لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-01-16, 01:06 AM   المشاركة رقم: 56
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
اميرة القلم


البيانات
التسجيل: Aug 2014
العضوية: 273354
المشاركات: 4,068
الجنس أنثى
معدل التقييم: برد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسيبرد المشاعر عضو ماسي
نقاط التقييم: 4345

االدولة
البلدLibya
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
برد المشاعر غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

هل ممكن يكونوا الكشميت ‏؟؟؟ ما توقعتهم ‏احساسي بياخذوهم أسرى وبنشوف ججي في بلادهم وابنعرف ماضي كين ‏،،‏ متشوووقة جدا جدا للقادم وأحس بيموت قادور بهالهجوم ‏سلمت أناملك خيال ‏

 
 

 

عرض البوم صور برد المشاعر   رد مع اقتباس
قديم 14-01-16, 09:09 AM   المشاركة رقم: 57
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

سعيدة بشوقك للقادم يا برد المشاعر
ليس صحيحاً من توقعاتك إلا أمر واحد..
سترين ما سيجري في الفصلين القادمين بإذن الله..

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 14-01-16, 09:13 AM   المشاركة رقم: 58
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل الحادي عشر {ليلة دهماء}


في تلك الليلة المظلمة، والتي غاب قمرها خلف الغيوم الكثيفة، كانت هناك أضواء مختلفة تضيء جوانب مخيم قبيلة (أبناء الذئاب) بشكل لم يتوقعه سكانه.. فمن الخليج القريب، انطلقت القذائف نحو المخيم تتفجر وسطه مطيحة بعدد كبير من الخيام الهشة التي لا تصمد أمام قوة ذلك الانفجار، بينما وجد سكان تلك الخيام أنفسهم مدفونين تحت العوارض الخشبية الساقطة من السقف إن لم يقتلهم الانفجار بالفعل..
ووسط تلك الانفجارات والنيران المشتعلة، انطلقت ججي تجوب المخيم باحثة عن أبيها بعينيها.. كانت قد فرغت من إنقاذ ما أمكنها إنقاذه من الماشية التي تملكه القبيلة، بالإضافة للأحصنة والمهور وغيرها من الحيوانات.. ثم أوكلت أمر تلك الحيوانات لبعض رجال القبيلة ومعهم كين، وعادت للمخيم باحثة عن أمها وعن تينا.. ولما اطمأنت لهروبهما من المخيم بنجاح بشهادة أحد الرجال في المخيم، انطلقت في جوانب المخيم لتعاون فيما يمكنها المعاونة به.. ولما لمحت مينار الذي كان يبذل جهده لاستخراج إحدى العوائل من أنقاض خيمة مدمرة، اقتربت منه هاتفة "أين أبي؟"
أجاب مينار بحنق "وكيف لي أن أعلم ذلك؟.. استدعِ بعض الرجال لمعاونتنا.. هناك عائلة كاملة مدفونة تحت أنقاض هذه الخيمة.."
تلفتت ججي حولها قائلة "الكل مشغول بأمر أو بآخر.. لا أظنك ستجد عوناً حتى لو طلبته.."
سمعت بكاءً يتردد من تحت الأخشاب الهاوية، فأدركت أن عدة أطفال قد حبسوا تحتها دون أمل في الخروج.. بينما استمرت القذائف تنطلق نحو المخيم بين حين وآخر دون أن يملكوا وسيلة لردعها.. عندها لم تتردد ججي في معاونة مينار على إزاحة إحدى العوارض وهي تصيح "إن لم نغادر قريباً فستهوي النيران علينا.."
قال مينار "علينا إنقاذ من يمكن إنقاذه أولاً.."
تعاون مينار مع أحد الرجال في رفع العارضة الخشبية عالياً رغم ثقلها واستحالة زحزحتها، بينما لم تتردد ججي في الاندفاع أسفلها عندما لاح لها وجه أحد الصبية وأمسكت يده وهي تصيح "تشبث بي.."
تمسك الصبي بذراعها وهي تسحبه برفق واحتراس حتى تمكنت من إخراجه من موقعه.. وقبل أن تعود لاستعادة من يمكنها إخراجه فوجئت بالعارضة تهوي بقوة مصدرة صوتاً عالياً.. فصاح مينار بالرجل "لا يمكننا رفعها.. أحضر فأساً لنكسرها.."
بدأ الصبي الذي نجا بالبكاء ذعراً لمرأى ما حدث، بينما اندفعت ججي في جانب آخر محاولة إيجاد منفذ آخر للعائلة المحاصرة.. ولم يلبث أن اقترب منهما رجلان آخران وعاونا مينار في إبعاد ما تهاوى من خشب تلك الخيمة واستخراج من حوصر تحتها وهم بين جريحٍ بجرحٍ بالغ وبين من هو مصابٌ ببعض الرضوض فقط.. ومن جانبها، استطاعت ججي استخراج طفلة صغيرة كانت مندسّة في جانب المكان دون أن تتمكن من الوصول لأبويها، فحملتها ججي وعادت بها لأمها المرتاعة وهي تقول لها "خذي أطفالك وغادروا المخيم نحو التلال القريبة.. لا يزال الخطر محلقاً فوق رؤوسنا.."
سارعت الأم لتنفيذ قولها وهي تجذب أطفالها وتغادر المخيم بخطوات سريعة، بينما قالت ججي للأب الذي كان يمسك كتفه بألم شديد "غادر أنت أيضاً، بإصابة كإصابتك هذه لا أظنك ستقدر على معاونتنا في شيء.. فارحل واعتنِ بعائلتك حتى ننتهي.."
نظر الرجل بقلق إلى مينار، فاستحثه الأخير قائلاً "ما يقوله جام هو الصواب.. غادر قبل أن تزداد الأمور سوءاً هنا.."
غادر الرجل بعد شيء من التردد، بينما التفتت ججي إلى مينار متسائلة بقلق "هل ستزداد الأمور سوءاً هنا بالفعل؟"
قال مينار بضيق "لا أشك بذلك.."
وهرع مبتعداً ليعاون جماعة أخرى من أفراد القبيلة، فلم تجد ججي بداً من اللحاق به وهي تفكر في مغزى قوله.. كيف يمكنهم أن يتمكنوا من صدّ الأسوأ فيما هم غارقون في ما هم فيه؟..

************************

عندما اندفع تبريق إلى خيمته، شعر بشيء من الراحة لرؤية فراش تينا خالياً.. لكن عاد القلق إليه مع صوت الانفجار الذي تجاوز صداه صوت الصراخ الصادر عن بعض النسوة والأطفال في المخيم.. هل غادرت تينا مع من غادر، أم أنها في موقع آخر من المخيم؟..
انطلق نحو خيمة قادور بحثاً عنها، فقد تكون اتجهت إليها للبحث عن عائلتها.. ولما رأى قادور وسط الساحة يصيح برجاله ملقياً أوامره، اقترب منه تبريق قائلاً بقلق "أين تينا؟.. هل جاءت إليك؟"
أجاب قادور "لابد أنها رحلت مع أمها بعيداً عن المخيم.."
ظل تبريق قلقاً وهو يراقب ما يجري حوله، دون أن يفوته رؤية السيف في يد قادور والخوذة على رأسه، وقد دلّه هذا على استعداد الزعيم لهجوم مباشر من الأعداء.. عندها لم يتمكن تبريق من كبت جماح قلقه واندفع مغادراً المخيم بحثاً عن تينا.. كان يريد الاطمئنان عليها، وأنها قد تمكنت من المغادرة قبل أن تهوي قنبلة فتصيبها أو تصيب إحدى الخيم فتسقط على رأسها.. سار بخطوات راكضة عابراً صفاً من الخيم نحو التلال التي تقع قرب المخيم، ولما ارتقى إحداها تمكن من رؤية جمعٍ من النساء والصبية وكبار السن قابعين خلفها ينظرون للهجوم على المخيم بقلق وتوتر شديدين.. تلفت تبريق حوله حتى لمح تينا في جانب المكان وهي تجلس منزوية بذعر قرب أمها، فهرع إليها وقال بقلق "هل أنت بخير يا تينا؟.. هل أصبتِ بمكروه؟"
بدت عليها الدهشة لرؤيته ولتساؤلاته في مثل هذا الوقت، فهزت رأسها نفياً وهي تدير بصرها جانباً.. فغمغم تبريق متنهداً "شكراً للسماء.. خشيت أن تصابي بإحدى تلك القذائف دون أن أكون قريباً لأحميك.."
ظلت تينا تنظر له بدهشة متزايدة، بينما تلفت تبريق حوله مضيفاً "لكن موقعكم هذا غير آمن بعد.. عليكم أن تبتعدوا أكثر من هذا.."
وصاح بمن حوله "اذهبوا للاحتماء بإحدى التلال الأبعد من هذه.. لا تزالون في خطر ما دمتم هنا.. قد نواجه هجوماً مباشراً من الجنود عما قريب.."
استوقفته ستينا متسائلة بقلق شديد "أين ججي؟.. هل رأيتها؟"
قال تبريق متوتراً "لا أعلم.. يقول مينار إن جام وكين قد ذهبا لإبعاد الماشية والخيول قبل أن يصيبها الانفجار.."
فقالت ستينا بقلق شديد "لا أظن ججي ستطيع ما يقال لها.. لابد أنها ستنغمس في إنقاذ من يمكن إنقاذه وسط المخيم.. أرجوك يا تبريق ابحث عنها وأحضرها إلينا.."
قال تبريق "سأفعل ذلك.. فأنا عائد للمخيم بالفعل.."
ونظر لتينا القلقة مضيفاً "لا تتحركي من موقعك يا تينا.. وكوني بخير حتى أعود.."
لم تعلق تينا على قوله بينما استدار تبريق مبتعداً فيما تراجعت النسوة حاملات أطفالهن بحثاً عن موقعٍ أكثر أمناً مع الانفجارات التي تتالت في المخيم القريب.. وقبل أن يبتعد تبريق عدة خطوات، وجد تينا تقبض على ذراعه ووجهها ينطق بقلق شديد.. ورغم شكه بأن هذا الانفعال موجه له حقيقة، لكن راوده أمل أنها قد تقلق لشأنه بالفعل.. فغمغم برفق "ما الأمر؟"
قالت له بتوسل "أرجوك يا تبريق.. ابحث عن كين وأخرجه من المخيم.. أعده مع ججي بأي وسيلة كانت.."
وجم تبريق لقولها وهو صامت بضيق، بينما أضافت تينا بإلحاح "أنا أدرك أنك تكرهه، لكن أرجوك ساعده وأخرجه قبل أن يصيبه مكروه.. سأفعل كل ما تشاء لو أطعتني في هذا الطلب فقط.."
فقال تبريق بوجوم "وتظنين أنني قد أحب أن أحصل على جزاءٍ لقاء إنقاذ ذاك المأفون؟.."
وغادر دون أن يعدها بأي شيء.. بينما وقفت تينا تنظر له وقد تزايد انفعالها.. قد تكون تجاوزت الحد في طلبها هذا من زوجها بالذات، لكن خوفها غير المتعقل لم يسمح لها بتقدير أفعالها حقاً.. وبالنظر لوجه تبريق قبل رحيله، فإن هذا لا يبشرها بأي خير.. أيمكن أن يحاول تبريق التخلص من كين انتقاماً من حبها له؟.. لو حدث ذلك، فلن يحاسبه أحد مع الفوضى التي تعمّ أرجاء ا لمخيم.. وستكون فرصة سانحة له ليفعل ما يشاء..
فهل جَنَت تينا على كين بحبها هذا وستتسبب بسلبه حياته؟..

************************

لم يستغرق ذلك الهجوم على المخيم أكثر من ساعة من ساعات تلك الليلة المظلمة، لكنه استطاع تدمير أكثر من ثلث المخيم ونشر النار في جزء كبير منه بحيث صار المكان كله مهدداً بأن يتحول لكومة رماد لو لم يتدارك الأكاشي الوضع قبل أن يستفحل.. ورغم ذلك، انشغل عدد ضئيل منهم في إطفاء النيران، بينما انشغل الجزء الأكبر في إنقاذ من لم يحالفه الحظ بالهرب من الخيمة قبل سقوط دعاماتها الخشبية الثقيلة على رأسه، وبالطبع قبل أن تنالها النيران وتقضي عليه معها..
وبعد مضي تلك الساعة العسيرة على أفراد قبيلة (أبناء الذئاب)، أطلق مينار زفرة وهو يتلفت حوله قائلاً "أظن أننا تمكنا من إخراج الجميع.. أليس كذلك؟"
علقت ججي بشيء من الضيق "الأحياء منهم على الأقل.."
ظل قادور الذي وقف قريباً صامتاً وهو يتلفت حوله، ثم نظر إلى مينار معلقاً "لقد توقف الهجوم!.."
نظروا إليه بصمت وهو يقول بحزم "أتدرون معنى هذا؟"
تلفت مينار بدوره في المخيم الصامت فيما قال تبريق الذي اقترب منهم "أجل.. يبدو أن العدو سيحاول النزول والهجوم علينا بشكل مباشر.."
نظر قادور لأحد رجاله الذي كان قريباً وقال "سوقا.. استدعِ من غادر من الرجال.. أخبرهم أن يستعدّوا بأسلحتهم وعتادهم.. الأعداء سيصلون مخيمنا قريباً، وعلينا أن ننتقم لكل ما خسرناه بسببهم.."
غادر سوقا مع أحد الرجال لينفذا أمره، بينما استدار قادور وسار نحو جانب المخيم المواجه للبحر يتبعه مينار، بالإضافة لتبريق وججي وكين الذي لحق بهم بعد أن فرغ من أمر الماشية.. وقبل أن يصلوا للمنحدر استوقفهم كين قائلاً "مهلاً، لو خرجتم من خلف الخيام فقد يراكم الأعداء بوضوح.. لابد أنهم يملكون مرقاباً يراقبون به المخيم بحثاً عن أحياء.. لا نريدهم رؤيتنا والهجوم علينا بقنابلهم مجدداً.."
فقال مينار "مرقاب؟.. وما هو؟.."
أجاب كين "إنها أداة اسطوانية تحمل عدسة في جانبيها، تمكن حاملها من رؤية مسافات أبعد مما يراه بعينيه في المعتاد.."
قالت ججي باستنكار "أهذا سحر؟.."
علق كين "لا.. إنها أداة بسيطة نستخدمها منذ زمن، لكن الأكاشي لا يعرفون عن هذه الأمور شيئاً.."
فقال قادور وهو يتأمل الأفق المظلم "الهدوء الذي نراه لا يبشر بخير بعد هجوم عنيف كهذا.. ما الذي أراده أصحاب تلك السفن بالهجوم على مخيمنا؟.."
علق مينار "إرعابنا وفرض سيطرتهم على الموقع.. لابد أنهم رأوا أن استعراض قواهم بهذه الطريقة السافرة قد تفزع الأكاشي وتجعلهم يرتعدون خوفاً من نيران العدو.."
فتساءلت ججي وهي تتلفت حولها "كيف تظنهم سيصلون لهذا المخيم؟.. لا يمكنهم الاقتراب بالسفن لئلا تتحطم على الصخور التي تنتشر في الخليج كله.."
غمغم كين بتوتر "لا أظنهم يغفلون عن هذه النقطة.. لابد أنهم سيستخدمون القوارب الصغيرة لنقل الجنود نحو الشاطئ ومن ثم صعود المنحدر نحو المخيم.."
فقال تبريق قابضاً على سيفه "فلنقم بحرق تلك القوارب بسهام مشتعلة.. هذه أسرع وسيلة للخلاص منهم.. أليس كذلك؟.."
قال كين باعتراض "لا.. السفينة ستكون قريبة منا وتراقب ما يجري.. لو رأت محاولتنا للتخلص من جنودها فلن تتردد في قصفنا بغزارة.."
نظر له تبريق مقطباً، فأضاف كين قائلاً "والحل للخلاص من هذا القصف هو في انتظار وصول الجنود إلى المخيم.. وفي تلك الحالة، حتى لو قمنا بالاشتباك معهم، فلن تجرؤ السفينة على التدخل لئلا تصيب جنودها.."
علقت ججي "لكن رؤية تقدمهم من مخيمنا تثير غيظي بشدة.."
سمعوا تبريق يقول "انظروا.. ها هم الأوغاد قد ظهروا.."
انتبهوا في تلك اللحظة لتلك السفن التي بدت على شيء من الوضوح عند اقترابها من المنحدر.. بدت في البدء كأشباحٍ سوداء في تلك الليلة المظلمة، وعند اقترابها أكثر فأكثر منهم بدت معالمها واضحة لهم شيئاً ما، ولم يكن ذلك يشعرهم بالراحة أبداً.. كانت لا تتجاوز ثلاثة سفن، لكن حجمها يفوق سفن البضائع أو الركاب التي قد يراها الأكاشي بين وقت وآخر وهي تمخر عباب الخليج نحو جانب آخر من القارة.. كانت عظيمة الحجم، وقد أضفى عليها الظلام مهابة أشعرت كين بشيء من القلق وهو يغمغم "كم جندياً تحمل تلك السفن على ظهرها؟"
فقال قادور معلقاً "لا يهم ذلك.. من يحاول منهم الوصول إلينا، فسنقضي عليه على الفور.."
قال كين بقلق "وماذا عن السفينة ومدافعها؟.. لو علموا أنكم تخلصتم من جنودهم الذين وصلوا للمخيم، فيمكنهم قصف المخيم وسحقه بشكل تام من هذه المسافة القريبة.."
علق مينار قائلاً "لكننا لا نملك وسيلة للتخلص من هذه السفن.. سنفعل ما نقدر عليه، ولن نسمح للملك العربي بالتفوق علينا بأي وسيلة.."
سمعوا خطوات راكضة خلفهم، ورأوا سوقا مع فرقة من الرجال تقترب منهم وهو يقول "يا زعيم.. الرجال متأهبون كما أمرت.. وسيصلون إليك خلال لحظات.."
تساءل قادور "والنسوة والأطفال؟"
أجاب سوقا "في موقع بعيد خارج المخيم مع الماشية التي تمكنا من إنقاذها.."
فتراجع قادور لوسط المخيم وهو يقول "استعدوا بكل ما تملكونه من أسلحة ودروع.. أخبرهم أن يكمنوا للجنود في زوايا المخيم ولا يهاجموهم مباشرة حتى يكتمل عددهم.."
أسرع سوقا لإطاعته، فيما استدار قادور إلى كين وتبريق القريبين منه قائلاً "عليكما أن تراقبا تلك السفن والجنود عليها.. أخبرانا بكل ما يجري لنستعد لاستقبالهم جيداً.."
أطاعه تبريق وهو ينطلق مع كين عائدين لمكمنهما السابق قرب المنحدر، بينما ألقى قادور أوامره لمن وصل إليه من الرجال ليستعدوا لاستقبال عدوهم بكل ما يملكونه من أسلحة.. لم يكن من الصعب الاختباء في المخيم مع الدمار الذي حاق به، والنيران التي تشتعل في أطرافه تلقي بضوئها وسطه بشكل يمنحهم رؤية جيدة لمن قد يتسلل فيه في هذه الليلة المظلمة.. سار قادور بدوره ليكمن في أحد المواقع مع مينار وهو يستلّ سيفه قائلاً "هذه ضربة غادرة في وقت لم نتوقعه بتاتاً.. كيف كنا نقدر على تفادي مثل هذا الهجوم الذي أتانا من حيث لم نتوقع ونتهيأ لصدّه؟"
فقال مينار وهو يركع قابضاً على سيفه بيد ومتناولاً درعاً حصل عليه في موقع قريب "لم يكن ذلك ممكناً، وليس لك ذنب في ما جرى.. لا أظن أن هذا الهجوم هدفه الانتقام منك بالذات، ولا أظن الملك العربي كان يدرك أنك المحرك الرئيسي في الحرب التي هزمناه فيها قبل ست سنوات.."
فقال قادور زافراً "ورغم ذلك، لا يمكنني التغلب على شعوري بأنني السبب فيما وصلت إليه القبيلة هذه الليلة.. كان عليّ أن أبتعد عن هذا المكان المكشوف، وأخمّن أن عدونا سيلجأ للبحر بعد أن عجز عن احتلال سهولنا براً.. والآن، لا أحد يدري ما سيحل بنا حتى طلوع شمس الغد.."
غمغم مينار "كن متفائلاً.."
نظر قادور لوجه مينار بصمت للحظات، ثم تساءل "أمازلت على وعدك لي بخصوص جام يا مينار؟"
نظر له مينار مقطباً وقال "وهل وعدتك بشيء حقاً؟"
قال قادور بإصرار "بلى.. وعدتني.. لو لم تكن موافقاً على ما طلبته منك، لما التزمت الصمت يومها.."
فقال مينار بضيق "ولمَ هذا التشاؤم؟.. إنه ليس أول عدوٍ نواجهه في مخيم القبيلة.."
قال قادور وهو يتأمل المخيم المدمر "لكني لا أحب ترك أي شيء للزمن.. أحب أن أطمئن على كل ما سيجري، وأن تسير الأمور كما خططت لها تماماً.."
فغمغم مينار "أنت مجنون.."
صمت قادور بابتسامة جانبية.. رغم ضيق مينار الواضح وعدم تردده في اعتراض أي أمر لا يعجبه من قادور، لكن قادور لم يثق في شخص يوماً كما وثق فيه، ولم يكن ليضمن شخصاً آخر على جام أبداً.. ولذلك، لم يكن يهأبه لاعتراض مينار فهو يثق أنه سيؤدي المطلوب منه بكل التزام وأمانة.. فقط لو كان يقدر على أن يضمن حياته في الساعات القليلة القادمة..

************************

في الجانب الآخر من المخيم، كان تبريق يربض في موقع يخفيه عن الأعين وهو يراقب السفن التي اقتربت أكثر فأكثر محاذرة من الارتطام بالصخور التي تتوزع في بقعة واسعة من ذلك الخليج.. ورغم توتر الموقف الذي كانت القبيلة فيه، إلا أن كلمات تينا له قبل عودته للمخيم لا تزال ترنّ في أذنيه.. نظر لكين القريب والذي بدا القلق واضحاً على وجهه، ثم قال له فجأة بدون تمهيد "أتعلم؟.. لو قمت بقتلك الآن، فلن يدرك شخص أنني الفاعل وسط المعركة التي ستنشأ في المخيم.."
نظر له كين بصدمة وعينان متسعتان محاولاً أن يدرك سبب تلك الجملة التي ألقاها تبريق.. ثم قال رافعاً حاجبيه "ولمَ قد تفعل ذلك؟.. هل تسببت في أغضابك دون أن أدري؟"
أجاب تبريق مقطباً "أنا أبغض وجودك ذاته.. فهل هذا كافٍ؟.."
وإزاء الصدمة التي تزايدت في وجه كين، أدار تبريق بصره جانباً وقال مدمدماً بحنق "ما الذي أعجبها بفتىً رقيع مثلك؟.. هذا ما لم أفهمه قط.."
صمت كين وقد بدأ يستوعب الأمر، ثم غمغم بتردد "أتعني تينا؟"
قال تبريق باستياء "طبعاً.. ومن غيرها؟"
شعر كين بضيق واستياء لأن تبريق قد عرف بحب تينا له.. فكيف عرف ذلك؟.. وهل دار شجار بينه وبين تينا بسبب ذلك الحب؟.. فنظر إلى تبريق متسائلاً "هل آذيت تينا بسبب ذلك الأمر؟"
نظر له تبريق بغضب وهو يقول "أتظنني وضيعاً لهذه الدرجة؟.. بالطبع لم أفعل.. كل ما يهمني أنها لن تخونني يوماً ما.."
صمت كين وهو لا يدري كيف يشرح لتبريق ما جرى بينه وبين تينا، وبأنه لا يظنها من النوع الذي قد يخون بهذه البساطة.. ثم سمع تبريق يقول "ولو لم ترفضها صراحة قبل زواجي بها، لظللت أشك بها وبك حتى الآن.."
فغمغم كين "إذن أنت تعرف الأمر كله.."
صمت تبريق وهو يراقب السفن التي توقفت عن الحركة على شيء من المبعدة من المنحدرات، ثم قال "لماذا لم تلجأ للزواج ممن تريدها حتى الآن يا كين؟.."
نظر له كين بصمت ودهشة، فأضاف تبريق بضجر "أنا أعرف أنك تحب ججي، فلا داعي للمناورات وأجبني.."
أدار كين وجهه جانباً وهو يشعر باحتقانه لحديث تبريق الصريح.. رغم أنه لم يتعمد إخفاء حبه لججي، لكنه لم يتوقع من تبريق أن يحادثه عن الأمر صراحة.. ولما استجمع شتات نفسه أجاب "لا أظنها ستقبل بي لو طلبتها للزواج.. إنها تظن نفسها رجلاً، أم أنك نسيت؟"
عندها قال تبريق بضيق وكدر "ربما لو تزوجت أنت، لكفّت تينا عن التفكير بك.. أما والحال هكذا، فلا يسعني معرفة كيف أتخلص من وجودك في حياتي وحياتها.."
ظل كين يحدق في وجه تبريق بصدمة لمثل هذا التعليق.. بينما تعالى صوت ججي وهي تقترب منهما قائلة "ما الأمر؟.. هل تراقبان الوضع أم تتبادلان أطراف الحديث؟.."
لم يجبها أيهما وهما يديران وجهيهما جانباً بعيداً عن الآخر، بينما قبعت ججي في جانب تلك الخيمة وهي تقول مقطبة "انظرا.. لقد قاموا بإنزال القوارب.."
نظرا لموقع السفن على شيء من المبعدة من المنحدر، فتمكنا بشيء من العسر من رؤية عشرات الزوارق التي تم إنزالها في المياه، وبقلبها احتشد ما لا يقل عن عشرة جنود لكل قارب.. كان هذا معناه أن عدد الجنود الذين سيهاجمون المخيم كبير بالفعل، وإن أضفنا لذلك البنادق التي يستخدمونها، فلن يكون الوضع في كفة الأكاشي أبداً..
قال تبريق "سأذهب لتحذير الرجال.. كونا حذرين ولا تشتبكا مع الجنود قبل دخولهم المخيم.."
هز كين رأسه موافقاً، بينما قالت ججي "لو لم يكن هذا أمر أبي، لما وافقت عليه بتاتاً.."
فقال تبريق وهو يغادر "أطِع الأمر يا جام.."
وغادر منحنياً بعيداً عن أي عين تراقب الموقع، بينما بقيت ججي مع كين يراقبان الوضع.. كان القلق يبدو جلياً على وجه كين أكثر من أي وقت مضى، فقالت ججي "ما الأمر؟.. يبدو الرعب واضحاً في عينيك.. أأنت خائف من جنود الملك العربي لهذه الدرجة؟.."
غمغم كين بضيق "لستُ خائفاً على نفسي.."
علقت ججي بابتسامة "حقاً؟.."
زفر كين للحظة، ثم همس "انتبهي لنفسك يا ججي.."
فقالت ججي وهي تنهض "ولمَ لا تناديني بجام كما يفعل البقية؟.. هل تستهين بي؟.."
وغادرت متسللة بين الخيم لموقعٍ آخر يتيح لها مراقبة الوضع بشكل أفضل.. بينما زفر كين من جديد دون أن يعلق على قولها.. يبدو أن ججي لن تفهم قط سبب قلقه عليها، وهذا أمر لن يفهمه البقية بالطبع.. فججي قوية بالفعل، وربما كانت أقوى من كثير من الشباب ممن هم في عمرها وذلك نتيجة لجهود قادور ومينار معها طوال السنوات الماضية.. ورغم أن كين أضعف منها بمراحل، ولم يكن يوماً نداً لها، لكنه لا يمكنه تناسي كونها فتاة.. وهذا كفيل بأن يجعل الجنود أكثر ثقة في القتال معها ويمنحهم نقطة تفوق واضحة عليها..
وفي تلك الأثناء، بينما استعد الأكاشي بما يملكونه من أسلحة ودروع، كانت القوارب تقترب من الشاطئ الصخري بهدوء وصمت متجاوزة بعض الصخور المدببة التي تهدد بتحطيم هيكل الزورق الخشبي.. ولما اقتربت القوارب من الشاطئ الرملي الضيق الذي يستغل بقعة منخفضة من تلك المنحدرات، أسرع الجنود بالنزول من القوارب وتجاوز المسافة القصيرة التي تفصلهم عن الشاطئ بحذر، بينما عادت القوارب أدراجها نحو السفن لتحضر عدداً آخر من الجنود.. وبينما قبع الجنود للحظات منصتين للصمت الذي يخيّم على المخيم القريب، فإنهم بعد أن اطمأنوا لهدوء الموقع بدؤوا السير بخطوات سريعة دون أن يلفتوا الأنظار متخيّرين أسهل الطرق لتجاوز الصخور والمنحدر الذي يفصل الشاطئ عن المخيم..
وفي الأعلى، راقبت ججي وصول أول الجنود للموقع وهي تقبض على سيفها بشدة.. كانت تود لو تندفع إلى ذلك الجندي فتغمد سيفها في صدره وترميه من فوق المنحدر، لكنها لا تقدر على مخالفة أوامر أبيها مهما حاولت.. ربض أول الجنود في موقعه متلفتاً حوله في المخيم الساكن إلا من صوت الأخشاب التي تحترق وتتهاوى بين وقت وآخر.. ثم أشار لرفاقه من حوله ليتبعوه بعد أن اطمأن لخلو المكان، وسار بخطوات حذرة وسط المخيم ماراً قرب البقعة التي ربضت فيها ججي دون أن يراها بسبب الظلام المهيمن عليها.. فاخترق جانباً من الخيم حتى غاب عن أنظار رفاقه وهو يسير متحفزاً ببندقيته، ولم يدرك ما يجري حوله وتلك اليد تقبض على رأسه وفمه وسيفٌ حاد يُغمد في عنقه قبل أن يُسحب جسده بعيداً عن الأنظار..
تتابع الجنود في المخيم وهم يتسللون بدون صوت بحثاً عن الأكاشي، بينما حاول الأكاشي اقتناص من يمكن اقتناصه بعيداً عن الأعين، لكن سرعان ما عيل صبرهم واثنان منهم يشتبكان مع الجنود في جانبٍ قصيٍ من المخيم.. وبينما حاولا التخلص من الجندي بأسرع ما يمكن دون التعرض لنيران بنادقهما، فإن صوت طلقة من بندقية أخرى ترددت في المكان والرصاصة تصيب أحد الرجلين في مقتل.. نظر الآخر خلفه لجندي ثالث من جنود العدو وهو يصوّب بندقيته نحوه صائحاً "هجوم.. نحن نتعرض لهجوم من الأكاشي.."
عندها، صاح قادور برجاله "تقدموا يا رجال.."
لم يكن الأكاشي بحاجة لذلك الأمر وهم يندفعون من جوانب المخيم نحو جنود العدو الذين صدموا لرؤية هذا العدد الكبير منهم يتقاطرون من كل حدب وصوب، وكأن هجوم المدافع السابق لم يؤثر فيهم قيد شعرة.. وبينما تمكن الأكاشي من قتل بعض الجنود الذين لم يتمكنوا من حماية أنفسهم من هذا الهجوم المفاجئ، فإن البقية تراجعوا نحو وسط المخيم مكونين حلقة واسعة ورفعوا بنادقهم في وجوه أعدائهم وهم يطلقون رصاصاتهم بغزارة.. لم يكن الأكاشي يملكون ما يدرؤون به الطلقات عن أنفسهم إلا الدروع التي كان بعضها معدنياً وبعضها خشبياً.. لذلك، تساقط العديد منهم صرعى برصاصات الجنود، بينما حمى البعض الآخر أنفسهم بالدروع العريضة محاولين الوصول لتلك الحلقة وتشتيت الجنود قبل أن يتغلبوا عليهم بشكل كامل..
حاول الجنود تجاوز الدروع التي تحمي حامليها بالتصويب على ما يظهر لهم من سيقان الرجال، لكن ركض الرجال الذي لا يخامره أي تردد قد جعل الأمر أكثر صعوبة مما تخيل الجنود.. وبوصول أول رجل من الأكاشي، فإنه أزاح الدرع الذي يحتمي به جانباً وطوّح سيفه العريض بأقوى ما يملك نحو الجندي القريب منه، فأطارت الضربة رأس الجندي وهو يهوي للخلف بينما لطم الأكاشي جندياً آخر بدرعه الثقيل على وجهه وتجاوزه بقفزة واسعة نحو جندي آخر.. ومع الثغرة التي نشأت، وانشغال بعض الجنود بذلك الرجل محاولين التخلص منه قبل أن يقتل المزيد منهم، تمكن عدد آخر من الأكاشي من الوصول للموقع وأثاروا بلبلة بين الجنود الذين بدأوا يتراجعون في اتجاهات مختلفة بتشتت واضح.. كان الجنود هم الطرف الأضعف في الالتحام المباشر لكون بنادقهم ذات العنق الطويل بحاجة لمسافة كافية لتصيب هدفها، بينما لجأ الأكاشي للهجوم المباشر وتقريب المسافات بينهم وبين أعدائهم كي لا يتمكنوا من استخدام البنادق بأي شكل كان..
وفي جانب المكان، وقف قادور مراقباً المعركة وملقياً تعليماته لرجاله بشكل مقتضب وسريع، بينما وقف مينار قربه متحفزاً مع عدد قليل من الرجال لحمايته وهو يتساءل "أهذا هو العدد كله؟.. ربما تسلل بعض الجنود من خلفنا محاولين مباغتتنا.."
التفت إليه قادور بتفكير بينما أضاف مينار قائلاً "ربما علينا الانطلاق والبحث عن أي متسللين قد يحاولون مباغتتنا من الخلف أو الوصول للنساء في الجانب البعيد من المخيم.."
قال قادور بضيق "لا يمكن في الوضع الحالي أن ندير ظهورنا لهؤلاء الجنود.. ولا يمكنني تقليل عدد الأكاشي للبحث عن متسللين.."
صمت مينار بغير اقتناع، بينما غمغم قادور "علينا أن ننتهي من هذه المعركة بأسرع ما يمكننا.. والوقت ليس في صالحنا بتاتاً.."
وبينما كانت المعركة محتدمة وسط المخيم، فوجئ الأكاشي بظهور عدد آخر من الجنود من خلفهم كما خمّن مينار بالفعل، وقبل أن يتدارك الأكاشي الأمر بدأ الجنود بإطلاق رصاص بنادقهم بغزارة.. حاول الأكاشي حماية أنفسهم من هذا الهجوم ليجدوا أنهم قد وقعوا بين فكي الكماشة التي ضاقت حولهم والهجوم يزداد ضراوة.. صرخ قادور برجاله ليشكلوا حلقة بدروعهم، بينما أسرع مينار بصحبة من قربه من الرجال وركض حول المخيم محاولاً الوصول لتلك الفرقة من الخلف ليمنعهم من تصيّد رجال القبيلة ببنادقهم..
كان عدد القتلى يتزايد من الطرفين بمرور الدقائق، ولا يبدو أن هذه المعركة ستنتهي نهاية سعيدة لأيهما.. ركض مينار مع رجاله في دورة واسعة حول المخيم محاولين مباغتة الجنود بهجوم من الخلف.. وفي موقع قريب من طلقات الرصاص التي لم تكد تتوقف، أشار مينار للرجال لئلا يصدروا صوتاً وهو يتقدم بخطوات خافتة من ذلك الموقع.. وبين خيمتين مطلتين على الساحة، عثر على ما لا يقل عن عشر جنود نصفهم يطلق رصاصات بنادقه والنصف الآخر منشغلٌ بحشو البنادق بالمزيد من الرصاص وتجهيزها لدورة أخرى من الهجوم.. وبإشارة من يده، اندفع الرجال الخمسة مع مينار نحو الجنود في هجوم واحد دون صوت.. وفور أن هَوَت سيوف الرجال نحو أقرب الجنود منهم، توقف إطلاق النيران على الفور والجنود يلتفتون بدهشة خلفاً بعد أن كانوا متأكدين من خلو أغلب المواقع القريبة من الأكاشي.. حاول الجنود إطلاق النيران نحو مينار ورفاقه، لكن لم يكن ذلك ممكناً وأغلب الطلقات تطيش في الهواء بينما اندفع الأكاشي في هجوم عنيف لا يعرف أي تردد..
وفي الوقت ذاته، ومع تراجع الطرف الأبعد من الجنود بعد أن شغلهم مينار ورجاله، بدأ الأكاشي في التركيز على من قربهم من الجنود وهم يقتلون كل من تطاله أيديهم دون تردد أو شفقة.. ووسطهم، كان تبريق يطوّح سيفه يميناً وشمالاً متقدماً بقية الرجال دون ذرة تردد أو خوفٍ على نفسه.. ومعه، كان تردد الأكاشي يخفت أكثر فأكثر وهم يهجمون على الجنود بموجة قوية عاتية تراجع لها الجنود رغماً عنهم..
ومن بين الصوت الذي يصمّ الآذان من حوله، انتبه تبريق لصياحٍ تعالى من الجانب البعيد من المخيم، فتوقف للحظة متوجساً وعيناه تتسعان.. فرغم الصوت العالي الذي يندلع من وسط المخيم، تمكن تبريق من تمييز صياح بعض النسوة من موقعهن البعيد عن المخيم.. لم يكن لديه شك بمعنى ذلك.. لكن كيف تمكن الجنود من التسلل بعيداً رغم مقاومة الأكاشي العنيدة لهم؟.. اندفع تبريق متجاوزاً من حوله إلى قادور صائحاً "يبدو أن بعض الجنود قد تمكنوا من مغادرة المخيم.. هناك من يهاجم الموضع الذي تختبئ في النسوة والأطفال.."
نظر له قادور مقطباً وتفكيره مشتت بين المعركة التي تدور أمامه وبين ما ينقله إليه تبريق من أخبار، فقال تبريق بإلحاح "يجب أن ننطلق لذلك الموقع ونصدّ هجومهم قبل أن تصبح مذبحة.."
قال قادور "خذ خمسة رجال وتولّ الأمر.. لا يمكنني منحك أكثر من ذلك.."
هز تبريق رأسه، وغادر نحو بعض الرجال ليخبرهم بتعليمات قادور.. لو لم يغادر في الوقت الملائم، فلا أحد يعلم ما سيصيب الجزء الأضعف من القبيلة وهن دون حماية أو حتى أسلحة للدفاع عن أنفسهن..

************************

قبل وقت قصير، كانت ججي رابضة في موقعها خلف إحدى الخيام بصمت وهي تراقب تدافع الجنود نحو المخيم.. ولما ألقت نظرة على كين المتحفز، أشارت له ليقبع في موقعه وهي تستمع للصمت الذي ساد المخيم قبل أن تشتعل الأحداث.. وفي لحظات، اندلع صياح من ساحة المخيم تبعه صوت إطلاق الرصاص، وتحفز الجنود بشكل أكبر وهم يندفعون نحو موقع المعركة حتى أفرغت القوارب كل من فيها..
انتبهت ججي لاقتراب كين منها، فهمست وهي تقبض على سيفها بقوة "فلنهجم على الجنود من الخلف قبل أن ينتبهوا إلينا.."
استوقفها كين قائلاً "مهلاً.. هناك ما هو أهم.."
نظرت له بتساؤل، فقال وهو يشير للقوارب "علينا أن نتخلص من هذه القوارب، فهي عائدة للسفن لجلب المزيد من الجنود.. علينا إغراقها بأي شكل كان.."
غمغمت ججي "هل يمكنني فعل ذلك وحيدة ومن هذه المسافة؟.."
صمت كين للحظة مفكراً في وسيلة مناسبة، عندما رأى ججي تستلّ سيفها وهي تصيح "انتبه.."
دفعته بيدها جانباً وهي تقفز بدورها خلف خيمة قريبة، بينما سمع كين صوت ارتطام الرصاصة بباب الخيمة القريبة حيث كانا واقفين.. ولما التفت خلفه رأى ذلك الجندي الذي تسلل من خلفهما دون أن ينتبها له وحاول إصابتهما ببندقيته.. نظرت ججي من مخبئها للجندي، ثم التفتت إلى كين هامسة "حاول أن تشغله.."
واستدارت مبتعدة عبر الجانب الآخر بينما تساءل كين بهمس "كيف أفعل ذلك؟.."
سمع صوت الرصاص الذي أصاب الأرض قربه، فالتصق بالخيمة القريبة وهو يستل سيفه.. نظر حوله بتوتر عالماً أن ججي ستحاول مهاجمة الجندي من موقع آخر، ولو لم يتمكن من شغله فقد ينتبه لها الجندي ويحاول إصابتها قبل أن تقترب منه.. لذلك عليه التصرف بأسرع ما يمكنه.. ولما سمع صوت الرصاصة الأخيرة تضرب الباب القريب تلاها صمت قصير، أيقن أن لديه فسحة قصيرة من الوقت ليتصرف قبل أن يتمكن الجندي من حشو بندقيته وإطلاق الرصاصة التالية.. فتناول فأساً قريبة عثر عليها قرب الخيمة، ونظر من موقعه للجندي وهو يرمي الفأس نحوه بكل قوته.. لم يكن الجندي قريباً منه، ولم يكن كين ليصيبه بأي حال، لكن ذلك أفلح في شغل الجندي للحظة وهو يتراجع خطوات ويحاول الاحتماء من هذه الضربة في جانب إحدى الخيام.. ولما رفع بندقيته من جديد وهو يتقدم من موقع كين بخطوات سريعة، انتبه لصوتٍ خافت صدر من خلفه.. استدار الجندي بسرعة موجهاً البندقية لذلك الموقع، لكنه فوجئ بججي التي كانت قريبة منه وهي تمسك فوهة البندقية بيد لتبعدها جانباً، بينما دفعت سيفها في عنق الجندي بقوة..
سقطت جثة الجندي عند قدمي ججي التي وقفت ممسكة بالبندقية، ثم قالت لكين "هل تعرف كيفية استخدام هذه الأشياء؟.."
أجاب كين وهو يقترب "بلى.. يمكنني ذلك.."
نظرت ججي للبندقية بتفكير، ثم رمتها جانباً وهي تقول "لا.. لن يمكنك استخدامها في هذه المعركة.. فرفاقنا ملتحمون مع الجنود، وقد نصيب أحدهم لو استخدمناها دون تمييز.."
لم يعلق كين وهو مقتنع بصحّة ما قالته، بينما زفرت ججي وهي تنظر للقوارب التي ابتعدت عن المنحدر عائدة للسفن.. ثم قالت لكين "لم يعُد التخلص من القوارب ممكناً.. علينا العودة ومعاونة الآخرين.."
تلفتت حولها حتى عثرت على درع قريب، فحملته ورمته إلى كين قائلة "انتبه لما حولك يا كين.. لا تشغل نفسك بالتفكير كما تفعل عادة فتصبح لقمة سائغة لأعدائنا.."
قال كين بتوتر وهو يحمل الدرع ويقبض على سيفه باليد الأخرى "الهجوم العشوائي لا ينجح دائماً.. علينا إيجاد طريقة للتخلص من أعدائنا بأقل الخسائر الممكنة.."
قالت ججي وهي تستدير "لم يعد هذا ممكناً بعد كل ما جرى.."
واندفعت عائدة لساحة المخيم حيث ارتفعت أصوات الرجال مختلطة بصليل السيوف وصوت البنادق.. فتبعها كين دون تردد رغم كرهه لخوض مثل تلك المعارك.. ليس خوفاً على نفسه، لكنه لم يكن يجد في نفسه القدرة على مقاتلة أولئك الجنود متخيلاً ما سيفعله لو كان الجنود من مملكة كشميت.. ورغم ذلك، كان كين يدرك أن عليه أن يبذل ما في وسعه لمعاونة رجال القبيلة في حماية المخيم.. فهو مدين لهم بالكثير، ولا يمكنه نسيان السنوات التي قضاها بينهم يأكل طعامهم ويرتدي ملابسهم دون أي تفرقة بينه وبينهم..
لكن هل ستحقق جهوده، وجهود البقية، أي نتائج في هذه المعركة؟.. ولمن ستكون الغلبة فيها؟..
هذه التساؤلات تقلقه بشدة في الوقت الحالي..

************************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 14-01-16, 09:16 AM   المشاركة رقم: 59
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل الثاني عشر {مُثْخَنٌ}


عندما بدأت طلقات الرصاص تعلو في المخيم، ساد صمت تام وسط النسوة وهن يتأملن المخيم المحترق بقلق واضح من موقعهن خلف إحدى التلال القريبة منه.. لم يكن ذعرهن بسبب المعركة نفسها، فهو أمر معتاد بين قبائل الأكاشي، لكن بسبب هوية العدو الذي يملك أسلحة لا مثيل لها لديهم.. فمن النيران التي تسقط من السماء وتهوي لها الخيام محترقة بشكل كامل، إلى العصي الخشبية التي تخرج النيران من فوهتها فتصيب من يواجهها ولو على مسافة بعيدة كالسحر.. ولا تزال أخبار ما جرى في مخيم قبيلة (نجم الشمال) حاضرة في أذهان الجميع..
التصقت تينا بأمها هامسة بارتجافة "أمي.. هل سيكون الجميع بخير؟.."
شدّت ستينا يدها حول كتف تينا وهي تقول "ما بالك خائفة؟.. أحقاً أنت ابنة الأكاشي؟.. عليك أن تكوني أقوى من هذا.."
خفضت تينا بصرها مغمغمة "لكنه هجومٌ من عدو لا قدرة لرجالنا على هزيمته، وقد اندلع وسط مخيمنا بغفلة منا.. لذلك أنا قلقة على الجميع.."
ابتسمت ستينا ابتسامة متوترة قائلة "لا ألومك على ذلك.. لابد أنك قلقة على تبريق، وخائفة مما قد يصيبه.."
صمتت تينا خافضة وجهها بينما همست ستينا "أرجو ألا تترمّلي في سن صغيرة يا ابنتي.."
لم تعلق تينا على قول أمها.. شعرت بالسوء لأن فكرة موته قد راودتها للحظة وهي ترى تبريق يهرع عائداً للمعركة.. ولوهلة، لم تجد في نفسها أن ذلك الخاطر سيئاً حقاً.. لكنها في ذلك الوقت نفضت تلك الفكرة بشيء من الذعر وهي تشعر بوجوم وارتباك شديدين.. ألهذه الدرجة هي تريد الخلاص من تبريق حتى لو عنى ذلك موته؟.. لا يمكنها ألا تشعر بالسوء وهي ترى القلق الذي ارتسم بوضوح في عينيه خوفاً عليها.. فكيف لها هي أن تتمنى موته طمعاً في الخلاص منه؟.. أيمكن لدخيلتها أن تكون أقبح من هذا؟.. ضمّت تينا ذراعيها حول جسدها وهي مطرقة بصمت، ثم غمغمت بشيء من المرارة "أتمنى أن يكون تبريق بخير.."
لو مات تبريق حقاً، فستكره نفسها لأنها فكرت في الأمر وتمنته ولو للحظة.. فليعُد هذه المرة سالماً، وعندها يمكنها أن تطلب منه جادة أن يطلق سراحها.. فهو، في الحقيقة، لا يستحق فتاة عديمة الإحساس مثلها..
سمعتا في تلك اللحظة صياحاً من جانب الموقع من بعض النسوة، وبدأن بالتراجع بقوة وتدافع بشكل أدهش ستينا التي صاحت بمن حولها "ما بكن؟.. لا تُثِرْن هذه الضجة.."
لكن لم يكن لقولها أي معنىً وهي ترى مجموعة من الجنود لا يقل عددهم عن العشر يصعدون التلة القريبة ويوجهون بنادقهم في وجوه المجموعة المذعورة أمامهم.. أصيبت ستينا بالقلق الشديد لرؤية هؤلاء الجنود الذين تمكنوا من مغافلة بقية الرجال ووصلوا لهذا الموقع، لكنها حاولت تمالك ذعرها وهي تدفع تينا خلفها متلفتة حولها..
وبينما هبط الجنود التلة نحو المجموعة المختبئة خلفها، نهض أحد رجال الأكاشي ممن كان جريحاً، واستلّ سيفه وهو يصرخ هاجماً على أقرب جندي منه.. لكن الجندي ضربة بجانب البندقية على رأسه بقوة حتى ألقاه أرضاً، ثم وجه الفوهة نحو رأسه ولم يتردد في إطلاق النار وسط صراخ النسوة المذعور.. بينما تقدم جندي آخر خطوات وهو يقول لأحد رفاقه "أتظن أننا نستطيع استخدام النسوة لإجبار الأكاشي على الاستسلام؟.."
قال آخر "يعتمد هذا على أهميتهن لدى الأكاشي.. وما سمعته لم يكن يوحي بذلك.."
تلفتت ستينا حولها، ثم همست لمن حولها من النساء "علينا الهجوم على هؤلاء الجنود.. إنهم قلة، ويمكننا التغلب عليهم بعددنا الأكبر.."
قالت امرأة متسعة العينين بذعر "لا.. لا يمكننا مواجهة أسلحتهم العجيبة تلك.. سيقتلوننا قبل أن نصل إليهم.."
قطبت ستينا بانزعاج لهذا الذعر الواضح، بينما تقدم الجنود أكثر وأحدهم يقبض على صبي صغير قائلاً لرفيقه "لا أظن الأكاشي سيتجاهلون أمر الصبية على الأقل، فهم رجال المستقبل.."
ضحك رفيقه بسخرية لهذا القول، بينما اندفعت أم الصبي المذعور تحاول استعادته وهي تصيح "اترك ابني.."
ضربها الجندي على بطنها بكعب البندقية حتى أسقطها أرضاً، بينما بدأ الصبي بالبكاء وهو يحاول التنصّل من قبضة الجندي القوية.. وبينما اقترب بقية الجنود محاولين الإمساك ببعض الصبية، فإن أمهاتهم قد حاولن الدفاع عنهم ببسالة رغم الضربات التي تلقيْنها.. وبينما تراجعت بقية النسوة مذعورات وبعضهن يركضن وهن يدفعن أطفالهن أمامهن، فإن ستينا وجدت نفسها مع تراجعهن وجهاً لوجه مع أحد الجنود.. تراجعت ستينا خطوات وهي تخفي تينا خلف ظهرها، لكن الجندي دفعها بشيء من الحدة وجذب تينا من ذراعها قائلاً "فتاة جميلة كهذه قد تصلح أيضاً.."
صرخت تينا بذعر، بينما اندفعت ستينا نحو الجندي وهي تحاول دفعه عن ابنتها صائحة "أبعد يدك القذرة عنها .."
لطمها الجندي بقوة بسلاحه ليبعدها، ثم استدار دافعاً تينا أمامه رغم محاولاتها للفرار.. وبعد خطوات، وجد ستينا تحمل حجراً وهي تضربه بقوة على رأسه بشكل مؤلم رغم الخوذة التي يرتديها.. انثنى الجندي متألماً للحظة دون أن يفلت تينا، ثم نظر لستينا قائلاً بغضب "أيتها اللعينة.. ألا تكفين عن هذا؟.."
صاحت ستينا به وهي تحاول ضربه من جديد "أطلق ابنتي.."
لكن الجندي دفعها بقوة لتسقط أرضاً، ثم رفع بندقيته في وجهها وسط نظرات تينا المرتعبة.. ودون تردد، أطلق عدة رصاصات أصابتها في صدرها وبطنها وأعادتها للأرض والدماء الغزيرة تنبثق من موضع الجراح.. صرخت تينا بارتعاب وهي تحاول العودة لأمها، لكن الجندي جذبها بعنف قائلاً "أخيراً تخلصنا من تلك المزعجة.."
كان صياح تينا يختلط مع صياح الصبية وبعض الفتيات الأخريات وتوسلات أمهاتهم للجنود الذين لم يعبؤوا بها وهم يجذبونهم عائدين للمخيم.. وبالمثل، فإن الجندي قد جذب تينا وأجبرها على اللحاق به متجاوزاً التلة القريبة، بينما قاومته تينا وهي تصيح "أمي.. أجيبيني أرجوك.. أمـــــي.."
لكن الجندي جذبها بشدة حتى وصل أعلى التلة وهو يقول بصرامة "كفي عن الصياح يا هذه.. وإلا لحقتِ بها قريباً.."
لكن تينا جذبت ذراعها بقوة صارخة "اتركني.."
طرحها الجندي أرضاً وصوّب الفوهة نحو رأسها وهو يقول بحنق "أطيعي ما أقوله دون صراخ يا امرأة.."
نظرت له تينا بذعر وهي لا تدري ما الذي يمكنها فعله، لكن فوجئت في تلك اللحظة بخنجر شق الهواء حتى انغرز في صدر الجندي الذي ترنح للحظة ثم سقط خلفاً دفعة واحدة.. تراجعت تينا بذعر أشد وهي تسمع صياحاً خلفها "انبطحي أرضاً يا تينا.."
التصقت تينا بالأرض وهي ترى الجنود الباقين يتدافعون مع مرأى سقوط رفيقهم، ومن خلف التلة رأوا خمسة من الأكاشي يتقدمهم تبريق وهم يركضون نحو هذا الموقع حاملين سيوفهم.. فلم يتردد الجنود في إطلاق رصاصات بنادقهم بتتابع على الأكاشي الذين احتموا خلف دروعهم دون أن يتوقفوا عن الركض، فيما تراكض الصبية هاربين بعد أن أفلتهم الجنود..
ومع اقتراب الأكاشي من الجنود، لم يتردد أحدهم في إزاحة درعه وتوجيه ضربة قوية للجندي القريب بسيفه، وبالمثل تخلص تبريق من أحد الجنود بضربة قوية ثم التفت لآخر ودفع درعه نحوه بقوة حتى أجبره على إفلات بندقيته، عندها لم يتردد في ضربه بالسيف في عنقه حتى أرداه قتيلاً.. عندها أسرع تبريق إلى تينا وقال لها "أأنت بخير؟.."
تمسكت به تينا بذعر وهي تقول "أمي.. لقد أصيبت أمي يا تبريق.."
فقال لها "انتظريني هنا.."
كان بعض الجنود قد تراجعوا للخلف مع هجمة الأكاشي، وانشغلوا بتلك المعركة انشغالاً تاماً مع سقوط بعضهم بسيوف الرجال حتى لم يبقَ إلا خمس جنود.. نظر تبريق من ذلك الموقع متفحصاً أرض المعركة ومراقباً النزال بين الجنود وبين رجاله.. ولم يفُته رؤية جسد ستينا الذي تلقى إصابات فادحة وبقي في موقعه بصمت تام..
كانت المجموعة المختبئة في هذا الموقع من النساء والأطفال قد لجأت للهرب من جديد، فتراجع تبريق خطوات وجذب تينا قائلاً "لنبتعد.. لم يعُد لبقائنا هنا أي فائدة.."
لكن تينا دفعته محاولة العودة لأمها، فجذبها تبريق بشدة صائحاً "لا فائدة من عودتك إليها الآن.."
صاحت تينا بحرقة "أمي.."
فجذبها تبريق مع وهو يصيح من جديد "يجب أن تبتعدي عن هذا الموقع يا تينا.."
لكنها حاولت التخلص من قبضته وهي تصيح باكية "أمي.. أريد أمي.."
تلفت تبريق حوله بقلق شديد، ملاحظاً أن عدداً آخر من الجنود قد بدأ يتقدم من موقعهم من المخيم لينضموا لمن سبقوهم.. وبينما تدافعت النسوة والصبية من حوله هاربين من طلقات بنادق الجنود ومن المعركة الدائرة، فإن تينا حاولت بإصرار العودة للموقع الذي سقط عنده جسد ستينا بصمت.. كان تبريق مدركٌ أن ستينا قد ماتت، لكن تينا رفضت بإصرار التسليم بذلك وهي تصيح به "اتركني.. كيف تريدني أن أتخلى عن أمي؟.."
صاح تبريق بها "لكن أمك قد ماتت.."
صرخت تينا "لا تقل ذلك.."
لكن تبريق لم يتوقف ليجادلها وهو يحملها بذراعٍ واحدة ويبتعد عن هذا الموقع.. بينما صاح بهم بعض الجنود القريبين مطالبينهم بالوقوف والرصاص يتطاير حولهم بغزارة.. صرخت تينا بذعر وهي تحمي رأسها بذراعيها، بينما هجم رجلان من الأكاشي على أولئك الجنود محاولين منعهم من اللحاق بمن هرب من النساء والأطفال ومنحهم الفرصة للفرار..
ركض تبريق دون إبطاء ودون أن يسمح لتينا بالنزول، حتى ابتعد مسافة كافية مع البقية وصوت طلقات الرصاص لا يزال يصل لسمعه بوضوح.. فأنزل تينا التي سالت دموعها وهي تقول بمرارة "كيف تتخلى عن أمي هكذا؟.. لابد أنها لم تمت بعد.. لا يمكن أن تكون قد ماتت حقاً.."
لم يجبها تبريق وهو ينثني بشيء من الألم ممسكاً بخاصرته، ولما نظرت تينا لذلك الجانب، فوجئت برؤية تلك الإصابة التي أصابته والدماء تسيل من ذلك الموقع بغزارة.. صمتت تينا وقد عجزت عن معرفة ما عليها قوله، بينما تهاوى تبريق على ركبته بألم بعد أن كان يدفع نفسه دفعاً للابتعاد عن ذلك الموقع ليحمي تينا من الهجوم.. حاولت تينا تمالك دموعها الغزيرة دون فائدة، فبقيت واقفة وهي تبكي بحرقة بينما صمت تبريق للحظات محاولاً تجاوز الألم الحارق في خاصرته وأصوات المعركة القريبة تتعالى مختلطة برصاصات الجنود.. تلفت حوله بحثاً عن أي جنود قد يكونون تبعوهم، ثم التفت إلى من قربه من النساء وبعض الرجال الجرحى وقال "عليكم بالبحث عن موقعٍ آمن للاختباء.. لا يمكنكم البقاء في العراء، ولا نعلم متى سنتمكن من التخلص من هؤلاء المعتدين.."
قالت امرأة بصوت مرتجف "وأين نختبئ في هذه السهول الواسعة؟.."
تبادلت المجموعة النظرات بصمت وحيرة وقلق، ثم انبرى بينهم فتىً لا يكاد يتجاوز الثانية عشر من عمره وقال "هناك موقع لا يبعد الكثير عن هذا المكان.. ويمكننا الاختباء فيه دون أن يرانا الجنود.."
تساءل تبريق باهتمام "وأين هو هذا المكان؟.."
أشار الفتى إلى جهة الغرب قائلاً "هناك بعض المرتفعات الصخرية في هذا الجانب، وهي ليست بعيدة عن البحر كثيراً.. وفيها الكثير من المغاور والكهوف الواسعة التي ستؤمن لنا المخبأ المناسب حتى تنتهي المعركة.."
عاد تبريق يتساءل "أهي بعيدة من موقعنا هذا؟"
أجاب الفتى "لا.. يمكننا أن نصل إليها بعد أقل من ساعة من السير على الأقدام.."
هز تبريق رأسه موافقاً، وقال للمجموعة حوله "اذهبوا لذلك الموقع واختبئوا فيه.. سنرسل من يخبركم بانتهاء المعركة متى ما تمكنّا من التخلص من الجنود.."
أسرعت المجموعة لإطاعة قوله بصمت ودون اعتراض والفتى يتقدمهم مشيراً لذلك الموقع.. بينما دفع تبريق تينا قائلاً "ارحلي يا تينا.. ابتعدي مع البقية قبل أن يصل أعداؤنا لهذا الموقع.."
قالت تينا بقلق "ماذا عنك أنت؟"
أجاب وهو يتحامل على نفسه ليقف مستنداً على سيفه "سأعود للبقية.. لا يمكنني الهرب والتخلي عنهم الآن.."
قالت تينا بانفعال "لا.. لن تكون مفيداً بهذا الجرح.. فلنرحل لتحصل على بعض الرعاية على الأقل.."
لكن تبريق أبعدها من جديد قائلاً "لا.. افعلي ما أمرتك به يا تينا.. لو وصل الجنود لموقعنا، فلن أكون كافياً لحمايتك من رصاصاتهم.."
عادت تقول بإلحاح "لكن......"
فأدار تبريق وجهه جانباً وهو يقاطعها قائلاً "ربما كنتِ أفضل حالاً لو لم أعد.."
بهتت تينا لذلك التعليق وهي تنظر إليه، فرأته يبتعد عنها بخطوات سريعة متخذاً دورة حول ذلك التل، بينما وجدت تينا إحدى جارات أمها تجذبها وهي تقول بهمس "لنرحل يا فتاة.."
تبعتها تينا رغماً عنها وهي تلتفت خلفها حتى اختفى تبريق وسط الظلام.. ومرة أخرى، شعرت بوخزة قاسية في صدرها.. مرة أخرى تشعر تينا بحقارتها، وبأنها قد آذت تبريق أكثر مما سبب لها من أذىً.. ومع صدمتها لموت أمها وللكلمات التي ألقاها تبريق قبل رحيله، فإنها سارت كالذاهلة خلف البقية بصمت تام دون أن تتوقف دموعها من الانهمار..

************************

عندما عادت ججي إلى ساحة المخيم، كانت الأمور مشتعلة وسطه بشكل لا يصدق.. لم تكن مقاومة الأكاشي قد خفتت ولو للحظة، ولم يكن هجوم الجنود قد هدأ وتراجع ولو قليلاً.. رغم مقاومة الأكاشي العنيفة، لكن بدا أن صمود الجنود كان على أمل وصول الإمدادات إليهم بأسرع وقت.. وبينما اندفعت ججي نحو جندي قريب اعترض طريقها فجندلته بضربة سريعة، فإن كين هرع إلى قادور قائلاً بتوتر "عليكم حسم الأمر بأسرع ما يمكن.. ستعود الزوارق بعد قليل محملة بالمزيد من الجنود، وعندها لن يكون الوضع أفضل من الآن.."
قال قادور بحنق "أتظننا لا نحاول ذلك؟.. مع الإصابات التي أصابت رجالنا بهجوم المدافع، قلّ عددنا بشكل كبير.. والجنود واثقون من وصول المدد إليهم عما قريب لذلك هم مستميتون في القتال.."
نظر كين حوله للمعركة التي لم تهدأ وهو يقول بقلق واضح "لكن الأمور لن تحسم بهذه الطريقة.."
اقتربت منهما ججي قائلة "يجب أن نعاون الرجال على التخلص من الجنود قبل قدوم المزيد.."
وخطت خطوتين نحو الساحة، لكن قادور استوقفها قائلاً "مهلاً.. لقد ذهب مينار للتخلص من بعض الجنود في جانب آخر من المخيم، ولم يعُد بعد.. اذهب وانظر إن كان بحاجة لأي عون.."
لم تدرِ ججي إن كان مينار بحاجة للمعاونة فعلاً، أم أن قادور أراد إبعادها عن المعركة الدائرة وسط المخيم.. لكنها لم تتردد في إطاعته وهي تستدير وتغادر بصمت، وسرعان ما لحقها كين ناظراً للمعركة الدائرة وسط الساحة.. كانت الأجساد التي سقطت أرضاً وقد فقدت أرواحها تملأ الساحة، ولم تكن تلك أجساد الجنود فقط.. بل عدد كبير من الأكاشي انضمّ إليها بشكل أثار قلقاً أكبر في نفس كين وهو يغمغم "لا أظن المعركة ستحسم لصالحنا.. ربما من الخير لنا أن نتراجع.."
قالت ججي بحزم "لا يمكننا أن ننهزم أمام أعدائنا.. سنقضي عليهم دون شك.."
فقال كين باعتراض "لكن الأمور تزداد سوءاً في كل لحظة.. ما تفعلونه بعنادكم هذا لن يجعل النتيجة أفضل.."
أشارت له ججي ليصمت، وأنصتت للحظات محاولة تجاهل الأصوات الصادرة من وسط المخيم، عندما تناهى لسمعها بضع طلقات نارية صدرت من موقع آخر.. فأسرعت إليه راكضة بقلق، وبعد لحظات، أشرفت على الموقع الذي التحم فيه مينار ورجاله بالجنود في معركة ضارية، فلم تتردد ججي في الانضمام إليهم وهي تقيّم الموقف بنظرة سريعة، فلحقها كين بدوره دون اعتراض وهو يرفع سيفه بدوره.. اندفعت ججي بين الجموع تضرب هذا وذاك مستغلة انشغالهم برجال الأكاشي.. فنجحت في التخلص من جنديين، بينما عاون كين بقية الرجال على الخلاص من البقية.. لكن ثلاثة من الجنود فرّوا من الموقع بجراحهما محاولين الخلاص من هجوم الرجال.. فاستوقفت ججي البقية عن اللحاق بهم وهي تصيح "أنا سأتخلص منهم.. ساعدوا بقية الرجال وسط المخيم.."
واندفعت خلف الجنود بينما صاح مينار الذي وقف جانباً "مهلاً يا جام.. لا تتهور هكذا.."
أسرع مينار خلفها يتبعه كين، وبعد أن تجاوزا بضعة خيام رأيا ججي التي اندفعت وسط جنديين منهما وهي تضرب بسيفها يمنة ويسرة محاولة التخلص منهما.. بينما دار الجندي الثالث محاولاً الهجوم عليها من الخلف، لكن مينار اشتبك معه بسيفه وهو يزيحه بعيداً عن ججي، بينما انضمّ كين إلى ججي في قتالها مع الجنديين.. وبمعاونة كين، استطاعت التخلص من الجندي الأول فيما شغل كين الجندي الثاني دون أن يتمكن من التخلص منه وإزاحته.. ولما حاول كين التراجع والابتعاد عن إحدى ضربات ذلك الجندي، وجد أن غريمه قد استغل ابتعاده ليهجم على ججي التي توليه ظهرها.. لم تنتبه ججي لذلك الهجوم وهي منشغلة بكسر بندقية الجندي الذي قتلته لئلا يستخدمها غيره، كما يفعل الأكاشي عادة، عندما فوجئت بضربة السيف التي أصابت ظهرها مخلفة جرحاً عميقاً وهي تسقط على وجهها لقوة الضربة..
قفز كين بذعر نحوها وصوّب سيفه نحو الجندي فأصابه في مقتل ورماه خلفاً، ثم اندفع نحو ججي التي حاولت النهوض عن الأرض وهو يقول بارتباك "أأنت بخير يا ججي؟.. تباً لي، لقد تسببت في إصابتك.."
قالت ججي محاولة تجاوز الألم القوي الذي ينبع من موضع الضربة "لا عليك.. هذا متوقع في مثل هذه المعارك.."
كان مينار قد تمكن من التخلص من الجندي الثالث، فتقدم منهما زافراً وقال "أأنت بخير يا جام؟"
رفعت ججي رأسها قائلة بعزم "بخير.. سأربط هذا الجرح لأوقف النزف، ثم أنضمّ إليكم في المعركة في الحال.."
قال كين بقلق "هذا لا يمكن.. سيتسبب ذلك في نزف المزيد من الدماء، وقد تفقدين حياتك عندها.. علينا علاجك بسرعة والابتعاد بك عن هذه المعركة.."
فقال مينار "هذا ما يجب فعله.. تراجع يا جام في الوقت الحالي حتى تحصل على العلاج الملائم.."
قالت ججي بحدة "لكني لن أهرب الآن.."
شعرت بآلام قوية من موضع الجرح وهي تغمض عينيها للحظة، ثم دفعت نفسها دفعاً لتقف رغم جرحها الذي ظل ينزف بشدة، وقالت وهي تخطو خطوة للأمام "سأشارك في المعركة حتى نهايتها.. أنا....."
ترنحت للحظات بعد الخطوة الثانية، ثم سقطت على وجهها بصمت.. أسرع كين إليها فيما انحنى مينار ليطمئن عليها قائلاً "لقد نزف الكثير من الدماء بالفعل، ويبدو أنه لم يتحمل ذلك.."
فقال كين بإلحاح "ساعدني لنخرجها من المخيم يا مينار.."
نهض مينار واقفاً وسيفه في يده، وتناول سيفاً سقط في موضع قريب وهو يقول "عليك أن تقوم أنت بذلك.. تعجّل وارحل ولا تنظر للوراء.."
قال كين بجزع "لن أستطيع ذلك لوحدي.. لو عثر عليّ الجنود فلن أقدر على حمايتها وحدي أبداً.."
قال مينار بحزم "بل عليك أن تفعل ذلك.. كن رجلاً وتحمّل مسؤوليته لمرة واحدة.."
وعاد مسرعاً لموقع المعركة حاملاً سيفاً في كل يد، فيما صاح كين "لا ترحل يا مينار.."
لكن مينار لم يجاوبه وهو يختفي خلف الخيام القريبة.. بينما بقي كين متشبثاً بججي وأصوات المعركة القريبة تصل لسمعه بوضوح والدماء تسيل على يده من جرح ججي بلا انقطاع.. زفر بشدة وهو يرى مينار يختفي بعيداً، ثم نظر لججي التي غرقت في غيبوبتها وغمغم "عليّ تدبر أموري وحدي.."
حاول حملها بذراعيه، لكنها رغم صغر سنّها كانت أثقل من أن يتمكن من حملها بذراعيه الضعيفتين، عندها أدار لها ظهره وجذب ذراعيها من فوق كتفيه حتى رفع جسدها على ظهره، فنهض بشيء من العسر وسار بأسرع ما يستطيع بحثاً عن فرس ججي أو أي حصان آخر.. وبعد سيرٍ قصير ومنهك، استطاع أن يرى أحد الرجال يتقدم منه مسرعاً آتياً من خارج المخيم.. توتر كين للحظة وهو يبحث عن سيفه، عندما سمع صوت تبريق يقول "ما الذي جرى لجام؟.."
رفع كين بصره زافراً وقال "لقد خشيت للحظة أن تكون أحد الجنود.. لكن... ما الذي جرى لك؟.."
كانت الدماء واضحة على ملابس تبريق من جانبه المصاب، والشحوب الخفيف قد بدأ يغزو ملامحه، لكن تبريق ظل متماسكاً وهو يقول "لقد هاجم الجنود الموضع الذي اختبأت عنده النسوة والأطفال، وقد تمكنا من التخلص منهم بصعوبة.. ولكن......."
ونظر لججي فاقدة الوعي مضيفاً بتنهيدة "لقد قتلوا ستينا.. وكادوا يصلون لتينا لولا أن هربتُ بها بمعجزة.."
اتسعت عينا كين لهذا الخبر بارتياع شديد ، فيما قال تبريق "لقد توجه الجميع للغرب حيث يمكنهم الاختباء عند المرتفعات الصخرية الواقعة هناك.."
فقال كين بقلق "وما الذي ستفعله أنت؟.. ما تزال الأمور مشتعلة هنا ولا يبدو أنها ستهدأ خلال وقت قريب.. عليك الرحيل أنت أيضاً فإصابتك بليغة.."
ربت تبريق على كتفه دون أن يعبأ باعتراضه قائلاً "كن حذراً.."
وعاد لوسط المخيم راكضاً وهو يحمل سيفه بيده، فغمغم كين بغير تصديق "الأحمق سيقتل نفسه بهذه الطريقة.."
وسار مبتعداً عن وسط المخيم وهو يضيف بضيق "الأكاشي كلهم حمقى.. كان عليهم الابتعاد عن المخيم وتنظيم هجوم مدروس بدل الانغماس في معركة لا يعرفون أبعادها.. لكن كبرياءهم هو من سيدمرهم يوماً ما.."
كان يدرك أن الخيول قد فرّت من المخيم مع تلك الأصوات العالية، لكنه ظل يرجو أن يجد أحدها في موضع قريب، فرحيله على الأقدام أمرٌ مستحيل تماماً.. تلفت كين حوله بتوتر كبير، حتى تناهى لسمعه صوت صهيلٍ من موضع غير بعيد عن موقعه.. عندها أسرع إلى الموقع بلهفة حتى رأى ذلك الحصان الذي لم يجد من يفك رباطه حيث ربطه صاحبه قرب خيمته، وظل يركل بقوة محاولاً الإفلات مع مرأى النار القريبة..
لم يتمكن كين من الاقتراب من الحصان وهو يحمل ججي، فوضعها جانباً واقترب من الحصان قائلاً "اهدأ يا صديقي.. كل الأمور ستكون على ما يرام.."
ظل الحصان ثائراً وهو يركل بشدة، لكن كين تمكن بشيء من الاحتراس أن يمسك لجامه، فجذبه محاولاً تهدئته وهو يمسح على أنفه.. وببعض الجهد، خفتت مقاومة الحصان شيئاً ما وكين يفك رباطه ويجذبه بعيداً عن النار القريبة لكيلا يهرب منه.. وخلال وقت قصير، كان كين ينطلق على ظهر الحصان مغادراً المخيم، وقد أردف ججي خلفه بعد أن استخدم قطعة قماشية عريضة وجدها على مقربة لربط ججي إلى جسده بإحكام.. كانت لا تزال فاقدة الوعي، دون أن يتمكن من إيقاف نزيفها إلا بشيء بسيط.. كل ما كان يأمله الآن أن يتمكن من الفرار بها بعيداً عن الجنود، وأن تنتهي هذه الليلة على خير..

************************

بعد أن تخلص مينار ورجاله من تلك الفرقة من الجنود، عاد إلى ساحة المعركة التي لم تخمد بعد آملاً أن تكون الأمور أفضل مما تركها عليه.. لكنه لاحظ على الفور أن الأكاشي، رغم شراستهم وقوة هجومهم، لم يتمكنوا من التخلص من جميع الجنود الذين صمدوا بقوة.. وفور اقترابه من الساحة، رأى مينار قادور الذي كان يقف جانباً يهتف برجاله بتعليمات سريعة.. تقدم مينار نحوه عندما لاحظ ذلك الجندي الذي تسلل خلف قادور وهو يصوّب بندقيته محاولاً النيل منه.. فرمى مينار أحد سيفيه بأقوى ما يملك نحو الجندي وهو يصيح منبهاً قادور.. ولما استدار قادور، رأى سيف مينار الذي ضرب الجندي في ذراعه وأسقط البندقية من يده للحظة وهو يصرخ متألماً..
ركض مينار محاولاً حماية قادور من هجوم جديد، عندما فوجئ بجندي آخر يركع في جانب تلك الخيمة متوارياً.. ولما استدار إليه في لحظة أدرك أنه يصوّب بندقيته نحوه وأطلق رصاصها دون تردد.. ودون أن يملك وسيلة لتفادي تلك الطلقة، وجد مينار أنها أصابته في كتفه الأيسر ورمته للخلف بعنف ليسقط وسط المكان لاهثاً.. كان الألم شديداً في موضع الإصابة، وضاعف الألم المجهود الذي بذله سابقاً لقتال فرقة الجنود المختبئة، بالإضافة لعمره الذي يجعل الأمور أسوأ، لكنه لم يتحرك للحظة وهو يفكر بالخطوة الملائمة دون أن يفقد حياته على يد أعدائه..
رأى الجندي الذي أطلق تلك الرصاصة يقف ويتقدم منه بحذر موجهاً البندقية إليه.. وقبل أن يصوّب البندقية على رأسه، طوّح مينار ذراعه بسيفه بقوة ليصيب الجندي في ساقه بضربة قوية صرخ لها الجندي وهو يتهاوى أرضاً بألم، عندها لم يتردد مينار بالقفز عليه وهو يغمد السيف في عنق الجندي حتى أرداه قتيلاً..
وقف مينار لاهثاً وهو يتجاهل جرح كتفه المؤلم، وحمل البندقية بيد وضربها بقدمه بقوة حتى كسرها من المنتصف لئلا يستخدمها أي جندي آخر.. ثم نظر حوله لمعرفة ما جرى في المعركة الدائرة في مخيمهم الذي بدأ يتهاوى جزءاً جزءاً..
لاحظ في جانب المكان أن قادور قد اشتبك مع أحد الجنود في قتال فردي، فيما انشغل بقية الرجال بعراك مع الجنود دون أن يتمكن أحدهم من مساعدة الآخر.. فأسرع إليه محاولاً تخليص قادور منه، لكن الجندي تلقى ضربته تلك بدرعه، بينما ركض جنديان آخران نحوهما.. عندها صاح مينار وهو يشتبك مع ذلك الجندي "غادر المكان يا قادور.."
لكن قادور تقدم وهو يضرب بسيفه أقرب الجنود منه قبل أن يتحوّل لآخر ويشتبك معه في معركة قصيرة.. فصاح مينار بحنق "غادر الآن يا قادور.. ليس الوقت وقت استعراض العضلات.."
هجم ذلك الجندي عليه، لكن مينار تفادى تلك الهجمة بشيء من الصعوبة قبل أن يرفع سيفه ويضرب الجندي في جانبه.. ولما سقط الجندي متألماً، سارع مينار للتخلص منه دون تردد قبل أن يستدير عائداً لقادور.. فرآه يجندل الجندي الذي يواجهه بحركة سريعة رغم سنه التي لا تسمح له بالقتال لوقت طويل.. فزفر مينار وهو يقول "يا لك من عنيد.."
دوّى صوت طلقة رصاص واضحة من بين الأصوات المتعاقبة في الموقع، فرأى مينار في اللحظة ذاتها الدم ينبثق من جرح في صدر قادور قبل أن يسقط أرضاً بعنف.. لم يغفل رجال الأكاشي عن سقوط زعيمهم وأحد الرجال يهب نحو الجندي صائحاً "أيها اللعين.."
وضرب رأس الجندي في اللحظة ذاتها التي أصابته فيها طلقة أخرى أسقطته بدوره جثة هامدة.. أما مينار، فقد هرع إلى قادور بقلق ليراه يلهث بألم شديد.. فأسرع يسحبه من ذراعيه للخلف مبتعداً عن الموقع قبل أن يقترب منه جنديٌ آخر، ولما وصل به لموضع أكثر أمناً أسرع يتفحص جرحه محاولاً معرفة الضرر الذي أصابه وإن كان يهدد حياته بالفعل.. لكن قادور أمسك يده وهو يقول بعسر "جام.. لا تنسَ جام يا مينار.."
لم يرغب مينار بإخباره عن إصابة ججي، فقال مقطباً "هل توصيني بجام وهو بالنسبة إليّ أقرب من ابنٍ لي؟.."
ونهض قائلاً "سأبحث عن حصان قريب لأنقلك بعيداً.."
فقال قادور بهمس "لا فائدة.."
نظر له مينار بعبوس، فرآه يدير رأسه للمعركة التي استمرت على مبعدة وهو يكرر بمرارة "لا فائدة.."
لم يدرك مينار إن كان قادور يعني بذلك هربهما من هذا الموقع أم يعني المعركة ذاتها التي لم تُحسم بعد.. ثم رأى جنديان يقتربان منهما ركضاً.. لم يكن أحدهما يملك بندقية، مما سهل على مينار أن يندفع نحوهما دون خوف وهو يغمغم بحنق "اللعنة على كل هذا.."
رفع سيفه وتلقى به سيف أحد الجنديين، فيما سارع لركل الجندي الآخر الذي حاول تجاوزه بأقوى ما يملك.. لم يكن التخلص من جندي سهلاً، فما بالك باثنين منهم؟.. ولم يكن وجود قادور القريب يجعل الأمور أكثر سهولة.. لكن سرعان ما وجد أن تبريق قد هجم على الجندي الثاني وضربه برمح عثر عليه في موقع قريب، فأصابه إصابة بالغة في ظهره أسقطته ميتاً، بينما تخلص مينار من الآخر بأسرع ما يمكنه وتفكيره منحصر بحالة قادور التي تزداد سوءاً بمرور اللحظات دون شك..
ولما تخلص مينار من هجوم الجنديين، عاد مسرعاً إلى قادور يتبعه تبريق الذي تساءل بقلق "هل الزعيم بخير؟.."
لكن مينار لم يجبه وهو يركع قرب قادور ويحدق في وجهه بصمت.. ولم يكن تبريق بحاجة لإجابة مع رؤية الموت الذي لاح بشدة على وجه قادور، لكنه مع ذلك أسرع يبحث عن أي نبض في صدره وهو يغمغم "لابد أنه قد فقد الوعي.. ربما لو........"
قطع قوله بعد أن أدرك أن قلب قادور قد كف عن النبض بالفعل.. ساد الصمت حولهما لثوانٍ حتى بدا أن أصوات المعركة لا تصل إليهما، ثم قال تبريق بصوت منفعل رغماً عنه "ما الذي نفعله الآن؟.."
غمغم مينار وهو يغمض عيني قادور "وما الذي يمكننا فعله بحق السماء؟.."
لم تكن المعركة الدائرة وسط المخيم قد هدأت أو أبْدَت أي بوادر لأن تنقضي، ففيما بقي رجال الأكاشي يقاتلون من يرونه من الجنود محاولين تفادي طلقات الرصاص المتطايرة، فإن أحد الرجال قد اقترب من مينار قائلاً بتوتر "المزيد من الجنود قادمون إلينا على ظهر القوارب.. إنهم ينزلون عند الشاطئ الآن.."
توقف الرجل مبهوتاً وهو يرى ما حل بالزعيم، بينما التزم مينار الصمت وهو يفكر بكل ما يجري في هذه اللحظة.. لم يكن لديه أي شك فيما سيجرى، فبقدوم المزيد من الجنود ستسوء الأمور أكثر فأكثر بالنسبة للأكاشي.. ومع التعب البالغ الذي بدأ يصيب الرجال، ومع اقتراب تلك الفرقة الجديدة من الجنود ببنادقها وعزمها على ترجيح كفة الغلبة لهم، فإن المعركة قد أصبحت محسومة سلفاً.. والآن، مع موت قادور الذي يقلب الأمور، فإن مينار لم يسعه إلا أن يصيح بالرجال "تراجعوا يا رجال.. ابتعدوا قبل أن يصل المزيد من الجنود لهذا المكان.."
صاح أحد الرجال بحنق "كيف نفرّ ونتخلى عن مخيمنا؟.. أتريد منا أن ننهزم؟.."
صاح مينار "بل أن تتراجع، وشتان بين الإثنين.. لو بقيتم هنا لوقت أطول فسيقضي عليكم الجنود قبل أن يتحوّلوا للنسـاء والأطفـال ويقتلـوهم.. لو تشبثتـم بعنادكم هذا، فستكون هذه آخر ليلة لقبيلة (أبناء الذئاب).."
نظر له الرجل بصمت مقطباً، فقال مينار "تراجعكم بشكل مشتت يعني أن الجنود سيملكون الفرصة للقضاء عليكم قبل أن تبتعدوا.. اجمع عدداً من الرجال ليتمركزوا فوق التلة المطلة على المخيم.. وعندما يغادر الرجال بعدها، عليكم أن تطلقوا السهام بغزارة لتمنعوا الجنود من اللحاق بهم.. عليكم أن تمنعوهم من استخدام البنادق مهما كلفكم الأمر.."
هز الرجل رأسه موافقاً، ثم اندفع لتنفيذ أمره بينما استدار مينار لتبريق القريب منه قائلاً "خذ رجلاً واحملوا الزعيم بعيداً عن هذا الموقع.."
قال تبريق بتوتر "لكنه قد......."
أسرع مينار يقول "هذا لا يعني أن نتركه لتعبث به أيدي أعداؤنا.. لنبتعد به ثم ندفنه دفناً يليق به.."
استدعى تبريق رجلاً، وتعاون الإثنان لحمل جسد قادور متراجعين بخطوات سريعة خارج المخيم.. بينما وقف مينار ممسكاً سيفه بشدة وهو يراقب الأحداث التي لم تهدأ في المعسكر، حتى تأكد أن الرجال قد تمكنوا من التمركز فوق التلة القريبة بتحفز.. عندها صاح مينار بمن في ساحة المخيم "ابتعدوا يا رجال.. تراجعوا بسرعة.. هناك مددٌ جديد من الجنود قادم نحوكم.."
توتر الأكاشي لقوله، ثم بدؤوا في التراجع بشيء من التخبط فيما اندفع مينار وسط المخيم محاولاً تخليص بقية الرجال من الجنود.. ضرب بسيفه كل من يطاله من الجنود يميناً ويساراً، وتلقى في الآن ذاته عدداً من الضربات القوية.. لكنه لم يتراجع وهو يرى رجال القبيلة يتراجعون راكضين بين الخيام نحو السهول القريبة.. وسرعان ما تبعهم مينار وهو يسمع أحد الجنود يصيح "أطلقوا النار.. امنعوهم من الهرب.."
بدأت الرصاصات تتطاير من حولهم، فأسرع مينار للدوران حول أقرب خيمة لتكون حاجزاً بينه وبين الجنود وهو يتبع الرجال حتى خرجوا من المخيم.. لم يكن أحد من الرجال يملك حصاناً ليهرب على ظهره، فاكتفوا بالهرب على الأقدام بينما أصوات الجنود تقترب منهم أكثر فأكثر.. وحالما غادر الأكاشي المخيم، تطايرت السهام بكثافة فأصابت عدداً من الجنود الذين لحقوا بهم قبل أن يتوارى الباقون خلف الخيام القريبة.. بدأ الجنود يبادلون الأكاشي إطلاق النار محاولين التخلص منهم فيما احتمى الأكاشي بالتلة القريبة، ولما هدأ كل شيء، تجرأ الجنود على مغادرة الموقع والدوران حول التلة ليكتشفوا أن تلك الجماعة من الأكاشي قد هربت بالفعل لاحقة بالبقية.. عندها قال أحد الجنود "هل نتبعهم؟.."
تقدم منهم القائد الذي يقودهم وهو يقول "لا.. ما فعلناه كافٍ حتى الآن.. هرب الأكاشي وحده أمرٌ يستحق الاحتفال.."
وأشار لمن حوله من الجنود صائحاً "هيا يا رجال.. سنقيم معسكرنا في هذا المخيم.. وننتظر تعليمات أخرى من القادة.."
تراجع الجنود نحو المخيم الذي لا تزال النيران تشتعل وسطه، فيما بدت ملامح الفجر واضحة عند الأفق منهية ليلة طويلة ومفجعة بالنسبة لقبيلة (أبناء الذئاب)..

************************

هبّت ججي جالسة فور استيقاظها دون أن تتخيل أنها لم تعُد في ساحة المعركة.. بحثت يدها عن سيفها بشكل تلقائي وهي تتلفت حولها في الموقع المظلم الذي بدا لها مكتوماً بشدة.. ثم سمعت صوتاً خلفها يقول "أأنت بخير يا ججي؟.."
لو لم تدرك ججي هوية المتحدث على الفور، لانقضت عليه دون أي تردد مع التوتر الذي تشعر به.. رأت كين يقترب منها وهي تسأله بقلق "ما الذي جرى؟.. هل هزمنا الجنود؟.."
كانت بالكاد تتمكن من رؤية ملامح كين مع الظلام المهيمن عليهما، لكنها لمست الضيق في صوته وهو يقول "لا.. لقد اضطررنا للابتعاد مع الجرح الذي أصابك.."
صاحت بحدة "هل هربت بي من ساحة المعركة؟"
قال كين "لم يكن لي بدٌ من ذلك بعد أن سقطت فاقدة الوعي.. ولم أجد أحداً يمكنه الاعتناء بك مع انشغالهم بالجنود.."
لكنها لم تستمع لكلمة مما يقولها وهي تنهض قائلة "أين سيفي؟.. أين درعي؟.."
كانت آلام ظهرها لا تطاق، وقد أدركت أن الدماء تسيل شيئاً ما من تحت الأربطة التي أحاطت جسدها، لكنها تجاهلت كل هذا وتفكيرها يدور حول ما يجري في المخيم.. حاول كين إيقافها وهو يقول "لا يمكنك المساعدة بأي شكل مع جرحك هذا.. عليك اللجوء للراحة في الوقت الحالي.."
أبعدت يده وهي تصيح "أين أبي؟.."
قال كين وهو يقف محاولاً إمساك يدها "سيعودون فور انتهاء المعركة.. أما أنت........."
صاحت به بشدة "لا شأن لك بي.. لا يمكنني البقاء هنا وترك أبي في المخيم.. أين سيفي؟.."
سمعا في تلك اللحظة صياحاً وعويلاً يصدر من جانب آخر من المكان الذي هما فيه، وقد رددت الجدران صداه حتى بدا أعلى مما هو حقيقة.. فدفعت ججي كين بعيداً عنها وأسرعت بخطىً متخبطة تتقدم نحو مصدر الصوت.. كان وجيب قلبها يتزايد بارتباك وذعر واضحين وهي تسمع الصوت يتعالى وقد أدركت أنه يصدر من نساء قبيلتها.. تجاوزت ذلك الموقع الذي كان عبارة عن ممر صخري نحو نهايته لتدرك أنهم في قلب كهفٍ عميق لا يتجاوز ارتفاعه قامة الرجل العادي.. وفي نهايته، وقرب المدخل الذي سمح لبعض الضوء من الفجر الوليد بالتسلل إليه، تمكنت من رؤية ما يجري بشيء من العسر..
كان أغلب نساء وأطفال القبيلة قد تجمعوا لاستقبال الرجال الذين عادوا من المعركة والدماء تغمر عدداً لا بأس به منهم، مثخنين بجراحهم يهدّهم التعب البالغ بعد ساعاتٍ قاسية مضت عليهم في قتال لا طائل من ورائه.. اندفعت ججي بينهم وهي ترى العويل يتمركز وسط تلك الجماعة، فدفعت من اعترض طريقها وهي تدور بعينيها بحثاً عن أبيها.. لاحظت وجود مينار في جانب المكان وهو يجلس أرضاً بتعب والدماء تخضب كتفه وذراعه وجانباً من جسده.. ولما توغلت ججي أكثر من المجموعة رأت تينا التي سقطت أرضاً تنوح بصوتٍ عالٍ.. لاحظت تبريق الذي وقف في موقع قريب بصمت، فمن الذي تبكيه تينا بهذه الحرقة إذاً؟..
ولما تجاوزت ججي من اعترض طريقها من النساء والرجال، رأت ذلك الجسد المسجى أرضاً والدماء تغرق صدره بغزارة.. بهتت ججي وهي ترى قادور الذي ارتمت عليه تينا وهي تبكي دون انقطاع، وبدا لها
أنها ليست بحاجة للسؤال عما جرى له.. ورغم ذلك، فإنها هرعت إلى جسده وتلمسته بحثاً عن أي أثرٍ لبقية حياة فيه.. وبينما وصل بقية أفراد القبيلة لاعنين بصوتٍ عالٍ ذلك الجيش العربي الذي فاجأهم بذلك الهجوم الغادر، فإن ججي لم تيأس وهي تحاول سماع نبضٍ في صدر أبيها أو نَفَسٍ يتردد من أنفه.. لكنه كان ميتاً بالفعل، ميتاً كأشد ما يكون الموت..
ظلت ججي جالسة قرب جسد أبيها بصمت وهي تنظر له ودمعة حائرة في مقلتيها دون أن تجرؤ على ذرفها.. هي لم تعتد على البكاء، ولو كانت كذلك لبكت وانتحبت بصوتٍ عالٍ نادبة فقدانها لأبٍ تحبه وتحترمه وتتبعه بكل إخلاص.. لكنها اكتفت بأن خفضت وجهها بصمت وهي تشدّ على قبضتيها محاولة منع دموعها من الانحدار على خديها..
وصل كين بعد بعض الوقت، فرأى جسد قادور ورأى ججي الشاحبة بشكلٍ لا يدع له مجالاً للشك فيما جرى.. انتابته شفقة قوية عليها وهو يرى ملامحها المذهولة والدموع العصيّة على النزول في عينيها.. ثم رأى مينار الذي اقترب من ججي وركع قربها وهو ينظر لجسد قادور ولتينا القريبة والتي تبكي بإلحاح، لكنه لم يُبدِ أي جزع لما جرى له بل أشار لتبريق القريب ليبعد تينا عن هذا الموقع.. لم تمانع تينا وهي تبتعد برفقة تبريق دون أن تكف عن البكاء ودموعها تسيل على خديها بلا انقطاع، وصدمتها أشد بفقد والديها في ليلة واحدة.. بينما قلّب مينار بصره فيمن حوله ملاحظاً انشغال أغلب الرجال بأنفسهم وجراحهم، قبل أن يلتفت إلى ججي الساهمة بدورها ويحدثها بصوت هامس ولهجة حازمة تبدت في ملامحه بوضوح..
ظلت ججي صامتة وهي تستمع إليه بينما مينار يتحدث بصوتٍ خفيض وإصرار دون أن يتبين كين كلمة مما يقوله.. لم يبدُ أن مينار يحاول تهدئة حزن ججي، ولم يبدُ أنه يسعى لتخفيف حزنها بكلماته، فما الذي يفعله بالضبط؟..
اقترب كين محاولاً الاستماع لما يقوله، ولمواساة ججي بدوره، عندما لاحظ ذلك الخنجر الذي دفعه مينار ليد ججي بحزم واضح.. نظرت ججي للخنجر بنظرة ذاهلة، فيما اتسعت عينا كين بدهشة لهذا التصرف، واقترب منهما متسائلاً بدهشة "ما الذي تفعله يا مينار؟.."
لكن مينار تجاهله قائلاً لججي بصرامة "افعل ذلك الآن يا جام.."
قطب كين بتساؤل واستغراب، عندما رأى ججي توجه خنجرها بيد ترتجف إلى جسد قادور الملقى أرضاً عند قدميها.. ودون تردد، كما بدا لعيني كين، بدأت بتمزيق ملابسه بسرعة لتكشف صدره الدامي بالجرح الكبير الذي يتوسطه.. لم تتوانَ ججي عن تمزيق جسد أبيها بسرعة مزيلة طبقات الجلد واللحم بحثاً عن تلك القطعة الصغيرة التي تستوطن الجهة اليسرى من صدره.. ورغم حركة يدها السريعة، فإن وجهها الصامت حمل ملامح صدمة ظاهرة وكأنها تستنكر ما تفعله بنفسها في جسد أبيها الذي لم يبرد بعد.. لكنها لم تتوقف ومينار يحثها على إنجاز الأمر بأسرع ما تستطيع حتى استخرجت القلب الدامي الذي كفّ عن النبض بعد عقود طويلة وكفاح ممتد.. فهتف كين "مهلاً.. ما الذي تفعلينه؟.."
جذبت صيحته انتباه بقية الرجال الذين نظروا بدهشة لما يجري، بينما استمرت ججي في عملها دون توقف.. وبمشاعر متجمدة، ووسط صدمة كين وبقية الرجال لما تفعله، اقتطعت ججي أجزاء من القلب الدامي وابتلعتها بصمت وسرعة دون أن يبدو على ملامحها أي انفعال.. دام الصمت في المكان لحظات قصيرة قضتها ججي في ابتلاع القلب الذي تحمله بيد، بينما تجمد رجال القبيلة مستنكرين ما يرونه وقد أعجزهم الذهول عن التدخل، وتجمد كين بهلع واضح لما تفعله ججي من تصرف أقل ما يطلق عليه أنه وحشي وغير متحضر.. لكن متى عرف الأكاشي التحضر حقاً؟..
بعد أن أنهت ججي ما تفعله، نهضت وتقدمت من جمع الرجال الواقفين في الموقع، وبصوت مبحوح، حمل رجفة خفيفة، قالت "ها أنا ذا قد أتممت شرط الزعامة، وقد أصبحت زعيمكم.. عليكم إطاعتي والقسم بالولاء لي.. ومن يرفض، فسيعاقب كما تنصّ شرائع الأكاشي.."
لم يعلق أحد الرجال بكلمة وهم يحدقون بوجهها باستنكار واضح، بينما تقدم كين منها ولمس كتفها قائلاً بصدمة "ما الذي فعلته يا ججي؟.. أيمكن أن يصدر هذا التصرف منك أنت؟.."
لم يكد يتم قوله وهو يرى ججي التي ترنحت في وقوفها صامتة، ولم يلبث جسدها أن تهاوى بسرعة وكين يتلقفها قبل أن تسقط أرضاً هاتفاً "ججي.. ما الذي جرى لك؟.."
لكن نظرة لوجهها جعلته يدرك أنها قد فقدت الوعي بالفعل، وإن لاحظ على تلك الدموع التي سالت على خديها ممتزجة بالدماء التي غمرت فمها وفكها بمنظر بشع.. ومن الهمهمات المستنكرة والتي امتزجت بغضب واضح من الجموع حولهما، أدرك كين أن هذه الساعة لن تنتهي على خير..

************************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
قديم 15-01-16, 10:42 AM   المشاركة رقم: 60
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Dec 2015
العضوية: 307841
المشاركات: 179
الجنس أنثى
معدل التقييم: عالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداععالم خيال عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 460

االدولة
البلدAland Islands
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عالم خيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عالم خيال المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ابنة السماء..

 

الفصل الثالث عشر {الزعيم}


تجمد الموقف بشكل كامل في تلك اللحظة التي أشرقت فيها شمس ذلك اليوم.. فبعد ليلة قاسية وطويلة خاض فيها الرجال قتالاً غير متكافئ مع جيش الملك العربي، وبعد أن قتل العديد منهم ونجا من نجا منهم مثخناً بجراحه، وبعد أن اضطرت القبيلة كاملة للجلاء عن مخيمها واللجوء للكهوف القريبة دون أي طعام أو ماء أو غطاء يقيهم برد ذلك الشتاء، اكتملت صدمة القبيلة برؤية ججي بفكها الذي غرق بدماء أبيها، وبنظرة عينيها الزائغتين، وبصوتها المرتجف الذي يعلن أنها قد أصبحت زعيماً للقبيلة خلفاً لقادور..
تجاوز كين صدمته الكبيرة لما رآه بصعوبة، وحلّ محله توجس كبير وهو يمسك ججي التي فقدت الوعي، بينما تعالت همهمة ساخطة من الرجال القريبين قبل أن يقول أحدهم بصوتٍ واضح "ما الذي تظن تلك المجنونة أنها فاعلة؟.."
علق آخر "أمن المفترض أن تصبح زعيمة هذ القبيلة؟.."
أسرع آخر يقول باستنكار "هذا مستحيل.. الأكاشي لا يخضعون لامرأة.."
فقال مينار الذي اقترب ووقف قرب كين وججي "المفترض أن جام قد أصبح زعيماً لهذه القبيلة بعد التهامه لقلب قادور.. فما الذي يمنع خضوعكم له؟.."
قال أحد الرجال بسخط "لكنها امرأة.."
علق مينار قائلاً "أنت تعلم أنها ليست أقل رجولة من أي شخص منكم.. وقد هيأها قادور لتصبح زعيمة بعده منذ أمد بعيد.."
ظل كين ينظر لمينار بدهشة وصدمة لما يسمعه، لكن بإشارة من مينار، حمل كين ججي على ظهره وابتعد بها عائداً للموقع الذي وضعها فيه عندما أحضرها للكهف لأول مرة.. كان يتعمد الابتعاد عن موقع الرجال قدر استطاعته، كي يبقيها بعيدة عن أيديهم وعن بطشهم بعد كل ما جرى.. وفي الآن ذاته كان يسمع صياح أحد الرجال الذي قال بحنق "أنت تعلم أن الزعامة لا تنتقل باختيار الزعيم السابق وليست ورثاً يورثها لأبنائه.. وبالتأكيد ليس لبناته.."
فقال مينار "لقد أراد قادور ذلك، وهذا ما حدث.. فلم الاعتراض الآن؟.."
قال أحد كبار السن "مينار، أأنت مقتنع بما تفعله؟.. لمَ دفعت الفتاة لما فعلته ولم تحاول استلاب الزعامة لنفسك؟.. لو فعلت هذا، لكنا أكثر تقبلاً لزعامتك ولتبعناك بإخلاص.. أما هذه....."
فقال مينار "لمَ تصرّون على معاملتها كفتاة الآن؟.. لمَ لمْ يجرؤ أحدكم على التذمر بصوت واضح أمام قادور سابقاً؟.. لم خضعتم لما فرضه عليكم ولم تمتلكوا الجرأة على انتقاد تصرفه إلا بعد موته؟.."
قال أحد الرجال بسخط "لقد كنا صامتين لأننا أدركنا أنها مجرد هذيانٍ من رجلٍ قد بلغ من العمر أرذله.. لكن بعد موته فقد بدأ الأمر يتجاوز حدود المقبول وأصبح يهدد أمننا ويجعلنا سخرية لبقية القبائل.."
لوّح مينار بيده قائلاً "يهدد أمنكم؟.. وأي أمان تخشون عليه بعد كل ما جرى؟.. لقد قاتل جام أفضل من أي رجل منكم البارحة، ولم يلجأ للهرب حتى بعد إصابته العميقة.. فما الذي يجعلكم موقنين أن وجوده سيجعل أمنكم مهدداً؟.."
قال رجل بحنق "ستهجم علينا القبائل الأخرى محاولة فرض سيطرتها علينا.. فما دمنا قد رضينا بتولية امرأة علينا فهذا يشي بضعفنا وخنوعنا مما يجعلنا مطمعاً سائغاً لأي عدو.."
فقال مينار "لم يعُد لنا أمانٌ بعد أن سُلب منا مخيمنا وطردنا منه شرّ طرده.. فلنترك الخلاف بيننا ولنصبّ اهتمامنا بهذا العدو الذي احتلّ بلادنا دون خوفٍ منا أو وجل.."
صاح رجل بغضب "لا يمكننا الصمت على هذا مهما حاولت إقناعنا.."
دار مينار ببصره بينهم والهتافات الغاضبة تتعالى من الرجال حوله، عندها قال بازدراء "طبعاً.. فأنتم الأكاشي الهمجيون الذين لا يعرفون العقل ولا التعقل.. إن كل ما يشاع عنكم لا يخالف الواقع بتاتاً"
قال أقرب الرجال إليه بحنق "أتسخر منا يا مينار؟.."
قال مينار بحزم "بل أقرر واقعاً أراه أمامي.. العدو قد استولى على كل ما نملك، وكبّدنا خسائر لا يمكن أن نحصيها، ومع ذلك نجد الوقت الكافي للجدال فيما بيننا عن أحقية جام للزعامة ونتهدده ومن يواليه بالقتل.. أهذا يدلّكم على أي تعقل؟.."
فقال أحد الرجال باستياء "لم يكن هذا ليحدث لو لمْ توسوس لجام بفعل ما فعله.."
عندها قال مينار "ما حدث قد حدث.. على الأقل، كفوا عن العراك لليلة واحدة والتفتوا لجرحاكم وانْعَوا موتاكم.. وغداً لكل حادث حديث.."
تبادل الرجال النظرات الحانقة بصمت، ورغم ذلك تيقّن مينار أن هذا الجدل قد أرجئ لوقت آخر، وأصبحت ججي في مأمن من غدرهم ولو لليلة واحدة..
في تلك الأثناء، وبعد وصول كين لموقع منبسط وسط الكهف، وضع ججي على الأرض القاسية دون أن يجد ما يفرشه تحتها.. وجد أنها لا تزال تحتفظ بالخنجر الذي ناولها إياه مينار، فحاول انتزاعه من قبضتها ليجد أن أصابعها متشبثة به بقوة بشكل أثار دهشته.. نظر كين لوجه ججي الذي بدا عابساً بألم شديد، وإن كان يدرك أن هذا لم يكن بسبب الجرح الذي أصابها سابقاً.. فغمره إشفاق شديد عليها وهو يمسح الدماء عن وجهها بينما تعالى صياح الرجال الغاضب من وسط المخيم..
نظر كين خلفه لموضع تجمع الرجال الغاضب بقلق ثم عاد ببصره إلى ججي التي لم تستفق من غيبوبتها بعد.. فزفر هامساً "ما الذي حدا بك لفعل ما فعلته يا ججي؟.. كيف يمكنك أن تتصرفي بهذه الوحشية كما يفعل بقية الأكاشي؟.. ولكن..... أنتِ من الأكاشي بالفعل.."
تنهد وهو يتأمل ملامحها الصامتة، ثم بحث عن سيفه الذي كان قريباً وشد عليه بيده بإحكام.. لو لم يتمكن مينار من تخفيف غضب رجال القبيلة، فقد يحاول أحدهم قتل ججي ليستلب الزعامة لنفسه.. لكنه لن يسمح لأحدهم بذلك.. لن يسمح لهم بلمس شعرة من رأسها ولا الاقتراب منها بأي نوايا عدوانية.. تأمل وجهها ملاحظاً الشحوب البادي عليه، وزفر وهو بدهشة وصدمة لما رآها عليه في تلك اللحظات..
رغم كل ما شهده من ججي طوال السنوات الماضية، لكنه لم يتوقع تصرفاً مثل هذا الذي قامت به دون تردد.. والأسوأ أنها فعلت ما فعلته بأبيها الذي كان يدرك مقدار المحبة والاحترام الذي تحمله له، والإعجاب الذي تكنه له في قلبها.. ألهذا الحد يشغلها أمر حصولها على الزعامة بحيث تغضّ البصر عن الوسيلة التي عليها اتخاذها للوصول إليها؟.. أم أن هذا كان بإيعاز من مينار ولم يكن من ضمن خطط ججي سابقاً؟.. هو لا يذكر أنها تحدثت عن الزعامة وعن رغبتها بالوصول إليها.. بل إنها لم تكن تقبل بفكرة موت قادور وتغيّر زعيم القبيلة قط.. فكيف تغير كل ذلك بلحظة واحدة؟..
ما الذي سيقوله قادور لو عرف أن قلبه سيكون من نصيب ابنته التي لم تتردد في التهامه ولو لثانية واحدة؟.. ابنته التي رعاها واهتم بتدريبها ورفع منزلتها وسط هذه القبيلة، لم تتمهل للحظة حداداً على موت هذا الأب بل سارت في طريق تحقيق طموحاتها غير آبهة بكل ما جرى..

************************

بعد انقضاء ساعة على الصياح الذي تعالى في الجانب الآخر من الكهف، هدأت الأصوات فجأة وساد الصمت بحيث زاد قلق كين أكثر فأكثر.. كان كل ما يجري هنا يثير توجسه، وهذا الهدوء قد لا يكون بشارة خير لما قد يحدث لججي.. لكنه بدلاً من رؤية رجال القبيلة، رأى تينا التي وقفت قربهما بعينين حمراوين وشفتين مرتجفتين.. نظرت لكين ولججي بصمت، ثم تقدمت حتى انهارت جالسة قرب ججي التي لم تستفق من غيبوبتها بعد.. عندها غمغم كين قاطعاً الصمت "تبدين متعبة يا تينا.. لمَ لا تلجئين لبعض........."
قطع قوله وهو يراها تميل على ججي وتقبض على عنقها بيديها بقوة وهي تتنفس بحدة وانفعال.. هبّ كين نحو تينا وجذب ذراعيها وهو يهتف "ما الذي تفعلينه؟.. توقفي.."
كانت تينا تضغط على عنق ججي بأقوى ما تملك، وبدأ الاحتقان يبدو على وجه ججي فيما دمدمت تينا بصوت مرتجف "كيف أمكنك أن تفعلي ذلك؟.. أهذا كل ما يهمك؟.. بدل البكاء على أمك وأبيك، تندفعين لاقتناص الفرصة لنفسك حتى لو عنى ذلك أن تلتهمي قلب أبيك؟.."
جذب كين ذراعيها بقوة ودفعها خلفاً وهو يصيح "ما الذي تفعلينه يا تينا؟.. هل فقدت عقلك؟"
صاحت بغضب "هي السبب فيما أنا فيه من تعاسة.. هي السبب وقد فضّلت أن تجاري الرجال في قتالهم متجاهلة أمها التي ماتت دفاعاً عني.. هي السبب وهي التي لم تكن موجودة لتحمي أبيها.. كيف يمكنني أن أقبل بأختٍ تلتهم جسد أبيها فور موته؟.. إنها أبشع من أي رجل عرفته من الأكاشي.."
قال كين بحدة "هذا هراء.. أنت تريدين أن تلومي ججي لأي شيء بدا لك.. لقد حاولت ججي الدفاع عن المخيم وأنقذت الكثيرين أثناء القصف.. لمْ تلجأ للهرب كبقية النسوة وفضّلت أن تقاتل رغم أن ذلك قد يعني موتها.. التزمت بأوامر قادور ولمْ تغادر إلا بعد أن أصيبت وفقدت الوعي.. والآن، لمْ تفعل ما فعلته إلا بإيعاز من مينار.."
صاحت تينا "ولمَ قد يفعل مينار ذلك؟.. لمَ دفع ججي لفعلٍ قبيحٍ مثل هذا؟"
سمعا صوت مينار من خلفهما يقول "هذه كانت وصية قادور.. ولم يكن أمامي خيارٌ إلا بتنفيذها.."
التفتا إلى مينار الذي اقترب منهما بتعب بالغ بعد أن قام أحد الرجال بتضميد جراحه كيفما اتفق.. فجلس قرب ججي يطمئن عليها بينما قالت تينا بصوت مرتجف "لا يمكن ذلك.. لا أصدق أن أبي قد يسعى لهذا حتى لو كان ذلك بعد موته.."
فقال مينار "لكن هذا ما حدث.. فلو كان هناك من يجب لومه، فهو قادور وليس جام.."
ظلت تينا تحدق بوجهه بصدمة، بينما قال كين بحدة "وهل يسعد قادور بفكرة أن ابنته ستلتهم قلبه وتصبح زعيمة القبيلة؟.. أكان يسعى لأن تلقى حتفها بأسوأ وسيلة ممكنة على يد رجاله؟.. لو أنه أمر بقتلها لكان ذلك أهون مما اضطرها لفعله ولما ستلاقيه في الأيام القادمة.."
غمغم مينار "كشميتي مثلك لن يفهم ذلك أبداً.."
قال كين باعتراض "كيف تريد مني أن أفهم أمراً كهذا؟.. لا يمكن لججي أن تنجح في هذا مهما حاولت.. قد تكون أقوى من الشباب ممن يماثلونها في العمر، لكنها لن تكون أقوى من الرجال الأكبر سناً والأكثر خبرة منها.. مبارزة واحدة مع أحدهم ستُفقدها حياتها في لحظات قصيرة.."
زفر مينار قائلاً "لا ألومك على هذا.. لقد كان هذا رأيي بالفعل عندما صارحني قادور بالفكرة.. كنت مقتنعاً أن هذا محض جنون.. ولك أن تتخيل رد فعل قادور عندما صرّحت له بذلك.."
عاد مينار بذاكرته لإحدى الليالي عندما اجتمع به قادور منفردين في جانب المخيم ليطلعه على قراره بدفع ججي لاستلام الزعامة لو قضى نحبه على يد أحد أعدائه.. عندها لم يملك مينار أن يقول باستنكار "هذا جنون يا قادور.. لقد كانت فكرتك بتحويل ججي إلى رجل وإعلانها ابناً لك مسلية في البدء، وهي قد آتت ثمارها بالفعل.. لكن أن تجعلها زعيمة من بعدك، فهذا ما سيودي بحياتها بالفعل حالما تتجرأ على فعل ذلك.."
حدجه قادور بنظرة غاضبة وهو يقول "أظننتني استدعيتك لأخذ رأيك يا مينار؟"
قال مينار دون أن تخيفه نظرة الغضب تلك "لا.. أنا أدرك أنك لا تستشيرني في أي أمر يخص جام.. لكن، أريد أن أفهم دوافعك لتصرفٍ خطير كهذا.."
زفر قادور وصمت للحظات، ثم قال "لقد كانت تلك مجرد فكرة بالفعل.. عندما مات سيجان، شعرت بالدنيا تظلم أمام عيني.. شعرت أنني وحيدٌ ومنقطع بين الأكاشي.. لم أكن بمزاجٍ كافٍ للبحث عن زوجة جديدة تمنحني ذلك الابن وأن أنتظره حتى يكبر ويشتد ساعده.. شعرت أنني أصبحت كبير السن على هذا الأمر، وزادني همّـاً أمر ذلك الملك العربي الذي يستهدف سهولنا بشكل واضح مع تهاون الأكاشي في البحث عن وسيلة لصدّه.. تخيّلت سخرية الزعماء مني، وأنا الزعيم الذي لا أملك أبناءً يشتد بهم ساعدي وتقوى بهم عزيمتي.. وضاقت عليّ نفسي حتى كدت أموت من الغم.. حتى رأيت ججي ترتدي خوذة سيجان وتمسك سيفه الذي يفوقها طولاً.."
صمت مينار مستمعاً لقادور الذي أضاف "كانت فكرة مجنونة بالفعل، كما أكد لي الجميع.. لكني رأيت أن الفرصة مناسبة لأخرس جميع الزعماء قبل أن يسخروا مني بالفعل.. ماذا لو أنني، وأنا الذي لا أملك ابناً أفخر به، أستطيع أن أجعل ابنتي أفضل من جميع أبنائهم؟.. أن تكون ابنتي هي الأقوى، والأمهر، والأذكى بينهم؟.. ألن يجعلهم هذا يخجلون من معايرتي ببناتي وأنا لا أملك إلا هنّ؟.."
غمغم مينار بغير اقتناع "هذا ليس مقنعاً.."
فقال قادور "ليس مقنعاً لك الآن، لكنه كان مقنعاً لي وقتها.."
عندها علق مينار "ربما.. لكن هذا لا يبرر سعيك لجعلها زعيمة لقبيلتنا.. هذا يفوق الجنون بالفعل.."
زفر قادور من جديد وهو يتأمل المخيم الذي يرتمي عند قدميهما حيث جلسا على إحدى التلال العالية، ثم قال "بعد أن شهدت سعي ججي الحثيث لتحقيق ما صبوتُ إليه، وبعد رؤيتي لمثابرتها وذكائها الملحوظين، بدأت الفكرة تبدو أكثر واقعية مما قد تظن.. بجعلها الزعيم من بعدي، لو أصابني مكروه لأي سبب من الأسباب، ستكون ججي أكثر أمناً مما لو كانت مجرد فرد من هذه القبيلة.. بعد أن أقضي نحبي، لن يتردد الزعيم القادم في التخلص منها ومن العار الذي يجلبه وجودها في هذه القبيلة.. لكن بكونها زعيماً للقبيلة، ستكون بأمانٍ جزئي حتى تتمكن من أن تثبت وجودها للقبيلة كلها، ولا أشك بأنها ستتمكن من ذلك.."
ثم ابتسم ابتسامة جانبية معلقاً "وبكونها زعيماً للأكاشي، ستكون هذه هي ضحكتي الأخيرة في وجوه كل من جرؤ على السخرية مني ومما حاولت تحقيقه عبرها.."
نظر له مينار بغير تصديق، ثم قال "أأنت واعٍ لما تقوله يا قادور؟.. تريد أن ترمي ابنتك في النار لكي تثبت أنها قادرة على النجاة منها؟.. أنت تريد لها أن تتبعك فور موتك بالفعل.. وهذا ما سيجري في اللحظة التي تحاول فيها اقتناص الزعامة لنفسها.."
ثم أضاف بضيق "لا يمكنك أن تطلب من ابنتك أن تنهض لتولي الزعامة في لحظة دون إعداد.. هذا سيسبب لها صدمة شديدة وستستنكر ذلك بالتأكيد.."
فقال قادور "من قال إنني لا أفعل ذلك؟.. أنا أعدّها للزعامة بالفعل، لكن بشكل تدريجي وغير مباشر.. لو طلبت منها أن تلتهم قلبي عند موتي وتتولى الزعامة من بعدي، فلابد أن يصيبها ذلك بالذعر.."
قال مينار بحنق "هذا لا يكفي.."
قال قادور وهو ينظر له بثبات "ألن تعاونها لو كنتَ موجوداً؟"
نظر له مينار مقطباً، ثم قال "لو لم أكن جزءاً من مخططك هذا منذ البدء، ولو لم أعرف ججي حق المعرفة وأكن طرفاً من صراعها لنيل ما نالته، لكنت أنا المبادر في قطع عنقها بالفعل.."
فقال قادور بابتسامة جانبية "وهل ستفعل؟"
زفر مينار وهو ينهض ويغادر تاركاً قادور وحده غارقاً في خططه التي يعدها الجميع جنوناً يفوق الخيال.. فكان تعليق كين على ما ذكره مينار من ذلك الحديث "ولماذا قمت بتنفيذ مخططه ذلك مادمتَ تعده جنوناً بالفعل؟.. هل كنت تريد لججي أن تفقد حياتها حقاً؟"
نظر له مينار باستياء وأجاب "بل أردت رؤية ما طمح له قادور.. الأكاشي يكرهون التغيير كراهية عارمة، لذلك كان من المثير للضحك رؤية انفعالهم لمثل هذا التغيير الصارخ الذي قد يؤدي لقلب الكثير من الأمور الخاصة بالمرأة في عالمنا.. من المثير للضحك رؤية هلع الرجال لما قد تصل إليه المرأة لو كانت تتحلى ببعض العزم، ومداراتهم لذلك الهلع بالغضب والقسوة في المعاملة بشكل مفضوح تماماً.."
فقال كين بغير تصديق "كلاكما قد أصابه الجنون بشكل تام.."
علق مينار قائلاً "ربما.. لكنه تغيير نحو الأفضل دون شك.. ليس لججي فقط.. ولا لنساء الأكاشي.. بل لرجالهم أيضاً.."
ونظر لكين مضيفاً "قد لا يبدو هذا التغيير بوضوح.. لكن مع الأيام والسنوات القادمة، يمكننا أن نأمل أن يغيّر هذا شيئاً في الأكاشي أنفسهم دون أن يملكوا الاعتراض على ذلك.."
عاد كين يغمغم باستنكار "هذا جنون تام.."
لم يعلق مينار على هذا القول، بينما غمغمت تينا بصدمة "كيف يمكن أن يصل التفكير بأبي لهذا الأمر؟.. ألهذه الدرجة هو يسعى لرفع ججي فوق مستوى الجميع؟.. ألهذه الدرجة هي مفضلة عنده؟.. ما الذي فعلته لتنال تلك الحظوة؟.."
نظر لها مينار بشيء من الإشفاق وقال "أنا أعترف أن قادور لم يكن منصفاً معك ومع ستينا بأي شكل من الأشكال.. لكنه، بخلاف رأيه في المرأة عامة، يتمتع برجاحة عقل تمكنت من تثبيته كزعيم لهذه القبيلة لعقودٍ طوال.. ولا نملك إزاء قراراته تلك إلا أن نرى توابعها، ونأمل ألا يكون مخطئاً هذه المرة.."
لم تعلق تينا وهي تحدق بوجه ججي التي لم تستفق من غيبوبتها، ثم نهضت ودفعت نفسها دفعاً للابتعاد عن ذلك الموقع دون أن تلقي على شقيقتها نظرة أخرى.. فنظر مينار إلى كين قائلاً "على أحدنا أن يبقى معها في الساعات القادمة، فلا يمكننا تركها لانتقام بقية رجال القبيلة.."
قال كين "سأبقى أنا.. أنت بحاجة لبعض الراحة بعد أحداث الليلة الماضية.. رغم أني لا أعرف كيف يمكنك الراحة في مثل هذا الكهف البارد والقاسي.."
ربت مينار على كتفه، ثم ابتعد بصمت فيما بقي كين جالساً قرب ججي وهو يزفر بحدة محتفظاً بسيفه قرب يده بتحفز تام.. ولا تزال صدمته لما رآه من تصرف ججي تعجزه عن تصديق ذلك بشكل تام.. وكأن ما جرى كان جزءاً من هلوسة مرت عليه في لحظة ضعف، لا واقعاً رآه بأم عينيه بكل قساوة توحي بها طبيعة الأكاشي أنفسهم..

************************

مع انقضاء ساعات ذلك النهار، كان الوضع في الكهوف التي توزع فيها أفراد القبيلة أسوأ ما يمكن.. كان البرد يزداد شدة مع مرور الساعات ومع الغيوم التي هيمنت على السماء، وللعجب بدأت ندف الثلج في الهطول بشيء من الكثافة رغم أن ذلك حدثٌ نادرٌ ولا يتكرر بشكل سنوي في هذا الجزء من السهول.. ولكن بدا أن كل الأمور قد تضافرت لجعل حياة أفراد القبيلة أسوأ مع البرد القارس وغياب أي وسائل للتدفئة إلا النيران التي أشعلت في أكثر من موقع، كما كان شحة الطعام والقليل من الماء الذي عثروا عليه في جانب أحد الكهوف عاملاً مساعداً في إنهاك القبيلة أكثر فأكثر..
وفي ذلك الوقت، لم تكن ججي أفضل مما سبق.. كانت الحمى ترجف جسدها رجفاً، والعرق يتصبب من وجهها الذي احمر بشدة حتى أصبح مقارباً لشعرها الأحمر في اللون، بينما شفتاها الجافتان تتحركان بين وقت وآخر في هذيان هامس لا يكاد يفهم كين منه كلمة..
ولما اقتربت تينا من ذلك الموقع، فإنها ألقت نظرة على كين الذي جلس جانباً والذي تحفز شيئاً ما لاقترابها.. فغمغمت بضيق "لا تقلق.. لن أحاول تكرار ما فعلته صباحاً.."
بدت الراحة على وجه كين لقولها ذاك، عندها قالت تينا مبررة أفعالها التي تراها الآن لا تقل وحشية عما فعلته ججي "لقد كنت على وشك الانهيار لكل ما رأيته البارحة، وللصدمة التي أصابتني لكل من فقدته.. لكني لا يمكن أن أقتل شقيقتي وهي فاقدة للوعي حقاً.. لستُ بتلك الخسّة أبداً.."
فقال كين بهدوء "أنا أدرك أنك لستِ كذلك.."
ألقت نظرة على وجهه الذي بدا متعباً بشدة وقالت "أنت بحاجة لبعض الراحة.. تبدو منهكاً.."
علق كين "وأنتِ كذلك.. تبدين متعبة.."
أدارت تينا وجهاً متورماً من البكاء بعيداً عن نظرات كين.. فمع بكائها لمقتل أبيها وأمها في ليلة واحدة، ولما حلّ بالمخيم، ومع صدمتها لما ارتكبته ججي، فإن تينا قضت أوقاتها ودموعها لا تكاد تجف وحزنها لا يكاد يهدأ..
نظرت لوجه ججي وهمست "كيف تمكنت ججي من القيام بتصرف وحشي كهذا؟.. كيف استطاعت أن تفعل هذا بأبينا دوناً عن الآخرين؟.. كيف أمكنها أن تكون جامدة المشاعر بهذه الطريقة؟.."
علق كين وهو يراقب ججي المستمرة في غيبوبتها وهذيانها "أتظنين أنها جامدة المشاعر حقاً؟.. هذه الحمى وهذا الهذيان ليسا بسبب الجرح الذي أصابها، فهو ليس ملتهباً.."
نظرت له تينا بدهشة، فأضاف "لو انتبهت لهذيانها، لأدركت ما أعني.."
نظرت تينا لججي بدهشة، وأنصتت لهذيانها الهامس محاولة التدقيق في كلماتها، لكنها لم تفهم كلمة مما تقوله.. ثم، من بين هذيانها المبهم، استطاعت أن تسمعها تكرر بنبرة متألمة "سامحني..... سامحني........"
قرّبت تينا أذنها من فم ججي لتسمعها تقول بهمس مبحوح ونبرة متهدجة "سامحني يا أبي.. سامحني يا أبي.."
أبعدت تينا وجهها وهي تخفضه ودموعها تعود للانحدار على خديها.. كان كل ما جرى الليلة الماضية مؤلماً، وزادتها كلمات ججي إيلاماً وتعاسة.. لم تكره تينا الأكاشي يوماً كما كرهتهم في الأيام الأخيرة، وكرهت تلك الحياة التي تسير بالحروب والمعارك ولا يتم فضّ خلافاتها إلا بالسيف وحده..
وبصمت، نهضت تينا وغادرت تاركة كين قرب ججي.. لم تكن تملك ما تفعله مع ججي، ولم تكن تطيق البقاء معها لوقت طويل ومشاعر الغضب والإشفاق يتناهبانها تجاه أختها التي فاجأتها بشكل لم تتصوره قط..
وفي وقت متأخر من ذلك اليوم، عاد مينار إلى موقعهما واقترب من ججي ليجد أنها لا تزال في غيبوبة الحمى العميقة، بينما لاحظ وجود كين الذي جلس جانباً محتفظاً بسيفه قريباً وهو يرمق مينار بصمت، وإن بدا بأسوأ حالٍ ممكن.. فقال مينار "كيف هو جام؟.. ألم يستفق منذ الصباح؟.."
هز كين رأسه نفياً بصمت، فعلق مينار "وماذا عنك؟.. ألم تحصل على أي راحة؟.."
قال كين بضيق "وكيف يمكنني ذلك؟.."
فقال مينار "ما رأيك بأن تحظى ببضع ساعات من النوم العميق؟.. ستكون الأمور كلها على ما يرام.."
نظر كين لمينار ليرى إن كان يمزح أم أنه جاد، ثم قال بضيق "كيف تتوقع مني ذلك بعد كل ما جرى؟.. أتضمن لي أن رجال القبيلة لن يقتلوا ججي خلال تلك الساعات؟.."
أجاب مينار "يمكنني أن أضمن ذلك نوعاً ما.."
نظر له كين بعدم فهم، فشرح له مينار الأمر قائلاً "هناك اتفاق ضمني بين رجال القبائل على ألا يطيح رجال قبيلة بزعيم جديد قبل مرور ثلاث أشهر على الأقل.. مهما رغب الآخرون بفعل ذلك، فعليهم الانتظار لثلاثة أشهر قبل المحاولة، وخلالها يمكن للزعيم الجديد أن يحاول اكتساب ولائهم وطاعتهم ويستميلهم ليصبحوا من رجاله.. بخلاف ذلك يصبح الأمر فوضى لا يمكن التحكم بها.."
تساءل كين بشك "وهل وافق رجال القبيلة على منح ججي هذه المهلة؟.."
أجاب مينار "لقد تمكنت من إقناعهم بذلك في الوقت الحالي، وهم لا يجرؤون على كسر أي اتفاق خاص بالقبيلة لئلا يصبح وصمة عار في سمعتهم بين بقية القبائل.."
زفر كين بشيء من الراحة لهذا وهو مدرك أن ججي بأمانٍ جزئي الآن، ثم قال لمينار بحنق شديد "لكني لازلت أشعر بالحنق والصدمة لكل ما جرى.. لمَ دفعت ججي لتفعل ما فعلته؟.. كان يكفيها ما حققته حتى الآن، ويكفيها ما أصبحت عليه.. إنها مجرد ظل مشوه لرجل، وهي أنثى بالإسم فقط.. ألم يكفِ كل هذا لتسعى لتدميرها بوضعها في مصبّ غضب القبيلة كاملة؟.."
نظر مينار لكين بنظرة حادة مضيفاً "لو كنت تراها مجرد نسخة مشوهة وظلاً لرجل، فأنت لا تستحق أن تكون جوارها في هذه اللحظات.."
احتقن وجه كين لتأنيب مينار، ثم أدار وجهه جانباً وهمس "آسف.. لم أملك حدتي تلك مع التعب والصدمة التي شعرت بهما في الساعات الماضية.. لا يمكنني أن ألومك لما حدث، فهي، في النهاية، قد اختارت تنفيذ ما طلبته منها بملء إرادتها.."
عندها قال مينار "ارحل واحصل على بعض الراحة قرب النار.. سأستدعي تينا أو إحدى النسوة للعناية بجام أثناء ذلك.."
فقال كين "لا.. سأرحل إن وعدتني أن تبقى أنت لحمايتها، ولن أرضى بأي بديل عنك.."
صمت مينار للحظة متأملاً وجه ججي، ثم قال "لا بأس.. لا أملك ما يشغلني في الوقت الحالي.."
عندها نهض كين متوكئاً على سيفه، واقترب من ججي يطمئن عليها ويلمس جبينها بيده ليتأكد أن الحمى قد أصبحت أقل من السابق، ثم زفر ونهض قائلاً "أرجوك أن تحافظ على حياتها يا مينار.."
علق مينار "يمكنني حمايتها من غدر رجال القبيلة، لكن لا سلطة لي على هذا المرض.. لذلك لا تتوقع الكثير مني.."
لم يعلق كين وهو يرحل بخطوات متعبة، ولما غاب عن الموقع جلس مينار قريباً من ججي بصمت يتأملها عاقداً ذراعيه على صدره.. ورغم كلماته المطمئنة التي حاول إقناع كين بها، فإنه في الحقيقة لا يأمن على حياة ججي من غدر بقية الرجال.. فما ينطبق على أي زعيم جديد للقبيلة لا ينطبق على ججي لأنها تخالف أول شرط للزعامة، وهو أن تكون رجلاً.. ورغم أن رجال القبيلة قد اضطروا لمسايرة قادور في لعبته طوال السنوات الماضية، لكنهم لا يجدون داعياً لذلك الآن بعد موته.. ولذلك، احتفظ مينار بسيفه أمامه قريباً من متناول يده، وجلس بصمت حتى يتمكن كين من الحصول على ما يكفيه من راحة..

************************

لم تمضِ ساعات قلائل من تلك الليلة حتى وجد مينار أن كين قد عاد إليه.. كان وجهه يبدو أقل تعباً وإعياءً من السابق، لكنه لم يستعد قواه بشكل تام.. فتساءل مينار "ما الذي جاء بك الآن؟.. كان بإمكانك أن تحظى بالراحة لوقت أطول.."
غمغم كين وهو يجلس قريباً "لم أتمكن من ذلك والهواجس تتناهبني بما قد يحدث لججي أثناء نومي.."
فقال مينار بابتسامة "ألا تثق بي حقاً؟.."
لم يعلق كين وهو يناول مينار بعض اللحم المشوي قائلاً "لقد تمكن الرجال من اصطياد بعض الطرائد، ولو أن الأمر صعبٌ بدون خيول.. لذلك لم يحصل أي فرد من القبيلة على أكثر من هذا.."
تساءل مينار "ألم يعثروا على الماشية والخيول بعد؟"
أجاب كين "لقد انطلق اثنان مع الحصان الذي عثرتُ عليه وحيداً في المخيم.. وهما يبحثان عن الخيول والماشية منذ الصباح دون فائدة.. لكن لنأمل خيراً.."
سادهما الصمت لبعض الوقت، ثم تساءل كين بخفوت "ما الذي سيجري الآن؟.."
أجاب مينار "على جام أن يثبت نفسه كزعيمٍ لهذه القبيلة.. وعندما ينال موافقة الرجال، علينا عندها أن نخطط لاسترداد مخيمنا وكرامتنا المهدورة.. لا يمكننا أن ننزوي في هذه الكهوف كالفئران لوقت طويل.."
غمغم كين "كلا الأمران صعبٌ وعسير.. ولا أدري كيف يمكننا تحقيقهما بالفعل.."
بعد رحيل مينار، جلس كين بصمت في موقعه المعتاد قرب ججي وهو يتأملها غارقاً في أفكاره.. ما يزال قادور يلعب بحياة ججي حتى بعد موته، ومازال يطوّحها في الاتجاه الذي يشاؤه دون اعتبار لما قد يكون الأفضل لها أو ما قد ترغب به حقاً.. لكن كيف استسلمت ججي لهذا الأمر بهذه السرعة؟.. إنها لم تتردد ولو للحظة في تنفيذ ما طلبه مينار رغم الصدمة التي بدت ظاهرة على وجهها لموت أبيها.. ألهذه الدرجة هي قد اعتادت تنفيذ أوامره وأوامر قادور بحيث ما عادت تناقش أي أمر منهما مهما كانت تستنكره؟.. أم أن ذلك وافق هواها بالفعل؟..
لاحظ في تلك اللحظة أن ججي التي لم تستيقظ من غيبوبتها بعد قد بدأت ترتجف وتهز رأسها بشدة، فأمسك بذراعيها محاولاً إيقاف رجفتها وهو يقول لها "ججي.. ما بك؟.. ما الذي يجري لك؟.."
هزت رأسها بشدة وهي تهذي، فأمسك وجهها بيديه متأملاً ملامحها المنقبضة بألم، ولما تكرر همسها قربّ أذنه منها ليستمع لما تقوله، فسمعها تعيد الكلمات التي لم تفتأ ترددهن منذ تلك الساعة "سامحني يا أبي.. سامحني.."
ولما شعر كين أنها تعاني أشد المعاناة في هذيانها وغيبوبتها تلك، أمسك كتفيها وهزها قائلاً "استيقظي يا ججي أرجوك.. لقد انتهى كل شي.."
وبعد عدة محاولات، رآها تفتح عينيها قليلاً وتنظر له بنظرة خاوية، فسألها كين "أأنت بخير؟.."
سمعها تغمغم بصوت مبحوح "كين.. أرأيت ما قمتُ بفعله؟.. لقد قتلتُ أبي.."
واحتشدت الدموع بسرعة في عينيها لتسيل على خديها المشتعلين بسبب الحمى وهي تهمس بصوت متهدج "لقد قتلته وأكلت قلبه.. كيف أمكنني فعل ذلك؟.."
شدّ كين على كتفيها قائلاً "أنت لم تقتليه يا ججي.. كان ميتاً عندما أحضره الرجال.. لم تقتليه أنت.."
لكنها لم تكن تستمع لكلمة مما يقولها وهي تقول باكية "لقد قتلته والتهمت قلبه.. تعساً لي.. كيف فعلت ذلك؟.. "
كان يراها بهذا الضعف والتهاوي للمرة الأولى منذ عرفها، وهي التي لم يشهد منها دمعة قط.. وهذا آلمه بشدة وهو يرفعها قليلاً ويضمها إليه بأقوى ما يملك.. ظل يستمع لانتحابها الذي لم يخفت ويشعر بارتجافة جسدها وحرارته المرتفعة بسبب المرض، بينما ضمّها بقوة وهمس "اهدئي يا فتاتي.. الذنب ليس ذنبك.. اهدئي واستعيدي قواك بسرعة.."
ظلت ترتجف باكية وهي تتشبث به، بينما بقي كين صامتاً وهو يشدّها إليه ويمسح على شعرها برفق.. ظل مشفقاً عليها وفي الآن ذاته شعر بشعور غريب يجتاح صدره وهو يضمها إليه ويسمع صوتها الباكي المبحوح.. لطالما أشعرته ججي أنها قوية، وأنها لا تحتاج له ولحمايته.. لطالما أشعرته أنها هي من يتكفل بحمايته ورعايته طوال الوقت، ورؤيتها ضعيفة بهذه الصورة قد أربكته بقدر ما أشعلت في صدرة رغبة شديدة بحمايتها ومسح دموعها.. ورغبة قوية بضمها والإبقاء عليها قريبة من قلبه.. كيف لهذه الفتاة بالذات أن تسبب له هذه المشاعر كلها؟.. ولمَ هي دوناً عن بقية الفتيات؟..
لقد حاول أن يجد تفسيراً للأمر عدة مرات وهو يراقبها في جوانب المخيم متعجباً من انجذابه لفتاة خشنة المظهر والتصرفات، لكنه لم يجد تفسيراً حقيقياً للأمر.. حتى يئس من العثور على جواب لتساؤلاته واضطر للاقتناع أن تلك المشاعر القوية التي تجتاحه تجاه ججي بالذات لا تفسير لها ولا وسيلة لتغييرها أو صرفها في اتجاه آخر.. كما رضي بالبقاء جوارها دون أن يملك أي أمل بالاقتراب منها أو نيل حبها وهي التي ترفض الاعتراف بأنها فتاة وأنها قد تجد مشاعر من رجل تميل نحوها لأي سبب..
وجد بكاء ججي يخفت وجسدها يسكن قليلاً، لكنه لم يتخلّ عنها وهو مدرك أن فرصة كهذه لن ينالها مرة أخرى في أي ظرف آخر.. فشدّ ذراعيه المحيطتين بجسدها وهو يهمس في أذنها "كيف تفعلين بي كل هذا يا ججي؟.. متى سترينني حقاً؟.."
لم يسمع منها صوتاً وجسدها مستكين بين ذراعيه.. شعر كين أنها رغم قوتها وخشونتها المعتادة، فهي تبدو الآن ضعيفة وضئيلة بين ذراعيه.. بدت هشة جداً بحيث ازدادت رغبته بالتشبث بها أكثر.. لكنه سمع صوتاً يصدر من خلفه في تلك اللحظة، فانتفض وهو يطلق ججي ملتفتاً خلفه، فرأى تينا التي وقفت في موقع قريب بصمت.. ومن الوجوم الذي بدا عليها وهي تنظر إليه، فإنه أدرك أنها رأت ما يفعله.. لذلك شعر بحرج شديد وهو يدير بصره جانباً وتينا تقول "كيف هي الآن؟.."
لم يجب وهو ينظر جهة ججي التي أطلقها من قبضته بارتباك في اللحظة السابقة، فبدا له بوضوح أنها قد عادت لغيبوبتها أو أنها نائمة بعمق.. كانت ملامحها قد تخلت عن عبوسها السابق وبدت أكثر سكوناً وهدوءاً مما سبق.. فزفر وهو يتأمل وجهها بينما اقتربت تينا وتلمست جبين ججي للحظة قائلة "لا تزال الحمى قوية، لكنها كفت عن الهذيان على الأقل.. ويبدو لي أنها نائمة.."
لم يعلق كين وهو يدير وجهه جانباً بينما التزمت تينا الصمت للحظات، ثم قالت بشيء من الكدر "لم أنت متضايق هكذا؟.. هل أزعجك قدومي في هذا الوقت؟.."
قال كين بضيق "ما الذي تعنينه؟.."
قالت وهي تتفحص ملامحه "لا أدري.. تبدو مستاءً لرؤيتي في هذا الوقت بالذات.. أكنت تفضل ألا أقاطعك في تلك اللحظة؟.."
شعر كين بانفعال شديد وهو ينتفض واقفاً ويقول بحنق "لم أفعل ما أخشى من رؤيتك له.. لقد كانت تبكي وتهذي بحزن شديد وحاولت إسكاتها.. هذا كل ما هنالك.."
واستدار مغادراً بعد أن اطمأن لوجود تينا قرب ججي.. كان بحاجة للحصول على بعض الراحة، وبحاجة للبقاء وحيداً في تلك اللحظات.. لذلك سار في الكهف حتى وصل للمدخل الذي اجتمع قربه بعض أفراد القبيلة وهم نائمون بعمق.. تجاوزهم كين بصمت وغادر الكهف متسلقاً تلك المرتفعات الصخرية حتى وصل لقمتها المسطحة والتي لم تكن ترتفع كثيراً عن الأرض.. كان الفجر قريباً ولم تكن السماء معتمة بشكل كامل، بينما بدأت زقزقات عصافير قريبة تعلو في المكان.. فجلس كين وحيداً وتأمل الأفق بصمت محاولاً استعادة سكونه.. لا يدري سبب هذا الضيق والانفعال الذي شعر به لدى قدوم تينا.. ألأنها رأت ما فعله؟.. أم لأنها بدت مستاءة لذلك؟.. لو فكر بالأمر قليلاً، لأيقن أنه لا يعبأ بنظرة تينا لما يفعله وللحب الذي يحمله لججي، فهي تعرفه تمام المعرفة.. ولا يخشى أن يصل الأمر لججي أو مينار، فما سبب ضيقه ذاك؟.. ألأنها، كما قالت، قاطعت تلك اللحظة النادرة التي قضاها مع ججي وحيداً؟.. ألأنها قطعت تلك اللحظة التي شعر فيها بقربه من ججي وقربها من قلبه؟.. أم لأنه يدرك أن لحظة مثل هذه لن تتكرر مرة أخرى؟..
زفر وهو يستلقي على الأرض الصخرية متأملاً السماء فوقه، ورغماً عنه تذكر ما قاله مينار.. أهذا حقاً سيغيّر عقول الأكاشي وأفكارهم التي لم تتغير منذ مئات السنين؟.. أم أن ججي وحدها هي التي ستجني مغبّة هذا التغيير؟.. إنه لم يسعد قط برؤية ما هي عليه، ولم يشعر بسرور لما تحققه وسط قبيلتها طوال السنوات الماضية.. ألأنها تُظهره بمظهر الضعيف مقارنة بها؟.. أم لأنها قد استلمت الدور الذي كان من المفترض أن يستلمه هو في حياتها؟..
ظل بضيق شديد يفكر بالأمر من جوانبه، عندما قطعت أفكاره صيحة اندلعت من الكهف القريب.. ورغم أنها لم تكن عالية كفاية، لكنه تعرف فيها صوت تينا مما جعله يقفز واقفاً ويركض عائداً لمدخل الكهف دون تردد.. ما الذي جرى في اللحظات القصيرة التي تركهما فيها وحيدتين؟.. أيمكن أن يكون رجال القبيلة قد غافلوه وحاولوا الانتقام من ججي أثناء غيابه عنها؟..
وكما خمّن وخشيَ، فقد رأى في عمق الكهف الذي استقرت فيه ججي عدداً من شباب القبيلة ولاحظ على الفور السيوف والخناجر التي يحملونها في أيديهم.. وبنظرة سريعة، أدرك من ملامحهم المتحفزة وتجمعهم الهدف الذي لأجله جاؤوا في هذا الوقت بالذات.. عندها ركض نحوهم دون تردد ودفع آخرهم بعيداً ولكم آخر قبل أن يشق لنفسه طريقاً نحو الوسط.. وقبل أن يفلح في عبور تلك الجماعة، وجد أحد أولئك الشباب يجذبه بقوة ويلكمه على وجهه صائحاً "ما الذي تظن نفسك فاعله؟.. دخيل مثلك لا يحق له أن يتدخل في أمور القبيلة.."
فقال كين وهو ينظر له بغضب "هل جئتم للنيل من زعيمكم؟.."
قال الشاب ملوحاً بسيفه "زعيمنا؟.. أنت تمزح، أليس كذلك؟.."
وقف كين عابساً وهو ينظر للثلاثة الذي سدّوا طريقه، بينما تعالت صيحة فزعة أخرى من تينا وتّرت كين بشدة.. لكنه سمع في تلك اللحظة صوت ججي وهي تصيح بغضب "لا تجرؤ على هذا.."
رغم شعوره بالراحة لأن ججي بخير وقد استعادت وعيها، لكن ما يسمعه لم يزده إلا قلقاً وتوتراً وهو يرى الشاب القريب يهجم نحوه بسيفه.. تراجع كين خطوة ومال جانباً ليتفادى تلك الضربة، ثم وجه سيفه بضربة سريعة نحو يد الشاب مسببة له جرحاً مؤلماً أجبره على إسقاط سيفه.. عندها أسرع كين يتناول السيف الذي سقط أرضاً، واندفع بين الشابين وهو يلوّح بسيفيه بقوة.. لم يكن يرغب بإصابة أحدهما أو قتله، بل جلّ ما رغب به هو الوصول لججي والوقوف معها لحمايتها.. تراجع الشابان جانباً وهما متحفزان للهجوم عليه، لكن كين لم يستدِر إليهما وهو يندفع مزيحاً مجموعة أخرى سدّت طريقه..
صاح أحد الشابين خلفه محاولاً إيقافه، لكن كين كان قد ارتطم بأقرب الشباب إليه مطيحاً إياه جانباً قبل أن يندفع متفادياً البقية حتى وصل للموضع الذي تتحلق حوله تلك الجماعة من الشباب.. وفي الوسط، وجد ججي مستيقظة وراكعة وسط المكان، بوجه محمرّ بشدة بسبب الحمى، وشعر ثائر نافس وجهها في الاحمرار، وملامح عابسة ثائرة بقوة..
كانت راكعة وهي تمسك عنق أحد الشباب بذراعها، بينما يدها الأخرى تقبض على خنجر غاب في كتف الشاب حتى مقبضه.. ولما سحبت خنجرها، بدأت الدماء تثور من موضع الجرح العميق بينما ركلت ججي الشاب المتألم ليسقط عند أقدام رفاقه وهي تقول بصوت مبحوح غاضب "لو ظننتم أنني ضعيف بسبب مرضي هذا وأنني سأكون لقمة سائغة لكم، فعليكم التفكير بالأمر من جديد.. لن أقضي نحبي قبل أن أقتل نصفكم على الأقل.."
نظر لها الشباب بغضب والشاب الجريح يقف بدوره ممسكاً جرح كتفه، بينما أسرع كين ليقف إلى جوارها حاملاً سيفه بتأهب.. لو حاول أحدهم الوصول إليها، فلن يتردد في المقاومة بكل ما يملك ليحميها.. هذا على الأقل ما يمكنه فعله لها، أو على الأقل المحاولة فلا يثق أنه بقادرٍ على التغلب على الأكاشي مهما فعل..
رأى بعضاً منهم يتقدمون منها خطوة، بينما وقفت ججي وهي تمسك خنجرها مدمدمة "لم أتوقع أن يكون رجال قبيلتي بهذه الخسّة.. أهكذا يفعل الأكاشي؟.."
علق أحدهم بسخرية "وهل اعترف أبوك بقوانين الأكاشي عندما قرر أن يرفعك لمكانة لا تستحقينها؟.."
تزايد الغضب في صدر ججي لدى ذكر أبيها، وهو أمرٌ لا ترضى به من أي شخص كان.. وقبل أن تشتعل الأمور من جديد، وصل مينار للموقع وتجاوز حلقة الشباب بالقوة قائلاً بغضب "أهذا ما خططتم له بكل حقارة؟.. أن تتخلصوا من زعيمكم في هدأة الليل بكل خسّة؟.. هذا ليس مذهب الأكاشي أيها الجبناء.."
قال أحد الشباب بغضب "لكنها ليست زعيماً لنا.. لا ينطبق عليها أحد الشروط الأساسية للزعامة، فهي ليست ولن تكون رجلاً مهما تصنعت ذلك.."
دار مينار ببصره في الوجوه الغاضبة، ثم قال "لقد وعدني رجال القبيلة بالانتظار حتى يستعيد جام قواه، وبأنكم لن تلمسوه قبل أن يشفى من مرضه.. فكيف تكسرون وعدكم لي بهذه البساطة؟.."
قال أحد الشباب بسخرية "نحن لم نعدْك بشيء.. كان ذلك وعداً من أحد العجائز الخرِفين الذين يظنون أنهم يملكون سلطة علينا.. أما نحن، فلا....."
قاطعته ضربة قوية بعصاً خشبية أصابت رأسه، ولما التفت حانقاً للخلف، رأى جماعة من كبار القبيلة يقفون خلفهم والأقرب إليهم يقول بحنق "عجوزٌ خرف؟.. أهذا كل ما هداك لسانك لقوله؟"
تراجع الشاب بشيء من القلق وقد فوجئ هو ورفاقه بتدخل كبار رجال القبيلة فيما انتووا فعله، فيما قال الرجل مواجهاً مجموعة الشباب قائلاً بغضب "لو كنتم تملكون الوقت الكافي للعبث في المكان، فالأفضل لكم قضاء أوقاتكم في البحث عن الماشية والخيول.."
اندفع الشاب يقول من جديد "لا يمكنكم إملاء الأوامر علينا.."
عاد الرجل لضربه بالعصا الخشبية على رأسه ضربة مؤلمة، ثم قال بصرامة "لقد تمكن مامير من العثور على موضع الماشية في الشمال من موقعنا هذا.. انطلقوا لمعاونته في إعادتها إلينا، فنحن بحاجة لها أشد ما يكون في هذه الأوقات.."
تبادل الشباب النظرات التي تشي بشدة الضيق، لكنهم في النهاية استسلموا للأمر وهم يغادرون الموقع بصمت.. عندها تقدم ذلك الرجل من مينار وألقى نظرة على ججي قائلاً "ألا تعتقد أن الإصابة التي أصابت ذلك الشاب لن تكون لها تبعاتها في القبيلة؟"
قالت ججي بصوتها المبحوح "أما يفترض بي أن أدافع عن نفسي ضد هجومٍ حقير مثل هذا؟"
لم يعلق الرجل وهو يقول موجهاً حديثه لمينار "سنبقى على الوعد يا مينار، وننتظر منك أن تفعل الأمر ذاته.."
لم يعلق مينار بينما لوّح الرجل بيده لبقية الرجال قائلاً "فلنذهب.. لا أطيق البقاء بعيداً عن النار لوقت طويل.. عظامي ما عادت تتحمل مثل هذا البرد.."
غادرت المجموعة الموقع تاركة مينار وكين اللذين وقفا بصمت، وتينا التي خفت ارتعابها بعد جهد جهيد، فيما تهاوت ججي جالسة وهي تشعر بارتجافة في جسدها.. اقترب منها كين متسائلاً "أأنت بخير؟"
غمغمت ججي "أشعر بضعف شديد.. يبدو أنني لم أتعافَ من الحمى بعد.."
فقال كين "عليك تناول بعض الطعام لتستعيدي قواك بسرعة.."
نهضت تينا قائلة "سأذهب لجلب بعض الطعام حالاً.."
وغادرت بسرعة تاركة كين ومينار قرب ججي، فالتفت مينار إلى ججي قائلاً "رغم أنني أتمنى أن تستعيد قواك بأسرع ما يمكن، لكني أخشى من اللحظة التي ستفعل فيها هذا.."
قال كين بغير تصديق "هل وعد الرجال بالانتظار فقط حتى تنهض ججي من مرضها؟.. ماذا عن الأشهر الثلاثة التي وعدتني بها؟"
قال مينار بتبرير "كان ذلك لإزالة قلقك لا أكثر.."
نظر له كين بضيق، فيما غمغمت ججي "لا تقلق.. تلك عقبة سأتخطاها بكل تأكيد.."
جلس مينار قربها وربت على كتفها قائلاً بابتسامة "هذا ما أرجوه يا جام.. بل هذا ما أثق فيه بالتأكيد.."

************************

بعد بدء ذلك النهار الذي لم يتمكن من إزالة ولو جزءٍ ضئيلٍ من برودة الليلة الماضية، وفي موقع آخر من الكهف الذي يتفرع عدة تفرعات في تلك المرتفعات الصخرية القديمة، ظل تبريق جالساً بصمت وتينا تنظف جرح خاصرته بقطعة قماشية اقتطعتها من قميصه وقربها إناءٌ فيه بعض الماء الذي قامت بتدفئته في النار القريبة.. لم يلتئم الجرح بعد، وبدا أنه لا يزال يسبب آلاماً شديدة لتبريق الذي احتفظ بصمته وإن دلّ عبوس وجهه على ما يشعر به.. ورغم أن تينا قد اعتنت بتبريق بكل إخلاص في الوقت الذي مضى، لكنها لم تتمكن من محو الكآبة التي تعلو وجهها بين حينٍ وآخر.. لقد فقدت والديها في ليلة واحدة، وسقطت ججي في غيبوبة وحمى منذ تلك الليلة.. ومع أساها لمن فقدته، فإن تينا شعرت أنها قد أصبحت مجردة من أي سندٍ وحماية.. لم يعد لها إلا زوجها، ولشدّ ما تبتئس عندما تخطر لها هذه الفكرة وهي التي لم تقبله بعد في حياتها رغم كل ما رأته منه..
بعد أن تزايد ضيقها وهي تتذكر كل ما جرى منذ ليلة الهجوم على مخيم القبيلة، فإنها تأففت بصوتٍ عالٍ وهي ترمي القطعة القماشية في إناء الماء وتغمغم متذمرة "لقد سئمت كل هذا.."
لاحظت أن تبريق قد أدار وجهه ونظر إليها بصمت، فقالت بضيق أشد "إن ججي مريضة، وعليّ الاعتناء بها أيضاً.. فلمَ لم تحضر إحدى زوجتيك لتتولى أمورك في مثل هذه الأوقات؟.. لا أكاد أملك الوقت الكافي للحصول على بعض الراحة.."
أدار تبريق وجهه بعيداً وتينا تلف الجرح بقماش نظيف دون أن تخفي ضيقها، ثم سمعته يقول "أمازلتِ تصدقين ما قيل عني سابقاً؟"
نظرت له مقطبة، فأضاف "ظننت قادور قد شرح لك الأمر قبل زواجنا بالفعل.."
قالت باستياء وهي مستمرة في عملها "لا.. لقد أخبرته أنني لا أريد الزواج من شخص متزوج باثنتين بالفعل، لكنه قال إن هذا الأمر لا يخصنا.."
فقال تبريق "إذن هو لم يخبرك بحقيقة الأمر؟.. زوجتي الأولى قد ماتت بعد زواجي بها بعدة أشهر بسبب مرضٍ معدٍ، والثانية قد طلقتها وعادت لأهلها لأنها رفضت الإقامة في قبيلتنا هذه واستحقرتها.. كان ذلك قبل رحيلي نحو المملكة العربية منذ سنوات.."
نظرت له تينا بدهشة وصمت، ثم أسرعت تحمل إناء الماء وما تلطخ من القماش بدمائه وهي تغمغم عابسة "هذا لا يغيّر من رفضي الزواج بك شيئاً.. فلم يكن هذا هو سبب رفضي الوحيد كما تعلم.."
وغادرت تاركة تبريق يزفر بضيق بدوره وهو يستشعر الألم الشديد في موضع الجرح.. ورغم ذلك، سارع لارتداء معطفه وغادر الموقع شاعراً بالحاجة لاستنشاق بعض الهواء.. فقد أصبح المكان قرب تينا خانقاً لا يكاد يطيق البقاء فيه للحظات معدودة.. رغم أنه كان يعلم ببغض تينا له، وبأنها لم تغفر له إصراره على الزواج بها، لكن رؤيتها وهي ترجوه لإنقاذ كين كان أكثر مما يطيق.. شعر بضيق وكآبة شديدين، واستحقر مشاعره لتينا وهي التي لا ترى سوى كين مهما فعل.. رغم مضيّ أيامٍ قليلة على عودته للمخيّم من رحلته التي دامت لسنوات، لم يكن لتبريق ألا يلاحظ تينا بجمالها الواضح.. لكن ما جذبه إليها، وما جعلها لا تغادر تفكيره طوال اليوم، هو أنها لم تكن تتحلى بأي غرور أو ميوعة، ولم تتردد في إظهار ضيقها وغضبها ومعاملته بكل خشونة.. رغم أن هذا من المفترض أن ينفره منها، بالإضافة لمعرفته بحبها الشديد لكين، لكنه رغم ذلك لم يستطع معرفة كيفية التخلص منها ومن التفكير بها باستمرار.. لذلك، تجاهل كل ما يسبب له الضيق فيها وأصرّ على استمرار هذا الزواج.. كان يأمل أن تراه على حقيقته، وترى حبه واهتمامه بها.. وهذا قد يجعلها تميل نحوه حقاً.. لكن كيف يمكن ذلك وهي ترجوه، بعد أيام قلائل من زواجهما، أن يبذل جهده لحماية غريمه والدفاع عنه؟.. أيمكن له أن يرجو أمراً منها بعد هذا؟.. أم أن عليه فعلاً أن يطلق سراحها ويتخلى عنها؟..
لكنه لا يستطيع فعل ذلك الآن، بعد أن فقدت والديها ولم يعد لديها من تعتمد عليه.. فما العمل الآن؟..

************************

بعد ساعات من بدء ذلك النهار، بدت ججي أفضل حالاً من السابق بعد أن تناولت القليل من الطعام وشربت الكثير من الماء في محاولة لتخفيف الحمى عن جسدها.. فلم يملك كين ابتسامة ارتسمت على وجهه وهو يقول "بهذا المعدل، يمكنك أن تمتطي ظهر الغبراء بكل يسر خلال يوم على الأكثر.."
رمقته ججي بصمت للحظة، ثم أدارت بصرها فور أن التقت عيناهما بحركة بدت واضحة لكين، وهو أمر لم يعتده من ججي الواضحة والصريحة بثباتٍ يثير الإعجاب.. لكنه لم يعلق وهو يقول "أتشعرين أنك أفضل حالاً الآن؟.."
لكنها لم تجب قوله، ومرة أخرى لاحظ أنها تبعد بصرها عنه بسرعة قبل أن تلاقي عيناه.. فما السر؟.. التزم الصمت من جديد وهو يراها متوترة بشكل ملحوظ وتقطيبة على جبينها، ثم بعد صمت قصير سألته "كين.. هل كنت معي طوال الليلة الماضية؟"
نظر لها بتعجب لهذا السؤال، فقالت مبررة مثل ذلك السؤال الغريب "لقد تراءى لي أنك كنت قريباً كلما فتحت عيناي.. لكنني كنت شبه غائبة عن الوعي بسبب الحمى الشديدة ولا أعي ما يدور حولي.."
فأجاب كين بهدوء "كنت معك طوال الليلة الماضية واليوم الذي سبقها كذلك.."
نظرت له بدهشة واضحة، فعلق مبتسماً ابتسامة صغيرة "أظننت أنني سأتركك تحت رحمة رجال القبيلة بعد الجنون الذي ارتكبتِه أمام أعينهم؟"
لم تعلق ججي بكلمة رغم الامتنان الذي تبدّى في عينيها، لكن سرعان ما خفضتهما من جديد بصمت تطاول للحظات قبل أن تقول "وهل.. هل بدر مني أي تصرف غريب؟"
تساءل كين "ما الذي تعنينه؟.. كنتِ مصابة بحمّى، لذلك من الطبيعي أن تبدر منك تصرفات غريبة وهذياناً أغرب.."
قالت بتوتر "ليس هذا ما عنيته.."
فقال وهو يميل نحوها "أفصحي لكي أفهمك يا ججي.."
زفرت بصمت قبل أن تدير وجهها جانباً متفادية نظراته المتفحصة وهي تقول بارتباك "هل... هل صاحب هذياني بعض البكاء؟.."
صمت كين وهو يحاول معرفة ما يقلقها في هذا الأمر.. أهي قلقة لبكائها أم أنها تحاول تذكر ما جرى منه في ذلك الوقت؟.. إنه واثق أنها لو كانت بوعيها لبادرت للكمه بقوة لو حاول ضمّها إليه.. فهل هي تريد التأكد مما جرى؟..
بعد أن طال صمته وقتاً طويلاً وهو يفكر إن كان الوقت ملائماً للاعتراف لها بما فعله وبما يكنّه في صدره أم أن هذا ليس الوقت الأفضل لذلك، سمعها تقول بارتباك أشد "لقد راودتني هواجس كثيرة أثناء غيبوبتي، ولم أعد أدرك ما حدث حقيقة وما كان مجرد هذيانٍ مني.. لكن.... لا أدري لم يراودني خاطر أنني بكيت الليلة الماضية دون سبب مفهوم.."
بعد أن أدرك كين سبب القلق الذي انتاب ججي، وأنه عائد لبكائها الذي تخجل منه، قال بهدوء "لابد أن ذلك كان هذياناً بالفعل.."
نظرت له بمزيج الشك والراحة لهذا القول، ثم زفرت وهي تفرك يديها بصمت محاولة تذكر ما جرى طوال ذلك الوقت الذي قضته مريضة لا تعي ما يجري لها.. لكن كين قطع أفكارها قائلاً "ألا يتوجب عليك التفكير بالكيفية التي ستقنعين بها رجال القبيلة بالتسليم لك كزعيمة لهم؟.. البدايات دائماً صعبة، وكونك أول امرأة تتجرأ لتطالب بالزعامة هو أمرٌ صعب يتطلب جهداً غير عادي لتجاوز معوقاته.."
زفرت ججي وغمغمت "أنا أدرك أن جميع رجال القبيلة يكرهونني.. وأنني لن أتمكن من كسب ثقتهم بطريقة عادية أبداً.."
علق كين "يكرهونك؟.. إنهم يتمنّون موتك في التو واللحظة.. إن بغضهم لك لا يمكن قياسه بكلمات.."
قالت بضيق "أيجب أن تصف الأمر بهذه الطريقة؟"
أجاب "لكي تدركي مدى المجهود الذي عليك بذله قبل أن يفكر أحدهم باقتناص قلبك بغفلة منا.. عليك أن تكوني أذكى منهم، وتستبقي أفكارهم قبل أن يفكروا بها.."
قالت بحزم "لا.. الأكاشي لا يؤمنون إلا بالقوة.. عليّ أن أثبت لهم أنني أفضل زعيم يمكنه أن يتولى القبيلة في الوقت الحالي.."
تساءل كين "وكيف يمكنك فعل ذلك؟"
زفرت بصمت وهي تحدق في يديها، ثم قالت "سأبارز من يطلب مبارزتي.. وسأتغلب عليه.. وبذلك يمكن للآخرين إدراك......."
قاطعها كين قائلاً باستنكار "أنت تمزحين.. أليس كذلك؟"
نظرت له مقطبة، وهو يضيف "الأكاشي لن يمنحوك مبارزة عادلة.. سيبارزك الرجال واحداً تلو الآخر حتى تسقطي منهكة، وأنت ضعيفة الجسد بالفعل بعد الحمى هذه.. وعندها سيكون قلبك من نصيب من يحالفه الحظ بالتواجد قربك في تلك اللحظة.. أظننت حقاً أن هذه الفكرة قد تكون لصالحك؟"
قالت بضيق "لن يقتنع الأكاشي مالم أتغلب على أقوى رجالهم.. وأنا قوية بالفعل ولست ضعيفة.."
قال كين بإلحاح "هذه فكرة حمقاء.. أرجوك اعدلي عن هذه الفكرة وفكري بغيرها.."
فقالت باستياء "إذن، هل تملك أنت فكرة أخرى؟.. يجب أن يكون الأمر مقنعاً، فلا تتوقع أن مجرد خطبة عصماء مني أمام القبيلة كافية لكسب رضاهم.."
غمغم كين "لا.. نحن بحاجة لخطة كبيرة تذهلهم.. أنت بحاجة لإثبات قدراتك كزعيمة، لا كمقاتلة.."
ونهض وهو يدور في المكان بتفكير ويدمدم بين وقت وآخر "ربما كان هذا الحل نافعاً.. لا.. هذا غير مقبول....... الأكاشي لا يعرفون سوى القوة.. فكيف يمكنك كسب رضاهم دون استعراض قواك بالفعل؟.. وما الذي يمكنني أن أعينك به وأنا لا أملك أي قوة يعتدّ بها؟.."
غمغمت ججي معلقة "جيد أنك تعترف بذلك.."
توقف كين عن دورانه وهتف "السفن....."
نظرت له بدهشة، فاقترب منها بسرعة وقال "السفن التي تربض في هذا الخليج مهددة أمنكم وباسطة حمايتها على الجنود الذين عسكروا في مخيمكم.. لو تمكنت من القضاء على تلك السفن بخطة ما، فهذا سينال إعجاب الأكاشي بكل تأكيد.."
قالت مقطبة "هذا مستحيل.. إنها في عرض البحر، ورجالنا لا يعرفون السباحة ولا يملكون أي سفن أو قوارب لاستخدامها.."
قال كين "هذا أدعى لأن يتفاجأ أصحاب تلك السفن بهذا الهجوم.."
ثم عاد يدور في موقعه مغمغماً "لكن، لا يمكننا أن نضمن ألا يحاول الجنود المعسكرون في مخيمنا التدخل في ذلك الوقت.. كما أن الهجوم على السفن سيزيد استنفارهم ويصبح القضاء عليهم عندها صعباً.."
فقالت ججي بحزم "إذن علينا القضاء على السفن، وعلى الجنود، في آن واحد.."
نظر لها كين بدهشة، ثم قال "سيكون هذا محض جنون.."
تنهدت ججي معلقة "هذا الجنون هو الوسيلة الوحيدة لإكسابي ثقة باقي رجال القبيلة.. وأنا سأفعل كل ما يمكنني لتحقيق ذلك.. ولتحقيق ما تمناه أبي مني قبل موته.."
تنهد كين وهو مطرقٌ بتفكير عميق، فاحترمت ججي صمته وهي تدور بأفكارها حول ما هي مقدمة عليه.. مع قبيلتها، ومع الجيش المعادي، ومع بقية قبائل الأكاشي التي لن تصمت على توليها الزعامة بالتأكيد.. يبدو أنها قد فتحت على نفسها أبواباً عديدة وعليها إغلاقها بإحكام كي تأمن على حياتها.. هل تشعر بالندم لما فعلته ولسعيها خلف الزعامة؟.. لا.. لم يخايل ججي أي ندم على هذا، فهي لن تتخلى عن الزعامة، ولن تتخلى عن حياتها التي بدأت للتو..
انتبهت لكين الذي رفع رأسه وقال لها "امنحيني يوماً للتفكير في الأمر يا ججي.. وسنجتمع أنا وأنت ومينار لوضع خطة محكمة لإنجاح مسعانا.."
قالت ججي "لا بأس.. أنا أثق بك يا كين.."
هز كين رأسه، ثم غمغم قبل أن يغادر "اهتمي بنفسك جيداً.. سأستدعي مينار ليبقى قربك حتى أعود.."
قالت ججي بحزم "لا داعي لذلك.. كما رأيتْ، يمكنني الدفاع عن نفسي دون الاعتماد على أحد.."
ابتسم كين ابتسامة جانبية معلقاً "أدرك ذلك، لكن الاحتياط واجب.."
واستدار مبتعداً، فاستوقفته ججي متسائلة "أين أمي؟.. لم أرها منذ استيقاظي.. أهي مع تينا؟.."
نظر كين لججي بصمت وشيء من الصدمة.. تذكر في تلك اللحظة أن الوقت لم يسعف أحداً لإخبار ججي بما جرى لأمها، ووقوعها في غيبوبة ليوم وليلة لم يمكّنها من الانتباه لغياب ستينا في مثل تلك الأوقات.. تنهد كين وهو يدرك أنه لا يقدر على تجاهل هذه النقطة، فعاد للجلوس قرب ججي وأمسك يدها وهي تنظر له بدهشة، وبكلمات موجزة، أخبرها بكل ما جرى لستينا وهي تحاول الدفاع عن ابنتها من هجوم الجنود.. ولما غادر ذلك الموقع بعد بعض الوقت، كانت ججي تخفي وجهها بيديها وهي تكبت انتحابها بشدة.. تلك ضربة جديدة أصيبت بها قبل مضيّ ساعات معدودة على المصائب التي تتابعت على قبيلتها، وعليها هي بالذات، منذ قرر ذلك الملك العربي أن يدفع جنوده للهجوم على مخيمهم الآمن في ظلام الليل بكل حقارة..

************************

 
 

 

عرض البوم صور عالم خيال   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
السماء.., ابنة
facebook



جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 02:39 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية