سمعة الرائد مُعاذ ستهمه.. ألم تفكري بأنكِ ستؤذينه هكذا؟ أعرف بأن ما فعله بكِ عند تراجعه عن الزواج في آخر لحظة كان دنيئا منه ولكنه لا يستحق منكِ ذلك))
تراخى حاجبا شيرين وهي تستوعب صحة ما قالته سهر فنكَّست رأسها ألمًا وخزيًا ثم غمغمت بتأنيب ضمير
((لم أفكر بصراحة بأني قد أسيء لأحد غير نفسي، لم أكن مركزة إلا بكيف لا أسمح لوليد أن يتشمت بي))
انفرج شيء من ملامح الغضب عن سهر وهي تعاتبها
((طوال عمرك كنتِ الصديقة الرزينة الوقورة التي تمنعيني من الإقدام على أمور مستهترة لا أعرف كيف تبدلت الأدوار وصرتِ أنتِ اللامبالية وأنا الحكيمة الناصحة.. عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا، من أجل مصلحتك أنتِ فسمعة الفتاة مثل الزجاج إذا..))
عند هذه النقطة كانت شيرين غير قادرة على تحمل المزيد فنفضت يديها عنها وابتعدت تهتف بها بامتعاض
((أنتِ بالذات يا سهر لا تتحدثي عن السمعة لأنه لو كان لديكِ ذرة اهتمام بها لما كنتِ هربتِ من زفافك قبل سنوات طويلة.. لم تهربي مرة بل مرتين.. لديكِ ماضي مشرف))
هتفت سهر بها باستهجان
((لا تعايريني بماضيَّ أبدًا! المرة الأولى كان خطيبي سكيرًا مدمنًا غائب الوعي معظم الوقت فلم يكن أمامي إلا أن أتركه في حفل خطبتنا حتى لا ابتلي به خاصة تحت ضغط وإصرار أمي في الزواج منه، أما الثاني فأمه متسلطة وكان يصيبني بالضجر من تزمته وجفائه معي، لم يكن يحب الخروج ولا السفر وكانت الجدية أسلوب حياته ولو تزوجت منه لكان انتهى كل شيء بيننا بالطلاق.. لقد اضطررت أكثر من مرة أحدق بالرجال بجرأة وأغازلهم حتى لا يحمل تجاهي إلا كل امتنان بأني لم أتزوجه وابتليه بي.. لكن في النهاية انقلب عليّ كل شيء واكتشفت بأني ما فعلته أساء لي أنا فقط))
قطّبت شيرين حاجبيها تغمغم
((بالطبع سيسيئ لكِ أنتِ فقد كانت هناك ألف طريقة لتفسخي زواجك بالاثنين دون أن تهربي من الحفل))
أخذت سهر نفسًا عميقًا دون أن تشعر بأي ضيق من ذكر شيرين الموضوع فهي تتفهم تخبطها
((صدقيني ما كانت أمي لتسمح لي بذلك في المرتين، فأمي لا تنظر إلا لوضع الرجل المادي الذي سيتزوج مني، لكن مع ذلك فأنتِ محقة لم يكن عليّ الهرب وتلطيخ سمعة عائلتي، في النهاية لم يتضرر أحد غيري.. وكان هناك ألف طريقة غير هذه الطريقة))
أرجعت سهر شعرها خلف أذنيها وتأست ملامحها وهي تستطرد
((استطاعت عائلتي المداراة على هروبي أول مرة لكون الحفل حدث في الخارج لكن في المرة الثانية صرتُ علكة على كل لسان، وحتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات لا زلت أدفع ثمن الفضيحة التي خلفتها ورائي بهروبي ولا زالت النسوة حتى الآن يزغردن بها والألسن الراقية ترفض أن تعتقها))
كلام سهر جعل الكثير من مشاعر الغل والألم تضطرب في داخل شيرين وتنتفض بقوة لتقول بصوتٍ متحشرج مستحضرة الماضي في حديثها
((عندما تركني وليد قبل عشر سنوات في نفس يوم الزفاف وتزوج من أخرى لم يلمه أحد وكانت سمعتي أنا وحدي هي من خُدِشت.. كان الكل يتحدث عن الجريمة التي فعلتها ليتركني في هذا اليوم! أما الرجل الذي كان من المفترض أن تتزوجي منه لم يعاني أبدًا بل تزوج من أخرى غيرك بمنتهى البساطة والسلاسة.. المرأة إن تُرِكَت أو تَرَكَت فهي المذنبة ومن تُحاسب.. اللعنة تكمن فقط في كونك أنثى بمجتمع ذكوري كهذا!
دمدمت سهر بخفوت وهي تشعر بوجعها ((ربما..))
صمتت شيرين بروحٍ تذوي ببطء من إثر تذكر ما حدث لها بالماضي ثم ابتسمت ابتسامة ساخرة مريرة وهي تغمغم بألم
((بل أكيد، إياكِ أن تشعري بالذنب من أجل الرجل الذي تركتيه في الماضي في حفل زفافكما، فلم يعاني هو أي شيء))
ثم تنهدت وهي تتوقع الأسوأ كردة فعل من وليد على ما سمعه.. إنه قادر على التسلط عليها أكثر مما تتخيل.. لكنها ليست نادمة فعلى الأقل كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لتبعده عنها بعد أن عرف أن اللعبة التي لطالما أراد امتلاكها باتت معطوبة غير صالحة بعد أن سبقه رجل إليها!
=============================
في الصباح الباكر..
أغلق مُصعب آخر أزرار قميصه عندما سألته نورين المستلقية جانبًا على السرير وهي تقلب صفحة أخرى من الكتاب أمامها
((ولماذا سافر البطل هنا دون أخذ نقوده؟ أين المتعة والمغامرة في العيش كالمتشردين في بلاد غريبة؟))
زفر بضيق قبل أن يزجرها نفاذ صبر
((أكملي الكتاب للنهاية وستعرفين الإجابة))
عقدت حاجبيها تقول له بلوم ممزوج بالحنق الضمني
((لماذا غضبت؟ أنا لهذا طلبت منكَ كتابًا سبق وقمت بقراته حتى أخلق حديثًا لنقاشه معكَ، سيساعدني هذا في فهم شخصيتك))
تجهم وجه مُصعب وتوقف عما يقوم به وهو يحدق بانعكاسها في المرآة.. فازداد عبوسها وأمسكت الكتاب ترفعه وتلوح به وهي تقول
((ألم تلاحظ بأنه منذ أن بدأت بقراءته وقد تقلصت مساحة الصمت بحياتنا؟ عليكَ أن تهديني كتابًا أخر فقد قاربت على إنهاء هذا))
ظل مُصعب على حاله متجمد الملامح للحظات قبل أن تنفرج ملامحه وينفجر ضاحكًا على ما قالته.. ورغم شعورها بشيء لذيذ يتسلل لقلبها على إثر صوت ضحكاته الرجولية الرائقة التي لا تشبه مزاجه النكديّ المعتاد في الصباح.. إلا أنها سرعان ما تداركت نفسها وقطبت حاجبيها تعقب بامتعاض
((لماذا تضحك؟ هل قلت شيئًا تسبب بضحكاتك؟))
خفتت ضحكاته تدريجيا وفتح خزانته يخرج شيئًا منها متهكمًا بنبرة مميزة
((أنتِ غريبة الأطوار حقًا، لا أفهم كل هذا الإصرار فيكِ على اكتشاف شخصيتي، أنا نفسي لا أفهمها ولستُ مهتمًا بذلك، حتى والديّ على وجه الخصوص لم أكن مفضلهم))
ناظرته باستغراب متسائلة
((من هو مفضلهم بين إخوتك؟ مَالك؟))
همهم لها ثم أجاب بصوتٍ أجش مرح
((نعم مَالك وتؤامه مَازن هما المفضلان عند أمي لأنهما أصغرنا، مُعاذ ومُؤيد هما المفضلان عند أبي لانهما أكبرنا، لذا لم اعتد أن أكون موضع اهتمام لأحد، ولطالما فضلتُ ألا أكون اجتماعيًا وألا انخرط في زمالات وصداقات كثر))
تركت نورين الكتاب جانبًا واعتدلت واقفة من السرير تقول وهي تقترب منه وتقف على مشط قدميها وتحيط رقبته بذراعيها هامسة بدلال محبب
((لا أحب إزعاجك ولكن في نفس الوقت لا أريد أن أكون بعيدة عنكَ أكثر من ذلك.. ثم هنا أنا لا أملك أحدًا غيرك لاهتم به في جل وقتي يا أميري!))
رفع كفيه يبعد ذراعيها عنه بلطف بينما يوبخها بعبوس مصطنع
((لا تدعيني بأميري هذه! هل تريني طفلًا في العاشرة من عمره؟))
انفرجت عن ثغرها ابتسامة متسليه وهي تناكفه
((بل أنتَ أميري، وأميري هذا سيجلب لي كتابًا آخر لأقرأه))
انزوت طرف شفاهه بغيظ ثم هدر متجاوزا إياها
((لقد كنت أعد الساعات والأيام لتنهي هذا الكتاب وتعتقيني من أسئلتك ونقاشاتك بخصوصه، هل أنا مجنون لأبلي نفسي بكتاب آخر!))
ضربت نورين الأرض بقدمها وزمت شفتيها متذمرة
((مُصعب أنا جادة أريدك أن تحضر لي كتابًا أخر سبق وقرأته))
فتح ثلاجته الصغيرة وتجهم عندما لم يجد أي من مشروباته الغازية في داخلها.. لكنه لم يعقب بل أغلقها وأمسك مقبض الباب وقبل أن يغادر نظر لها من فوق كتفه متبسمًا ببعض الشجن فتبدو ملامح وجهه أكثر ترققًا وهو يقول مشككًا
((ربما أغير رأيي، لا أدري))
خرج وأغلق الباب خلفه لتبتسم تلقائيًا وهي تتأكد من أنه سيجلب لها كتابًا أخر..
أغمضت عينيها وهي تأخذ نفسًا طويلًا عميقًا ثم أغلقت الكتاب وبدأت تقوم بروتينها الصباحي بنشاط..
خرجت من جناحها إلى حيث تعمل سمية تقضي معها بعض الوقت.. أطعمت معها الدجاجات والنعجات والحصان وكلب الحراسة وسقت الأشجار والأزهار والورود الفواحة بروائحها العطرية وأحواض النعناع والبقدونس بينما تتجاذبان أطراف أحاديث عامة..
عادت لجناحها بعد ذلك تغتسل ثم إلى بيت سمية حيث دعتها لشرب فنجاني قهوة معها وحلوى لذيذة كامتنان على مساعدتها.. أما سمية أنهت ارتداء جلابية مريحة بعد أن اغتسلت وجففت شعرها ثم ذهبت لتستقبل نورين التي سألتها مباشرة بمجرد أن دخلت منزلها الصغير
((أين هو يزيد؟ اشتقت له))
تطلعت سمية لساعة الصالة الجدارية باستغراب
((لم انتبه أنه تأخر اليوم، في العادة يكون هنا قبل نصف ساعة))
عقدت نورين حاجبيها وهل تدلف للداخل مؤصدة الباب خلفها
((فهد وباسم عادوا مع السائق قبل قليل، غريب ألم يعد معهما؟))
ناظرتها سمية بتوجس ثم قالت ونظرها يتشاغل بالمكان بحثًا عن هاتفها
((يجب أن يعود معهما فالسائق يقلهم جميعًا مرة واحدة))
بمجرد أن وقع بصرها على الهاتف حتى أمسكته وكانت تهم بالرنين على مَالك والاتصال به عندما قالت ذاهلة باستغراب
((هناك ثلاث اتصالات فائتة من مَالك على فترات متباعدة))
سألتها نورين بدهشة
((مَالك.. مَالك هو مَالك الذي نعرفه.. شقيق زوجي؟))
صوبت نورين نظرها الثاقب عليها بتدقيق أشعر الأخرى بالتلبك والتشتت فسارعت تقول مرتبكة تصحح ظنونها
((نعم.. أقصد.. هو فقط رقم مَالك الذي أحفظه بهاتفي.. فأحيانًا تطلب مدرسة يزيد ولي أمره ولأنه أباه ليس متفرغًا دائمًا.. يذهب مَالك عوضًا عنه أحيانًا.. إنه يعمل معلم وإداري في مدرسة ثانوية مقابلة لمدرسة يزيد الابتدائية))
شعرت نورين بالريبة من توترها أثناء تبريرها ودفاعها إلا أنها قالت بتلقائية
((عاودي الاتصال به، ربما يزيد معه))
أومأت لها سمية وبدأت تطلب رقم مَالك وهي تقول دون أن يتلاشى ارتباكها
((حسنًا.. يفترض الآن أن يكون في عمله في المدرسة.. لذا لا أدري لأي سبب قد يُلِح في الاتصال بي بهذا الشكل))
بمجرد أن وصلها صوته الهادئ حتى بدأت سمية تستفسر منه إذا ما كان يزيد معه ما إن جاءها الرد حتى شهقت بهلع لتقول وقلبها ينقبض بخوف
((هل إصابته سيئة؟))
فزعت نورين من مكانها نحوها تسألها بقلق لهف
((ماذا هناك؟ ماذا حصل مع يزيد؟))
بدا الخوف جليًا على ملامح سمية وارتعاش ثغرها
((في أي مشفى؟ حسنًا سآتي حالًا..))
ابتلعت سمية أسئلتها القلقة الباقية لتسارع بلوعة إلى غرفة نومها فلحقتها نورين وهي تسألها بإلحاح
((سمية من هو الذي في المشفى؟ يزيد؟))
أخرجت سمية على عجل أول عباءة طالتها يدها وهي تقول بكلمات مبعثرة لملمتها بلا تركيز
((يزيد.. معلم يزيد اتصل بمَالك وأخبره أنه وقع أرضًا.. وأصيب بيده.. ونقلوه الآن إلى المشفى))
شهقت نورين بفزع وسألتها
((هل إصابته خطيرة؟))
بدأت تبحث سمية عن وشاح تحيط به شعرها وهي تجيبها لاهثة
((قال بأنها بسيطة، لكن لا أصدقه.. لا أدري.. يا رب احفظه لي وسلمه))
أخرجت سمية محفظتها وحقيبتها وهي تقول بتخبط
((سأذهب لطلب سيارة أجرة.. أوه لا..))
ضربت جبينها تسترسل بضياع
((يا إلهي قد تتأخر أي سيارة أطلبها للقرية، وموقف الحافلات بعيد من هنا قليلًا))
فجأة برقت عينا نورين لتقول متعجلة بينما تغادر
((اهدئي يا سمية.. سأذهب لأحضر سيارة زوجي، لقد ذهب لعمله بدونها وسأعود حالًا.. خمس دقائق وأحضر))
.
.
في الطريق كانت نورين تقود سيارة مُصعب بحذر بينما تناظر سمية زائغة النظرات وشاحبة الوجه بين الفنية والأخرى.. فقالت لها بما قد يخفف عليها
((ألم يقل لكِ مَالك بأنه بخير؟ توقفي عن البكاء وتأكدي إذا ما كنت أسير باتجاه المشفى الذي ذهب له، فهو ليس نفس المشفى الذي يعمل فيه مُصعب))
خرجت الكلمات ملتاعة من شفتي سمية
((أعرف ذلك لكن قلبي لن يطمأن قبل أن أرى فلذة كبدي أمام عيني وأتفقد إصابته))
.
.
في المشفى..
كان الطبيب يقوم بتفقد خدوش وجه يزيد وجروحه بالمرهم بحذر خاصة بسبب تململ وتأوه يزيد الشديد.. أما يده فلم تصبها أكثر من رضة..
وقف مَالك يطالع سمية بتجهم كيف تجلس جانبًا شبه منكمشة على نفسها بأنفاس متقطعة والخوف يسكن مقلتيها الموجهتين على يزيد وهو يتداوى..
تشعشع القهر بين منابت أضلعه لعدم قدرته على احتضانها وتبديد لوعتها على يزيد ولو أن ردة فعلها مبالغ بها.. استدار يبعد أنظاره عنها ومرر أنامله خلال خصلات شعره يكاد يقتلعها من غضبه.. لو فقط تعطيه الحق فيها كان ليكون الأمر أسهل عليهم جميعًا..
استقام الطبيب واقفًا من مكانه بينما يقول
((لا تسمحي له بلمس المرهم الذي وضعته ريثما أعود بعد دقيقة))
أومأ مَالك للطبيب ثم انتبه لسمية تسارع في احتضان يزيد بقوة ووضعه في حجرها ولسانها يلهج "بحمد الله".. لا بد أن قلبها الرقيق كاد أن يتفجر خوفًا عليه طوال الطريق!
تذمر يزيد الصغير بصوته الموجوع
((لستُ مرتاحًا للمرهم الذي وضعه الطبيب على وجهي، إنه يلسع))
مد يده السليمة للشاش بجانبه يرفعه لوجهه ويمسح المرهم رغمًا عن اعتراضات أمه قائلا بعناد
((إنه يحرق ويؤلمني))
عاد الطبيب للغرفة في هذه اللحظة ليستقر بصره على ما فعله يزيد.. فهتف به غاضبًا
((لماذا مسحته يا يزيد؟))
أربد وجه يزيد من زعيق الطبيب عليه والذي استطرد كلامه بسخط لسمية
((ألم أقل أيتها السيدة ألا تسمحي لابنك بالعبث في وجهه! مع من أتحدث أنا؟))
أخفضت سمية وجهها أرضًا متنصلة من نظرات ممرضتين جاءتا من الخارج بفعل علو صوت الطبيب وغمغمت بإحراج
((أنا أسفه، إنه شقي قليلًا..))
قاطعها صوت مَالك الذي اقترب من الطبيب يقول بهدوء مشوب بالتحذير
((لو سمحت انتبه للهجتك وطريقة حديثك غير اللائقة مع أم يزيد))
ارتبك الطبيب من توبيخ مَالك المبطن خاصة وهو يعرف ابن من هو وعائلته.. ثم سعل قليلًا يجلي صوته قبل أن يقول بخشونة
((أعتذر، أنا بالتأكيد لم أقصد ولكن ابن حضرتك لا يسمح لي القيام بعملي))
بدأ مَالك يوجه يزيد بحزم
((يزيد اهدأ قليلًا ودع الطبيب يقوم بعمله جيدًا))
أطاعه الصغير بل تحامل على ألمه ليسمح للطبيب بوضع اللاصقات فوق جروحه..
شيء من الراحة تسللت لقلب سمية وهي ترى مَالك يتولى زمام الموقف بثبات.. لكن في نفس الوقت تمنت فقط لو تنفض عنها ذاك الضعف المتخاذل البغيض وتتحلى ببعض الصمود فلا تحتاج لمساعدته في كل شيء يتعلق بأبنها.. فاليوم أو غدًا هو لن يضل دائمًا متواجدًا من أجلها.. أو حتى من أجل يزيد..
أتم الطبيب عمله وقال قبل أن يغادر
((خدوش وجهه سطحية وستلتئم من تلقاء نفسها وتختفي آثارها مع مرور الوقت في حالة الحفاظ على الجلد نظيفًا))
أومأ مَالك للطبيب مغمغمًا بكلمات الشكر والعرفان قبل أن يقول لسمية
((سأذهب لشراء أحد العقاقير الطبية المضاد للبكتيريا ومسكات للألم))
دمدمت له بصوتٍ خافت دون أن تجد القدرة على رفع وجهها له ((حسنًا.. سأنتظرك))
بمجرد أن غادر مَالك الغرفة حتى تبعته سمية وجلست على إحدى المقاعد في البهو.. انتبهت فجأة لنورين تجلس بجانبها وهي تمسك طبقًا بلاستيكيًا مغلفًا يحتوي بعض الفطائر وقالت بصوتٍ يشوبه المرح
((كان هناك نقودًا في سيارة مُصعب فاشتريت شيئًا حلو المذاق ليزيد))
عبست سمية ولاحت منها نظرات العتاب وهي تقول
((يجب توبيخه على شقاوته في المدرسة لا مكافئته))
ضحكت نورين بخفوت ومدت أناملها تمسد وجنة يزيد..
ثم مطت شفتيها وبدت متوترة فيما ستقوله إلا أنها قررت أن تتجاوز حدودها وتتساءل بتعابير مشاكسة
((لماذا لم تقولي للطبيب بأن مَالك ليس زوجك كما يعتقد هو))
ازداد عبوس سمية ثم استنكرت باندفاع
((ماذا؟! متى قال الطبيب هذا؟ لو سمعته لصححت له على الفور))
ضيقت نورين عينيها وقالت بتشكيك
((بل تحدث مع مَالك بصفته والد يزيد وقال "ابن حضرتك"!))
استعاد ذهن سمية ما قال الطبيب بالضبط قبل قليل ثم هزت كتفيها تقول بعفوية
((نعم لقد قال له ذلك لكنه لم يخاطبه على أساس أنه زوجي))
رفعت نورين حاجبيا تسأل وهي مستمتعة في لعبة المراوغة هذه
((وما الفرق بين الاثنين.. إن ظن بأن مَالك والد يزيد أو ظن بأنه زوجك.. نفس الشيء))
جفلت سمية عند هذه النقطة.. فابتلعت ريقها بتوتر وتلعثمت والارتباك يتجلى عليها بينما عيناها تهربان من مواجهتها
((أوه معكِ حق، نفس الشيء.. إذا تكرر خطأ الطبيب هذا ثانية سأصحح له.. المهم هل جئتِ من كافيه المشفى منذ وقت طويل؟))
قاطع يزيد كلامهم وهو يمد يده السليمة نحو الفطائر ويتساءل ببراءة طفل
((هل هذه الفطائر غنية بالشوكولا أو بالكريمة؟))
حدجت سمية بغضب متقد، فبعد أن تأكدت من سلامة صغيرها تذكرت الآن بأنه قد حان وقت تقريعه وتوبيخه فزجرته قائلة
((انظر ماذا فعلت شقاوتك بكَ! هذه المرة انتهى الأمر برضة في يدك وخدوش بسيطة على وجهك! ماذا ستفعل بنفسك في المرات القادمة؟))
فاضت عيني يزيد بالعبرات من طريقة حديث والدته معه.. وكانت سمية ستكمل لولا أن مَالك عاد عندهم ونبهها
((اخفضي صوتك نحن في المشفى))
رفعت سمية الجالسة نظرها له وهي تقول بصوتٍ متحشرج
((أنا أريده فقط أن يقلل من فرط حركته وشقاوته))
حدجها مَالك بنظرات غير راضية مغمغمًا بوجوم
((لا تصرخي على الصغير أمام أحد لو سمحتي، ثم هو لم يقصد أن يوقع نفسه من فوق الدرج الخشبي.. معلمه اتصل بي مرتعبًا بسبب صراخه وبكائه العالي من أن يكون شيئًا أشد قد حدث له لكن لا شيء فعليًا يستدعي القلق))
شيء من الألم شاب لمعة عيني سمية وهي تقول بنظر شارد
((يزيد يحب لفت الانتباه كثيرًا، بمجرد أن ينزف قطرة دم حتى يملأ الدنيا صريخًا وبكاءً))
أمسك مَالك يد يزيد الصغيرة يمرر إبهامه فوقها هادرًا بعتاب ومزاح
((نعم أذكر بأنه خدش مرة أحد أنامله وبدأ في نوبة بكاء استمرت لساعات مع أخد استراحات كل ربع ساعة))
أغمضت سمية عينيها تخفي الألم الذي توهج داخلهما فما يفعله ابنها من شقاوة ولفت انتباه لحاجته للاهتمام.. وكان نفس الشيء تفكير مَالك وهو يدرك أن السبب الحقيقي وراء بكائه أو عناده أو نوبات الغضب عنده لجذب انتباهه هو..
تساءلت نورين باستغراب
((كيف وقع بالضبط فوق الدرج؟))
قصّ مَالك عليها ما حدث
((أخبره المعلم أن يكتب إجابة سؤال ما على السبورة وهو مشاكسا خرج من مقعده عن طريق الصعود فوق الدرج ومن ثم القفز على الأرض، إلا أنه لم يكن موفقًا في قفزته))
تململ يزيد من حجر سمية ليقترب من مَالك الذي جلس عند مقعد مقابل لهما..
بدأ مَالك يتحدث مع يزيد بمحاولة إخراجه من حزنه وألم يده ويمازحه فيقهقه الصغير ويندمج معه..
لامست ضحكة يزيد الطفولية أوتار قلب سمية.. خاصة وهي ترى مَالك يداعب خصلات شعره الناعمة بحنان ويدمدم له
((يا عيني عليكَ يا يزيد.. اضحك.. اضحك.. لا ضحك غيرك))
قالت لها نورين بما يستدعي انتباهها
((سأنتظرك تحت عند سيارة مصعب، علينا الاستعجال فغالبًا لم أركنها في مكان مناسب))
انتصبت سمية واقفة وقالت
((حسنًا دقائق وسألحقك أنا ويزيد))
بمجرد أن ذهبت نورين مبتعدة حتى تبدلت ملامح سمية بأخرى حانقة وهي توجه كلامها لمَالك مفسدة هذه اللحظات الرائقة بينهما
((بدل من أن تضحكه علِّمه ألا يفرط في حركته في الفصل ويطيع معلمه!))
تغضن جبين يزيد بضيق من لوم أمه فرفع رأسه يتطلع لمَالك منتقما
((أمي هي من أخبرتني بعد أن ضاع ملفك الأسود ألا أدخل لغرفتك أو أتعاطى معك إلا في الخارج))
نظر يزيد بتشفي لأمه التي أشاحت بنظرها خجلًا وضيقًا..
ضيّق مَالك نظراته التي يرشقها لسمية بغل ثم قال
((أعرف ذلك يا يزيد، فأنت لا تبتعد عني إلا بتحريض من أمك اللئيمة))
ردد يزيد من خلفه بحنق طفولي ((نعم صحيح))
لكز مَالك رقبته برفق يردعه بصرامة
((أنا وحدي المخول بشتم أمك، ثم لم يكن من الصحيح أن تشي بها))
رفع يزيد يده يمسد رقبته وهو يومئ بطاعة وقد أصبح وجهه كحبة الطماطم.. في حين قامت سمية من مكانها تمد يدها لتمسك كف صغيرها وهي تقول باقتضاب
((هذا يكفي.. لنعد الآن))
سارت سمية للأمام تنوي التوجه للخارج في حين أبقى مَالك مسافة بينهما وهو يقول
((دعينا نذهب لمطعم ما لتناول الغداء فيه، ثم سأوصلكم بسيارتي))
ناظرته سمية وهي تقول عاقدة الحاجبين
((لا داعي، سأعود بسيارة زوج نورين، لا يصح أن تتأخر أكثر هي الأخرى عن العودة))
تسائل مَالك بذهول يشوبه عدم تصديق
((ماذا؟ سيارة مُصعب؟ هل قادتها بنفسها إلى هنا؟))
وبمجرد أن خرجا من المشفى حتى سارع مَالك خطواته نحو السيارة التي كانت تجلس فيها نورين خلف المقود وسألها
((هذه سيارة مُصعب؟ هل أخبرته بأنكِ ستخرجين بها؟))
تطلعت نورين له من خلال نافذة السيارة المفتوحة تجيبه بتوتر
((لا لم أفعل، كنت مستعجلة ولا أملك هاتف، علينا أن نسرع في العودة رغم أنه لن يصل إلا ليلًا))
ابتعد مَالك قليلًا للخلف يطلب منها
((ترجلي منها واصعدي للخلف ودعيني أنا أقود السيارة لأضمن عودتنا بها بلا أي خدوش))
عقدت حاجبيها حانقة تقول
((لا تقلق أنا أقود جيدًا))
أصر مَالك عليها
((مع ذلك دعيني أتولى القيادة لأني أريد الذهاب لمكان آخر قبل العودة للبيت))
بتردد أطاعته نورين وفتحت مقبض الباب تترجل من السيارة ليحتل مَالك مكانها.. فقالت سمية بامتعاض وهي تراه يشغل المحرك
((وماذا بشأن سيارتك يا مَالك؟ من سيعيدها؟))
نظر لها يخبرها ببساطة
((سأتدبر أمري، ربما مساءً سأستقل سيارة أجرة توصلني إلى هنا وأعود بها للبيت.. لا تقلقي أنتِ.. هيا اصعدي))
ثم ناظر يزيد يخبره بابتسامة بما جعله يهرول مطيعًا
((اجلس يا يزيد بجانبي بسرعة))
رفعت سمية كفها تمسد جبينها وهي تخفض بصرها المتشتت أرضًا كما قرارها في هذه اللحظة.. لا يصح لها أن تستقل معه السيارة وتعود للقرية.. لكنها لربما وجود نورين ويزيد قد يخفف وطأة الأمر!
شعرت بالحنق من كل أفعال مَالك فهو مُصِر على التدخل بكل تفاصيل حياتها ولا يكتفي بحياة يزيد فقط!
انتبهت لصوت نورين الجالسة في الخلف وهي تخفض زجاج نافذة وتهمس لها متعجلة
((هيا استقلي السيارة يا سمية سنتأخر..))
قال مَالك بملامح منتشيه وهو يثبت حزام الأمان الذي حاوطه بجسد يزيد
((هيا يا سمية سنتأخر))
أعلنت سمية استسلامها وهي تعض شفتها السفلى بغيظ واستقلت في المقعد الخلفي بجانب نورين.. ثم أغلقت الباب خلفها بعنف جعل الأخرى تعاتبها هامسة
((إنها سيارة مُصعب، لا تفرغي حنقك من أخيه في سيارته))
كتم مَالك بصعوبة ضحكته.. وكان يشعر بدمه داخل أوردته يجري سعيدًا حرًا منطلقًا في شرايينه لفكرة أنه سيخرج مع سمية ويزيد كعائلة حقيقية أخيرًا! قال متسائلًا بينهم
((إذن هل هناك مطعم محدد تريدون مني الذهاب له لتناول الغذاء أم أختار على ذوقي؟))
شبكت نورين أنامل يديها بارتباك ثم قالت مترددة بشيء من الحرج
((مَالك أعدني للقصر أولًا ثم يمكنك الذهاب لأي مكان آخر، لا يصح أن أبقى طويلًا خارج المنزل))
عقّبت سمية على كلامها معترضة
((كيف تريدين أن تعودي للبيت وأبقى معه هنا ويزيد! مَالك أعدنا فورًا))
حرك يزيد قدميه بحنق طفولي وهتف بإحباط
((ولكن أنا يا أمي جائع، أريد الذهاب الآن للمطعم))
تدخل مَالك يقول لنورين فوجودها مهم ليحظى برفقة سمية ويزيد
((ألم تقولي بأن أخي سيعود متأخرًا؟ لا حاجة للعودة مبكرًا؟))
حاولت نورين النطق بكلمات الاعتراض إلا أن مَالك حسم النقاش هادرًا
((لن نتأخر.. ساعتين بالكثير ونعود للبيت، سأتصل بأمي لأخبرها بأنكِ معي برفقة سمية ويزيد بحالة بحثت عنكِ..))
قاطعته نورين هاتفة باعتراض يشوبه القلق
((لا.. لا تخبرها.. أنا سأعود وأخبر مُصعب عن خروجي ثم هو له مطلق الحرية في إخبار والدته.. فعلى كل حال لن تلحظ غيابي.. المهم ألا تقول لها شيئًا مباشرة))
طمأن مَالك نورين ((ممتاز.. ومُصعب لن يعود من عمله فجأة فهو تقريبًا من بعد وفاة يحيى صار ملتزمًا بشكل فائض عن اللزوم في العمل، وكأنه الملجأ الوحيد ليشغل نفسه فيه))
تشدقت نورين مؤكدة ((لدي فكرة مكتملة عن هذا!))
ظل مَالك يركز نظره في الطريق أمامه قبل أن يقول بهدوء
((اصغي لي، أنا لم يسبق وأن قلت هذا أمام أحد ولكن حالة مصعب كانت صعبة للغاية بعد وفاة يحيى، كنت أحيانًا أتفقده في الليل في غرفته شاعرا بخفة نومه.. كان يستيقظ كثيرًا في الليالي المظلمة يتحسس هاتفه ويتفقد رقم ابن عمنا المحفوظ في المذكرة..))
همست نورين بصوتٍ أجش خافت متعجبة
((غريب أن نومه كان خفيفًا.. إنه حاليا لا يفعل شيئًا إلا النوم.. ينام كثيرًا بعمق))
غمر صوت مَالك التفاؤل
((أتمنى منكِ أن تحاولي دعمه وتفهم الفقد الذي يمر به حتى يستطيع البوح لكِ بكل التفاصيل، فمن الصعب أن يتجاوز التجربة بمفرده.. سيرتاح لو تشارك بها مع أحد آخر))
همهمت نورين لمَالك وعقلها يأخذها بدوامة التفكير في مُصعب.. لم يسبق وأن أفضى لها بأمر متعلق عن ابن عمه يحيى.. ولا تظن بأنها يمكن أن تتحدث في الموضوع معه إذا لم يكن هو مبادرًا!
=============================
مشفى القرية..
تأوه مُصعب تعبًا وإنهاكًا بينما يجلس فوق إحدى المقاعد الموضوعة في الساحة المقابلة للمشفى الذي يعمل به..
رفع كوب قهوته الساخنة يرتشف منها قليلًا قبل أن يمسك هاتفه الذي صدح رنينه عاليًا..
كان اسم والدته يعلو شاشته فرد على الفور مغمغمًا بكلمات السلام ليصله صوت أمه مرتعشًا مرتبكًا بينما تخبره
((مُصعب زوجتك ليست في البيت، منذ ساعات وهي غائبة بعد أن هربت بسيارتك))
اتسعت عينا مُصعب وعقله لا يسعفه أن يستوعب ما تقوله أمه التي تكمل بنفس نبرة صوتها
((والله يا ابني أنا لم أكن لأتصل بكَ في عملك وأفزعك إلا بعد أن فقدنا الأمل في إيجادها.. والدك ارتفع ضغطه.. ليس هناك رجل في البيت إلا أخاك مُؤيد وهو يغلي انفعالًا وتوعدًا أثناء بحثه عنها.. أنا خائفة أن يجدها قبلك))
همس مُصعب بلا تصديق وهو ينتفض واقفًا
((أمي ما هذا الذي تقولينه!))
خوف قبض قلبه من النتائج التي قد تحدث لو فعلًا هربت نورين كما يزعمون إلا أنه تحلى بشيء من التعقل متسائلا
((أمي أخبريني أولًا هل ضايقها أحد منكم؟ أو تجاوز الحدود معها؟))
قالت أمه مدافعة عن نفسها بصوتٍ متحشرج وعيناها تدمعان ((أبدًا يا مُصعب.. أنا أحرص كل الحرص على تنبيه زوجة أخيك مُؤيد والعاملين في القصر على حسن معاملتها))
لجم مُصعب ارتباكه وقال لها بشيء من الثبات
((لا بأس يا أمي.. دعينا نجدها أولًا دون أن نثير بلبلة))
أخذت دموع والدته تنسكب فتمسح وجهها بظاهر كفها
((كفّ الله يا بني كل شر عنكَ أنتَ وإخوتك وباقي الشباب.. أنا لن أسامح نفسي إذا حدث واختفت أو حتى عادت لعائلتها فهذا يعني عودة الصراع بين العشيرتين))
قال مُصعب بعقلانية تهدأ والدته
((سأعود حالًا.. سأتفقد مزارعنا لعلِّي أجد أو أسمع ما قد يساعدني على إيجادها.. كل شيء سيكون بخير لا تقلقي))
أغلق مُصعب الخط مع والدته وسارع يطلب رقم سيارة أجرة مستعجلة.. وأثناء انتظاره لها اتصل بمديره يطالب مغادرة لأمر ضروري خارج عن إدارته.. وكان كل ما فيه مشغول بالتفكير بنورين.. هل يعقل أن تكون فعلًا قد هربت؟ ولكن لماذا؟ عاشرها لأشهر طويلة ولم يشهد منها إلا الحكمة والتعقل.. صحيح هي عاطفية ومرهفة الأحاسيس بشكل لعين إلا أن هذا الأمر لم يسبب أي مشاكل وأزمات له معها!
=============================
انتهى الفصل.

 
 

 

عرض البوم صور Hya ssin   رد مع اقتباس
قديم 22-05-22, 04:16 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2022
العضوية: 338274
المشاركات: 10
الجنس ذكر
معدل التقييم: Hya ssin عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Hya ssin غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : Hya ssin المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: قلبك منفاي

 

الفصل الثامن

في إحدى المطاعم المريحة الأنيقة وغير الرسمية تسلق يزيد الكرسي الذي بجانب كرسي مَالك بعدما جلس الجميع حول طاولة واحدة.. لم تكن ملابسهم الغير مهندمة والتي ارتدوها على عجل مناسبة لرقي المكان الذي اختاره مَالك.. لكن لم يبالِ أحد..
عرض منسق الأغاني أحدث الإيقاعات الموسيقية ليُضيف لمسة ساحرة إلى أجواء المكان الفريدة والمرحة..
كانت هذه أول مرة لنورين تخرج فيها خارج أسوار القصر والقرية منذ زواجها من مُصعب.. أما يزيد الصغير فقد كان منتشي من السعادة مع أجواء المطعم المريحة وغير الرسمية..
طلب مَالك لكل واحد منهم وجبة من قائمة الأطباق الشهية الطازجة ومشروبًا باردًا منعشًا.. وأثناء تناول الطعام وما بعد ذلك كانت نورين متيقظة لكل محاولات مَالك بإطالة لحظات بقائهم هنا قدر الإمكان يتذرع بأمور تخص يزيد ليتحدث بها مع سمية.. بينما الأخرى شحيحة الكلام معه تمامًا وردودها له مختصرة وباترة..
فجأة عقدت نورين حاجبيها بتساؤل وهي تنظر لسمية
((سمية.. كم هو عمرك؟))
اتسعت عينا سمية فجأة لهذا السؤال المباغت وغمغمت
((لماذا تسألين عن عمري؟))
ابتسمت نورين وقالت وهي تهز كتفيها
((لا شيء، مجرد فضول، أنا في الرابعة والعشرين، وأنتِ كم عمرك؟))
عقدت حاجبيها بتأنيب يشوبه المرح
((بالطبع ستعلنين عن عمرك بكل عنفوان وفخر فأنتِ لا زلتِ صغيرة وشابة يافعة))
تصلبت يد مَالك الممسكة بالشوكة وبدا أنه يكتم ضيقه من سؤالها.. أما سمية فهمهمت بتلكؤ قبل أن تقول لها مواربةً
((حسنًا يمكنك القول بأن سني تحت الخامسة والثلاثين))
خمَّنت نورين وهي تضيق عينيها
((مممم في الرابعة والثلاثين؟))
ابتسمت سمية لها وهي تهز رأسها إيجابًا.. فبدأت تحلل نورين علاقتهما.. تبدو سمية حقًا أصغر من عمرها إلا أنه من الواضح ظاهريًا بأنها ليست في نفس سنه على الأقل!
علاقتهما لا تنفك عن إذهالها يومًا بعد يوم.. حتى اهتمام مَالك واحتوائه ليزيد وكأنه ابنه بالضبط أمر مدهش فهو لا يتعامل حتى مع أولاد أخوته بهذا الشكل.. لا بد أنه حبه ليزيد نابع من حبه لأمه الذي لا يبذل جهدًا في إخفائه بل هو واضح وضوح الشمس للجميع!
أنهت نورين ما في طبقها وقالت بلطف لمَالك
((هل يمكننا العودة الآن؟ أشعر بأن خروجنا استغرق وقتًا طويلًا))
وقفت سمية من مكانها تحسم الحديث
((معكِ حق لقد تأخرنا كثيرًا، علينا أن نعود للقرية))
صدر من يزيد كلمات الاعتراض الحانقة إلا أنها خمدت في مهدها عندما حدجته سمية بنظرات صارمة ونكَّس وجهه بعبوس للأسفل..
مسح مَالك يديه بالمنديل ثم رفع وجه الصغير الجالس بجانبه
((ابتسم يا يزيد حتى نأخذ صورة جماعية لنا نحن الاثنين كما اتفقنا قبل مدة دون التزام فعلي))
رغم تقوس ثغر يزيد إلا أن مداعبات مَالك المشاكسة جعلته غير قادر على كتم قهقهته أكثر وهو يبتسم لكاميرا الهاتف..
أغلق مَالك هاتفه وأخفى عينيه بالعدسات الداكنة التي كان يضعها فوق شعره ثم استقام واقفًا من مقعده للمغادرة..
.
.
ما إن ركن مَالك سيارة مصعب بمصف عائلته حتى ترجل الجميع منها..
أخذت نورين مفتاح سيارة زوجها من أخيه ثم تقدمتهم وسارعت تدخل القصر من باب المطبخ كما هي معتادة كلما خرجت للتنزه وما شابه..
بمجرد أن دخلت من باب المطبخ حتى جفل كل الجالسين فيه وعلى مقدمتهم مدبرة المنزل نعمة التي انتفضت من مكانها نحوها تسألها بفزع كأنها لا تصدق عودتها
((أين كنتِ يا نورين؟ أين ذهبتِ بسيارة السيد مُصعب؟))
همست نورين برهبة وتوتر بينما الخوف يتفاقم بداخلها من إدراكهم لاختفاء سيارة مُصعب
((أنا! هل لاحظ أحد غيركم أخذي لسيارة مُصعب؟))
حدجتها نعمة شزرًا بينما صرخت بها منال
((هل تمازحيننا؟ كل من في القصر مقلوب رأسًا على عقب في البحث عنكِ! أين اختفيتِ بسيارة السيد مُصعب ومع من هربتِ! قال أحد البوابين بأنه لمح أحد يستقل السيارة بجانبك عندما خرجتي بالسيارة))
شحب وجه نورين وهي تشعر أن توقعاتهم خرجت عن المألوف فهتفت سريعًا بهلع
((أحد بجانبي؟ إنها سمية، ذهبت أنا وسمية للمشفى لأنه يزيد أُصيب بذراعه ولم يكن هناك وسيلة توصيل سريعة))
في هذه اللحظة كانت قد دخلت الحاجة زاهية المطبخ لأنها شعرت بحدوث جلبة وصُدمت على الفور لرؤية نورين وصُدمت أكثر بتبريرها الأخير الذي نطقت به! فاندفعت تتقدم منها وتزعق بها تفرغ فيها كل القلق والرعب الذي عشعش بداخلها طوال فترة اختفائها
((هل أنتِ معتوهة أم تحبين لعب هذا الدور؟ كيف خرجتي من هنا دون أن تعطي أي خبر لأحد؟ بل وأخذتِ سيارة مُصعب دون إذنه؟ ومن أجل من؟ من أجل سمية؟ من هي سمية لتوقعي نفسك بتلك المشاكل من أجلها يا قليلة العقل؟))
غمغمت نعمة بنفاذ صبر وتهديد
((تبًا لسمية ولابنها لا يأتي منهم إلا المشاكل، نجوم اذهبي وناديها الآن))
خرجت آخر كلمات نعمة هاتفة بحدة مِمَّا جعل نجوم تتسمر مكانها بتوتر لا تعرف إذا ما كان عليها الطاعة فزعقت بها أمها منال
((هيا يا بنت اذهبي ونادي مقصوفة الرقبة سمية فورًا، ماذا تنتظرين!))
دلفت رتيل للمطبخ تقول متسائلة
((عمتي هل عرفتِ شيئًا عن مكان نورين..))
بترت رتيل كلماتها وشهقت متسعة العينين لرؤيتها فاستطردت بحدة وهي تهرول ناحيتها
((يـــا إلهي! أين كنتِ أيتها المجنونة؟))
ازدردت نورين ريقها بصعوبة وهي ترى كل من في المطبخ يوجه أسهم نظراته المحتدة لها فقالت لحماتها بصوت مختنق
((دعيني اشرح لكِ..))
قالت زاهية بصرامة رغم الإجهاد الظاهر عليها مِمَّا عانته أثناء اختفاء نورين
((لا تشرحي لنا شيئًا، ارتفع ضغط الحاج يعقوب عندما علم بفرارك دون أن تتركِي أثر وهو يفكر بالنتائج التي ستترتب على كل من في العشيرتين بعد انتشار الخبر))
كل كلمة تناهت إلى مسامع نورين ساهمت في تصاعد خوفها إلا أنها حاولت التماسك ولو قليلًا وهي تبرر بوهن
((معكِ حق أنا فعلًا أخطأت ولكن دعيني أشرح ما حدث!))
قاطعتها الحاجة زاهية باحتدام
((لقد قلت لكِ لا تشرحي شيئًا وادلفي للداخل هيا..))
شهقت رتيل فجأة ثم قالت معترضة وهي تلوح بيديها لحماتها
((عمتي مُؤيد في الصالة ولن ينفع أن تمر من هناك، لو رآها لن يبقيها على قيد الحياة.. سأشغله واذهب به لجناحنا حتى تعبروا..))
قالت زاهية بصرامة معجونة بالغضب ونفاذ الصبر
((هي متزوجة من مُصعب ومُصعب من سيحاسبها، أخرجي وأعلميه بأنها عادت))
اطمأنت نورين قليلًا من وجود مُصعب فهو سيتفهم ما حدث.. نعم سيتفهم! ازدردت ريقها بصعوبة وهي تفكر بأن هذا ما تأمله حقًا! فتشابكت يداها بمحاولة لملمة نفسها قبل أن تخرج من المطبخ نحو الصالة بخطوات بطيئة مرتعشة كأنها تحاول أن تأخر المصير الذي ينتظرها..
جالت بعينيها في الصالة لتنتبه على وجود مُصعب ينهي مكالمة يتحدث فيها.. وبمجرد أن رآها حتى انتفض واقفًا مكانه ينظر متسع العينين لها..
تصارعت في هذه اللحظة دقات قلبها تشبثًا بشيء يطمئنها بأنه ليس ساخطًا عليها كالجميع إلا أن ملامح وجهه الغاضبة والمضطربة في آن واحد كانت بعيدة عن هذا المطلب..
اقترب مُصعب منها وهو يضع هاتفه في جيب قميصه وكل ما فيه يشير إلى ثورة حتمية الاندلاع الآن بها..
أغمضت نورين عينيها بقوة وهي ترتعش.. وتمنت لو تتوارى خلف أحدهم لتحمي نفسها من الزوبعة التي بانتظارها من مُصعب.. وقد بدا هذه المرة بأنها ستكون الأولى التي تشهد غضبه فما فعلته لا يغتفر بل تصرف يشي بأن صاحبته امرأة لم تنل تربية بحياتها على أصول وعادات تربيتهم! لكن بعد لحظات صمت فتحت عينيها لتراه ينظر إليها برباطة جأش تحكم غضبه الذي تأجج مِمَّا فعلته.. قبل أن يسألها بلهجة شديد ونبرة خافتة
((أين كنتِ يا نورين طوال الساعات الماضية؟))
ثم صمت للحظة واحدة قبل أن يكرر
((هيا أخبرينا قبل أن نتحاسب فوق))
حانت نظرة منها لكل من يتجمع من حولها ليصل خوفها لأوجه وشعرت بالاختناق والتهديد من القادم..
وهو لاحظ الذنب مرسومًا بشكل جلي على وجهها الشاحب بينما تغرغرت عيناها بالدموع لتقول بصوتٍ مرتعش منذر بالبكاء
((أوصلت سمية لابنها في المشفى! هي لم تطلب مني لكنها كانت خائفة عليه وكان طلب سيارة أجرة سيأخذ وقتًا طويلًا فتطوعت من نفسي أن أوصلها ولم أكن أظن أن الأمر سيأخذ أكثر من نصف ساعة.. وأيضًا هناك كان..))
بترت نورين كلامها وهي لا تعرف إذا ما كان من المناسب أن تتحدث عن مرافقة مَالك لهم! هل عليها أن تقول بأنه كان معهم أم ستسبب له ولها المشاكل؟ ففي النهاية هي من اتخذت قرار الخروج بسيارة زوجها لوحدها وهي من تتحمل مسؤولية فعلتها التي تنم عن جهلها وتسرعها وعدم تقديرها للموقف!
اقترب مُصعب منها مقطبا حاجبيه وهو يقول بصوت قوي
((مهما كان السبب الذي خرجتِ لأجله قوي، لكن كيف تفعلينها دون إعلام أحد! كان عليكِ إخبار الحارس أو أحد العاملين في المطبخ على الأقل!))
ثم استطرد كلامه دون أن يعي أن الجميع يستمع له
((أنتِ تعرفين أن زواجنا لم يكن طبيعيًا! وهربك بظروف غامضة كالتي اختفيتِ فيها لن يمر مرور الكرام، لا عليكِ فقط بل على الجميع))
كلماته الأخيرة عن كونها "فصلية" كانت كالوغزات على قلبها وروحها ليزداد خوفها وألمها.. عضت شفتها وهي تهمس من بين شهقاتها بخفوت شديد
((معكَ حق.. لكن كان..))
مجددًا بترت كلماتها.. لكن هذه المرة بسبب بكائها مِمَّا زاد من استفزازه فصرخ بها آمرًا
((تحدثي بدون بكاء.. ليس وقته الآن..))
ارتعد قلبها عند صراخه وتغضن وجهها بالمزيد من الذعر والوجل.. أسبلت جفنيها حتى تواري الفزع في عينيها منه..
فعاد مُصعب يأمرها بامتعاض
((توقفي عن البكاء وتحدثي))
رفعت يدها فوق ثغرها تكتم شهقاتها ثم قالت بخفوت رقيق بكلمات بالكاد خرجت مفهومة
((لا.. لا أستطيع التوقف..))
في هذه الأثناء دخل مَالك للمنزل من الباب الرئيسي ومرّ بالصالة ليجدهم جميعًا متجمعين.. انتبه لنورين تقف بالمنتصف أمام زوجها مرتعبة وباكية وفهم ما الذي يجري من حوله.. فسارع يقترب من أمه يسألها هامسًا
((أمي ماذا يحدث هنا؟))
التفت الحاجة زاهية تقول له كمن انتبهت الآن فقط على وجوده
((هل عدت؟ اذهب من هنا يا مَالك وسأخبرك فيما بعد))
إلا أنه لم يفعل بل اقترب من مُصعب يضع يده على كتفه يستدعي انتباهه ويخبره دون مقدمات
((مُصعب اسمعني أخي، أنا من اتصلت بسمية وطلبت منها القدوم بأسرع وقت ممكن.. ولولا زوجتك لما تمكنت من ذلك، أرجوكَ لا تلمها أبدًا فكل الحق يقع على عاتقي))
عقدت الحاجة زاهية حاجبيها بصدمة لتقول مستهجنة
((ماذا حدث يا مَالك؟ هل كنتَ معها؟))
أومأ مَالك بوجهه المضطرب ثم هتف بصوت مثقل بالذنب
((نعم أمي، عدنا الآن فقط من المشفى معها هي وسمية ويزيد، ألحت عليّ زوجة أخي أكثر من مرة أن أعود بها للبيت ولكنني من أصررت على الذهاب لأحد المطاعم من أجل يزيد، لقد تعرضت ذراعه لرضوض عديدة وكان..))
نست الحاجة زاهية فجأة موضوع نورين وكل ما ركزت به هو جرأة تلك البستانية في خروجها هي وابنها مع مَالك للخارج! فصرخت بغل مكبوت
((مَالك ما شأنك أنتَ بابن البستانية! بل ولم تفكر حتى بالاتصال بي لتخبرني عن زوجة أخيك))
أغمضت نورين عينيها وهي تعض على شفتيها! لقد اقترح عليها مَالك لأكثر من مرة أن يتصل بأمه ليعلمها عن وجودها معه إلا أنها أصرت عليه ألا يفعل.. لم تكن تريد من أحد أن يعلم أحد بخروجها قبل مُصعب، حتى يقف معها وبصفها إذا ما وبخها أحد على خروجها وحيدة! يا لغبائها الذي جعلها تظن بأنه لن يلاحظ أحد اختفائها هي والسيارة..
اقتربت رتيل تهمس في إذن حماتها تؤنبها بتهذيب
((أخبرتك يا عمتي أن تتصلي على مَالك وتخبريه عن اختفاء نورين ولكنكِ رفضتي، كنتِ ستوفرين الكثير من الوقت والقلق علينا لو اتصلتِ عليه))
هزت زاهية رأسها بخيبة أمل من مَالك وتحسرت وهي ترشقه بنظرات الإحباط
((قلت لنفسي ما الحاجة أن أقلقه وقد يكون سبب تأخر عودته شيء مهم يشغله في عمله! لم أظن أبدًا أن يكون هو السبب في اختفائها))
عاد مَالك يلتفت لأخيه متحفز الملامح يرجوه التفهم
((مُصعب أمي معها حق أنا السبب وأنا المخطئ ومن عليه تحمل مسؤولية كل ما حدث..))
أغمض مُصعب عينيه يقول بصوتٍ مشحون
((حسنًا يا مَالك فهمنا، اذهب الآن))
ثم فتحهما مصوبًا نظره باتجاه نورين يطالعها بتعابير غير مقروءة وهو يردف آمرًا إياها
((الحقيني يا نورين ولنكمل نقاشنا فوق))
شد مَالك على يده الممسكة بكتف أخيه يردد مغمغمًا بعينين راجيتين
((أخي.. أرجوكَ مرر الأمر.. حاسبني وأشبعني أنا لكمات كما تريد حتى تكتفي، ليس من العدل أن تؤنبها بسببي، أرجوكَ))
قاطعته والدته قائلة بصرامة وقلب الأم لا يتخيل مجرد تخيل ضرب أحد أولادها للآخر
((اسكت يا مَالك وهل كنت لأسمح له أن يتعرض لكَ بخدش من أجل امرأته!))
لم يرد مُصعب عليه بل بهدوء استدار يغادر باتجاه الدرج الذي يتوسط الصالة ثم إلى جناحه.. ونورين تسير خلفه بخطوات مترددة.. خائفة..
جاءت رتيل بعد أن غابت لدقائق لتقول لمَالك
((عمي يطلبك، يريد منكَ أن تحضر لغرفة نومه))
التفت زاهية لابنها.. ورغم الإنهاك والقلق الظاهر عليها إلا أنها حاولت أن تستعيد رباطة جأشها ووقارها وتخبره بهدوء
((تعالى يا مَالك وتفقد والدك وحالته الصحية لتعي مقدار المشاكل الذي حدثتك بسببك))
لم يرد مَالك على والدته بل ظل يرمقها متجهمًا خضرة عينيه التي ورث لونها هو وتوأمه منها هي..
عقدت زاهية حاجبيها وهي ترى عينيه غارقتان في دوامة من الانفعالات.. قلق.. لوم.. غضب.. عتاب.. فوجدت نفسها تسأله بنبرة عميقة مضطربة
((لماذا ترشقني بهذه النظرات يا مَالك؟))
أبعد مَالك نظره عن مرمى عينيها وتقدم للأمام نحو غرفة نوم والديه بينما يجيبها بجفاء
((لقد حدثت كل هذه الجلبة اليوم بسببك يا أمي))
فتح مَالك غرفة النوم بينما أمه تتعبه هاتفة من خلفه باستياء مفعم الاستنكار
((بسببي؟ هل تلومني يا مَالك؟ على ماذا تلومني؟))
اتسعت عينا الحاج يعقوب الذي كان متمددًا على سريره وهو يرى الانفعال بصوت زوجته.. فاعتدل شبه جالس مقاومًا شعوره الجم بالإعياء وهو يتحدث مع ابنه بحزم
((لماذا تتحدث مع أمك بهذا الشكل يا مَالك؟ لقد أخبرتني رتيل بالضبط ما حدث بسببك))
شد مَالك على أسنانه شاعرًا بالغيظ من زوجة أخيه التي لا تقدر على كتم حرف إلا أنه قال
((أنا لا أقصد شيء، لكن لم يكن على أمي أن تحرض مُصعب على زوجته خاصة وأنها كانت برفقتي أنا وسمية))
ارتفع حاجب يعقوب قليلًا وببطءٍ شديد لكلام ابنه.. ثم نظر لزوجته يرى الامتعاض وسط إجهاد وجهها.. فتحركت شفتاه قائلًا بنبرةٍ خفيضة تحمل شيئًا من السخرية
((انظري لمدللك كيف يلومك وهو المذنب الرئيسي فيما حدث اليوم))
تسمرت زاهية مكانها بصدمة في البداية ثم ناظرت مَالك تقول بصوتٍ يعلو برجفة الغضب من اتهامه المجحف
((هل أنتَ واعي لما تقوله! لقد خرجت نورين من البيت كله بدون اخذ إذن زوجها أو إذني، ألم تفكر ما موقفي وأنا سيدة هذا البيت بعد أن يعرفوا أن أحد نسائه هربت بسيارة زوجها؟))
ساند يعقوب زوجته بصوتٍ حاد
((أمك معها حق يا مَالك، وهل هناك امرأة تجرؤ على أن تضع قدمها فوق عتبة البيت قبل أن تحيط زوجها أو عائلته بعلم إلا التي لم تتلقَ أي تربية في بيت عائلتها؟))
لمست زاهية الانفعال في صوت زوجها فتقدمت منه على عجل تمرر يدها فوق ظهره بتوسل ضمني
((اهدأ يا عزيزي فصحتك أهم شيء الآن))
إلا أنه استطرد كلامه في لوم مَالك
((الأنكى عندما سمعت بأنه ذهب وبكل بساطة معها للمطعم يتناول الغداء بدون حتى أن يكلف نفسه بالاتصال بكِ))
هتف مَالك بصوتٍ خشن متحشرج
((أبي لا تتحدث وكأني قمت بمنكر ما، كانت معي سمية ويزيد))
بدا على يعقوب كمن تذكر سبب طلبه لمَالك ثم سرعان ما تجهم وهو يهتف سائلًا إياه بغضب
((بعيدًا عن موضوع زوجة أخيك، كيف علمت بشأن حادثة ابن سمية؟))
أجابه مَالك ببديهية
((لقد اتصل بي مُدرِّسَه وأخبرني))
نظر يعقوب لابنه مضيّقًا عينيه وساد صمت ثقيل بينما قبل أن تسأله زاهية بصوتٍ خفيض متوجس
((وبأي صفة يتصل بكَ مُدرِّسَه؟ أنتَ حتى لا تعمل بنفس مدرسته، ألا يطلب مدير مدرسته هويتك الشخصية قبل أن يسمح لكَ بأخذه من المدرسة؟))
توتر مَالك ولم يخطر على باله أن يداهمه أحد بمثل هذا السؤال إلا أنه أجاب دون لبكة
((أمي مدير مدرسته لا يطلب مني أي هوية فهو يعلم أنه يعيش بالقرب منا ويراني أقوم بإيصاله لمدرسته غالبا))
ضاقت عينا يعقوب ليهز رأسه بسخط ثم يقول باستياء بالغ
((أنتَ لا تعي ما تفعله! الجميع يعرف بأنكَ ابني وتصرفاتك هذه مع طفل لا يمت أي صلة لكَ ستثير الشبهات لنا جميعًا!))
ازدرد مَالك ريقه وهو يدرك غاية والده فقال مستأذنًا بتهذيب
((هناك اتصال ضروري أريد إجراءه، هل يمكنني الذهاب؟))
قال يعقوب في نزق وهو يشيح بيده له كمن لا يطيق النظر في وجهه لدقيقة أخرى ((انصرف))
خرج مالك وانتشل هاتفه من جيبه ليتصل بسمية ويرى إذا ما كان أحد تحدث معها وضايقها!
=============================
أوصد مُصعب الباب خلفه وهو يحدق بنورين تتقدم للداخل مُنكَّسة الرأس.. ترتعش وهي تفرك يديها ببعضهما باكية..
شعور بالشفقة عليها تملَّكه وهو يطالع وجهها المحتقن بالاحمرار.. عيناها الخائفتان.. شهقاتها الناعمة.. بدت كطفلة مذنبة صغيرة بمنتهى البراءة.. إلا أنها كانت تستحق أن تنال منه بعض القسوة بالأسفل.. فجلس على طرف سريره مقابلها ينظر إليها نظرة فارغة يضم قبضتيه أمام شفتيه.. ثم سمعها تغمغم من بين شهقاتها الخافتة عندما لم ينطق بشيء
((أنا أسفه.. لكن لم تكن هناك أي وسيلة توصيل سريعة وتفتت قلبي للوعة سمية على ابنها))
أبعد قبضتيه عنه وهتف بها بصوتٍ قوي مشبع بالغضب ما إن رفعت عينيها له
((حتى ولو، لقد غادرتي المكان بدون أن تخبري أحد في البيت! هل تخيلتِ حالي عندما اتصلت أمي بي تخبرني أن زوجتي مفقودة وهم يبحثون عنها منذ ساعات بلا جدوى؟))
بصعوبة خرجت الكلمات من شفتيها
((كنت أنوي إخبارك أنتَ ما حدث بمجرد عودتي، لكن لم أظن أنهم سيلاحظون غيابي فأنا أظل في المطبخ أو عند سمية لساعات بدون أن يشعر أحد، أنا كالشبح بالنسبةِ لهم))
هتف بها مستنكرًا بقساوة
((لا تبرري.. ليس عذرًا كافيًا يا نورين))
ارتعد قلبها مجددًا وهي تشعر بأنها خيبت ظنه وأمله فيها..
هل يكرهها الآن وهو نادم على لطفه وتساهله السابق معها بعد زواجهما بتلك الطريقة! وهل سيعيد حساباته معها ويقرر التغير؟ لأنها لن تحتمل ذلك.. لن تحتمل أن تتلقى منه الجفاء أو النبذ؟ أبدًا ليس منه..
رفعت وجهها الغارق بالدموع لتناظره بعينين حمراوين
((لا بالتأكيد لا.. أنا لا أبرر أبدًا.. أنتَ محق))
هتف بها بانفعال
((إذن كيف خرجتي من البيت بدون إخبار أحد! لا أستطيع حتى الآن تصديق كيف صدر أمر كهذا منكِ!))
تهدجت نبرتها الرقيقة بالخزي مِمَّا فعلته لتقول بضعف
((أقسم بأني كنت أريد إخبارك لكني لم أملك أي وسيلة لأتواصل بها معك، وكنت أعلم بأني لو طلبت من أحد يحتفظ برقم هاتفك أنتَ كان ليرفض ذهابي، خاصة أمك فهي لا تحب سمية))
رفع إحدى حاجبيه وهو يقول ساخرًا بلا مرح
((إذن المشكلة بالهاتف؟))
هزت وجهها المحمر من البكاء وهي تؤكد
((شعرت بأنه لو كان لدي هاتف واتصلت بكَ لم تكن لتمانع بل كنت لتطلب مني أن اعتني بسمية وأوصلها للمشفى))
تهاوت ملامحه وانهار شيء من القساوة عن وجهه وهو يأمرها بصلابة
((أحضري رخصة قيادتك يا نورين))
حدقت به متفاجئة من طلبه وعند استمرار ثبات ملامحه هزت رأسها له بطاعة واتجهت نحو أغراضها تفتش على الرخصة..
ناولته إياها فأشار لها بوجهه الجامد أن تجلس بجانبه..
اتسعت عينا نورين قليلًا وفغرت فاهها بلا فهم ليشير بيده للمكان بجانبه فق السرير ويطبطب فوقه مغمغمًا
((اجلسِ هنا))
شيء في داخله أزعجه من ارتعاشها المتزايد فرغم حدته في الحديث معها إلا أنه لم يكن له سوابق معها لتظهر هذا الكم الهائل من الخوف منه!
أما نورين فازدردت ريقها وبتردد تقدمت منه أكثر تجلس وهي تغمغم
((مُصعب أنا أسفه جدًّا على ما حدث.. أعرف أن ما فعلته تسبب بإقلاقكم جميعًا.. لكن سأكون عند حسن ظنك مستقبلًا ولن أكرره..))
عندما لم تجد منه أي رد وهو مكتفي في التحديق برخصة قيادتها وقراءتها استطردت تقول مبررة بما قد يشفع لها عنده
((كنت معتادة عند والدي أن أخرج دون إعلامهم، حتى أحيانًا لمحافظات أخرى لزيارات صديقاتي في الجامعة، كان أبي يثق بي ويعرف بأني على قدر المسؤولية.. لهذا ذهبت من تلقاء نفسي لكن نيتي تضمنت أن اشرح لكَ لاحقًا.. أنا أستحق أي عقاب قد تنزله عليّ لكن أرجوكَ سامحيني ففي نهاية الأمر أنا لن أتحمل أن تظل غاضبًا عليَّ))
عند نهاية حديثها نظر أخيرًا لها ووضع عينيه في عينيها وسألها بجدية اكتنفت صوته
((وما هو العقاب الذي تقترحين أن أنزله عليكِ يا نور؟))
زاد القلقٍ المرتسم في نظراتها وعلى ملامحها.. لكن في المقابل تجلى العبث على تقاسيم وجهه وهو يراها تشرد بعينيها المتجهمتين الخائفتين لتبدأ بالاستغراق في التفكير بكلامه وعقلها يضع الكثير من الاحتمالات المقلقة التي يقصدها..
لمعت عينيه بشرٍ عابت جديد عليه وهو يكرر كلامه ببراءة
((أريد أن اسمع اقتراحك في البداية، هيا تحدثي))
خرجت من شرودها وهي تتنحنح تحاول أن تجلي صوتها قبل أن تقول بصوتها المتحشرج
((أولًا وللمرة المليون اسمي نورين وليس نور، لكن يمكنك أن تفعل أي شيء..))
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يراها تمسك يده الحرة وتقربها من وجهها هادرة
((اصفعني إذا أردت وأنزل عليَّ أقسى الضربات لكن أريدك أن تسامحني على الجلبة التي حصلت بسببي اليوم ولا تتغير معي))
تلاشى فجأة ذاك البريق المتلاعب الذي كان يبرق خفية في عينيه وعاد للتجهم وهو يقول بصوتٍ واجم
((حسنًا سنتحدث في موضوع الضرب لاحقًا، دعينا نركز في رخصتك))
مرت لحظات مشحونة بالتوتر بينهما ثم نفض يدها الممسكة في ذراعه ورفعها فانكمشت على نفسها وأحاطت وجهها بكلتا يديها مجفلة بغريزة الدفاع عن النفس.. لكن تلاشى خوفها حالما عرفت بأنه رفع يده ليحاوط ذراعه بطولها حول كتفها.. همهم مصعب قبل أن يقول بإعجاب أقرب للذهول
((ممتاز.. أخذتي الرخصة قبل ما يزيد عن خمس سنوات أي عند تخرجك من المدرسة الثانوية! هل امتلكتِ سيارة في بيت والدك؟))
رفعت وجهها لنظراته المصوبة نحوها تسرح في تقاسيم وجهه المحببة لها للحظات قبل أن تومئ برأسها وتقول بشيء من الارتباك
((لم أملك سيارة لكن كنت دائمًا ما أقود سيارة أبي التي لا يستخدمها كثيرًا، حتى أني أحيانًا كنت أذهب بها لجامعتي لأن حافلات القرية المحملة لحافلات الجامعة غير متوفرة دائمًا))
مال برأسه نحوها يزيد من ارتباكها خاصة وثغره يرسم ابتسامة خطفت لبها بينما يقول
((مذهل.. أنتِ متمرسة إذن.. أنا لم أتعلم القيادة إلا عندما اشتريت سيارتي هذه عندما حظيت بوظيفة، هذا قد يخفف من العقاب الذي قد أنزله عليكِ))
تمتمت له بخفوت وعينين مشدوهتين ((حقًا؟))
ازدادت ابتسامته اتساعًا وهو يتابع الكلام ((نعم.. لسببين))
تمتمت متسائلة وإعجاب وانبهار لم ترهما قبلًا يبرقان في عينيه ((ما هما؟))
صمت للحظات وهو يجول بعينيه فوقها بتسلية بينما يقول
((الأول لأنكِ لا تملكين هاتفًا، أما الثاني سيتحقق عندما أنزل للأسفل وأتأكد بأنكِ أعدتِ سيارتي سليمة بلا أي خدش))
قالت بلهفة على الفور
((لم يمس سيارتك أي خدش، كنت حذرة جدًّا بقيادتي إياها عند ذهابي للمشفى.. ومَالك قاد السيارة أثناء العودة))
أبعد ذراعه التي تحيط كتفها فجأة فجفلت مجددًا ورفعت يديها تحيط وجهها بخوف مِمَّا جعله يهتف بها باستياء
((نورين ابعدي يدك عن وجهك، هل تظنين حقًا بأني كنت لأضربك!))
أبعدت يديها تدريجيًا وشفتاها تتقوسان للأسفل ليسألها بخشونة
((هل كان يضربك أحد في بيت والدك عندما تخطئين؟))
هزت رأسها يمينًا وشمالًا نافية لتقول برقة
((لا، والدي كان يفسد في دلالنا جميعًا.. وخاصة أنا ابنته الوحيدة والكبيرة، لكن الوضع مختلف الآن.. زواجنا لم يكن طبيعيًا كما سبق وقلت في الأسفل..))
تشتت نظر مُصعب بالمكان وهو يأخذ نفسًا عميقًا جادًا ثم قاطعها يقول بصوتٍ يشوبه بحة
((لم أقصد إساءة أو أن أجرحك عندما قلتها بلا وعي مني، كيفما كان زواجنا لن يختلف شيئًا، لذا اجعلي من كرامتك "خطًا أحمر" لا يُمكن تجاوزه وكوني صلبة معتزة بنفسك أمامي كما سبق وكنتِ عند عائلتك.. أكره أن أعلم أحد هذه الأمور..))
ارتجفت شفتاها بذنب لم يخفت وهي تقول
((ولكني أخطأت خطئًا فادحًا.. وأنا.. أحبك..))
مجددًا أخذ نفسًا عميقًا يحمل نفسه على الصبر وهو يقول
((وأنا أيضًا أحبك يا نورين لذا لا تتخلي عن رِفعتك وعِزة نفسك، ولا تقبلي على نفسك أي شيء يكسرها أو يهينها.. ودعينا نتوقف عند هذا الحد في الحديث اليوم))
لا تدري لماذا لا تشعر بذرة مشاعر لكلمة "أحبك" التي نطقها كما خرجت من شفتيها هي.. كأن الكلمة خرجت منه باهتة لا تحمل من معناها الحقيقي شيئًا!
إلا أنها وجدت نفسها مع ذلك عفويًا ترفع ذراعيها لتطوقا رقبته وتضمه هادرة بصوتٍ متأثر
((أنا أحبك يا مُصعب.. حقًا))
مالت زاوية فمه في ابتسامة يائسة منها وعطوفة.. لكن عندما شعر بها تضييق الخناق عليه وهي ندفن وجهه في صدره قال وهو يحاول تحرير نفسه برفق منها
((ابتعدي، ابتعدي عني يا نورين إذا كنتِ لا تريدين مني أن أتراجع عن السماح))
انتفضت عنه على الفور لهفة باندفاع
((لا.. لا.. لا كله إلا أن تتراجع))
رفع مُصعب سبابته يلوح أمامها بجدية
((وإياكِ يا نورين أن تكرري مسألة خروجك من المنزل بلا إحاطتي علمًا أنا أو أحد في المنزل على الأقل، لو كنا نعيش في شقة مستقلة بمفردنا عنهم لما قلت شيئًا لكننا نعيش في بيت العائلة هنا.. أفكر بجدية الانتقال من هنا، بالأساس عندي شقة ملكي مستقلة لا تبعد كثيرًا عن هنا))
عقدت ما بين حاجبيها وهي تخمن أن هذه الشقة التي يملكها سبق وكانت له مع زوجته السابقة! لكنها لم تعقب بل أطاعته
((حسنًا لا تقلق))
رفع مُصعب يديه يفك وشاحها ليعيد الخصلات الشقراء الرفيعة من شعرها حول وجهها خلف أذنها.. ثم توقف عما يقوم به ليحدق بهدوء في وجهها البسّام وعينيها تنتشي ببريق أخاذ كما روحها..
لم يشعر بنفسه أنه أطال النظر في عينيها وعندما فعل أخيرا تنحنح يقول بصوتٍ خفيض
((نورين خذي حمامًا سريعًا وارتدي ملابس أخرى أريد أن نذهب أنا وأنتِ لمكان أخر))
سألته بفضول ودهشة
((أين سنذهب؟))
طلب منها مُصعب دون أن يفصح عن وجهتهم
((تجهزي أولًا))
قالت بلهفة وهي تبتعد على الفور
((سأنتهي بسرعة لا تقلق..))
((لا تتعجلي، خذي وقتك))
.
.
تسللا الاثنان للخارج بعد مدة قصيرة دون أن يراهم أحد..
ذهبا إلى حيث سيارة مُصعب واستقلالها.. وهناك ابتسمت لمُصعب وهي تلاحظ بأنه يمعن النظر بها وتساءلت بعفوية
((هل أعجبك ثوبي؟))
أقر مُصعب بإعجاب جلي
((يبدو غاية في الأناقة عليكِ، من يراكِ في هذا الثوب لا يتخيل أنكِ نفسك من كنتِ قبل قليل ترتدين تلك العباءة والوشاح الغير متناسقين!))
تجهمت ملامحها ولكزت كتفه بخفة متذمرة
((لا تكن فظًّا، لقد كنت مستعجلة للذهاب مع سمية إلى المشفى في أسرع وقت مُمكن ولم أنظر لنفسي في المرآة! حتى الوشاح وضعته كيفما كان))
خرجت منه ضحكة رجولية خافتة معقبا
((أنا لا أحاول أن أكون فظًا، بل امتدح أناقتك.. وكيف تختارين الملابس المناسبة للمكان المناسب.. شجعتني أن أذهب بكِ لمطعم لتناول العشاء بعد أن نذهب للمكان الذي سنقصده..))
رفعت حاجبيها تتساءل بدهشة يشوبها الحماس
((هل أنتَ جاد؟))
رماها بابتسامة مؤكدة وهو يقول بهدوء
((نعم، صدقيني أنا لا أجاملك، واشعر بأني محظوظ بكِ، فأنا رجل أحب رؤية امرأتي أنيقة وجميلة على الدوام دون مبالغة أو خروج عن التحفظ))
شعرت نورين بقليل من الذهول الذي لم تظهره.. لم تظن أن مُصعب من النوع الذي قد يهتم أو يدقق بالملابس التي ترتديها سواء في الخارج أو أمامه! وإطراؤه هذا كان أول إشادة بها تقريبًا منذ أن تزوجا.. ورغم بساطة ما قاله إلا إنها شعرت بانتشاء رهيب وسعادة تتشعشع داخل قلبها.. فدمدمت بخجل لذيذ
((شكرًا هذا من ذوقك))
أمسك مُصعب كتفها يجمد حركتها ثم قال لها وهو يخرج مفاتيح سيارته بيده الأخرى
((قفي هنا قليلًا سأدخل للمصف لإخراج السيارة))
التزمت بما قاله ووقفت مكانها باستغراب.. فلماذا لا ترافقه لداخل المصف وتجلس بجانبه وهو يخرج السيارة!
استقل مُصعب سيارته وشغل المحرك ثم استدار برأسه وكتفيه للخلف وبدأ يقود السيارة للخلف ببطء وحذر بينما يضع قدمه على المكابح ويضغط عليها ضغطات بسيطة..
بمجرد أن شعر أن السيارة ستميل جهة اليمين قام بتعديل الاتجاه وأخرجها من المصف بمهارة..
أوقف السيارة أمام نورين ثم أطفأها ليترجل من مكانه خلف المقود هادرًا
((هيا ادخلي))
اتسعت عينا نورين وهي تراه يدور حول السيارة ويفتح مقبض باب الجانب الأخر.. فتساءلت بغير تصديق وهي ترفع إبهامها لصدرها
((هل تريد مني أن أجلس أنا خلف المقود؟))
تهكم وهو يصعد لداخل السيارة
((ما رأيك أنتِ؟ إذا لم أكن أريد ذلك فلأي سبب جلست هنا!))
مد يده يضغط فوق زامور السيارة يقول باستياء
((هل ستبقين واقفة هنا مكانك طويلًا؟ هيا اصعدي فورًا))
جفلت وسارعت كمن دبت فيها الحياة فجأة تفتح مقبض باب السيارة وتستقلها.. كاتمة بصعوبة ابتسامتها المبتهجة ثم شغّلت المحرك بحماس وغمغمت وهي تعدل المرآة الأمامية
((ضع حزام الأمان سأنطلق الآن))
كان يجلس في مقعده بجانبها مندفعًا بجذعه للأمام نحوها وكأنه بحالة تحفز بينما يقول
((لن ارتدي حزام الأمان الآن.. أريد أن أكون متهيئًا لردة فعل سريعة إذا ما حدث أي شيء مباغت اضطرني أن استلم منكِ زمام قيادة السيارة، لا أثق بكِ بعد وبتمكنك من القيادة!))
زمّت شفتيها بعبوس لصراحته هذه! لكن سرعان ما انحسرت هذه الملامح ونظرت أمامها بتركيز وهي تقول بمرح
((كما تشاء))
مرت دقائق قبل أن تتراخى جلسة مُصعب في مقعده براحة وهو يدرك بأنها تقود السيارة وتتجاوز المنعطفات بسلاسة ومهارة.. فكتف ذراعيه ثم قال بصراحة
((عليّ أن أشيد أيضًا بقيادتك، من المذهل أن تكون بهذه السلاسة والمهارة من أول أو ثاني مرة تقودين فيها سيارتي.. أنا ارتبك قليلًا عندما أقود سيارة مختلفة عن نوع سيارتي))
تشدقت نورين بفخر وغرور محبب
((أخبرتك أني متمرسة، لقد قدت الكثير من سيارات أقاربي بجانب سيارة والدي.. لدي قدرة وعلم ومهارة بأنواع القيادة وطرق التشغيل للعديد من المركبات والتي تختلف بين الواحدة والأخرى))
هدر بها حانقًا بصوتٍ مرح
((حسنًا يكفي غرورًا.. عرفنا بأنكِ ماهرة))
ضحكت بخفوت ثم سألته بدلال
((حسنًا ولكن إلى أين يجب أن أذهب الآن بعد أن خرجت بالسيارة من القرية؟))
أعلمها مُصعب بهدوء
((سنذهب لأحد متاجر الهواتف الجيدة))
=============================
كان مُؤيد يقود سيارته بسرعة معقولة كعادته إلى شقته المستأجرة في المدينة عندما جاءه اتصال من زوجته تخبره أن "عروس الثأر" هربت من المنزل سارقة سيارة أخيه..
فلم يشعر بنفسه إلا وهو يغير اتجاه سيارته ليعود أدراجه بمناورات خطرة وسط الزحام.. ويده عند كل إشارة تضرب بقوة على المقود لعل السيارات تعطيه أولوية.. وبمجرد أن وصل إلى منزلهم حتى ترجل من سيارته دون ركنها ثم ذهب في الأرجاء يحاول سؤال المزارعين الذي يعملون تحت إمرتهم إذا ما كان أحد قد رأى سيارة مُصعب تمر من هنا أو هناك دون أن يفتضح أمر هروب نورين.. وها هو يعود للبيت بعد أن عادت رتيل تتصل به وتخبره بأنها عادت..
اندفع مُؤيد إلى داخل القصر وبخطوات سريعة عنيفة توجه نحو جناحه يهتف باسم زوجته مستنكرًا هدوء المنزل
((رتيل.. رتيل.. رتــــــيل))
ردت عليه رتيل وهي تهرول مسرعة باتجاهه
((نعم.. نعم.. أنا قادمة.. لماذا تأخرت في العودة؟))
قال بصوتٍ شرس من بين لهاثه
((أين هي؟ هل عادت حقًا؟ أين هي؟ وأين كانت؟))
غمغمت رتيل من بين أسنانها وهي تغلق باب الجناح حتى لا يصل صوتهم للخارج
((البيت مقلوب رأسًا على عقب، فلا تشحن الأجواء أكثر من ذلك..))
وقف يتطلع إليها بأنفاس لاهثة قبل أن يقول بصوتٍ متهدج من شدة الغضب والأفكار السوداوية التي تداهمه ليفعلها بها
((أجيبي أين هي الآن؟))
جرّته رتيل من كتفه ليجلس فوق السرير وهي تجيبه بسخرية لا تحمل مرحًا
((في غرفة أخيك، ربما سيتولى هو أمر قتلها فلا تلطخ أنتَ يدك))
مسح على وجهه وتنهد بعنفٍ ثم تطلع لزوجته هاتفًا
((هل تستوعبين ما أقدمت عليه يا رتيل؟ لقد هربت من هنا بسيارة أخي؟ هل تعرفين ماذا كان يعني لو لم تعد؟ أن ثأرنا ما زال قائمًا طالما فقدنا فدية))
قطَّبت رتيل حاجبيها تخبره بانزعاج
((توقف يا مُؤيد عن التسرع باندفاعك إلى تلك الأفكار وأهدأ قليلًا أرجوكَ، ودعني أخبرك ما الذي جعلها تهرب بالسيارة))
إلا أن مُؤيد لاهث الأنفاس شعر بأنه لن يهدأ إلا قبل أن يفرغ طاقة الانفعال الهائلة في داخله عليها.. فزعق برتيل ومستنكرًا كلامها
((هل تبررين هروبها يا أمرأه؟ هل هناك شيء يبرر ما فعلته؟))
إلا أنها دفعته ليريح جسده على ظهر السرير وجلست بجانبه تخبره بالتفصيل ما حدث مع نورين وجعلها تغادر بسيارة أخيه.. ورغم اهتياج مشاعره إلا إن بقية عقل تحكمه جعلته ينصت لسردها ولم يجد بعدما انتهت إلا أن يعود ليلومها بقوة
((أنتِ المخطئة يا رتيل.. أنتِ المخطئة.. كم من مرة أخبرتك أن تراقبيها ولا تبعدي بصركِ عنها؟ كم من مرة يا رتيل!))
صدرت من رتيل شهقة مستهجنة شعبية قبل أن تعترض بامتعاض
((هل أنا المذنبة بعد كل هذا؟ هل أنا من سرقت سيارة أخيك وهربت لأوفر ثمن المواصلات العامة على البستانية؟ إذا كنت تريد أن تلوم أحد غير نورين فلُم مَالك، لقد جاءت للمشفى عنده ولم يحاول حتى أن يتصل بأمك))
استقام مُؤيد بجلسته يرد عليها يغضب
((بل أنتِ المخطئة، لو من البداية وضعتيها تحت عينيكِ لما حدث ما حدث..))
تخصرت رتيل وهي تغمغم بامتعاض
((لقد كنت أقوم بعملي جيدًا منذ بداية مجيئها هنا، لكن أمك نبهتني أن أتوقف عن معاملتها كخادمة وألا أتدخل بخروجها للحديقة أو إلى بيت سمية.. الآن اسمع كلامك أم كلام أمك؟))
شرد مُؤيد بنظره جانبًا وشعر بصحة كلام زوجته فدمدم بلوم مكتوم
((أمي لم تكن لتامرك بكل هذا لولا تنبيه مُصعب لها! لكن لا بأس ها قد تعلم درسه وعرف أن النساء لا يجب أن يعطيهن الحرية حتى على مستوى وجودهم في البيت، أخي الأخرق عديم الخبرة في التعامل مع النساء))
ارتبكت رتيل فجأة عند كلامه، لو يعرف فقط من هو عديم الخبرة الحقيقي هنا! تنحنحت قبل أن تقول له بصوتٍ لا تعبير به ((معك حق في كلامك يا مُؤيد))
عاد مُؤيد يصب سخطه على أخيه وهو يرفع كفيه يتخلل شعره بأنامله
((انكى ما في الأمر يا رتيل أن هذه ليست أول مرة له، فقد سبق واستغلت ابنة عمي تساهله معها لتهرب للخارج على حين غفلة حيث تسكن والدتها الفاسقة وتطلب الطلاق منه هناك رغمًا عنه))
عقَّبت على كلامه بحذر وهي تراقب انفعاله
((موضوع ابنة عمك رشا مختلف، فقد تزوجها بعرف النهوة رغمًا عنها وبغير موافقتها وجعلهم يوسعونها ضربًا لتقبل الزواج منه، كنت ترى بنفسك كيف كانت حزينة وذابلة طوال فترة سكنها هنا معه، وتساهله معها ما هو إلا نتيجة لشعوره بالذنب لإجباره على العيش معها))
هتف بها بإصرار وهو يلوح بيده بغضب
((حتى ولو كان قد أجبرها، لكن بمجرد أن صارت زوجته فمن حقه أن يفعل بها ما يشاء ويضيق عليها الخناق حتى لا يلومه أحد لو أخطأت، انظري ماذا حدث عندما تساهل معها، أخذت أوراقها وجواز سفرها وهربت للخارج لتصمنا جميعًا بالعار))
أنهى مُؤيد كلامه وأطلق تنهيدةً يلفظ شيء من سموم روحه ليصمت.. لكن طُرق باب جناحه بعد دقائق من قِبَل والدته التي ما إن دخلت حتى تساءلت باستغراب
((مُؤيد! لا زلت هنا؟))
أومأ مُؤيد برأسه لتقول والدته التي كانت متشنجة الملامح
((هذا جيد فقد خفت أن تتهور، إنها زوجة أخيك وفي النهاية لا يصح أبدًا أن تتحدث معها دام زوجها موجود))
حاول مُؤيد الحفاظ على هدوءه لوجود أمه إلا أنه هتف من بين أسنانه بصوتٍ سقيم يغوص في تخيلات سادية
((كيف لا تريدين مني التدخل؟ آه انتظري فقط حتى يخرج مُصعب من جناحه فقط لأرى إذا بقيت زوجته على قيد الحياة، حينها سأُجهِز عليها وأكسر ما تبقى من عظامها، وألقنها درسًا، بل وسأفرغ بها كل الغضب المكتوم في داخلي تجاه رشا! ما تزال يدي تحكاني تريدان الثأر من الفضيحة التي افتعلتها في حقنا، فرشا لم تكن زوجة أخي وحسب بل ابنة عمي الوحيدة وشرفها من شرفي))
أظلمت عينا زاهية وكأن سحابة قاتمة غطت حدقتيها، حتى أن حاجباها انعقدا لذكر سيرة رشا.. فعقَّبت على كلامه بصوتٍ مقتضب
((ليس هناك وجهة مقارنة بين ما فعلته نورين ورشا يا مُؤيد، فعلى الأقل نورين كان غرضها فيه شيء من الإحسان والنبالة رغم سخفه، أما رشا فقد استغلت طيبتنا جميعًا معها وتعاطفنا وجلبت لنا العار جميعًا بهربها للخارج وطلبها الطلاق))
شعر مُؤيد عند ذكر "العار" بالحرارة تنطلق بين أوصاله كأن هناك من أضرم النيران في صدره.. فقال باستياء شديد وأنفاسه تتسارع في رئتيه
((لا يهم فكله سيان بالنسبة لي، آه لو كنت أنا من تزوجت عروس الثأر! لدفنتها اليوم وأعلنتها عودة للصراع بين العشيرتين حتى لا نقبل فدية لابن عمنا إلا الدم))
شعرت رتيل وكأنه قد لكمها للتو إلا أنها أسبلت جفنيها قليلًا تحث نفسها على الصبر فليس كأنها أول مرة يعبر عن حسرته لأنه لم يتزوج من نورين! في حين لم تتقبل زاهية كلام ابنها.. خاصة وهي ترى نظراته القاتمة المُدلهِمّةٌ يسبح فيها شبح الثأر الغاشم! إنه يريد الثأر لابن عمه لمجرد الثأر فليس وكأنه أكثر إخوته حبًا لابن عمه الراحل.. فلم تجد في النهاية إلا أن تردعه بصوت ممتعض
((اخرس يا مُؤيد وتوقف عن الخوض في هذا النوع من الحديث.. أنتَ تعيش في المدينة هناك ولا تأتي هنا إلا كضيف كل أسبوعين ولن تتأثر ببحر الدماء والدمار الذي تأمل أن يحدث بين العشيرتين..))
=============================
زفر مَالك بضيق وهو يعود من بيت سمية الذي كان مغلقًا ولم يجد أي رد منها رغم طرقه للباب بقوة ولدقائق طويلة..
أين تراها تكون هي ويزيد الآن!
شيء بداخله جعله يمر نحو الحديقة الخلفية ثم يدخل من بابها للمطبخ.. لكن بمجرد أن اقترب من باب المطبخ الذي كان مفتوحًا بعض الشيء حتى وصل له أصوات زعيق عالية.. تناهى إلى سمعه صوت نعمة العالي الموبخ
((هل تعرفين إذا ما طلقها السيد مُصعب بسببك كانت لتفور فورة رجال القرية لطلب ثأر يحيى الكانز؟ لقد تسببتِ لنورين بالكثير من المتاعب بسبب لحاقها بكِ!))
ازدردت سمية غصّتها بأشواكها اللاذعة ثم غمغمت باعتذار
((معكِ حق يا سيدة نعمة أنا آسفة))
انكمشت ملامح منال بازدراء وتفاعلت أحماض معدتها لتترجم أفكارها إلى كلمات هادرة
((أنتِ وابنك لا تنجون إلا بإثارة المشاكل هنا.. لو كنت مكان الحاجة لما ترددت برميكما في الشارع يا وضيعة الأصل))
هدرت سمية بصرامة في منال وكلماتها المهاجمة دون رادع
((لا أسمح لكِ يا منال بالتحدث معي ببذاءة لسان))
تدخلت نعمة تقول
((وهل هي مخطئة؟ تشغلين السيد مَالك بمشاكل ابنك وكأنه يتيم الأب، والان تتسببين المشاكل للسيد مُصعب وزوجته!))
عادت منال تطلق كلماتها بلسانها الطويل المنفلت غير عابئة بشعورها أو كرامتها التي تعبث معها من خلالها
((بسماحك للسيد مَالك في الحوم حولك تثبتين القول بأنكِ امرأة متلهفة للحنان وللاحتواء وسهلة المنال))
رددت واحدة ممن يعملن في المطبخ ((معكِ حق))
جحظت عينا سمية مما تسمعه وارتجفت شفتاها وكانت تريد ردع منال لولا تدخل نعمة مجددًا بصرامة
((في كل مرة تخرقين أوامر الحاجة زاهية تمرر الأمر لكِ، لكن هذا التنبيه الأخير لكِ! إياكِ أن تدخل قدمك عتبة هذا المنزل))
سكتت سمية ثوانٍ تتلقى كلمات الأخرى اللاذعة والدموع تغرورق عينيها.. ثم فرت هاربة من المطبخ للخارج لا تحتمل أن تستمع للمزيد.. حتى أنها أثناء هرولتها لم تنتبه بأنها تجاوزت مَالك الذي كان يقف عند الباب..
التفتت منال نحو يزيد الصغير الذي كان يتابع كل شيء يحدث ورشقته بنظرات اشمئزاز قبل أن ترميه بكلماتها اللاذعة
((انظري لابنها! على أحد أن يعلمه أن يتوقف عن الالتصاق بالسيد مَالك.. يتصرف كابن حرام لا والد له))
جحظت عينا مَالك عند هذه الكلمة التي نطقت بها منال وكان وقع الجملة عليه أشد من أن يلتزم الوقوف مكانه ولا يتحرك!
تحررت تعابيره من التشنج ودلف للمطبخ يدبُّ بقدمه الأرض في كل خطوة..
اتسعت عينا نعمة وكل من يقف في المطبخ بمجرد رؤيتهم له وأدركن بأنه استمع لجزء من الحديث الذي دار بينهم..
هتف مَالك موجهًا حديثه لمدبرة المنزل نعم بعينين مظلمتين
((هل تشرفين على عملهم هنا يا نعمة أم تشاركينهم مجلس الثرثرة؟))
ردت نعمة عليه بصرامة دون ذرة ارتباك
((سيد مَالك لو سمحت أنتَ تتردد كثيرًا على المطبخ، إذا أردت الذهاب لحديقة منزلكم الخلفية فهناك طرق أخرى مؤدية إليها غير باب المطبخ هذا))
ازداد تجهم عينيه وقد تجاوز آخر صبره إلا أنه تحامل على نفسه وقال بسخرية
((ماذا؟ ومنذ متى عليّ أن استأذن قبل أن أدخل أي مكان في منزلنا؟ المطبخ هنا يدخله أيًّا كان من رجال ونساء فلم ممنوع عليّ؟))
لم تنحسر ملامح نعمة عما كانت بل ازدادت صرامة وهي تهدر
((أنتَ تعرف ما أتحدث عنه يا سيد مَالك، والدتك دون داع تبغضها بسبب اهتمامك بها وبابنها والذي هو بغير محله، فأرجوكَ لا تجبرني على تأكيد شكوك والدتك))
نظر مَالك بصدمة عارمة، فاغرًا فمه وهو لا يصدق كيف تهدده بعلانية وصراحة!
وما زاد الطين بله التفاتها نحو يزيد الذي كان جالسًا منكمشًا على نفسه بخوف ولم يلحق أمه لتردف بجفاء وحزم
((وأنتَ يا يزيد إياكَ أن تدخل هذا القصر أبدًا، وإياكَ أن تقترب من السيد مَالك أو تتعبه بشقاوتك ولهوك، اصغ لكلامي جيدًا فأنت لست رضيعا))
لوهلة ظل مَالك فاقدًا قدرته على الكلام، قاتم الملامح والتعابير وهو ينتبه ليزيد يلتفت بعينيه اللامعتين بخيبة الأمل له قبل أن يهم الصغير أن يعتدل واقفًا من مكانه ينوي المغادرة تزامنًا مع قول نعمة كلمتها الأخيرة لمَالك قبل أن تستدير
((الآن أستميحك عذرًا))
إلا أن صوت مَالك صدح عاليا
((نعمة لو سمحتي من اليوم أريد منكِ أن تحرري نفسك من إدارة المطبخ هنا وفي المنزل ككل، حان وقت تقاعدك وراحتك بعد كل سنوات الخدمة هذه))
اهتزت حدقتي عيني نعمة الواسعتين التي تحيط بهما خطوط الزمن وتجعدات الشقاء الطويل ثم سألته عابسة
((هل تطردني من هنا يا سيد مَالك؟))
لم يجبها بل وجه نظره لمنال التي كانت لا تقل صدمة عن نعمة يسترسل حديثه بصرامة
((أنا سأنهي عمل الجميع هنا في المطبخ بشكل نهائي دون استثناء أي أحد))
قاطع يزيد حبال الصمت الذي استمر للحظات طويلة يتساءل بصوتٍ مبحوح
((حتى نجوم؟ ولكنها لطيفة جدًّا!))
اتسعت عينا نجوم لما قاله بدهشة أما مَالك قال بنفس ملامحه السابقة لكن بنبرة أقل انفعال
((إلا نجوم ستبقى هنا إذا أرادت هي))
التوت شفتا نعمة بابتسامة ساخرة مريرة إلا أنها هزت رأسها ثم قالت بصوتٍ جامد
((حسنًا يا سيد مَالك كما تريد))
غادر مَالك المطبخ وخرج للحديقة متجهًا نحو بيت سمية الصغير.. رفع يده ينوي طرق الباب والاطمئنان عليها إلا أنه تراجع وهو يستدير متراجعًا من حيث جاء.. لا ينقصها أن يراه أحد يحاول طرق بابها الآن والإسهاب في الحديث معها.. ستنزعج!
=============================
كان وليد يجلس أمام منضدة الطعام الفارغة بذهنٍ مرهق لم ينل دقيقة واحدة من النوم الفعلي أو الراحة.. الأيام السابقة كانت صعبة جدًّا عليه حتى أنه نسي في غمرة الحدث الأخير الذي عرف من خلاله أن شيرين تزوجت من ابن عمه حياته العملية والاجتماعية.. والأنكى بأنه لم يستطع أن يصل لابن عمه أبدًا.. من جهة لا يستطيع أن يتحدث معه ويجعله يطلقها إلا وجها لوجه.. ومن جهة أخرى لن يستطيع أن يذهب وينظر لشيرين ولا أن يتحدث معها وهي زوجة وعلى ذمة رجل آخر! لن يتحمل!
صدح صوت هاتفه عاليًا ليجيب بلهفة قاتمة عليه
((هل هناك جديد؟))
قال الرجل الذي أجَّره وليد ليراقب فندق شيرين بصوتٍ يشوبه الخوف
((سيد وليد لقد دخل الرائد للفندق))
سقطت الكلمات على جسد وليد كالسوط فتساءل بوجه مخطوف اللون
((هل دخل لجناحها؟))
بدا على الرجل شيء من الارتباك وهو يجيبها
((أنا داخل سيارتي ولم أتبعه داخل الفندق، ولكن لم قد يذهب للفندق إذا لم يكن من أجل الدخول عندها!))
ندم الرجل على سخرية حديثه في النهاية إلا أن وليد لم يعقب على شيء..
لقد كان مُعاذ منكبًا في عمله في الفترة السابقة ولم يسمح لأحد بالوصول له! لكن بالتأكيد وبمجرد ظهوره سيذهب عند شيرين.. فهما الاثنين بحسبتهما ما زالا في شهر العسل!
بتر وليد تفكيره وتخيلاته عند هذا الحد قبل أن تقضي عليه وتساءل بغضب مكتوم
((هل هذه أول مرة يدخل للفندق بعد ذاك اليوم؟))
قال الرجل بتأكيد
((نعم سيدي، أؤكد لكَ بأنها أول مرة، لقد كنت أراقب الأنسة شيرين طوال.. أقصد مدام شيرين طوال الأيام السابقة وأؤكد لكَ بأنها كانت تلتزم الذهاب لعملها صباحًا ومن العمل للفندق دون أن تتوقف بطريقها في أي مكان آخر))
شعر وليد بالأرض تميد به إلا أنه حاول استعادة رباطة جأشه وتساءل بصوتٍ باهت
((راقبهم للنهاية ولا تبعد عيناكَ عن شيرين، سأتواصل في الغد مع مُعاذ))
بمجرد أن أنهى وليد مكالمته حتى صفق فوق المنضدة الخشبية بكلتا يديه.. وكانت أنفاسه تتسارع في رئتيه وتعابيره متشنجةً.. يشعر بحرارة قاتمة تنطلق بين أوصاله كأن هناك من أضرم النيران في صدره.. حتى جسده كان يرتجف من فرط ما ألمَّ به.. يلوم نفسه بإسراف.. لو أنه قام بتعين شخصًا يراقب شيرين منذ البداية لكان تحرك منذ أن عرف بأنها تقابل مُعاذ أو أي رجلًا أخر!
تكورت يده وهو يشعر بخطئه الفادح.. من الغد عليه أن يصل لمُعاذ ويجبره على تطليقها قبل أن تخرج روحه من جسده كمدًا وقهرًا..
أغمض عينيه يمعن الإحساس بخيانتها.. الثانية له.. للمرة الثانية تطعنه بشظايا خيانتها فترديه ميتًا.. للمرة الثانية!
ما يخفف ألم قلبه وروحه ونفسه بأنه يعرف بل متأكد من أن زواجها من مُعاذ لتثأر لنفسها مِمَّا فعله بها.. لا لأنها تحبه..
لم يشعر وليد على خطوات زوجته جُمان التي كانت تدلف للداخل.. ولا على صوتها وهي تسأله إذا كان قد تناول طعام الغداء..
عندما لم تجد جُمان أي رد منه تطلعت له باستغراب وهالها نظراته القاتمة المُدلَهِمّةٌ على غير العادة! فسألته مرة أخرى بحذر وبصوتٍ أعلى وهي تهز كتفه برفق
((وليد.. فيما أنتَ غائب الذهن؟))
جفل وليد بخفة على صوتها.. وتحركت حدقتاه ببطء يستفيق من شروده البعيد ويدرك وجودها فنفض يدها عن كتفه هادرًا بشيء من العدوانية
((لا تلمسيني))
عقدت جُمان حاجبيها وهي تُضيّق عينيها محدقة فيه بدهشة وقلق قبل أن تبتعد عنه قائلة بتجهم ((ما بك؟))
همس لها بصوتٍ ميت مثقل
((كله بسببك.. كل ما أمر به بسببك.. بسببك تزوجت شيرين من ابن عمي ذاك الرائد حقير))
تجلت ملامح التعجب عليها وهي تغمغم متسائلة
((تزوجت من مُعاذ؟))
علا صوت وليد مؤكدًا
((نعم وأحملك أنتِ الخطأ الأكبر، فلولا تلكؤك في طلب الانفصال لكنت تحررت منكِ وأسرعت في زواجي منها))
قطبت جُمان حاجبيها تعقب على كلامه
((أنا لا أتلكأ، طلبت منكَ إمهالي مدة قصيرة حتى أمهد أمر انفصالنا لوالدي المريض..))
قاطعها يقول بنبرة قوية ولهجة شديدة
((وقد طالت هذه المدة يا سيدة جُمان وبسببك تزوجت شيرين))
احتدت عيني جُمان وهي تناظره قبل أن تأمره بتعجب مستنفر
((وليد اخفض صوتك، أنا لا أسمح لكَ بالحديث معي بهذا الشكل))
هدأت وتيرة أنفاسه وأشاح بوجهه جانبًا يغمغم بإصرار وغضب مستعر
((لكن إياكِ أن تظني بأني قد استسلم له أو قد أغفر لها، سأجعله يطلقها اليوم قبل الغد.. هي مسألة وقت قصير))
تغيرت ملامح جُمان بقنوط وهي تسمع ما يقوله ثم قالت بصوتٍ واجم
((على كلٍ، أنا بالفعل بحاجة لأيام قليلة وبعدها سأنتقل من هذا البيت..))
رفع وليد إحدى حاجبيه يعود ليرفع نبرة صوته وهو يخبرها بشيء يشبه التحذير
((فقط عدة أيام وإياكِ والمماطلة أكثر أو إفساد ما أخطط له))
شملته بنظرة معاتبة وهي تخبره بعينين بارقتين دون أن تفقد رزانتها المعهودة
((لست أنا يا وليد من قد يؤذيك، سأبقي كما أنا معكَ للنهاية مهما خاب ظني بكَ، فانتهاء رغبتي بكَ ليست كرهًا))
أخفض وليد بصره في صمت.. ثم ناظرها بطارف عينيه هامسًا بتقرير أقرب للاعتذار ((أعلم ذلك))
تحركت شفتاها أخيرًا في شبه ابتسامةٍ باهتة لا تحمل أي حياة وهي تقول بخفوت
((وليد.. قبل أن ننهى كل ما بيننا أتمنى منكَ لو تتحلى بشيء من الرفقة كالتي امتلكتها وقت تمسكت بي.. لو سمحت))
رفع وليد كلتا عينيه يطالعها بوجه خال الملامح.. لا ينكر أن جُمان من أكثر الأرواح الراقية التي عرفها يومًا التي تحترم ذاتها وغيرها.. تتحدث بعمق.. تطلب بأدب.. تتعامل بذوق.. وأخيرًا.. ترحل بهدوء..
رفع رأسه يخبرها بود رغم تجهم ملامحه
((اعتذر على كل شيء بدر مني))
هزت رأسها نافيه تصحح له
((على العكس.. لطالما كنت إضافة جميلة في حياتي معك..))
أنهت جُمان ما تقوله وغادرت المكان وهي تشعر برضا بالغ بقرار الانفصال بينهما.. فهي لم تتزوجه إلا لأنها أحبته.. ولن تتركه الآن إلا وهي تعرف بأنه لن يكون لها مكانًا في قلبه.. خاصة وأن لا شيء في هذا الزواج يمكن أن يعطيه لها..
حتى الأولاد لم يكن لهم نصيب أن يأتوا في هذه الدنيا ليربطوهما!
بمجرد مغادرة جُمان حتى عادت عينا وليد تشتعلان ولسانه يهمس ثقيلًا ميتًا
((سأستعيدك يا شيرين، سأستعيدك وسأثأر لنفسي منكِ))
وعليه أن يفعل ذلك ويثأر لنفسه على ما فعلته به الآن.. وفي الماضي! أو سيبقى يعيش شبح بروح معذبة لا تعرف طريقها للراحة..
=============================
مجلس النساء..
بحضور الحاجة زاهية ورتيل شكت منال كل ما حدث لسيدة المنزل وطرد مَالك لهم بمسكنة.. وبمجرد أن انتهت حتى غادرت المجلس فسارعت رتيل الجلوس بجانب حماتها تسألها بوجل
((هل ستسمحين يا عمتي لمَالك أن يطرد نعمة وباقي العاملات في المنزل لسبب لم أفهمه من منال بعد.. على ابنك أن يعرف أن لا صلاحيات له في طرد أو إبقاء أحد هنا! هل ستخبرين عمي بما فعله؟))
سددت زاهية نظرات عابسة ولم يعجبها كيف تحرضها على أصغر أبنائها فاستنكرت
((لا لن أخبر الحاج بأي شيء مما حدث وإياكِ أن تُعلميه أنتِ وينفلت لسانك! أو سيبدي امتعاضه من مَالك ويأمر بعكس ما قاله حتى لو ترتب على الأمر أن يُصَغِر من أبنه أمام جميع من يعمل هنا! وأنا لا يهون عليّ أن يكسر أحد كلمة ابني أو يقلل من احترامه ورجولته))
رفعت رتيل كفيها تعترض
((ولكن من أين ستجدين مدبرة منزل أخرى كنعمة تعرفك وتعرف ما تحبين وتكرهين وكيف تتم الأمور هنا في هذا القصر! يمكنك طرد الجميع باستثناء نعمة، فهي مدبرة المنزل هنا منذ الأزل!))
غمغمت زاهية على مضض
((لن أستطيع أن أقلل من هامة ابني أمام أي أحد ولو من أجل نعمة، لكن لو أرادت فسنؤمن لها وللباقيات عمل في مكان أفضل دون أن أنقص عليهم شيء فأنا لا يهون عليّ أن أقطع رزق أحد مهما كان الخطأ الذي اقترفه!))
عقدت رتيل حاجبيها بسخط ثم تبرمت
((الأمر يعود لكِ يا عمتي، ولكن لا أظن بأنكِ ستجدين امرأة كنعمة تعرف كيف تضبط من يعمل تحت إمرتها وتحفظ أسرار هذا المكان.. فأصعب مسألة هي الوفاء وحفظ الأسرار))
أمرت الحاجة زاهية رتيل بلهجة يشوبها شيء من الضيق
((ريثما نعين امرأة أخرى مكان نعمة عليكِ أن تتولي أنتِ مسألة الاهتمام بكل شيء يخص هذا المكان، خاصة المطبخ الكبير حيث نوفر فيه وجبات الطعام لكل من يعملون في المزارع، اطلبي من ياسمين ونورين أن يساعدانك))
زمّت رتيل شفتيها تقول
((نورين تطيعني لكن ياسمين لن تقبل يا عمتي، بالكاد هي تختلط بنا))
مالت زاهية برأسها وهدرت بازدراء
((ليس خيارًا عائدًا لها، ما دامت قد أصبحت كنة في هذا البيت فهي ملزمة بإطاعة كل أوامري، ألا يكفي أنها لا تخرج من غرفتها إلا بالمناسبات!))
خرجت رتيل من المجلس ومرت من البهو ولفت انتباهها صوت فتح المقبض.. فاتجهت حنوه لتبدد فضولها وسرعان ما جحظت عيناها وهي تشاهد نورين تطل من خلف الباب وتتقدم للداخل وكلها مشغول بالعبث في محتويات علبة كرتونية.. بمجرد أن وضعت نورين العلبة في الكيس الفخم ورفعت رأسها حتى شهقت فزعة وهي تتراجع خطوات للخلف.. لتقول من بين أنفاسها اللاهثة الخائفة
((لم انتبه لكِ يا رتيل، ماذا تفعلين هنا؟))
أظلمت عينا رتيل وضيقتهم بتيقظ وهي تتقدم منها قائلة بحذر
((ألم تكوني بجناحك مع مُصعب؟ كيف خرجتي من المنزل مرة أخرى؟))
ازدردت نورين لعابها قبل أن تهدر بتوتر وهي تخفي الكيس الذي تمسكه خلف ظهرها
((لقد خرجت مع مُصعب.. زوجي.. ما المشكلة؟))
ازدادت عينا رتيل ضيقًا لكن النظرة فيهما تحولت إلى شيء آخر أكثر خطورة قبل أن تتساءل ببطء
((ما هذا الذي تخفينه عني يا نورين؟))
تغضن جبين نورين بضيق من فضول رتيل المنفر لكنها تدبرت ابتسامة بسيطة مهذبة، وقالت بهدوء
((هدية اشتراها مُصعب لي، لا داعي لتعرفيها))
تحركت حدقتا رتيل على وجهها بوجوم لكن ظلت نورين على نفس الابتسامة الباردة دون أن يرف لها جفن محدقة في عينيها تشعل المزيد من غضبها وسخطها عليها.. فاقتربت رتيل منها أكثر وبحركة عنيفة خشنة امتدت يدها للخلف لتسحب الكيس منها حتى أنها قامت بتمزيقه من طرفه..
أخرجت رتيل العلبة البلاستيكية وهي تستكشفها أمام عينيها وسرعان ما أرخت فكها حتى كاد يسقط أرضًا..
احتجت نورين باعتراض هاتفة
((أرجعيه لي يا عديمة الذوق))
تطلعت رتيل لها ببلاهة قبل أن تقول أخيرا
((هاتف! هاتف من هذا؟))
مدت نورين يدها تأخذه منها بفظاظة وهي ترميها بابتسامة متلذذة بمنظرها هذا هادرة بدلال مغيظ
((إنه لي))
سألتها رتيل وعينيها الجاحظتين ترسلان لها شرارات خطرة مهددة
((من أين جلبتي هذا الهاتف؟))
هزت نورين كتفيها تجيب ببساطة
((من أين برأيك؟ كنا في الخارج أنا ومُصعب ليشتريه لي، إنه يقوم بركن السيارة ثم سيلحقني))
شدت رتيل على ضروسها وقالت بغل
((مُصعب هذا سيصيبني بالجنون! هل حقًا ذهب ليشتري لكِ هاتف آخر صيحة؟ لماذا! مكافأة لكِ لأنه لم يمت اليوم أحد بسبب الفعلة الهوجاء التي قمتِ بها؟))
زادت ابتسامة نورين اتساعًا.. واستفزازًا ثم قالت
((لقد اشتراه لي عِوضًا عن هاتفي الذي حطمه زوجك الجلف! تأخر مُصعب في ابتياعه لي لكن لا بأس فهذا الهاتف باهظ جدًّا.. إنه أخر إصدار.. فيه ثلاث كاميرات ولونه..))

قاطعتها رتيل بغيظ يكاد يلتهمها
((يكفي! أنا لست مهتمة بمعرفة مميزاته))
تطلعت نورين لها ببراءة ثم تجاوزتها وهي تقول
((إذن وداعًا يا رتيل، أساسًا لدي الكثير من الأمور التي عليّ اكتشافها وتحديثها في هاتفي الجديد ذو الثلاث كاميرات.. طابت ليلتك))
بغل ابتعدت رتيل عنها نحو جناحها وهي تلوك فاهها..
في داخل غرفة نومها كانت تقوم بترتيبها ورص زجاجات العطور الخاصة بها عندما شعرت بمُؤيد يبدأ بتفريغ حقيبته لتسأله بفضول
((متى ستغادر يا مُؤيد لعملك في المدينة؟))
طالعها بوجه متجهم ثم قال باقتضاب
((لا أدري.. ربما في الغد أو بعده.. لولا قصة هروبها لما عدت إلى هنا، وأسوء ما في الأمر أنه لم يتح لي حتى الآن أخذ نصيبي في إعادة تربيتها.. على الأقل إذا كان لا يريد أحد منكم جعل ما حدث اليوم سبب في إحياء طلب بثأر حقيقي يعيد لنا هامتنا التي سلبت بموت يحيى رحمه الله))
التفتت رتيل حانقة تنظر له وهي تكتف ذراعيها
((وما دخلك بها يا مُؤيد؟ عندها زوجها ليربيها))
ثار عليها بغضب هاتفًا وهو يتجه نحو الباب يهم بالخروج
((ماذا تقصدين بألا أتدخل؟ الآن فورًا سأذهب لجناح أخي لأعلمها..))
بتر كلامه عند محاولة رتيل سحب جسده المتصلب للداخل
((مهلًا يا مُؤيد.. توقف.. صدقني ما فعله بها شقيقك يكفيها))
نجحت رتيل في إدخاله فصفقت الباب ووقفت خلفه تمنعه من الخروج لاهثة.. فنظر لها مُؤيد بتشتت واستشف الصدق
((ماذا تقصدين؟ كيف عرفتِ؟))
سؤال مُؤيد جعل الغل والحقد يشع في قلبها وهي تتذكر مَا جلبه مُصعب لنورين قبل أن يعودا من الخارج.. إلا إنها قالت له مفتعلة الحزن والشفقة
((نعم.. أخاك قام بالواجب بل وزيادة، ولا بد أن جسد المسكينة لن يتحمل أي هجوم آخر منك وإلا سيرديها قتيلة))
كان مُؤيد مشدوه النظر ينظر لها كمن لا يصدق من قريب أو بعيد ما يسمعه.. ليقول بعينين مضطربتين
((هل مُصعب فعلًا فعل ذلك؟ أم تكذبين يا رتيل؟))
زمّت شفتيها ثم غمغمت مفتعله الذهول
((نعم.. تخيل هو فعل ذلك!))
صمت قليلًا ثم أمسكها من كتفها ينوي إبعادها مغمغمًا
((سأذهب لأرى، هل خرج من جناحه؟))
عادت رتيل تدفعه عن الباب وتجره للداخل هاتفة
((دعكَ منه يا مُؤيد فإذا رأيتها لن تتمَالك نفسك وستنفلت أخر ما تبقى من ذرات عقلك وتتهور فيتطور الأمر إلى أن تخسر شبابك بالسجن))
عقد مُؤيد حاجبيه فمررت يدها تربت فوق كتفه تسترسل برقة وحزن
((وأنا سأخسر زوجًا محبًا ووفيًا، وفهد وباسم سيخسران أبًا مهتمًا ومراعيًا مثلك))
رفع إحدى حاجبيه يتساءل بينما يرشقها بنظرات قاتمة
((هل تسخرين مني؟))
رفعت يدها تشهق بصدمة مصطنعة ثم قالت بسخرية مبطنة
((أنا! لماذا! هل تشكك بصحة ما أقوله عنك؟))
لم يرد على الفور بل نفض يدها عن ذراعه وذهب يجلس على السرير بينما يسألها بنبرة حيادية
((ألا زلتِ تتحدثين مع صديقتك تلك التي تدعوني بـ"أستاذ مانع"؟))
نظرت له تنفي بشدة وقالت
((أي شخص قد يحاول الإساءة إلى زوجي الحبيب ألغيه من حياتي كلها))
ابتعدت رتيل عنه مغادرة وهو بقي ينظر لها بتعبير غريب..
بمجرد أن أغلقت باب الغرفة الأخرى وراءها حتى أخرجت هاتفها وطلبت رقمًا ما.. وبمجرد أن أتاها الرد حتى همست بصوتٍ منخفض
((غنوة زوجي هنا سأتحدث معكِ في وقتِ لاحق.. المهم أن زوجة أخيه عادت))
عاجلتها غنوة بالسؤال قبل أن تغلق الخط عليها
((انتظري.. أخبريني هل عاد بسيارته ومعه الدراجة النارية التي أخبرتني بأنه أخذها؟))
ردت عليها بنفس الهمس
((نعم فهو قد عاد أدراجه بمجرد أن اتصلت عليه.. سيارته ودراجته هنا.. ولكن بمجرد أن يعود للمدينة سيعود لأخذها، فمكان دراجته النارية في شقته المستأجرة هناك ولا يحضرها إلى هنا في القرية إلا ما ندر))
ثم ضيقت عينيها تغمغم بغل
((أشك بأنه يقوم بالتجوال في طرق المدينة وهو يُجلس إحدى "عميلاته" المزعومات خلفه وأنا هنا لا يعبرني بدراجة هوائية حتى!))
هونت عليها غنوة بنعومة
((لو كنت أملك دراجة نارية يا رتيل لم أكن لأبخل عليكِ بالصعود عليها متى ما زرتني على عكس الأستاذ مانع زوجك))
تنهدت رتيل ثم همست ببؤس
((تبًا لك يا مُؤيد، عنده دراجة وعند مُصعب أيضًا يقودانها متى ما أرادا وأنا هنا أتحسر على نفسي))
قالت غنوة لها بصوتٍ يقطر مكرًا
((رتيل ما رأيك أن تحاولي سرقة دراجة زوجك وتجلبيها عندي في زيارتك القادمة لنركبها سويًا متى ما أردنا؟))
تشدقت رتيل سخرية لاذعة
((سخيفة أنتِ يا غنوة، وهل الدراجة بحجم الهاتف لتخبريني أن اسرقها واجلبها معي عند زيارتي لكِ دون أن يلاحظ زوجي! ربما هي الآن معه))
همهمت غنوة لها ثم قالت بعد لحظات بنفس الاهتمام
((حسنَا وماذا بشأن دراجة مُصعب.. أين يضعها؟))
ردت باختصار ((في إحدى المزارع))
سألتها غنوة بنزق
((أي مزرعة حددي بالضبط كيفية الوصول لها))
أجابتها رتيل بالتفصيل عن المكان الذي يضع مُصعب فيه دراجته النارية.. ثم استطردت بما يشبه الدعابة
((الآن لا تخبريني بأنكِ قادمة هنا لسلبها))
أطلقت غنوة ضحكة ماكرة قبل أن تقول بتحدٍ سافر
((نعم سأفعلها وسنأخذ دراجة مُصعب))
ردت عليها باستخفاف قبل أن تغلق هاتفها
((أنتِ مجنونة ومتوهمة، إلى اللقاء قبل أن يأتي الأستاذ مانع في أية لحظة))
=============================تنهد مَازن الجالس أمام كومة من الكتب والأوراق ببؤس.. كم يكره وقت الامتحانات في كل فصل..
أطلق عدة أنفاس كانت تجيش في صدره ببؤس مجددًا وهو يشعر بعجزٍ تام وانعدام أي قدرة في داخله تمكنه من دراسة أي شيء من الكتب المكدسة أمامه..
منذ الصباح وهو على نفس الصفحة من كتاب الامتحان المقرر في الغد، يحدق فيها بعقل مشلول غير قادر على استيعاب كلمة واحدة! ولا يفهم سر هذه البلادة والخمول! إلا أنه حقًا عاجز.. وحزين..
كان في فصله الأخير يدرس في جامعته الأدب الإنجليزي في بلاده عندما أقترح والده عليها تركها والسفر إلى هنا.. وهو بغباء واندفاع شباب وافقه بحماس..
استغرق الأمر منه سنتين في هذه البلاد حتى استطاع النجاح في قبول جامعة ممتازة هنا ليدرس فيها وينجح في امتحان القبول.. ولأنهم لم يقبلوا أن يعادلوا له أي ساعة أو مادة في جامعته الحالية اضطر أن يعيد كل دراسته من البداية.. وها هو في فصله الأخير قبل التخرج أخيرًا من البكالوريوس وعمره يزيد عن السابعة والعشرين..
بيأس أراح جسده على ظهر الأريكة وهو يمرر أنامله بين خصلات شعره البني الذي يميل الى حُمرة غامقة كشعر توأمه الذي ورثاه عن أمهما..
إلى متى سيظل الحال هكذا؟
صدوح رنين الهاتف العالي قطع شروده مما جعله يمد يده ليتفقد المتصل..
تجمد بدهشة للحظات شاعرًا بدقات قلبه تختل وتضطرب.. لا يصدق بأنها ياسمين.. زوجته! التي قامت بحظره منذ سنوات على الهاتف.. فما الذي حصل الآن لتزيل الحظر بل وتتصل عليه!
كان يشعر بفضول لمعرفة سبب الإجابة ولفه القلق من أن يكون قد حصل شيء سيء وطارئ اضطرها للاتصال به..
وكاد أن يجيب فعلًا.. لكن إبهامه توقف فجأة..
قطب حاجبيه مفكرًا لثوانِ.. ثم سرعان ما ضغط على خيار رفض الاتصال بابتسامة خبيثة..
لو كان فعلًا قد حصل شيء خطير لأمطرته أمه بوابل من الاتصالات قبلها! لكن هي تتصل به الآن لتستفسر بخصوص خطط أمه في استقدامها هنا هي وهدى كما سبق وأعلمته أمه عن خطتها..
هل ستنجح والدته في إقناعها أن تأتي هنا؟ لأنه يأمل من صميم قلبه أن تنجح في ذلك.. لعله يجد بانضمام زوجته التي تكرهه وابنته له في هذه الغربة الباردة التي غدى يكرهها شيء يمد الدفء ليتسلل إلى روحه..
على الفور قام مَازن بحظر رقم زوجته لتتوقف اتصالاتها ثم رمى هاتفه جانبًا شاعرًا بزهوة الانتصار ولو كان بسيطًا!
وعاد ينظر بانتعاش لورقة تلخيص المقرر أمامه يشعر بأطنان من التركيز تتدفق إلى عقله لتساعده على الاستذكار والدراسة لامتحان الغد..
.
.
على الجهة الأخرى..
ضغطت ياسمين على الهاتف الذي تمسكه بغيظٍ شديد ورمته فوق السرير بغضب.. لقد قام حقًا بحظرها!
حاولت السيطرة على ارتعاشاتها بقوة جرَّاء غضبها ثم غادرت جناحها باتجاه مجلس الرجال حيث يجلس حماها فيه بهذا الوقت وحيدًا.. رفعت يدها تطرق الباب ثم فتحته وهي تبتلع تلك الغصة الصغيرة خاصةً والهدوء يعم كل شيء حولها إلا صوت تلاوة الحاج يعقوب للقرآن الكريم بصوته العذب..
أنهى يعقوب تلاوة الصفحة أمامه بتدبر ثم أغلق المصحف بهدوء لتطرق رأسها تسأله على استحياء
((هل يمكنني الدخول؟))
أجابها بصوتِه الرخيم وهو يمد يده ويطبطب فوق المكان بجانبه
((ادخلي يا ابنتي واجلسي هنا..))
فعلت ياسمين بهدوء واتجهت لتجاوره فسألها باهتمام وابتسامة بشوشة
((كيف حالك؟ وكيف حال هدى؟))
بشبه ابتسامة باهتة أجابت
((إنها بخير.. تلعب مع عمها مُؤيد))
قال يعقوب بمزاح لطيف
((إنه حنون عليها وعلى دارين أكثر من ولديه الاثنين.. مُؤيد ابني عجيب))
جاء صوتها مرتبكًا بينما تتمتم
((معكَ حق))
أومأ برأسه قبل أن يسألها باهتمام
((هل جئتِ لتتحدثي معي بخصوص شيء معين يشغلك يا ياسمين؟))
نظرت في عينيه تجيبه بتصميم
((نعم يا عمي.. كنت مترددة.. ولولا اختفاء نورين لأخبرتك به منذ الصباح))
سألها وصوته يشوبه شيء من القلق
((ما هو هذا الأمر يا ياسمين؟))
تقلصت أصابعها المتشابكة بتشنج بينما صوتها لا يظهر إلا الهدوء وهي تقول بسخرية مبطنة
((وهل هناك شيء قد يشغلني غير ابنك مَازن))
عقد حاجبيه يسألها ((ما به؟))
((ليس هو المشكلة بل زوجتك يا عمي.. إنها تخطط لإرسالي عنده!))
وصلها ذبذبات إحباطه وهو يسألها متغضن الجبين
((ألست راضية بذلك؟))
أعلنت عن رفضها بوضوح وشفافية
((وهل هذا سؤال؟ بالتأكيد أنا لست راضية.. أنا لا أثق به وبكل صراحة أقولها لا أظن بأني سأكون أنا أو ابنتي بأمان معه.. أبدًا))
لم يرد عليها بل صمت وظل صمته إيقاعًا ثابتًا.. لن ينكر بأنه أحب فكرة استقدام ياسمين عند مَازن.. فرغم كل شيء مَازن ابنه من صلبه ولا يهون عليه منفاه هناك وحيدًا.. إلا أنه رد عليها بملامح متصلبة
((أنا أتفهم كلامك ورغبتك))
رفعت وجهها القاسي تقول ولهيب الحقد يتوقد بعينيها
((هل يمكن ألا تسمح بذهابنا عنده دون أن تخبر زوجتك برغبتي الحقيقية! مَازن هو السبب في حرماني من عائلتي منذ سبع سنوات، ولا يعقل أن يكون الآن سبب في حرماني من وطني الذي نشأت فيه! لن أتحمل أن أتغرب بعيدًا فقط لأن حضرته يشعر بالوحدة والملل هناك وحيدًا!))
مجددًا لم يجبها الحاج يعقوب على الفور بل صمت.. وصمته هذا يوترها.. بل يغيظها..
تاهت الكلمات على لسان الحاج يعقوب وهو يتذكر شيئًا من مواقف الماضي.. هز رأسه أخيرًا هادرًا
((لا تقلقي يا ياسمين، سبق وأخبرتك بأني دائمًا سأقف معكِ حتى لو ترتب الأمر أن أقف معكِ ضد ابني! لن يتغير شيء، لن تسافري عند مَازن إذا كانت هذه هي رغبتك.. ولا داعي لتقلقي بشأن والدته، أنا سأتصرف معها))
ابتسمت ياسمين بامتنان حقيقي لمع بحدقتيها لتقول بلهفة ممزوجة بالراحة
((شكرًا لكَ حقًا.. أنا ممتنة لما تفعله من أجلي))
غمغم لها عاذرًا دون قدرة على منع الضيق أن يتسلل لقلبه
((أقل واجب اعتذار على ما أفسده مَازن في حياتك))
غادرت ياسمين على الفور في حين أغمض هو عينيه وهو يطلب من الله الصبر.. خاصة وأن حياة ابنه المستقبلية وما سيطرأ عليها ليس واضحًا! لكن كل ما يعرفه أن سعيد بأن مازن ليس هنا حتى لا يثير له أي مشاكل من شأنها أن تنكس من هامته أمام أهل القرية!
=============================
بمجرد أن تبعها مُصعب للأعلى وغيَّر ملابسه حتى استلقى على جانبه بجوارها..
رفعت نورين عينيها من على هاتفها المشغولة به ترمقه بنفس الانبهار والابتسامة ثم هدرت
((إنه رائع جدًّا.. أحببته.. شكرًا لكَ))
مدت أناملها تلامس خصلات شعره القصيرة وهي تسترسل بانتشاء
((أنا أحبك يا مُصعب.. أنتَ أميري حقًا))
لم يعقب على كلامها لكنها شعرت بعينيه متسمرتين على وجهها يتأمل ملامحها.. وتكاد تقسم بأنها ترى شيئًا من الانجذاب بعينيه اللامعتين موجهتان لها بعاطفة.. قبل أن يبتسم لها ويقول أخيرًا
((اهم شيء الآن بأنكِ لن تزعجيني بأمر الكتب بعد أن حصلتِ على هاتف))
خرجت منها ضحكة خافتة ناعمة قبل أن تقول قاصدة إغاظته
((ولا أي هاتف قد يشغلني عنكَ يا أميري))
قطَّب حاجبيه يقول محذرًا بخشونة رغم لطف ملامحه
((كم مرة عليّ أن أخبرك بألا تناديني بأميري! ناديه لإحدى أولاد مُؤيد))
أحاطت عنقه بذراعيها تشد رأسه إليها لتردف هامسة في أذنه بدلال واعتراض
((ولكنكَ حقًا أميري يا مُصعب..))
ثم ابتعدت قليلًا تشبع عينيها من ملامحه الرجولية الوسيمة
((وجذاب أيضًا رغم نحافتك))
همس لها بصوتٍ أجش وعاطفي غريب عنه
((وأنتِ أيضًا جميلة رغم شقاوتك))
أذهلها ما قاله كرد وقد توقعت بأنه سينفضها عنه كالعادة بنفور! وبغير وعي ابتسمت بدهشة وابتعدت أكثر تحدق به وهي تسأله بصوتٍ يرتعش سعادة
((هل تعنيها حقًا؟))
رفع مُصعب حاجبيه وهو يتظاهر بالتفكير دون أن يحيد بعينيه عن عينيها البراقتين ثم أجاب متشدقًا
((يصعب أن أنكر بأنكِ جميلة، وعينيكِ اللتين تشبهان لون القهوة جميلتان أيضًا، رغم أنكِ مزعجة وثرثارة إلى حد لا يطاق أحيانًا))
برقت عيناها بغيظٍ فرفعت يدها تبعثر شعره ثم عاتبته
((أنا ثرثارة يا مُصعب! فليكن بعلمك أن طبعي دائمًا ما كان يميل للهدوء والصمت لكن "ثرثرتي" على حد قولك، فهي من أجل أن أقتل الكآبة والصمت القاتم في حياتك))
كانت ملامحها تميل للتجهم أثناء حديثها فلم يتوقع أن تقوم بمجرد أن انتهت من حديثها بلثم ثغره بقبلة حمَّلتها كل مشاعرها وشوقها وعاطفتها الرقيقة..
أثار هدوءه شيء من الريبة فيها فابتعدت عنه تدريجيًا بتوجس وترقب لردة فعله على عقابه لها للقبلة..
كان فاغر الفم والصدمة مرتسمة على وجهه مِمَّا فعلته.. ومجددًا أذهلها أنه لم يُبدِ أي اعتراض أو نفور من أكثر حركة جريئة أٌقدمت عليها منذ زواجهما!
وبكل صراحة لم يبدو وكأن مبادرتها الجريئة هذه أعجبته..
إلا أنه ظل مُنشدِه النظر لوجهها لدقائق قبل أن يعاود الاقتراب منها بهدوء..
كادت عينيها أن تخرجا من محجرهما عندما انحنى يخطف شفتيها بقبلة عاطفية متملكة لا تشبه قبلتها العابرة السطحية بشيء.. وكأنه يعلمها كيف يكون التقبيل!
لكن.. فجأة.. ابتعد عنها بعنف.. لاهثا بقوة كما حالها وقد تطلب منه الأمر قدرة رهيبة ليقدر على فصل هذا الاندماج وقد تجاوبا مع بعضهما حميميًا دون أي مجهود يذكر من الأخر!
تبلدت ملامحه للتبلد وكأن هناك من سكب فوقه دلو ماء..
أما نورين فرمشت بعينيها كما توترت خطوط حلقها وهي تبتلع ريقها بتوتر.. وسرعان ما اغرورقت عيناها بالدموع وزمّت شفتيها بقوة!
هل رُد له عقله المتغيب بآخر اللحظات وتذكر بأن التي أمامه هي مجرد زوجة اتخذها لحل صراع بين عشيرتين لا أكثر وأخطأ بالاقتراب منها!
لاحظ مُصعب ملامحها المنذرة بالبكاء وفهم نوعية الأفكار الغارقة فيها في هذه اللحظة! فسارع يقول لها من بين أنفاسه المتسارعة حتى لا تتكالب عليها ظنونها واجتهاداتها الشخصية في تفسير سبب ابتعاده عنها الآن
((نورين أنا أعترف لكِ بأنه ومنذ زواجنا وأنا لا أطيق رؤيتك ولا أتحمل البقاء في نفس المكان معكِ، كنت أعرف بأن لا دخل لكِ بقاتل ابن عمي من قريب أو بعيد لكن لم أتحكم بنفوري هذا.. كلما رأيتك أتذكر سبب زواجنا المرتبط بوفاة ابن عمي رحمه الله.. لكن بمجرد أن مرّ الوقت وعاد لي توازني حتى توقفتُ عن الشعور بهذه الطريقة تجاهك.. وطرأ لي أمرًا آخر..))
ازدرد مُصعب ريقه ولهاثه يقل تدريجيًا.. عليّ أن يطلعها عما كان يبحث عنه مؤخرًا وغارق بالتفكير فيه فنظر في عينيها مسترسلًا
((كنت أبحث عن حكم زواجنا ورغم أنه كان شرعيًّا بكل ما فيه من مهر وإشهار وتثبيت والى آخره.. لكنني لست متأكدًا بعد إذا كان عليّ أن اطمئن مئة بالمئة حياله فأنتِ لم تكوني راضية! أخبرتني برفضك الصريح في أول ليلة وأنا تجاهلت كلامك ولم يدر في عقله إلا بوقت لاحق فصرت أتشكك من صحة هذا الزواج))
اهتزت حدقتي نورين للحظات.. قبل أن تتساءل بوجه لا يفسر بصوتها المثقل
((هل كان رفضك وابتعادك السابق مني هو شكك اللاحق بصحة زواجنا؟ أنا قلت ما قلته آنذاك لأني فعلًا تعرضت لضغط كبير حتى أوافق لكن في النهاية كنت موافقة تمامًا أثناء عقد القران))
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يقول بتصلب
((نعم هذا واضح.. ربما.. لا أدرى.. لكن بعد تفكير ملي استعدت فيه توازني، بدأ أفكر بطريقة لإنهاء هذا الزواج دون أن يتسبب في أي مشاكل أو عودة لصراع عشائري، فزواج الديَّة كان أبعد ما يكون عن حل إنساني وديني للصلح! أخطأت عندما أتممت زواجي بكِ ولكن لم يتأخر الأمر بعد.. من حقك الانفصال وإنهاء زواج تم بهذه الطريقة.. وبعد التحرر مني عودي لأهلك وفكري في مستقبلك أكثر.. كنتِ تحلمين بالسفر للخارج لإتمام دراستك العليا.. إذن فأنا أعطيكِ عهدًا بالتكفل بمبلغ دراستك في الخارج من راتبي بقدر ما أستطيع ويمكنك أن تعتبري هذا المبلغ كمؤخر بما أن زواجنا تم، لا داعي للانتظار حتى الزواج لتسافري للخارج، أنتِ قوية وقادرة على تدبر أمر نفسك))
أمعنت النظر فيه وهالها هذا المزيج من العذاب الذي ينضح من عينيه وتعابير وجهه.. فسكنت تعابيرها وهي تراه يبتلع ريقه ثم يستطرد مطرقًا بتوتر ((لكن علينا ألا نبقي على وضعنا بهذا الشكل طويلًا! فأنا أتعذب، حقًا أتعذب بقرب امرأة جميلة مثلك قابعة في نفس المكان معي ولا أستطيع التقرب منها أو لمسها))
اتسعت عينا نورين بذهول بما صارحها به دون أن يستطيع إخفاءه أكثر فتمتمت بغير تصديق
((تتعذب من قربي لأنكَ لا تستطيع لمسي! هل أنتَ جاد؟ فقد كدت أصدق بأنكَ لوح ثلج لا تتأثر))
مر شبح ابتسامة على وجهه من كلامها ثم عقب وهو يرفع أنامله ويعيد خصلة شاردة منها خلف أذنها برقة
((الأمر فقط أنه من الصعب على أي رجل مهما كان حاله أن يتواجد تحت سقف واحد مع امرأة جميلة لا تكف عن طلب وده دون أن يتأثر بها ويعاني.. لا تتخيلين كم مرة شعرت حقًا بأني أتشنج من مبادراتك التي كنت أصدها وأردعك عنها لأني حقًا لم أكن أتحمل.. علينا أن نتعجل في الانفصال حتى لا استغلك..))
آلمها عدم إدراج "الحب" في حديثه من قريب أو بعيد.. لكن تغضنت هنا ملامحها بالرفض في نهاية حديثه لتقاطعه على الفور بإصرار وتأكيد وهي تشد على يده الممسكة بكفها
((ولكن أنا راضية الآن بهذا الزواج يا مُصعب ولا أريد الانفصال عنكَ، سبق وأبديت رفضي على هكذا نوع من الزواج لأنه كان أمر مُذِل لي لا يشعرني بإنسانيتي، لكن الآن اختلف كل شي وأنا لا أريد أن أكمل مع رجل غيرك..))
مالت بوجهها المعذب نحوه تنعم بعبير عطره الرجولي المميز.. ثم استطردت بصوتٍ خافت متحشرج
((ألا تدرك بأني صريعة في هواك ولا أستطيع العيش بدونك من محاولاتي المثابرة طوال الأشهر السابقة في التقرب منك؟))
عقد مُصعب حاجبيه وبدا مثقل الملامح!
سبق وأن حظي بتجربة مشابه لهذه.. ولا يريد تكرارها..
فعزم أمره وهو يقول بصوتٍ مشدود كالوتر
((لا يا نورين أنتِ لا تحبينني وكل ما كنتِ تفعلينه في السابق من محاولات للتقرب مني ما هي إلا أمور عفوية تصدر منك بغير إدراك من باب التكيف لشُح الخيارات المتاحة أمامك.. لكن في الواقع بل أي أحد مكانك لن يرغب أن يحيى لنهاية عمره مع إنسان لم يختره ولم..))
قاطعته نورين مجددًا هامسة بنعومة تستجديه بين أحرفه
((أعرف يا مُصعب بأني كنت في البداية أحاول التقرب منك لغاية كسبك إلى صفي وتخفيف ما أعانيه هنا من وحدة وبغض من قِبَل عائلتك، لكن صدقني تغير كل شيء.. أنا لا اتحدت باندفاع عاطفي دون أن أعي ما أقوله.. أنا أريد حقًا البقاء معكَ))
ضمّ كفيها معًا وهو يبعدها عنه قليلًا كي يجول بعينيه عليها ببطء شديد.. ثم استقرا في عينيها وهدر ببطء
((بالنسبة لي لم أهتم بشيء في المرأة التي أريد منها أن تكون زوجتي إلا أن أقدر على العيش معها بود ووئام وتفاهم دون تعقيد، وكله موجود فيكِ.. لذا إذا كان القبول للآخر متواجد في كلانا فسأسلك للمرة الأخيرة.. هل أنتِ متأكدة بأنكِ تريدين أن تكملي لآخر الحياة معي؟))
مجددًا لم يذكر شيء يخص "الحب" لكن لم تعقب بل ردت عليه بنفس البساطة وإن كانت مبتسمة ابتسامة حالمة وعينيها تتوهجان ببريق مميز
((نعم أنا موافقة تمامًا..))
ابتسم لها ثم عقب بحنو وهو يمد ظاهر يده لوجنتها يلامس نعومتها الحريرية
((إذن الماضي بما فيه وكل ما قبله صفحة وسنطويها.. للأبد.. حيث سنفتح صفحة جديدة في حياتنا نحن الاثنين ولن ينبش أحد منا ماضي الآخر))
أطل من عينيها حب جارب متدفق وهي تومئ له بتأكيد..
أما هو فخفتت ابتسامته قبل أن يقترب أكثر منها هامسًا بنفس الصوت الأجش ولكن من إثر هدر الرغبة التي ترتعد كخيول تصول بقلبه
((إذًا هل نكمل الآن ما كنا نفعله قبل قليل؟))
تورد وجهها أمام نظراته الحارة وهي تشعر بشرارات رغبته تخترقها.. فأشاحت بعينيها بعيدًا عنه تقول بارتباك وحنق
((ليس الآن.. وليس هكذا! دعني أحضر شيئًا من الثلاجة الصغيرة لنأكله قبل أي شيء فأنا أكاد أموت جوعًا))
وقبل أن تبتعد عنه تهم بالمغادر شهقت بصدمة عندما أمسك ذراعها يجتذبها إليه..
قبض على وجهها بيديه ليقربه من وجهه ما يكفي فقط لأن يلامس عطرها أنفه بنعومةٍ ساحرة.. لتشعل جنونه لهفة ورغبة أكبر.. إلا أنه تمَالك نفسه وهو يهمس بخبثٍ أمام شفتيها مبتسمًا بصوتٍ خشن مرتجف بعض الشيء
((لم تمضِ حتى نصف ساعة منذ عودتنا من أحد المطاعم يا نورين! كدت أن أجلسك في حجري وأحشيك كالفرخة وألقمك لقمة.. لقمة رغمًا عنكِ وسط اعتراضاتك ودلالك بأنكِ شبعت! الآن جعتِ فجأة!))
لم تتجاوب مع مزاحه بل ازدادت الحمرة التي تكسو وجهها وهي تشعر بخفقات قلبها صاخبة بجنون وعدم تصديق خاصة عندما طبع قبلةً سافرة مليئة بالشغف على جانب ثغرها..
استشعر مُصعب الحرارة التي تدفقت بها الدماء إلى وجهها أكثر فابتعد ببطء مستمتعًا بنظراتها الذائبة..
عيناها تلتمعان بخجلٍ وأنفاسها المضطربة تشعره برغبةٍ في كتمها بشفتيه.. فاقترب منصاعًا لرغبته الجنونية وهو يحيطها بذراعيه ويحلق معها عاليًا إلى عالمه حيث شعرت بلمساته ضربًا من الخيال في رقتها واجتياحها..
.
.
في الصباح جلست نورين على جانبها وأسندت رأسها فوق كفها تراقب الرجل المستلقي بجانبها بعينين متوهجتين بالسعادة..
ليلة الأمس.. شعرت برغبة فعلية تفور في عروقه تجاهها هي..
مررت أناملها المستكشفة فوق خصلات شعره القصيرة وملامحه الوسيمة المحببة ومن ثم لحيته المهذبة لتزداد عينيها بوهجها الأنثوي تألقًا..
عادت لتدفن نفسها بين أحضانه وترتمي فيه لتتفاجأ به يضمها بين ضلوعه حتى اختلجت عظامها فتأوهت بخفوت وهي تغمض إحدى عينيها.. ثم تساءلت هامسة
((متى استيقظت!))
همهم لها بصوتٍ ناعس دون أن يفتح عينيه
((منذ بدأت تحركاتك وجلبتك المزعجة))
كانت في حال شغف وحب وهي تسأله
((كيف كان شعورك في الأمس عندما ظننت بأني هربت؟ هل حزنت؟))
فتح عينيه مبتسمًا يجيبها
((نعم حزنت فمن سينكد عليّ حياتي ويزعجني بثرثرته من بعدك))
انفلتت من شفتيها ضحكة خافتة ناعمة ثم عادت تسأله
((هل تحبني إذًا؟))
عقد حاجبيه بشكل طفيف لسؤالها ثم أجابها بهدوء
((نعم فأنتِ زوجتي))
ظهر الوجوم على وجهها فجأة.. لم تكن هذه هي الإجابة التي تنتظرها منه! ومشاعرها التي تشتعل فيها لن تتنازل قبل أن تحصل على قلبه ككل..
لاحظ تبدل ملامح وجهها فخرج منه هو الآخر سؤالًا
((هل غير ما حدث في ليلة الأمس أي شيء في ذهنك؟))
اتسعت عينيها بتساؤل لتقول
((ما الذي غيره؟ لا أفهمك؟))
تساء وذهنه يضيع في دوامة الماضي
((أقصد.. هل استطعت أن أبدد أي ذكريات مريرة مما حدث بيننا أول مرة؟))
كانت تنظر له مشدوهة للحظات طويلة لتقول بعدها أخيرًا
((لم تكن هناك أي ذكريات مريرة لي معكَ أنتَ))
أومأ لها بتفكير.. وشعوره بصدق كلماتها يحثه على طي الأمر في الماضي وعدم اجتذاب ذلك المشهد لعقله بعد الآن..
قربها مُصعب نحوه يدفن رأسه على منكبها يستنشق عبير شعرها بشجن تلبس قلبه.. وهي أحسّت بخفقات قلبها على وشك اختراق صدرها وهي ترى تغير حاله بشكل كامل معها صعب التصديق.. إلا أنها أغمضت عينيها تتمتع بشعور السعادة وأنامله تداعب شعرها المتناثر حول وجهها وفوق عنقه..
وهج جميل سيطر على كافة مشاعرهما قبل أن يتلاشى مع صدوح صوت هاتفه.. فابتعدت عنه قليلًا وهو اغلق أهدابه مجددا ورفرف برموشه عدة مرات حتى يطرد النعاس ثم اتكأ على مرفقه ورفع هاتفه ليغمغم باستغراب
((إنه مُعاذ.. لماذا يتصل بهذا الوقت المبكر!))
فتح مُصعب الخط على شقيقه الأكبر يرد عليه بصوتٍ محايد
((صباح الخير مُعاذ.. هل هناك شيء؟))
وصله صوت أخيه متسائلًا
((هل أنتَ في إجازة؟ أنا آسف لإيقاظك من النوم.. ولكن وليد كان يتصل بي طوال الأيام السابقة ويحاول التواصل مع مكتبي.. لم أستطع الرد عليه إلا بعد عودتي.. تحدث معي قبل قليل واتفقنا أن نتقابل في مكتبه.. لكن لم تعجبني نبرة صوته! هل حدث شيء ما في القرية؟ أو أي شجار بينه وبين إحدى إخوتك؟))
تسلل الشك لقلب مصعب ورد بهدوء قاتم
((أظن بأني سمعت أبي يذكر بأنه لم يعد يراه كثيرًا ولا يرد على اتصالاته إلا برسالة قصيرة يطمئنه بأنه بخير وأنه يحتاج إلى خلوة مع نفسه))
همهم مُعاذ وهو مستغرق في استنتاج سبب إلحاح وليد الأيام الماضية على لقياه وجهًا لوجه فتابع مصعب قائلًا ((مُعاذ انتظرني حتى أصل لكَ وسنذهب سويًا لمكتبه فحسه مؤخرًا كان هادئًا وهذا مريب))
سيطرت حالة من الريبة والحيرة على قلب معاذ وهو يقول
((لا داعي.. أنا في طريقي إليه..))
صمت قليلًا ثم قال بنبرة ذات مغزى
((أتصور بأن الموضوع ليس بسيطًا وإلا لكان اتصل بأحدنا أو أبي))
قال مُعاذ وهو يبعد الهاتف عن أذنه
((مُصعب إنه يتصل بي مجددًا، سأغلق الآن))
ترك مُصعب الهاتف جانبًا ونهض عن السرير فورًا بينما تتساءل نورين بصوتٍ رنان ((ماذا هناك؟))
اتجه نحو الحمام مغمغمًا
((لا شيء.. لكن أُفضِّل أن أذهب مع مُعاذ))
قالت بخفوت وإحباط لابتعاده وحرمانه لها من دفئه
((حسنًا لكن لا تتأخر أرجوكَ))
=============================
انتهى الفصل.

 
 

 

عرض البوم صور Hya ssin   رد مع اقتباس
قديم 22-05-22, 04:17 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2022
العضوية: 338274
المشاركات: 10
الجنس ذكر
معدل التقييم: Hya ssin عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدJordan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
Hya ssin غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : Hya ssin المنتدى : قصص من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: قلبك منفاي

 

الفصل التاسع

حضر وليد لمكتبه مبكرًا قبل وصول أحد الموظفين عنده بعد أن أعلم مُعاذ بالمجيء.. كانت عيناه محمرتان قليلًا لأنه قضى ليالٍ طويلة دون نوم تقريبًا.. ليالٍ لا تُنسى وستبقى مختومة في ذاكرته بختم أبدي..
نهض بمجرد سماع طرقات ابن عمه على باب مكتبه حيث كان منتظرًا يتأهب للقائه ويرتب كلماته التحذيرية..
سمح له بالدخول وتقدم خطوة وراء الأخرى منه بينما يغمغم بابتسامة مريبة
((كيف حالك يا ابن عمي العزيز والرائد المحترم))
لم يكن مُعاذ مرتاحًا لوجه وليد أو ما سيقوله إلا أنه أجابه بنبرة هادئة ودودة
((أهلًا بكَ يا وليد، أنتَ عزيز عليّ أيضًا، كيف هو حالك؟))
اشتد وجه وليد الذي وقف أمامه قائلًا بصوت واضح مرتب الأفكار
((أنتَ تعرف بأني لا أحب المقدمات أو تضييع الوقت.. فهل ندخل في الموضوع مباشرة؟))
رد مُعاذ وهو يعقد حاجبيه بشدة محاولًا التخلص من ذلك الشعور المقيت الذي انبعث بداخله للتو ((ادخل به))
صمت وليد للحظات ثم قال ساخرًا وهو يناظر دلوف شخص آخر المكتب
((انظر ها قد جاء مُصعب، جميل جدًّا فهو معني أيضًا بحديثي..))
اقترب مُصعب اللاهث من شقيقه.. فهو وبمجرد أن أنهى مكالمته مع أخيه حتى سارع الوقت في ارتداء ملابسه ثم هبط درجات السلم بخطوات مكتومة الى الطابق الأرضي ومنه الى المَرْأَب ليغادر البيت دون أن يشعر به أحد..
تفاجأ مُعاذ من حضوره.. ثم تساءل متغضن الوجه
((ما دخل مُصعب؟))
قال وليد وهو يرمقه بنظرة ذات مغزى
((كيف ما دخله؟ أليس هو السبب في موت يحيى!))
اهتزت حدقتي مُصعب بنفي وهم بأن يصرخ برفض اختنق في حلقه وتلجم للحظات مصعوقًا قبل أن يقدر على الهمس أخيرًا ((ماذا!))
كان مُعاذ يرفرف بعينيه في محاولة عقيمة ليستجمع ما يتناهى لسمعه قبل أن يثور وقد عرف بأن وليد لا ينوي على خير الآن
((توقف عن هذا الهراء، مُصعب لا دخل له بشيء.. إنه قضاء الله وقدره))
أخفض وليد نظره لحظة ثم أعاده لوجه مُصعب المضطرب قائلًا بنبرته المريبة
((لا اعتراض على قدر الله، ولكن هناك أسباب ولا أحد ينكر بأن مُصعب المسؤول، ألم يطلب من يحيى بنفسه أن يذهب لأرض والده ويعرف سبب العراك الذي حصل هناك؟ لو لم يطلب مُصعب من ابن عمنا أن يذهب هناك لم يكن ليواجه ذاك المصير المؤسف!))
اهتزت حدقتي مُصعب مجددًا عند ذكره سيرة يحيى! وليد يعرف تماما كيف يخترق نقطة ضعفه..
اندفع مُعاذ كإعصار غاضب يمسك كتفيّ وليد بقوة يجبره على إعطائه انتباهه فوضع وليد عينيه في عيني ابن عمه.. وفي احتدام النظرات بدا وكأن قصائد كره بين العيون تلوح.. قبل أن يقول مُعاذ
((وليد اختصر وقل حالًا سبب طلبك لي))
شمخ وليد وهو يمثل الجدية بجدارة ليقول
((كنت أقول في نفسي بأنه حان الوقت لاهتم قليلًا بشؤون القرية وبثأر دم ابن عمي يحيى المهدور، وكنت أفكر بأن أجمع باقي شباب القرية من أجل..))
امتدت يدا معاذ ليمسكه من ياقته وهو يصرخ فيه
((لقد أخذت الجاهـة فدية من عشيرة الهنادل على أن يتم الاتفاق بعدم الاعتداء عليهم أو أحد أفرادهم.. كل واحد من عشيرتنا يا وليد عليه أن يلتزم به.. ما هذا الجنون الذي تتحدث عنه!))
بادله وليد الثورة بمشاعر متأججة وغضب متألق في عينيه هاتفًا
((كل هذا لا يهمني، كل من في القرية لا يهمني، ولن أفكر ولو لثانية قبل أن أخرق هذا الاتفاق سيادة الرائد إذا لم تطلق المرأة التي كانت ملكي ولطالما ستبقى تخصني.. والآن))
صرخ مُصعب به مستنكرًا
((ماذا تهذي؟ أيها المجنون مُعاذ ليس متزوجًا!))
تشدق وليد ساخرا فسأله مُعاذ بغلظة وهو يشد على ياقته
((من تقصد يا وليد؟))
خفتت ابتسامة وليد لتشع عيناه المخيفتان نارها كنوايا كلماته وتهديده
((أقصد شيرين يا حضرة الرائد! أريد منكَ أن تطلقها الآن، لقد تأكدت بنفسي بأن زواجكما لم يتم تثبيته في المحكمة لذا إياكَ أن يعلم أحد به))
احتاج مُعاذ لثوانٍ أُخر حتى استوعب ما يطالب به ابن عمه واسمها يتردد في عقله.. وسرعان ما صرخ به مُعاذ
((ما هذا الجنون الذي تتحدث به!))
لم يكن صوت وليد بل كبرياؤه وهوسه بها من يتحدث في وجهه بنبرة مخيفة وهو يرد عليه
((ليس جنونًا، الجنون ستراه بأم عينكَ يا مُعاذ لو لم تطلقها! إياكَ أن تضع قدمك بعتبة ذاك الفندق مرة أخرى))
كان مُصعب لا زال على صدمته وهو يسأل أخيه
((مُعاذ هل أنتَ متزوج؟ ولكن متى؟))
اخذ مُعاذ نفسًا عميقًا يستعيد رباطة جأشه ثم قال بينما يدفعه وليد ليتخلص من قبضته
((سأخبرك كل شيء لاحقًا يا مُصعب.. اهدأ الآن))
ثم عاد يناظر وليد الذي كان يهندم مقدمة قميصه الذي جعده له صارخًا
((وأنتَ أيها الأحمق.. هل أرواح الناس لعبة بين يديك؟ ألا تعرف كم بذلنا من جهد لتتم المصالحة ونمنع إراقة أي دم لتأتي الآن وبكل فجاجة تعلن بأنكَ ستغمر عقول شباب قريتنا بنيران الانتقام))
ازدادت ملامح وليد عدائية وهو يقول بكل ثباته وقوته
((وهل تظن أن نيران أفراد العشيرة أُخمدت من الأساس؟ أنتَ واهم يا سيادة الرائد، لا شيء يشير بأن صمتهم باقي.. كلهم يحتفظون بأمل أن يأتي ذلك اليوم الذي سيتم فيه خرق الاتفاق لينالوا بثأرهم ممن اعتدوا عليهم ويحافظوا على كرامة دار الكانز وهامتهم عالية بين باقي الرجال))
ثم أردف مغمغمًا من بين أسنانه المطبقة بصوتٍ خطير
((لا تجبرني يا حضرة الرائد على فعل ما لا أريده.. طلق شيرين اليوم.. وأمامي))
اخذ مُصعب عدة أنفاس كانت تجيش في صدره كأنه يستعد للقتال ثم واجه ابن عمه قائلا وهو يقبض هذه المرة على ياقة قميصه
((لا أعرف شيء عن زواج أخي ولكن هل أنتَ في كامل قواك العقلية لتطلب منه أن يطلق زوجته لتتزوجها أنتَ؟ هل تعرف بأن كلامك بسببه قد تقطع أعناق الرجال؟))
لم يبالي وليد بمُصعب بل جمَّد ملامحه بذاك الكبرياء وهو يرد بلا مبالاة
((نعم أعي ذلك وأريد من شقيقك أن يطلقها الآن فهي لم تتزوجه إلا لتنتقم مني))
رفع مُصعب سبابته كقسم صارم محذرًا
((أوقف لسانك عن هذا الهراء أو سأرديك قتيلا))
صرخ وليد به بضراوة وإصرار والألم يضج مع كل حرف
((لن ابتعد قبل أن يطلقها شقيقك))
قال مُصعب وهو مشدوه من كم الفجر الخارج من ابن عمه الذي يقف أمامه باهتياج أنفاسه اللاهثة
((هل تحاول أن تفرق بين المرأة وزوجها أيها الفاسق؟ هل تعرف أيها الخسيس عاقبة التعدي على الحرمات؟))
قال مُعاذ ببلادة وهدوء مريب يكتنف صوته
((وليد علاقتي بشيرين انتهت ولا يوجد شيء بيننا نحن الاثنين))
لم يعد يُرى من عيني وليد إلا ذاك الجنون المشتعل فيهما وهو يتساءل
((إذا كان الأمر كما تدعي فلماذا مررت من الفندق الذي تمكث فيه؟))
أجاب مُعاذ بثبات
((لننهي كل شيء بيننا))
وكان مُعاذ صادقًا فيما يقوله.. فقد أثار استغرابه إمداد شيرين فترة إقامتها في الفندق على حسابها فذهب لجناحها في وقت تتواجد صديقتها يسألها عن السبب قبل أن يودعها في لقاء أخير..
زفر وليد أنفاسه مسيطرًا على غضبه الذي خرج بصوته الأجش ((حسنًا هذا جيد))
سكت مُصعب لحظات يستوعب ثم هتف بدهشة غاضبة
((أقسم بأني لا أدرى كيف أسمح لكَ بالبقاء على قيد الحياة والتفوه بكل هذا! أين دينك وخجلك من نفسك يا وليد مما تطلبه! ألا تعلم قُبح وجُرم طلبك؟))
صرخ به وليد بزمجرة غضب تعادل غضبه
((اتركني أنتَ الأخر))
افلته مُصعب بعنف وخشونة ثم تحركت شفتاه بهتاف مشمئز
((إذا كان قد نُهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه فكيف بمن يسعى بالتفريق بينه وبين امرأته ويعبث بالأعراض والإفساد بين الزوجين، اتقي الله أيها اللعين! أنتَ..))

لم يمنحه وليد الفرصة ليكمل بل قال بتعابير قاسية بشكل غير مسبوق له
((من أين تجلب مُصعب أيها المتناقض كل هذه الجرأة أمامي لتأتي وتحاسبني وأنتَ نفسك من قمت بالنهو على ابنة عمنا رشا شقيقة يحيى.. أنتَ بنفسك من أجبرتها أن تفسخ خطبتها من خطيبها الذي تحبه ويحبها هو! لقد توسل عمي آنذاك لك بل كاد أن يكسر هامته حتى تتراجع في نهوك عنها! هل الدين والشرع ينطبق عليّ فقط أيها المنافق!))
بهت وجه مُصعب.. فإذا كان يظن بأن موت يحيى نقطة ضعفه الوحيدة التي يمسكها وليد عليه فقد أخطأ!
كلمات وليد جعلت الأفكار المتعلقة بيحيى وشقيقته رشا تنساب داخله بمشاعر تزلزل كيانه..
تعلقت عينا مُعاذ بمُصعب وقلق على أخيه.. فأمسكه من كتفه يقول وهو يبعده عن وليد ويغادر المكان ((لنغادر يا مُصعب))
ثم كاد مُعاذ أن يجر أخيه جرًا للخارج قبل أن يبرح الاثنين بعضهما..
بعد أن خرج الإثنين من البناية التي يقبع فيها مكتب وليد حتى استعاد مُصعب رباطة جأشه ونسي كل ما قاله وليد متعلق بموت يحيى وزواجه من شقيقته واستدار لأخيه يغمغم له بغضب مكتوم واستهجان موقفة المتخاذل الذي لا يمثله بشيء
((لقد قال لكَ بكل صراحة أن تطلق زوجتك وأنتَ اكتفيت بأن تخبره بانتهاء علاقتك بها بدلًا من أن تلكمه في منتصف وجهه بلكمة تنهي حياته؟ وماذا لو لم تكن قد أنهيت علاقتك بتلك المدعوة "شيرين" قبل مجيء وليد! هل كنت ستطلقها لأجله؟ هل تخافه يا مُعاذ؟))
بدت عينا مُعاذ في غاية السلبية بينما خفت صوت الثورة فيه وهو يتساءل بهدوء
((ولماذا لا أخاف من أمثال وليد؟ عليكَ أن تخاف يا مُصعب ممن لا يخاف ربه، صدقني لقد كان صادقًا في تهديده بعودة نيران الانتقام بين شباب القريتين فوليد لا يهدد من فراغ))
جحظت عينا مُصعب مستهجنًا مما يسمعه ثم غمغم بصوت أجش رجولي خشن وتفاحة آدم البارزة بحلقه تتحرك بوضوح
((هل أنتَ جاد يا مُعاذ؟ أنا لم أعهدك يا أخي ذليلًا وجبانًا!))
أذاه مُصعب وجرح كبرياءه ورجولته لكنه كان محقًا.. فتحرك جانبي فكه بقوة كتمانه لذلك الجرح.. ثم قال بصوت خافت حتى لا يشي بدواخله
((لو كنت فعلًا متزوجًا منها لم أكن لأسمح له بأن ينطق اسمها على لسانه.. لكن بما أني لست كذلك فلا داعي الآن أن أعاديه وأدفعه أن يفعل ما يهدد به))
تغضن جبين مُصعب وهو يتساءل
((من هي شيرين هذه؟ هل هي الخطيبة السابقة لوليد؟ المرأة التي انفصل عنها في نفس يوم زفافهم؟ لماذا أخترت أن تتزوج منها هي بالذات؟ هل جننت لتدخل نفسك في هذه الدوامة؟))
أغمض مُعاذ عينيه يتحكم فيما سيقوله قبل أن يهدر بانضباط انفعالي
((قصة معقدة يصعب أن اشرحها لكَ الآن يا مُصعب))
عاد مُصعب يقول محقرًا إياه أكثر
((لا أريد أن اسمع المزيد، على كل حال فقد سقطت من نظري كثيرًا يا مُعاذ، ردة فعلك مخزية جدًّا ولا تصدر من رجل يا مُعاذ.. لأنه لا ينبغي الإخلال بها ولا التهوين من شأن ما فعله))
سكت مُصعب قليلًا ثم تابع بنفس الاهتياج والغضب
((لم يكن منطقيًا ما فعلته.. أبدًا.. كان يجب عليكَ أن تجعله يدرك بأنكَ ستترك تلك المرأة وشانها لأنكَ فعليًّا لست متزوجًا بها لا أن تجعله على اعتقاده الخاطئ!)) وسرعان ما غادر مُصعب المكان كله قبل أن تنفلت آخر أعصابه..
.
.
بمجرد أن غادرا مكتبه حتى تهالك جسد وليد على إحدى المقاعد..
ها قد قال مُعاذ له بكل جبن بأن علاقته بشيرين انتهت.. دون أن يكون له هو دخل! ولكن بعد ماذا؟ بعد أن تم الزواج بينهما؟
ازداد وجهه بملامحه القاسية تجهما.. وبدا الألم والغضب في داخله عظيم بشكل يخيفه هو شخصيًا..
لن يسامحها أبدًا.. سيكون عقابه وانتقامه منها مضاعفًا قاسيًا بسبب ما أقدمت! لقد مزقت قلبه لألف قطعة وقطعه بما فعلته الآن وسابقًا!
=============================
اضجع مُصعب فوق سريره شارد العينين ومهموم الذهن.. رغم أن ما سمعه اليوم كان صادمًا لكن ما يغرقه الآن في دوامات الندم هو شعور الذنب الذي جعله وليد يطرق وجدانه..
يدرك تمامًا أن هدف وليد هو زعزعة إيمانه بقضاء الله وقدره إلا أنه ضربه بالصميم..
أشاح مُصعب بنظره نحو الباب وقد تناهى إلى سمعه صوت فتح مقبضه.. ليسمع نورين تقول وهي تلج للداخل ببطء بوجه متغضن تعبًا
((يا إلهي كم يؤلمني ظهري))
اعتدل مُصعب شبه جالسًا على السرير وهو يسألها
((أين كنتِ منذ الصباح؟ عدتُ قبل قليل واستفقدتك))
استلقت بجانبه تتنهد بتعب وأسندت جبهتها فوق صدره مغمضة العينين ثم غمغمت بإرهاق
((كنت مع رتيل ونجوم أعد طعام الفطور للعاملين في المزارع وما أن أنهينا صنعه حتى بدأنا نقوم بصنع وجبة الغداء.. وانتهينا الآن فقط.. ياسمين انسحبت من منتصف العمل وقالت بأنها لن تعمل مرة أخرى معنا وهذا ما صعب الأمر))
ضمها إليه يلف خصرها بذراعه لترتاح رأسها في حنايا عنقه بينما يتساءل باستغراب
((ولماذا تقمن أنتن بذلك؟ أين منال ونعمة وغيرهن؟))
أجابت ((أخاك مَالك قام بطردهن..))
اتسعت عيناه بتلقائية وذهول وتساءل
((ومن يظن مَالك نفسه حتى يقوم بطرد أيًّا كان؟ هل لدى أمي علم بالأمر؟))
اعتدلت لتجلس بجانبه وردت
((نعم وأمرتنا أن نتساعد في أمور المكان ونتدبر أمورنا ريثما يتم تعيين غيرهن))
شعرت بصدمته وعدم توقعه وهو يقول مستهجنًا
((ولكن نعمة بالذات تعمل في هذا المنزل منذ عشرات السنين.. كيف قبلت أمي بذلك!))
أجابته بحزن وهي تهز كتفيها
((أنتَ تعرف بأنها تحب مَالك ولا يهون عليها أن تكسر كلمته))
علامات التعجب والاستفهام كانت لا تزال ترتسم عليه عندما تشدق بنبرة ساخطة
((ليس من المعقول أن يتم طردهن لمجرد أن السيد مَالك طلب ذلك!))
دمدمت له بتردد وخفوت وهي تذكر ما طلبته منها سمية
((إذن أعدهن إذا كنت تستطيع، سمية تشعر بالذنب الجلل لما حدث فهي تعتقد بأن لها يدًا في تسريحهن من عملهن هنا))
مال برأسه متجهما يتساءل
((سمية؟ وما دخلها في الأمر كله..))
بتر كلامه وقد التمعت عيناه بالفطنة ثم تمتم
((أوه حسنًا فهمت لم قام بطردهن إذا كان السبب متعلق بسمية))
كانت نورين تداعب أناملها ببعضها وتشعر بأنها كانت السبب لا سمية.. حتى أنها منذ الصباح حاولت تجنب كثرة الكلام.. فقالت بصوتٍ خافت واهن وبحدقتين مهتزتين
((أنا متأكدة أن لي علاقة بما حدث بسبب ما فعلته لأنهم غفلوا عن مراقبتي))
قال لها مُصعب وهو يهم بالاعتدال واقفًا من السرير
((لا دخل لكِ بكل ما يحدث، أما بالنسبة لمَالك فليس من صلاحياته طرد أحد هنا.. سأتحدث معه على الغذاء.. هيا لنهبط للطابق الأرضي))
كان يمسك يدها يحثها على أن تقف من مكانها إلا إنها أبدت اعتراضات وهي تقول بتلبك
((لقد تناولت الغداء عندما كنت بالمطبخ، اهبط وحدك))
أخفض نظره إلى يدها التي حررتها بقوة منه فسألها بهدوء
((لماذا؟ ألا تقولين بأنكِ لا تحبين الانضمام لهم على وجبات الطعام إلا عندما أكون متواجدًا؟ ها أنا بدأت أشاركهم وجبات الطعام من أجلك))
شعرت بتأنيب الضمير لعدم انضمامها الآن معه.. لكن مُؤيد كان لا يزال بالأسفل وهي بدون حادثة الأمس تخافه وتخاف مِمَّا يضمره من وعيد لها سواء من كلماته أو نظراته المخيفة نحوها.. فرفعت رأسها لمُصعب ترجو تفهمه ومعذرته
((ليس اليوم فأنا حقًا لستُ جائعة، وظهري يؤلمني من العمل))
كان مصعب يريد التراجع عن الخروج من جناحه فلقاؤه بوليد أزال آخر ذرة شهية فيه.. لكنه خرج حتى يتناقش مع مَالك بشأن ما فعله في الأمس!
.
.
حيث تجلس عائلته حول منضدة الطعام دلف مُصعب متسائلًا وهو يلاحظ بأنهم لم يحضروا جميعًا
((أين مَالك يا أمي؟))
رفعت رتيل التي كانت توزع الصحون حول الطاولة وجهها له تقول بغل ونبرة مقتضبة لذكر سيرة مَالك
((وما أدرانا؟ أخاك وظيفته صرف العاملين وبليتنا نحن بعملهم))
تصاعد صوت مُؤيد الذي كان يدلف للداخل أيضًا بينما ينادي زوجته
((أم فهد أين أنتِ.. تعالي.. أين أنتِ؟))
وقف مُؤيد مكانه ما إن رآها لتتساءل باستغراب
((ماذا هناك؟ ألن تتناول غدائك وتتجهز لتعود للمدينة؟))
قال مُؤيد الذي كان يمسك هاتفه في إشارة لإنهائه مكالمته توا
((لن أعود أبدًا هذا الأسبوع وسأرتب مع أحد الموظفين عندي أن يدير أمور العمل في غيابي.. المهم أني قمت بدعوة لعشرات الأصدقاء هنا في الغد.. أريدك من الآن البدء بتجهيز غداء الغد.. أريد شيء يرفع رأسي أمامهم))
جحظت عينيها وهي تقول بصدمة
((ماذا! دعوة لعشرات الأصدقاء! أي دعوة في هذا الوقت جئت بها يا مُؤيد فجأة!))
سرد لها واقع ما حدث باختصار
((كان يفترض أن تقام هذه الدعوة في منزل أحد أصدقائي ولكن طرأ عليه ظرف مفاجئ فأقسمت عليهم جميعًا أن يحضروا عندي..))
وجهت رتيل نظرها له كالرصاصة والاستنكار والرفض يحتل ملامحها ثم هتفت
((ولكن يا مُؤيد أنتَ تعرف بأن كل الخدم قام مَالك بطردهم؟ وأنا مشغولة من الصباح للمساء في إعداد الطعام للمزارعين في أراضي والدك، والآن تريد مني أن انشغل بطعام أصدقائك غدًا؟ ألا ينفع أن تؤجلها عندما يتم تعيين خدم أخرين؟))
هتف مُؤيد رافضا
((لا.. لا ينفع تأجيلها ولا ثانية أخرى))
اقترح مُصعب على أخيه بعفوية
((مُؤيد بما أن الدعوة جاءت بشكل مفاجئ لماذا لا تطلب من أحد المطاعم المعروفة بجودة طعامها! أفضل من الجلبة التي ستقام، ريثما تعود على الأقل نعمة والباقين))
هزت رتيل رأسها بلهفة وعقبت على كلامه
((أخاك يقول درر وجواهر، اسمع كلامه يا مُؤيد، اطلب من أحد المطاعم))
امتقعت ملامح مُؤيد ووجه نظره المقتضب لأخيه قائلًا بلهجة شديد
((لا.. لست رجل ناقص لأسمح بطعام المطاعم أن يوضع أمام أصدقائي وعندي زوجة حية ترزق بكامل صحتها، نظمي وقتك وستجدين وقت كافي لطعام المزارعين وأصدقائي.. وأعجبني في الأساس ما قام به مَالك، لسنا بحاجة لأي خدم وعاملين ما دمنا متزوجين))
شعرت رتيل بالقهر يغزوها فقالت بحدة واختناق
((ولكن ظهري سيتكسر هكذا فلا أحد يساعدني إلا نورين ونجوم))
لم يعلق مُصعب على كلام أخيه بل نظر باتجاه أمه يعلمها
((أمي لا تطلبي من زوجتي أن تقوم بأي شيء، هي ليست خادمة هنا))
شدت رتيل على نواجدها.. فكأن مُصعب يتعمد إغاظتها ويقصد أنها الخادمة الوحيدة هنا!
في حين امتعضت ملامح زاهية بغير رضا لما قاله ابنها وكانت تريد الرد عليه بالرفض وهي تراه يستدير مغادرًا لكن غمغم مُؤيد بصوت خافت متوعدًا
((اتركوه قليلًا حتى يتفرغ بالي له، هل يظن بأني نسيت موضوع زوجته وهربها في الأمس!))
ثم حول نظره لزوجته يستطرد
((المهم يا رتيل ركزي معي.. لست بحاجة لأن أخبرك بأني أريد من المائدة أن تمتلئ بعشرات الأصناف من المعجنات والكبب وورق العنب والمحاشي والمفتول والحلويات والمقبلات.. لا تسودي وجهي أمامهم بحجة أن الدعوة هذه حصلت بشكل مفاجئ))
=============================
في شركة القاني..
في القسم والطابق الذي يعمل به قصي كان جالسًا خلف حاسوبه يقوم بعمله بالرد على اتصالات واستفسارات العملاء وهو يشعر بمفاصله تكاد تتصلب من طول مدة جلوسه!
اهتز هاتفه الذي كان على الوضع الصامت ففتح جزء من حقيبة ظهره ليرى شاشته المضيئة تعلو باسم سهر..
شعر بورطة حقيقية وهو يجد نفسه غير قادرًا على الرد عليها! ففصل المكالمة وبدأ بكتابة رسالة قصيرة يخبرها فيها بأنه سيعاود الاتصال بها لاحقًا لانشغاله في العمل الآن..
تبًا لهذا العمل الذي يضطره للجلوس هنا منذ ثلاث ساعات كاملات يرد على الاتصالات دون أن يغادر من مكانه!
حقا عمله هنا بمثابة السجن.. الأكل والشرب بمواعيد.. بل حتى دخول دورات المياه في مواعيد يجب الالتزام بها..
في لحظة بين الاتصالات نظر قصي للشاب اليافع طه الذي يجلس على يمينه عادة وسرعان ما اتسعت عيناها ونبهه مشيرًا لفمه
((يا هذا! انتظر لفاهك، هناك خط دماء يسيل من زاويته..))
أغمض طه عينيه وقال وهو يخرج منديلًا
((لم انتبه، لكني أضع قطنة فوق الضرس لأمنع نزيفه))
تدلى فك قصي بتعجب ثم قال كمن يحدث أبلها
((لا أفهم كيف تجلس هنا بشكل طبيعي وتستقبل المكالمات، لماذا لم تأخذ إجازة إذا كان ضرسك ينزف بلا توقف!))
قلب طه عينيه بضجر ثم قال بصوتٍ ثقيل وهو يسرد عليه كمن يتحدث في بديهيات
((وهل تظن بأني لو طلبت إجازة بسبب المرض كانوا ليقبلوا؟ قبل شهرين اتصلت على قائد فريقي وأخبرته بأني مريض فأخبرني بأن طبيب الشركة سيكون في منزلي بعد قليل ليتأكد من أني لا أدَّعي المرض، وعندما حضر الطبيب أخبرني أن مرضي لا يستوجب الغياب وأخذ بيدي ليوصلني للشركة.. ويومها أكملت عملي هنا وأنا أبدل الكمادات الباردة من على جبيني كل ربع ساعة))
امتقع وجه قصي بذهول مِمَّا يسمعه.. فمنذ سنتين هي مدة عمله هنا في شركة القاني وكل يوم يمر عليه يزداد استهجانًا من إدارة شركة القاني التي تعامل موظفيها بوحشية دون هوادة أو رحمة! ثم هزّ رأسه إذ أنه يتغيب في عمله كثيرا دون أن يمر في هذه التعقيدات، حتى أنه أنهى إجازاته السنوية والمرضية كلها بل وزيادة عليها.. فانتصب قصي واقفا من مكانها وقال باقتضاب
((سأذهب لأنادي معتز ليسمح لكَ بعيادة طبيب الشركة وأخذ إجازة))
قبض طه على مرفق قصي وأعاده قائلًا بإعياء
((انسَ الأمر، لن يوافق على أي حال))
هز قصي رأسه برفض مدمدمًا بعزم
((لا أظن بأنه من الصحيح أن تستمر في العمل هنا وفمك ينزف..))
ثم عاد يصب كل تركيزه على الشاشة أمامه متابعا عمله فشعر قصي بالبؤس والشفقة على موظفي الشركة.. لا والأنكى بأنه بعد كل هذا التعب الغارقين فيه وحتى لو عملوا هنا لفترة طويلة ستكون احتمال ترقيتهم.. أو كما يقولها عادة.. "مغادرة العمل على السماعة" هو كاحتمال أن تفور إحدى الدول العربية بكأس العالم لكرة القدم!
تمنى لو كانا يملكان شيئًا من حظه الذي يجعله متأكدًا في قرارة ذاته بأن أمامه القليل فقط ليترقى دفعة واحدة لمنصب مرموق وكبير في شركة القاني..
.
.
بمجرد أن حان وقت راحته حتى غادر قصي ليذهب لزاوية فارغة بين الممرات واتصل على سهر التي ما أن ردت عليه حتى سارع الاعتذار
((باربي حبيبتي، عاودت الاتصال عليكِ بمجرد أن سمحت لي الفرصة.. تعرفين كيف هو العمل مرهق هذه الأيام خاصة على رجل أعمالي مثلي))
تناهى إلى سمعه صوتها الناعم المتذمر
((قصي اليوم هو الجمعة.. حتى في هذا اليوم بت تعمل؟))
أغمض عينيه بغيظ شاتمًا الظروف التي يعيشها! كيف يخبرها الآن بأن عمله كموظف في خدمة العملاء والرد على اتصالاتهم يتعين على إجازاته ألا تكون ثابتة.. ويمكنه أن يعمل أيضًا في يوم الجمعة والإجازات الرسمية أيضًا!
وضع يده على سماعة الهاتف وأبعدها عنه يأخذ نفسًا عميقًا متعبًا ثم عاد يتحدث فيه مبررًا بكذبته المعتادة عليها
((أنا لست موظف عادي بل أدير شركة عائلتي وعليّ أن أعمل حتى في أيام العطل الرسمية!))
زمّت سهر شفتيها تقول بإحباط
((كنت في الماضي تتفرغ لي دائمًا يا قصي متى ما أردت لكنك بت مشغولًا كثيرًا في الأشهر الأخيرة))
صوت سهر الحزين اللطيف أذاب قلبه وجعله يريد الآن وعلى الفور غلق الهاتف والتحليق إليها.. لكن صدى صوت معتز المهدد له بتنبهيه الأخير قبل أن يتم فصله منعه! فتنهد وقال
((أنا آسفة يا باربي، لكن لم أعد أملك رفاهية التغيب والمغادرة متى ما أردت.. لكن سأعوضك.. أعدك.. هل تريدين مني أي شيء قبل أن أذهب الآن؟))
قالت سهر بصوتٍ يقطر حزنًا وخيبة أمل
((لا شيء، كنت أتمنى في نهاية الشهر أن نسافر ونعوض عدم سفرك معنا آخر مرة، لكن يبدو أنه لا أمل في ذلك))
شعر قصي بالإحباط أكثر منها لأنه لن يذهب معها.. ولكن ما باليد حيلة فسهر ووالدتها يظنانه رجل أعمال ذو مكانة مرموقة ومنصب كبير يدير بنفسه شركة العائلة.. ولا تعرفان حقيقة وضعه الحالي.. ولا يجب أن يسمح لهن بالمعرفة! ثم أن وضعه في العمل هنا حرج وهم بانتظار أصغر خطأ منه.. خاصة شيرين!
برق من عينيه البنتين شرارة غضب عند ذكر شيرين.. الصارمة.. الحازمة..
صدر صوت رنان انبثق من العدم ليجفل عليه قصي فيجد قائد فريقه معتز يقف أمامه بوجه متجهم وهو يرفع يده ويشير بسبابته على ساعة يده بإشارة إلى اقتراب انتهاء فترة راحته القصيرة.. فقال قصي بصوتٍ خافت لسهر التي لا تزال معه على الخط
((أنا آسفة يا باربي، سأتحدث معكِ بعد انتهاء وقت عملي))
قالت سهر رغم خيبة أملها بما لا يجعله يقلق على حزنها
((لا تتأسف يا قصي.. على كل حال أنا الآن مع أمي في إحدى دور الاهتمام بالبشرة.. إلى اللقاء))
=============================
أغلقت سهر الخط عليه متنهدة بحزن ومقوسة الشفتين.. وتراخت جلستها البائسة في دار التجميل..
هي هنا في روتين شهري تحرص أمها على الدوام عليه للعناية بجمال بشرة وجسد كل منهما وتدليلهما..
كانت العاملة في الصالون قد بدأت باستخدام جهاز تنظيف البشرة وتقشيرها عقب أن وضعت الغسول المخصص على شعيرات الجهاز.. ثم بدأت تمريره على مسامها بانسيابية..
بعدما انتهت غسلت سهر وجهها وأمسكت منشفة نظيفة بيضاء لتجففه بنعومة قبل أن تتجهم ملامحها لمَرْأَى النساء الثلاثة الجالسات أمامها وهم يرمقنها بنظرات مختلسة من أعلاها لأخمص قدميها.. وبدت بدت النساء في بداية الخمسينات من عمرهن رغم أن مظهرن يعطيهن عمرًا أقل لفرط اهتمامهن وعنايتهن بأنفسهن.. لا بد أنهن من نفس طبقة والدتها وعميلات دائمات لأماكن مثل هذه..
عندما انتبهت النساء أن سهر أمسكت بهن متلبسات ينظرن لها حتى أخفضت اثنتين منهن نظرهن في مجلات الموضة التي بين أيديهن إلا واحدة لم تتوقف عن تسديد نظراتها الثاقبة في سهر وكانت هناك هالة راقية محيطة بها.. فعقدت سهر حاجبيها تسألها مباشرة
((عفوًا.. لماذا تنظرين لي؟))
انتبهت المرأة الخمسينية لاقتراب تمارا من سهر بخطوات متروية فتساءلت بتعجب
((هل أنتِ سهر؟ سهر فايد حقًا ابنة تمارا؟))
انتبهت تمارا للمرأة التي تحدث واتضح بأنها تعرفها
((نعم يا مدام روزانا إنها ابنتي))
تغضن وجه روزانا بضيق ولف الامتعاض وجهها هادرة في سهر بصوتها مخملي
((ولكن اذكر بحسب آخر مرة رأيتك فيها بصباكِ أن لكِ شعرًا بنيًا وكذا العينين.. فمن أين تلك العينين الزرقاوين والشعر الأشقر هذا؟))
تحدثت المرأة بجانبها لها بلهجة مقتضبة
((الشعر مقدور على صبغه بلون آخر بسهولة.. لكن ما ماركة عدساتك هذه التي تلبسينها يا سهر؟))
أجابتها تمارا بامتعاض
((ابنتي طبيعية مئة بالمئة، لا تضع لا أصباغ ولا عدسات))
ابتسمت سهر وأجابت بسماحة رغم أن ملامح النساء أمامها لا تشير بأنهن يستلطفنها بعد أن عرفنّ هويتها وهوية أمها
((الحقيقية يا مدام روزانا كنت أكره بصغري شعري الأشقر.. فكنت دائمًا ما اصبغه بلون بني غامق، لكن لو دققتِ آنذاك بمنابت شعري للاحظتي بأنه أشقر اللون))
قالت روزانا بامتعاض وجهها العابس المخملي
((ربما.. لكن لا يهم))
ثم وقفت من مكانها واستدارت تجلس في مكان آخر بترفع تام فتبعتها المرأتين اللتين معها..
غمغمت تمارا وهي تكاد تتميز غيظًا
((امرأة حمقاء، تتجرأ على القول بأنكِ مزيفة، لا يعرفون أن باربي هو لقبك))
صححت لها سهر بمرح
((لا يناديني أحد بـ باربي إلا قصي))
قالت تمارا وهي تنظر بشيء من السخط لملابس ابنتها
((لقد أخجلتني يا سهر أمامهن بسبب الملابس التي ترتدينها فهي بسيطة جدًّا ولا تعكس خلفية عائلتك الثرية والفاخرة التي تواكب آخر صيحات الموضة!))
تذمرت سهر ((أمي ألا يكفي الساعات الطويلة التي أهدرها يوميًا في الاهتمام ببشرتي وشعري وممارسة الرياضة! هدفي من الملابس هو الراحة فقط والموضة لا قيمة لها عندي، ثم من هذه مدام روزانا؟))
استرخت تمارا على مقعدها مجيبة
((يمكنك القول بأنها ترأس إحدى الجمعيات الخيرية التي أنضم لها، السيدة روزانا هي إحدى أغنى نساء المجتمع الراقي))
غمغمت سهر وهي تشعر بأن تلك المرأة لا تزال تسترق النظر لها
((تبدو امرأة متعجرفة))
قالت تمارا بشيء من الغبطة والحسرة
((لكنها زوجة رجل ثري جدًّا وتملك عدة مؤسسات وجمعيات خيرية تستعرض بهن أثناء الاجتماعات من حين لآخر، محظوظات الفتيات اللاتي ستختارهن زوجات لأبنائها الثلاثة، لكن لا بأس فخطيبك قصي رغم غموض مقدار ثروة عائلته إلا أنه غني أيضًا))
قطبت سهر ما بين حاجبيها لكلام أمها التي سارعت تنهرها وهي تلمس ما تحت عينيها بأناملها
((انظري يا سهر لهذه التجاعيد، يجب أن تطبّقي كريم المرطب مرّتين في اليوم لتحصل بشرتكِ على الرطوبة اللازمة وتبقى نضرة ومتوهّجة طيلة الوقت..))
تبرمت لها سهر
((أنا افعل ذلك يا أمي ولكني في الثانية والثلاثين.. من الطبيعي أن يظهر شيء من أثار التقدم في العمر على وجهي))
.
.
على الجهة الأخرى من دار التجميل..
توقفت روزانا عن اختلاس النظر لسهر وقالت
((تخيلي بأني كنت حقًا أفكر بها عروس لابني الكبير لشدة جمالها اللافت، لكن اتضح بأنها سهر ابنة تمارا، سُمعتها تسبقها فقد سبق وهربت مرتين في الماضي بحفل زفافها..))
عقبت إحدى المرأتين على كلامها
((وبعيدًا عن سمعتها المخزية فإياكن أن تنبهرن بشكلها وأنوثتها الظاهرية وتظني بأنها تناسب أن تكون زوجة لاحد أولادك، فعلى حسب ما سمعته منها هي فتاة متمردة ومزعجة وفي غاية السطحية والغباء لا يمكن الاعتماد عليها لأنها لا تفهم شيء في الحياة الزوجية))
أومأت المرأة الأخرى قائلة بتأكيد
((نعم أذكر تلك الحادثة جيدًا.. أمها المسكينة تبحث لها عن عريس ثري ومن عائلة ذات صيت آنذاك بلا فائدة))
قربت المرأة الأولى رأسها من الاثنين تخبرهما بهسيس
((لقد سمعت بأنها خطبت وعقدت القران من رجل غني.. لكنها ترفض الإعلان عنه قبل أن يحددا موعد الزفاف))
قالت المرأة الثانية بنفس الهسيس
((لا أشكك بهذا الكلام صراحة، فهي صارت أجمل مِمَّا كانت عليه بصغرها، لا بد أن تمارا تبذل الكثير من المال والوقت والجهد عليها لتبرز جمالها))
عادت الأولى تعقب وهي تسترق النظر لسهر
((إنها جميلة حقًا، لا بد أنها تثير عاصفة من النظرات المعجبة دون أن تتعمد ذلك، فهي لا تضع الكثير من زينة الوجه ولا تختار ملابس ملفتة أو ألوان صارخة))
ابتعدت روزانا عنهن بضيق تقول وهي تعود لتقلب صفحات المجلة بين يديها
((دعكن من سيرة تمارا وابنتها))
=============================
مددت رتيل جسدها المتعب فوق السرير.. ليس متعب وحسب بل متكسر وكأنها كانت في صالة رياضية تقوم بحمل الأثقال..
رفع هاتفها تتحدث مع صديقتها غنوة وتشكو لها كيف أن مُؤيد جعلها تنهك نفسها في طهو الطعام للوليمة الخاصة بدعوة أصدقائه دون أن توفر أي جهد ثم أعدت الطعام للعاملين في المزرعة فضلًا عن القيام بأعمال القصر الشاقة والمضنية من ترتيبه ونفضه.. ثم أضافت بصوتٍ باهت من بين تأوهاتها المنهكة
((إذا لم يعد الحاج يعقوب العاملين للقصر فلا أعرف كيف سأعيش هنا ولا أحد يساعدني إلا نجوم!))
جاءها تساءل غنوة
((ألم يساعدك الأستاذ مانع بشيء؟))
تشدق رتيل بسخرية لاذعة على كلام غنوة ثم ضغطت فوق أسنانها من شدة الغضب ورغبتها في ضرب زوجها قبل أن تقول وتفرغ ما في داخلها
((يساعدني؟ عندما لمح في عيني بريق شكوى قام على الفور بعرض محاضرة عليّ عن عائلات أصدقائه.. فرغم أنهم جميعًا ميسورين الحال وأغنياء إلا أنهم لا يملكون خادمات.. أخبرني عن صديق له كان يتباهى أمامه كيف أن زوجته نظفت كل سجاد البيت بالمعقمات، وحملته وحدها حتى سطح البيت وأبهرت الجيران بالسرعة والقوة الخارقة التي تملكها.. ويريد مني أن أصبح مثلها))
خرج من صوة غنوة صوت تحسر وشفقة عليها قبل أن تقول
((إنها خطة منه.. يريد أن ينهكك بأعمال المنزل الشاقة ويتلألأ هذا القصر على حساب صحتك حتى ما تعودي قادرة على فعل شيء بسبب أوجاع ظهرك وأقدامك فيأخذها حجة فيما بعد للزواج من امرأة أخرى غيرك جميلة شابة تستطيع أن توفيه كل حقوقه الزوجية!))
أظلمت عينا رتيل عند هذه النقطة فيما أردفت غنوة كلامها ناصحة بواجهة المرأة القلقة على صديقتها
((أنتِ مسكينة يا رتيل.. أنا أنصحك بالطلاق وبشدة.. انظري للأستاذ مانع الذي يمنع السعادة عنكِ كيف يجعلك تعيشين معه في جحيم! هذا فضلًا عن الحصار والضغط الذي يحيط جوانب حياتك به.. والأنكى هو أنه لا يقدر شيء من تضحياتك))
رغم أن رتيل شعرت بصحة كلام غنوة.. ورغم أنها شعرت بأنها تعبت منه وأن حياتها معه لا تحتمل في ظل رضاه صعب المنال بالنسبة لها.. إلا أن وجهها امتقع عند ذكر سيرة الطلاق.. فالحياة عند مُؤيد أرحم من الحياة عند عائلتها.. فغمغمت لها
((أنا متعبة وأريد النوم.. وداعًا يا غنوة))
أغلقت رتيل الهاتف معها ثم بدأت تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يغتم وجهها وتغلقه.. فكل الإعلانات التي تظهر أمامها هي إعلانات تخص المطاعم.. وكأنهم يتعمدون إغاظتها عن معاناتها في المطبخ ويقترحون عليها ما يمكن أن يريحها لكنها لن تستطيع طلبه!
اعتدلت رتيل جالسة ونظرت لانعكاس وجهها المجهد الذابل في مرآة منضدة الزينة.. رفعت أناملها تتفحص وجهها وهي تشعر بإحباط فبالأيام الأخيرة وبسبب عمل المطبخ المضني لم تعد تجد أي وقت للعناية بنفسها..
=============================
غرفة مَالك..
كان ينهك نفسه في تصليح أوراق الامتحانات بضجر عندما تصاعد رنين هاتفه.. مرر عينيه عليه وما إن لمح اسم سمية يعلو شاشته حتى انتفض يرد قائلًا وقد كان أول اتصال لها به بعد ما حدث
((مرحبًا سمية.. كيف حالك اليوم؟))
شاب صوتها شيء من العدوانية وهي تقول
((لم أملك الجرأة على التحدث معَك بشأن ما سمعته.. لكن أنتَ من قام بصرف للعاملات في المطبخ؟ هل كنت تسترق السمع على محادثتنا الأخيرة؟))
تجهمت ملامحه على الفور وقذف القلم الذي يمسكه أرضًا ثم قال بامتعاض
((نعم.. وهل كنت لأسمع نعمة أو منال أو غيرها يتحدثن عنكِ ويعايرنك بـكونك..))
بتر جملته وهو يغمض عينيه لا يريد إكمال جملته وجرحها لتكمل هي عنه بثبات دون مواربة
((بكوني مطلقة؟ وماذا فيها.. أنا مطلقة مرتين لا مرة فقط ولا يهمني همساتهم عني فأنا لم أفعل شيئًا خاطئًا.. لكن إن كنت قد صرفتهن لهذا السبب فهو..))
قاطعها بلهجة يلفها البرود
((ومن قال لكِ بأني صرفتهم من أجلك! ما دب الغضب في كل خلية من جسدي هو كلام آخر خرج منهن أمام يزيد لم تسمعيه.. وأنتِ تعرفين بأني أملك محظورات شحيحة لا أسمح لأحد أن يتخطاها أولها واهمها هو يزيد))
صمتت قليلًا قبل أن تفضي ما بجعبتها
((لا أدري ما الذي قالوه أمامه ولا أريد أن أعرف، لكني طلبت من نورين فعلا أن تتحدث مع زوجها حتى يحاول إرجاع كل من كان يعمل في المطبخ والقصر.. فانت على ما يبدو يا ابن الكانز لا تعرف معنى قطع الأرزاق))
توجهت خضرة عيني مَالك ببريق خاص متقد بالغضب ثم غمغم متسائلًا بجمود
((هل تتحديني يا سمية؟ لأنه كان بإمكانك طلب الأمر مني أنا لا أخي!))
تكلمت من بين أسنانها تشدد على كل حرف وكأنها تشتمه مع كل كلمة
((لن أطلب شيئا من رجل مثلك يزيد عمره عن السابعة والعشرين ويتصرف بصبيانية بعيدًا عن النضوج!))
لم يبدُ أي تأثر على مَالك من كلامها كعادته كلما جلبت سيرة عدم نضجه! بل كان هادئ الملامح واللامبالاة تلفه.. قبل أن يرسم ابتسامة سخرية مريرة يوقل
((لطالما قيل لي من قبل الجميع بأن عقلي أنضج من سني بكثير.. إلا منك أنتِ دونًا عن الجميع! على كل حالٍ بما أنه وبكل الحالات لن يختلف رأيك بي فأنا سأتصرف بصبيانية كما ترمينني، ولن أسمح لأحد بكسر كلمتي في هذا المكان.. لن يعمل في هذا المنزل أي امرأة أشعر بأنها لا تحمل وِدًا ليزيد..))
اعترضت ((مَالك.. ما هذه الترهات..))
فقاطعها ببرود ((أرسلي يزيد لي، قال لي بأن لديه امتحان رياضيات وطلب مني أن أذاكر له))
تهكمت بنفس رنة السخرية المقيتة
((لماذا؟ أنتَ مدرس لغة إنجليزية لا رياضيات!))
رد وهو لا يحتمل أن يخوض في الحديث معها أكثر
((أرسليه لي الآن بدون نقاش، ألا يكفي بأني أمرر لكِ محاولاتك السابقة في ابتعاده عني وتحريضه ضدي!))
قالت له بجفاء يمقته
((لا داعي لتعبك معه.. صحيح أنا لم أحظَ بتعليم جامعي لكن بالتأكيد لست عاجزة عن تدريس ابن الست سنوات))
حسم نهاية الحديث وهو يقول
((سمية أرسلي لي يزيد وحسب.. أريد إهداءه الألبوم الذي وعدته به أيضًا!))
وضع مَالك الهاتف بجانبه بعدما أغلق الخط عليها ثم أخفض جسده يلتقط القلم ليعود ويركز باقتضاب على الورق أمامه لدقائق قبل أن يقاطعه أحدهم مجددًا بطرق باب غرفته..
سمح للطارق بالدخول ليتضح بأنها أمه ومعها مصعب الذي سأله متجهمًا
((كنت أتناقش مع أمي مجددًا فيما فعلته مؤخرًا.. والآن أريد أن أسألك من أعطاك أي صلاحية لتطرد مدبرة المنزل نعمة والأخريات؟))
ناظر مَالك والدته التي كنت تقف متسمرة مكانها ثم حول نظره لمُصعب يجيبه ببرود
((ولا واحدة منهن تحترمني، ألا أملك حق إبعاد من لا يحترمني عن هذا المنزل؟))
ضيق مُصعب عينيه يسأله بنبرة ذات مغزى
((لا يحترمنك أنتَ أم شخص آخر؟ لأن الشخص الآخر هو نفسه من لا يريد أن يخسر أحد عمله بسببه))
استقرت ابتسامة مريرة على فم مالك وهو يومئ برأسه إيماءة إدراك.. إذن فسمية تحدثت فعلًا مع نورين لتطلب من مُصعب أن يعيدهم!
فقط لو طلبتها منه لنفذ لها ما تريد حتى لو ترتب على الأمر أن يصغر من نفسه أمام الجميع..
قسمت ملامح مالك عازما أن يلقنه درسا حتى لا تلجأ لأحد غيره من البشر!
رد مَالك على أخيه قبل أن يعود ويناظر الورق أمامه متجاهلًا إياه
((لقد قلت ما عندي..))
تدخلت زاهية توجه الحديث لابنها بعد أن شعرت بالشفقة على رتيل التي تقوم بشؤون البيت كاملة دون مساعدة إلا من نجوم
((مُصعب اترك أخاك قليلًا وعرني اهتمامك، زوجة أخيك مُؤيد تجهد نفسها وهي تقوم بشؤون المنزل لوحدها.. لماذا لا تجعل زوجتك تساعدها؟ أنتَ تعرف كيف هو عقل مُؤيد صلب.. يرفض كليًا إحضار بديلات عمن غادروا، أنا لا يعجبني تصرفك بأخذ صفها علينا))
وجّه مُصعب نظره لأمه ثم قال لها بنبرة أشبه بالعتاب قبل أن يغادر غرفة مَالك
((تعجبك تصرفات مَالك الذي طرد كل من كان يعمل في القصر منذ ما يزيد عن عشر سنوات.. وتعجبك تصرفات مُؤيد الذي يرفض جعلك تحضرين بدلاء عنهم.. فلماذا لا تعجبك تصرفاتي الآن؟))
=============================
دلف وليد لغرفة الطعام يسحب كرسيًّا ويجلس عليه بينما يعقد حاجبيه لمرأى ريمة تلك الصبية المراهقة ابنة المرأة التي تعمل في منزله بينما تهسهس في أذن زوجته جُمان بصوتٍ منخفض بشيء ما..
عرف تلقائيًا بأنها تغتابه وتنقل ما سمعته يتحدث به مع شيرين في إحدى مكالماته لجُمان، بتصرف نابع من تلقاء نفسها فمن المستحيل أن تحاول جُمان أن تتبع أخبار أحد..
سكب وليد الماء له من الشاف وقال بحيادية تعقيبًا عما هو متأكد بأن ريمة تتحدث عنه
((اتصلت بشيرين فقط طلبًا للمساعدة في موضوع ما))
ابتعدت ريمة عنه ترشقه باحتقار ووضعت إحدى يديها على خصرها وهي تتشدق بتساؤل مستخف
((وما هو الموضوع يا سيد وليد الذي يستدعيك للاتصال بخطيبتك السابقة التي تركتها في نفس اليوم للتزوج من السيدة جُمان؟))
تصلبت أنامل وليد الممسكة بالملعقة وهو يدرك إلى ماذا تلمح ريمة! وكأنها تلمح للسبب الذي أذيع آنذاك عن سبب تركه لها! لكنه استمر بوضع الأرز فوق طبقه الأبيض ليقول بصوتٍ عادي
((موضوع غير مهم كنت بحاجة لها من أجله، وقدمت لي نصيحة فشكرتها عليها وانتهى الأمر))
جُمان التي كانت تنظر له بثبات أدركت بأنه كان يتصل بها ليداوي جرحًا لا طلبًا للمساندة..
رفعت ريمة حاجبًا متحديًا وهي تحدق به بسخط
((وهل تظن أن السيدة جُمان ستصدق كذبة كتلك؟ ومن يتصل بامرأة رغبة في النصيحة فقط؟))
كان إغماض عيني وليد هو الدرع الذي احتاج إليه كي يتمكن من تحويل هذا الحلم اللعين المصطنع إلى غضب بالغ سامحًا له أن يستعر ببطء.. فاستقام من مكانه واقفًا بصراخ عال
((أم ريمـــة!))
هرعت المرأة الممتلئة كبيرة السن نحو مكان وليد مهرولة لتغمغم من بين لهاثها بقلق من فقدان سيد منزلها اتزانه المعهود
((نعم.. نعم يا سيد وليد.. هل حدث شيء؟))
كانت ريمة تضع يدها على صدرها رعبًا.. فحدق بها وليد بعينين مخيفتين بينما يوجه كلامه الصارم نحو أمها
((تعالي واسمعي ابنتك المراهقة كيف تتحدث بوقاحة مع من يكبرها عمرًا، هل هذه تربيتك أنتِ وزوجك لها!))
ارتجفت ريمة هلعًا وبدأت الدموع تتغرغر في عينيها بينما تمسكها أمها من كتفيها وتهزها بقوة موبخه
((ماذا؟ ما الذي فعلتيه يا ريمة للسيد، هل قللتِ أدبكِ معه!))
غمغم وليد بنبرة مخيفة
((لو كانت ابنتك شابًا لما سكت ولأدبته بالجلد))
جاءت غمغمة وليد لتزيد من سخط وغضب أم ريمة على ابنتها كمن يصب الوقود فوق النار لتصرخ بها بينما تزيد من قوة هزها لها
((ما الذي فعلتيه أيتها الفتاة الرعناء! اعتذري من السيد وليد حالًا.. اعتذري))
اعتذرت ريمة التي بدأت دموعها تنسكب على وجهها لتدمدم بنبرة مفجوعة كإدراك متأخر
((أنا أسفه يا سيد وليد))
رد عليها وليد بترفع وبرود وكأنه يفرغ كل الإجهاد المكتوم الذي تعرض له مؤخرًا بمن لا حول له ولا قوة
((لا أريد أي اعتذار.. لي حديث مع والدها بشأنها))
عبست ملامح جُمان وهي ترى جسد الصغيرة يرتجف مغلفًا بالهلع والخوف بينما تغمغم بكلمات الاعتذار.. وأمها القلقة من أن يقطع رزق عائلتها فتلكز ظهر ابنتها آمرة إياها
((اعتذري بشكل لائق للسيد وليد.. ما الذي فعلتيه ليغضب هكذا؟))
تطلعت جُمان لوليد تخبره بصوتٍ هادئ
((لا بأس يا وليد سامحها فهي كما قلت مجرد مراهقة صغيرة لا تعي ما تقوله))
شيء في جُمان استفز وليد.. فتطلع بأم ريمة يقول بما جعل عينيها تتسعان
((لا أريد عند عودتي رؤية أي أحد منكم هنا))
شهقت ريمة وشعرت بفداحة الخطأ الذي تسببت به بينما توسلت أمها بإلحاح
((لا أرجوك يا سيد وليد سامحنا لما قالته تلك الصغيرة واعدك أن ألا تريك وجهها طوال فترة وجودها هنا))
ازدادت عينا جُمان قتامة! تدرك أن ما فعله وليد كان بمثابة عقاب لها هي.. يعاقبها لأنها تأخرت في طلب الطلاق منه.. والذي هو مُصِر أن تكون هي من تبادر له..
ارتفع صوتها وهي تكرر بحزم بدا ظاهريًا بأنه طلب إلا أنه كان في باطنة أمر له
((وليد تجاوز عن الأمر، فأنا أحب رفقتهما))
استدار وليد دون أن يرد عليها فوجهت جُمان كلامها لأم ريمة وهي تخبرها بتقرير
((لا تقلقي، وليد غاضب وبمجرد أن يهدأ سيتراجع عن كلامه.. لكن هذا البيت لن يستغني عنكم أبدًا..))
لم تكن جُمان قد أنهت كلامها وقد التفت وليد لها يرفع يده صافعًا إياها ليصرخ عقبها
((لقد قلت بأني لا أريدهم هنا فكيف تقللين من شأن كلامي وتشجعيهم على عصياني!))
ورغم غضبه المشتعل والمكتوم من أمور لا دخل لها بها إلا أنها كانت صفعة سطحية، فبالكاد لمس بأطراف أنامله وجهها.. وكأنه تراجع في آخر لحظة..
ساد الصمت المتوتر بينهما طويلًا لفترةٍ لم تقم خلالها جُمان بفتح عينيها لتواجهه بفعلته التي لا تغتفر في قاموسها وهي تكتم أنفاسها.. ليدرك أن هذا الصمت نهايته الحتمية ستكون ما يرجوه قلبها قبل قلبه..
.
.
بعد أقل من ساعة كانت جُمان قد أنهت تعبئة حقيبتها وبعض أغراضها جُهزت سلفًا.. وضعت حقيبتها أرضًا لتبدأ بجرها للخارج.. وقبل أن تهم بمسك مقبض الباب وصلها صوته هادئًا وهو يقف بجانبها معتذرًا
((جُمان أنا آسف.. لم أقصد ما فعلته))
أنهى جملته تزامنًا مع محاولته مسكها من مرفقها فهمست بصوتٍ شديد الخفوت أقرب للارتجاف وهي تنفض كفه
((إياكَ أن تلمس ذراعي))
قال مرتبكا كطفل مذنب
((لقد كنتُ غاضبًا كالجحيم ولم أعِ ما أقوله أو أفعله، كنت أشعر بضغط كبير مؤخرًا.. وأيضًا..))
لم تكن مركزة في كلامه وهي تنظر من حولها.. أعلاها.. ثم عبر درجات السلم نزولًا.. قبل أن تعود بنظرها لعينيه قائلة
((أظن بأنه فعلًا حان وقت الانفصال بيننا.. أتوقع أن ترسل لي هذه الأيام ورقة طلاقي وينتهي كل شيء بيننا))
تغضنت ملامحه بالشعور بالذنب وهو يقول
((جُمان أنا اسف مجددًا، لم أقصد ما فعلته، بكل الأحوال كان سيحدث الطلاق بيننا.. لكن بالتأكيد لن أسمح لكِ أن تتركي البيت بهذا الشكل، بل مرفوعة الهامة.. فأنتِ جوهرة وأنا فقط لم استحقك..))
سألته وهي تناظره بلهجة مغلفة بالبرود
((وعائلة ريمة ماذا بشأنهم؟ أتمنى من سيدة المنزل القادمة ألا تقوم بأي شيء قد يضرهم للخروج فهم مرتبطين هنا))
قال بكل تأكيد كجروٍ مسكين لا يريد إلا رضا صاحبته
((أنتِ سيدة المنزل وأنتِ من تقررين بشأنهم، سأذهب لأقولها أمامهم فأنا لن أخالف رغباتك يا جُمان))
صدح صوت وليد عاليًا وهو ينادي ((أم ريمة.. ريمة))
جاءت الاثنتين تقفان عنده بقلق يتجلى في وجهيهما تظنان بأنهما سبب الاحتدام الذي حدث قبل قليل.. وقالت أم ريمة بنبرة متذللة مكسورة
((هاتف زوجي مغلق الآن فلم نستطع الاتصال به، لكن سننتظره في الخارج وبمجرد أن يعود سنغادر..))
قاطعها وليد يخبرها بثبات
((كما قالت جُمان فأنا لم أقصد ما قلته..))
اتسعت عيناها ونظرت جانبًا لابنتها التي كانت تبادلها النظرات المصدومة.. ثم عادت تنظر لوليد متسائلة
((ولكنك يا سيد وليد قلت..))
غمغم بصوتٍ خفيض نافذ الصبر
((كم عليّ أن أكرر كلامي؟ لا أريد خروج أحد من هنا))
كانت تعرف جُمان بأن ما قاله كان بمثابة امتنان لأنها قررت المغادرة فعلًا.. فتطلعت لأم ريمة تحدثها
((إياكِ يا أم ريمة أن تفعلي أي شيء مع ابنتك.. سأتصل مساءً بها لأتأكد من أن أحد لم يأتي صوبها ولو بكلمة))
أغمضت ريمة تمنع المزيد من دموعها الغزيرة من الجريان على وجهها لتمد جُمان يدها وتمسح فوق ظهرها بحنان..
لتغمغم أم ريمة لها ((لقد استفهمت منها عما حدث بينك وبين السيد وليد بسببها.. سأحزم أغراضنا لنغادر المكان.. لكن لا تغضبي والسيد وليد بسببنا.. أرجوكِ..))
ردت جُمان تخفف من إحساسها بذنب ليس في مكانه
((ليس لريمة أي علاقة بما حصل بيني وبين وليد لا من قريب ولا من بعيد.. لم تخطئ بشيء لتستحق توبيخ وليد بل كان يفجر غضبه الكامن بداخله فيها.. فإياكِ أن تلوميها..))
سارعت ريمة تسألها بلهفة وقهر عليها
((لماذا تخرجين إذًا؟))
أجابتها جُمان بصراحة
((كنا سننفصل في كل الأحوال.. فلا داعي للتأجيل أكثر فلا فائدة منه إلا استنزاف كلينا))
أومأ لها وليد بهدوء مكسو بالحزن مغمغًا
((إلى اللقاء يا جُمان))
صححت له بصلابة وعينيها في عينيه
((بل وداعًا يا وليد))
=============================
أمسكت شيرين الهاتف بحركة مرتبكة بوضوح ما إن رأت اسم مُعاذ يعلو شاشته لترد عليه فيأتيها سؤاله المباشر ((كيف علم وليد بخطط زواجنا السابقة يا شيرين؟))
اهتزت حدقتي شيرين على ذكر سيرته وانحسر اللون من وجهها متسائلة بتعثر
((وليد.. وليد ابن عمك؟))
قال بخشونة وانضباط انفعالي
((نعم وليد يا شيرين كيف علم بذلك؟ بل حتى أنه عرف بشأن زيارتي الأخيرة لكِ في الفندق!))
كان كلامه فيه اتهام واضح بأنها من أخبرته بذلك فتمتمت له بصوتٍ واهن مرتبك
((لقد سبق وأن أخبرته بأني سأتزوج في الماضي.. ولكن لم..))
قاطعها مُعاذ يكيل الاتهامات لها وقد وصلته الإجابة منها دون أن تكمل
((لقد كان اتفاقنا بأن يكون زواجًا صوريًا دون أن يعرف أحد به من عائلتي ولكنكِ نقضتِ الوعد، لم تطيقي الصبر حتى تخبريه))
همست شيرين بلا تصديق
((ماذا تقول!))
غلف الغضب ملامح مُعاذ بخشونة.. فما فعلته شيرين كان بمثابة غرس خنجر منقوع بالسم ليقتل كبريائه كطعنة أخيرة بعد أن سبقتها طعنات من خناجر الاستهانة.. والادعاء.. والإستغفال..
كانت مصرة منذ البداية أن يكون زواجهما صوريًا حتى تنتقم من وليد.. وقد نجحت.. حتى لو لم يتم الزواج بينهما.. فقد أخبرت ابن عمه بأنه تم! لقد استغلته وهو الذي رأى فيها فرصته الأخيرة ليعيش مع امرأة بعد أن فقد المرأة الوحيدة التي أحبها في حياته!
أغمض مُعاذ عينيه يستعيد رباطة جأشه ثم سألها بصوتٍ حرص ألا يشوبه أي شيء
((لا بد أنكِ مطمع للكثيرين من الزملاء في عملك، فهل يمكن أن أسألك لماذا طلبتِ مني أن أتزوجك أنا بالذات؟))
أجابته بصوتها المتذبذب واختلقت لتحافظ على ما تبقى من كبريائها
((لقد سبق وأخبرتك السبب.. أنا لا أثق بأحد غيرك ليحافظ على وعده بالزواج مني زواجًا صوريًا))
لم يتمَالك نفسه وانفلتت أعصابه مستنكرًا
((ولماذا عليه أن يكون زواجًا صوريًّا! لماذا لا تقبلين الزواج من أي رجل صالح يتقدم لكِ زواجًا طبيعيًا!))
بدت على وشك الإغماء من شدة اضطرابها لصراخه عليها لكنها تمَالكت نفسها وهي تكرر تبريرها السابق
((لأني لم أجد رجلًا مناسبًا يتقدم لي))
غمغم لها بصوتٍ سقيم وقد صدقت توقعاته عنها تماما
((ولا يبدو بأنه سيأتي هذا الرجل المناسب طالما عقلك وقلبك مكرس لرجل واحد فقط، حتى بعد ما فعله بكِ في الماضي))
دموع حارقة لذعت حدقتيها ولكنها احتجزتهم خلف أهدافها..
إنه يظنها لا تزال تحب وليد حتى بعد كل ما فعله بها! فسألته وهي لا تعرف كيف وجدت القوة للصمود على نفس الواجهة
((ماذا تقصد يا مُعاذ؟))
ظل على صمته لدقائق يحاول ألا يظهر لها أي انفعال يدل على تأثره مما حدث له.. فلطالما كان له ذلك السحر الرجالي الذي يجعله حتى في غضبه لا تنفلت أعصابه، ثم قال
((لا شيء.. على كل حال لم يعد هناك بيننا أي شيء، وبشأن وليد فأنا لم أجاري كذبتك ولكن في نفس الوقت لم أبح بالحقيقة حتى يظل على ظنه الخاطئ بأني سبق وكنت متزوجًا منكِ، كما كنتِ تخططين، أتمنى أن يرضيكِ ما فعلته))
ازدردت لعابها بصعوبة ثم هدرت وقد تقطعت حروف كلماتها بغصة قاتلة ((شـ.. كـ.. را.. لك))
وجد مُعاذ نفسه يغلق الخط عليها فورًا حتى لا تتكالب كلماتها المستفزة عليه بالمزيد من طعنات الألم التي تشب في رجولته نيران الغضب أكثر وأكثر.. لقد استغلته حرفيًا لتنتقم من وليد وتثير غيرته وسخطه!
أما على الجهة الأخرى، فكانت شيرين تنظر لهاتفها بقلة حيلة.. ابتلعت غصة بكاء مسننة في حلقها ونكَّست رأسها..
بعيدًا عن العاطفة أحيانًا هي تستحق ما يحدث لها، كي تغيّر تفكيرها السقيم وتفيق من غبائها قليلًا.. أما بشأن مُعاذ فقد سبق ويئست من أن يتقبلها أو تطور أي مشاعر بينهما.. لقد انقطع حرفيًّا آخر خيوط الأمل بعد مكالمته هذه التي لم يدَّخر فيها أي مشاعر سلبية ونفور منها ليظهره..
=============================
كانت رتيل في الفناء حيث توجد الشرفة وقسم الزرع والزهر توجه نجوم لتنظيفه قبل أن تدلف للداخل وهي تشعر بضخامة هذا القصر.. فهناك المدخل والدرج والصالون، وغرف المعيشة.. وأكثر من جناح بأكثر من غرفة ملحقة به.. ومجلس النساء ومجلس الرجال.. والمطبخ العلوي والمطبخ الخارجي..
كل هذا العمل الشاق عليها هي ونجوم أن يقمن به، والذي كان يستوجب في الأصل أن تقوم به نساء كثيرات..
تنهدت ببؤس وهي تشعر بأن كل ما كانت تجبر نورين على فعله في الماضي بأمر من مُؤيد ها هو يُرَد عليها.. وأيضًا بأمر من مُؤيد..
وها هي مضطرة أن تقوم بكل هذا العمل المضني لوحدها..
ورغم أنها كانت مرهقة وتكاد الآن أن تسقط تعبًا وجدت نفسها تتوجه نحو جناحها.. إلى حيث مُؤيد يتمدد أمام التلفاز ويتابع إحدى برامجه الرياضية المفضلة باهتمام..
فأوصدت الباب خلفها ووقفت أمام التلفاز متخصرة تقاطع عليه متعته وهي تصوب له نظرها بعينين ثائرتين رغم البأس الظاهر فيهما وقائلة
((متى ستجلب خدمًا بدلًا من الذين صرفهم مَالك؟ هل سيطول الحال هكذا؟ أنا لا يساعدني أحد في البيت إلا نجوم))
لوح مُؤيد بيده لها لتبتعد من أمام التلفاز وهو يخبرها بنزق
((لست بحاجة لأي مساعدة، أساسًا هكذا ستثبتين عظمتك بصنع كل شيء لوحدك))
علا وجهها قناع جامد لا يحمل أي مشاعر تمامًا كنظرة عينيها التي تلبدت ثم تساءلت ((هل جننت يا مُؤيد؟))
ارتفع حاجباه واتسعت عيناه وهو يضرب كفًا على كف..
أطفأ التلفاز وقد فقد اهتمامه بما يشاهده ثم هدر قائلًا بحزم
((لا لم أجن بعد، من الآن وصاعدًا أريد منكِ أن تنفضي هذا المكان كله كاملًا يوميًا، أريد أن تنظفيه بلاطة.. بلاطة حتى يخال الناظر أن أراضي وجدران هذا القصر مرايا يرى الناظر فيها نفسه، أساسًا أنا لم أثق بحياتي بعمل الخدم))
انتظرت حتى انتهى تمامًا من قصيدته المحفوظة ثم قالت له بغل من بين أسنانها المطبقة
((يعني لن توظف أي أحد في المطبخ ولا القصر وتريد مني أن أقوم بكل هذا العمل للنهاية لوحدي؟))
وضع مُؤيد كفًا فوق جبينه يغمغم كمن يحدث نفسه مطرقًا برأسه
((سامحك الله يا أبي لم يكن من المفترض بكَ أن تجلب الخدم من الأساس! بل كان عليكَ أن تترك نساء هذا المنزل يقمن بكل شيء منذ البداية))
صبرت بتبلد كما اعتادت أن تفعل وهي تتلقى منه أسطوانات التقريع اليومية ثم سألته بقنوط وهي تضيق عينيها
((هذا آخر كلام عندك يا مُؤيد؟))
هتف حانقا ((وماذا تريدين بعودة الخدم للمنزل؟ ولماذا أنا تزوجتك إذا كان وجودهم ضروري.. هل هناك أي خادمة تعمل عند والدتك أو أخويك الاثنين؟))
اتسعت عينيها لما تسمعه منه.. واختلجت شفتيها تهم بالاعتراض ولكنه لجمها عن الرد بينما يتابع
((أنا أجيب عنك.. ليس هناك خدم عندكم.. إذن ابلعي أي اعتراض واعملي في هذا القصر لوحدك، ليس من حقك أن تطلبي خدم هنا ولم يكن هناك في بيت والدتك))
بيتهم صغير وليس هناك أي حاجة لصنع وجبات الطعام للمزارعين في مزارعهم.. لذلك لم يكن هناك أي حاجة للخدم عندهم.. لكنها لم تعرف كيف ترد عليه بهذا الكلام.. بل وكأنه ربط لسانها على الكلام.. لكن فجأة
شعرت بطفلها فهد يهز ثوبها وهو يتطوع قائلًا بصوتٍ مشفق عليها
((أمي لا تحزني أنا وباسم سنساعدك، أخبرينا ماذا نفعل؟))
لم تكن قد تأثرت بعد بعطف صغيرها ابن الست سنوات قبل أن تسمع أباه يزجره
((اسكت يا ولد، أعمال المنزل هي للنساء، وأنتَ ستكبر لتصبح رجلًا.. مثلي))
نظرت رتيل له بتأنيب وقالت
((حتى ولدينا فهد وباسم يران تجبرك وتسلطك عليّ ودائمًا ما يظهران إحساسهما معي لما تفعله بي، أصبحت الآن أتمنى ألا تزورنا هنا وتبقى في المدينة))
مال مُؤيد برأسه يستند به إلى إصبعيه يتأملها بنظرةٍ ثاقبة ثم قال
((هذا لأنهما صغيران.. لكن مع دخولهم لسن المراهقة ونمو احتياجاتهما سيتلاشى شعورهما بالشفقة عليكِ ويحل محلها الإدراك لواقع الأمر وسيفهمان الفرق بيني وبينك.. فأنتِ امرأة وأنا رجل.. وليكن بعلمك لن أعود أبدًا للمدينة إلا متى ما شئت فعملي أستطيع إدارته من هنا فإياكِ أن تنكدي عليّ))
غمغمت له بحقد
((ألم تقل لي منذ زواجك بأنك لا تستطيع إدارته إلا من خلال تواجدك هناك؟ ولهذا تستأجر حضرتك منذ زواجنا شقة في المدينة؟))
تجاهل كلامها وأمرها باستعلاء
((اذهبي واعدي الشاي هيا.. انظري لقلة حياءك كيف تتحدثين مع زوجك بهذه الطريقة الغير محترمة))
كظمت غيظها منه متمتمه بينها وبين نفسها بصوتٍ مسموع
((أي شاي في هذا الوقت! لقد فقدت كل طاقتي))
صفقت الباب خلفها بعنف في حين هز هو رأسه بيأس مغمغمًا لنفسه بتوعد لئيم
((هزلت فعلًا.. صار وجود الخدم في المنزل واجب للشخص ميسور الحال! لن أكون مُؤيد ابن يعقوب الكانز لو سمحت لأي من الخدم بأن يعودوا هنا.. حتى أني سأطرد قريبًا نجوم هي الأخرى))
=============================
كان وليد يمج من سيجارته بينما يشرد بعينيه عبر الدخان.. والألم يجعل يده التي تمسك بالسيجارة ترتعش.. كلما خطر على باله بأن مُعاذ تزوج منها بالفعل يشعر بذاك الارتجاف يغزو جسده رغبة في قتل أحد ما.. بسبب استخفافه بها وعدم وضع من يراقبها منذ البداية تزوجت شيرين من غيره سبقه لها!
لم يتعب نفسه بالتفكير عن سبب تساهل مُعاذ بالذات في أمر طلبه للطلاق.. بل عزّ ذلك بأنه لم يرغب في الإكمال معها منذ البداية طالما أنه لم يسجل زواجهما في المحكمة..
بمجرد أن وصل وليد رد شيرين على الهاتف بعدما اتصل بها برقم أخر غريب حتى غمغم لها بجفاء
((هل وصلك الطلاق من مُعاذ؟))
صدرت منها شهقة صادمة ولم تتوقع أن يكون هو المتصل.. ثم سرعان ما انفجرت به صارخة ((وليد! هذا أنتَ أيها ألنذل؟ ماذا قلت لمُعاذ؟ أيها الخسيس أخبرني ماذا فعلت؟ لماذا تدخلت بيننا وكيف جعلته يشمئز حتى من التحدث معي؟))
كان صوتها يضج بالحرقة والغل وهذا ما جعل عيناه الناعستين تشع بشيء من الرضا وسط الحالة الإجرامية التي هو فيها الآن.. فقال أخيرًا
((ليس هناك شيء بينكما إلا الطلاق، فهل أعطاه لكِ؟))
خرجت منها ضحكة لاذعة قبل أن تقول بصوتٍ سقيم
((نعم طلقني.. هل أنتَ سعيد؟ الآن اتركني بحالي وإياكَ أن تتواصل مع مُعاذ بشيء يخصني))
قال لها بجفاء وهو يطفأ سيجارته
((سأعتمد على صدقك بما أنكِ عدتي للسكن عند صديقتك، لكن سأرسل من يراقبك ويتأكد من أنكِ لا تقابلينه))
هددته قائلة ((تجرأ وأرسل أحد لمراقبتي وستجد نفسك في السجن أيها المحامي المحترم))
رد عليها ببرود قاتم
((إذا استطعت إثبات ذلك فلا توفري أي جهد.. لكن عليكِ أن تفقدي الأمل في ذاك الرائد نهائيًا، فقد باعك على الفور بمجرد أن هددته))
سحبت عدة أنفاس تهدئ ثورتها قبل أن تقول
((لم أتأثر فقد سبق وجربت من تخلى عني بطريقة أكثر خزيًا، على كل حال لا أريد أن أكرر عليكَ بأني لا أريد سماع صوتك أو رؤية وجهة مجددًا))
غمغم لها من بين أسنانه بصوتٍ خطير
((لن أترككِ بحالك قبل أن أحصل عليك))
بدأت العبرات بالتجمع كالبحيرة المترقرقة في مقلتيها مدمدمه بغصة
((هل جننت؟ وماذا بقي لتحصل عليه؟ أخبرتك بأني سبق وتزوجت منه!))
أجابها ومقتليه المظلمتين كقبر عميق تزداد ظلمة
((حتى ولو..))
تقلصت ملامحها بازدراء ثم انفجرت به صارخة
((ألا تذكر ما قلته في نفس يوم زفافنا المفترض؟ قلت بأن رجولتك لا تقبل أن تتزوج من فتاة سبق وحملت مشاعر لغيرك ولهذا لن تكمله، فما الذي تغير الآن لتتزوج من امرأة سبق وسلمت جسدها لغيرك عندما تزوجته؟))
لوى وليد فمه بشبه ابتسامة قاسية وهو يقول من بين أسنانه ((ما أريده امتلكه حتى لو كان مستعملا))
لف الذعر شيرين وتشتت تفكيرها.. هل عرف بشأن كذبتها وبأن مُعاذ لم يلمسها أو يتزوج منها ويسايرها وحسب؟ فوليد الذي تعرفه ما كان ليكون مُصِر على الزواج منها بعدما عرف بزواجها الكامل من آخر! ولكن مُعاذ أكَّد عليها بأنه جاراها في كلامها ولم يكشف الحقيقة له! نفخت أوداجها وقالت تفعم في إيلامه
((وليد أنا في عدتي ولا يصح التحدث مع رجل آخر..))
فاحت ذبذبات الانتقام من حول وليد فوجد نفسه يقاطعها غير متمَالك أعصابه وملامحه تهتاج
((كُفِّي عن تذكيري بأنكِ كنتِ متزوجة من غيري.. فقط انتظري حتى تصبحي ملك يدي ووقتها لن يهدأ لي بال قبل أن يكون ثأري في حجري))
أغلقت شيرين الخط على صراخه وسارعت تقوم بحظر رقمه هذا الأخر على الفور..
=============================
انتهى الفصل.
الفصل العاشر

وقفت رتيل في المطبخ تقوم بإعداد ذاك النوع من الحلويات الذي طلب مُؤيد منها صنعه.. هذه الأيام لا يفعل شيء إلا المكوث في البيت وطلب ما لذّ وطاب من الأطعمة التي يشتهيها.. وكأنه امرأة حامل تتوحم..
نجوم تساعدها بقدر ما تستطيع.. هي الوحيدة المتبقية من العاملات اللاتي تم صرفهن! لا بد أن مَالك لم يطردها لأنها الوحيدة التي تعامل يزيد بشكل جيد..
وقفت رتيل أمام الموقد تمسك بيدها ملعقة خشبية تحرك بها ما في القدر.. وباليد الأخر تمسك كتاب فهد تذاكر له..
وعندما شعرت بترنح من التعب والإعياء تهالكت بعذاب على مقعد بجانب فهد الذي كان يكتب الكلمات التي تلقنه إياهم.. صححت له ما كتبه وأثناء ذلك انتبهت لعبوسه الملازم له منذ أن عاد من المدرسة.. فسألته باهتمام وقلق
((هل أنتَ منزعج من شيء يا حبيبي؟))
نكس فهد وجهه يتبرم بغضب طفولي
((اليوم عرفت بأن عمي مَالك قام بإعطاء يزيد ألبوم صور لهما الاثنين سويا.. ولا أذكر أنه قام بأخذ صورة لي معه))
تدلى فك رتيل ذاهلا لما سمعته.. هل جن شقيق زوجها ليصل به الاهتمام بيزيد إلى هذا الحد؟ هل طبيعي ما يقومه به! إنه لا يكف عن إدهاشها يوما بعد يوم فيما يقوم به ليزيد! لكنها تداركت الأمر وقالت لابنها مواسية
((حبيبي فهد لا تقلق.. أنا معي هاتف وسألتقط كل يوم لك صورة وسأصنع ألبوما أجمل منهما..))
رفض فهد كليا وهو يقول بمنطقه الذكوري الذي يتسرب إليه من فكر والده
((لا أريد فأنتِ امرأة.. لن أستطيع أن أعرض الألبوم متباهيا على أصدقائي في المدرسة))
لم تعقب على كلامه بل ابتسمت له بحنو الأمومة مقترحة
((إذن ما رأيك أن التقط صور لك مع أصدقائك أو أخيك باسم؟))
لمعت عينيه بالدموع الخفيفة وهو يقول بإصرار
((أيضًا لا أريد.. أريد رجلا كبيرا أن يلتقط معي الصور..))
لوهلة شعرت بالحيرة والتخبط لكنها تساءلت
((رجل كبير؟ إذن لماذا لا تخبر والدك؟))
هز فهد رأسه برفض مجددا ثم قال
((لا أريد.. سيرفض.. أنا اعرفه.. أخبري عمي مُصعب أو مُعاذ أن يهتما بي كما يفعل عمي مَالك مع يزيد))
تنهدت رتيل بتعب ثم وعدته وهي تطبطب فوق شعره
((حسنا سأفعل))
قاطعهما في هذه الأثناء دخول نورين قائلة
((مرحبا رتيل.. كيف حالك؟))
رفعت رتيل عينين مُخيفتين نحوها ثم قالت بجفاء
((إذا لم تكوني تريدين المساعدة فلا تدخلي المطبخ))
ادعت نورين الاستغراق بالتفكير للحظات وهي تزم شفتيها ثم ابتسمت بتسلية لرتيل وقالت
((بودي حقا مساعدتك، لكن قلبي الحقود يأبى ذلك وعقلي لا ينفك عن جعلي أتذكر تلك الأيام العصيبة الأولى التي عشتها هنا عندما كنت تجبريني على العمل هنا كخادمة وفوق طاقتي يوميا))
ضيقت رتيل عينيها وكاد الشرر يتطاير منهما وهي تقول بغل مهددة ((نورين سأعد للثلاثة إذا لم تغادري من هنا، فلا تلوميني على ما سأفعله الآن بك))
كتفت نورين ذراعيها ثم قالت متحدية بصلابة
((لن أغادر.. ماذا ستفعلين؟))
ضيقت رتيل عينيها أكثر وما أن استقامت واقفة حتى انتفضت نورين من مكانها شاهقة بذعر وهي تفر هاربة من المطبخ..
.
.
أغلقت رتيل باب جناحها ثم وضعت طبق الحلوى الذي أعدته لمُؤيد فوق المنضدة بقوة.. ثم وقفت متخصرة أمام التلفاز الذي كان يتابعه زوجها باهتمام هادرة
((تفضل طبق الحلوى الذي طلبته))
غمغم مُؤيد لها بانزعاج وهو يلوح لها بيديه جانبا كي تبتعد
((ضعيه هنا واغربي عن وجهي أنتِ تعيقين مشاهدتي للتلفاز))
استدارت تغلق التلفاز من الزر المخصص له ببساطة ثم عادت تنظر لزوجها متجهمة بينما تكتف ذراعيها.. فزعق بها باستنكار وهو يعتدل جالسا على السرير..
ازدادت ملامحها تجهما وهي تتحدث بجدية
((اقضي القليل من الوقت مع فهد وباسم، بدلا من الترفيه على بنات أخوتك، اخرج مع ولديك))
استبد الغضب به مما تتحدث به فقال محذرا وهو يلوح أمامها بسبابته
((إياك يا رتيل التدخل بعلاقتي مع أي من بنات إخوتي، هدى أو دارين))
دمدمت له بغيظ يعتريها
((إذا كنت لا تريد مني التدخل فاقضي بعض الوقت مع ولديك وأخرجهم معك للتنزه أيضًا))
برر مُؤيد وجهة نظره باقتضاب
((أحب تدليل الفتيات أما الأولاد فيجب التعامل معهم بحزم بعيدا عن اللين))
حادت بعينيها عن عينيه متخاذلة إلا أنها أصرت أن تفرغ ما بجعبتها فعادت تنظر له هاتفة بانفعال
((لا أقول دلل ولديك، ولكن اقضي معهما بعض الوقت))
ضيق مُؤيد عينيه متسائلا باستهجان
((بماذا سأقضي معهما الوقت؟))
((قم بالأمور التي يحبها كل واحد على طريقته الخاصة، وخاصة فهد.. لأنه كطفل يحز في نفسه عندما يرى عمه يهتم بابن البستانية بدلا منه، ووالده يهمله))
ازدادت عيناه ضيقًا لكن النظرة فيهما تحولت إلى شيء آخر أكثر خطورة.. ثم تمهل قبل أن يهدر ببطء
((كل هذا جراء غيرتك من معاملة مَالك مع ابن البستانية!))
زمّت شفتيها ثم قالت حانقة
((نعم.. لأن كل الأطفال حتى ابن البستانية يجدون من يهتمون بهم إلا أولادك..))
هدأت ملامح مُؤيد واستكانت قليلا لدرجة السكون المزعج والغير معبر عن شيء وهو يمعن النظر في وجهها قبل أن يهدر أمامها بنبرةٍ خفيضة مبهمة
((هل تعرفين لماذا يهتم مَالك بابن البستانية؟ لأنه وببساطة يحب أمه فيعوض استحالة إمكانيه زواجه منها بالاهتمام بابنها، لذلك اتركي مالك جانبا ولا تعقدي مقارنات))
ترقق حاجبي رتيل ثم سألته بشك
((ولم يستحيل أن يتزوج مالك من البستانية؟))
تنهد مُؤيد تنهيدة طويلة فاقد الصبر ليجيبها بشيء من البديهيات
((لأنه لا أمي ولا أبي سيوافقان أن يتزوجها! كيف يقبلا من مدللهم مَالك الراكز أن يتزوج من امرأة تكبره بسنوات ومطلقة مرتين ولديها ابن!))
أطبقت رتيل شفتيها بتفكير ثم نبهته بفطنة
((لا تحكم من الآن فأنتَ لا تعرف ما سيحدث مستقبلا!))
عاد يستلقي على ظهره قائلا بنبرة لا تحتمل التشكيك
((لن يقدر أن يتزوجها ولو أراد.. اسمعي مني أنا..))
ثم عاد يلوح لها بيده
((ابتعدي جانبا عن التلفاز وعودي لعملك فكما قلت لك لن أوظف أحد هنا، انتهى عهد دلالك))
عاد الغل والحقد يرتسم على وجهها من كلامه وابتعدت عن التلفاز تسمح له بتشغيله منصرفة من الغرفة!
=============================
كانت الحاجة زاهية جالسة تلاعب حفيدتها الصغيرة هدى بعرائسها تستمتع بهذه اللحظات معها قبل أن تقول الصغيرة ما يستدعي استغرابها
((جدتي هل أخبرك سرا عن أمي؟))
رفعت زاهية حاجبيها تحثها على المتابعة لتكمل
((كلام أمي غير صحيح، هي لم تعطيني الهاتف في الصباح وأنا لم أتكلم مع أبي كما قالت))
تلك الخطوط الجانبية التي ارتسمت عند عيني زاهية ازدادت عبوسا لترد
((ولكن والدك قال بأنه يتحدث معك بشكل يومي.. فهل الاثنين يكذبان عليّ؟))
نظرت هدى لجدتها بوجه رقيق ملامحه شفافة قلقة وهي تتساءل ببراءة
((هل أخطأت بما قلته؟ هل يُعد هذا إفشاء للأسرار؟))
قالت الحاجة زاهية بحنو وقد أثارت حفيدتها فيها عطفا
((لا تقلقي يا حلوة.. اذهبي لوالدتك لتستعدي للنوم))
أطاعتها هدى وهي تحمل عرائسها ثم تهرول للخارج..
في حين عادت زاهية تجلس بالقرب من النافذة ثم اتكأت للخلف متصلبة الأوصال تناظر الخارج عبر الزجاج تفكر بحال أولادها.. في هذه الأيام أكثر من يشغلها أصغرهم مَازن الذي بدأت تشك في صحة كلامه عندما يؤكد عليها بأنه يتفقد حال هدى دائما على الهاتف.. هل تحرمه ياسمين من التواصل مع ابنته؟ ولكن لماذا؟ هل هذه طريقتها لتضغط عليه حتى يعود للبلاد؟ راقت هذه الفكرة لزاهية وشعرت بأن كنتها أخيرا بدأت تتصرف كما تريد..
دلف الحاج يعقوب للداخل يغمغم بالسلام بعد أن أنهى صلاة المغرب جماعة في مسجد القرية.. ثم سأل زوجته متأملا ملامحها الشاردة ((ما هي أخر الأخبار؟))
خرجت زاهية من حالة تصلبها قليلا وهي تفرد قدميها المطويتان ثم سألته مباشرة دون سابق تفكير
((هل انتهت إجراءاتك لمحاولة استقدام ياسمين عند زوجها؟ فأنا كلما راجعت مَازن بالأمر يخبرني أن أسألك أنتَ))
أشاح يعقوب بعينيه جانبا وأجاب
((هذا ما كنت أريد التحدث معك بشأنه.. فياسمين لن تسافر عند زوجها))
سألته زاهية بتوجس وعينيها تمران على ملامح وجهه
((لماذا؟ هل معنى هذا الكلام بأنه هو من سيعود أخيرا))
حافظ يعقوب على صمته قبل أن يجيبها أخيرا
((لا لن يعود مَازن لهنا حتى بعد تخرجه.. فهو يريد أن يستقر هناك ويبدأ عمله الخاص.. لذا لن يتغير شيء في حياة ياسمين أو مَازن))
هدرت زاهية بغضب
((أي مشروع عمل هذا الذي جاء به؟ لقد ترك جامعته هنا في سنته الأخيرة، وذهب ليدرس نفس تخصصه في إحدى جامعات الغرب ولم نتدخل، والآن يريد أن يستقر هناك ويفتح مشروعا خاصا به؟ لماذا لا يقوم بمشروعه هنا))
غمغم لها يعقوب قاطب الحاجبين
((اهدئي يا زاهية))
زفرت باختناق ثم غمغمت له بحزن مكتوم
((أنا فقط لا افهم حاجته للاغتراب.. والأنكى أنك تدعمه يا يعقوب في ترك زوجته ومنزله والبقاء في الغربة!))
سقط كفه على حجرها وتمتم لها بائسا بمرارة
((وماذا تريدين أن افعل إذن؟))
أغمضت زاهية عينيها بإشارة رفض وعتاب ثم وجهته
((قل لابنك بأنه لا يجوز للرجل أن يتغرب عن زوجته أكثر من أربعة أشهر إلا بإذنها فكيف هو المغترب لست سنوات! أنا لا أجبره على العودة هنا لكن على الأقل فليستقدمها عنده هو وابنته.. لماذا يرفض ذلك؟ ماذا يخبأ هناك؟))
أغمضت عينيها متنهدة للحظات ثم سألت تبغي الحقيقة
((في الظروف الطبيعية ما يمنع الرجال من استقدام نسائهم للخارج ليشاركنهم مرارة الغربة هي عدم تحمل النفقات الإضافية.. لكن في حالة ابنك ما هي حجته؟))
نظر يعقوب إليها بقلة حيلة ودمدم فاتحا راحة يديه
((لا أدري بماذا أجيبك!))
غمغمت زاهية بإجهاد وصدر متألم
((أحيانا أشك أن السبب الكامن وراء انعزالها هو وقوعها تحت ضغوطٍ إضافية من ابتعاد زوجها عنها، وجعلها فريسة لمسؤوليات لا قبل لها بها))
ثم عادت تنظر من خلال النافذة تواصل همسا حائرا
((لكن على كل حال سأبحث في أمره وأتمنى أن يكون ما أظنه ليس صحيحا!))
تغضن جبين يعقوب متسائلا
((إلى ماذا تلمحين؟))
سألته بوضوح مباشرة وحدقتيها تهتزان
((هل هو متزوج هناك يا يعقوب؟))
لفه الارتباك عند سؤالها هذا لكن آثر أن تصدق هذا الأمر حتى تتوقف عن البحث عن مَازن فقال بثبات مفتعل
((وإذا كان متزوج، أليس رجلا ولا يستطيع العيش دون أن يعف نفسه؟ ما المشكلة في ذلك؟))
‏التفتت إليه بحدة تقول بانفعال مكتوم
((بل مشكلة كبيرة وفيه ظلم لزوجته.. لأن من حقها أن تتمتع بمعاشرة زوجها كما يتمتع هو بمعاشرة غيرها))
غمغم يعقوب بضيق
((زوجته راضية بغيابه ومتنازلة عن حقها في المبيت خلال هذه الفترة الطويلة، ثم هو تركها في مكان آمن لا يخاف عليها فيه، فلا حرج عليه))
ارتجفت شفتاها لا تجد ردًا أمامه في البداية قبل أن تغمغم
((حتى لو كانت زوجته راضية فعليه أن يعدل بين الزوجتين، والتسوية بينهما في النفقة والكسوة والمبيت.. كيف سيحقق العدل بين زوجتيه وإحداهما تقيم معه بشكل دائم.. والأخرى يراها أياما معدودة خلال سنوات!))
عاد يعقوب يلتفت بهيئته الوقورة لها قائلا
((لا داعي للنقاش في أمر لسنا متأكدين منه أساسا))
هزت رأسها له وهي تعود لتشرد في النافذة..
=============================
أطلق مُصعب تأوهاته في أحلامه بينما يهلوس بكلمات غير مفهومة.. منذ لقائه الأخير مع وليد وشقيقه مُعاذ وقد انقلب حاله رأسًا على عقب.. وكلمات وليد القاتلة تطارده في أبشع كوابيسه التي يلوم فيها نفسه بأنه كان السبب في موت يحيى لأنه من أرسلن لفض تلك المشاجرة بدلا منه.. وماضيه مع طليقته رشا وابنة عمه عند زواجه منها..
رغم أن وليد يعرف تماما حقيقية كل شيء.. حتى حقيقته مع رشا يعرفها هو ومعاذ دونا عن الباقي.. يعرف حقيقة أن رشا كانت تعاني من بطش والدها ويئست من أن يوقف أخيها يحيى أو أحد أعمامها والدها عند حده.. فلجأت له لكونه صديقا مقربا من يحيى قبل أن يكون ابن عمها وطلبت منه أن يتزوجها بعُرف النهوة لأن والدها مُصِر على تزويجها من صديقه كبير السن بعد أن أصبح شريكه في تجارته وسيعقد قرانه عليها قريبا رغما عنها.. فما كان منه إلا أن يستجيب لتوسلاتها وإلحاحها وفرض النهوة عليها أمام كل وجهاء وأهل القرية بشكل مفاجئ..
بالطبع اعترض عمه أمام الجميع بحجة أن ابنته مخطوبة لصديقه وتحبه.. لكن ولأن عُرف النهوة الجائر كان أقوى منه لم تلاقِ أيًا من اعتراضاته صدى عند أحد..
ورغم أن رشا تعرضت للكثير من التعنيف الجسدي والمعنوي من والدها بعد أن لامس موافقتها عليه إلا أن الزواج بينهما تم..
لم يبالِ مُصعب أبدًا ولم يهتم بسمعته أمام الناس وهو يظهر أمامهم بواجهة ابن العم الظالم الذي يفرق ابنة عمه عن خطيبها الحبيب ويتزوجها رغما عنها بإحدى تقاليد مجتمعهم البالية.. وهو المعروف عنه أخلاقه الحسنة وسمعته الطيبة..
بعدها بدأ فصل جديد من حياته مع رشا مثقل بالبرود والجفاء.. فمهما حاول أن يبني معها جسور تواصل بينهما ويزرع الود أو القبول في حياتهما يجد صدا منها!
أخيرا.. لم يتوقع أن ترد له معروفه بعد أشهر من زواجهما بأن تطلب الطلاق في يوم وفاة والدها.. تحديدا بعد ثالث يوم من عزاه! لكنه مع ذلك استجاب لطلبها مع وعد صادق لها بأنه لن يبوح لأحد بسر هذا الزواج حتى لو ترتب عليه أن يكمل حياته دون يصحح ظنونهم الخاطئة نحوه حفاظا على سمعتها..
لكن من جهتها لم تبذل أي جهد للحفاظ على هذه السمعة عندما سافرت خلسة للخارج عند والدتها بمجرد أن انتهت عدتها دون علمه أو حتى علم أخيها يحيى..
كان جسد مُصعب يهتز أثناء نومه كأنه يصارع شيء ما حتى أن حالته هالت نورين وهي تراه يتنفس بصعوبة والعرق يتفصد من جبينه.. يهذي بكلمات غير مفهومة.. عن ابن عمه.. وأيضا.. ابنة عمه.. ورغم حنقها اللاإرادي إلا أنها جلست جواره برفق على حافة السرير ثم مدت يدها لتلامس شعره توقظه على مهل
((مُصعب.. مُصعب استيقظ))
لم يستجب لها فبدأت تهزه بشكل اقوى وتناديه ليفتح عينيه أخيرا بتثاقل بتنهيدة حارة ((هل مات حقا؟))
عقدت حاجبيها لا تفهم سؤاله لكنها توقعت أن يكون له علاقة بيحيى ابن عمه.. كما أدركت أن مُصعب لم يستيقظ تماما بل لا زال يهذي فهزته بخفة وصوتها يصطبغ بلهفة واضحة
((مُصعب أنتَ تحلم..))
تطلع لها واجما ثم تجول نظره في غرفة النوم بينما يستوي شبه جالس.. وعى على نفسه أين هو لتقول له متجهمة
((بدوت وكأنك تعايش كابوس في نومك))
أرخى رأسه للخلف عابس الملامح مغمض العينين يتمتم ((نعم.. ربما))
وضعت عدة من الوسائد وراءه ليرتاح أكثر وسكبت له كأس ماء وهي تسأله بينما يُسمع وقع قطرات الأمطار من الخارج
((ماذا كنت ترى في نومك؟))
تجرع من كأس الماء بهدوء فشعر بتحسن والماء يُصب بجوفه ليطفئ ظمأه ثم رد
((فقط كابوس مزعج))
مدت يدها لتحتضن كفه بينما تنظر لوجهه المرهق وتتساءل هامسة
((لا أدري ما بالك مؤخرا! نومك بات خفيفا بعد أن كنت تقضي معظم يومك فيه))
لم يضع عينيه بعينيها بل أغلقهما بشدة وهو يتنفس بعمق ثم هدر ((نعم مؤخرا بدأ الأرق يلازمني ويجعلني استيقظ كثيرًا خلال نومي))
تجمعت الدموع في عينيها وهي تشدد من احتضان يده
((أخبرني ما هو السبب؟))
لم يرد بل زمّ شفتيه وهو يلوم وليد في داخله!
فليس هناك أبرع من ابن عمه في إطلاق سم الكلام اللاذع.. وبعثرة كيانه كرجل وهزّ عرش السلام النفسي الذي ناله بشق الأنفس.. فأشاح مُصعب بعينيه بعيدا عن وجهها العابس هادرا
((فيما بعد نورين.. فيما بعد))
ابتسمت بشحوب لتقول بصوتٍ مرير ونظرات شاردة
((لماذا كُتبت ألا تدوم السعادة بيننا!))
رفعت يدها نحو وجنتها تمسح تلك الدمعة التي سقطت بلا وعي منها فأمسك مُصعب يدها بغتة وشد عليها وهو يقول متجهما بقلق
((ماذا تقصدين بوصلة الكآبة هذه!))
دمدمت له مباشرة
((أنتَ السبب فيها))
تجلت الدهشة على وجهه وهو يردد
((أنا! ماذا فعلت لك؟))
رأى جرحا في عينيها يمزق القلب بينما تحاول انتزاع يدها منه وهي ترد باقتضاب متعمد
((لم يدم تغيرك السحري معي إلا وقتا قصيرا متمثلا في ليلة واحدة))
قطب مُصعب حاجبيه يسألها
((ماذا تقصدين؟))
ابتلعت غصة مسننة بحلقها ثم همست تطرح جل مخاوف أفكارها المتخبطة بين جنبات قلبها
((بعد أن ظننت بأنك تغيرت معي أخيرا، عدت كالسابق بل أسوء.. ما الذي حدث معك! حتى الأرق في الليل لا يتوقف عن مبارحتك! وكأنك ندمت على عرضك في أن يكون الزواج طبيعي!))
تمتم لها بصوتٍ مجهد
((الأمر ليس هكذا..))
تشنجت قليلا وهي تقول بثبات رغم اضطراب صوتها
((مُصعب هل يمكن أن نتحدث بشيء سبق وتجاهلناه سابقا؟))
تساءل هامسا ((ما هو؟))
صمتت فجأة ثم رمشت بعينيها سائلة بتردد
((أظن بأنك لم تصدق عذريتي في تلك الليلة، وسكت عن الأمر لأنك أردت انتهاء النزاع بين القريتين، لهذا كنت تنفر مني، ونادم على تغيرك معي..))
تنهيدة حارة صدرت منه وهو يضع أنامله على شفتيها يقطع استرسالها بالكلام وقد فهم مقصدها من صوتها المختنق ثم تمتم
((أنتِ مخطئة))
دمعة حائرة تعلقت بجفنيها وهي تهمس بتهدج
((لا تنظر لي هكذا.. فرغم أن تفهمك أراحني جدًّا آنذاك إلا أنه في بعض الأحيان تناوبني الشكوك أنك قلت هذا الكلام بغير اقتناع))
تجمدت نظراته بينما اشتدت لمعة نظراتها فقال بصلابة
((لا أشك بعفتك، عدم نزفك أمر فعلا طبيعي))
وهي تظن أيضًا بأنه طبيعي، فرغم كمية الرعب والخوف الذي كانت تعيشه آنذاك إلا أن تعامل مُصعب معها في تلك الليلة هو السبب.. فقد كان لطيفا معها.. متمهلا.. ورفيقا.. ولم يقم ببدء أي شيء إلا عندما شعر بأنها مرتاحة ومسترخية..
سادت لحظات من الصمت.. وكان المطر لا يزال يهطل بغزارة وصوت وقعاته يصل عندها..
تساقطت عبرة.. أو عبرتين من عينيها.. فيما همت بمسحهما على الفور وهي تقول بصوتٍ متحشرج
((لماذا تتصرف معي ببرود إذن؟))
تنهد مُصعب قبل أن يقول
((إن الذي تفسرينه بالبرود يعني بأني مرتاح معك..))
امتقعت ملامحها شاعرة برجفة في جسدها فشدها لتجلس بجانبه وهو يردد باختصار
((إذن هل يمكن أن ننهي هذا الموضوع تماما ولا تجلبيها في كل مرة تشعرين بضيقي الذي قد يكون سببه أمرا ليس متعلقا بك))
تقوست شفتاها للأسفل إلا أنها هزت راسها قائلة
((نعم))
مزق قلبه رؤيتها بهذا الشكل ضائعة.. تائهة.. وجهها شاحب وبريق عينيها خافت.. فشدد من ذراعه التي تحيط كتفها وهو يقول ((ظننت أن كونك متعلمة وفتاة ذات طموح عالي ستعرفين أنه أمر طبيعي ذلك دون الحاجة لذكر الموضوع من حين لأخر))
رفعت رأسها له ولم تقاوم جاذبية الانبهار فيه وهي تناظره ثم ابتسمت له من أعماق قلبها.. بادلها الابتسامة ثم قال لها بنبرة خاصة
((تخلصي من مخاوفك عن أفكاري، ولا يصح أن يظل ذهنك مشغولا فيه لهذه الدرجة رغم حساسيته يا نور))
استدارت نحوه تحيطه بيديها هامسة
((أريد عناقك.. أشعر بحاجة ماسة إلى دفئك))
دفن وجهه في شعرها الأشقر ومرر يده فوق ظهرها متقبلا إياها باحتواء ورغبة دون أي ذرة رفض..
فتمتمت له بحنق كمن تذكرت شيئا
((لا تدعوني بنور لو سمحت))
ضحك بخفوت ثم ناكفها
((لماذا؟ نورا.. نوران.. نورين.. كله مشتقات نور..))
تحركت نورين من رقدتها على السرير معتدلة بجذعها تنوي الابتعاد
((سأذهب من هنا))
مال هو الأخر بجذعه يتشبث برسغها ويعود ليجتذبها عنده قائلا بمرح
((أنا أمزح معك أيتها العفريتة))
استلقي فوق السرير ضاحكا معها.. وهي رغم تجهمها إلا أنها عندما سمعت ضحكته اهتز قلبها بين أضلعها واحمر خداها لتشعر بتخبط متفجر في صدرها بينما يأتيها صوته ببحته الخاصة ساخرا
((منذ متى وأنتِ لا تتحملين المزاح يا نورين!))
تخبطت نبضاتها في اهتياج لذيذ.. وكل حواسها ابتهجت استجابة لاسمها على شفتيه ثم قالت وهي تبتسم رغما عنها ((ألم تلاحظ بأنك لم تشتري لي كتاب أخر سبق وقرأته حتى نتناقش فيه يا مُصعب؟))
ضحكت بخفوت وهي ترى الحنق يبدأ بالتجلي على ملامحه بينما يقول
((اذكري لي موضوع الكتاب مرة وأخرى وسأحطم خلية النحل التي رأيتها حقا على رأسك))
قالت له بدلال متفاخرة
((لن أهون عليك، أنا أعرف..))
قال لها بعاطفة مغيرا الموضوع وهو يداعب خصلات شعرها الأشقر
((أريدك يا نورين من الآن وصاعدا أن تعرفي بأني عندما لا أوليك اهتماما فهذا لا يعني بالضرورة أنني أُهملك، قد أكون حزينًا أو مشغولا ولا أريدك أن تغرقي معي، قد أكون غارقا في عالم أخر لا تعرفين عنهُ شيئًا.. فالتمسي لي عذرًا))
أومأت له موافقة وابتسمت له ابتسامة يشوبها الحزن لأنه لا يُعلمها شيئا عن مكنونات قلبه.. ثم دفنت نفسها أكثر فيه.. إنها تعشقه.. وتعشق نظرته وحنوه..
تسربت طيب رائحة عطرها النفاذ له وهي قابعة بين أحضانه فلم يجد نفسه إلا أنه يريد أن ينال شيئا مما تهفو إليه روحه الليلة! أبعدها قليلا عنه يرفع أنامل يده ليلامس بها وجنتها بنعومةٍ ولمعان عينيه يشع في تعبير عميق.. ثم مال بشفتيه يلتقط ثغرها بقبلة ناعمة.. ليحلق بها إلى عالم أخر..
.
.
بعد ساعات..
وعندما يأس مُصعب من أن يجد النوم له طريقا مثل العفريتة بجانبه استوى واقفا من مكانه.. أزاح الستائر عن الجدران الزجاجية العازلة عن الشرفة ليستمتع بمنظر المطر.. ثم أطرق رأسه يفكر بكلام نورين الذي قالته قبل قليل وضيق عينيه يجتذب الذكرى التي مر بها قبل سنوات.. عندما كان قد مضى على زواج سمية من كامل فقط أيام.. وكان أخيه الأصغر مَالك لا زال غارقا في دوامة من البؤس والكآبة ووجهه ذابل منطفأ وكأنه فقد عزيز له.. جلس هو في غرفة مَالك بجانبه ليحاول بيأس التخفيف عنه وإخراجه من البؤس وهو متأكد بأنه سينسى بل سيضحك على نفسه عندما يكبر ويتذكر حبه لها.. استلقى كل من الاثنين على الأريكة يتابعان برنامج ما على التلفاز بدون تركيز حقيقي.. عندما صدح رنين هاتف مَالك أثناء ذلك لكنه تجاهله كما يتجاهل معظم الاتصالات الواردة له منذ أيام..
انتبه مُصعب بأن الرقم المتصل بهاتف مَالك هو رقم غريب وغير مسجل فلكز كتف شقيقه بخشونة آمرا
((رد على هاتفك أيها الكئيب))
تطلع مَالك بوجوم له وتمتم ببلادة
((إنه رقم غريب وأنا لا أرد على الأرقام الغريبة))
((لماذا؟))
((أخشى ألا تكون أرقاما غريبة))
لكزه مُصعب مجددا بخشونة أكبر مختصرا
((فقط رد أيها المتحذلق الكئيب))
تناول مَالك هاتفه وخرجت تنهيدة مغلفة بطبقة غليظةٍ من البؤس منه قبل أن يجيب ((من معي؟))
وصله صوت أنثوي مرتعش خافت يعرف صاحبته جيدا
((مرحبا.. مَالك))
انتفض مَالك على الفور جالسا وهو يمسك الهاتف بشكل جيد..
في حين اتسعت عينا مُصعب وهو يقرب أذنه من الهاتف يسترق السمع لها بينما يقول مَالك بلا تصديق
((سمية هل هذه أنتِ؟))
وصله همسها منتحبا بصوتٍ مختنق
((نعم مَالك هذه أنا.. سمية))
شعر مَالك بقلبه يرتجف داخل أضلعه من نبرة صوتها الغير مبشرة.. ثم تسائل باستغراب
((سمية هل اشتريت هاتفا؟))
طالع مَالك شقيقه المتجهم بدهشة شديدة لترد هي
((لا إنه هاتف زوجي كامل، وانا أحفظ رقمك))
كان لا زال كل ما في مَالك يرتجف خوفا مما قد يكون حدث معها.. ما الذي يستدعيها أن تتصل به بعد أيام فقط من زواجها بكامل؟
فأخذ نفسًا عميقًا ثم قال متسائلا بصوتٍ جاهد في خروجه ثابتا وهو يتمَالك أعصابه
((أوه حقا؟ ما به صوتك؟ هل أنتِ بخير؟))
تمكنت من النطق بكلماتٍ متداعيةٍ منهارة وكأنها تتكسر
((مَالك أنا سأقتل نفسي الليلة، أموت قبل أن أشهد اللحظة التي سأكون فيها سبب إخفاض وكرامة والديّ))
شحب وجهه وهو يستمع إليها واتسعت عيناه بصدمة يحدد الخوف إطارهما ثم سألها بصوتٍ خفيض خشن
((ماذا تقولين! سمية هل جننت؟ أين أنتِ الآن؟))
في نهاية حديثه انفلتت أعصابه فخرج صوته منفعلا بلهفة قلقة عليها.. فردت عليه بصوتٍ مغلف بالخزي
((كامل يتهمني بعفتي.. وأيضا..))
أظلمت عيناه وقد انحنى حاجباه قليلًا وكأنما لكمه أحدهم فلم يستطع النطق في البداية كما مُصعب الذي جحظت عيناه مما يسمعه.. ثم قال مَالك بانفعال
((مستحيل.. لو رأيتك بأم عيني فلن أصدق))
أخذت سمية تهذي بكلمات مشتتة متلاحقة
((بل صدق، ويتهمني معك، إنه يحبسني في المنزل بانتظار اللحظة التي سيفضحني بها عند والدي، قال بأنه سيفعل ذلك في الغد، وسيسترد كل قرش دفعه لقاء بضاعة معطوبة))
تمتم مَالك بنبرة صلبة
((المنحط الدنيء))
همست له بصوتٍ متعثر بيأس
((توقف عن شتمه.. اشتمني أنا.. هو الضحية وأنا الفاجرة..))
ضرب بيده على الحائط منفعلًا وهو يهتف بشراسة
((اخرســي لا تقولي ذاك عن نفسك..))
بكت أكثر وانتحبت بإصرار وهي تتابع هذيانها
((قطعة القماش لا يمكن أن تكذب، موتي هو خلاصي فأنا لن أتحمل أن ينفذ ما يهدد به في الغد))
كانت كلمتها بصوتها المرتعش تطوف برأسه وتخترق قلبه كالطعنات وهو يشعر بالألم والأذى اللذان أصاباها بما يفوق احتمالها.. فغمغم لها بصوتٍ يكسوه الرجاء
((سمية توقفي.. اهدئي أرجوكِ))
هتفت بانهيار ((عليّ أن أموت، لكن أنا أجبن من أن افعلها وسأرى أبي يدفن وجهه في الوحل بسببي))
كلامها البائس ونبرتها الواهية أقلقت مُصعب أيضًا عليها والذي كان لا يزال يحاول استيعاب ما يسمعه.. فهمس على الفور في أذن مَالك
((أخبرها أن تنتظر.. ستأتي سناء.. لتساعدها))
سمعته يأخذ نفسًا وكأنه يحاول أن يجلي حلقه ثم أخبرها بصرامة
((سمية أرجوكِ اهدئي الآن.. سأذهب لأخبر سناء.. سناء زوجة أخي مُعاذ.. وهي ستأتي لمساعدتك..))
زاد انتحابها وهي تخبره برجاء ممزوج بالخوف
((لا تفعل أرجوكَ.. لا أريدها أن تعلم))
انتصب مَالك واقفا على الفور وقال مهرولا للخارج
((إياكِ أن تتحركي من مكانك.. ستأتيك سناء حالا))
غمغمت له من بين بكائها برجاء مُلّح
((لا تخبرها، لن أتحمل بؤس وهوان أكثر من هذا))
همس لها والبريق الحزين في خضرة عينيه يشاركها أنّاتها قبل أن يغلق الخط
((أعدكِ أن كل شيء سيكون بخير.. ثقي بي))
.
.
فتح كامل باب منزله يضيق عينيه ثم سأل بحذر وهو ينظر لوجوه الثلاثة الواقفين أمام بيته
((ماذا تفعلون هنا يا سيد مُصعب؟ هل حصل شيء))
تطلعت زوجة مُعاذ لوجه كامل ولاحظت بأن وجهه هو الأخر شاحب نحيف والظلال القاتمة تظلل ما تحت عينيه المرهقتين الذابلتين.. فتنهدت قبل أن تقول بصلابة وثبات
((أنا هنا لأزور سمية، لم أراها منذ زواجكما قبل أيام.. هل يمكن أن أدخل عندها والاطمئنان عليها لو سمحت؟))
عقد كامل حاجبيه وقد شك بمعرفتها ما حدث رغم جهله عن الطريقة! فهو لم يسمح لسمية بالحديث مع أحد أو الخروج ريثما يفكر كيف سيكون تصرفه وردة فعله! حتى عائلته وعائلتها لم يسمح لهم بالقدوم.. فرد بصوتٍ أجوف مبحوح على سناء أخيرا وهو يتطلع بوجوم على الشابين خلفها
((ولكن ماذا يفعل السيد مُصعب ومَالك هنا؟))
أجابته ((لقد طلبت منهما أن يحضرا وينتظراني في الخارج معك.. فليس من المعقول أن آتي لهنا وحيدة))
.
.
كانت سناء قد ذهبت مع سمية لتقصد معها عيادة طبيبة معروفة بعد أن طلبت سيارة أجرة لهما.. في حين مُصعب عرض على كامل أن يوصله للمشفى وجاء مَالك معهما رغما عن اعتراضات أخيه العديدة! وهناك قبل أن تدخل سمية غرفة الطبيبة رفع مَالك وجهه يتأمل مظهرها.. تسير بجانب سناء بخطواتٍ ثقيلة مجهدة.. وجهها بدا وكأن آلاف الأعوام قد أضيفت إلى عمرها الأصلي وتركت آثارها فوق تضاريسه.. كتفاها متهدلين بعزمٍ مشتت كتلك النظرة في عينيها الحزينتين المكلومتين.. لم يسبق له أن رآها في كل حياته أكثر بؤسًا وهشاشة من تلك اللحظة!
استغرق الأمر دقائق قبل أن تخرج الطبيبة التي كانت تكشف عليها وتنادي زوجها وسناء للداخل.. ومرت دقائق أخرى أطول قبل أن تخرج الطبيبة ثم تتجاوزهما دون أن تلقي نظرة عليهما أو تطمئنهما بكلمة..
ولم قد تفعل تتحدث بخصوصيتها مع شابين لا تعرف أساسا سبب وجودهما في عيادة نسائية!
ثم خرجت زوجة أخيهما فاندفع مَالك نحوها بلهفة قلقة
((ماذا حدث؟ ماذا قالت الطبيبة؟))
ابتسمت سناء ببهوت وهي تطمئنه وكأن له علاقة بها
((لقد قالت بأنها لاتزال عذراء وغشاء مثل هذا النوع لا يتمزق بسهولة، وقد يستمر إلى الولادة الأولى))
شد مُصعب على أسنانه وهو يقول مغتاظا
((كما توقعت من ذاك المتخلف الذي تزوجته..))
تطلع مَالك لهما بشر قائلا بعزم
((سأجعل تلك الطبيبة تدون تقريرا عن حالتها وتعطيني إياه حتى نقاضي كامل الحقير الذي طعن في عرض زوجته وحبسها لأيام يخفيها عن الجميع ليتسنى له تعذيبها، لقد أذلها وأهانها وعليّ أن أقتص لظلمها))
ثم تسربت شحنات الانفعال له وهو يستطرد قائلا بينما يهم لدخول تلك الغرفة
((ماذا لا زال يفعل في الداخل؟ سأذهب لألقنه درسا))
أمسكه مُصعب من مرفقه بقوة يعيده هامسا بشراسة
((على رسلك أيها الأحمق، إلى أين أنتَ ذاهب؟))
توقف مَالك مكانه واستطاع أن يتطلع من فتحة الباب على من في الداخل.. ليرى سمية جالسة على أريكة ومرتمية على صدر زوجها كامل.. مغمضة العينين.. تبكي كطفلة صغيرة متأذية بينما هو يضمها إليه بذراعه ويريح ذقنه فوق رأسها هامسًا بكلمات يهدهدها ويعتذر لها راجيا مغفرتها.. وهي كأنها تتشبث به رغم جرحها منه.. تختبأ في صدره من ظلمه وشكه.. تشكوه إليه.. تلومه وتلفظ روحها بين يديه...
تمتم مَالك بتخبط ودهشةٍ أفلتت عقال غيرته ونظره لا يزال مصوبا نحوهما
((انظر له كيف يعانقها يا مُصعب، وكأنه لم يكن هو من قام طوال الأيام السابقة بمعاملتها بلا أي إنسانية فضلا عن قذفها بعرضها.. وفي نفس ليلة زفافهما))
هز مُصعب مرفقه الذي يمسكه وتمتم له يعيده لواقعه
((وما شأننا يا مَالك! لا يحق لك أن تفعل أي شيء إذا لم تشتكي هي.. أنتَ تتحدث عن امرأة متزوجة وتتدخل بينها وبين زوجها.. يُقطع رقاب الرجال في أمور كهذه، كيف ستتصرف لو عرف والديّ اللذين يتفاخران دائما بهدوئك ونضج سنك بالنسبة لعمرك بما تفعله!))
كان قلب مَالك يتفتت بالألم لهذا المشهد بل فارت مشاعره بجموح لتنهش صدره.. وشعر مُصعب به فأطبق بيده بقوة مشددا على مرفقه بينما قالت سناء التي اقتربت منهما
((أعرف أن ما قام به غير إنساني لكن الرجل بدا لي في حالة يرثى لها.. وجهه عندما كان يتحدث مع الطبيبة كان مثقلا بالألم والذنب والندم.. لا بد أن همساتها الباكية الآن تنساب مذبوحة في أذنيه))
تطلع مَالك لها يقول بوجه معذب
((هل تمازحيني؟ لا يمكن أن تعود له بعد كل ما فعله بها من امتهان وازدراء! ألم ترِ مظهرها قبل قليل فقد بدت كمن لم تأكل أو تشرب شيئا منذ حينها!))
عقدت سناء حاجبيه تقول بجدية
((لا بد أنها هي الأخرى واقعة في صراع مرير بينها وبين نفسها في أن تسامحه وتكمل حياتها معه أو تتركه فلا تزد الأمور تعقيدا يا مَالك..))
غمغم مَالك بنبرة مستهجنة
((يتوسل لها؟ بعد ماذا؟ بعد أن غرس سكينه في روحها وطعن في شرفها وحبها وثقتها))
ثم عاد يطالعهما داخل الغرفة ليرجعه مُصعب بصرامة وهو يهز مرفقه بقوة
((مَالك لا تتعدى على خصوصيتهما.. إنه زوجها.. لا شرع ولا عادات تبرر ما تفعله الآن))
أيدته سناء وهي تحثه بجدية
((مَالك إياك أن تتدخل فيما لا يعنيك ولا يحق لك.. ولننسى نحن الثلاثة ما حدث الآن))
زم مَالك شفتيه وهو يشعر بصحة ما يقولانه رغم الغضب المستعر الذي يجتاحه في هذه اللحظة ورغبته العارمة لقتل كامل وهو يجد ما فعله بسمية غير مبرر..
بدأت أنفاسه ترتفع وهو يعافر ليتركها في حالها للأبد ويبتعد عنها.. فنفض مرفقه من يد مُصعب بقوة واستدار يهرول مسرعا مغادرا..
وفي خارج المشفى وقف يرفع رأسه للسماء من فوقه ثم أغمض عينيه يستقبل حرقة الشمس بإرادة جادة في أن تحرق كل ما فيه بما فيها من مشاعر وعاطفة ليست في محلها..
عليه أن يعي ويدرك بأنها قد عقدت قرانها وتزوجت من رجل آخر ولم يعد يحل له أن يفكر بها حتى في خيالاته ونومه!
ومنذ آنذاك حاول مَالك قدر الإمكان ألا يفكر فيها أبدًا وكان يسمع أحيانا من زوجة أخيه سناء بأن سمية تعيش سعيدة مع زوجها كامل وعلى خير ما يرام.. وأنه بالفعل يعوضها بصدق لينسيها قسوته وظلمه السابق لها..
=============================
في شركة القاني..
كان قصي جالس على مقعده أمام الحاسوب يستقبل المكالمات من العملاء كما يتطلب عمله منه كموظف هنا.. استقبل مكالمة أخرى يبدأ بالقول
((مساء الخير يا سيدي.. معك قصي من..))
((موقعكم لا يعمل))
((لا تقلق يا سيدي.. هل يمكن أن تزودني برقم..))
((ألا تفهم؟ أخبرك بأن موقعكم لا يعمل بجهازي))
لم تنحسر ابتسامة قصي البشوشة وكأن العميل أمامه وهو يكمل الحديث بلطفه المعتاد والمفروض عليه
((حسنًا هل يمكن أن تعطيني رقم..))
قاطعه العميل صارخا بنفس العصبية التي بدأ فيها المكالمة
((الآن أريد منه أن يعمل.. شغّله من عندك حالا))
أغمض قصي عينيه يحاول ألا تنفلت أعصابه.. فهو كموظف خدمة العملاء عليه أن يتمتع بمهارات اتصال مع العملاء وعليه أن يكون دائما قادرا على المساعدة حتى لو واجهه عميل غير سوى أو حدثه بعصبية.. بل حتى لو تطاول عليه العميل عليه أن يحافظ على هدوءه وصبره وأن يصل لمستوى راقي ومتحضر لإرضائه..
((في البداية أود أن أسألك يا سيدي، ماذا يحدث عندما تحاول الدخول للموقع؟))
أجابه العميل ببساطة
((لا شيء.. إنه فقط لا يعمل))
((نعم أنا أفهمك ولكن ما هو الخطأ..))
قاطعه العميل بفظاظة
((أخبرتك بأنه لا يعمل، ألا تفهم؟))
بشق الأنفس تمَالك قصي نفسه وهو يقول بلطف
((هل يمكن يا سيدي أن تحاول كتابة اسم الموقع الإلكتروني على متصفح الإنترنت وتخبرني ما يظهر عندك؟))
((يظهر لي مستطيل طويل فارغ.. هل اكتبه فيه؟))
((نعم يا سيدي))
((كتبته وظهر لي الموقع))
كان قصي يمارس أقصى أنواع التحمل والصبر وهو يقول بصوتٍ مغتاظ
((هذا يعني بأن الموقع يعمل يا سيدي))
((هل تكذبني؟ أنا أخبرك بأنه لا يعمل))
((اكتب أي شيء واضغط على محرك البحث وستجد بأنه قد بدأ يعمل يا سيدي))
((نعم نعم.. ها هو الموقع بدأ يعمل..))
وقبل أن يسمح لقصي بالرد عليه كان يقفل الخط في وجهه..
.
.
بمجرد أن انتهت نوبة قصي في عمله حتى أزال سماعته من فوق رأسه.. وسجل خروج من الموقع ينهي عمله البغيض وهو يشعر ككل يوم بألم في جميع مفاصله من إثر الجلوس لساعات طويلة على الكرسي وببحة في صوته لعدم مضي دقيقة عليه دون التحدث..
أمسك بتكاسل حقيبة ظهره يجرها بيده لا يمتلك القوة يجرها بينما يغادر.. وقبل أن يخرج من القسم حتى عقد حاجبيه عندما ناداه قائد فريقه معتز
((قصي.. تعال هنا للحظة.. أنا بحاجة لتوقيعك))
اتسعت عينا قصي بصدمة.. توقيع؟ التوقيع يحتاجه قائد الفريق معتز فقط بحالة تم إعطائه تنبيه أو إنذار!
استدار قصي وخطا بغضب نحو معتز يغمغم بانفعال
((لماذا تريد أن تعطيني تنبيها يا معتز؟ ماذا فعلت؟ لم افعل شيء وبالتالي لن أوقع على شيء! وإذا ما فكرت أن توقع عني سأشتكي عليك وأنا لا امزح))
طالع معتز تهديد قصي باستهانة قبل يتشدق متهكما
((هون على نفسك فلن أوقع عنك، بل ستوقع أنتَ ورغما عنك على التنبيه الذي تستحقه، لكن بما أنه قد مضى ثلاث أشهر على احدى إنذاراتك وقد تلاشى من سجلك فلن تطرد بسبب هذا التنبيه.. لا تقلق))
اعترض قصي من بين أسنانه المطبقة
((ولماذا ستعطيني تنبيه من الأصل؟ أنا ملتزم أكثر من أي فترة مضت طوال فترة عملي وأتحامل على نفسي حتى لا انتهك أي قواعد هنا))
تطلع معتز له بتشفي يتلذذ بقهره كما كان يعذبه بعدم التزامه في السابق ثم قال ببساطة
((باختصار سبب تنبهيك هذه المرة هو تقييم العملاء المنخفض لك في نهاية المكالمات))
اهتزت أنفاس قصي وذهوله يبلغ قمته فغمغم
((ماذا! تقييم منخفض؟ وما ذنبي أنا بتقييمهم؟ ألا يكفي أنهم يروني كموظف هنا فرصة لتصفية الحسابات مع الموقع الإلكتروني، بل يتعاملون معي بعصبية وتعالٍ ويحملوني مسؤولية أخطاء باقي الموظفين!))
رسم معتز تلك الابتسامة المستفزة المتشمتة بينما يشده نحو الحاسوب
((أتفهم استيائك لكن هذه هي سياسة شركة القاني، الآن وقع على تنبهيك))
سكنت تعابير قصي ثم أرخى أهدابه وهو يشعر بأنه فعلا لا مناص له من أخذه للتنبيه ولن يفيده الاعتراض أكثر.. فتنهد بحرقة خرجت من جوفه محملة بقهر سنتين من العمل في شركة القاني بينما يمارس على نفسه حدوده القصوى من ضبط النفس للالتزام في العمل هنا وبذل اقصى جهده وهو الذي لم يسبق وأن امتهن وظيفة في حياته! ثم بكل آلية قام بإجراءات توقيعه على التنبيه على الحاسوب..
أخيرا انتصب واقفا وطالع معتز المتشمت به بعينين بليدتين يبصق الكلمات المرصوصة داخله
((تبا لها من سياسة، وتبا لشركة القاني، وتبا لهؤلاء العملاء الأغبياء الذين يظنون أن الاستبيان الذي يحصلون عليه بعد أي مكالمة لهم هو تقييم للموقع الإلكتروني لا تقييم لمدى رضاهم عن الموظف الذي رد على كل الأسئلة!))
وعلى الفور استدار يضع حقيبته على كتفه بعنف ليجد معتز يهتف به بصوتٍ عالي
((لا تنسى أن تأتي غدا على الموعد حتى لا تأخذ تنبيها آخر يا قصي))
إلا أن قصي الذي كان يطحن ضروسه من شدة الغيظ قرر أنه وبكل استهتار لن يحضر غدا.. ولا بعده..
ولا الذي بعده..
سيُعطي لنفسه من تلقاء نفسه إجازة أسبوع ليسافر مع سهر إلى تلك الإجازة التي كان سيفوتها بسبب قراره الأحمق في الالتزام بالعمل هنا.. طالما العمل بجد والتزام يعطي نفس نتيجة غيابه وتسربه فلا داعي لبذل جهد لا طائل منه!
=============================
نزل مَالك خطوات الدرج الذي ينتصف الصالة يستعد للخروج مع أصدقائه للعب كرة القدم.. خرج من باب القصر ومر على حديقة منزله حيث يجلس والديه في العادة ليلقي السلام عليهما قبل مغادرته..
سار نحوهم ولحظات حتى تسرب التوجس لملامحه وهو يلاحظ بأن هناك امرأة تجلس مع والديه ومُؤيد..
اقترب أكثر منهم ليتبين له أن تلك المرأة ما هي إلا.. سمية..
اتسعت عيناه وتسمر مكانه يكاد لا يصدق بأنها هي فعلا وسرعان ما عاد الوعي له ليخطو بسرعة نحوهم.. توقف أمامهم بريبة ثم قال من بين أنفاسه اللاهثة قليلا ينبههم على وجوده
((السلام عليكم..))
انتبه كل من الحاجة زاهية والحاج يعقوب على ابنهم ونكست سمية التي جفلت على صوته وجهها أرضا..
دعاه مُؤيد ليجلس معهم وهو يشير لكرسي فارغ بينهم
((وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. تعال وانضم لنا في جلستنا يا مَالك ريثما تعد أم فهد الشاي))
بدا على زاهية الضيق لوجوده وكأنها لم تتمنى أن يعرف حتى بشأن هذا اللقاء..
قال مَالك بحذر وهو يسحب كرسيا ويجلس عليه
((بماذا تتحدثون مع سمية؟))
غزا الارتباك وجه سمية لتتشابك تلقائيا أصابع يدها بتوتر في حين قال يعقوب بوقار
((لا شيء مهم.. أحد الأشخاص قد سبق وطلب يد سمية مني لأن لا أحد من أقاربها هنا، فطلبت مني أن أمهلها وقتا للتفكير والآن طلبتها أمك لتسمع ما يجول في خاطرها بما أن الرجل يلح على تلقي الرد منها))
تخشب مَالك في جلسته لتتجمد ملامحه كسطحٍ رخامي باهت..
هل حقا ما يسمعه! والديه الاثنين يحاولان السعي في تزويجها ويسردان عليه الأمر بكل بساطة! والأنكى بأن الهانم لم ترفض بل طلبت وقتا للتفكير والسؤال عن العريس المحظوظ الذي تقدم منها! تمَالك نفسه وهو يزدرد ريقه ثم طالع سمية التي كانت رأسها تزداد انخفاضا وكأنه أمسكها متلبسة بخيانته!
ثم قال أخيرا بصوتٍ يبطنه الألم وهو يشمخ بذقنه
((والسيدة هنا ما هو ردها؟))
عقدت زاهية حاجبيها بتوجس ثم قالت بجفاء
((إنها موافقة..))
رفعت سمية وجهها الشاحب تفغر شفتيها تهم بالاعتراض فأكملت بصرامة
((لكن هناك بعض المخاوف الذي تداهمها لذلك نتحدث هنا معها حتى نبددها لها))
بدأت أصابع مُؤيد تطرق على يد الكرسي بترقب وتسلية لردة فعل أخيه!
أما سمية فتجرأت تقول بصوتها الواهن
((أنا لا اعرف ذلك الرجل الذي طلبني بشكل شخصي.. لهذا أظن بأن عليّ التريث قليلا))
طالعتها زاهية تقول بامتعاض
((ولماذا ليس عليك المضي قدما فيه؟ هل يعجبك الحال بأن تظلي هكذا؟ أنتِ تعيشين في مجتمع ذكوري فاسد الفطرة لا يؤمن بصلاح المرأة إلا وهي تحت جناح ذكر.. برأيي عليك أن تقبلي به حتى لو كان الرجل لا يعجبك، مهما كان فيه من صفات لا تروق لك تجاوزيها فهو المتاح الوحيد أمامك))
تعجب يعقوب من حال زوجته.. غضب ملامحها ونبرتها الصلبة المشحونة لم تكن في محلها..
في حين أخذ مَالك يتطلع لسمية بتدقيق مبالغ فيه أشعرها بعدم الارتياح لترد بارتباك جلل
((ولكن أنا حاليا لا أريد التركيز إلا في تربية ابني..))
ضاقت عينا زاهية وهي تقول منفعلة
((وهو لم يطلب منك التخلي عن يزيد للزواج منه!))
تطلع يعقوب بسمية يسألها بصراحة وتروي
((هل تفكرين في الزواج يوما ما يا سمية؟))
أجابت زاهية عنه بانفعال فشلت في خمده
((ولم قد لا تفكر؟ أليس من حقها كإنسانة أن تتزوج وتستقر حتى لو سبق لها الزواج قبلا؟))
شعرت سمية بكل ما حولها يطبق عليها حصارا خانقا لروحها.. فقال يعقوب بوقار ورزانة
((أنا من جهتي يا ابنتي أرى بأنه إذا جاءك ابن الحلال الذي تشعرين بأنه قد يرعاكِ ويرعى ابنك فلا تترددي أبدًا، أعطي نفسك فرصة للتعرف على الرجل الذي طلب يدك))
ضاقت عضلات جسد مَالك بل شعر بصدره ينقبض من شدة الانفعال وكفيه يتكوران بشدة.. ولم يستطع منع نفسه أن يقول بصلابة وقسوة الخضرة في عينيه تتعلقان بنظرها الهارب منه
((أبي ليس من المنطق أن تشجعاها على الزواج ولديها طفل صغير بحاجة لرعايتها!))
نظر يعقوب لابنه وابتسم ببطء ثم عقب
((لماذا؟ ما المانع من زواجها حتى لو كان عندها طفل؟ مطلقها الأول ووالد ابنها سبق وتزوجا وكل واحد منهما صنع له عائلة أخرى.. فلماذا لا تفعل هي نفس الشيء؟ أم لأنها امرأة فحقها مهضوم))
عقد مَالك حاجبيه يقول بثبات وشموخ رغم القهر الذي يتشعشع بروحه
((بل أن ابنها يزيد من حق والده لو تزوجت))
آخر جملة خرجت منه وهو يرفع إحدى حاجبيه بنبرة ذات مغزى أمام وجه سمية المتجهم الذاهل لحديثه.. وبين كبرياء رجولته وعشقه لها كانت هناك صرخة ألم يخفيها بعينيه المتحجرة بترفع..
كتف مَالك ذراعيه ثم قال مؤكدا على كلامه السابق يجيب على النظرات المستفهمة من حوله
((بديهي أن أي امرأة تتزوج تخسر حضانة ابنها لوالده.. فإذا قبلتي يا سمية الزواج حتى لو ترتب الأمر عليك خسارة ابنك الوحيد فأنتِ معدومة الأمومة))
رآها تنكمش على نفسها وأدرك أن كلامه أخافها.. لكن الغيرة في داخله وهو يسمعها تتحدث مع عائلته عن أمر ذاك الخاطب كان أشد وطأة عليه ولا يحتمل!
قال يعقوب معترضًا على كلامه
((لا يحق لك يا مَالك أن تتهم أي امرأة تفضل الزواج مرة أخرى بانعدام الأمومة.. إذا كان قد أحل الزواج لأي امرأة بعد الطلاق لأن فطرتها واحتياجاتها تستدعي ذلك فمن أنتَ لتقول هذا الكلام القاسي عنها؟))
كانت الحيرة تسكن وجه زاهية ويتعسر عليها فهم ابنها.. رغم أن كلامه الحالي يشير بأنه لا يفكر أبدًا في الزواج منها على عكس مخاوفها.. إلا أنها غمغمت تدعم كلام زوجها بغية تشجيع سمية على الزواج وإخماد نيران مخاوفها تماما
((حتى لو أعطت سمية حضانة ابنها لوالده فهذا لا ينقص من أمومتها شيء.. بالتأكيد لو كان بيدها الزواج والاحتفاظ بحضانة ابنها لما توانت عن فعله))
كان كل ما في سمية يرتجف ويثور في نفس الوقت وهي تسمع مَالك يقول صراحة عن نزع ابنها من أحضانها في حالة ما فكرت في الزواج ثانية.. بل فعليا للمرة الثالثة! فقالت بخفوت أمام عينيه الغاضبتين وقوة لا تستحضرها إلا في مواجهته هو
((أنا لن أتزوج أبدًا، وابني من المستحيل أن أتخلى عنه أو أسمح له أن يبتعد عني))
لم يختلج شيء في تقاسيم وجه مَالك بل كان باردا كقطعةٍ من جبلٍ جليدي وهو على حاله..
شعرت زاهية بالغيظ لأن سمية تراجعت، وكانت تريد التحدث إلا أن صوت رتيل التي جلبت صينية فوقها إبريق الشاي قطع حديثهم.. حيث أنها وضعت الصينية فوق الطاولة بقوة وإهمال شاعرة بالحنق وهي ترى نفسها من تقوم بالتخديم هنا.. حتى أن البستانية جالسة معهم تتجاذب الحديث في موضوع ما وهي من تقدم الشاي لها..
استدارت رتيل بهدوء ليصل لها صوت زوجها المستفز
((رتيل أحضري كأسًا لمَالك ليحتسي الشاي معنا))
تجمدت رتيل مكانها وأغمضت عينيها تتميز من الغيظ خاصة ووالدة مُؤيد تضيف على كلام ابنها
((واجلبي دلّة القهوة أيضًا لو سمحتي))
فتحت رتيل عينيها تقول بفتور
((أنا متعبة، اعتذر لك، اطلبي من غيري جلبها وجلب كأس لمَالك))
تدلى فك زاهية وعرفت رتيل أن ردها صدمهم جميعا دون أن تستدير وتراهم! لكنها لم تكن لتتراجع عما قالته أو تندم! فحتى والدة مُؤيد لا ترحمها بطلباتها..
وتطلب منها أن تعمل فوق طاقتها دون أن تهتم بكونها لا تنال أي قسط من الراحة! بل وأحيانا تتذمر وتتأفف إذا ما تأخرت بالاستجابة لطلباتها رغما عنها دون تقدير بأنها زوجة الابن الوحيدة التي تخدم في هذا القصر منذ أن طُرد العاملين فيه!
ماذا استفادت من كونها الكنة المطيعة الوحيدة هنا غير الإجهاد النفسي والجسدي؟ عليها أن تعيد حساباتها من جديد وتتغير معهم جميعا..
استدارت رتيل نحوهم بوجه صلب لتقول
((أنا متعبة وبحاجة أن أعود الآن للراحة، ومن يرد شيئا فليذهب ليجلبه بنفسه))
همس مُؤيد المصدوم
((انظري لوقاحتك وأنتِ تتحدثين أمامنا بفجاجة))
حذرته والدته تحاول تخفيف حدة الموقف
((انتظر يا مُؤيد هي لا تقصد ذلك..))
قاطعتها رتيل قائلة بثبات وتصميم
((بل أقصد كل حرف مما قلته.. فأنا من الصباح للمساء كل ما افعله هو خدمتكم جميعا، أنا متأكدة من أني حتى لو كنت أتجرع المرض أو الموت لم يكن زوجي ليكلف خاطره ويفعل معي ربع هذه الأشياء التي افعلها الآن.. لذلك لن أتجرد من إنسانيتي من اجل عيناه وسأذهب لأريح نفسي..))
اجتاحت جسد مُؤيد فورة غضب لجرأة زوجته الوقحة فانتصب واقفا من مكانه بقوة حتى أن الكرسي الذي كان جالسا عليه اهتز ووقع خلفه.. ثم هتف بصوتٍ خطير وهو يحدجها بنظراته المهددة
((هل تتمردين يا رتيل؟))
أخذ الخوف كل مأخذ منها إلا أنها نجحت بإخفاء شيء من هذا الخوف وهي تردد على نفسها بأنه لن يستطيع أن يفعل شيئا أكثر من إغراقها في جحيم عتابه وجلده وتوبيخه.. فقالت أخيرا بصوتٍ مضطرب
((هذا ما عندي يا مُؤيد، لقد تعبت، لا دخل لي إلا بتنظيف جناحي، نحن بشر من لحم ودم، وقد أمرنا الله بأن لا يكلف الفرد نفسه فوق طاقتها))
ساد صمت قاتم بينهما للحظات اشتعلت فيه حرب تراشق الأعين.. الوعد من جهته.. والتحدي من جهتها.. أما الحاج يعقوب الذي شهد الموقف هذا ذاهلا ظل ثابتا رغم حنقه بمهارة عمره قبل أن يتدخل أخيرا
((ولماذا هي من تقوم بأعمال البيت؟ أين هي نعمة ومنال وغيرهن؟))
ردت رتيل عليه على الفور بتحفز
((ابنك الآخر مَالك قام بطردهم جميعا، ومُؤيد يرفض أن يحضر غيرهن ويريد مني وحيدة أن أقوم بعملهن))
تدخل مُؤيد يقول بخشونة
((لست وحيدة فنجوم تساعدك، لكن سأطردها قريبا لتتعلمي كيف تحترمين نفسك في المرة المقبلة))
كلماته كانت نصالًا حادة يصوبها إلى صدرها مستنزفًا نفسها المرهقة وآملًا في القضاء على الجزء المتبقي من كبريائها! فهتفت والقهر يتجلى على ملامحها
((لماذا تحب أن تهينني وتقلل من شأني أمام الجميع! لماذا تحب أن تحطمني؟ ولا تتواني عن تحقيري؟))
ازدادت ملامح الصدمة على مُؤيد لما قالته فعاد ذاك الخوف يدب في قلبها لكنها حثت نفسها على عدم التراجع.. وإلا ستمضي ما تبقى من عمرها هنا على هذا المنوال.. وستبقى هنا للخدمة والعمل والبذل والعطاء الذي لا تجد مقابلا لهم إلا الجحود والنكران والانتقاد والعتاب القاسي.. والويل لها من مُؤيد وكل الويل لو فكرت أن تعترض ولو مجرد تفكير! فاستطردت معقبة لحماها تثير استعطافه بما مرت به وهي تشكوه مُؤيد غير عابئة به
((لقد رفض العودة لعمله في المدينة حتى يراقبني ويتربص بي طوال فترة وجوده هنا، أشعر بأن عملي لهذا اليوم تسبب لي بأوجاع الظهر واحتكاك في عظام ركبتي وتشنجات في عضلات الرقبة واليدين))
تقارب حاجبا مُؤيد بغضب أشد يستعر في داخله.. وهم يقترب منها حتى أنها تراجعت خطوات للخلف.. لولا أن الحاج يعقوب وقف على الفور هاتفا بابنه بصرامة
((مُؤيد توقف مكانك واحترم وجودي))
تطلع مُؤيد لوالده يقول مستنكرا وهو يشير لزوجته
((ألا تراها كيف تتحدث معي بهذا الشكل؟ لو كان متواجدا أحد غريب هنا للامني أنا على قلة أدب واحترام زوجتي تجاهنا))
قبض الحاج يعقوب على غضبه والتفت لمَالك يتساءل بهدوء قاتم
((من سمح لك أن تطرد أحد هنا؟))
ازدرد مَالك ريقه إلا أنه أجاب بصلابة
((لأنهم لا يحترمونني أبدًا.. كما أن وجودهم وعدمه واحد فقد حولوا المطبخ لمجلس نميمة بدلا من العمل))
تغضن جبين يعقوب لمَالك وتطلع بتلقائية لسمية التي كانت غارقة في توتر رهيب.. ثم تطلع لزوجته بصرامة
((من الآن يا أم مُعاذ تطلبين من جميع من كان يعمل هنا العودة لعملهم، وادفعي لهم أجر الأيام الفائتة كما لو كانوا في عملهم، وسنتحدث فيما بعد بشأن إخفاء هذا الأمر عني، لقد خيبت ظني بك! كيف جعلتِ رتيل تقوم بكل شيء وحيدة هنا؟))
ترققت ملامح رتيل لدفاع حماها عنها في حين تدخل مَالك يقول بشيء من الحدة الغير مقصودة
((أبي لقد سبق وتخلينا عن خدماتهن فلماذا تريد عودتهم!))
غمغم يعقوب بخشونة
((استهدي بالله يا مَالك))
ثم أتبع قوله بما لا يقبل النقاش
((من كانوا يعملون هنا سيعودن وإياك أن تفكر بطرد أحد مجددا))
قست عينا مَالك كشظيتين من الجليد الأخضر المؤذي.. أما وجهه فسكن دون أي تعبير..
طال الصمت بينهما إلى أن قال أخيرا
((ماذا يعني هذا يا أبي؟ أليس لي اعتبار هنا كابن للحاج يعقوب الكانز؟))
رفع يعقوب حاجبيه يقول بحكمة
((بالطبع أنتَ ابني ولك كل الاعتبار هنا.. ولكن بحدود المعقول))
أطبقت شفتا مَالك في خطٍ قاسٍ وكأن ما تناهى لمسامعه لم يكن الجواب الذي ينتظر سماعه منه.. حتى سقط قناع البرود عن وجهه وحل محله تعبير الدهشة والاستنكار وهو يقول بانفعال طفيف
((أي معقول هذا وأنت تنسف الأوامر التي أصدرتها))
قال يعقوب بصرامة وحدة دون أن يتخلى عن وقاره
((اخفض صوتك يا مَالك فأنت تتحدث مع والدك، عندما أموت يمكنك أنت وأخوتك أن تتحكموا بمسألة التوظيف هنا.. لكن طالما أنا على قيد الحياة فأنا من أقرر))
تمهل مَالك قبل أن ينظر إلى عينيه قائلا بصوت يشوبه الذنب
((فليبعد الله عنك أي شر وليحفظك لنا.. أنا سبق وقلت للجميع بأننا سنستغني عن خدماتهم هنا، إذا كنت مصرا على رأيك يا أبتي فأنا من سأغادر المكان))
وكان مَالك يهم أن يستدير مغادرًا إلا أن والده هتف باسمه بحزم يمنعه.. فتسمر مكانه بثبات..
اقترب الحاج يعقوب منه أكثر يقول بغضبٍ مفاجئ
((لا تصغر نفسك أمام من يعمل عندك.. فأنت كبير يا مَالك))
أشاح مَالك بوجهه وهو يزفر بمشاعرٍ محتدمة ثم قال في النهاية ببرودٍ دون أن يرف له جفن
((قلت ما عندي يا أبي.. إذا أصررت على عودة من قمت أنا بصرفهم فسأجد مكانا آخر لأنتقل له))
ما حدث وآخر كلام مَالك جعل قلب سمية ينسحق ببطء مؤلم ودوى صاخب.. وكم تمنت أن تتشبث به وتمنعه من هذا العناد الأحمق دون أن تعرف السبب! ربما لأنها لن تتحمل أن يكون بعيدا عن يزيد؟
كان مَالك قد بدأ يسير مبتعدا عندما هتف والده باسمه مجددا ((مَالك.. انتظر))
اقترب يعقوب منه ثم وقف أمامه دون أن تلين ملامحه أو تتجلى أي من مشاعر تفهم لما فعله.. بل ظل وجهه جامدا كقناع قاسي وهو يقول له بصوتٍ رزين
((لا تستقوى بنفسك على الضعيف ولا تكن سببا في قطع رزق أحد فيتعلق رزقك فيما تحب))
نكس مَالك بوجهه أرضا يتدبر بكلام والده فيما التفت الحاج يعقوب لابنه الأخر آمرا إياه بخشونة
((اتبعني للمجلس لنتحدث بشأنك أنتَ يا مُؤيد))
رمش مُؤيد بعينيه وارتبكت ملامحه للحظة إلا أنه عزم أمره وتبع والده وما إن تجاوز رتيل حتى رماها بنظرة نارية أخيرة محملة بالتهديد والوعيد..
.
.
أغلق مُؤيد باب المجلس خلفه وجلس قريبا من والده على كرسيه الأثير في زاوية الغرفة العطرة ببخورها الدائم.. نكس وجهه قليلا بتخبط وقبل أن يبدأ والده في الحديث قال بتسرع متهور
((أعرف يا والدي بأنك تريد لومي على وقاحة زوجتي قبل قليل في الخارج، وأنا لا أقول بأني لست مخطئ.. على العكس أنا المُلام فلو كنت رجلا صارما معها وشديدا لما تجرأت على قول ما قالته، الخطأ عليّ فأنا من دللتها حتى صارت تريد أن تكون امرأة مهملة ومقصرة في حق عائلتها وغير مقدرة للنعم من حولها، لكن صدقني ودون الحاجة لتوبيخي الآن سأحاسبها على ما قالته ولن تكرره مجددا))
استنكرت ملامح يعقوب كل ما يقوله ابنه بصمت وما إن انتهى حتى أخذ نفسا عميقا يحث نفسه على الصبر في الحديث ثم قال له بروية
((أنا جلبتك هنا للتعقيب على ما تفعله أنتَ لا زوجتك))
اعترض مؤيد ((هل تقصد يا أبي بأنك ستوبخني لأني لم أسمح لأمي أن تحضر عاملات بدلا من اللاتي طردن؟ ولكن يا أبي من البداية لماذا جلبناهم وعندنا نساء في القصر؟ لماذا نتزوج إذا كان واجبا علينا أن نحضر خدم للقصر ولإعداد وجبات طعام المزارعين؟ أبي في الماضي هل جلبت لأمي ولو خادمة واحدة تساعدها؟ نساء هذا الزمان مدللات أما أمي فكانت تقوم بتربيتنا والاعتناء بشؤون البيت في الداخل، وتحطب وتساعدك في المزرعة بلا كلل أو ملل.. حتى في فترات حملها))
نظر يعقوب بذهول غاضب لولده ليهدر
((لست عادلا يا مُؤيد بمقارنتك العشوائية هذه.. فهذا الذي نعيش فيه هو قصر لا منزل صغير كالذي امتلكته مع أمك في الماضي))
ثم بسط يديه المجعدتين أمامه يستطرد بتصميم أكبر
((في شبابي كنت ليل نهار أعمل في الزراعة وأحرث الأراضي واسحب الماء من الآبار وأخصب الثمار، في البرد، وتحت أشعة الشمس الحارقة.. كنا نعاني من شح المعيشة آنذاك وقلة المال))
كانت الدهشة مرتسمة على ملامح مُؤيد رغم أن كلام والده هذا لم يكن أول مرة يسمعه منه! هم بالتحديث لكن والده أكمل بملامح مكفهرة ((إذا كنت تقارن زوجتك بأمك.. فقارن نفسك بي.. هل حياتك مشابهة لحياتي أنا عندما كنت بسنك؟ أنتَ تملك بجانب عملك المكتبي في المدينة شقة مرفهة واسعة، تظل خلف مكتبك جالسا براحة واسترخاء وأمامك على الطاولة كوب قهوة ترتشف منه بينما تتصفح دفتر الحسابات.. هل من المنطقي أن تقضي أنتَ الرجل ذو الجسد الصلب يومك بالترف وتطلب من زوجتك أن تقوم لوحدها بعمل عدة نساء من عمل منزلي شاق ومضني في هذا القصر؟))
تفشى الضيق في وجه مُؤيد لمنطقية كلام أبيه ونكس وجهه أرضا بينما يكرر والده عليه
((أجب يا مُؤيد))
تمتم مؤيد بوهن وضعف حجة
((بالطبع لا يا أبي.. ولكن..))
((لو كنت تعمل يا مُؤيد ممرض كمُصعب أو معلم كمَالك حيث يقف كل واحد منهما في عمله طوال النهار على قدمه.. لما لمتك بشدة.. لكن أنتَ بالذات لا يحق لك الاعتراض فبعد تخرجك مباشرة أعطيتك رأس مال لتبدأ في مشروعك ووفرت لك أكثر من خبير في مجالك ليشور عليك، وعندما كسرت تجارتك في احدى المواسم دعمتك ماليا حتى استطعت في النهاية أن تثبت نفسك في السوق! صحيح يا مُؤيد؟))
ازداد المقت المتجلي على وجهه لما قاله أبيه الذي أتبع سؤاله
((ثم أنا من أدفع أجر كل موظف يعمل في المزارع والقصر يا مُؤيد.. هل سبق وطلبت منك أو أحد إخوتك أي مساعدة في دفع الأجور؟))
اتسعت عينا مُؤيد وهو يرفع رأسه ويدافع عن نفسه
((حاشا أن يكون هذا قصدي يا أبي، أساسا القصة ليست في أجور العاملين..))
قاطعه والده ببطء وروية
((أنا أفهمك يا مُؤيد وعلى كل حال حتى لو قامت زوجتك بالأعمال المنزلية فهي تقوم بها تكرما منها وليس لأنها خادمتك التي أحضرتها لها والدتك))
مسح مُؤيد وجهه بكفه زافرًا بعمق قاتم ليقول أبيه
((لا أنكر أنه على سيدات هذا المنزل الاهتمام بشؤون المنزل، ولكن كما للبيت عليها حق، فأولادك ونفسها عليها حق أيضًا فهي بحاجة إلى جسد معافى لا تهرمه أعمال البيت والمطبخ))
استوي الحاج يعقوب من مكانه فتبعه مُؤيد.. ثم فتح يعقوب الباب ليجد رتيل تستند برأسها على إطار باب مقابل له قبل أن تجفل على خروجهما.. تواصلت عينا يعقوب في عيني رتيل الواقفة بترقب قلق فطمأنها بابتسامة مراعية وغمغم بقرب أذن مُؤيد
((الآن اذهب لزوجتك واعتذر منها بوردة وأخبرها بأن كل شيء سيعود لسابق عهده.. هيا يا مُؤيد))
اشمأزت ملامح مُؤيد إلا أنه قال طائعا على مضض
((سأفعل أبي، لكن لاحقا))
ثم أشاح بوجهه ليسير بسرعة نحو الخارج وكاد أن يصطدم بمُصعب الذي كان يدخل المكان.. وقبل أن يزعق به جاءه سؤال مُصعب
((مُؤيد هل أنتَ من أخذت دراجتي النارية؟))
رفع مُؤيد إحدى حاجبيه باستعلاء ورد
((وما حاجتي لدراجتك وانا أمتلك أفضل وأحدث منها بمراحل))
ظل مُصعب متغضن الجبين وهو يردد بحيرة
((ومَالك أيضًا قال بأنه لم يأخذها، من يا ترى اقتحم أرضنا وأخذها، إنها مفقودة!))
برقت عينا مُؤيد بتوجس قبل أن يقول بريبة وشراسة
((تعال معي لنتأكد من المصف والأرض مجددا، من هذا الذي تجرأ على الدخول لأراضينا وسرقتها!))
ثم لمعت عيناه بشراسة وهو يكمل من بين أسنانه
((لقد بات الجميع يستهين بنا.. ولا ألومهم فنحن من سمحنا لأحد أبناء الهنادل التعدي على أراضينا والغدر بابن عمنا يحيى الذي لم نثأر له بل وقبلنا بالصلح دون أخذ دم محل دمه))
امتعض مُصعب من ذكر مُؤيد الموضوع بهذا الشكل المبتذل! أخيه ومن أتفه سبب يعيد ذكر سيرة الثأر والدم!
تجاهله وهو يعود للأرض يحاول أن يبحث ويسأل عن دراجته مرة أخرى ومُؤيد خلفه ينادي عليه.. أما المنزوية رتيل هناك فقد انسحب الدم من وجهها عندما عرفت بفقدان مصعب لدراجته!
وعلى الفور اندفعت رتيل لجناحها تطلب رقم غنوة وما إن جاءها الرد حتى سألتها بترقب واضطراب
((هل أنتِ من سرقتي دراجة مُصعب يا غنوة؟))
كانت غنوة تثائب قبل أن تسألها مدعية الجهل
((من هو مُصعب؟))
هدرت فيها بغيظ ونفاذ صبر
((مُصعب شقيق زوجي يا غنوة، سبق وسألتني عن مكانها ولمحتي لي بأنك ستأخذينها.. كيف فعلتيها وقمت بسرقتها!))
أقرت غنوة ببرود بالحقيقة
((دفعت لرجل أعرفه حتى يقوم بسرقتها بعد أن أخبرته بالضبط متى وأين يجدها، كانت مرمية في بيت إسمنت بسيط دون حماية أو مراقبة وسط المزرعة الكبيرة.. لا تقلقي ليس هناك أي كاميرات مراقبة أو ما شابه ذلك))
كادت رتيل أن تولول لما سمعته وهي تمسد جبينها بأصابعها بخوف من القادم قبل أن تقول بتخوف
((يا إلهي لم يكن عليّ إعلامك عن مكانها، هكذا أصبحت مشاركة في السرقة معك.. ماذا أفعل يا إلهي!))
حاولت غنوة أن تبسط لها أمر السرقة وتهدئها لكن رتيل ظلت تهمس بقهر وخوف
((لقد جعلتي مني سارقة يا غنوة.. هل يعجبك هذا؟))
اعترضت غنوة ((لست سارقة فالدراجة النارية ملك شقيق زوجك أي ملك زوجك أي ملكك أنتِ))
أطرقت رتيل رأسها تمسح جبينها بصدر مختنق تتأوه بعمق ثم تمتمت بقلة حيلة
((أنتِ تجعليني أكره نفسي هكذا بما فعلتيه))
ردت غنوة بأسلوب مستفز يميل الى سخرية مبطنة
((اعتبريها استعارة لا سرقة يا حبيبتي.. سنستمتع بها أنا وأنتِ لبعض الوقت وسأعلمك ركوبها عندما تزوريني بشقتي ثم سنعيدها له))
ازدردت رتيل ريقها وهي تتمتم بشيء من مخاوفها
((أنا متأكدة بأنه أمر الحارس أن يتيقظ بحراسة بيت الإسمنت، لن تستطيعي إرجاع الدراجة لاحقا دون أن يتم إمساك أحد فينا متلبسا))
قالت غنوة بلامبالاة وبرود
((إذن فلن نعيدها..))
ضربت رتيل راحة كفها فوق ساقها وقالت
((ولكن هكذا صار ما فعلتيه يُسمى "سرقة" لا استعارة))
تلاعبت غنوة بها وهي تزين لها فعلتها
((أوه رتيل أنتِ فعلا تعقدين الأمور! انتظري فقط أن تحضري عندي وسأعلمك قيادتها كما كنت تحلمين))
تنهدت رتيل مستسلمة لها بعجز
((تبا لك يا غنوة.. لن أسامحك على ما فعلتيه.. وأيضا..))
بترت رتيل كلماتها واتسعت عيناها بفزع ما إن شعرت بخطوات قادمة نحوها فسارعت تغلق الهاتف وتخفيه تحت الوسادة..
عادت تجلس مكانها تخفي ارتعاش جسدها اللاإرادي لتتظاهر أمام مُؤيد الذي فتح الباب متجهما بأنها لم تكن تتحدث على الهاتف..
أغلق مُؤيد الباب خلفه وأخذ الأمر منها ثوانٍ وهي تحدق في وجهه الذي يزداد تجهما حتى اتسعت عيناها بسرعة وهي تتذكر ما أنستها محادثة غنوة أنها فعلته..
لقد صرخت عليه وأحرجته قبل قليل أمام والده وباقي عائلته ولا بدّ أنه جاء الآن للانتقام منها فقد توعدها بشده..
اكتسحها الرعب لكنها تداركت نفسها وهي تقفز من مكانها تبتعد عنه مهرولة لتنجو بحياتها.. لكن استطاع مُؤيد اللحاق بها وإيقافها مكانها حينما أمسكت أنامله بشعرها الأسود المنسدل..
أغمضت عينيها بخوف وسمحت له أن يجتذبها نحوه من شعرها برفق ثم يوقفها أمامه..
تنحنح مُؤيد بخشونة قبل أن يرفع الوردة التي يمكسها بيده الحرة ويرميها بخشونة في منتصف وجهها..
والده الحاج يعقوب قال له أن يجلب وردة لها كاعتذار.. وحسب.. ثم تسربت خصلاتها الناعمة من بين أنامل يده الأخرى وهو يحرره مبتعدا بغيظ عنها لأن أمره ورغبته اليوم لم ينفذا كما هو معتاد..
فتحت رتيل عينيها اللتين كانت تشد عليهما تدريجيا ببطء بمجرد أن أحست به يبتعد عنها.. ثم رفرفت بأهدابها مستغربة وهي تنخفض لتلتقط الوردة التي رماها بها..
ترققت ملامحها بتعجب وشعرت بها بادرة لطيفة منه رغم أنه بدا متعمدا في اختيار أذبل وأقبح وردة من حوض الأزهار في حديقة القصر!
=============================
في شركة القاني..
وفي القسم والدور الذي تعمل فيه شيرين.. كانت منهمكة أمام حاسوبها في العمل.. لقد ذهبت سهر مع خطيبها ووالديها وسافروا للاستجمام ورغم إلحاح سهر عليها أن تأتي معهم إلا أنها رفضت بإصرار..
فعدا عن أن الضغط المنصب على قسمهم في هذه الأيام لا يتحمل تغيب أحد.. إلا أنه أيضًا لم يكن من المعقول أن تسافر معهم وتكون دخيلة عليها هي وخطيبها..
ألا يكفي أنهم غادروا وبقيت هي في منزلهم تتصرف فيه وكأنها صاحبته!
تنهدت شيرين في بؤس وهي تردد على نفسها المتعبة والمنهكة بأنها ستكافئها برحلة سفر في الأيام المقبلة إذا أتيح لها أخذ إجازة من العمل! سيكون السفر إلى إحدى الأماكن التي تتحملها ميزانيتها فرغم شغورها هنا في شركة القاني في منصب مرموق إلا أن راتبها لن يتحمل تكاليف أي تذكرة إلى الأماكن الذي تزورها سهر!
ابتسمت شيرين وهي تتمنى حقا من صميم قلبها أن تحظى سهر بوقت ممتع فهي تستحق ذلك فدوما كانت المبادرة للمساعدة والمعطاءة بلا حدود..
عادت شيرين للواقع وهي تنظر باتجاه الباب حيث يطرق معتز الذي يشغر منصب "قائد فريق"..
دلف معتز للداخل بوجه محتقن بالغضب فعرفت شيرين على الفور سر غضبه.. فمعتز لا يأتي إلى مكتبها إلا إذا كانت لديه شكوى ضد أحد الموظفين في فريقه..
وهذا الموظف لن يكون أحدا غير ذاك المدعو بـ "قصي سامح".. قطبت حاجبيها بتوجس ثم تساءلت عابسة
((ماذا فعل قصي سامح هذه المرة يا معتز؟))
أخذ معتز نفسا عميقا مرتجفا من شدة حنقه وغيظه تجاه قصي ثم قال من بين أسنانه المطبقة بغيظ
((لم يحضر في موعد نوبته في العمل هذا اليوم.. وعندما اتصلت به أطلب منه أن يستعجل فهناك ضغط كامن على الجميع ولن يتحمل فريقي غياب أي أحد.. أرسل صورة له أمام البحر يخبرني أنه لن يستطيع القدوم فقد أعطى لنفسه إجازة قد تمتد لأسبوعين.. هل تصدقين ذلك يا شيرين؟))
رفرفت برموشها غير قادرة على استيعاب ما تفوه به معتز! من المستحيل أن يمتلك موظف في هذه الكرة الأرضية هذا الكم الهائل من الاستهتار ليقوم بمثل هذا الأمر! حتى لو قرر أن يستقيل من الشركة فهو ملزم بإعطائهم شهر إنذار قبل أن يقدم الاستقالة!
كانت لا تزال شيرين تستوعب أنه حقا سافر وقرر أن يأخذ إجازة بلا إذن أو حتى بدون أن يعلمهم سابقا بينما يتابع معتز وهو يكاد يتميز غيظا وقهرا
((عندما طلبت منه أن يعود حالا من سفره قال مستهزئا بأنه فات الأوان ووصل فعلا إلى جزر الواق واق! لم يراعِ الوقت الحرج الذي نعيشه وأن غيابه سيحيل ضغط أكبر على باقي زملائه.. أناني جدًّا))
تمتمت شيرين بإصرار وقد انفلتت أخيرا أعصابها
((هل تعرف شيئا يا معتز؟ بدأت أشعر بأنه يتحدانا.. إنه يتعمد أن يستفزنا لأنه متأكد بأننا مراعين أكثر من أن نستطيع طرده! لذا ولأول مرة في تاريخ حياتي المهنية سأكون سببا في فصل موظف وسأرسل الآن رسالة إلكترونية للقسم المعني بمخالفاته وتغيبه الغير مبرر حتى يتم أمر فصله))
كانت شيرين قد بدأت في الكتابة على جهاز الحاسوب شكوى بحقه بينما يشجعها معتز قائلا بامتعاض
((لستِ السبب في فصله بل هو السبب في فصل نفسه بلامبالاته وإهماله وعدم إحساسه بالغير))
كانت شيرين منهمكة في كتابة كل مخالفات قصي وهي تنوي فعلا طرده بلا رحمة أو هوادة..
دائما في تعاملها مع الموظفين في شركة القاني تراعي الله فيهم وتتذكر أن كل واحد منهم يعمل تحت إمرتها خلفه عائلة يطعمها أو مريض متكفل بعلاجه أو أنه سند لأطفال صغار يرجونه بعد الله.. فلم تفكر يوما لو حتى مجرد تفكير أن ترفع شكوى ضد موظف مهما كانت فداحة خطأه.. حتى لا تزيد حياتهم قسوة فكل واحد يحظى بما فيه الكفاية بنصيبه من الحزن والفقد والإنهاك ولا ينقصه المزيد.. فهي سبق وعاشت هذه المآسي ولا يوجد أقبح من أن يعود أحد لبيته بجلباب الحزن والانكسار!
لو كان عند قصي ظرف قاهر وأخبرها لتفهمت وساعدته مهما ترتب الأمر عليها من متاعب!
لكن لا.. هو حقا مهمل بشكل فظيع ويستحق الفصل!
=============================
جلس مُصعب على مقعده خلف المقود.. وما إن مال ليفتح باب السيارة لنورين التي كانت تسير نحوه حتى ضيق عينيه ينتبه إلى وجود ظرف أبيض موضوع على المقعد بجانبه..
رفع عينيه لزجاج النافذة لينتبه بأنه عندما ركن سيارته آخر مرة في مصف سيارات العائلة لم يغلق النافذة كلها فظل هناك مجالا لأحدهم أن يمرر من خلال الفراغ المتبقي هذا الظرف..
بتوجس مد يده يمسك الظرف ويفتحه وسرعان ما ارتفع حاجبيه بريبة لمرآ النقود فانتشلها قبل أن يقرأ الرسالة الموضوعة داخلها..
في هذه الأثناء طرقت نورين بيدها فوق الزجاج بحنق لمُصعب الذي لم يفتح لها باب السيارة بعد! فجفل مُصعب على صوت طرقاتها ثم سارع يفتح مقبض الباب من الداخل لها لتستقل جالسة بجانبه وهي تقول باستغراب
((ما هذا الظرف بيدك؟))
تمتم مجيبا وهو يعدُّ النقود
((ظرف فيه مبلغ تقريبي لثمن دراجتي النارية، مع اعتذار صادق لسرقتها مني، وعدم إظهار أي نية لإرجاعها مستقبلا))
تشدقت بتهكم ممزوج بالاستغراب
((السارق يعرف الحلال والحرام، مذهل))
قال مُصعب شارد العينين بتفكير وهو يلوح بالظرف الأبيض
((السارق اللطيف الذي قام بطباعة هذه الرسالة ووضع المال في الظرف لا بد أنه يعيش في القصر كونه يمتلك صلاحية الدخول إلى مصف سيارات العائلة))
سألته ذاهلة من استنتاجه
((هل تقصد أن السارق من القصر؟))
صحح لها بتلقائية
((لا أقول السارق، بل الذي وضع الظرف هنا هو من القصر))
هز كتفيه في نهاية حديثه لتسأله نورين بتوجس
((ماذا ستفعل بهذا المال؟))
مط شفتيه ثم قال ببساطة
((سأشتري به دراجة أخرى بدل تلك التي سُرقت، لا داعي لأن يعرف أحد بشأن هذا الظرف.. سأتجاوز عن تعرضي للسرقة))
قطبت حاجبيها لا تجد مشتبها به يمكن أن تشك به في هذا القصر.. قبل أن تنتبه لابتسامة مُصعب الجذابة قائلا
((هل ترافقيني الآن لتختاري الدراجة التي سأقتنيها؟))
لمعت عينيها ببريق اللهفة وهي تقول بحماس عارم
((حقا سنشتريها الآن؟ ولكن أنا لا افهم بالدراجات))
قال وهو يشغل محرك السيارة
((ساعديني فقط في اختيار مظهرها الخارجي، وبعدها سنجرب ركوبها سويا في مزرعة البركة البعيدة))
=============================
بعد مرور ستة أشهر..
ارتدت شيرين سترتها تستعد للخروج من البيت مساء لتقوم برياضة المشي التي تدأب على ممارستها في أيام إجازتها.. اقتربت من الباب للخروج وعندما صدح رنين الجرس طالعت العين السحرية فاتسعت عيناها وهي تجد الطارق ما هو إلا.. وليد..
=============================
انتهى الفصل.

 
 

 

عرض البوم صور Hya ssin   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم قصص من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


LinkBacks (?)
LinkBack to this Thread: https://www.liilas.com/vb3/t208567.html
أرسلت بواسطة For Type التاريخ
Untitled document This thread Refback 08-03-23 02:14 PM


الساعة الآن 04:31 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية