لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > الروايات المغلقة
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الروايات المغلقة الروايات المغلقة


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-02-20, 12:01 PM   المشاركة رقم: 211
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مشرفة منتدى الحوار الجاد


البيانات
التسجيل: Apr 2008
العضوية: 70555
المشاركات: 6,384
الجنس أنثى
معدل التقييم: شبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسي
نقاط التقييم: 5004

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شبيهة القمر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

الله يطمنا عليها يااارب

 
 

 

عرض البوم صور شبيهة القمر  
قديم 09-02-20, 11:28 PM   المشاركة رقم: 212
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 



أسعد الله أوقاتكم بكل خير❤..
والله إني ما أعرف من وين ابتدي!
خجلانة منكم ومحرجة جدًا وأنا انقطاعي عنكم بيكمل الشهر بدون رسالة إعتذار أو حتى رد للي قلت برجع لهم ،

أول شي وقبل كل شي أبي اشكركم جميعًا على ردودكم، رغم عدم ردي عليكم لكن ماعمركم قصرتوا معي، و والله أنكم تستحقون أكثر من مجرد رد لكن كلي أمل أنكم تعذروني❤ تأكدوا إن كل حرف منكم يسعدني الله يسعدكم،،

ثانيًا يعلم الله إني طوال الأسابيع الماضية مستاءة من نفسي، لإهمالي أشياء كثير لكن كنت تحت تأثير ظرف منعني عن كتابة حرف واحد.. لذا العذر والسموحة منكم ان شاءالله انها آخر الغيابات، وبنرجع ننتظم مثل أول وأفضل
وأحب أقول للي خافوا إني أتركها بدون لا أكملها، الله يسامحكم على هالظن فيني :( تأكدوا ياحبايب قلبي إني مستحيل أتركها ناقصة، مهما طالت مدة الاختفاء ،، وإني بإذن الله راح انهيها بالشكل اللي يعجبكم ان شاءالله ❤

ياهلا بالجميع، وشكرا لكم جمييع ❤ حبايبي اللي ماعمرهم طلعوا بدون رد ❤ الله لا يخليني منكم ❤

وأخيرًا اترككم مع الفصل الخامس عشر أتمنى يعجبكم ويكون قد الانتظار الطويل الممل، وانتظروني يوم الجمعة المساء ان شاءالله بالفصل السادس عشر الانتحاااري
ومن اليوم لذاك الوقت أتمنى لكم ليالي سعيدة وقراءة ممتعة،
ولا تتركوني بدون تعليق والله إني أحتاج كل شي منكم

شكرا للجميع مره ثانية ،، واسفة والله على التأخير

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 09-02-20, 11:46 PM   المشاركة رقم: 213
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Oct 2018
العضوية: 330628
المشاركات: 159
الجنس أنثى
معدل التقييم: وطن نورة ،، عضو على طريق الابداعوطن نورة ،، عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 176

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
وطن نورة ،، غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي

 

.


أتمنى لكم يوم سعيد و قراءة ممتعة مقدما ❤


# الفصل الخامس عشر،،
" قَلبٌ لَا يَهدأْ "

.
.
.

# لم يكن يظن بأن طلق النار العشوائي سيخلّف هذا الكم الهائل من الخسائر..
اثنان يغرقان بدمائهما..
وبقية الأعين شاخصة،، تنظر بفزع..
الأنفاس لاهثه تتسارع، يصاحبها نحيبٌ مفزوع!!!!

.
.
.


سلّم خالد بعد ركعتين اعتاد أن يصليها قبل نومه.. وبقى جالسًا على سجادته دون أن يتحرك، على نفس وضعيته.. كفيه مبسوطان على فخذيه وبصره مثبّتٌ على موضع سجوده متأملاً نقوش السجادة الإسلامية.
تتحرك عضلات وجهه قليلاً بابتسامةٍ صغيرة، متذكرًا بها عزام الذي ودّعهم قبل ساعة، بملامح وجه مبسوطة تتضح عليها الراحة.. وهذا الشيء لم يعتد أن يراه قبلاً على وجه الرجل الصغير. فإن لم يكن بملامح باهته لا تعبير فيها، كان عبوسًا بفمٍ مشدود وعُقده صغيرة تتشكل بين حاجبيه.. واستمر على هذه الحال لفترة ليست بالقصيرة، ورغم أنه كان يلح عليه بالسؤال دائمًا عن سبب هذا الضيق، إلا أنّ عزام كان يلقي بعض الأعذار في وجهه, منها ضغوطٌ في العمل وكان يصدّقها لمعرفته بطبيعة عمل ابن أخيه والتي لم يكن راضيًا عنها، كان يتمنى أن يلتحق بأي شيء بعيد عن السلك العسكري، يكفيه والده وما حصل له. لكن عزام كان مصرًّا مصممًا على رأيه، أخذ قراره وانتهى.

وفي الآونة الأخيرة توقّع أن يكون سبب كل هذا ما حصل في عمله، وفصله منه بعد أن أودى بحياة مجرم، وركَن إلى هذا السبب وكأنه لم يصدق أن يجد شيئًا ملموسًا ليلقي قلقه على عاتقه.
كان ولازال يشعر بالمسؤولية اتجاهه، حتى بعد أن وصل الثلاثين، يزيد عليها بسنتين. وكأنه لازال الطفل الذي أتت به أمه يتيمًا، يبكي ما إن رآه مقبلاً عينيه..

لازال يذكر جيدًا السعادة التي ضربت قلبه دفعةً واحدة ما إن قالت له زوجته بأن صيتة في زيارة اليوم خطبت شعاع لابنها. خبر أدخل البهجة لقلبه فعزام إن كان سابقًا كإبنه، فهو الآن سيصبح ابنه وزوج ابنته وأب أحفاده، ولن يجد شيئًا يفوق هذه المسميات مكانةً في قلبه.. حتى أنه اتصل في نفس اللحظة ما إن اطلعته مشاعل على الخبر.. تحت اعتراضها الواهي، تقول بعدم رضا و وجه ضاحك : الولد أكيد أنه نايم الحين، شف الساعة كم!
وضع الهاتف على أذنه.. يشاركها الضحك : النايم يصحى....
ولكن الصوت الهادئ الذي وصله من الطرف الآخر بعد عدد من الرنّات أثبت أن الولد لم يكن نائمًا ، ولا حتى حاول أن ينام.. : الو.
تهلل وجهه، يشير بكفه لمشاعل بأن تصمت رغم أن المسكينة لم تفتح فمها : السلام عليكم.. مساك الله بالخير يا بن ذيب.
سمع تنهيدًا عميقًا وصل له، وصوت عزام لازال هادئًا لا حياة فيه : وعليكم السلام... هلا بك ياعمي، الله يمسيك بالنور.
خالد بمزاج رائق : اتصلت من ورى خالتك، صكت راسي تقول أكيد عزام نايم..
عزام بذات الهدوء : لا ياعم صاحي،، مابعد تجي حزّة النوم..

قالها والساعة تجاوزت الحادية عشر ليلاً، والنوم قد جافاه وفرّ هاربًا من عينيه رغم تعبه، وإرهاق جسده.. كان مكسور الخاطر، مهمومًا وحزينًا وكأن شعاع وارتباطه بها هو ماينقصه، حبّة الكرز فوق كيكة همومه الدسمة ذات الطوابق الكثيرة..
لكن خالد وقتها كان سعيدًا للحد الذي لم يسمع فيه صوت الاستنجاد المخنوق في نهاية كل كلمة ينطق بها ابن أخيه... يقول باستمتاع : مير قلته، الذيابه ماتنام..
شعر بابتسامته عندما وصله صوته يقول معلقًا : الله الله!...
ثم تابع بتوجس : سم ياعمي.
ليقول بمودة : عدوك يسِّم.. بس كانك تبي الصدق، والله إني داق وبي شرهه عليك.
صمت لثواني قبل أن يقول : عسى ماشر ؟
خالد بعتب حاني : هو أنا وأنت بيننا وساطة ياعمّك؟
عزام بدون تردد : أبد.
ليتابع خالد ونبرته تغرق باللين : دامه أبد، ليه ماجيت تطلبها مني بنفسك وأنت داري إني بعطيك بليّا شور؟ حاط أمك بيني وبينك ليه؟

أخذ نفسًا وأطلقه، يقول ولا يعلم كيف خرج صوته ساكنًا هكذا، يقول بضحكة لا معنى ولا داعي لها : حنا عيال أصول يالغالي ولازم نمشي حسب الأصول..
ثم أردف بهدوء : وبيني وبينك أمي طلبتني ولا بغيت أردها ولا أنا داري ياعمي إن ما بيني وبينك وسيط..
خالد ضاحكًا : لا أجل دام الدعوة فيها أصول مسموح.. وشرهتي ترجع علي ولا لي حق..
ثم تابع بحنو : الله يخليها لك.. ويخليك لها وتبلغ بك وبعيالك..
تمتم تحت أنفاسه مأمنًا على ماقال، تصله أنفاس عمه الهادئة وكأنه ينتظر منه شيئًا، ليقول مجبورًا لا يعني ماينطق به حقًا : شف شعاع وش تقول ياعمي، و وش ماكان قرارها أنا راضي به.. طالبك طلبَه ماتجبرها على شي هي ماتبيه وحنا أهل أول وتالي لا الرفض ولا الموافقة بتغير شي... وإن شاءالله خير.
ليهتف خالد بسعادة جعلته يخجل من نفسه : أكيد إنه خير، وشعاع موافقة.

.
.
*

مضى أسبوع ونصف منذ أن دخلت علينا صيتة برفقة عمي عبدالله، تبكي بهلع ويبكي هو معها، ولم نفهم شيئًا من بكائهم إلا أنّ هناك مصاباً جلل قد وقع..
أدركت أن ذيب هو المعني حتى وإن لم أفهم شيئًا مما كانت تصرخ به صيتة ببكاءٍ مفزوع، ولا حتى من نظرات عمي الهلعه وكأنه ينتظر تفسيرًا هو الآخر ، وعرفت أن أبي عرف ذلك أيضًا ما إن نظرت لوجهه، تبيّض شفتاه وترتعش، يخفض جسده على الأرض ببطء وأطراف ترتجف بعد أن كان واقفًا.. يهمس بجزع : وش بلاكم؟ وش فيكم ياصيتة؟؟ وش بلاك يابنتي؟
لتنهار صيتة باكية بجزع : ذيب ياعمي،، ذيب راح.. راااح.

لم أترك أحدًا إلا وسألته عن أخي، بجسدٍ منهك وعينين لم تذق طعم النوم أبدًا.. لا شيء في بالي سوى ماقاله لي ذيب في ليلة زفافه.. لا شيء يتردد على مسمعي سوى صوته الخائف لأول مره في حياته وحياتي .
كنتُ متخبطًا تائهًا، قلبي يؤلمني فقَد فقدْت ضلعًا من أضلعي.. أمي من انهيارٍ لآخر حتى أصبحت لا تبرح المستشفى أبدًا، أبي الذي دخل في صدمةِ صمتٍ وحزن، لا ينطق بشيءٍ إلا سؤالاً باسمه،، أختي سارة.... عمي عبدالله.... أهلي..... صيتة.... وأنا.

كان الحزن والهلع في قلبي يتفاقم ليلةً بعد ليلة، وكأن ذيب كان يعرف ماسيحصل له، ولم يطلعني عما حصل معه قبل سنوات إلا كي أفقد الأمل مبكرًا ولا أبحث عنه..
... وبحثت، بكل ما أوتيت من قدرة واستطاعه ومعرفة بحثت.. سألت الجميع، من يعرفه ومن لا يعرفه..
حفرت الأرض بأظافري علِّي أجده... ولكنه كان كفص الملح.... و ذاب.
حتى أني سألت أحدًا رحّب به ذيب ما إن حضر حفل زفافه، يستقبله بحفاوةٍ وكأنه قائد دولة، لدرجة أن أنظار الموجودين حولنا تركزت على عناقهم، وترحيب ذيب الحار به لفتهم.. يضع عقاله على رأس ضيفه قبل أن يقول بصوتٍ مرتفع بين سلامه : أرحب ثم أرحب يابن فلاح...
مرحباً تراحيب المطر و الحيَا ياساطي، الله يحييك بين أهلك وأخوانك...
يا هلا بك والله ومسهلا...
مرحبًا مليون ولا توفي في ذمتي..

حتى أني سألته بفضول، ما إن رأيت -العانيّة- التي مدها المدعو صاطي له، سيف مذّهب ومفتاح سيارة أوقفها خارجًا.. أهمس قريبًا من أذنه كي لا يسمعنا أحد..: ذيب منهو ذا؟
ذيب بابتسامة واسعة : ذا يا طويل العمر اللواء ساطي بن فلاح.
عدت اسأل : لواء!!!! وش ذا المعرفة اللي بينك وبينه وتخليه يتعنّي لين محلك ويطّق لك موتر جديد؟
ليقول ذيب بمودة وضحت بصوته : أخو دنيا ذا يا خالد ، محملني جميله بقعد شايلها برقبتي لآخر يوم بعمري .. هو الوحيد اللي فزع لي يوم نهشوا بلحمي الكلاب.

سألت ساطي عن ذيب بعد اختفاءه بثلاثة أيام،، أخبرته بذلك.. كما اخبرتنا صيتة بالتفصيل... لأرى الصدمة تغطي وجهه كاملاً، تغرقه تمامًا حتى أصبحت ملامحه شاحبةً بشكلٍ مرعب، بل أني أخبرته بما أخبرني به ذيب، عن سفرته تلك وما حصل فيها، متأملاً أن يعذرني ويأخذ بأسبابي إن عاد وعرف بأني لم أحفظ سره كما عاهدته.
لتحتد أنفاسه يقول بصدمة : أنت متأكد من الكلام ذا؟
لم تصدر مني أي ردة فعل، أشعر بأني سأموت في أرضي من الثقل الذي أشعر به يسحق قلبي.. أتمنى أن أصرخ بأعلى صوتي،، أصرخ قهري وقلة حيلتي وخوفي، علّ صوتي يصل له ويرشده الطريق إن كان قد أضاعه..
لكن ما حصل هو أن دمعي الذي التمعت به عيناي صرخ قلّة حيلتي وتشتتي وتوهَاني عوضًا عني، عندما قال ساطي بنبرة تغرق بالعبرة وكأن الموضوع انتهى تمامًا، بأنفاس متهدجه متسارعة : الله يصلحك ياذيب ويسامحك،، أخوك متورط ولا أعرف عنه شي يا خالد وآخر مره شفته فيها كانت ليلة عرسه.. ياما حذرته ومنعته، أنا حذرته من البداية ينتبه ولا طاعني.. ذيب هو ذيب ماتغير من يوم عرفته، عنيد و عدو نفسه وبيبقى طول عمره عنيد ويعادي نفسه .
سألت،، بضياعٍ خافت : وش يعني؟
ليقول بعد زفرة أسى، هل هذا خوفٌ في صوته؟.. : ذيب أخوي مثل ماهو أخوك ومكانه بين الضلع والروح، وكانه طلب روحي فهي ترخص له ياخالد.... لا تخاف، والله مايهنى لي النسَم إلا لا رجع بين أهله.

كان جلوسي في القسم أكثر من جلوسي في بيتي، انتظر خبرًا يفرحني بأنهم وجدوا شيئًا عنه، أي شيء.. معلومة صغيرة فقط تحيي الأمل بقلوبنا مجددًا، لكن لا جدوى. لا أخبار ولا أي معلومات.. ولا حتى من ساطي الذي وضح عليه الهَم وكأنه كان يعني كل حرفٍ قاله...
.

كان موتًا بطيئًا ذلك الذي حصل لنا، تعذيبًا حقيقيًا..
اختفاء ذيب..
فترة غيابه التي استنزفت حتى أرواحنا..
ثم خبر وفاته..
عندما قُرع باب منزلنا فجأة،، بقوةٍ في منتصف الليل.. وقتها كنت نائمًا بجانب أبي في المجلس، فلَم يمضي على خروجه من المستشفى بعد عملية القسطرة التي قام بها ما إن فتك الألم بشرايين قلبه سوى أربعة أيام.. وأمي في منزل سارة، فهي الأخرى تحتاج لعناية خاصة..
قفزت مرعوبًا، أتلفت حولي كالمجنون الذي أصابه مَس، وصوت الضرب المرتفع لازال مستمرًا..
حمدت الله الف مره أن أبي لم يستيقظ، لازال تحت تأثير الأدوية.
ركضت للخارج، قلبي يسبقني ولم أعد أشعر به من فرط الخوف، فتحت الباب على مصراعيه بعينين فزعه، وأنفاس مقطوعة، لأجد ساطي يقف أمامي، ببدلته .. يبكي!!
وقتها لم أعرف ماهو الشعور الذي شطرني نصفين؟
بردَت أطرافي، توقفت أنفاسي وضاقت عليّ شرايين قلبي.. سألته بأمل، بهمسٍ مبتور : بشّر،، لقيته؟
لكنّ وقوعُه على ركبتيه أمامي، ونحيبه الذي ارتفع دون أي اكتراث لشيب شعره أو حتى السيفين والتاج الملكي على كتفيه، جعلني أسمع الإجابة دون الحاجة لنطقها..

.

أتى عزام..
عزام بن ذيب..
ابن أخي..
ليكون الرياح القوية التي بعثرت الغمامة السوداء فوق رؤوسنا، تظلل قلوبنا، رغم أن موت أبيه كان كالوشم.. أسودٌ دائمٌ لا يزول..

.

طلبتني صيتة يومًا لمجلس عمي بعد أن اتصلت علي، وأتيت..
لأجد عزام الصغير باستقبالي، تضعه على الجلسة الأرضية تفتح مهاده، يصدر أصواتاً وهو يلاعب أصابعه، ويرفع أقدامه وكأنه يحاول أن يلمس السقف..

تبّسمت وأنا أقترب منه، أهمس وكأني أخشى من أن أفزعه : هلا هلا بالشيخ ولد الشيخ..
جلست بجانبه، أرفعه بين يدي، مقبلاً عينيه وخديه وذقنه، أشعر بالعبرة تسد حلقي ومجري تنفسي.. : هلا بالغالي ولد الغالي..... ياعين أمي وأبوي أنت..

وصلني صوت صيتة من خلف الباب المردود، وكأنها كانت هناك منذ البداية : مساك الله بالخير يا خالد.
رفعت طرف شماغي امسح عينَي، أتنحنح بحرج من أدمعي وكأنها تراني، قبل أن أقول بمودة : يمسيك بالنور يابنت عبدالله..
أتاني صوتها خافتًا مترددًا : امسحها بوجهي ياخوي جايبتك وقاطعتك من أشغالك ..
لكني قاطعتها بحزم : وأنا أبو ذيب،، افا عليك، ذا كلام ينقال لي أنا يا أم عزام؟
ثم أردَفت بقلق عندما لم أسمع ردها : آمري وأنا أخوك.. عزام يشكي من شي؟ ناقصكم شي؟
لتقول بصوتٍ مثقل : خيرك سابق يابو ذيب الله لا يهينك ويغنيك..
بس إني طلبتك أبيك بموضوع وأدري انك مستغرب إن أبوي مهوب موجود.
هززت رأسي مؤكدًا وكأنها تراني، رغم أنها لا تراني ولا أنا أرى طرفًا منها.. بيننا حائطٌ وباب مع ذلك كنت متصددًا بنظرتي عن مصدر صوتها : صحيح.. عسى ماشر.

طال صمتها، وبدأت أقلق..
احترمت سكوتها و أعطيتها وقتها وأنا الاعب يد عزام، مستمتع جدًا بقوّة قبضته الصغيرة على سبابتِي..
إلى أن وصلني صوتها مخنوقًا تقول بصعوبة : اعذرني يا خالد.. والله إني ما أدري وين أودي وجهي منك، ولا من ذيب الله يرحمه.. والله ويشهد علي الله إني من زود الهم ودي الموت ياخذني اليوم قبل بكرة...
تسارع نبض قلبي حتى شعرت به يضرب أضلعي وكأنه سيكسرها، تتهدج أنفاسي قبل أن أقاطعها، بحزمٍ رغم خوفي : وش العلم؟... تكلمي ياصيتة...
وصلني صوتها مثقلاً بعبرة واضحة : مايخفاك اللي صار في بيتنا ذيك الليلة ياخالد....
ابتلعت ريقي وكأني ابتلع علقمًا دون أن أجيب، أركز بنظرتي على عزام الذي كان ينظر لي بتأملْ وابتسامة.. لتتابع : بعد طلعتي من البيت باسبوع جمع أبوي أغراضي، وحط المهم منها بصندوق ذهبِي، ومن يومها إلى قبل أسبوع مافتحته ولا أدري عن اللي داخله شي.

صمت ثقيييل،، تخلله صوت شهقاتٍ مرتفع من خلف الباب.. لتقول تجهش باكية : والله لو إني أدري باللي فيه كان فتحته من يوم ماوصلني، بس والله إني مادريت.. والله العظيم إني مادريت ياخالد.
حاولت أن أسيطر على نبرتي فما فيها يكفيها : اذكري الله يا أم عزام، ماصار إلا المكتوب ولعل في الأمر خيره.. الكلام باللي فات ما يجي منه غير وجع القلب والندامة..
صيتة بحسرة مريرة : بتلاقي تحت مهاد عزام ورقة، رسالة...
وأدري إنها متأخرة، وراح وقتها... بس والله لو إني كنت أدري عنها كان.....
قطَعت جملتها، سكتت لثانية، ثم تابعت بغصة : ....لقيتها مع أغراض ذيب.....
رفَعت مهاد عزام الذي لازال مفروداً على الأرض بقوّة، لأجد ماقالت عنه.. ورقة، رسالة...
فتحتها وكادت أن تتمزق بين أصابعي..
أمرر بصري على جملة واحدة فقط بخطٍ جميل، كلماتها مرصوصة بجانب بعضها بشكلٍ أنيق على سطرٍ واحد..
(الجماعة ناويينك ياذيب، اطلع من الديرة قبل لا يوصلون لك، الموضوع طلع من يدي خلاص)
ثم تبدلت الكلمات المرسومة بأناقه، لحروفٍ كُتبت بخطٍ متعرج وكأنه كتبها بيدٍ ترتعش (سامحني ياخوك... ساطي)

بتاريخٍ قديم، قبل اختفائه بيوم وليلة.
.

لا أعرف ما الذي حصل، لكني وبلمح البصر كنت في مكتبه، أصرخ بقهر وغضب من قمة رأسي باسمه، أكسر كل شيءٍ أمامي عندما لم أجده، كان هذا بعد أن سألت وقال لي أحد الضباط : اللواء ساطي تقاعد من ثلاث أشهر ولا اظنه باقي موجود بالديرة.


*
.
.


زفر، غير راضي أبدًا بما تذكّر.. هل هذا كله قلق لأن عزام سافر أم ماذا؟ ابن أخيه أصبح رجلاً الآن، ليت أخاه كان موجودًا كي يشهد على ذلك..

وقف يرفع سجادته ويضعها جانبًا بعد أن سفطها، يخطو بهدوء حيث يتصل هاتفه بالشاحن، تأخذه أصابعه حيث رقم عزام متصلاً عليه،، ليجلس على طرف السرير ما إن وصله صوت عزام هادئًا عبر الهاتف كما العادة : هلا عمي.
تبسّم وكأنه يراه : ها أبوي عزام وين وصلتوا؟
عزام : تونا واصلين المطار ياعمي.. آمرني بغيت شي؟
ليجيب بمودة : أبد سلامتك،، بغيت أتطمن عليك بس..
عزام : جعلك سالم يابعد راسي، تطمن الأمور كلها تمام وقاعدين ننتظر يفتحون البوابة.
لانت نبرته فخرجت همسًا هو متأكد من أن عزام استنكره : الله الله بنفسك وأنا عمك.. وإن بغيت شي اتصل لا تتردد وتستحي.
ليضحك الآخر بخفوت: أبشر.
ابتسم على ضحكته : وانتبه على بناخيك.
عزام بود : على خشمي .
اتسعت ابتسامة خالد : بارك الله فيك.... يسلم الخشم وراعيه،
ثم أردف : مير إني ياعزام ما سألتك، وش شغله اللي بينك وبين عبدالله عشان تروحون الصين؟
عزام بهدوء : كان يبي خوي سفر وأنا كنت فاضي، يبي له كم قطعة لمنجرته.
ليقول خالد ممازحًا : أخاف جازت لك شغلته!
و وصلته نبرة عزام المستريحة بابتسامة رائقة سمعها بها : مهيب شينة ياعمّي، وش أزين من إنك قاعد ورى مكتب وتصير مدير نفسك..

أغلق منه، يجد نفسه لازال مبتسمًا يأخذ نفسًا عميقًا براحه.. ينظر لشاشة هاتفه التي أصبحت سوداء الآن بين يديه،
تعود ذاكرته قسرًا لسنواتٍ ولّت .. وكأنه الأمس عندما اتصل عليه عمه عبدالله رحمة الله عليه، يطلب منه أن يأتي لمنزله برفقة والده.
وما إن التقى الثلاثة حتى وأخبرهم بأن عزام عرَف بأن والده قد فجّر نفسه.. بعد خمسة عشر عامًا قاتلوا فيها باستماته كي لا يصل خبرٌ كهذا لعزام بأي شكلٍ من الأشكال، فهو لا يعرف والده كما يعرفونه هم، وإمكانية تصديق شيءٍ كهذا واردة..
يقومون بالمستحيل لإخفاء ذلك حتى أتى ذلك اليوم.. ومن بعدها و عزام لم يعد كما كان أبدًا، وكأنه لم يصدق ماقالوه له.. لمس فيه كذبًا جعله في حالٍ متردّي،، يبعث القلق.

عزام الآن، و في الأشهر القليلة الماضية أصبح حيًّا، يشعر بذلك من صوته، نظرة عينيه، ابتساماته التي لا تفارق وجهه إلا فيما ندر.. لا يعرف ما الذي تغير عليه، أهو العمل الجديد الذي التحق به مؤخرًا؟ أم شعاع ابنته هي السبب؟...
يتمنى ذلك..
وأيًّا كان السبب وراء تغيره هذا، هو ممتن له ويتمنى استمراره بحياته ومستعدٌ بأن يدفع روحه ثمنًا، فقط كي يبقى.
هو رجل يؤمن بأن الرفيقة المناسبة قادرة على تبديل الأيام حالكة السوداء، والتي من شدة سوادها وثقلها تظن بأنها لن تعبر، لأيامٍ مشمسةٍ مشرقة، بعد مشيئة الله..
وشعاع قبل أن ترتبط بعزام أعطاها سلسلةً من الوصايا إلى أن رأى تجمّع الدموع في عينيها.. واضطر بأن يصمت كي لا يفزعها وهو يوصيها على ابن أخيه وكأنه يخشى عليه منها.

لا يعلم كم مرّ عليه سارحًا بسواد شاشة هاتفه ، إلى أن القى به جانبًا وخرج من غرفة نومه عندما تأخرت مشاعل، فهي ما إن كبّر يصلي، خرجت..

جلس على إحدى أرائك الصالة العلوية، يأخذ جهاز التحكم يقلّب في القنوات حتى توقف عند أحدها كانت تعرض قراءة سورة البقرة بصوت الشيخ بندر بليله، ثم يخفض الصوت قليلاً لتغشى الصالة ذات الأنوار الخافته السكينة..

واستمر على هذه الحال صامتًا يشعر بالسكينة إلى أن وصله صوتها من خلفه، تسأل باستنكار : خالد؟
أدار رأسه ليجدها تنظر له بحاجبين معقودين، تتقدم في خطاها تقترب منه،، يتابعها بعينيه حتى جلست بجانبة : توقعتك نمت!! وش تسوي قاعد هنا؟
ابتسم، يتأمل شكلها المهمل ابتداءً من شعرها المجموع للخلف بطريقة فوضوية، لوجهها المحبب لقلبه، ثم لقميصها المنزلي الموّرد.. تتسع ابتسامته عندما تبدلت نظرة التساؤل في عينيها لنظرةِ توجسٍ وكأنها تشك بقدراته العقلية.

من كان يتوقع بأن ينتهي به المطاف زوجًا لها، وهو الذي ضحك كثيرًا باستنكار عندما أقترح عليه ذيب أن يتزوجها قبل أكثر من أثنى وثلاثون عامًا؟
"هو ومشاعل؟!!!" ضربٌ من ضروب الجنون. شيءٌ لا يمكن أن يحدث حتى في الخيال..
ولكن قدَره قد كُتب بتدبير حكيمٍ كريم، قبل حتى أن يأتي.. ليجد نفسه يوافق ما إن قال له والده بأنه سيخطبها له، يوافق بكل خضوع دون حتى أن يفكّر.. فوقتها كان منهكًا جدًا لا طاقة لديه كي يجادل، يائسًا جدًا، ساخطًا على نفسه جدًا.. جدًا..
محرجٌ من ربّه. والديه، أهله، وقبيلته كاملة بعد أن فاح بينهم خبر إدمانه الذي كان مخفيًا عن الجميع لفترة، لا أحد يعلم به سوى مجموعة تعرّف عليها في أحد الأحياء المتهالكة، في أحد منازل الطابق الواحد، كانت وكر الخطيئة والنسيان الذي يلجأ له في كل مرّةٍ يشعر بها بأن ألم قلبه سيقتله.. هروبٌ من الواقع بشكلٍ جبانٍ ورخيص..

انتشر بين الجميع خبر دخوله مستشفى لعلاج الإدمان، ليتأكد الجميع وقتها من سواد وجهه.. العار الذي جعل والده يتجنب مجالس الرجال لفترة.. و والدته التي لازالت تبكي ذيب، تبكيه حيًّا معه، ومشاعل لن تكون أسوأ من هذا الذي حصل كله.

لكن الذي لم يتوقعه خالد، أن تمتلك صاحبة الوجه البشوش والملامح الودودة، كل هذا القدر من القوّة لقلِب حياته رأساً على عقب، رغمًا عنه، تبدّل أحواله، تنبت وردًا من أملٍ بين أضلعه.. صبرت عليه حتى جعلت من حياته حياة. كالشمس التي بددت غمامةً غممت قلبه حتى أماتته بالسواد.

مشاعل كانت الرفيقة التي رحم الله بها ضعفه، وضعها في طريقة حين ظن أن نهايته حانت، إما جنة عدن أو نارًا تلظّى... كان غارقًا في قاعٍ مظلم إلى أن مدّت يدها له، تحملت الكثير ويعلم أن امرأةً أخرى غيرها سترفض شخصًا ذا سوابق مثله، فكيف بها تبقى معه وتسانده وتؤمن بصلاحه حتى عندما كان قاب قوسين أو أدنى من أن يعود لما كان عليه سابقًا بعد علاجه منه؟
.

لم يستطع أن يمنع ضحكةً صغيرةً فرت من بين شفتيه وهو يراها تمرر كفيها فوق رأسها بحرجٍ واضح، علّها تجمع بعض الشعرات الغاضبة والمتطايرة في كل مكان وتسيطر عليها، ليقول معلقًا : شيباتك طلعت.
زفرت بتهكم : البركة بعيالك شيبوا بي قبل حلّي.
ضحك باعتراضٍ على ماقالت، يقول ساخرًا : عيالي ملائكة الله في أرضه لا تتبلينهم.
لوت فمها بامتعاض : بسم الله عليهم.
ثم أردفت بتذمر : توني ماصار لي وقت من صبغته على عرس الجادل.. ذبحني ذا الشيب.
اتسعت ابتسامته بمودة، يقول : هيبة و وقار.. مير طالع زين عليك ومحليك..
رمقته مشاعل بطرف عينها وكأن ماقال لم يعجبها : الله يجملنا من عنده، أنا بس أنتظر عرس فهد عشان أصبغه وأعفيك من ذا المنظر وتعفيني أنت من الملاحظات اللي مالها داعي.
خالد وملامحة لانت أضعافًا بما ذَكرت : الله يبلغنا عرس فهد على خير.
ثم أردف يسأل بمودة : وين كنتي؟ تأخرتي؟
زفرت : كنت عند هزاع، همزتَه ماطاع ينام من وجع رجلينه.
عقد حاجبيه بقلق : وش بلاه يشكي من رجلينه اليومين ذي؟
لتقول بتهكم وانفعال : من اللعب بالحواري، كل ماسألته وينك يقول العب كورة بالحارة..
خالد بذات القلق : أخاف الولد فيه شي.
لكن مشاعل كعادتها قالت دون أن تدع له مجالاً بأن يبحر بوساوسه أكثر : مابه إلا العافية لا تخاف وينشغل بالك، قد وديته الدكتور وأعطاه علاج، نقص فيتامين د بس ولدك مهمل ولا ينتظم.
أخذ خالد نفسًا يقول بهدوء : الله يصلحه.

عم الصمت بعد دعوته هذه، لا صوت سوى المنخفض القادم من التلفاز، تجد مشاعل نفسها تنظر لجانب وجهه بتفكير وتوجس ..
فسألت : ماودك تنام؟ تأخر الوقت وبكرة وراك دوام!!
ليجيبها سارحًا : شوي بس.
عقدت حاجبيها بقلق : وش تهوجس به؟
التقت عينيه بها، يقول بضيق : طرى علي ذيب وضاق صدري.
صمتت قليلاً لا تعرف بماذا تجيب، مضى وقت طويل جدًا منذ آخر مره استعمل فيها خالد هذه النبرة المتعبة يشكي همًا بسبب شقيقه : أذكر الله.
خالد بعد نفسٍ عميقٍ أخذه، ثم أطلقه قائلاً : لا إله إلا الله، مدري وش اللي جاني أعوذ بالله.
فقالت بحنوٍ وعطف تربت على يده : الله يشرح صدرك، ماطرى على بالك إلا لأنه يبي منك تذكره بدعوة ولا صدقة.
سكت قليلاً قبل أن يقول بإرهاقٍ واضح : انشغلت الأسبوع ذا ولا فضيت أطلّع شي باسمه.
وبينما عم صمتٌ مطبق بعد قوله هذا، استغل ضميره لحظة الضيق هذه لينق عليه مجددًا.. ينتهز الفرصة وكأنه لم يصدق.

لا يعلم كم مضى عليهم في وضعهم هذا، صمتٌ ولا شيء سوى صوت بليله يرتل.. إلى أن شعر بثقل جسدها بجانبه، يخرجه ذلك من سرحانه ليجد رأسها يتمايل بنعاسٍ واضح، ضحك ونادى بهدوء : شعوله.
فتحت عينيها، ترفع رأسها عندما كاد يقع للخلف.. تقول ضاحكة بخدر : يوه شعوله شخباري! آخر مره سمعتها كانت قبل لا تجي الجادل..
ابتسم، غامزًا بمرح عل وعسى تنفرج أساريره : تذكرين يوم أناديك ميشو وسمعني أبوي وسفّل بي؟

ضحكت من أعماق قلبها، تتذكر ذلك اليوم عندما دخل خالد المنزل دون أن ينتبه لجلوس والده بعيدًا في الطرف الآخر منها، يناديها كما بدأ يفعل مؤخرًا "ميشو"،
ليصيح الآخر من الصالة الأخرى "مشى بطنك يالسربوت، وش ذا الاسم العِيف اللي تنادي به بنت عمك؟"..

وجد نفسه يضحك معها ما إن أخرجت صوتًا كالشخير، ترتفع بعدها ضحكتها وكأن يدًا تدغدغها ، يغرق بصوت قهقهتها المرتفعة...... وانبهجت أساريره,, ببساطة.
لم يدركا بأن أصواتهم كانت مرتفعة حتى وصلهم الصوت الناقد من العدم : ماشاءالله الشباب صاحيين!

أدارا رأسهما حيث صاحب الصوت يقف مستندًا بكوعه على درابزين الدرج، يرفع حاجبًا بابتسامة متأنقًا بثوبٍ أسود، يتابع متهكمًا : ترى مازوجتوا إلا الجادل، أنا وهزاع للحين معكم بالبيت!!
نظرت مشاعل لساعة يدها، تتصنع الصرامة رغم الضحكة التي لازالت بصوتها : ماشاءالله الشيخ ذيب توك تجي؟ الساعة قريب ١٢!!
ذيب : صار لي نص ساعة تحت جايب عشاي معي وقاعد آكل في أمان الله إلى أن روعني صوتكم وطلعت أشوف وش السالفة! عسى تالي ذا الضحك خير.. ضحكوني معكم راجع وحيد لا أنيس و ولا ونيس.
تبسم خالد وهو يرى اقترابه حتى جلس على الأريكة الأخرى : زوجيه يامشاعل.
ذيب بإندفاع : تم..
ضحكت مشاعل باستنكار : تبي تعرس؟
ذيب : ما أقول لأ، الأرواح تبي الأرواح يمه.
رفعت مشاعل حاجبها باستمتاع فهي تهوى طاري العرس : أنت عاقل ماعليك خوف ولو إن توك عشرين سنة وصغير بس تقدر تفتح بيت وتمشّي أمورك..
ثم أردفت بتفكير : وين القى لك وحده تناسبك ولا تكون قاصر!؟

.
.

" انتبه عليه، ترى ذي أول رحلة دولية له "
كان هذا مانطق به عبدالإله مبتسمًا، ينظر لعبدالله الواقف أمامه، يمسك بذراع عزام التي سحبها الآخر من بين أصابعه، يقول ضاحكًا بهدوء : سلامات!!؟ من يقول أول رحلة؟

ليقول عبدالإله ممازحًا، لازال ينظر لعبدالله وملامح وجهه الساكنة : الله وكيلك هي مره بس اللي طلع فيها جورجيا مع المُدام ومن بعدها جوازه اندفن بالغبار.. الله الله فيه لا أوصيك،، تراه سْبيْكَه..
عزام وقد ارتفع حاجبه، يقول بتهكم : كاني سبيْكَة ماجبته من بعيد، الولد على خاله.

تحركت عضلات وجه عبدالله أخيرًا، بعد أن شك بأنها تيبست وفقد السيطرةَ عليها.. " من يقول قامط؟.. بطنه توجعه شكله دخله برد.."،،، يبتسم، ابتسامه صغيرة لم تصل لعينيه عندما تطايرت عيني عبدالإله بامتعاض ردًّا على قول ابن أخته..
ليقول معلقًا بضيقٍ واضح : لا ماعليك ازهله، عزام كبير وبيقعد عاقل.

ارتفع حاجبي عبدالإله بضحكة استنكارٍ من نبرته المكتومه.. وأبعد عزام عينيه بتأنيب ضميرٍ ينق عليه، عن عبدالله الذي دس يديه في جيب جاكيته، ينظر حوله وكأن لا شيء مما يحصل يعجبه، أو كأنه يبحث عن طريقة للفرار من هذا كله.. مع ذلك قال واضعًا يديه على مقبض عربة حقائبهم، مبتسمًا لعبدالإله : المهم... لا أوصيك على أمي.. وإن شاءالله منيب مبطي.
استوت ملامح عبدالإله بشكلٍ سريع، لينطق بتهكم : آ يالتعبان،، توصيني على أختي؟؟.. ماتستحي على وجهك أنت؟!! أقول....
ثم تابع يدفعه من كتفه : توكل على الله لا تصير رحلتك للطوارئ الحين.
ضحك، يقترب برأسه قليلاً مميلاً بجذعه للأمام يسلم عليه خدًا بخد، لازال يضع يديه على مقبض عربة الحقائب، مع ذلك حصل على بعض التربيتات الحانية على كتفه من عبدالإله.. يقول بينها : انتبه على نفسك. ولا تشيل هم شي أنا هنا مغطي المنطقة، ومسيطر على الحريم ومهجّدهن.

تبسّم له، يرى ابتعاده عنه ليسلم مودعًا عبدالله ، لكن سرعان ما انتقلت عينيه بعدها لهاتفه، منشغلاً به بعد أن أخرجه من جيب بنطاله بعد أن اهتز معلنًا عن وصول رسالة (مكانك بيّن من الحين حبيبي عزام، استودعناك الله.. تكفى لا تبطي علينا) وبجانبها قلب برتقالي اللون لاحظ أنها لا تستعمل غيره في جميع رسائلها ، جعل حدود شفتيه الرفيعتين يشتدان بابتسامة مغلقة وهو يرى اسمها أعلى الشاشة "شعاع", ولم يتأمل حروفه وطريقة رسمه قبلاً كما فعل هذه المره، ليدرك ولأول مرةٍ بأنها نالت نصيبًا من اسمها..
أخذ نفسًا كان باردًا على رئتيه، ينوي الرد على رسالتها بقلبٍ مماثل لكن صوت عبدالله سبقه : مشينا ياعزام، لا نتأخر .
ليعيد هاتفه مكانه دون أي رد.

وقف عبدالإله أمام بوابة المطار، يرى ابتعادهم حتى اختفوا من أمامه. يشعر بانشراحٍ في صدره لأن عزام بدأ يخرج من قوقعته التي بناها حول نفسه، خروج استغرق سنواتٍ كي يتم، حتى وإن كان موضوع سفره هذا مع عبدالله لم يقنعه. المهم أنه أنطلق وبدأ يعيش كما ينبغي، شابًّا يحيى الحياة كما ينبغي، ليس كهلاً في السبعين قد عاش من الدنيا ما يجعله يزهد بالباقي منها..
بداية تعتبر متأخرة لرجل في عمره الثاني والثلاثين.
.


كان جوار جالساً على أحد كراسي صالة المغادرين.. لا أحد عن يمينه, ولا أحد عن شماله..
متكتفًا يضع قدمًا على الأخرى، بارد شارد الذهن, بأكتافٍ مشدودة، من يراه من بعيد يظن أنه مستمتع بملامح مسترخيه وحاجب يرتفع عن الآخر وكأن مايسرح به في هذه اللحظة يعجبه.. لكن الحقيقة ورغم كل هذا البرود الظاهري، أنفاسه اللاهثه قادره على إحراق بلدٍ كامل من حرارتها، تأججت النيران داخله، تغذي حقده، تُأجج معها غضبه، وشعوره بالألم.
يبحث في دهاليز عقله المظلمة عن أبشع الطرق وأكثرها إيلامًا كي يبكيها دمًا على مافعلت به ما إن يضع يده عليها، سيريها العذاب ألوانًا إلى أن تقع عند قدميه تتوسل العفو والسماح، و بعيدٌ عنها أن تناله، وقتها نجوم السماء ستكون أقرب لها منه.

لن يدع ما فعلته به يمر مرور الكرام، يكفي استغفالها له وهو الذي سلّمها نفسه بكل رضا ومودة.. ستندم, والله على ما يقول شهيد..

تقلبت ملامح وجه عبدالله بامتعاض وهو يرى جوّار يجلس وحيدًا بملامح وجه لا تدل إلا عن شخص متغطرس لا يرى أحداً أمامه : قِطع، شف خويك.
عزام بنبرة باردة : خَوى جنبك.
ثم أردف عابسًا متمللاً من هذا الموضوع عندما نظر له الآخر : خلاص يالبعير، خلاص.... ماخلصنا من سالفة الدّق بالكلام ذي؟

لم يجبه، وكاد أن يتقدمه لولا يد عزام التي التفت حول عضده، يقول بزفره شادًّا عليه : لآخر مره أعيدها بوجهك يا عبدالله.. كانت لي أسبابي يوم أخفيت عنك معرفتي به. وأنت تعرفني زين والله ما أخفيت وأنا ناوي بك شر.
ثم استوت ملامح وجهه بجديه قبل أن يتابع : وبعدين تعال، إن كنت تبينا نتحاسب ، بنتحاسب.. لا تنسى إنك أنت بعد أخفيت عني معرفتك بموضوع زوجته وهو موضوع ماينسكت عنه، مع ذلك ماجيت أعاتبك والومك مثل ما أنت قاعد تسوي بي الحين.

زفر عبدالله، ينظر لوجهه لثواني قبل أن يقول : أبي السالفة ذي تخلص ياعزام باللي هي به. وبعدها الوجه من الوجه أبيض، علمه لا عاد أشوف وجهه في حياتي أبد.
ابتسم بمكر، يشير برأسه للأمام : علمَه أنت، شوفه قاعد ينتظرك، وعينه عليك..
تكرمشت ملامح وجهه باستياء وهو يسحب يده من قبضته. يعيد دس كفيه بجيب جاكيته يقول ممتعضًا : بيضّت عينه قل آمين..

تقدم عبدالله بخطاه خلف عزام الذي أطلق ضحكة صغيرة تعليقًا على قوله، يتبعه إلى أن وصل لمكان جلوس جوار الذي انتبه لوقوفهم الطويل بعيدًا عنه، يركّز بنظرته المتطفله عليهم بعد أن رأى عزام يمسك بالآخر،، هل كان ينوي أن ينقّض عليه ويضربه وعزام يمنعه ويهدئ من إنفعاله أم ماذا؟
ابتسم ابتسامة بالكاد تُرى عندما بدأت المسافة بينه وبينهم تقصر، أصبحوا على مقربة منه، والآن وصلوا له.

أبعد عينيه عنهم ما إن تفرّقا أمامه، ينظر لساعة معصمه بتجاهل وهو يشعر بعزام الذي جلس بجانبه، بينما عبدالله جلس بعيدًا يفصل بينه وبينهم ثلاثة مقاعد.. بصمتٍ،، بعد أن ألقى عزام سلامًا بالكاد سمِعه، ليجيب بنفس نبرته المنخفضة وكأنهم يخشون إزعاج الموجودين.
واستمر الحال هكذا لفترة ليست قصيرة، ليجد جوار نفسه مستمتعًا بقرب عزام، وسكونه.
فهدوؤه هذا يبعث نوعًا من السكينة للنفس، وقربه ليس منفرًا أبداً.
رن هاتف عزام يقطع الصمت، فأرخى جوار من شد كتفيه، يجد نفسه يستمعُ لحديث عزام مع الطرف الآخر، بودٍ تجلى على نبرته. وأعطى نفسه حق التسمّع دون خجل.. فعزام لم يبدي أي تصرفٍّ يدل على خصوصية المكالمة, فقد كان يضحك ويتحدث بنبرة شبه مرتفعة وكأنه في صالة منزله.

بل أنه من فرط الأريحية التي كان يشعر بها في تلك اللحظة، سأل ولا يعرف كيف خرج السؤال ما إن أنهى عزام اتصاله : كاذب على أهلك ؟

كان عزام يبتسم بعد مكالمة عمه القصيرة، أضحكته لا يعرف لماذا! عمه اليوم غريب، غرابةً مضحكة وعسى أن تكون خيرًا.

نوى أن يعيد هاتفه لجيب بنطاله، لكنه توقف قبل أن يرفع يده، ينظر لجوار الجالس بجانبه بعد سؤاله، ليقول بعد تعليقه : مهوب كذب، تورية.
ضحك : تورية!! واري مثل ماتبي بس عاد فيه مواضيع ماينفع تخفيها.. لو مت وأنت هناك ودروا إنك كذبت عليهم بيطلع شكلك بايخ! ساعتها بيقولون الله يرحمه كان كذاب.
عزام بهدوء وابتسامة طفيفة : عندي من يغطي علي،، لا تخاف.
جوار بعد ثانية صمت ونظرة خاطفة باتجاه عبدالله اللاهي بهاتفه : ولد عمتك سامع عني شي؟ وش فيه مبعد كذا؟
ضحك بخفوت : الصدق إنه مهوب طايقك.
ابتسم جوار ولم يستطع أن يمنع نفسه من أن يضحك ضحكةً قصيرةً خافتة هو الآخر، يقول بعدها ساخرًا : عسى ماشر؟ أكيد أنت اللي مخرّب سمعتي عنده، لازم مانرجع من الرحلة ذي إلا وحنا حبايب.
ارتفعت ضحكة عزام ، ليلتفت عبدالله برأسه ينظر له مضوِّقًا عينيه باتهام، وكأنه كان صديقة الوحيد واستغنى عنه عندما وجد صديقًا آخر، ليته يسمع هذا الحوار لكان انجلط بالراحة : شد حيلك، تراه حبيب ومتسامح.
.
.

كانت صيتة تقف أمام مرآتها، تضع مستحضرات العناية الليلية الخاصة بوجهها، وحول عينيها, يقال أنها تحارب الشيخوخة وتشد البشرة وتقلل من التجاعيد هذا غير النضارة.
قبل أن يصلها صوت قرع الباب الخافت، ثم به يفتح بهدوء ورأس شعاع المبتسمة هو الظاهر لها : مانمتي للحين خالتي؟
استدارت بجسدها لتواجهها، تطبطب برؤوس أصابعها تحت عينيها : لا والله يابنتي، شوفة عينك قاعدة أسعى للجمال وأبحث عنه لآخر لحظة.
ضحكت بمودة، تغلق الباب خلفها : ياقلبي مايحتاج سعي وبحث، الجمال موجود وأساسه ثابت لايزول.
تبسمّت لها دون أن تجيبها، تتابعها بعينيها تمشي باتجاه سريرها، ترتدي قميصًا ثقيلاً أبيض اللون بأزهار صغيرة تتوزع عليه، طويل الأكمام ويصل لمنتصف ساقها مما جعلها تستعين بجوربين من الصوف الأحمر القاني لتقي أقدامها من البرد، تجدّل شعرها بتراخي ودون اكتراث بالمليون خصلة التي انسلت من جديلتها.. اتسعت ابتسامة صيتة ومظهر شعاع الفوضوي لم يزدها إلا لطفًا، تبدو كقطعة حلوى, كحَبة مارشميلو.. توّد احتضانها من شدّة اللطف.
تسحب أقدامها سحبًا على الأرض الرخامية مستعينةً بجوربيها، ثم ترفع غطاء السرير وتندس تحته بصمت وهدوء.

عادت تنظر للمرآة دون أن تعلق، لازالت مبتسمة تشعر بالدفئ يغمرها رغم لسعة البرودة مساءَ هذه الليلة.. تنتهي مما كانت تقوم به قبل أن تغلق جميع الأنوار إلا نوراً واحدًا قريبًا عند رأسها بإضاءة خافته.. ثم تأخذ مكانها بجانب شعاع وتسأل بهدوء : عبادي رجع؟
شعاع بذات الهدوء : توه من شوي، مرني الغرفة أخذ ميمي وراح ينام.
صيتة : تلاقينها نايمة الضعيفة وصحّاها..
ابتسمت : في سابع نومة الله وكيلك.. قلت له خلها عندي بس ماطاعني،
ثم أردفت تضحك بخفوت : العيّار يقول ما يقدر ينام وهي مهيب جنبه.. ماينام إلا على ريحتها.
قالتها تقلد تسبيلهُ لعينيه عندما قالها لها ممازحًا مرققًا نبرته، يلملم جسد مريم المتراخي بين يديه.. مما جعل صيتة تتبسم بمودة ولين.. من يصدق أن عبدالإله الصغير أب لطفلة كالقمر المنير على مشارف السادسة من عمرها، تذكره جيدًا عندما كان في العاشرة من عمره يمشي متشبثًا بيد عزام كي يعبر الطريق معه، أو يساعده في حمل حقيبة كتُبه الثقيلة، أو نفخ عجلات دراجته وتركيب سلّه في مقدمتها : الله يعوضه خير ويسعده..
ثم تابعت بتردد : بالله ماقد جاب لك طاري العرس من قبل؟
شعاع وقد رفعت كلا حاجبيها بنفي : تؤ،، أبد، واضح إن الرجال قرر يترهبن.. عاف العرس والحريم مره وحده.
لتقول بعبوس : فال الله ولا فالك. مافيه رجّال يعاف الحريم، كله كلام فاضي... لا شافوا زول مرَه رفرَفت قلوبهم.
ضحكت : ممكن..
ثم أردفت تضوّق عينيها باتهام : وش ناوية عليه ياسِيتة!! نبرتك تجيب الريبه..
ابتسمت صيتة بهدوء : أبيه ياخذ لولو بنت عمتي ، وش رايك؟
قفزت واعتدلت جالسة كقطة باغتتها خطوات أحدهم في الظلام، تتسع عينيها بذهول : أمااا عاد لولو!!!
صيتة بقلق : ايه لولو.. وش المشكلة؟
شعاع ضاحكة : مافيه مشكلة، تهبل وأموت فيها ولا هي بحاجة لشهادتي... بس ماتناسبه ولا يناسبها، عبادي خرشَه وخبل و لولو هادية وتكانه بيطيّر عقلها من أول أسبوع.
أطلقت نفسًا لم تدرك بأنها كانت تحبسه : اشوى ياشيخة خرعتيني.. إذا كذا هيّن.. بتتعود عليه ويتعود عليها ونقول إن شاءالله وعلى الله تعقلَه. ذا عز الطلب عشان تتوازن حياتهم.. ولّا يعني لأنه خبل أخذ له خبله تطيّر اللي بقى من عقله!!.
التمعت عيني شعاع بحماس، لولوة وعبدالإله ثنائي لم يخطر على بالها أبدًا : ممكن برضه.... طيب قلتي له؟ وافق؟ وش قال عن لولو؟ وش رايه فيها؟... مقتنع؟؟
لوت فمها بامتعاض : على هونك، متعنفق ولد عبدالله مايبي يعرس.. يقول أبي اعيش عزوبيتي وأفلها. للحين براسه حَب ما انطحن وهو مابقى له شي ويدخل الأربعين..
ضحكت : عز الله،، ذا بيجلط لولو من أول ليلة..
صيتة : ولا علي منه، بياخذها ورجله فوق راسه..
شعاع بابتسامة مستنكره، تقول بهدوء : خالتي الله يصلحك وش اللي رجله فوق راسه؟ غصب هو؟؟ عبادي مهوب بنت عشان ينجبر. إن قال لأ معناها لأ، وصادق يوم قال مايبي العرس.. لا تنظلم لولوة معه يكفيها زواجها الأول.
سكتت صيتة لثواني قبل أن تقول : الوقت ذا حتى البنت ماتنجبر على شي ماتبيه.. لا تخافين محد بيجبره.. بياخذها باقتناع ورضا نفس إن شاءالله .
قالتها ورفعت هاتفها تنظر للوقت، الثانية عشر و النصف مساءً، قبل أن تضبط المنبه لصلاة الفجر : تلاقينهم أقلعوا الحين، استودعتهم الله حبايبي..

عادت شعاع تتمدد مكانها بعد ثانية صمت تمتمت خلالها "آمين". : بنام عندك اليوم، أخاف أنام لحالي بصراحة.
ضحكت وهي تتمدد على ظهرها بعد أن سحبت مشبك شعرها ليتحرر ويتناثر واقعاً من علوٍّ كالشلال، وشعاع تتابع التماع خِصاله التي لامست أكتافها برقّه قبل أن تجمعه على كتفٍ واحد كي لا يضايقها بعد وضع رأسها على الوسادة، تحرك رأسها لليسار قليلاً حيث تقابلها الأخرى : تخافين ولا ماقدرتي تنامين وعزام مهوب جنبك؟
شاركتها بضحكة خافته تقول بخجل واضح : الكذب خيبه الغرفة ماتندخل وهو مهوب فيها، ماعليه... تحمليني إلى أن يرجع، الله يحفظه.. إن شاءالله مايطول بالغيبة.

نظرت صيتة للسقف، تفتقده ولم يمضي على غيابه سوى ساعات قليلة.. تقول بسكينة وهي تشعر بثقل الليلة عليها لعدم وجوده معها في نفس المكان : بيخلص شغلته ويجي. أنا ما أدري وش ذا الشغل اللي طلع بينه وبين عبدالله فجأه!
وصلتها نبرة شعاع تقول بزعل واضح : ليته أخذني معه، باقي من إجازتي كثير.
صيتة بمودة وتبرير : لو كان رايح لحاله كان أخذك، بس معه عبدالله.
لتقول شعاع بذات النبرة : وعبدالله بياكلني يعني؟ والله إنه مثل أخوي ولا استحي منه ربيت أنا وياه تحت سقف واحد.

لم تجد صيتة مفراً من أن تضحك، تعاود النظر لشعاع لتجد شفتيها تمتد أشبارًا أمامها : مابه وناسة بالصين يابنتي لا مناظر تفتح النفس ولا شعب يتعاشر، ديرة ما تصلح إلا للشغل . بيعوضك بسفرة ثانية تليق فيك إن شاءالله.
شعاع بتبرم : أتمنى، ويفضّل يستعجل فيها لأني بديت آخذ الموضوع بشكل شخصي.
رغم أنها قالتها وابتسمت بعدها ابتسامةً مشاكسة، إلا أنّ صيتة شعرت بجديةِ ماتفوهت به.. وأنها تعني كل حرفٍ فيه، فعزام لم يسافر بها مطلقًا سوى لشهر العسل، وكان مُكرهًا مجبورًا فهي من حلفت عليه أن يسافر بعروسه.
وإن استرجعت صيتة تلك الفترة من حياتها، تشعر بأنها مجرد امرأة أنانية، لا تستحق أن تكون أمًّا رغم أنها لم تقم بما قامت به إلا لأجل ابنها.....
تتلوى بالأسى وتأنيب الضمير على الحال الذي أجبرت شعاع على عيشه مع ابنها كي تنقذه مما كان فيه، دون أن تكترث بأي شيءٍ آخر، لا شعاع ولا غيرها.. كان الأهم عندها أن يستفيق عزام ويرى الدنيا حوله مجددًا.. تقحم امرأة أخرى في حياته رغمًا عنه عله يسلى بها عن الجوهرة وماحصل لها..
تستطيع بسهولة ودون أي جهد أن تتخيل أول أيامهم معًا، عزام صامت ، عابس ومستاء.. وشعاع تسترق النظر له بخيبة وخذلان بعد أن أجابها بكلمتين باردتين وكأن ما يحصل حوله لا يعجبه، تفهمها المسكينة وتصمت ليمضي باقي الشهر عليهم غارقًا بالملل والفتور.

سكتت لا تعرف ماذا تقول.. لا تجد شيئًا مناسبًا يقال ردًّا على قولها.
الفترة قبل زواج ابنها بشعاع تعتبر فترة مظلمة في حياتها، لا تفضل تذكرها ولا تحب استرجاع أحداثها أبدًا.. لا يأتي في بالها سوى الصراخ والرفض من عزام، الليالي القليلة التي كان يأتي فيها باكيًا يشكي ألمًا في قلبه، يدًا تخنق روحه، ضِيقًا يضغط على أضلعه..
"يمه الله يخليك لا تصيرين أنتِ والدنيا علي، ما أبي شعاع ما أبيها"
لتقول بإندفاع وانفعال " ماتبيها؟ زين.. ما يخالف.. أخطب لك غيرها ، من تبي؟"
ثم تتابع والكلمات تخرج من فمها كالرصاص "تبي الجوهرة؟...... خلاص ماعاد فيه الجوهرة... صارت فهد.. تبي فهد؟... أروح أخطب لك فهد؟؟؟"
ليقول يشد شعره حتى كاد يقتلعه من جذوره " الله ياخذني.. وياخذ الجوهرة وياخذ فهد.. ما أبي أحد، ارحميني.. ما أبي أحد "
لكنه في النهاية رضخ واستسلم.. ولم يحصل ذلك إلا عندما قامت بفعلها المشِين، أتت له من أكثر الطرق إلتواءً, أكثرها جبنًا وغدرًا، وضعته أمام الأمر الواقع عندما طلبتها من أختها وهو جالسٌ بجانبها. ليتهلل وجهها فرحًا وبهجة، ويظلم وجهه وتغرق ملامحه بألمٍ واضح، ينظر لها بصدمة وعدم تصديق وكأنه تعرض لخيانةٍ عظمى.

تنهدت تطرد تلك الذكريات، المهم الآن.. والآن وكما يتضح لها عزام مرتاح وشعاع كذلك.. أهم شيء الراحة والمودة بينهما موجودة، والحب يأتي لاحقًا.. مصيره يأتي حتى وإن تأخر قليلاً.. لا تعلم هل هو اعتياد ورضوخ من عزام لأمرٍ قد وقع و انتهى، أم فقدان أمل بأن حاله كان سيكون أفضل من حاله الآن.
ورغم أنها عادت ببصرها للسقف فوقها، إلا أنها كانت تشعر بعينَي شعاع عليها. تنظر لجانب وجهها بصمت، تراقب ظلال أهدابها تتراقص على خدها كلما رمشت، تسأل فجأة : الحين عزام يشبه من؟ مايشبه لك..
ثم أردفت بتردد : يشبه عمي ذيب الله يرحمه؟
أخذت صيتة نفسًا مسموعًا لم تزفره، تقول بعد ثواني صمت شعرت بها شعاع طويلةً جدًا، بهدوء وابتسامة : عزام ما أخذ شي من ذيب أبد.. لا ملامح ولا طبايع.
شعاع بنبرة دائخة : بالله كان مزيون؟
ضحكت تنظر لها باستنكار وكأن لشعاع رأسٌ آخر نمَا بجانب رأسها، تسأل بعدم تصديق : مَن هو المزيون؟
توّرد خدّي شعاع بخجل، تعاود السؤال بنبرة خفيضة محرجه : عمي ذيب الله يرحمه، كان حلو؟
رمشت أكثر من مره، تنظر لشعاع بابتسامة واسعة وكأنها لازالت غير مستوعبة سؤالها، لتقول الأخرى بنبرة ثقيلة : اعذريني ياخالة بس أنا أموت بالسواليف الماصخة ذي، مناصرة للحب والناس الحبّيبة... تافهه!
ضحكت : مو أنا شايفة مايحتاج! بس محشومة عن التفاهه والله..
ثم أردفت بابتسامة مشاكسة: .. يابختك ياعزام !
شعاع بضحكة ساخرة وقد كانت تنوي أن تقول بأن عزام هو من يُتفِّه هذه الأمور ولا يراها شيئًا.. على عكسها، لكنها قالت عوضًا عن ذلك : أنا أذكر قد شفت له صورة عند أبوي، بس أبد ما أذكر شكله.. و الصور ماهي مقياس ولا آخذ فيها، لأن بصراحة كل صوري تخرّع اللي مايتخرع.. ولا صورة تفتح النفس.
عادت صيتة تضحك رغم أنها ترى المبالغة في كلام شعاع، تقول بتنهيدة وابتسامةِ تفكير، يتضح بارتخاءِ حدودها حبٌ وحنين و شوق خالص شعرت به شعاع يغطي المكان : ذيب.. مم،،،
اتسعت ابتسامتها أكثر وكأنها سمعته يجيب ندائها لاسمه، تغمض عينيها ليظهر لها وجهه محفوراً في ذاكرتها، في ليلة زفافها عليه يعيد طاقيته للخلف قليلاً لتظهر منابت شعره الناعمة شديدة السواد، تقول ونبض قلبها تسارع بشكلٍ مؤسف : ذيب ماكان مزيون واجد، بس كانت فيه هيبة توقّف المجلس كلّه على رجل وحدة. صحيح مهوب مزيون مثل خالد أبوك ، بس عينك ماتشبع شوفه .. يلفتك غصب ويثبت حضوره من غير لا يتعِب عمره.. ماقد شفت زين مثل زينه، حسَن خُلق وخِلقه.. حبيبي هو،، الله يجعل ذاك الوجه يتّنعم بجنات النعيم.

سكتت بعد ذلك، تأخذ شهيقًا عميقًا تفتح عينيها، تتأمل السقف بهدوء، ثم أمالت برأسها تنظر لها، لتتسع ابتسامتها وهي ترى تلامع عينيها، نظرتها الحالمة وكفيها المضمومين تحت خدها، ترى تقوّس شفتيها، تقوسًا بدى حزينًا لها.. ثم بنبرتها تخرج خافته رقيقة : تحبينه يا خالة؟

كان سؤالاً أحمقًا منها، شعاع تعترف بذلك.. لكنها لم تجد غيره عندما بحثت في عقلها الفارغ ما إن لمحت دمعةً سقطت من طرف عين خالتها ظنت بأن شعاع لن تلمحها في خفوت الإضاءة، سكتت صيتة.. عينيها على ابنة أختها لكن عقلها ذهب لمكان أبعد من غرفةٍ بأربعةِ جدران تجمعها بها.. تشعر بذراعه تلتف حول كتفها يقربها منه بحنانٍ ، عينيه تتأمل تفاصيلها بشغفٍ حتى مع تصددها خجلاً بالنظر عنه، صوته المختلف يتغنّى باسمها "صيتة".

ابتسامته الواسعة عندما استدارت لتجده يقف خلفها، في مطبخ شقتهم الصغيرة عندما ناداها من أحد الغرف، لتجيبه بصوتٍ مرتفع كي يسمعها : سم.
وصلها صوته مجددًا : صيّوت تعالي أبيك شوي .
ردّت عليه منهمكةً فيما بين يديها .. : أجهز العشا ياذيب وش تبي؟
لم تصلها إجابته، لثواني.. فاستنكرت..
تمسح يدها بالفوطة الصغيرة وتلقيها على الرف.. وما إن استدارت كي تخرج من المطبخ الصغير لتعرف سبب ندائه، وجدته يقف أمامها مباشرة.. قريبًا منها.. بابتسامة ..
عادت خطوةً للخلف واضعةً يدها على صدرها : بسم الله روعتني.
اتسعت ابتسامته يتقدم خطوة.. وأخرى.. وأخرى.. يعيدها معه حتى اصطدم جسدها برف الدولاب خلفها.. يقول بنبرة تحمل كل شيء إلا معنى الذي نطق به : آسف.
شهقت ما إن شعرت بيديه على خصرها، يرفعها بخفّه حتى استقر جسدها جالسًا على الرف.. فقالت بدهشة وهلع : ذيب؟؟
لازال يحافظ على ابتسامته، بل أنها اتسعت حتى بدأ يضحك بخفوت، والأرجح أنه يضحك على ملامح وجهها التي اصطبغت بالحُمره.. وأنفاسها التي تسارعت حتى شكّت بأنه سيطير منها.
يميل عليها، يحاصر جسدها بكفّيه ساندًا ثقله عليهما بعد أن أسندهما على الرف، يقول بهمس ينظر لعينيها : ناديتك ولا جيتي.. قلت أجيك أنا.
صرفت بصرها عنه بإستحياء... تخجل منه، ومن نظرته هذه التي تشعر بها تضرب أوتار قلبها مباشرة.. دون رحمة وكأنه يعلم تأثيرها عليها..
لازالت تشعر بتأثير تلك النظرة وتأثيرها على قلبها حتى الآن، تشعر بها تضرب أوتار قلبها مباشرةً حتى بعد مضي ثلاثة عقود عليها..
لازالت تشعر بذيب قريبًا منها، وكأنه لم يبتعد يومًا..

رمشت مره، واثنين وثلاث، واستمرت ترمش حتى وضحت ملامح شعاع لها بعد أن تضببت رؤيتها إثر طبقة الدموع التي غطت سطح عينيها، وإن كان تقوس شفتي الشابة الفتيّه ظهر لها حزينًا في بادئ الأمر، فهي الآن تأكدت من ذلك، ترى الحزن الشفاف الذي مالت به شفتيها أكثر، تلامع الدموع على سطح عينيها ونظرتها المتأثرة وكأنها عرفت ما يدور في بالها عندما سرحت، قالت بعذوبة وابتسامة : أحيانا الكلمة ماتكفي عشان توصف شعور ياشعاع..... أحب والديني الله يرحمهم، أحب مشاعل أختي، أحب عبادي وعمي عزام وزوجته وسارة.. أحب عمتي صيتة،، أموت فيكم.. ب..
سكتت قليلاً، تأخذ نفسًا قبل أن تردف : .....بس مع ذيب حسيت بشي ثاني، شي غير الحب اللي الكل يعرفه. شي أكبر.. شي أعظم، شي ألذ. ماكان شي عادي...... لا والله ماكان عادي.. كنت أحسِب وقتي معه بالثواني،، ثانية ثانية وكأني خايفة اليوم يخلص. وإن نمت انتظر متى يجي الصبح عشان أصحى وأقابله.

كان الصمت هو الشيء الوحيد المسموع بعد أن سكتت صيتة، لازالت تبتسم، تبادلها شعاع الابتسامة بأخرى تغرق بالعبرة، تقول بخفوت : شكلي أخذت الرومانسية منك ياخالة، لأني أنا بعد أحس اللي بيني وبين عزام ماتوصفه كلمة... هذا من ناحيتي.
ثم أردفت بأسى : بس من ناحيته هو،،، يكفيني لو بس يحسسني بالكلمة ذي.

ابتلعت صيتة ريقها بتوتر ما إن أرخت شعاع أهدابها تتصدد بالنظر عنها، تحاول أن تجد عذرًا لابنها : عزام ربَى بين ثلاث رجال ياشعاع، أبوي الله يرحمه ليّن، وعمي عزام حازم ولا يقبل اللين أبد ويشوفه ضعف ونقص، وأبوك خالد كانت شخصيته وطبايعه غير عنهم كلهم.
ثم ضحكت ضحكة قصيرة بدت هزيلة في وضعٍ كهذا : عزتي لولدي ضاع ماعاد عرف يقلد مين .
أخيرًا ارتفع طرف شفتها للأعلى قليلاً، ترفع معه عينيها تنظر لصيتة بمودة : وعمي ذيب؟
همست : ذيب!
ثم أردفت، بزفرة محمّلة بالحنين : لااا ذيب كان غييير، حبيبي... ماله شبيه. حزمه لين، ولينه قوّة، يقول لأ وهو مبتسم، تظنينه يمازحك بس في عيونه هيبه تخليك ما تقدرين تثنين كلمته..
تابعت ضاحكة : ولا تفكرين تجادلينه فيها حتى.. كان مع الكل كذا، إلا معي أنا.. ماعمره قال لي لأ.. دايم مبتسم لي ولا قد شدّت نظرة عيونه علي.. الله يفرّح قلبه ويجبر خاطره بجنة عرضها السموات والأرض.
لتقول شعاع تبتسم ابتسامة مشاكسة كي لا تنفجر باكيةً من عذوبة حديث خالتها عنه : ياسلااام!! وش معنى؟ سهمك مرتفع عنده أشوف!!.
ثم تابعت بذات النبرة عندما اكتفت صيتة بابتسامة : وش الطريقة طيب؟ علميني.. ساعديني.. هيلب!!... عزام ماخذ جبهتي رايح جاي من كثر مايقول لأ ويدقرني.
صيتة ممازحة : الله يقلع شرك ياعزام مفشلني بكل مكان.
ضحكت من أعماق قلبها على ملامح وجه خالتها التي اخفتها بكفها، قبل أن تقول : لا يدري تكفين بيقول تمشي وتتشكى.
صيتة بهدوء تمد يدها وتضرب عضدها بخفّه : من غير وصاة يابنت،
ثم أردفت بإحراج : بس طالبتك امسحيها بوجهي.. أكيد له أسبابه.
امسكت شعاع بكفها قبل أن تبعده، تشد عليه وتقول بابتسامة : يوه خالتي وش هالكلام، هذا طبع عزام من أخذته وتعودت عليه خلاص، وبيني وبينك هالشي معطيه كاريزما محصلتش.. يقول لأ وهو معبس ومبوّز ومطنقر بدون تفكير، قبل حتى لا أكمل جملتي ،، ياساااتر على الكاريزما.. يجيبني من أقصاي قسم بالله.

ابتسمت صيتة تتحسب في داخلها على عدوه، رغم أن شعاع تقول كل ذلك بضحكة قصيرة بين كلماتها. تتابع : بس للامانة وللحق، عزام تغير كثير عن أول، ما لاحظتي عليه؟
ثم أردفت بتفكير دون أن تدع مجالاً لصيتة كي تجيب : وأنا الصدق بديت أخاف،، ليكون أحد لعب بإعداداته؟.. أو يكون دخَل فيه فايروس..
ثم اتسعت عينيها تشهق بشكلٍ درامي : ياويلي أخاف أنه متهكّر!! هذا حتى كتلوجه مدري وينه.
سحبت يدها تعاود صفع عضدها : بس عاد... ترى ما أرضى عليه. كله ولا عزام... تراه جويّد،، عطيه فرصة.
شعاع بابتسامة : فرصة بس!! ياشيخة أبشري.. لعيونك له عدد لا نهائي من الفرص..
ثم تابعت بعد لحظة صمت، تشعر بنبض قلبها يتسارع فجأةً ما إن تراءى لها وجه عزام، حدّة عينيه، استقامة أنفه، رقّة شفتيه..
سكونه في بدايات الصباح عندما توقظه لعمله، يرفع رأسه وشعره مبعثر في كل اتجاه كصغيرٍ في الثالثة من عمره، قبل أن يعاود رمي رأسه على وسادته مجددًا يقول بخمول "بس خمس دقايق" : ..أنا أحب عزام ياخالتي، أخذته وأنا عارفه وش اللي بيقابلني، عارفه إن قلبه كان مشغول لفترة ماهي بسيطة، ويمكن للحين عاجز ينسى ذاك الوقت، ويتمناه يرجع ويعيشه من جديد بدون لا يتغير فيه شي.. ولا الومه.. لأن محد يقدر على قلبه، ولا لي حق أحاسبه على شي صار وأنا مو معه.. المهم الحين إنه معي، ومصير قلبه يقتنع ويصير معي،، وعلى قولته.....
ضحكت بهدوء قبل أن تتابع : دامه محترمني ولا قد مد يده علي معناها يحبني.. هذا هو مفهوم الحب عنده، ويشوف أي شي ثاني غيره تفاهه وسخف.... وأنا عشانه مستعده أعيشه بحب يكفيني ويكفيه..
.
.

: أحس إني خسيس .
نطق بها عبدالله بهدوء ينظر من نافذة مقعده, وكأنه يحادث نفسه، إلا أنه تعمّد أن يصل صوته واضحًا لعزام الجالس بجانبه، يزفر بضيقٍ واضح بعد أن أقلعت الطائرة لجدة كمحطة أولى، وبعدها المحطة الثانية والأخيرة، الخرطوم حيث لا يعرف لماذا يشعر بكل هذا القلق..
زم عزام شفتيه بشكلٍ لا ينم إلا عن عدم الرضا، يجد نفسه يقول بهدوء : محشوم.
أدار عبدالله رأسه للجهه الأخرى، ناحيته. وما إن التقت الأعين ببعضها ورأى نظرة عزام القلقه، حتى وتبسم قائلاً بسخرية : لا وأبشرك، خسيس ونذل بعد.
ضحك بتهكم : الله!! كل ذا؟.... ليه عاد؟
عقد حاجبيه يبتلع ريقًا كالعلقم : أحس إني وهقت المرَه. هي ماتركته وهجّت منه إلا لأنه مايتعاشر.. هي استفزعت بي وأنا غدرت فيها.

استوت ملامح عزام بجديّه، ليقول بحزم : المرَه اللي استفزعت بك على قولتك نكبتك وكانت بتنهي حياتك.. هي ما استفزعت بك هي وهقتّك و رمَت بلاها عليك..
ثم أردف تحت أنفاسه غير راضي بالحديث عنها في ظهرها : الله يستر عليها.

عبدالله بزفرة وتيِه وضح بصوته ونظرة عينيه : والله ما أدري ياعزام!..... ما أخفيك ، والله إني قلقان....
ثم أردف بتردد : أنا ما أبي أموت...
صمت عزام قليلاً بصدمة من اعترافٍ كهذا تبادر لذهن الآخر الجالس أمامه رغم أنه يحاول إظهار القوة والصلابة، مادام أبو عارف خارج الموضوع فالأمور لن تسوء لدرجة الموت، إن شاءالله.... ليقول بعد ذلك بابتسامة مواسية : هَد يارجّال من جاب طاري الموت؟ جوار مهوب مجرم للدرجة ذي، أنا أضمنه لك.
عبدالله باستنكار : بغى يعدمني بحادث سيارة وتقول مهوب مجرم!!.... أصلاً أنا وين وحركات الأفلام ذي وين؟
لازالت ابتسامة عزام تلوح على وجهه، إلا أنها اشتدت بتهكم : عشان تترك اللقافة عنك المرة الجاية.. شي مايخصك لا تسأل عنه، مو كل مرّه تسلم الجرّه.
ضحك ساخرًا فقَد صدق، ليقول بعد دقائق صمت : أكيد إنك تعرف ليه صار ذا كله .
ثم أردف عندما عقد عزام حاجبيه بعدم فهم : أقصد موضوعه هو و زوجته!
عزام بهدوء : ماعندي علم ولا سألت..
نظر له بتهكم ، يقول بنبرة سخرية لاذعه : صادق ولا تخفي عني بعد؟
رمقه بطرف عينه، ينظر له بإزدراء، يشد على شفتيه قبل أن ينطق بغيظ واضح : ماقدرت اسأل الرجّال ليه حرمتك هجت منك.
فسأل عبدالله، قائلاً بضيقٍ واقتضاب : هو وش بلاه طيب ؟ وش يشتكي منه؟ به خلل؟ عاهه؟
لم يستطع عزام إلا أن يقول ضاحكًا بخفوت : بلاه أقشر.
تكرمشت ملامح وجهه بسخط : عوذه الله يكفينا الشر. طيب أنت تعرفه من وين؟
عم الصمت لثواني مرت طويلة، وعزام ينظر لعبدالله بابتسامة يشوبها لينٌ وعتب، ليقول بهدوء : قد قلت لك يا عبدالله، كان ضابط بالاستخبارات واعفوه وأنا بحكم شغلي القديم التقيت فيه..... أنت مو مصدقني؟

سكَت عبدالله قليلاً قبل أن يعاود السؤال : ياساتر، ليه أعفوه؟ شتم أحد ولا نهب من الدولة؟
اتسعت ابتسامة عزام على ملامح وجهه المبهوته، يقول بطولت بال اتضحت بصوته : لأ حبيبي، اتهموه بقضية قتل ودخل السجن .

خرجت من بين شفتي عبدالله "ههه" باردة مذهولة، ليقول بعدها بهدوءٍ مرعوب : يارب لك الحمد على المنجرة والكم خشبة اللي أتعامل معها.
ثم أردف بعد دقائق صمت طويلة : طيب الحين فيه مشكلة،، هذا شلون أدله على مكانها؟.... أنا مستحيل أروح للقرية برجليني، ما أبي أبو الزين يشوفني ولا مصطفى.. يكفي فاقد إحترامي لنفسي ما أبي أفقد إحترامهم لي بعد... غير إن اللي كان يجيبنا ويودينا بشير ولد أبو الزين.
كاد عزام أن يجيبه لولا تحلطم عبدالله الذي استمر، يقول بضيق محررًا جسده من الحزام المربوط حول خصره : وبعدين وش معنى هو في الدرجة الأولى وحنا السياحية؟ وش له العنفقة ذي؟... كلنا عيال تسعة.
ضحك، يجيبه بمودة متعمدًا استفزازه : مادريت إنك تبي معه ولّا كان حجزت لك.
لتتكرمش ملامح عبدالله بقرف، يقول بامتعاض : لا يارجّال فكنا أبو خشته، ما أضمن أعصابي لا صرت أنا وهو بنفس المكان..

،

وبينما كان عبدالله يندب حظه في مقاعد الدرجة السياحية، يَضحك عزام باستمتاع مع كل كلمة يخرجها بعفوية. كان الجالس في الدرجة الأولى يعيش ملحمةً من غضب، بطريقته الخاصة..
غضب هادئ وكأنه جوف بركان خامد، لا أحد يتوقع اندلاعه، ولكن الحقيقة هيَ، أن لديه من الحمم مايُهلك بها بلدٌ كامل.

يفتح هاتفها الذي أخذه أحد العمال من منجرة عبدالله في تلك الليلة، هاتف جديد لم يراه قبلاً عندما كانت معه. يتأمل المكتوب دون أن يفهمه، الرسائل القليلة الموجودة فيه، ممن؟ ولمن؟ وماذا تعني؟.. صورٌ له، يقف يعطي الكاميرا ظهره.. وصورة وحيده لجانب وجهه -يبدو أنها استعادتها باستخدام "الآي كلاود" الخاص بأجهزة الآيفون- ، متى التقطتها؟ ولماذا؟..
رسالتها له بالواتساب والتي من خلالها عرف رقمها، وأنها صاحبة الرقم الغريب، فهي الوحيدة التي تعبث بنبض قلبه ما إن تنطق (أنا خايفة). هل كانت تتعمد أن يعرف أم ماذا؟ هل كانت تريد أن تثبت له أنها فعلت كل هذا وأنهته بدمٍ بارد،، لدرجة أنها تراسله وتضحك في وجهه؟ ثم بعد كل هذا تغلق هاتفها وتختفي كي يلف كالأبله حول نفسه!!

كان مستعدًا أن يشتري راحة البال بماءِ عينيه، فمنذ أن اختفت واتهمته وحياته تردّت وانتهت تقريبًا، فقدَ سمعته وعمله واحترام الناس حوله، والأدهى من ذلك والأمّر أنه بان كالأحمق في عين نفسه.
والآن وبعد أن أتمّ تسعةً وثلاثين عامًا أدرك بأن قراره عندما قرر الارتباط بها كان أسوأ وأفشل قرار قد يتخذه الإنسان بحقِ نفسه، بل أنه كالانتحار، راحةٌ من الدنيا بعد المعاناة، ونارٌ في الآخرة لا تنطفئ ومعاناةٌ دائمة.
حلاوة السنتين التي عاشها معها وجعلته أسعد رجل في الدنيا صارت كالهباء المنثور الآن، أيام مسمومة ما إن يتذكرها إلا و فار دمه في عروقه، خسارة فادحه لازال يعاني من أضرارها، كان زواجة منها كالقنبلة النووية التي ضربت أراضيه الآمنة المستكنة.. لا ولدٌ يحمل اسمه ولا زوجةٌ ملاذٌ له.

أطلق نفسًا محمومًا من فمه، بين يديه جوازٌ خاص.. يقلّب صفحاته.. وفي كل مره، يشعر بنارٍ تضرم وتتأجج بداخله، يشعر بها تزداد كلما أطال النظر لوجه صاحبة الجواز..
يقرأ اسمها ثم ينظر لصورتها وكأنه يريد التأكد بأن مابين يديه يعود لها. يشد على أسنانه بغيظ، حتى شعر بأن عظام فكّه ستسحق.
لازال مصدومًا من فعلتها، مذهولاً بأن تصرفًا كهذا صدر منها.
كيف غدرت به بعد أن سلمّها كل شيء؟ كان أحمقًا يعترف. سحرته حتى أصبح يعلم الخطأ ويفعله رغم معرفته به. كانت كالقطة أمامه، ولم يدرك بأنها أفعى لدغتها والقبر .

.
.

قبل أسبوع ونصف،،
كان يجلس بجانبها على كراسي المطار بعد أن أوصلهما فهد، عدد المسافرين حولهم قليل خصوصًا وأن السنة الدراسية لازالت بمنتصفها، لكنه مع ذلك يشعر بأن جميع الموجودين بثقلهم يجلسون على قلبه..

الساعات الأولى من الصباح عندما جلست بجانبه تتناول طعام الإفطار كانت لطيفة، خاطفة للأنفاس.. قربها مريح جدًا وضحكتها المرتفعة عندما كادت أن توقعه لم تعبر مسمعه بشكلٍ طبيعي.. بل عبثت بجميع مؤشراته الحيوية.. هذه الجادل التي يعرف حقًا..
قُربٌ مريح و روحٌ مرحه..
لكنه ومع كل هذه الأحاسيس الجميلة، يشعر بظلالٍ سوداء تسترق النظر من بيبان قلبه.. تتجسس على لحظاته الحلوة وتتمتم بالوعيد, يستعيذ من وسوسة الشياطين مره، واثنتان وثلاث, والضيق هو, نفسه نفسه، لا يتغير.

كان حاكم يجلس بجانبها، وقد مضت نصف ساعة من الصمت الثقيل ، قضاها يعبث بهاتفه.. وعقله في حالة سكون تام، ممتنٌ لها لعدم محاولتها بدء حديثٍ معه، لفتَة كريمة منها تستحق الشكر والثناء عليها. ربما عقدة حاجبيه هي السبب، هي ما أفزعتها ومنعتها عن أن تنطق بحرف، تجلس بجانبه بصمتٍ رهيب رغم أنه يشعر بسير حقيبتها الذي جلس عليه، فما بالها لا تأمره كي يبعده من تحته ؟ ..
لازال مستاءً مما نطق به البارحة أمامها عندما لحقت به وجلست أمامه على الأريكة، تسأله إلى متى سيستمر حالهم هكذا!!
ليبقى سؤالها معلقًّا دون إجابة ،، فكّر به البارحة إلى أن نام دون أن يتوصل لنتيجة.

كتفها يلاصق كتفه، يشعر بدفء اقترابها منه رغم قطع القماش التي تحول بينهما.
وصله صوتها تتحدث فجأةً بهدوء : وش اسمك يابطل؟
عقد حاجبيه عندما ظن بأنها تحدثه، فأبعد عينيه عن هاتفه، و أنتبه للجسد الصغير الذي يجلس بجانبها من الجهة الأخرى، يرتدي نظاراتٍ طبية بعدساتٍ سميكة وقبعة صوف سوداء تغطي رأسه، يرد بخجلٍ دون أن ينظر لها، بنطقٍ لم يكن واضحًا كثيراً : فيصل بن محمد.
الجادل بضحكة من طريقته في الرد ونبرة صوته المفخمّة والتي لا تتناسب مع عمره : ونعم والله، بأي صف أنت يافيصل؟
ليجيب لازال ينظر للأمام : الله ينعم بحالش، أنا في ثاني باء.
وضح الاستنكار في صوتها بعد أن شهقت شهقة مبالغ بها : صف ثاني باء وبتسافر هالوقت!! والمدرسة طيب؟.
ضحك الصغير يرفع عينيه لها، وكأنه يستسخف شهيقها الذي كاد يبتلعه.. قبل أن ينزلها مسرعًا ما إن انتبه لعيني حاكم تطالعه.. ولم تنتبه لها الجادل التي تابعت تحقيقها واستدارت لتواجهه : ليه بتسافر وكم يوم بتغيب؟ بتفوتك دروس كثير كذا يافيصل.
ليرفع كتفيه لا يدري، يرفع معه جزءًا من قبعته لتظهر لها أذنه والسماعه المركبة بها وكأنها كفيلة لتفسير سبب ذهابه.. واكتفى بذلك دون أن يجيبها.. فتابعت بحنو : بس مايخالف، إن رجعت أصدقائك بيعلمونك وش أخذوا.
ابتسم : ما عندي أصدقاء.
تبسمت له ووضح ذلك بصوتها : حتى أنا ماعندي، بس الحين أنت صرت صديقي خلاص..
ثم أردفت ضاحكة ما إن ضحك : وش رايك؟
رفع ابهامه لها بموافقة، يسأل : وش أسمش أنتِ؟
لتجيب : اسمي الجادل طال عمرك..
فيصل : الجادل وش؟
ضحكت : الجادل بنت خالد.
أشار بسبابته خلفها : وهذا منهو؟ أخيش؟
لم يمهلها صوت حاكم الذي بدا قريبًا جدًا وكأنه يلتصق بها فرصة لتجيبه، يقول ممازحًا : أنا رجلها يابو الشباب، وذي حرمتي وأنت قاعد تسولف معها.
استدارت بسرعة ولم تنتبه أنها كانت تعطيه ظهرها بعد أن كان كتفها يلاصق كتفه.. يميل عليها بجلوسه وكأنه يحاول أن يسترق السمع على مايقولون.
ولم تلبث إلا وأدارت رأسها ما إن شعرت بحركةٍ جانبها، لترى الطفل الصغير يقف مبتعدًا بسرعة، بخطى مستعجلة بعرجٍ خفيف.. فقالت بتهكم.. تتكتف وتسند ظهرها : خرعته..
ضحك باستنكار ، يستريح بجلوسه هو الآخر ليعود كل شيءٍ كما كان، كتفه وكتفها والاحساس بالدفء : أنا خرعته ولا أنتِ اللي طفشتيه بكثرة الأسئلة؟
استبدل اللين التهكم الذي كان بصوتها، فخرجت نبرتها شديدة اللطف : يهبل بسم الله عليه، شفت اللي بإذنه؟ مركب سماعة!!
حاكم بهدوء : زارع قوقعة، واضح من نطقه ماصار له مده..
بعطف : حبيبي الله يعافيه. يهبل.. كأنه رجّال صغير.. ههه..
ثم نادت بخفوت تشير بيدها : فيصل تعال.

لكن فيصل تجاهلها وكأنه لا يراها، يدفن رأسه بكتف امرأة تجلس أمامهم، توقعت أنها أمه من يديها التي التفت حوله تقربه منها أكثر وأطراف عينيها تبتسم بمودة و وضوح.

عاد الصمت يتسيد الموقف بعد ذهاب الصغير، مضت نصف ساعة أخرى، ثقيلة جدًا خصوصًا بعد أن تركهم فيصل، وكم يتمنى حاكم بأن يطلب منه العودة كي تتابع حديثها معه عل صوتها يعجّل بالدقائق.

بحثت الجادل طيلة الدقائق الطويلة الماضية عن شيءٍ تتحدث به معه، ماتحتاجه هو بداية موضوعٍ فقط وحاكم سيتكفل بالباقي، يسترسل فيه ويتشعب إلى أن يمضي الوقت دون أن تشعر به.
تأففت بملل وفقدان أمل عندما ظهرت لها عبارة "المهمة مستحيلة" بالبنط العريض في منتصف عقلها، تتحلطم بينها وبين نفسها وترمق بطرف عينها الجالس بجانبها يضع ساقه على فخذه الآخر مندمجٌ بهاتفه..

طال الصمت حتى شعر به سيقتله، وقف كالملدوغ، فتعلقت عيناها به تسأل: وين رايح؟
ليجيب : بشتري لي شي أشربه. أجيب لك معي؟

وقف حاكم أمام أحد اكشاك محلات القهوة، يطلب له مشروبًا ساخنًا عله يدفئ به كفيه، ولم يطلب شيئًا للجادل التي رفضت بعد أن أبعدت بصرها عنه بخيبه..
أخذه وعاد من حيث أتى، يجد نفسه يفكر بقلق لا شعوريًا بالساعة الماضية التي انقضت معها، ماهذه الحال المتردية التي وصلا لها؟ أهيَ عينُ حسودٍ بغيضٍ أصابتهم؟ حياتهم تحتاج لترتيب، القليل من حديث البالغين بعيدًا عن المشاعر والعواطف إلى أن يلتقيا بنقطةٍ في المنتصف، فهو رغم كل شيء يشعر بأنه بعيدٌ عنها بمئة خطوة.. قابلة للزيادة.... بالرغم من الضحك والاسترسال بالأحاديث والابتسامات الواسعة هذا الصباح، حتى الشعور بالثبات والدفء ما إن تقف بجانبه. خطواتهم ابتعدت كثيرًا إلى أن أضاعت أقدامهم المسار الصحيح.

استند على أحد الأعمدة ، يتكئ عليها بكتفه واقفًا ينظر لها تفصل بينهم مسافة، كالمسافة التي يشعر بها بين قلبه وقلبها بعد أن كانَا ملتصقين تقريبًا، يتابعها بعينيه، وفيصل عاد يجلس بجانبها وكأنه كان ينتظر لحظة ابتعاده. يراها تضرب كفاً بكفٍ معه، ثم بفيصل يغرق بضحكة بعد أن قالت شيئاً.. ثم به يتحدث وهي تومئ برأسها باهتمامٍ على مايقول.. مضت ربع ساعة أخرى كانت كالثواني عليه غارقًا بكلِ حركةٍ تخرج منها، بابتسامةِ أبلهٍ معجب غارقٌ بها، إلى أن فُتحت البوابة، ووقف ثلاثة موظفين لتنظيم عملية الدخول للطائرة.

القى الكوب الورقي الذي لم يشرب منه إلا القليل وأصبح باردًا في أقرب حاوية نفايات في طريقة، يمشي إلى أن وقف أمامها : يلا يالجادل....
قالها وتقدم في خطاه دون أن ينتظر، يقف بالصف الشبه طويل الذي شكّله المسافرون.. حتى شعر بأصابعها تلتف حول ذراعه عندما كاد أن يتقدم خطوة للأمام ما إن تحرك الصف، تضغط بلينٍ وكأنها تخشى من أن تؤلمه، تقول بنبرة يخالطها عتب لم يخفى عليه : شكلك ناوي تروح وتتركني وراك! وهذا يسمونه هروب من الواقع يابطل، لكنّي مثل لصقة جونسون، في قفاك مستحيل أفك.
ابتسم ينظر لعينيها التي تظهر له من فتحة نقابها، تلتمع بشكلٍ واضح جعلها كحبتي ألماس، يقول بأسى ممسكًا بكفها : أروح وأتركك وين!!

ترقرق الدمع في عينيها وهي تشعر بكفه الباردة تحتضن كفها، يشد عليها بحنوٍ واضح ويسحبها معه في تقدمه، يمرون في الممشى الطويل وهي لازالت تتبعه، تسمع بلبلةَ السعادة الواضحة من الناس حولها، أغلبهم يسارع في خطاه فرحًا على عكسها. إلى أن استقرت جالسةً على مقعدها بجانب النافذة بعد أن قال لها : تقعدين عند الشباك ولا تخافين؟
قالها يضحك بخفوت، وضحكته اللينة هذه لينّت أوتار قلبها المشدودة، وراكمت عبرةً لا تهزم في حلقها، لتقول له بهدوء تحرر يدها منه وتتقدم : لا ما أخاف شدعوة بزر!!.

ربطت حزامها والقت بنظراتها للخارج، تشعر بحركته بجانبها لكن دون أن تلتفت، بات الموضوع ثقيلاً لا يُحتمل ولازالت في يومها الثاني معه. للتو يبدآن به.
أخذت نفسًا عميقاً تقوي به نفسها، لا شيء يعبر مسمعها سوى صوت نحنحةِ حاكم بعد كحةٍ أخرجها فقط كي يُحدث صوتًا يكسر به السكون المرعب بينهما. تبتلع ريقها فلا داعي للعب دور الضحية والاستسلام باكرًا هكذا. لو كان شخصًا آخر غيره لكانت أعطته ظهرها وابتعدت دون أن تلتفت له، بل أنها لكانت أنهت كل شيءٍ بنفسها دون أن تعطيه مجالاً للاستيعاب.
لكن هذا حاكم, وحاكم يستحق كل محاولة تقدر على القيام بها، يستحق أن تقاتل باستماتةٍ ولآخر رمقْ، لأجله ، ولأجل الحياة معه. والأسرة التي نوت أن تبنيها معه، ولأجل الأيام التي ستجلس فيها معه، بصالةِ منزلهم الدافئة كلاً يشكي ألم عظامه للآخر، تجمع شعرها الأبيض للخلف وتبتسم على شعره الأبيض المتطاير لازال يحافظ على كثافته رغم تلوّن جميع خصله بالبياض، قبل دخول أحفادهم يتسابقون من يسبق الآخر على حضن الجد والجدّة.

قوّت نفسها أكثر، حتى شعرت بأنها أنثى تهزِم ولا تُهزم، حاكم معركتها الوحيدة.. والنصر بها هو الغاية والمطلب ولا شيء غير النصر مقبول . تلتفت برأسها ناحيته لترى أن عينيه لازالت معلقةً بهاتفه، بانشغالٍ وانسجامٍ تام جعلها تضوّق عينيها بتوجس..

أبعد حاكم رأسه قليلاً ما إن شعر برأسها قريبًا من رأسه ، بالكاد تتكئ به على كتفه، تقول بأريحيه : وش اللي شاغلك من الصبح كذا؟

ابتسم رغم استنكاره، يشعر بها تدخل ذراعها بذراعه، لينقل هاتفه ليده الأخرى كي لايقع عندما شدت على ذراعه تقربها منها، يقول بلين : قاعد أقرا عن نيوزيلندا، توني أدري إنها تصلح للعرسان!
ثم أردف يميل برأسه عليها يشير بابهامه على سطرٍ معين بعد أن قرب الهاتف بينهما، يقول محركًا حاجبيه : يقولك فيها أماكن عجيبة وبتعطيك ذكريات لا تنسى مع شريك العمر وتناول العشاء في جو رومنسي لن يتكرر.
شعرت بالحرارة تخرج من أذنيها ، مع ذلك قالت بتبرم : توك تقرا؟
حاكم بذات التبرم يرمقها بطرف عينه : توني أفضى.

سكتت الجادل، لازالت على وضعها ولازال على وضعه، يعود الصمت ولكن هذه المره وجد الإثنان مايشغلهما حقًا، بكل أريحية وكأنهما اعتادا على فعل ذلك لسنوات.. وصله صوت الجادل تتساءل بجدية : وش معنى فهد اختار نيوزيلندا بالذات؟
ضحك ممازحًا : عليمي.
لتبادله الجادل الضحكة، تقول بمودة : لا عاد حرام عليك. أكيد إنه سأل ومدحوها له.

ابتسم حاكم على طاريه، مبتهجًا لمجرد سماع اسمه.. واستمر مبتسمًا سارحًا بشاشة هاتفه لمدة، إلى أن شعر بثقل رأسها على كتفه، ليهز كتفه قائلاً بخفوت : لا تاخذين راحتك واجد حنا بمكان عام ، وضيّق!!
ثم أردف متوجسًا بهدوء : حتى المضيفة رايحة جايه قاعدة تطالع تنتظر نسوي أي حركة.
تجاهلت قوله، تتثاءب : دايخة والله مانمت زين أمس.
ثم مدت سبابتها تحركها على شاشة هاتفه، تقول ببشاشه : معليش، بس خلصت الجزئية ذي.. ممكن أروح للي بعدها؟

أظلمت شاشة هاتفه ما إن أطالا النظر لها دون أن يتكرّم أي أحدٍ منهما بالضغط عليها، بعد أن انتهت الجادل من القراءة، ليجد حاكم نفسه يستفيق من سرحانه، فهو قد توقف عن القراءة منذ مده طويلة، من اللحظة التي وضعت فيها الجادل رأسها على كتفه، لتشغل باقترابها عقله..
استمر الصمت ولم يكن ثقيلاً أبدًا هذه المره، بل إن حاكم من فرط شعوره بالراحة ارتخى بجلسته على كرسي الطائرة الغير مريح، بدأ النعاس يداهمه، يتسلل إليه من تثاؤب الجادل من وقتٍ لآخر، ولم يكن ينقصه سوى صوتها الذي وصله خدرًا ثقيلاً : ماتوقعتك تلبس شماغ بالعرس أمس !
حاكم بخمول : ها أجل؟ كنتي متوقعه أجي ملولو شعري وماسكه بشباصة؟
ضحكت ضحكة قصيرة تغرق بالخمول وبالقدر الذي تسمح به طاقتها، فقد اشتد عليها النعاس وهي التي لم تنم البارحة نومةً هنيّةً كي تتقوى بها اليوم، و وجدت نفسها تدخل ذراعها الأخرى بذراعه، بدت وكأنها تكبّل الذراع المسكين بكلتا يديها ما إن شدّت عليه أكثر، تتوسد كتفه : لا شدعوة، بس يعني، توقعت غترة بيضا.
حاكم بهدوء : سويت قرعة وهذا اللي طلع لي.
الجادل بذهول : من جدك؟
ضحك بخفوت : للأسف. محد رسّاني على بر لا أمي ولا ريم ولا حتى فهد، ويوم سألت أبوي وناصر قالوا غير لون البشت مره وحده.
تبسمت بمودة، تبعد رأسها لتنظر لجانب وجهه ، توكز جانبه بكوعها : كان سألتني، كنت بعطيك الجواب الشافي بدون لا أحيرك زيادة.
انتبه لنظرتها، فأخذ يرمقها بطرف عينه، يرفع حاجبه الأقرب لها بتهكم ، ممازحاً بقوله يوكزها هو الآخر وكأنه يرد حركتها : تبيني أحرق اطلالتي بأهم ليلة بحياتي؟ معصي.
ابتسمت من أعماق قلبها، يسمع سلسلة من الضحكات تخرج من بين شفتيها أسرته رغم خفوتها، ولم يستطع أن يمنع نفسه من أن يعطيها عينيه هذه المرّه، ينظر لها بكامل بصره ويبتسم رغمًا عنه عندما قالت بهمس وعينين تتلامع بإعجاب واضح : بس والله كنت تهبل أمس،، كتكوت..

تلاشت الابتسامة تمامًا عندما بهت وجهه بصدمة وشكل درامي جعلها تضحك أكثر، لتغطي فمها بكفها من فوق غطاء وجهها كي لا يخرج صوتها عاليًا يفزع الناس الذين بدأوا يملؤون المقاعد حولهم، يقول بذهول : افاا وأنا ولد أبوي!! كل ذا الشوارب والهيبة وآخر شي تقولين كتكوت كأني ورع فطفوط!!
فقالت تمازحه، تتنهد براحة : اختلفت المسميات والمعنى واحد.. خل عنك والله إنك كيوت وتهبل..
اتسعت عينيه، يضحك بصدمة : أبك كيوت هذي ويش؟؟!

تبسمت تبتعد ببصرها عنه، تنظر للأمام لكنه لمَح ابتسامتها في صوتها، وعينيها عندما شدّت أطرافها : يابخيل الكلام ببلاش. مدحتك امدحني، لو مجاملة على الأقل.
ليقول بتبرم : الحين كيوت تسمينها مدحه؟ أنتِ كذا تقريبًا قاعدة تقذفيني..
غرقت بضحكتها : أكبر عليك أكبر...
المهم ماقلت لي ، وش رايك بفستاني أمس؟ عجبك؟
ارتفع طرف فمه بابتسامة يتذكر تفاصيل فستانها الأنيق البارحة.. انتبهت لها لتطلق زفيرًا لم تدرك بأنها كانت تحبسه، يقول بعد تصفيره معجبة خافته خرجت من بين شفتيه : فوق التقييم.
تكركرت بخجل تنظر له : وش كان انطباعك أول ماشفتني؟ توقعت شكلي كذا؟
رفع حاجبه متعمدًا إغاضتها : بكل صدق ساعتها كنت منشغل أمشي ورى أخوك ذيب وأفكر، هو ليه لابس حذيان سكتشرز على الثوب؟ ليه مهوب لابس نعال!!!
بهتت لثانية قبل أن تضحك بصدمة : تقوله صادق!!!
عقد ذراعيه على صدره ، يهتف بجدية : شي على قد ماهو تافه أشغل تفكيري،،، غريب.. لكن هذي مشكلة الناس اللي الآي كيو حقهم عالي.. يارب لك الحمد على نعمة الغباء.
الجادل ضاحكة : الله لا يشغلك عن طاعته، اتركك منه ومن نعاله وجاوبني.. توقعتني كذا؟ تغيرت كثير عن أول؟....
حاكم بتنهيدة : الله المستعان.
ضحكت بعتب : حاكم عاد.. جاوبني؟ كنت قد التوقع ولا خابت ظنونك؟
شعر بشيءٍ ودود يربت على قلبه، يشعر بميلانها عليه.. اتكاؤها بجانبها على أضلعه، يقول بخفوت : تشبهين أمك.. وأتمنى الإجابة ذي تشبع غرورك، لأني اتحفظ عن أي تصريح ثاني.. لازلنا في مكان عام وضيّق.
ضوّقت عينيها تنظر له، قبل أن تقول : ترى أنا وحدة نفسِي طويل، لا تظن إني ممكن استسلم بسهولة..
رفرف قلبه فابتسم يرفع كلا حاجبيه من التماع التحدي في عينيها : هذا تهديد ولا وش؟
ضحكت بخفوت تضرب كتفها بكتفه : اعتبره تحذير لطيف طال عمرك، وإحذر من الوقت اللي استعمل فيه تهديد شديد اللهجة، ترى أنا ماعندي يمه ارحميني.. استعمل يدي على طول.

وقعت عينيه بعينيها بعد أن كانت تنظر لكل شيءٍ ماعدا وجهه.. يبتسم، ابتسامةً تتسع وهو يرى تسارع حركة أهدابها تمازحه.. ليقول : كفو،، هذي الفعول اللي تجمد على الشارب،، مصنعيتك ممتازة.. على الأقل كذا حياتنا تتوازن شوي.. لأن ذا الشي مهوب موجود عندي للأسف.. أنا واحد نفسي ضيّق، أضيَق من خرم الإبرة الله وكيلك، بالموت صبرت قريب السنة توقعت يجي العرس وأنا فاقس تحتي بيضة من الانتظار. الله يسامح اللي في بالي ويعفو عنه.

قالها يبتسم لها بهدوء، ابتسامة ضمّدت جرحًا غائرًا في قلبها..
وظهر ذلك له من نظرتها التي تعلقت بعينيه، تلتمع بمودة.

اكتمل جميع الركاب، وبدأ مضيفي الطائرة بالتحرك بين المقاعد يتأكدون من أنّ كبينة الحقائب مغلقة، وأن جميع الركاب ربطوا الاحزمة، وعلى ذلك أغلق حاكم هاتفه.. و وضعه أمامه..

أقلعت الطائرة بعد دقائق، وفي أثناء إقلاعها وارتفاعها عن الأرض، استغل حاكم إغلاق الجادل القوي لعينيها، تستند برأسها للخلف وتتشبث بيدي الكرسي، وكأنها تعيش أصعب لحظة في حياتها.

ابتسم ما إن استقرت الطائرة في كبد السماء، ترتخي معه عينيها المشدودة، يراقب حركة أهدابها التي بدأت تتحرك ببطء لتُظهر معها حُسنًا لم يرى مثله قبلاً. يقول هامسًا بمودة : ياخوافة..
انحنت للأمام قليلاً، تضغط على بطنها بذراعيها تشعر بالغثيان : معلومة بتصدمك فيني، بس أنا أكره الإقلاع والهبوط وتحوم كبدي منه. أقسم بالله أحس كبدي بتطلع من مكانها..
ضحك، يمد كفه لخلف عنقها، يدلكه برقّة.. وعلى ذلك وعلى ابتسامته التي بقت حتى بعد انتهاء ضحكته، ابتلعت ريقها بشكلٍ متتابع، تقول بإحراجٍ واضح : إذني قفلت.

عمّ الصمت المكان بشكلٍ مريب بعد مرور ساعة، إلا من بعض الهمسات مصدرها الموجودين حولهم، عاد فيها حاكم لهاتفه بعد أن فتحه، يتشاغل بلعبة البلوت، وتشاغلت الجادل بالسُحب قليلاً، وبما يلعب بمهارة قليلاً، وبجانب وجهه الذي تتأمله كالحرامية قليلاً.

إلى أن تمللت من كل هذا، فقالت بخفوت بعد دقائق صمت طويلة، لازالت تنظر لجانب وجهه، بوضوحٍ هذه المره : حاكم..
لم يجبها مباشرة، بل انتظر قليلاً يستشعر نعومة صوتها الناطق باسمه ، ليقول بعدها باختصار : مم...

لا تعرف ماذا تقول, تجد نفسها مثقلة بضيقٍ ليست ندًّا له، الصمت بينهم مرعب ومفزع ولايليق بها ولا به، ابتلعت ريقها.. تقول بنبرة خفيضه بائسة : أنت للحين زعلان مني ومعصب علي؟؟
أخذ نفسًا مصدومًا عميقًا وأطلقه.. وكأنه لم يتوقع مباغتتها هذه، يقول بعده بهدوء صادق : لا والله.
شعرت بالعبرة تتدافع في حنجرتها، فابتلعتها أكثر من مره حتى سيطرت عليها، بالكاد استطاعت ذلك.. واستغرقت وقتًا قالت بعده، هامسةً بضعف : أجل؟
كان صوته كفيلاً بإيضاح كل شيء عندما قال يأخذ نفسًا آخر : ما أدري!.. بس أحس إني ضيقَان.. وكأن قلبي معك كان كذا،
-قالها يبسط كفّه-، موجهًا راحتها للأعلى.. ثم يردف بعدها بابتسامة ضائقة بعد أن جمع أصابعه في قبضة يدٍ مشدودة : والحين صار كذا....

أخذت شفتيها تتقوس رغمًا عنها، رغم محاولتها السيطرة على ذلك لكنها لم تستطع، فقالت بحزنٍ بدى واضحًا له : بسم الله عليك.... أنا آسفة...
غمز لها بمرح بعد ثانية طويلة جدًا، علّ ذلك يمسح على قلبها ويطمئِنه : أسفك مقبول حبي.
ضحكت بعبرة واضحة، غصّت بها تقول برجاء : تكفى لا تخلي وضعنا ذا يطول إلى أن نتعود عليه.. أنا ماتعودت عليك كذا، ولا تعودت أكون معك كذا..
عقد حاجبيه يتصنع البلاهه : أي وضع؟
فقالت بملامة وكأنه يستخف بها : حاكم..
ثم أردفت بنبرة مثقله باليأس عندما لم تجد ردًا منه : ليه ساكت وين راحت سواليفنا أول؟ سولف لي عن مواقف سيارات شغلك بالاسبوعين اللي قطعتني فيهم ؟ صرت تلقى موقف قريب ولا لازم تطقها كعابي للمبنى؟ سولف عن أي شي، المهم ما تسكت وأنت معي وتحسسني إنك كارهني ومستثقل وجودي معك...

كان حاكم يشعر بنظرتها التي حطّت على جانب وجهه، تترقب إجابته بقلق واضح وأمل وكأنها تنتظر شيئًا كان موجودًا فيه، عندما اعتاد أن يتصل عليها صباحًا فقط كي يتذمر ، دون أن يهتم إن كانت نائمة أم مستيقظه " أنا ما أدري الناس ذي متى تصحى؟ متى يوصلون؟ اليوم تعمدت أجي بدري عل وعسى الحق على موقف قريب من المبنى ولا لقيت، واصل قبل الوقت الأصلي بساعة إلا ربع ولا لقيت!! ياويل حالي وش ذا العالم!!!"..

لم يستطع أن يتجاهل ذلك، أمال برأسه ينظر لها مبتسمًا مطَمْئنًا فهي الجادل -أول وتالي- ، يقول : مهوب كره أعوذ بالله.. مابعد توصل الأوضاع للمرحلة ذي.... وإن شاءالله ما بتوصل أبد.
ثم أردف يأخذ نفسًا عميقًا، بنبرةٍ هادئة محافظًا على ابتسامته : اللي بيني وبينك ماهو يوم ولا يومين يالجادل.. بيني وبينك عمر.. أربع وعشرين سنة غير عشر شهور ربطتني فيك....
ثم أمسك كفها يعدد بأصابعها: لا تظنين إنك شي بسيط، أنتِ بنت خالي، وزوجتي، ورفيقتي لمدة سنة.. فيه شي يشفع لك عندي،، يخليني مستحيل أكرهك والدليل إني قاعد جنبك الحين وطاير من الفرحة إن اللي أبيه أخيرًا صار.... أنا بس عتبان عليك، وأظن من حقي.
ثم أردف مبتسمًا بحنو ما إن أومأت رأسها تأيده، يرى التماع عينيها ويشعر بأصابعها تشد على أصابعه : والعتب على قد المحبة يالجادل.. ولا لأ؟

عادت تؤيده، لا تختلف معه في قوله.. مع ذلك قالت : عوذه، الحين إذا كان عتبك كذا ، أجل كيف الكره عندك ؟
ضحك بخفوت : الله لا يوريك.
الجادل بضيق وعتب ولوم رغمًا عنها : أجل عايفني؟!!!!

شدّ على فكّه، بتوتر اتضح على وجهه، ثواني فقط مرت وهو لازال ضاغطًا على أسنانه بقوة حتى ظنّ بأنها ستُكسر، والجادل تلاحظ ذلك بقلق.. ليقول أخيرًا مبتسمًا : آسف، حقك علي... والله إنها طلعت بدون قصد.
قالها يشعر باشتعالِ جوفه.. و وصل لها الإحساس المظلم بعد أن انطفأت النيران التي اشتعلت في جوفه بعد قوله هذا، لتقول بضيق : وش عقبه آسف؟
ثم تابعت بعبرة : ياثقل أمس على قلبي، ثقل حسيته دفن قلبي معه. ليلة ماطاعت تعبر.. مع إنها الليلة الوحيدة اللي كنت انتظرها وأعد لها بدون لا أفوّت دقيقة.
لكنه قال، بنبرة بدت غريبة عليها جدًا : والله إنها ماكانت ثقيلة عليك لحالك .. بس وش بيدي لا صار ذا الصدق؟ اللي أحس به بعد اللي صار أكبر من إني أتحمله، ولاني بقادر أجبر نفسي وأتعايش معه.. من ليلتها وأنا حالي ماعاده الأولي، أحس وكأن اللي بيني وبينك انكسر...

واللهِ أنّ قلبها هو من انكسر بعد عتبه هذا، فقالت بغصّة واضحة : واللي انكسر مايتصلح يعني؟
ابتسم بأسى وغصتها خنقت روحه : يتصلح، كل شيء بالدنيا ذي يتصلح، وكل مشكلة مهما كانت صعبة، لها حل.
ثم أردف : وأرجع أقولك آسف،، آسف مليون مرّه كانها بترضيك.. ترى والله مايهون علي أشوفك متغلقَه وأنا السبب، وماتركتك متصدد عنك أمس إلا لأني داري بنفسي.. وداري إني منيب قادر أمسك لساني وبقول شي يضايقك ويكدر خاطرك، وأنا ما أبي أضايقك حتى لو إنْ ضيقي منك يهد الحيل، بس أنتِ حديتيني... جيتيني برجلينك يالجادل وحديتيني على الغلط.

زفرت ضحكةً تهكميةً صغيرة : تدري وش اكتشفت من تالي؟
ابتسم بضيق : وش اكتشفتي من تالي؟
اهتزت نبرتها رغم محاولتها أن تدغم ضحكةً معها : اكتشفت إن كل غلط ومصيبة أنا أمشي لها برجليني،، ماعمر خطوتي كانت صح.
ابتسم بحنو وهو يراها تمسح طرف عينيها بمنديلٍ كان بيدها، يقول مقبلاً يدها التي لازالت بيده : لا عاد ما أسمح لك! هي آخر كم خطوة بس اللي عثرتي فيها، لا تصيرين جحودة.
ارتعش فكها بعد فعلته، تقول بنبرة باكية : عثرة وحدة، بس كلفتني عمري كامل.
ثم تابعت وقد تكدست الدموع في عينيها : أنا ما الومك والله.. لكنّي أبيك تعطيني فرصة.. أنا أسفه،، خربت حياتنا قبل لا تبدا حتى، وندمانة على اللي سويته ندم بيذبحني.
خلينا نبدأ من جديد ، وكأن اللي فات ماصار.

سكت ولم ينطق، لعدد من الدقائق شعرت بها الجادل ستقتلها بدمٍ بارد.. وما إن نطق تمنت لو أنه لم ينطق : خويتك اللي كانت معك بالسيارة وش صار عليها؟
تبدل الحزن بعينيها لحقدٍ وغضب، تقول ببغضٍ وغيظ : ما أدري ولا أبي أدري، الله لا يحللها ولا يبيحها وحسابي معها قدام ربي.. والله ما أسامحها على اللي سوته فيني.
تردد كثيرًا قبل أن يقول بهدوء وملامح ساكنة، إن كانت ستغضب منه وتأخذ بخاطرها هذه المرّه فلتأخذ : الغلط تتشاركينه أنتِ وهي جميع، كان عندك مليون طريقة وطريقة غير إنك تركبين معها ، حتى لو كان أخوها صدق المفروض ماتركبين معه... مهما كان.
ابتلعت ريقًا كالعلقم : ساعتها ماكان في بالي إلا إني أرجع البيت.. بأي طريقة كانت، حتى لو على كف عفريت..
زفر بهمٍ واضح من موضوعٍ بدد سعادته وراحة باله، يقول بعدم رضا : صار اللي صار الحين والكلام فيه مامنه فايدة...
ثم أردف يحاول أن يبتسم ولم يقدر : الآن ركزي معي، فيه خبر سيء .
الجادل : وهو فيه شي أسوأ من اللي حنا فيه؟
ابتسم بسخرية رغمًا عنه : ايه نعم، تعرفين كم ساعة مدة الرحلة؟
ضغطت بالمنديل الذي بيدها على عينها، تأخذ نفسًا عميقًا تقول معه : كم؟
حاكم : ترانزيت في دبي ياخذ ٥ ساعات، ومن دبي لنيوزيلندا ١٦ ساعة متواصلة.
أبعدت ماكان يغطي عينيها ليظهر اتساعها المذهول، تضع يدها على رأسها : يبووي!!!. الله يصلحك يا فهد ذي هدية ولا عقاب؟
ضحك : شفتي إن فيه شي أسوأ!
حسبت بأصابعها ولم تكمل لتقول بنبرة تهويليه : يعني يبي لنا أكثر من ٢٠ ساعة!!! لو إنّا رايحين القمر على قولتك مثل ماكنت تسلّك لي أول وتسكتني كان أسرع.
قهقه يضع قبضة يده قريبًا من فمه، قبل أن يغرق بنوبةِ سعالٍ خالطت ضحكته، جعلته ينحني للأمام قليلاً علّه يسيطر عليها.. ثم بيديها تمسح على ظهره، تقول بضحكة خافته : بسم الله عليك، خذ نفس.
أخذ نفسًا عميقًا بعد أن سيطر على كحته، يرفع بصره لها يقول مبتسمًا لعينيها التي كانت تبتسم له بأطرافًا تنحني بحنو، لازال كفها مبسوطًا على ظهره وأصبح الآن محاصراً بينه وبين المقعد خلفه : وسعي صدرك ولا يضيق خاطرك، هي فترة اللي قاعدين نعيشها الحين وبتعدي إن شاءالله ويرجع وضعنا مثل ماكان وأفضل. كل اللي نحتاجه أربع أشياء بس,,
ثم تابع معددًا بأصابعه، مبتسمًا بمودة، ابتسامةً واسعة : وقت وصبر، وأنتِ وأنا......

.

اقلعت الطائرة مجددًا بعد ٥ ساعات قضاها الإثنان في مطار دبي الدولي.. ومضت أول ساعة منها على تذمر الجادل : أنا أشوف نروح نتسدّح بالمصلى إلى إن يجي وقت الرحلة.
تثاءب ما إن تثاءبت بعد أن انهت جملتها : أيوه؟ وتروح علينا نومه وساعتها نبلش بأعمارنا..
لتقول بنبرة منهكة تمامًا : طيب بنقعد إلى متى، والله تعبت وجاني النوم الله يسامحك يا فهد ويسخر لك على ذا الحركة.
ضحك بخمول، يقطع ضحكته تثاؤب آخر قبل أن يقف : قومي بنحوّس شوي وبيمشي الوقت..
نظرت ليده الممدودة لها، لتتشبث بذراعه بكلتا يديها وكأنها ستتسلقه، تسند رأسها عليها : جب لي عربية شناط والله ولا أقدر أشد عظامي حتى.
ضحك بمودة، يسحبها بكامل قوته إلى أن وقفت وهو يشعر بها رخوةً بين يديه، يحاول أن يوقفها بشكلٍ سوي : بنت،، اصلبي عمرك شوي.
الجادل بثقلٍ واضح : من اسبوع ونومي ما يتجاوز الثلاث ساعات باليوم، أحس إني قاعدة أنهار من داخل،، وشكل قلبي زحلط وقده عند طحالي ياحاكم... الحق علي.
لم يستطع أن يتحامل على نفسه دون أن -تزحلط- هيَ من بين يديه عندما ثقل جسدها، وأعادها حيث كانت تجلس، يجلس بجانبها وينخرط في ضحكةٍ جعلتها تئن بضيقٍ واضح، رأسها يتهادى يمنةً ويسره، ليضرب جانب رأسها بخفه : صحصحي باقي أربع ساعات.

ولا يعلم كيف انقضت الأربع ساعات وهي تسند رأسها على كتفه، تنام بعمقٍ سحبه معه وجعله ينام هو الآخر.. ولم يستيقظ إلا قبل موعد الرحلة بربع ساعة.

.

انحنت الجادل للأمام حتى أصبح ظهرها مستويًا بشكلٍ عرضي، بعد أن استقرت الطائرة في كبد السماء مجددًا.. تشعر بيدي حاكم تدلك عنقها بحنوٍ من الخلف فقد أصبح يعرف علتَها، تحاول أن تبتلع ريقها عل اللوعة تختفي ولكن لا فائدة..
استقامت بجلستها، تخلع نقابها بقوة وتسحب كيسًا بجانب حاكم بعد أن أفرغت محتوياته في حضنه، لتتكرمش ملامحه بتوجس ما إن انتبه لوجهها شديد الشحوب قبل أن تخفيه داخل الكيس.

تلفت حوله يرفع يده حتى اقترب منه المضيف، يطلب منه ماءً ولم تخفى عليه عينيه التي تنظر ناحية زوجته بقلق، يسأل بشكلٍ مهني بحت وبما يحتم عليه عمله.. إلا أن هذا لم يعجب حاكم كثيرًا فطلب منه أن يذهب على وجه السرعة ويأتي بقارورة ماء. ثم يطلب منه الانصراف ما إن أتى بها، على وجه السرعة أيضًا .. يلتفت بجسده بعد أن فتح حزامه، على الجادل التي هدأت أخيرًا.. تعيد رأسها للخلف تمسح فمها بمجموعة المناديل التي دفعها حاكم في يدها، قبل أن تشرب قليلاً من قارورة الماء التي فتحها لها، يسأل باهتمام : اشوى؟
هزت رأسها بعينين ذابلتين وقوة مسلوبه وصوت مجروح : ترى تصير دايم لا تخترع.. عشان كذا محد يقعد جنبي بالطيارة غير بابا حبيبي..
لوى فمه بتهكم : بابا حبيبي!! تلعب على الثقيل بنت ساجر.. ترى حارتنا ضيقة وعارفين البير وغطاه فما له داعي ..
تكركرت بضحكتها رغمًا عنها رغم أنها في مزاج لا يسمح بذلك، تتدلل بنبرتها : ايه بابا أجل وش أقول!
حاكم بجدية متصنعه ونبرة ثقيلة : قولي يابَه.
ثم أردف يبتسم بمودة ، يقول ممازحًا : والله خرعتي المضيف، على باله حامل،، قلت له مايمدي.
ضحكت دون أن تعلق على ماقال، ترفع نقابها وتغطي وجهها به، مغطيةً احمرار وجنتيها معه، هي ابتسامته أم نبرته التي جعلت خديها كحبتّي تفاح؟. : كم باقي لنا ونوصل؟
طارت عينيه ضاحكًا : تو الطيارة تقول ياهادي، ترى كلها خمس دقايق اللي مرّت عليك وأنت غاطسه وجهك بالكيس، حتى الطيار ما أمداه يضغط كل الأزرار.
أستندت بجانب رأسها على النافذة، تغمض عينيها بإرهاقٍ واضح : الحين صدق بنقعد معلقين ١٦ ساعة! ياويلي يافهد الله يهديك وش ذا!!
ثم فتحت عينيها بعد دقيقة صمت، تدير رأسها وتنتبه لحاكم الذي رفع علبة بنفسجيةً تعرفها جيدًا كانت بالكيس الذي أفسدته، وقد اشتراها من صيدلية المطار، يقول محركًا إياها بينهما رافعًا حاجبه : بناخذ حبتين من ذي ونسحبها أحلى نومة إلى أن نوصل..

.
.

لم يشعر بالتوهان قبلاً كما يشعر به الآن، وكأن قلبه يغرق في كل لحظةٍ تعبر عليه معها.. روحه مستسلمه، عقله كذلك.. ولكن قلبه يأبى.. يأخذ طريقًا آخر معاكسًا لصديقيه..
يعيش تحت ضغط التفكير الزائد عن اللازم.
لم تكن السنوات الثلاثون التي مضت عليه وعاشها بثباتٍ وثقه كافيه كي يقف وقفةً صريحةً أمام مايريد، ومالا يريد.. اكتشف ذلك للأسف في اسبوع ونصف فقط.. وكأن الثلاثين الماضية ماهي إلا نصف دقيقة عبرت عليه، وليست حياةً كاملة..

لم يصنّف نفسه يومًا ضعيفًا، متخبطًا.. جبانًا إن صح التعبير. وكأنه رضح واستسلم للوضع المبهم الذي يعيشه..
يجد نفسه يضاحكها.. يضحك لضحكتها حتى وإن لم تكن به ضحكة.. تشتد شفتيه مبتسمًا وهو يستمع لأحاديثها، ولوهله يشعر وكأنهما زوجين طبيعيين سارت حياتهما كما خططا وتأملا حقًا.. إلى أن يتسلط عليه صوتٌ من أعماق قلبه، ينهره، ويبدل كل شيء.. وكأن قلبه بالكاد يتسع له، بعد أن كان يتسع لكليهما.
لم يعد الشغف موجودًا.. تلك الشرارة بين قلبيهما انطفأت، وهو مع كامل الأسف رجلٌ لا يرضيه الحال المائل هذا،، إما شغفه القديم وإلا فلا..
.

كان حاكم وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا يجلس في مطعم الفندق الذي ينزلون فيه، ينتظرها كي تأتيه ليبدأ أكل إفطاره معها، فهو دون أي مفخره قد اعتاد في الأيام الماضية على أن يسبقها، يوقظها من نومها لتنظر لوجهه بعينين ذاتِ حور وملامح صباحية بارعة جدًا بإرخاء كل عضلة مشدودة في جسده، إلا عضلة قلبه المشدودة حد التمزّق، متأكدٌ من أنها ستتمزق يومًا من قوة الشد الذي يشعر به، يريدها ولا يقوى على قربها.. جزءٌ يرغب وآخر يمنع وهو بين الاثنين ضائعٌ وتائه.. ليبتلع ريقه بصعوبة يأخذ نفسًا يتقوى به ما إن تبدأ بجمع شعرها لأعلى رأسها بإهمال، يقول مبتعدًا خارجًا من غرفة النوم : تجهزي و الحقيني أنا بسبقك تحت.

وطوال الاسبوع والنصف الماضية لم تسأله يومًا عن سبب هذا التصرف الخالي من الذوق، ولا يظن أنه قد خطر على بالها كم هو ممتن لعدم سؤالها،، فلا إجابة لديه.

كانت عينيه مثبته على مدخل المطعم رغم أنه يعطي بابه ظهره مقابلاً بذلك الحائط كي تأخذ الجادل راحتها، بتركيز يفز قلبه كلما امتد ظل جديد ليصاب بعدها بالخيبة ما إن يظهر له شخصٌ غير الذي يبحث.
إلى أن رآها تعبر الباب، ترتدي عباءتها وتسدل غطاء وجهها ولا يظهر منها سوى عينيها الآسرة...
رفع كفّه، يعتدل جالسًا ونبض قلبه تسارع بتحفّز.. يصفّر قبل أن يقول بهمسٍ مرتفع : الجادل.

ما إن رأته رافعًا يده يشير لها حتى وتقدمت بخطاها مسرعة، تسحب الكرسي لتجلس بجانبه كما اعتادت في الأيام الماضية، تقول بحرج ما إن اعتدل جالسًا : كم مره قلت لك لا تصفّر ؟ فضحتنا الناس وش بتقول ؟
ابتسم رافعًا حاجبه يقول بمزاجٍ رائق : لا تخافين أصفّر بالعربي مابيفهمون علي.

ضحكت بمودة،
أفٌّ أفْ،،
على من تضحك؟... بل ضحكت ضحكةً تغرق بالحب.. تلكم عضده بخفه : لا ياشيخ!!.. حاكم ترى من نزلنا ذا الفندق وحنا مانقعد إلا على ذا الطاولة صرت أدل مكانها بدون لا أشوف..
اتسعت ابتسامته، إلى أن ضحك : طيب وش اللي مزعلك الحين؟
الجادل ولا تعرف لما كل هذا الجدَل، لكن قلبها يميل له في هذه اللحظة لدرجة البكاء، تشعر بدفئه وعذوبة صوته وسكون ملامحة باكرًا هكذا : أحس الموجودين من يشوفونا ودهم يحذفونا بالصحون والسكاكين، كلهم رايقين وهاديين إلا حنا.
ليقول ولازالت الضحكة تعلق بصوته : وين معه هاديين وهم من صبح الله يدقون الكاسه بالكاسه؟ مستعجلين على الفقدَه من بدري جعله مايحدر.. ثم إني دافع مثل ماهم دافعين، محد أحسن من أحد..
هزّت رأسها بفقدان أمل تخفي بذلك ابتسامتها من أن تظهر، تخلع نقابها وتضعه بأناقه على الطاولة، تأخذ راحتها فالجميع خلفها.. ومن أمامها الحائط، وحاكم قد ملأ لها طبقًا يحوي جميع الأصناف الموجودة، بجانبه كأس عصير.
سألت بهدوء : كيفك من صداع أمس؟
بدأ يشرب من كوب قهوته الذي بدأ يبرد : لا الحمدلله راح..
ثم أردف بحقد : حسبي الله عليه من ولد زين مافقدت الذاكرة بعد شوتته.

كانت الجادل ما إن انتهى من جملته، ترتشف من كأس عصيرها، لتعيده بسرعة على الطاولة، تبتلع الموجود في فمها كي لا تشرق به قبل أن تغرق بضحكتها.. تحاول أن تسيطر على نبرتها المرتفعة لكنها تعجز عن ذلك كلما تذكرت ما حصل البارحة، عندما كانت تمشي بجانب حاكم في أحد الحدائق، يدًا بيد. في ملكوتِ الله إلى أن أتتهم كرةٌ أسرع من الضوء، مسرررعة، من حيث لا يحتسبون . لتصطدم بمنتصف وجهه وترتد لحيث أتت من قوّة الضربة.
بل أنه من قوة الاصطدام بدأ الدم يسيل من أنفه، لينحني للأمام صارخًا بألمٍ حقيقي واضعًا كفًا على وجهه.

حاولت أن تتحكم بضحكتها عندما وصلها صوته متحلطمًا : بلاها ماجات بنص وجهك، يمين بالله حسيت إن عيوني طلعت من قفى راسي ذيك الساعة.
لتقول بنبرة ضاحكة : بسم الله عليك.
مد بوزه بغيظ، يأخذ حبة زيتونٍ خضراء من صحنها يضعها في فمه، يقول ممتعضًا ما إن لمح محاولتها الفاشلة بأن تضغط على شفتها بأسنانها كي تمنع ارتعاشها بضحكةٍ مجلجلة : عيال ابليس.

تكركرت مجددًا، تلمح صعرورةً واضحةً تعتلي جبينه، لتمد يدها وتلامسها بأطراف أصابعها، بلطف : حشى بلكّه مهيب كورة ذا اللي صقعت فيك.
حاكم وشوكته هذه المرّه بدأت تلتقط أوراق الخس من صحنها، يقول بتبرم بعد أن ملأ فمه بها : برجع لأمي وراسي كله صعارير. أمس كورة وقبل أسبوع باب المحل يلقلق ولا شفته ، تقل أعمى.

ضحكت مجددًا وكأنها أدمنت الضحك أمامه ، تجد نفسها ترفع شوكتها تلتقط بعض مكعبات الجبنة البيضاء في صحنها وتمدها لفمه، تقول بمودة وهي تراه يأكلها منها بتلذذ : بتذبحني عمتي سارة..
ليقول مازحًا قبل أن يفتح فمه مجددًا مرحبًا بقطعةٍ أخرى : الله يعينك . أخذتيني من عندها وجبهتي بسم الله علي متواسيه على استقامة واحدة شَطب واحد مافيها، والحين وبأقل من اسبوعين كل جهه فيها صعرورة أكبر من الثانية.

مرّت ربع ساعة ما إن انتهى كلٌ منهما من تناول طعامه، ليجد حاكم نفسه يفتح هاتفه يقرأ معها عن وجهتهم اليوم، تميل برأسها على كتفة، قريبةً جدًا منه. بتلقائية اعتادتها في الأيام السابقة.

وما إن ارتدت نقابها ووقفت، حتى واحتضنت أصابعها أصابع يده التي كان يمدها لها، مبتسمًا يقربها منه، يخرج معها من بوابة الفندق، بتلقائيةٍ اعتادا عليها كذلك.

ابتسمت لهم المرأة الواقفة أمام سيارة سوداء، ببدلة سوداء رسمية بالغة الأناقة وابتسامة جميلة. تفتح الباب الخلفي ما إن رأت اقترابهما منها، تحييهما بمودة قبل أن تبتعد لتأخذ مكانها خلف مقود السيارة.

مسك حاكم الباب للجادل كي تدخل قبله، يبتسم بمكر ما إن رمقته بطرف عينها متذكرًا بذلك ما حصل ما إن وصلوا لأوكلاند، بعد أن أخذوا حقائبهم ليجدوا نفس المرأة تقف تحمل ورقةً كتب عليها اسمه واسمها، كما أخبره فهد إذ أنها تبع المكتب السياحي الذي رتب هذه السفرة من البداية وحتى النهاية.

عرّفت بنفسها تحت اسم "الآنسة مارغوت"، وأنها ستكون مرشدتهم السياحية في هذه الرحلة وسترافقهم لتضمن لهم قضاء وقت ممتع لا ينسى أبداً في نيوزلندا، بل أنها هي بنفسها من وضعت حقائبهم في صندوق السيارة السوداء بالغة الفخامة، وحتى بعد أن فتحت الباب الخلفي لهما قبل أن تجلس مكانها خلف مقود القيادة، لم تحصل إلا على النظرات الغير مستساغة من الجادل والتي انتبه لها حاكم منذ البداية، ليقول ضاحكًا يركب في مكانه : عيشي يابنت خالد،، عيشي.

كان يشعر بعدم ارتياحها، خصوصًا وأن مارغوت بدأت تسأل عن رحلتهم، و كيف كانت؟.... "أوه إنها المرة الأولى لكما هنا يارفاق؟!!!.. إذاً ماهو انطباعكم الأولي عن نيوزلندا؟ كيف وجدتموها حتى الآن؟"...
بل أنها من وقاحتها سألت هل كان يعرفها قبل أن يرتبط بها أم لا؟.... والجادل تفهم كل ذلك فلغتها الانجليزية ممتازة جدًا،،
لتقول بخفوت وغيظ ما إن سكتت الأخرى الثرثارة أخيراً : وفهد الله يسامحه مالقى إلا حرمه تسوق فينا؟
تبسم لها مستمتعًا بالمناظر التي يعبرونها : ليه وش فيها الحرمة؟
لتقول بتهكم : بصراحة ما أضمن سواقتها.
التقت عينيه بعينيها ما إن أدار رأسه لها، مستنكرًا نبرتها، ليقول متعمدًا إغاضتها ما إن رأى نظرتها التي تنطق غضبًا : بسم الله عليها سواقتها تكانه. تسوق أحسن مني.
وصله صوتها متحلطمًا : وتسريحة شعرها الأشقر حلوة، ولون عيونها حلو وغريب ويفتح النفس. صح؟

كان قد أستيقظ من النوم قبل هبوطهم بقليل، يوقظها معه... مما يعني أن كلاهما خرج من الطائرة بملامح متورمة بعد نوم متواصل يزيد عن الخمسة عشر ساعة كانت ستزيد لولا حركة الركاب حولهم.
ونومهِ لمدة خمسة عشر ساعة قد عمل عمايله به... عينيه المتسعة براحة، أجفانه المرتخيه بخدرٍ واضح، وحتى نبرة صوته المثقلة... وفكرة أنه يجلس ملاصقًأ لها هكذا، يبتسم ابتسامته الكسولة هذه وينظر لها بهذه النظرة المبتسمة وكأنه يعرف السبب الأساسي وراء كل هذا الاعتراض، جعلت نبضات قلبها تتسارع بشكلٍ مؤسف، بل أنها كانت ستتوقف تقريبًا عندما شعرت باقتراب وجهه، ثم به يقبّل مابين حاجبيها بخفّه، يقول بهدوء قبل أن يبتعد : لا تفتحين عيوني على أشياء ماشفتها... اهجدي!
وعلى كلمته بردت عظامها وهدأت فعلاً..

والآن وبعد أسبوع ونصف بات يعرف أن الجادل لا تطيقها، وكان متوقعًا هذه النبرة المتبرمة ما إن ركب بعدها، يجلس بجانبها ملصقًا كتفه بكتفها، معاودًا التقاط كفها وأصابعها بين كفه وأصابعه، تميل عليه هامسة : الحين ذا المكتب المخيس ما عندهم إلا ذا الشمحوطة تودينا وتجيبنا ؟
ضحك بخفوت : قالت لك أنا بكون مرافقتكم فترة تواجدكم هنا. ماتعودتي عليها؟ أنا صرت خايف لا صار وقت رجعتنا أفقدها والله.
زفرت بحرارة، تتصدد بنظرتها عن وجهه للجهة الأخرى كي لا تقتله، ليتكركر ضاحكًا باستمتاع يضرب كتفه بكتفها، يقول هامسًا بمكر : يامجنونة، ترى الشقر مايلفتون انتباهي أبد. ماهم نوعي المفضل.
رمقته بطرف عينها، بإزدراءٍ وتهكم وهي ترى ابتسامته العريضة جدًا، وكادت أن تجيبه لولا صوت مارغوت الناعم، ذو اللكنة الإنجليزية بحروفها المفخمّة الفاتنة، تسألهم إن كانو قد سمعوا قبلاً عن "سكاي تاور"، أطول برج في أوكلاند.

.
.

كانت سارة منتبهه بأن فهد لا يخرج من المنزل أبداً، من عمله للبيت، ومن البيت لعمله.. يتضح على وجهه الملل وضيقَة الخلق.
حتى أنه أجابها عندما سألته : حياتي متوقفه وحاكم مهوب موجود.. اكتشفت إني ما أعرف غيره.. مليت وزهقت لحالي. وعبدالله مسافر.
سارة بحنو : أنت ما أعطيت نفسك فرصة تعرف غيره.. اتصل على اللي معك بالدوام وأطلع معهم .
مط شفتيه بتبرم : علاقتي معهم رسمية يمه.
اتسعت ابتسامتها : أجل دام الوضع كذا، استعد من بكرة بنبدا جدولنا أنا وأنت.
ثم أردفت : بنسيّر نسعسع على محلات الأثاث وكم محل معها نجهز بيتك.. مابقى شي على عرسك،، من حسن حظك إنك خطبت والبنا خالص وشقتك قدها جاهزة مهوب حاكم ياعمري انلطع قرب السنة ينتظر.
.

ارتفع صوت الآذان من هاتف سارة الموجود في حقيبتها، معلنًا بذلك دخول وقت صلاة المغرب.. ليأخذ فهد منعطفًا آخر غير الذي كان يمشي فيه، يقول بعد نظرة سريعة لساعة سيارته : صار يأذن بدري!
سارة بهدوء : ايه حبيبي دخل الشتا، كان عندك قضاء من رمضان ولا بعَد قضيته، اقضه الحين.
ابتسم : لا الحمدلله.. صمته كامل.
رمقته بطرف عينها تقول ممازحة : أكيد يافهيدان؟ ماوزّك إبليس تشرب موية وتسوي نفسك ناسي؟
ضحك : عوذه من ابليس وأعوانه .

تبسمّت له وكأنه يرى فمها، تدير رأسها وتنظر لجانب وجهه تقول بتوْق : عاد رمضان السنة ذي بيكون غييير، بتكون معك غادة.. الله يبلغنا وحنا بصحة وعافية.
أخذ نفسًا عميقًا يحاول أن يخفي ابتسامةً من أن تظهر، لكنها ظهرت بوضوح : آمين.

أوقف سيارته في مواقف الكورنيش، يخرج منها يمشي بجوار والدته باتجاه المسجد الكبير الموجود في تلك المنطقة.
لتقول سارة قبل أن تتجه لمدخل النساء في الجهة الأخرى : فهد ترى بعد المغرب بنسيّر على غادة .

توقف في خطاه فجأة بعد أن سمع قولها ، ينظر ببهوتٍ لقفى أمه التي سارعت في خطاها بشكلٍ واضح بدى لها وكأنها تركض، تأخذ المنعطف قبل أن تختفي من أمامه.. ويقسم متأكدًا بأنها تغرق بضحكتها.. وأنّ الذين يعبرونه الآن يزدرون وقوفه أمام المسجد هكذا فاتحًا فاه كالأبله.

صلى خلف الإمام بالصف الثالث, وما إن انتهى حتى وسلّم خلفه يقفز خارجًا من المكان بسرعة قبل أن يزدحم المدخل بالمصلين .. يأخذ نعليه من على الأرض بيده ويبتعد حافيًا حيث مدخل النساء في الجهة الأخرى.. وما إن وصل، حتى و وقف بعيدًا عن المدخل قليلاً، يرتدي نعليه متصددًا عن الخارجات يعطيهن ظهره، مع ذلك لم يسلم من تذمرهن من وقوفه، ظنًا منهن بأنه لم يقف إلا ليعاكسهن أو يسترق النظر للموجودات بالداخل.

كان ينوي أن يبتعد درءًا لأي مفسده، لكن الذراع التي التفت حول خصره تشدّه بقوة ناحيتها، منعته..
التفت مذعورًا يتقدم خطوةً للأمام بتوجس.. يتوقع في خياله الكرتوني أنها إحدى العجائز الغاضبات وستُخرج كبده من فمه، لكن عينيه لم تقع إلا بعيني سارة الناعسة المبتسمة، تقول ضاحكةً على وجهه المرعوب : وش تسوي واقف هنا؟
أطلق زفيرًا لم يدرك بأنه كان يحبسه ، تهدأ معه نبضات قلبه وترتخي أكتافه المشدودة : روعتيني يمه، على بالي وحدة من ذا العِجز بتفلق راسي بعصاها..
ضحكت : بعذر لو صارت، واقف عند الباب وماتبي العجز يفلقون راسك؟
زم شفتيه بامتعاض : واقف انتظرك ولا أنتِ تدرين مالي بالحركات القرعى.... الجو زين تعالي بنمشي شوي.
قالها على عجل، يسحبها من معصمها غير آبهٍ بصوتها عندما قالت باعتراض : ماهو وقته الحين، بنتأخر على الناس.

لم يوقفه عن التقدم أكثر سوى السور الذي يفصلهم عن البحر، ليترك يدها أخيراً ويستند عليه، يقول بهدوء بعد أن أخذ نفسًا عميقًا، بابتسامة طفيفة يحاول التحكم بقوتها : الله يسامحك يمه. والله ولا أدري وش قلت بصلاتي.
ضحكت باستمتاع : كل ذا عشان جبنا سيرة الحب؟ لو أدري ما جبت الطاري.

أدار رأسه ينظر لها، يرتفع إحدى حاجبيه باستنكار من نبرة الخبث التي نطقت بها رغم ضحكتها، يرى التماع عينيها بوضوحٍ وشكلٍ آسر.. ولا يعلم لماذا شعر بشيءٍ طفيفٍ من الإحراج، فقال بتبرم : ليتك يمه... والله ماجيت على الصلاة.
سارة بمودة لازالت الضحكة واضحةً على صوتها : كم لكم متملكين؟ يمديكم تعودتوا على بعض خلاص وزيارة بعد ذا المدة بتكون شي عادي.
زم فهد شفتيه لازال ينظر لها، قبل أن يقول بتردد : يمه الصراحة أنا من تملكت عليها واعطيتيني رقمها ماقد كلمتها..
اتسعت عينيها بذهول حتى كادت أجفانها أن تخرج من حدود رأسها : ولا مره؟!!
مطّ شفتيه هذه المره، يحك بسبابته ماوراء أذنه، يقول بعدم رضا ونبرة خفيضة : ولا مرّه.
أخذت سارة ترفع سبابتها أمام عينيه، تشير بها بذات الذهول : ولا رسالة وحدة؟
ليرفع فهد بدوره سبابته، يشير بإبهامه على طرفها : ولا حتى ربع رسالة.
رمشت ببطئ، غير مصدقة : تقوله صادق؟
بَرق بعينيها القلق ما إن أومأ رأسه مجيبًا ، فقالت تسأل بحيرة : ليش؟

ارتخت ملامح وجهه بشكلٍ مؤسف.. يقول بتبرمٍ مُحرَج : مستحي..
عبست باستنكار وضح بعينيها ، تُرجع رأسها للخلف بصدمة، ولم تلبث إلا وانفجرت ضاحكةً من أذنيه التي اشتعلت كإشارة مرور غاضبة، تقربه منها وتحتضن رأسه دون أن تأبه بالمكان والموجودين فيه، ولا فرق الطول بينهما حتى : ياحبي لك يا فهد..
هتف فهد بتبرير، محاولاً تحرير رأسه من بين يديها : والله أدري انه شي يفشل.. بس يمه،،، أنا صدق مبتلش بعمري.

استقر كفها على عضده ما إن تحرر منها، تتأمله بحب، غارقةً بتقاسيم وجهه وملامحه، تتمنى أن تحتضنه في هذه اللحظة حتى تمحي نظرة التوتر هذه من عينيه ، تقول بضحكة مسلوبة الأنفاس : صدمتني بصراحة!!! كنت أظنك طول الفترة اللي فاتت تكلمها وغرقان بالعسل..
غمزت بعد أن انهت جملتها بقصدٍ واضح، وكأنها تتعمد إحراجه, فخرج من أعماق حنجرته صوتٌ بدى كصوت الفقمة ذات الشوارب عندما تعبّر عن جوعها : أي عسل يمه!! ، أنا وبدون مبالغة كنت قاعد أقشر بصل..
ضحكت من أعماق قلبها حتى طفرت الدموع من عينيها، مما جعله يتصدد عنها محرجًا، ينظر للبحر أمامه وانعكاس الأنوار والقمرا على سطحه.. يبتسم رغمًا عنه من صوت ضحكها المتواصل، وتتسارع نبضات قلبه بسعادة أثرًا لذلك..

حاولت سارة أن تسيطر على أنفاسها اللاهثه، ضحكتها كذلك..
تقف بجانبه كتفًا بكتفْ، وتستند بكوعيها على السور، تأخذ أنفاسًا باردةً براحة لم تشعر بمثلها قبلاً، مستمتعة جدًا بقرب فهد رغم سكوته، سعيدة جدًا لأجله تشعر بأنها ستبكي وتغرق سمك البحر بدموعها من فرط سعادتها.. هتفت بهدوء ومن خلفها ركض مجموعة من الأولاد الصغار بصوتِ ضحكٍ مرتفع خالط نبرتها الضاحكة : غريبة غادة ماقالت لي!
أمال فهد فمه ساخرًا : وش تبينها تقول لك يمه؟ ولدك غشيم؟
سارة : منت غشيم بسم الله عليك.. بس إنك حياوي..
فهد بعد صوت شخيرٍ هازئ : ماطاح إلا إنبطح.
ضحكت تقول بمودة : ياولدي عثمان بن عفان رضي الله عنه كان رجل يستحي ، تستحي منه الملائكة.... وسع صدرك وخذ الأمور بسهالة .

لفهم الصمت لدقائق، صمتٌ مريح جعل الابتسامة ترتسم على محيّا فهد بسرحان، وسارة التي كانت تتأمله انتبهت لها بعد أن انكمشت أطراف عينه بخطوطٍ حانية، داهمت حنايا قلبها حتى قيدته بحبٍ لا حدود له، لو وزعته على أهل الأرض جميعًا لعاش الجميع بسلام إلى يوم يبعثون. فقالت بنبرة مثقلة بالعبرة تطوق عضده بيديها، تقول بتنهيدة : وش تفكر فيه؟
ابتسم يستفيق من سرحانه ما إن شعر بثقلٍ على عضده ، يميل برأسه حتى أسنده على أعلى رأسها، يقول بنبرة لطيفة باسمة : أفكر باللي ماعنده سارة بنت عزام، لا ضاقت به الدنيا وين يروح؟ وش يسوي؟ كيف بيخف عليه همّه لين ماعاد يشوفه شي؟....

شدّت على شفتيها ما إن بدأ فكها بالارتعاش، ينبئ عن موجة بكاء هستيري إن بدأت بها لن تتوقف أبدًا ، تحاول الحفاظ على انتظام أنفاسها قبل أن تهيج بها ، تقول مازحةً بعبرة واضحة : اضحك علي وأنا بسوي نفسي مصدقة.

قالتها وابتعدت برأسها عن عضده، ليحرك رأسه من فوقه,, وتتسع ابتسامته ما إن أحسّ بثقل شفتيها على كتفه، تقبله بقبلةٍ طالت في محاولة فاشلة منها بأن تسيطر على المليون شعور الذي داهمها بعد سوط المشاعر العذبة الذي ضرب قلبها به، ليتسقيم بوقفته بعد أن كان يميل عليها، صامتًا لم يستطع أن ينطق بحرف ما إن شعر بقصر أنفاسها وتسارعها وكأنها تمنع شهقةً عنيفةً من أن تخرج وتشق البحر أمامهم لنصفين.

أغمضت سارة عينيها، تشعر بالدمع يتناثر من على سطحها، مبللاً أهدابها.. تحاول التقاط أنفاسها شادةً على عضده، لا تعرف ماذا تقول، لا توجد كلمة قادرة على إيصال ربع الذي تشعر به في هذه اللحظة، أهل الأرض جميعًا في كفه، وفهد لوحده في كفّةٍ أخرى ترجح دون مقارنة.

أخذ فهد نفسًا عميقًا محمّلاً برائحة البحر المالحة، ليقول بعده بابتسامة هادئة ونبرة داعبت أوتار قلب سارة، ينظر للبحر أمامه غير قادر على وضع عينيه بعينيها : تدرين يمه.... أنا ما عمري فكّرت بحياتي واللي صار لي كله إلا وشفتك قدامي.. ماقد مر علي موقف إلا ولقيتك معي، كتفك بكتفي ماعمرك تركتي يدي ثانية وحدة، وماعمرك لهيتي عني حتى بعز انشغالك، إلّا تركتي الكل وراك وهم محتاجينك وبقيتي معي.....

أخذ نفسًا ثقيلاً هذه المره يدفع به غصّه، يفتح فمه ويغلقه لا يعرف كيف يصيغ جملته، إلى أن قال بتردد وخفوت بعد ثانية صمت : أنا للحين ماني مصدق إني عشت كل ذا وتحملته، وإني للحين واقف على رجليني يمه... والله إني ساعات احسه حلم وبصحى منه بأي وقت، وأبي أصحى منه اليوم قبل بكرة عشان يرجع كل شي مثل ماكان.... احدعش سنة مرّت علي يمه وللحين أحس إني تايه، للحين ضايع وفاقد نفسي،، منيب عارف أنا وين، ومين..... خايف منيب عارف هذي هي حياتي صدق، ولا فيه شي أسوأ من اللي صار وبيصير؟

ابتلع ريقًا بصعوبة، يحاول التحكم بنبرة صوته قبل أن يبتسم باتساع، يلتفت برأسه ناحيتها ليرى عينيها تهطل دمعًا كالمطر، وكم آلمته تلك النظرة الموجوعة رغم ابتسامة نواعسها له وكأنها تواسيه.. ندم على قوله فإن كان الاعتراف بهذا الكم الموجع من الأحاسيس يقتله مرّه، فهو بكل تأكيد يقتل منهم حوله ألف مره : بس كل ذا يختفي من أشوفك،، أحس معك بالأمان يمه وكل ما حسيت بخوف غمضت عيوني وتخيلتك، نظرة وحدة من عيونك تخلي كل أيامي تعدّي وتمر، وكل قلق وخوف داخلي يتلاشى.. والله إني أحبك يمه وإلى آخر يوم بعمري بقعد ممنون لك ولا أدري كيف أجازيك.

غصت سارة بعبرة جديدة وهي ترى التماع عينيه، تقول بنبرةٍ مثقلة وشجنٍ يملأ جوانحها : أنا ماسويت لك معروف عشان تجازيني يافهد. أنا سندت قطعة من قلبي وذا أقل شي ممكن تسويه أم لولدها، كيف عاد لا صار أقرب واحد لها ولا تشوف حياتها إلا به؟.. أنا أحبك أنت وأخوانك ومستعدة أضحي بكل شي بس أشوفكم قدامي بخير، وذا شي مافيه شك أبد.. كل واحد فيكم ماخذ من قلبي قطعة لو طلبها، روحي رخصت له، لكن أنت تزود عنهم كلهم... مساحتك أكبر منهم كلهم... أنت ماخذ قلبي كله يا فهد... أخذته حتى عن أبوك،،، بس لا تعلم أحد.

قالتها تضحك وتغمز بكلتا عينيها، ضحكةً تغرق بالعبرة تشعر بقلبها يتصّعد للسماء من بعد حديثه هذا، تسمع ضحكته بعد محاولتها الفاشلة بتغيير جوّه لشيءٍ أكثر مرَح.
تنوح في داخلها وهي تراه يبتسم لها، قبل أن يتصدد بعينيه مستندًا على السور بذراعيه، لازالت ترى أطراف فمه المرفوعة بابتسامة، أطراف عينيه كذلك،، وكم تتمنى أن تكسر ضلعاً من ضلوعها وتجعل منه سيفًا له، تكسر باقي الضلوع وتجعلها درعًا له كي لا يصله شيء من هموم الدنيا ومشاكلها..

قربته منها تلف يديها حول عضده، فهد يفوقها طولاً وحقيقة كهذه تجعل قلبها يذوب لينًا ورأفه، فهد أصبح رجلاً يقف على شاربه الطير، حفل زفافة بعد أسابيع قليلة و سيدخل الثلاثين من عمره بعد أشهر.. شيءٌ خيالي مستحيل من كان يظن بأنه سيحدث لأسرتها الصغيرة.

أخذت أنفاسًا عميقة، وما إن استطاعت أن تسيطر على تدافع العبرة في حلقها بعد ثواني ليست قليلة، ابتعدت عنه تقول بنفسٍ عميق : مشينا حبيبي،، ابطينا على الناس.
فهد بابتسامة معتذرة : بحطك وامشي يمه، ولا خلصتي دقي علي.
لتقول باعتراض : معصي... أنا قلت لفاطمة بجيكم أنا وفهد.. بتنزل معي وتقعد مع البنت وأنت تسبّح وتهلل يا ولد سارة.
زفر : يمه نقعد أنا وياها وش نقول؟ مافيه بيننا سواليف أو أي مواضيع تنفتح.
سارة : ماعليه،، غادة بتسولف عليك وأنت اسمع.
تكرمشت ملامح وجهه بيأس : يعني يقالك بتشجّع الحين؟
ضحكت : أنا أبي أفهم بس،، أنت ليه شايل الدنيا على راسك ومكبر الموضوع ومستثقله؟ غادة بسم الله عليها تهبل وشخصيتها حلوة ولا أنت حاس معها لا بنفسك ولا بوقتك.. صدقني منت نادم والزيارة ذي بتعلق قلبك وتسحب مليون زيارة بعدها، استغل الوضع دام عندك فرصة تقعد معها وتتعرف عليها قبل العرس..
ثم أردفت بتبرم : والله لو حاكم موجود كان انجلط.
.

كان عبوس وجه غادة واضحًا يراه الأعمى، تمد بوزها أشباراً تتأمل ثلاثة قطع رمتها أمامها على السرير بحيره، ترفع خصلاً من شعرها الذي انتهت من تسريحة للتو تستنشق رائحته، ثم تتكرمش ملامحها باضطراب ما إن وصلتها رائحته، تترك كل شيءٍ على حاله أمامها وتتجه لتسريحتها، ترفع عطرًا خاصًا بالشعر قبل أن تبدأ رشه بسخاء على كافة شعرها : الله يسامحك يمه..

قالتها بحنقٍ واضح، فوالدتها قبل ساعة ونصف فقط ابلغتها بزيارة فهد وسارة .
وقتها كانت تجلس بصالة المنزل، تغطي رأسها بكيس سوبرماركت أبيض بكتابة حمراء بعد أن وضعت حناء وزيت على شعرها.. تتابع فيلمًا وتقضم حبات زيتون سوداء اللون، حبة تتبعها حبة ببالٍ مرتاح. وأكبر همومها أن ينتهي الفيلم قبل أن تستوي بيضة على رأسها من الحرارة التي بدأت تنبعث منه فكما يبدو أنها سخنت الزيت أكثر من اللازم.. كان هذا إلى أن أتاها صوت والدتها من العدم يبدد راحة بالها، تقول وكأنها تسألها ماذا تريد على العشاء : غادة ترى فهد وسارة بيجون بعد المغرب.
أدارت رأسها للخلف حيث تقف والدتها بسرعة جنونية : وشو؟؟.... سلامات وكالة من غير بواب؟. اعتذري يمه.
فاطمة باندفاع : ليه إن شاءالله!!
ابتلعت ريقها تشعر بجفاف حلقها المفاجئ : يمه مابقى على المغرب شي وأنا مثل ما أنتِ شايفة مغرقه شعري حنّا وزيت ولاا مو أي زيت!! جوز هند يمه يعني ليفل الخياس مليون.
لتقول فاطمة بصرامة وحزم تنهي بذلك النقاش : اتركي عنك التلكلك، قومي تسبحي واغسلي شعرك زين وبخريه، لا جا الرجال بتنزلين ورجلك فوق رقبتك.
.

أوقف فهد سيارته أمام منزل غادة، يقول متفحصًا المكان : سيارة سواقهم مهيب فيه، يعني أبوها مهوب موجود يمه.
لتقول سارة بانشغال تمسك مرآةً صغيرةً بيدها و تضع بعض الماسكرا على رموش عينيها، توسع فتحت نقابها قليلاً كي لا تعيقها في أداء مهمتها السامية : يعني؟
أسند فهد جانب وجهه على المقود، ينحني بظهره قليلاً يتابع حركة يديها بتركيز قبل أن يقول بيأس : يعني ماهو لازم أنزل، بيجي الرجال ويشوفني قاعد مع بنته من وراه، يرضيك يمه تصير ذا الحركة بريم؟
رمقته بطرف عينها، وتجاهلته.. تعيد ماسكرتها في حقيبتها وتأخذ عوضًا عنها روج بدأت تمده على شفتيها ببراعة دون أن تحتاج لمرآةٍ حتى..
زم فهد شفتيه قبل أن يقول بتبرم : طيب دام إنك كنتي مخططة لكل شي كان علمتيني من بدري على الأقل..
سارة بابتسامة وضحت بصوتها : وإن دريت بدري وش بيفرق معك؟
رفع رأسه يزفر : أقل شي البس لي شي يواجه يمه. أنا قلت محل أثاث وبنرجع مادريت انك تخططين لشي أبعد.

نظرت لما يرتدي، تتفحصة بحب.. ثوب شتوي زيتي اللون، لم ترى شيئًا أجمل منه عليه، وأيدتها نبرتها عندما قالت : طالع وش زينك بسم الله عليك.. أكثر من كذا زين بتطب غادة ساكتة..
تبّسم ما إن ضحكت، يعاود التحلطم بعد أن فتح الحامل أعلى رأسه، لتضيء تقاسيم وجهه بالاضاءة الصفراء الصغيرة بجانب المرآه، يمشط شعره بأصابع يده : أقل شي أجيب شماغي معي.

لم تسمع سارة ماقاله متابعًا تذمره وهي تتأمله بعينين تتلامع، تبتسم ببلاهه والإضاءة الصفراء جعلت من خطوط عينيه الحانية ممراتٍ من نور. ولم تتوعى إلا عندما استدار برأسه لها، لترمش أكثر من مره حتى استعادت الرؤيا عالية الوضوح، تراه يعيد خصل شعره الناعمة كلها للخلف، إلا خصلتين برمهما باصبعه لتستريحان بالتواءٍ ناعم على جبينه، يقول مبتسمًا ابتسامةً مشاكسة : وش رايك؟
سارة بضحكة مودة خافته : ضف ذا القذلتين لا ينتفها لك أبوها.
أدار جسده للمقعد الخلفي، يتحلطم بينه وبين نفسه يبحث في كومة الأغراض المتراكمة تحت نظرات سارة المترقبة، إلى أن سحب غترةً بيضاء وضعها في حضنه قبل أن يواصل البحث عن عقاله..

تبدلت نظرة سارة لعدم تصديق ما إن رأته يضعها على رأسه، ثم يثبتها بعقاله، لتسحبها من أعلى رأسه تقول بصرامة : والله ماتدخل بها.
وتابعت دون أن تدع له مجالاً للرد : فيها مليون سفطة تقل عالكها تيس...

حذفتها من حيث أتى بها، تتبعها بعقاله، لازالت تقول وهي تخرج من حقيبتها مشط شعر صغير : أنا أدري بك تضيع الوقت عشان ماتدخل. بس على مِن يافهيد....
بدأت تمشط شعره بقوة، تمسك بذقنه بأصابعها كالكلبشة ما إن حاول أن يُرجع رأسه للخلف متوجعًا، ليقول ضاحكًا : بشويش حرثتي فروة راسي يمه.
سارة بابتسامة حاولت تغليقها بنبرة صارمة : عندك كريم شعر؟
اتسعت عينيه بذهول، يبعد يدها ناجحًا بتحرير رأسه هذه المره : تبيني أدخل وشعري ملبّد؟ معصي....
سارة : أجل اخلص علي، صار لنا ساعة واقفين قدام الباب أشكالنا غلط .
عاد ينظر للمرآه، يزفر بتوتر بالغ اتضح عليه، فاقدًا الأمل بعد أن كشفت خطته..
يرتب خصل شعره بعد تمشيطها العنيف، يخرج عطراً من الصندوق بينه وبينها ويتعطر به بأنفاسٍ اشتدت فجأة.. قبل أن يغلق سيارته ويفتح بابه..

.

شعرت غادة بقلبها يهوي واقعًا ما إن سمعت صوت الجرس، ثم بألمٍ يعتصر معدتها قبل أن تشعر ببرودة قارصة تنتشر فيها.. هل انتقلت بطنها لرحمة اللهِ أم ماذا؟
ابتلعت ريقها أكثر من مره، لازالت تقف أمام المرآه تمشط شعرها للمرة الألف حتى باتت خصله متشعثه..
تلتفت للباب بسرعة ما إن فُتح وظهرت لها رهف، تتسع عينيها بذهول : مابعد لبستي؟؟ فهد وأمه تحت.
تقلبت ملامحها وكأنها ستبكي، تقول بانفعال مرتجف : وإذا تحت يعني؟؟ ينتظرون الله لا يهينهم ولا بسلامتهم.
رفعت رهف يديها : طيب بسم الله أكلتيني وش قلت أنا؟
أخذت نفسًا عميقًا تحاول أن تهدَأ من توترها، تغمض عينيها تعيد الكرّة أكثر من مرّه، وما إن شعرت بأنها سيطرت على توترها -سيطرت مين يا ماما!!!- فتحتها، لتجد رهف تنظر لها بقلق وكأن عفريتًا يقف خلفها،، عقدت حاجبيها تقول بهدوء : أنا جاهزة بس باقي البس، وش رايك احترت.
قالتها تومئ برأسها ناحية السرير، تقول سؤالها بأمر جعل رهف تسير بصمت باتجاه القطع الثلاثة التي فردتها بعناية، و دون أن تعلق فكما يبدو غادة تعيش انهياراً حقيقياً الآن.

رفعت بنطالاً واسعًا بيجي اللون، كانت غادة قد وضعت فوقه كنزة شتوية باللون الكريمي، وبياقة عالية وأكمامٍ تنتفخ من أعلى الكتف وحتى المعصم : البسي ذا وبدون تفكير..
شدت غادة شفتيها تزفر بعد أن أعطته نظرة تأمل سريعة، قبل أن تقترب من رهف : زين... طيب ، بالله شمّي شعري..
أبعدت رهف رأسها بسرعة بعد أن غرسته بين خصل شعر أختها، تكرمش أنفها : ريحته باونتي وحنّه...
انهارت ملامح غادة بسرعة : ياويلي مابقى شي إلا ورشيته وللحين الريحة ماراحت ،، تكفين رهف شبّي على الفحم ببخره.
لتهتف رهف بعد أن أخذت طريقها ناحية الباب بسرعة : الله يقلع شرّك بتطردين الرجّال من المجلس..

.

ابتلع فهد ريقة بتوتر وترقب، التوتر يطغى على الترقب بكثير لكنه وضع الشعور الأخير فقط كي لا يبدو هزيلاً أمام نفسه. يسمع رنّة كعبها المرتفعة على الأرض الرخامية لتغطي صوت خطواتها الحديث الجانبي بين فاطمة و والدته.. معلنةً بذلك عن اقترابها.

عاد يبتلع ريقه كطالبٍ في الثامنة من عمره ينتظر دوره لإلقاء قصيدة أمام طلاب المدرسة. يسمع طرقها الهادئ على باب المجلس المفتوح على مصراعيه ، لترتفع عينيه قليلاً بتوجس ناحيته ولكنه لم يجدها فعقد حاجبيه..
فاطمة بضحكة : تعالي ياغادة مابه غريب..

كانت غادة تلتصق بالحائط بجانب الباب، كالوحةٍ على أحد الجدران، تمد ذراعها تطرق الباب قبل أن تسحبها بسرعة،
طارت عينيها بذهول ما إن وصلها صوت والدتها تدعوها للدخول وكأن الموضوع عادي جدًا.. لذا عادت تطرقه تقول بحزم : يمه تعالي شوي.
ضحكت فاطمة تشعر بخف روحها هذه الليلة، متأكدة من أن لرؤية فهد وسارة يدٌ في ذلك، تقول بعد أن شدت خطاها للخارج : السحَى الزايد ساعات ماينبغى..

سحبتها غادة من ذراعها ما إن تعدت إطار الباب، تسحبها معها بعيدًا بخطى سريعة أقرب للركض دون أن تدع لها مجالاً للاستيعاب. ودون أن تضع بالاعتبار الكعب الذي ترتديه، والذي وصل صوته عاليًا مرتفعًا كخطوات جري الخيول.. مما جعل فهد يضحك كالأبله ما إن وصله الصوت، ينظر لأمه بعينين متسعة وذهول لتشاركه الأخرى الضحك.

.

كادت فاطمة أن تضرب ابنتها بشحاطتها عندما تكتفت باعتراض كالطفل الصغير، بعد أن سألت عن والدها لتجيبها بأنه لازال في المسجد وسيبقى فيه إلى أن تنتهي صلاة العشاء.

وما إن رأى فهد دخولها عليه تسحبها والدتها بشكلٍ واضح كالطفل ذاته، حاول أن يمنع رغبةً ملحةً من أن يبتسم، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه عندما وصله صوتها تلقي السلام بهدوء، تشدو به بنبرة خافته سمعها بوضوح.. ثم يسمع رد والدته السلام عليها، على عكس لسانه الذي أحس وكأنه رُبط، تتعلق عينيه بها يتابع اقترابها الأنيق الواثق منه، ليس وكأنها كادت تحفر الأرض قبل قليل بمسمار كعبها، ترتدي زيًّا شتوياً جعله يتمنى لو تحتضنه علها تُدفئ عظامه التي ضربتها موجة برد جعلت منها ترتعش بشكلٍ يكسر الخاطر، لاشيء على وجهها سوى روج أحمر وماسكرا كثيفة، بحاجبين طبيعين مشطتهما للأعلى بتقوسٍ بسيط دون أن ترسمها حتى، تترك أطراف شعرها تتموج بنعومة على أكتافها بعد أن جمعت طرفيه للخلف بمشبك بشكلٍ متراخي، تفرق مقدمته من المنتصف وتترك بعض الخصلات تتموج بنعومة على جانبي وجهها، تتدلى من اذنيها اقراط دائرية ذهبية اللون.
إطلالة بسيطة لكنها سلبت أنفاس فهد العالقة في صدره، رغم الشعور الموجع بأنه يقف أمامها كرجلٍ بشارب وعوارض ، إلا أنه يعرف أي درجات الأحمر المطفي هي درجة روجها، أو كم احتاجت من طبقة ماسكرا كي تصبح أهدابها كثيفةً مرصوصةً بحزمٍ هكذا.

وقف بهدوءٍ وسكينة تعكس الأعاصير التي هبّت على سفينته ما إن دخلت.. تقف أمامه دون أن تنظر لعينيه، تمد يدها ليصافحها.. يشد على كفها بخفّة يقربها منه، يلصق خده بخدها، يهمس سلامه أخيرًا ،، بخفوت : وعليكْ السلام ورحمة الله.

يستنشق عطرها ورائحة شعرها الغريبة التي هبّت عليه ما إن سلم على خدها الآخر.. ثم يبتسم كالمغيّب عن الوعي ما إن تركت يده، تبتعد عنه.. لوالدته تبادلها الاحضان بعناقٍ قوي وضحكة خافته بعد شيءٍ قالته أمه لها ولم يسمعه.

مضت دقائق طويلة لم يحسبها فهد، صامتًا فيها يستمع لحديث أمه وأمها بمواضيع لا تهمه... يتبادل نظرات خاطفة للجالسة بصمت بجانب والدتها ، تلتصق بها كظلها. ينجح في تأملها براحته مره، ويفشل بأخرى عندما تقع عيناه بعينيها لتنزلها بسرعة وخجل، سبقها هو بمعضمها.
لا يشارك في الحديث إلا إن أشركته فاطمة، ولا تتحدث هي إلا مع والدته التي تجبرها على الحديث بسؤالها عن أشياء لا هدف منها سوى سماع صوتها.. ولا أحاديث بينهما ولا حتى سؤال عن الحال والأحوال رغم نظرات والدته التي تأمره بذلك بين وقتٍ وآخر.

فاطمة: غادة قومي الله يرضى عليك جيبي الشاهي أكيد جهز.
فزت وكأنها لم تصدق ، تقول خارجةً من المجلس بسرعة : أبشري.
دخلت المطبخ تركض بخطى سريعة، لتجد رهف تجلس على الطاولة الدائرية أمامها صينية الشاي وبعض البيالات، لترتفع عينيها من شاشة هاتفها تقول بحماس : هاه بشري كيف الاوضاع؟
هفّت على وجهها بكفها، تستند على الطاولة بجسدها : بموت.
ضحكت : عن وش سولفتوا؟
غادة : ولا شي.... الله وكيلك نص ساعة انتطالع بالعيون..
رهف باستنكار ضاحك : افا، نص ساعة ولا طلع معكم شي!!... شدعوة وش ذا الطفش؟ تكلموا عن الاحتباس الحراري على الأقل.
غادة بأنفاسٍ مقطوعة : والله إحراج ومس سارة قاعدة.
كشّت عليها : أجل اللسان والهذرة اللي ما تخلص علينا حنا بس!!.... خذي الشاهي بس مابقى شي ويأذن العشا.

أخذت صينية الشاي واتجهت للمجلس بأكتافٍ مشدودة بثقة، وخطى ثابته رغم الارتعاش الواضح للصينية وماعليها، ترسم ابتسامةً واسعةً على وجهها وتأخذ لفّة مدخل المجلس باندفاع وخطوة واحدة كي لا تتراجع، وما إن دخلته وأصبحت في منتصفه حتى وتلاشت الابتسامة، تفتح فمها تقول بصدمة عندما لم ترى غير فهد في مكانه : سلامات!!!. وين راحوا الحريم؟
تبسم لها بتودد : انسحاب تكتيكي..
تسارعت أنفاسها بشكلٍ ملحوظ، لا تعرف هل تتقدم أم تخرج هاربة.. لكنها قررت في النهاية أن تتصرف كأنثى بالغة عاقلة.. تتقدم تتمايل بمشيتها ناحية الطاولة بمنتصف المجلس، تسكب قليلاً من الشاي في بيالته قبل أن ترفعها تتقدم ناحيته بخطواتٍ حذرةٍ مدروسة، تعيد الابتسامة : قصدك هروب كبير..
ضحك بخفوت، ولولا ستر الله لوقعت هي وبيالتها وثقتها عند أقدامه..
أخذ بيالته لازال يضحك، يراها تبتعد ، تجلس على الأريكة الأخرى التي كانت تجلس عليها والدته.. بعيدةً عنه وقريبةً منه في آن..
ليقول بارتباك واضح : ما أخذتي شاهي!!! ههه..

تمنى لو أن يصفع نفسه فليس هذا ماكان ينوي قوله ولا هذا مادرّب نفسه على قوله في الدقائق القليلة التي اختفت فيها..
ابتسمت له غادة رغمًا عنها، عندما رفع الفنجان لفمه بسرعة وكأنه يخشى بأن يتفوه بكلمة أخرى : مالي بالشاهي، أحب القهوة.
فهد وتساؤل أحمق آخر نزل الساحة ببسالة : القهوة العربية؟
قوست فمها بتفكير : القهوة العربية مو مره واشربها على حسب المزاج، لكني مدمنة قهوة قهوة، كوفي.
تكرمش أنفه تلقائيًا : ما أدانيها...
غادة بضحكة : افاا..
عاد يرتشف من بيالته، يحاول أن يبتلع الشاي شديد المرارة بصعوبة، فكما يبدو غادة نست أن تضع سكرًا فيه. ليقول بعد أن نجح : أنا عكسك عاد، مدمن شاهي وماتجيب راسي إلا قهوتنا.
غادة بحاجب مرفوع وعفوية لم تحسب حسابها : وش مود الشيبان اللي عليك ذا!!
ثم أردفت بسرعة وحرج ما إن ضحك رافعًا حاجبيه بدهشة: أنا أخليك تدمن الكوفي بأنواعه وبخطوات بسيطة ماعليك.
فهد ولازالت الضحكة بصوته : طلعتي راعية كيف أجل!!
غادة بابتسامة : الله الله..

عم الصمت بعد بسمتها، صمتٌ لا طعم له ولا لون، مما جعل غادة تريد أن تبكي، وفهد كذلك..
تلهى فهد ببيالته غير قادر على شرب رشفه إضافية وإلا ستقع أسنانه من قوة مرارة مافيها، وتمنت غادة لو سكبت لها بيالة تتلهى بها هي الأخرى، عوضًا عن تحريك دبلتها وخاتم آخر بجانبها حتى جرحّت أصابعها.

أخذ فهد نفسًا عميقًا سمعته غادة، لترفع عينيها تنظر له تسترق النظر برأسٍ لازالت تخفضه، لتلتقي نظرتها الوجله الخجله بنظرته التي لانت ما إن التقت النظرتين، يبتسم لها، يقول بنبرة هادئة تخالف نبرته الحادة من فرط توتره وارتباكه : وش أخبارك غادة؟
"حلو، مقدمة حلوة،، أبدا من جديد وعلى خفيف ياوحش".

عقدت حاجبيها باستنكار، تجيب : الحمدلله..؟
فهد : وكيف الدوام؟
" ممتاز يا فهد،، ذي البداية اللي محد يبيها...."
غادة بعد ثانية صمت لا تعلم لماذا بدأ بالمقلوب هكذا؟ فإن كانت فاتتهم البداية فلا داعي للعودة لها، : الحمدلله، ممتع نوعًا ما.
فهد بذات النبرة الهادئة، نفس الوتيرة : كان رغبتك ؟
ابتلع ريقه يبتسم بتورطٍ في وجهها، يوبخ نفسه بينه وبين نفسه التي تلطم داخله " يازينك وأنت منطم،، وش ذا السالفة اللي زي وجهك!!! "
لكن غادة قالت ببساطة وابتسامة : لا والله، بس إنه كان بديل ممتاز لوظيفة بمكان مختلط.. والتدريس الجامعي أفضل مليون مره من تدريس بنات المتوسط وطقتهم..
ضحك : ليه عاد.
تكرمش أنفها و كأنها ترى أشباحًا يطوفون حولها : ما أتحمل البزارين.
ابتسم بهدوء : .. أنا عكسك، أحب الأطفال.. خصوصًا المواليد.
ثم أردف بحنين بالغ : حنا آخر مولود بعايلتنا كان سلمان ولد أخوي، وسلمان الحين عمره ثلاث سنوات،، نحتاج نجدد اللستة بأطفال جدد.
اتسعت عينيها بشكلٍ درامي مضحك : المواليد فوق السنة أعدائي.. كائنات مستفزة خصوصًا لا بدوا يمشون.. يتبعونك ويطلعون لك بكل مكان..
فهد بمودة : هذي النقطة الأولى اللي نختلف فيها للأسف.
لتقول غادة بابتسامة مشاكسة وحاجب مرفوع بتحدي : ما أظن بتكون الأخيرة، بس نتأقلم.. عوافي!

ضحك بخفوت، يهز رأسه بتأييد قبل أن يقول : محنية شعرك؟
انهارت ملامح وجهها ببهوتٍ واضح، تسأل ببلاهه : شلون دريت؟
عاد يضحك لا يعرف إلى متى سيستمر على هذه الحال يضحك بين كل كلمة وأخرى : هبّت علي ريحته يوم أقبلتي تسلمين علي..
مسكت خصلاً من شعرها الطويل.. لتهتف بعفوية والحرارة تكاد تشوي وجنتيها من الخجل : هذا وأنا مبخرته وماتركت شي إلا وحطيته عشان تروح الريحة المخيسة!.
بلع ريقه وهو يتأملها ترفع شعرها لأنفها تستنشقه.. وكم تمنى لحظتها أن يكون مكان كفهّا الذي يحتضن شعرها* : بالعكس، تفتح النفس ريحته..
ثم أردف بنبرة أكثر اتزانًا هذه المره : مير مادريت إنك تحبين الحنّه، أمي وريم مالهم فيها ولا يواطنونها أبد.. لو أدري كان جبت لك من اللي جبته يوم رحت السودان.
ارتفع حاجبيها بتساؤل : أنت رحت السودان!! عاد ما أحسها سياحية أبد.
ضحك : رحلة قنص.
غادة : قنص؟!
وكانت ستكمل "عاد شكلك مايعطي انك راعي قنص!!" . إلا أن
فهد سبقها قائلاً بهدوء : رايح خَوي ولا مالي فيه، كنت بينهم مثل بيت الوقف الله وكيلك، مامنّي فايدة أبد....
هزت رأسها بتفهم : اهااا..

لم تدرك بأنها لم تنزل عينيها من عليه إلا عندما ابتسم لها، لتجد أن كل عضلة مشدودة في جسدها تلين وترتخي.. كانت ابتسامته كالسحر، شيءٌ لم ترى مثله قبلاً تشعر وكأن مايبتسم لها هو قلبه، ترى انبساط أوتاره من المليون ثنيَه التي اشتدت بها أطراف عينيه. تشع منها طمأنينة رهيبة.

ابتسمت له، شيءٌ لا إرادي أبدًا ولا تلوم نفسها عليه، اللطف الذي تشعر به ينبعث منه جعلها تتمنى أن تغرس أصابع يدها في شعره الكثيف. لم ترى أأنق منه... ولم تدرك بأن اللون الزيتي جميلٌ لهذه الدرجة على أصحاب البشرة الفاتحة،، ولا بأن تصفيفة الشعر هذه بها هذا الكم الهائل من الرجولية، مخففًا جوانب شعره، تاركًا أعلى رأسه قصيرًا نسبيًا بأطوالٍ متفاوتة، ويعيد خُصلة للخلف بطريقة عشوائية.. بل أنها متأكدة بأن حلاقة شعرٍ كهذه لن تبدو أفضل على أي شخصٍ آخر غير فهد،،، لهذا الحد وأكثر..

كانت ابتسامتها كالشمس الذي أنار عتمة أيامه، مشعةً رغم هدوئها، وفي منتصف خديها برز هلالين سرقا أنفاسه.. لم يدرك بأن ابتسامة الشخص قادرة على ترجمة كل هذا اللطف فيه، قادرة على وصف غادة اللطيفة ذات العينين الواسعة.
وعلى الرغم من اشتعال أعلى وجنتيها بلونٍ زهريٍ طفيف، إلا أنها لازالت تنظر له نظرةً حانيةً رقيقة، وكأنها ترى شيئًا فيه لا يراه أحدٌ غيرها.

كان هذا إلى أن تبدلت نظرتها تمامًا لشيءٍ مُبهم، تنهار ملامح وجهها وتتلاشى ابتسامتها المشدودة بأقل من ثانية، اعتدل فهد جالسًا بقلق، يلحظ شحوب وجهها ومحاولتها الواضحة بأن تفتح فمها كي تقول شيئًا لكنه لا يخرج..
وضع بيالته جانبًا، ينادي بقلق ونبضات قلبه تسارعت بشكلٍ موجع : غادة!

لكن لم تصدر من غادة سوى صرخة قوية ما إن تشنجت العضلات المحيطة بأحبالها الصوتية، معلنةً بذلك عن بداية نوبة صرعٍ غير مرحبٍ بها أبدًا في هذا الوقت بالذات.. ليس الآن، ليس أمام فهد المرتعب.. ينظر لها بهلعٍ وملامح فزعه..
وكان هذا آخر ما رأته قبل أن تسري كهرباءٌ بسرعة جنونية، لا طاقة لديها ولا قدرة لتحملها، تنفض كل عضلةٍ فيها لترديها واقعةً على الأرض كالقتيلة.

دخلت فاطمة المجلس تركض بسرعة، تلحقها سارة بهلع بعد الصرخة المرعبة التي وصلتهن في مجلس النساء البعيد نسبيًا عن المجلس. وما إن دخلتا المجلس حتى وهالهُن المنظر..
جسد غادة واقعًا على الأرض بطريقة توحي بأنها انزلقت من على الأريكة التي كانت تجلس عليها.
فهد ينظر لها بفمٍ مفتوح و وجهٍ شاحب وملامح مفزوعه وكأنه رأى شبحًا خطف روحه وهرب بها..
يشعر بأطرافه تتيبس وهو يرى انتفاضها وكأن ماسًا كهربائًيا يعبر جسدها، تصرخ وتئن بشكلٍ مفزع.. دون أن يتحرك أو أن يحمي رأسها من الاصطدام بالأرض الرخامية حتى.. وكأن عروقه تيبست من الخوف.. كان مرعوبًا فقد فجعته، ولم يرى قبلاً شيئًا كهذا، مريض صرعٍ تأتيه النوبة أمامه.. والآن ساكن وكأنه منزوع الحياة..
ابتلع ريقه بصعوبة، يرى والدته و والدتها قريباتٍ منها.. أمها تنحني قريبًا من رأسها تربت على خدها بحنو ما إن بدأت تحرك أجفانها، تقول بنبرة مخنوقة : غادة حبيبتي.. غادة يمه غدى الشر افتحي عيونك.
وسارة تقول بأنفاسٍ لاهثه ليست أفضل حالٍ من ولدها : الف لا باس عليك يا حبيبة قلبي.
فتحت عينيها ولم ترى شيئًا أمامها سوى الضباب، لتعاود اغماضها وترفع يدها بصعوبة وثقل تحاول أن تمسح لعابها بكفها..
تكره نفسها في هذه اللحظة وتتمنى أن تختفي.. تهمس بشفتين ترتعش وعبرات تسابق بعضها بعد أن فتحت عينيها مجددًا ليظهر لها وجه فهد الشاحب : يمه طلعيني..
ثم انفجرت باكيةً رغم محاولتها عدم ذلك، تشعر بالعجز واليأس والفشل.. هذا وثقلٍ في أطرافها وكأن فيلاً يجلس عليها : يمه طلعيني ، طلعيني من هنا.....

رفعتها فاطمة بحذر وعينين تكدست بها الدموع، وساعدتها سارة على ذلك، بقلبٍ موجوع وهي تسمع نحيب غادة المتصاعد في كل خطوةٍ يأخُذنها خارجاتٍ من المكان ..
ليجد فهد نفسه يقف وحيدًا بمنتصف المجلس..
كالضائع.. بأنفاسٍ مسلوبة وقلبٍ مكسور..

.


دخلت سارة المجلس بعد مدّه، لتجد فهد يجلس على الطاولة الدائرية بمنتصف المكان، محنيَّ الظهر يدفن رأسه بين كفيه : فهد.
قفز كالملدوغ بعد أن وصله صوتها المختنق، ولا يعرف كم مضى عليه جالسًا قلقًا هكذا..
كان سيفتح فمه بعد أن لاحظ احمرار عيني والدته إلا أن دخول فاطمة أسكته، تقول بابتسامة لم تصل لعينيها : العذر منك حبيبي فهد..
تهدجت أنفاسه : وش أخبار غادة الحين؟
فاطمة بهدوء : الحمدلله، نامت..
نظر لوالدته، ليجدها قد ارتدت عباءتها وبدأت بلف طرحتها، دون أن تنظر له.
عاد ينظر لفاطمة، ليجدها تبادله النظرة بأخرى قلقة وكأنها تخشى من أن يقول شيئًا.. ليقول بخوف : اذا تحتاج مستشفى أن..
لكنها قاطعته، تتلاشى ابتسامتها تمامًا : مايحتاج يا أمك، ذي نوبة صرع تجي وتروح مهيب أول مره تجيها... ودامها صحت بعدها يعني الحمدلله ماهنا خوف..
فهد بأسى وضيق واضح : الله يعافيها ويلطف بحالها..... سلمي عليها كان ودي أشوفها قبل لا أروح بس دامها نايمة مايخالف، الله يجعله نوم العوافي..
ضحكت فاطمة بمودة : يبلغ إن شاءالله، وحياك الله بأي وقت البيت بيتك يمه والحرمة حرمتك محد بيمنعك عنها.
تبسم لها مجاملاً ابتسامةً لم تصل لعينيه، يقبل راسها قبل أن يخرج، تتبعه والدته بعد أن ودّعت فاطمة..

تحرك من أمام منزلها بصمتٍ ولازال جسده يرتعش.. بدون مبالغة..
ولم تحاول سارة أن تفتح حواراً معه،، لازال قلبها مع غادة التي بكت حتى نامت.. دون أن تنظر لها وكأنها تخجل منها.

توقف فهد أمام أحد المساجد، بعد تكبيرة الإحرام لصلاة العشاء، فقد دخل وقتها ورُفع الأذان وهو في مجلس غادة يمتره ذهابًا وإيابًا بقلق.
نظر لوالدته يسأل بهدوء : بتنزلين يمه؟
لكنها هزت رأسها : بصليها بالبيت حبيبي.
ترك سيارته مفتوحة، وتقدم بخطى واسعة لمدخل المسجد الكبير وعيني سارة تتبعه.

سلّم الإمام ومضى على سلامة خمس دقائق خرج فيها عدد كبير من المصلين، ولم يخرج فهد..
وبعد دقيقتين ظهر على مرأىً من عينيها القلقة. يمشي بخطى هادئة قادمًا ناحيتها، لتزفر نفسًا لم تدرك بأنها كانت تحبسه.

ركب مكانه، يأخذ أنفاسه بثقل وكأن هناك شيءٌ يثقل قلبه.. ينطلق مبتعدًا عن المكان، لازال الصمت هو الشيء الوحيد المرتفع في هدوء السيارة، يخالط أنفاس فهد التي أصبحت سريعةً قصيرةً الآن. وسارة ترمقه بحرص واهتمام بطرف عينها، تتمنى أن تتحدث معه لكنها غير قادرة على ذلك، لازال قلبها مع غادة..

لكنها شعرت بالقلق يحاوطها حتى ضيّق عليها ما إن توقف فهد على جانب الطريق السريع، ولم تستطع أن تسكت فسألت بخوف : وش فيك وقفت فهد؟
وليتها لم تسأل، بل ليتها لم تجبره أن يأتي معها في هذه الزيارة. ليتها سمعت كلامه عندما تعذّر ولم تجبره..
وقع قلبها وهي ترى ارتعاش شفتيه، تسمع تهدّج أنفاسه، تقطّع صوته في ارتعاشٍ عندما قال بعبرة حاول ابتلاعها : ما فيني شي يمه.
قالها يفرك عينيه بأصابع يده، بعد أن تضببت رؤيته بالدموع، وأن يقود سيارته بوضعٍ كهذا بطريقٍ سريع هو عملية انتحار مؤكدة..
كان يحاول السيطرة على نفسه، والغصّة التي كان يشعر بها تفتك بقلبه.. إلى أن يختلي بنفسه على الأقل فليس من اللائق أن يبكي كالرضيع أمام أمه.. لكنها ما إن وضعت يدها على كتفه حتى وانفجرت سدود عينيه، يجهش باكيًا بدموعٍ حارةٍ وحارقة.*
جعلت سارة تشد على كتفه بقوة، لازالت دموع فهد تفجَعها وتقتل روحها ، لذا قالت بصرامة زائفة : وش له الصياح ذا كله؟ سمعت أمها بإذنك قالت مهيب أول مره، يعني متعودة....
ثم نهرته بعبرة : امسح دموعك أشوف و وقف صياح.. خير إن شاءالله يافهد ماهي حالة ذي دمعتك قريبّة كذا!!
مسح خديه بأكمامه، يقول بصعوبة لازال منظر تلاشي ابتسامتها ونظرة عينيها ما إن سُحبت الحياة منها قبل أن تصرخ واضحًا يتكرر أمام عينيه : أنا بس.... أحس قلبي موجوع عليها يمه..
لتقول سارة بحزم رغم تلامع الدموع على سطح عينيها : ترى غادة قوية ماتبي واحد يهد عزومها. ولا أظن إنها تبي شفقة من أحد يا فهد..
حاول أن يسيطر على أنفاسه الهائجه، ما يشعر به هو ألمٌ في قلبه الحاني،، يتصاعد للأعلى حتى أحرق عينيه.. لا يبكي لأنه يهوى ذلك وكم تكسره فكرة أن يبكي أمام أحد، حتى وإن كانت والدته الأقرب له من أنفاسه.. بل يبكي أسىً وحسرة، لأنه غير قادر على تحمّل فكرة أن غادة في كل مرة تتعرض بها لنوبة صرع تتألم كل هذا الألم....

استغرق وقتًا حتى لملم نفسه، ينظم أنفاسه، يبتلع عبراته.. قبل أن يستدير برأسه ينظر لوالدته يحاول أن يبتسم بعينين حمراء ذبلت بالدموع .. وكأنه يعتذر منها.
.
.

السودان..
بعد يومين،،
.

لم يكن يظن بأن طلَق النار العشوائي سيخلّف هذا الكم الهائل من الخسائر..
اثنان يغرقان بدمائهما..
وبقية الأعين شاخصة،، تنظر بفزع..
الأنفاس لاهثه تتسارع،،،
يصاحبها نحيبٌ مفزوع.

.
.
.
.


# نهاية الفصل الخامس عشر
نلتقي الجمعة إن شاءالله


سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ♡.

 
 

 

عرض البوم صور وطن نورة ،،  
قديم 10-02-20, 10:24 AM   المشاركة رقم: 214
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئة مميزة


البيانات
التسجيل: Sep 2010
العضوية: 190192
المشاركات: 574
الجنس أنثى
معدل التقييم: أبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عاليأبها عضو ذو تقييم عالي
نقاط التقييم: 748

االدولة
البلدKuwait
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
أبها غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
كعادتي اليومية لازم أطل على ليلاس أشوف في أخبار مني مناك عن وطن نورة ،،
والحمدلله يوم شفت مشاركتك، كشرتي صارت هالكبر 😁
الحمدلله على سلامتك يا غالية ، وما تشوفين شر إن شاءالله .🤲🏼🍃
بس يا ليت تطمنينا عليچ إذا بغيتي تتأخرين،
تدرين الهواجيس تاخذنا يمين ويسار،،☺

لي عودة بإذن الله بعد قراءة الجزء

 
 

 

عرض البوم صور أبها  
قديم 10-02-20, 12:18 PM   المشاركة رقم: 215
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
مشرفة منتدى الحوار الجاد


البيانات
التسجيل: Apr 2008
العضوية: 70555
المشاركات: 6,384
الجنس أنثى
معدل التقييم: شبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسيشبيهة القمر عضو ماسي
نقاط التقييم: 5004

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
شبيهة القمر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : وطن نورة ،، المنتدى : الروايات المغلقة
افتراضي رد: أَحلَامٌ تَأبَى أنْ ’ تَنْطفِئ ،، / بقلمي

 

اقتباس :-   المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبها مشاهدة المشاركة
   السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
كعادتي اليومية لازم أطل على ليلاس أشوف في أخبار مني مناك عن وطن نورة ،،
والحمدلله يوم شفت مشاركتك، كشرتي صارت هالكبر 😁
الحمدلله على سلامتك يا غالية ، وما تشوفين شر إن شاءالله .🤲🏼🍃
بس يا ليت تطمنينا عليچ إذا بغيتي تتأخرين،
تدرين الهواجيس تاخذنا يمين ويسار،،☺

لي عودة بإذن الله بعد قراءة الجزء

اولا..
ابها تعالي لك بوؤووسة 😘
انت المتحدث الرسمي عني نفس الكلام الي بخاطري قالتيه الله يسعدك ..👍
ثانيا..
الحمدلله على سلامتك وطن والله صاير ليلاس توقيع حضور يومي بس علشان نطل على روايتك
جايه بسأل اذا احد يعرف حسابك ببرامج التواصل الاجتماعي يطمنا عليك ..
والحمدلله رجعتي قبل اشن حملة تفتيش عنك هههههه

والحين بعد ماتطمنا عنك بروح اقرأ الجزء وانا مرتاحه 😊لي عودة بإذن الله ...💚💚

 
 

 

عرض البوم صور شبيهة القمر  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الروايات المغلقة
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 01:47 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية