لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > قصص من وحي قلم الاعضاء > القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-02-20, 02:01 PM   المشاركة رقم: 1311
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Aug 2015
العضوية: 300973
المشاركات: 633
الجنس أنثى
معدل التقييم: simpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 475

االدولة
البلدBahrain
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
simpleness غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : simpleness المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي

 



المَساء حَلَّ بسكونه المُعتاد.. سُحبٌ كَبيرة تَمخر السّماء التي ارْتدَت ثَوْبًا أَحْمرًا مُوحش.. كما لَو أَنّها كانت في حدادٍ دَموي. انتظرَ حَقيبته الوَحيدة عند شريط الحقائب.. سافَرَ باثنتين.. خاصّته وخاصّتها.. والآن يعود بواحدة. رَفعها ثُمَّ اسْتَقَرَّ بها على الأَرْض ليجرها بجانبه حتى باب الخروج.. حيثُ قابلهُ عَبد الله الذي ابْتَسَمَ بشحوب وهُو يُرَحّب به: الحمد لله على السلامة
رَدّ وعيناه تتفحّصان ملامحه الغريبة: الله يسلمك "استطرَدَ" ما كان له داعي تجي.. باخذ لي تاكسي وبرجع
أَشارَ لهُ ليتقدّم: مو مشكلة.. ما عندي شي أَصْلًا.. فاضي
مَشى معه وهُما يَتجاذبان أطراف الحديث.. وعندما اسْتَقَرَّ جَسداهما في السيارة.. أَفْصَحَ عبد الله عن سؤال دُون أن يُوجّه ولو نظرة واحدة لرفيقه: ليش طلقتها؟
التَفَتَ له مُتفاجِئًا من السؤال غير المتوقع.. تَعَلّقَ بَصره به.. حتى أَن بؤبؤ عَيناه اضطربا بذهولٍ وارْتباك. أدارَ عبد الله وجهه إليه ليُكمل بخيبة: ما توقعت أبدًا إنّك تطلقها.. هي اللي قدرت إنها ترجّع محمد اللي كان
تَصافقت أَهدابه وعدستاه انخفضتا بالتوالي مع إشاحته.. وبنبرة خافتة يشوبها برود رَكيك: قسمة ونصيب
تَنهّد ليقول وهو يُشَغّل المحرك لينطلق بالمركبة: أدري قسمة ونصيب.. بس ما كان على البال.. ما توقعتك تتخلى عنها بعد ما لقيتها
تَطَلَّعَ إليه بعقدة حاجبين ولسانه يُردّد باستنكار: بعد ما لقيتها!
بانَ له جانب ابتسامته وهو يُعقّب بشرحٍ وافي دَقّ ناقوس قَلب مُحمد: أدري بتقول إنّك ما دوّرتها.. بس صدقني "التفتَ ناحيته للحظات قَبْلَ أن يعود للشارع ويُكمل بصوتٍ أَجش كان يُعرّي ذاته قبل أن يُعرّي ذات مُحمد" شعور الضياع اللي كنت تحس فيه مو بسبب الظروف اللي واجهتها.. لا.. بسبب افتقارك لروح مثل روحها.. روح ترد لك نفسك اللي ضيّعتها
كَوّرَ يَده على فَخذه وهو يعود ليُشيح إلى النافذة.. وبنبرة رَتيبة وكئيبة قال: الطلاق أفضل حل.. وجودنا مع بعض بيضرنا أكثر مما بينفعنا
نَطَقَ قلبه بما يعتلج في خاطره بهمس: وجودنا مع بعض بيخفّف من وجع الضرر
عارضه ونظراته تتجه إليه: حتى لو كان الوجع خفيف.. شنو الفايدة إذا بنظل متوجعين في النهاية!
ابْتَسمَ وهو يرنو لهُ بطرف عَيْنه: الفايدة إن احنا مع بعض
حَرّكَ رَأسه ينفضه من نوايا كلمات عبد الله قائِلًا: ما بتفهمني عبد الله لأنّك مو في مكاني
اتّسعت ابتسامته: ومن قال؟ "تَهكّمَ وعيناه تُلقي على محمد نظرة" من كثر حبي لك قلدتك وزوجتي حاليًا في بيت أبوها
ارْتَفَعَ حاجباه ولسانه نَطق بدهشة: طلّقتهــا!
هَزَّ رَأسه: لا.. بس صارت بيننا مشكلة.. والحل اللي بينهي الغرابة اللي سببتها المشكلة.. هو الطلاق
سَأل باهتمام: وراح تطلقها؟
زَمَّ شَفتيه ويَده تَشد على المِقْود.. تَأمّلَ مُحَمّد عَيْنيه.. ناعستان أكثر من المُعتاد.. الذبول يَكاد يُطْبِق جِفْناه ليغلق على الحيرة المُتكاثرة وَسط مُقلتيه. هَمَسَ بعدَ ثواني بكلماتٍ شَيّعتها تَنهيدة وُلِدَت من رُوح مُرْهقة: والله مادري ياخوي.. خايف أفكر في جواب لهالسؤال.. لأنّي أدري.. ثنتينهم الـ أي والـ لا ما راح يعطوني الراحة اللي أبيها
انتشرَ الصّمت بينهما بعدَ كلمات عبد الله الأخيرة.. واسْتَمَر إلى أَن سَكنت عَجلات السيّارة أمام منزل والد مُحمّد الذي تَساءَل باستنكار: ليش جايبني اهني؟
ابتسمَ.. مُذ لَقيهُ في المطار وهُو يُوَزّع الابتسامات.. وهذه دلالة على أَنّها رَخيصةٌ بالنسبةِ إليه للحد الذي يَجعله يَبيعها لداعٍ وبلا داعٍ بثمنٍ بَخس.. أي أنّها لَم تَكُن ابتسامات حَقيقية. وَضَّحَ: خبّرت عمتي إنّي باخذك من المطار فقالت لي أجيبك اهني.. تبي تشوفك
زَفَرَ وبضيق مكتوم لامه: ليش توافق؟ جان قلت لها بتشوفني قبل.. يمكن تعبان وأبي أروح شقتي
علا حاجبه: واللحين إنت تعبان؟
دَعكَ صدغه: لا.. بس "كَزَّ على أَسْنانه ثُمَّ أكملَ وأصابعه تطرق على الباب بارتباك" ما أبي أحد يسألني ليش وعشان شنو ومتى.. ولا أبي أسمع نصايح أحد
رَفَعَ كَتفيه وببساطة قال: إنت خطيت هالخطوة فتحمّل نتايجها
التقطَ طَرف شَفته السفلية بأسْنانه وعيناه تُوزّعان نظرات سَريعة على المنزل.. فَتحَ الباب وقال قَبْلَ أن يترجّل: افتح الصندوق
أَخذَ حَقيبته ثُمّ وَقَفَ عند نافذة عبد الله الذي سَأله: أنتظرك؟
: لا لا.. تيَسّر.. بخلي علي يوصلني الشقة.. ما قصّرت
ابتسمَ مُجَدّدًا: حاضرين لك
ناداه قَبْلَ أن يتحرّك: عبد الله "نَظَرَ لهُ باسْتفسار فأكمَلَ بهدوء ليُهديه نَصيحة أَسرَفَ في الإعراض عنها" اتّبع الجواب الأقرب للراحة.. حتى لو كان يوجع
تَأمّله ساهيًا في معنى كلماته لثواني، قَبْلَ أن يبتسم ابتسامة أخيرة وهو يرفع يده مُلَوّحًا: مع السلامة
بادلهُ التّلويح ثُمّ استدارَ ليُواجه باب المنزل المُغلق. ظَلَّ واقِفًا والرَيح من حوله تهيجُ ببطء لتسترجع من الماضي ذِكرى هاجمتهُ في هذه اللحظة.. ذِكرى عَودته بعد نَفْيٍ طَويـل. هُو أيضًا تَصَلّبَ حائِرًا أَمام هذا الباب.. مُتَرَدّدًا بين الدّخول وزعزعة سَلام عائلة رُبّما نَستهُ منذ زَمن، وبين العَوْدة للقَبر الذي سُجِن فيه بروح حَيّة لثلاثة عَشر عامًا. لكن الرّغبة المُلِحّة داخله.. رَجاء ذاته وتوسّلات قَلْبه المُتعَب؛ أَرْغموه على دَقِّ الجَرس.. ليخرج لاستقباله عَلي مثل تلك الليلة تَمامًا. لا ليس تمامًا.. فهذه المرة عَلي ابتسمَ لهُ بسِعة واحتضنه.. على عَكس عودته الأولى.. فهو لَم يتعرّف عليه أصْلًا في بادئ الأمر. دَلف معه للمنزل.. كانت والدته هُناك.. جِنان وجَنى وزوجة علي.. والده لَم يكن مَوجودًا.. لا داعي لوجوده أصلًا.. فليس مَطلوبًا منه أن يُفسّر شيئًا له هذه الليلة. رَحَّبن به النساء الثلاث.. ووالدته بالغت في الترحيب الذي تَذَيّلهُ عِتابٌ انقبضَ منه فؤاده الأَبكم. أَخْفَضَ رَأسه وشَبَك يَديه وهُو يَسْتمع إليها، ومع كُل كلمة تنطقها ينتحر عِرْقٌ وَسط قلبه: المسكينة أخذتها لبلاد الغرب.. غَرّبتها.. تركتها بروحها وبعدين رجعت طلّقتها! وهي ولا تدري شصاير من وراها.. سافرت وهي زوجتك.. ورجعت وهي طليقتك
هَمست جِنان بتأنيب: يُمّــــه خلاص
تجاهلتها وتجاهلت الجمود المُكتسح ملامح ابنها لتُواصل الإفصاح عما في جُعبتها: والله إنّي حبيتها.. بنية مؤدبة ومحترمة وحلوة.. وتحبّك.. وإنت بعد تحبها "قالت عندما رَفع إليها عَينيه المحشوتين تَعجّبًا" لا تنكر.. إنت حبّيتها.. صدق إنّك متكتم وجنك كتاب مسكّر.. بس قدرت أشوف بعيوني شلون عيونك تغيرت وابتسامتك تغيرت.. حتى ملامحك تغيرت.. وطبعًا للأفضل.. والسبب وجودها حولك ومعاك
تَداركَ عَلي الوَضع ليستطرد مُحادِثًا شَقيقه: محمد شكلك تعبان من الرحلة الطويلة.. ما تبي تروح بيتك؟
استعلم الوقت من ساعته ليقول بهدوء: امبلى.. جيت بس أسلم على أمي وأمشي "وَقَفَ ثُمّ اتّجه لوالدته وقَبّلَ رَأسها" مع السلامة يُمّه.. إن شاء الله أجيش وأقعد معاش أكثر في وقت ثاني
استفسرت باهْتمام: تعشيت؟
استقامَ جَسده: أكلت في الطيارة
وَقَفت لتُقابله ويُمناها ارتفعت لتَحُط على كَتفه.. شَدّت عليه بحَنوٍ أَرْجَفَ الحاجة المُتراكمة داخله.. وبهمسٍ مُتأمِّل قالت: تراها بعدها في العدّة.. يعني تقدر ترجعها من غير حتى عقد
ازْدَرَدَ ريقه وحواسه المُتلهّفة أسرعت لتتصدّى للفكرة التي قَذَفتها على يَباب أرضه المنكوبة.. اكتفى من الدّمار.. اكتفى من الفَوضى والاعتباطية.. اكتفى من أن يَرى بأُمِّ عينيه ذاته وهي تخر صَريعة للمرةِ الأَلف. هَمَسَ بنبرة خاوية ومُجرّدة من كُل إحساس: مع السلامة
استدارَ خارِجًا وتَبِعهُ كُل من جِنان وعَلي الذي رَكب سيّارته ينتظره. ابتسمت لهُ جِنان ابتسامة كانت من خلف قَلْبها المُتعاطف مع ملاك.. وبصدقٍ قالت: أنا واجد زعلانة منك بس ما راح ألومك.. لأنّي أدري إنّك ما أقدمت على هالقرار إلا لسبب قوي.. وإنّك اتخذته بصعوبة كبيرة تعبّتك وتعبّت قلبك "رَفعت كتفها وبتسليم" بس كل شي قسمة ونصيب
أَضافَ بثباتٍ أَعرج: ونصيبي مو معاها.. خلاص هي راحت لطريقها.. وأنا بروح في طريقي
"وكأنّهُ بكلماته هذه يَستفز جواه الذي لَم يَبْرح محراب صَلاته يدعو بأن يُعيدها الله إلى ذاته.. لذلك أكمل برجاء" فالله يرحم والديكم لحد يفتح معاي هالموضوع مرة ثانية



الشقة أَصبحت تَسكنها الأَشباح.. أَشباح الذّكريات. والشّتاء الذي قاربَ على الانقضاء ها هُو يَخْلع نعليه عند بابها. في الحُبِ والحَرب يُسْتباح كُل شيء.. القَلب.. الرّوح.. المشاعر والكبرياء. حتى البيوت تُسْتباح.. فالدّفءُ منها يُبتر.. والسّكينة تُطْعَن.. والأَمان تَعدمهُ الانفصالات المُتَكَرّرة.

: تبين شي بعد؟

رَفعت رَأسها لوالدها الذي يَقِف بجانبها.. أَرْكبها للأعلى ثُمّ نَقَلَ مقعدها المُتحرّك وحقائبها.. ابتسمت لهُ بامْتنان عَميـق ولَمْعة اشْتياق وُلِدت وَسط مُقلتيها.. شَدّت على يَده القَريبة هامِسةً بحُب: بابا مشكور.. مشكـووور.. تعبتك معاي وأقلقتك.
انحنى وقَبّلَ قِمّة رَأسها قَبْلَ أن يُرَبّت على ظَهرها وهو يَقول: لا تشكريني حبيبتي.. إنتِ عمري.. حياتي كلها نذرتها لش من قبل ولادتش
مالت ابْتسامتها والدّمعة انتصرت عليها وهَبطت فَوقَ خَدِّها.. مَسحها ومن ثُمّ قَبّلَ جَبين طفلها. استقامَ مع نطقها المبحوح: راح أشتاق لكم
ابتسَمَ: احنا بعد راح نشتاق لش وللصغير.. وبيتنا مفتوح لكم على طول "وبنبرة مازِحة" بس عاد في الخير
ضَحَكت مُتَفَهّمة مَقصده: إن شاء الله
تَراجع للخلف: نشوفش يُبه
لَوّحت لهُ قَبْلَ أن يَغيب خَلف الباب: مع السلامة بابا
وَأُغلِقَ الباب.. وبَقت هي وطِفلها والجُدران تُحاوطهما وهي مُحَمّلة بالذكريات. هَمَسَت له وهي تُحَرّك المقعد للأَريكة التي تَحَوّرت إلى مَسكن والده في غيابها: وحشتك الشقة حبيبي؟ ما قعدت فيها واجد.. بس كانت بيتك الأول.. بيتك الحقيقي
تَوَقّفَ المقعد.. مَرّرت عَدستَيها ببطء على الأَريكة كما يُمَرّر العازف أصابعه على أوتار آلته؛ ليعزف لَحْنًا يُشجي القَلب ويُهَيّج أَحزانه. تَأمّلت ما تَركَ عليها.. وسادته التي تنتظر استفراغ رأسه لأَثقاله وهُمومه.. وغطائه الذي باتَ يَسْتحي من عَدم قدرته على تَدفئته.. فالرّوح أَثلجها الإهمال.. والجَسدُ ما هُو إلا هَيكَلٌ مُسَيّر من قِبل تلك الروح. مَدّت يَدها والتّردُّد حاديها.. اقتربت أصابعها من الغطاء المثني فوق الوِسادة.. أَمسكت به بخفّة كما لَو أَنّها خائِفة مما يُخفيه بين خُيوطه.. قَرّبتهُ منها.. قَرّبته حتى فُضّ وَسط حُضنها وهي حَبيسة الأَنفاس.. ابتسمت بشرود لطفلها الذي التقطَ طَرفه ليلهو به. أعادت بصرها وجُل انتباهها له.. للغطاء المُلَغّم ببقايا بسّام.. قَرّبته أكثر.. وأكثر.. قَرّبته من أَنفها.. ثانية.. ثانيتان.. ومن ثُمّ اسْتَنشقت نَفَسٌ عَميـــق مُحَمّل بعبق رائحته الرّجولية.. رائحته التي وَلَجَت لدواخلها كالمَطر بَعد أَعوامٍ من قَحط.. وكالنّور الذي سامَحَ السّماء بَعد لَيْلٍ طَويـل. باغتَتها رَعْشة لوهلة كانت كالرّعدة التي أَعقبها هُطول عَيْنيها. تَوالت الدّمعات غارِقةً وَجْهها المَكدود.. وَجْهُها الذي اتّكأت على قارعته السّعادة لتستريح من تَعب الحَرث.. فهي تُريد أن تَزرع لها بين جَنبات هذا الوَجه مَوْطنًا. آه بعمق الأَلم وطُول البُعد اجْتُثَّت من قَلْبها.. شَدّت على الغطاء وهي تَدفن وَجْهها فيه وبذراعها تُحيط طفلها الصّامت.. وكأَنّهُ يُريد أن يَسمح لها بالاختلاء بذاتها. مَرّت دقائق بَسيطة وهي تُصَدّر الأنفاس وتَسْتقبلها بين خيوط الغطاء.. قَبْلَ أن تخفضه وتطويه بعناية لتُعيده إلى مكانه.. حيث الوسادة التي ارْتأت أَسْفلها شيء غَريب.. غَريب جدًا.. عَقَدت حاجِبيها ويدها تقصده.. تقصد الشيء الغريب.. الشيء الغريب الذي لَم يَكن سوى جَديلة.. جديلة أَنزلت عليها صاعقة قَسمت رُوحها لنصفين.. تَسارعت الغَصّات إلى حلقها والشّهقات تُساندها.. أخذت تَتَنَشّق كالذي انقطع عنه النّفس.. وكأنّها تَسْتل الأنفاس من ثُقْبٍ ضَيّق يُشارف على الانغلاق. ارْتَفَعَ صَوتها بالبُكاء.. انتحبت بأسىً مَرير واللوعة تَتكسّر بين أَضلاعها مُوِجعة صَدرها. بَكت والعَينُ أَغمضت لتُنادي الذّكرى التي نَبذتها بعيدًا عن قَلبها.. ذلك الطّفل.. تلك اليدين الصّغيرتين.. وتلك الجُرأة التي دَفعته لإسعادها مهما كَلّفه الأمر.. فهي كانت حزينة من رَفض والدتها لقص شعرها.. وهُو.. هُو.. بسّام الطفل.. كما بَسّام الرَّجُل.. ضَرَبَ على صَدره هاتِفًا بالعَوْن.. إذن كُنتَ أنتَ بَسّام.. كُنتَ ولا زلت.. ظِلّي الذي يَتبعني.. ورُوحي التي تَسكن جَسدي.. ليست رُوح حَنين من كانت تُبقيني على قيد الحياة.. بل رُوح بَسّام.. بسّام الطِفل.. وبسّام الرّجُل.. بَسّام الذي أحبّني.. الذي أحَبّ حَنين.

،

أَغْلَقَ الباب.. يَده لَم تَبرح المِقْبَض.. عَيْناه تَمسحان المَكان بدقّة.. وأُذناه تُرهفان السّمع.. صَوْت بُكاء.. صَوت بُكاء طِفل.. طِفله. تَركت يَدهُ المِقْبَض ثُمّ خَطى ببطءٍ وهدوءٍ شَديديْن.. فالرّائحة التي أَخذت تُحاصره من جَميع الجوانب أَجبرتهُ على الحَذَر. لا يُريد أَن يُصَدّق.. رُبّما هُو يَحْلُم.. أو أَنّهُ يَتَوَهّم. مَشى إلى غُرفة النّوم.. دَفَعَ الباب المَرْدود ونَبضاته تكاد أن تُصَم منها طَبلتيه.. وحينما التقت الأعين شَعر بقلبه يَنفجر ويَتقطع إلى أَشلاء. تَقَدّمَ منها ووجهه المُتَجَهِّم ضاعفَ من ارْتباك ابتسامتها.. ازدردت ريقها والضوء الأصفر الخافت يُنير ملامحه التي بَدأت تحمر.. هَمَسَ بعينين أوسعتهما الصّدمة وشيء آخر.. شيء يُشْبِه الاعتراض: شـتـسـويـن اهــنــي!
مَرّرت لسانها على شَفتيها لعلّ الكلمات ترتوي فتخرج.. لكنّ حاله الغريب وجدًا مَنعها. تَقَدّمَ أَكثر وحَدَقتاه تنخفضان للكائن الصغير المُلْتَفِت لها.. يَرضع بسكون من ثَديها الذي لَم تُحاول أن تَسْتره ولو حتى بيدها.. أَهذهِ رِسالة؟ فإن كانت.. فهي مُتَأخرة جدًا. اقتربَ أكثر وبالهمس ذاته: شـنـو تـسـويـن اهـنـي!
هَمَسَت بحروفٍ مُبعثرة وعدَستين مُتُخَبّطتين: بَسّـ ـام.. أنـا
قاطعها بحدّة وهو ينظر لساعته وصوته قَد ارْتَفَعَ عن الهَمس قَليلًا: الوقت مو متأخر.. قومي خل أرجعش بيت أهلش
جحظت عيناها وارْتجف قَلبها، وبصوتٍ التهمتهُ الصّدمة مع الاستنكار: بسّــام شقاعد تقول!
بتبلّد لا يُليق به أبدًا: مثل ما سمعتين
حُسين الصّغير تَوَقّف.. فالصّوت لَفت انتباهه عن وَجبته.. صَوت يُحبّه كَثيرًا.. ويشتاق إليه كَثيرًا.. التَفَت لصاحبه.. لحظاتٍ ومَيّزه ليترنّم قَلْب الوالد الرّهيف من ضِحكته المُبتهجة والتماع عَينيه الواسعتين. تَبَدّلت ملامحه مُباشرة وهو يَرى كَيف استقبله طفله بكُل هذه المحبّة البريئة.. فهو استدار ناحيته مُصْدِرًا أَصواتًا حَماسية ومادًا ذراعيه.. ولسان حاله يقول: خُذني إليك أبي.. فَقد اشتاق قَلبي الصّغير إليك. بَسّام اسْتجابَ مُباشرة لهذا الترحيب الرائع.. أَخذهُ منها وهي أخفضت رَأسها بسرعة تُشغِل نفسها بترتيب ثوبها حتى لا يُبصر دُموعها وهي تفيض بَحرًا وَسَط عينيها. كانت تَسْتمع إليه وهُو يُحادث حُسين كما لو أَنّه يَفهم.. وذاك الشقي كان يضحك بعلو مُتفاعِلًا معه.. وهي تُعاين لوحدها قَيد الغصّات الذي أحاطَ عُنقها. رَفعت رَأسها عندما شَعرت بحركته.. كان يُوليها ظَهره خارِجًا من الغرفة بابنه. تهافتت الدّموع لتصفع خَدّيها ويَدها ارتفعت لفَمها سَدًّا مَنيعًا أمام جَيش شهقاتها. قَلْبها يَعتصر بألم.. ورُوحها تنزف بحسرة.. لكن يَجب أن تصبر.. تَصبّري حَنين.. تَصَبّري.. فهذا الوَجع الذي يفتك بكِ ما هُو إلا ذرة من الوَجع الذي اقتات على بَسّام لأعوامٍ وأعوام.. فَتصَبّري.



: طَلال... طَلال إنت اهني؟.. طَلال؟

صَوْت فَلَقَ البَحر الذي كانَ يَحْتويه لِيَلِج إلى مَسامعه.. صَوْت أُنثوي لَم يَألفهُ بَعد.. لا زالَ غريبًا بعض الشيء على ذاته.

: طلال ترى خوفتني.. سيارتك اهني وصوت تيلفونك هذاني أسمعه.. طلااال

فَتَحَ نصف عَيْنيه بصعوبة.. فَقد كانتا مُتورمتين من فَرْط ما بَكى. أعادَ إغماضهما والنّداء لَم يتوقّف.. اعْتَدَلَ رافعًا جَسده الذي تَصَلّب جانبه من اضجاعه الخاطئ.. تَأَوّه وملامحه تَصَدَّعت بألم.. وهي التقطت الآه من خلْف الباب.. فهتفت بتوجّس: طــلال شفيك! إنت تسمعني؟
هَمَسَ ببحّة غَمرتها الحَشرجة: لحْـظة
أَسْنَدَ كَفّه على الباب ليقف ويَفتحه بظهرٍ مُنحني وملامح مُجَعَّدة.. نَطَقَت بذهول وعدستاها تدوران على وجهه: شنــو هذا! اللحين هذا وجه واحد توه جايبين له ولد! "تَحَرَّكت للداخل تَسأله بقلق" شفيك طلال؟ ليش جذي حالتك حالة؟
هَمَسَ وهو يَتقدّمها لغرفة الجلوس: ولا شي
ناظرته وهو يُلْقي بجسده كما الخرقة على الأريكة، ومن صَدره ارْتفعت آه ثانية تنم عن تَعبٍ كَبير. جَلَسَت بجانبه وبقايا الدّم المُتَكوّم في مؤقه أَوْجسها: طَلال نور أو الولد فيهم شي.
رَدَّ بكلمة واحدة.. قاطعة.. باردة.. دون أن ينظر إليها: لا
ارْتَفَعَ حاجِباها: زين ليش جذي حالتك حالة!
تَنَهَّدَ ليُفصح وعيناه تتجهان إليها: في مشكلة صايرة بيني وبين نور
وهي لا زالت مُتعجّبة: هالكثر المشكلة كبيــرة عشان إنت تصير جذي؟
أَكَّد بَأسى: اي كبيرة.. وايد كبيرة
قَوَّسَت شَفتيها بتعاطف قبْلَ أن تقول دون تطفل: الله يصلح فيما بينكم
لَم يُعَقّب.. تَقَدَّم جذعه للأمام متناولًا هاتفه من على الطاولة.. استعلمَ الوَقت فَعَقَد حاجبيه قائِلًا بضيق: استغفر الله من زمان أَذَّن وأنا حضرتي نايم "وَقَفَ" بصلي وبرجع
دلفَ لغرفته ليصلي وهي بقت في مكانها تنتظره حتى عادَ بعد ربع ساعة.. كان قَد أبدل ملابسه بأخرى ثقيلة نوعًا ما.. يبدو أَنَّهُ يَشعر بالبرد على الرَّغم من أن الجَو كان دافِئًا. سَألَ عندما جَلس: شخبارش؟
: زينة " وبعدم اهتمام" خلّك مني.. أنا جيتك اهني لأن ما شفتك لا في المستشفى ولا في بيت نور.. مع إنّي رحت هناك أكثر من مرة وفي أوقات مختلفة.. واتصل لك ما ترد.. أبي أبارك لك
ابتسامة صغيرة بالكاد بزغت من شفتيه، وبهمس: الله يبارك في حياتش "تَساءَلَ بلهفة مُكَبَّلة" شفتين الولد؟
ابتسمت بسعة: اييي شفته.. يجنن ما شاء الله "ضَحكت" وترى كلّــش ما يشبهك.. أمه بالضــبط
ارْتَجفَ وهُو يشعر بكفٍّ من هواءٍ بارد تَلفح وجهه وصَدره ثُمَّ تنفذ إلى جَوفه وتملأه.. يَشْبهها.. يَشْبه "نتفته". أَرْخى بَصره وتناثَرَت قزع من حُزنِ على وَجهه؛ مما أَضفى على ابتسامته بعضًا من الكآبة.. فاسْتفسرت هي بشك: طلال إنت شفت ولدك؟
قَبَضَ يَده مُجيبًا بحُرقة: لا
أَنَّبته بشدة: ليــش طلال عاد! حرام عليك.. شلون يطاوعك قلبك ما تشوفه للحين! ياخي ولا مشكلة تسوى إنها تخليك ما تشوف ضناك
قالَ وكأنّه يُشَجّع نفسه: راح أشوفه
دعمته: لازم طلال.. لااازم.. عشان لا تندم بعدين.. والمشكلة إن شاء الله بتنحل مهما كانت معقدة
تَمْتمَ بخفوت: إن شاء الله "اسْتَطرد مُغَيِّرًا مَسار الحَديث" شخبار موضوعش مع سلطان؟
تنهدت بثقل وبأناملها دعكت طَرف حاجبها وهي تُجيبه: نهاية هالأسبوع المفروض تسليم البضاعة.. الشرطة بتكون محاوطة مدخل المنطقة.. بيكون القبض عليه بتهمة حيازة المخدرات.. بس باقي الجرايم ما عندهم للحين عليهم دليل قاطع ضده "وبحقد يقدح كالشرار في عينيها" دارس خطواته عدل النِّـــذل
قالَ يُهديها بَعضًا من أمل هو فَقيرٌ منه: لا تحاتين.. الله على الظالم ولازم في النهاية بيلقى يزاه.. إذا مو في الدنيا.. في الآخرة
بدعاءٍ يَفيض من نافورة جِراحها: يـــا رب.. يــا رب



تَمشي عَلى أَرْضٍ هُلامية.. أو أَنَّها كانت تَمشي على بَحر بأمواجٍ مُسْتنفرة تُخبرها أَنَّكِ غارِقة لا مَحالة. لذلك كان مَشيها بَطيئًا.. مُتَعَثِّرًا ويَنتعل التّردد. شَدَّت بكلتا يَديها على حِزام حَقيبتها المُستقرة بها عند فَخذيها؛ مُثَبِّطةً بذلك سُعار رَجفتها. ابْتسامة مَشروخة شَدّت زاوية شَفتيها وهي تُسَلّم على نُور وتُبارك لها.. قالت والتّوتر عُروق حَمراء تَفَرّعت من أَرْض وَجنتيها: أعتذر على الإزعاج.. وإنّي جيت في مثل هذا الوقت غيـ
قاطعتها نُور بلُطف: ما يحتاج تعتذرين حُور.. كان لازم نتقابل من فترة طويلة.. بس الظروف ما سمحت
حَرّكت يدها بعشوائية وابتسامة حَرج تَفرقعت منها عِظام فكّها: بس يعني إنتِ للحين نفاس
ضَحكت بخفّة: عـادي.. هذاني بصحة وعافية "استطردت وهي تُلقي نَظْرة على ملاك المُسْتمعة" أتكلم في الموضوع ولا تبينا نكون بروحنا؟
دَعمتها ملاك: اي الأحسن تكونون بروحكم.. أنا بقعد مع البنات برا
استدارت إليها حور بسرعة والرّفض يعلو وجهها بجموح.. شَبكت أصابعَ يديها بأصابع يد ملاك وهي تطلبها بصوتٍ يَرتعش من خبابا عَظيمة: لا مــلاك.. قعدي معاي.. مابي أكون بروحي
تَبَسّمت بود وبكفّها الأخرى احتضنت يَد حُور المُتمسّكة بها بشدة، كما لَو أنّها تريد أن تستمد منها قوّة إذ انهارت قوّتها المُتضعضعة. أَفرغت نُور تنهيدة من صَدرها المأهول بتنهيداتٍ شَتّى.. أَسندت ظهرها جَيّدًا ثُمّ رَفعت بَصرها لحُور لتتحدّث بهدوء: أكيد إنتِ مستغربة ليش أنا على عِلم بهذا الموضوع الحسّاس.. وليش أعرف أمش الحقيقية.. بس الأمر صار صدفة "تَنَفّسَت بعمق لِتُكمل" وزوجـ ـي.. هو اللي توصّل للحقيقة
عُقدة قَرّبت حاجبيها واستنكارٌ كَبير نَضحَ في عينيها وبتساؤل: زوجــش!
وبذات الهدوء المُرهِب: اي زوجي.. اللي هُو خالش
تَجَمّدَت أَطرافها وتَوَقّفت رئتيها للحظات عن جَر الأنفاس.. والصّدمةُ قَد شَدّت أَجْفانها لتهوي من مُقلتيها أَسْئِلة لا حَصْرَ لها. التَفَتَت ببطء آلي لملاك التي ضاعفت من شَدّها على يدها.. نَظَرَت إليها وفهمت من سكون ملامحها أَنّها كانت تعلم بذلك.. ازْدَردت ريقها لعَلّها تدفع قلبها المختنق وسط حلقها ليعود إلى مكانه.. وببحّة ابتلعت نصف صوتها: ليــ ـش.. ليش ما قلتين لي!
هَمَسَت وحاجباها ينحنيان باعتذار: والله ما قدرت
عادت مُجَدّدًا لنُور وصليل نبضاتها تَستطيع أن تَسمعه، بل وكانت تستطيع أن تستشعر قساوة ضرباتها بكُل جُزيء في جَسدها. رَمَشت بربكة مُقاومةً وخز الدّموع وهي تَتساءَل والنشيج يَنخر في صدرها: شـ ـلون.. شـلون هو.. زوجش.. شلون خالي! شلوون! من.. من أمي! مـــن!
ضَغَطَت نُور على أَصابعها التي أَثلجها هذا الموقف الثقيـل عليها.. أجابتها بإسهاب لكي ترتاح هي من هذا الحِمل.. ولكي تُنهي عَذاب هذه المسكينة بسرعة: ما أدري إذا تدرين أو لا.. بس طلال عنده خوات من أبوه.. وعنده إخت وحدة من أمه.. هذي الأخت سافرت مع أبوها وهي بنت صغيرة.. وانقطعت علاقتها مع طلال لسنوات طويلة.. وهي في سفرها زَوّجها أبوها من صديقه وهي في عمر الاثنعش أو الثلتعش.. وهناك حملت.. وهناك ولدت.. وهناك خَطف زوجها بنتها
انتحرت من عَينها الجَمر دَمْعة، في الوَقت الذي واصلت فيه عنها مأساتها بغصّة حارِقة: اللي هــي أنــ ــا
هَزّت رَأسها والأَسَف يَتَشَعّب بين طَيّات وَجْهها. أَرْخَت حُور جِفْنيها.. لا.. إنّما البؤس جَثَمَ فوَقهما.. اخْتَرَقَت حَلْقَها شَهْقة أَتبعها تَنَشّقٌ عَسير للأَنفاس.. صَدْرُها كان يَرتجف.. انقباضاتٍ استولت عَليه.. وكأنّ رُوحها كانت تَتَهَشّم. مالَ جَسدها المُنهَك بإعياء فأسرعت مَلاك وأمسكت بكتفيها.. هتفت باسْمها خائِفة: حـُـور!
الشهقة صارت شَهقات.. حادّة وجارحة.. تنغرس في قلب ملاك كالخنجر.. أوصالها كانت وَهِنة.. القوة ذَوت منها لتترك جَسدها يُعاين ثقله وَحده. لذلك غادرت نُور سَريرها بسرعة ناحية حور المُنهارة كُلّيًّا.. كان جَليًّا أنّها تُعاني من نوبةِ هَلع.. جَلَسَت بجانبها وهي تُناديها بنبرة تُغلّفها الطمأنينة: حُور.. حُور تسمعيني صح "قالت بلُطف وهي تَفك عقدة حجابها وتفتح أزرار عباءتها" تنفسي بهدوء وطالعيني.. لا تخافين
لكن حُور كانت خائِفة.. الرُّعبُ يُداهم سُكونها الفِطري عُنْوة.. هي التي لَم تَكسر لأحدٍ جَناح.. ولَم تُضرِم في قَلْب أحد نار.. ولَم تُحيي في رُوحِ أحد جِرْحًا واحِدًا.. لماذا تَعاونت عليها كُل هذه الآلام وأَضعفتها؟! طِفلة مَسْروقة من أُم ما هي إلا طِفلة أخرى.. لماذا؟ لمــاذا؟ الأَقسى والأَمر عَليها أن لماذا هذه أَسَفًا أَنّها مُوَجَّهة لوالدها.. ذلك الأَب الذي بَصَقها على هذه الدّنيا. كانَ يَصلها صَوْت مَلاك مُشَوَّشًا من بين قَرقعة طُبول قَلْبها.. لَم تُكن تُمَيّز ما تَقوله كما أنَّها لم تَكن قادِرة على تَمييز ما تراه.. الرؤية أَصبحت ضَبابية والنَبضات تكاد أن تُقَوّض حجرات قَلْبها.. أمّا أَنفاسها فهي كانت تَتسابق بشعواءٍ وتخبّط لتنجو من ضيق أَضلاعها. شُعورٌ خالت أَنَّهُ المَوْت.. حينها بَكت.. سالت أودية دموعها على خَدّها.. فهي لا تُريد أن تموت.. ليس الآن.. ليس بَعد أن انحسرَ الغطاء عن الحقيقة المُوجعة.. سَتصبر.. سَتَتحَمّل وَجعها إلى حين أن تلقى وجه والدتها.. كما أَنّها لا تقوى على فراق يوسف.. وتعلم أَنّ موتها سَيُنهيه حَتمًا. وكردّة فعل تُقاوم بها المَوْت.. رَفعت يَديها المرتعشتين وتَمَسّكت بنور.. نَظَرت لها من خلف الغشاء المُضَمّد بَصرها.. حاولت أن تُرَكّز فيما كانت تقوله لتنجو.
: حُور حَبيبتي أَدري الموضوع صَعب.. وأدري إنش مصدومة وهذا الخبر صعب الإنسان يتحمله.. بس ثقي إنّه خير.. مدام من الله فهو خير.. اللحين اخذي نفس.. شوي شوي.. أنفاس قصيرة بطيئة.. شهيـق وزفير.. شوي شوي "أَشارت للثلاجة الصغيرة بالقرب من ملاك" ما عليش أمر ملاك اعطيني ماي
هَزّت رَأسها ملاك وناولتها من الثلاجة قنينة ماء.. فَتحتها وسَكبت بعضًا مما فيها في يَدها ثُمَّ رَشحت بهِ وَجه حُور وهي تمسح عليه بخفّة وتُمرّر القَطرات على عُنقها ونحرها.. وبنبرة مُوَجّهة قالت: اللحين حاولي تاخذين نَفس أطول.. نفس عميق.. نفس الشي.. شهيق عميق.. وبعدين زفير عميق
أَطاعتها حُور التي بَدأت تَشعر بانشراح وَسط صَدرها.. وكأنَّ مَنفَذًا للضَوءٍ قَد صَدَع الكَهف الذي داخلها. تَماسكَ جذعها قَليلًا.. فابتعدت عن نُور لتستند وتَرْفَع رَأسها للأعلى.. أَغمضت وهي تَزفر بوضوح.. نَبضاتها لا زالت تجري ولكنَّها أبطأ الآن.. ازْدَردت ريقها مُسترجعة بحذر إحساس الدقيقة السابقة.. موقف مُخيــف.. جدًا مُخيف. فَتحت عينيها ليُقابلها سقف غرفة نوم نُور.. أَخفضت رَأسها.. أَجْفانها.. أنفها.. شَفتيها والمنطقة المُحيطة بهما.. جميعهم كان يَصبغهم احمرارٌ باهت ازْداد يَنعًا عندما تَمَكَّن منها الإحراج.. هَمَست ببحّة: آسفة نُور مو قصـ
قاطعتها بابْتسامة وبيدها رَبَّتت على كَتِفها: ما له داعي تعتذرين وتبررين.. أهم شي إنتِ بخير "مَدَّت لها القنينة" واللحين اخذي سمّي بالله واشربي قطرة ماي
أَمسكت بالقنينة وتلفّظت باسم الله قَبْلَ أن ترتشف منها.. أَخفضتها وعيناها مُستقرتان عليها.. مَرّرت لسانها على شَفتيها وإبهامها يَضغط على طرف فوهة القنينة.. وبتردد هَمست: أبـي "صمتت للحظات ثُمَّ أكملت بحزم وهي تنظر لنور" أبي أشوفها
هَزّت رأسها: أكيد راح تشوفينها.. هي أصلًا متشفقة على شوفتش
انقبضَ قَلْبها وهي تَتَخيّل أن هذه الامرأة الغريبة تكاد أن تَموت شَوْقًا للقياها. أفصحت عن سؤال: شنو اسمها؟
أَجابت بابْتسامة ناعمة: اسمها فاتن
رَدّدت من خلفها: فاتن.. فاتن "سؤال آخر" يصير تتكلمين لي عنها؟ وإن شلون زوجش عرفني؟
اعتدلت في جلوسها: أكيد حُور.. بقول لش كل شي.. وأي سؤال في خاطرش قوليه لا تستحين
هُنا ابتسمت لها حُور بامْتنان.. امْتنانٌ شاغبتهُ دَمعات أَبت إلا أن تَسْكن مُقلتيها.



تَرَجّلت من مَرْكبتها لكنّها لَم تَتحرّك.. ظَلَّت واقفة في مكانها وبيديها تَشَدُّ على حَقيبتها وعيناها تَتَقلْقَلان على وجهه. تَقَدّمَ منها واضِعًا يَده حاجِزًا بين عَيْنيه وأَشعة شمس ما بعد الظهير القَوية.. أَشارَ للباب بعد أن ترك بينهما مَسافة: تفضلي.. ادخلي
تَطَلّعت للباب بتردّد وهي تَرسم في عقلها سيناريوهات عَديدة قَد يكون واحدًا منها الذي سَتستقبله به أنفال. تَساءلت بحذر: قلت لها إني جاية؟
أَكّد: اي قلت لها.. تنتظرش
زَفَرت اضطرابها ثُمّ خَطت بهدوء وهي تَمسح باطن كَفّها المُتعرقة بعباءتها. فَتَحَ لها الباب الداخلي وأَشارَ لها بالدخول ثُمّ تَبِعها.. وَقَفت عند المدخل وهي تتلفّت بحَرجٍ وحيرة.. وقَبْلَ أن تسأله إلى أين تذهب ظَهرت أَمامها أنفال. تَصَلّبَت في مكانها وهي تراها تخطو إليها وعلى وجهها ملامح لا تُتَرجم.. حاولت أن تَستشف من عينيها ردة فعلها لرؤيتها.. أو حتى مشاعرها تجاهها لَحظتها.. لكن كانت كما لَو أَنّها قَد جَمّدت ملامحها. قالت بنبرة كانت توأمًا لوجهها المُصْمَت: المفروض ما أستقبلش في بيتي.. بس ماني قليلة أدب وأصل "أشارت لها لغرفة ببابٍ مُشَرّع على يُسْراها" تفضلي
دلفت جنان للغرفة التي تبَيّن لها أنّها مَجْلِس.. اسْتَقَرّت على إحْدى الأرائك وهي تَشْعر بنارٍ تَشْتعل في وجهها وحرارتها تَمضي بين أوصالها.. أَرْخَت يَدها على فَمها وأصابعها تُلامس خَدّها بشرود.. وفي داخلها اعتلجَ النّدم بالثبات.. جُزءٌ يَجلدها لَوْمًا على خطوتها هذه.. وجُزءٌ يؤازرها ويَدفعها للمواصلة.. فَيَكفي أنها تَسلك الطُرق جَميعها حتى وإن لَم تَصِل إلى فَرج.. حتى لا تَأكلها الحَسْرة بعدَ فواتِ الأوان.

،


يتبع

 
 

 

عرض البوم صور simpleness   رد مع اقتباس
قديم 03-02-20, 02:03 PM   المشاركة رقم: 1312
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Aug 2015
العضوية: 300973
المشاركات: 633
الجنس أنثى
معدل التقييم: simpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 475

االدولة
البلدBahrain
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
simpleness غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : simpleness المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي

 



في الطابق العلوي.. كان الوضع مُسْتَنفر.. أنفال للتو أخبرت ياسمين أن جِنان "ضرّتها" في المجلس تنتظرها لتُحادثها.. وياسمين غير مُصَدّقة كَيف لتلك "خَرّابة البيوت" أن تَتجرأ وتأتي إلى هُنا! بصراخ ووجهها الشاحب يغزوه احمرار الغَضَب: هــذي شـــلــون تــتــجــرأ وتــجــي لــيــن اهــنــي؟ شــلوووون!
بهدوء مُحاولةً تثبيط هذا الغضب: ما أدري ياسمين.. بس أكيد عندها شي مهم تبي تقوله.. مو معقولة بتجي لين اهني لغرض مو زين.. مضايقتش مثلًا
بسوء ظَن تَمَكّنَ منها: لااا تسويها.. هذي تسويــها مو بعيدة عليها "أكملت وهي تتحرك للأسفل وقدماها تَضربان على الأَرْض بحزمٍ لهُ صَوْت" ما لها قعدة اهني.. دقيــقة وحدة ما تقعد
هَبَطت باتجاه المَجلس وأنفال من خلفها تُحاول أن تُثنيها عن نيتها.. هي من وجهة نظرها وإن كَرهت جنان.. فمن المُشين أن تَطردها من منزلها أو ألا تَسْتقبلها.. فهي وَصلت لبابها.. فكيف لها أن تَرَدّها؟ وأمّا ما فعلته فهو يُسيء إليها ولذاتها.. هي جِنان.. ولا دخل لها هي أنفال بينها وبين ذاتها. دَخلت المجلس الذي كان يُجَلجل منه صَوْت ياسمين وهي تُهاجم جنان الواقفة بصدمة: إنتِ شنو تبيــن! بعد ما هدمتين بيتي وفرقتين بيني وبين زوجي جايــة اهني! ليـــش! شنو تبين تسوين أكثــر! "أشارت للباب" اطلعــي برا.. بــرااا
زَجرتها أنفال بحدّة: ياسمين خـلاص.. مو من حقش تطردين أي أحد لأن هالبيت مو بيتش.. أنا اللي أقرر من يبقى ومن يطلع
عاتبت شَقيقتها وصوتها الذي أُرْهِق من الصراخ قَد شَرخته البحة: إنتِ شلون تسمحين لها تدخل بيتش بعد اللي سوته فيني وفيش؟
أَتت لتَرد عليها لكن جِنان قاطعتها مُوَجّهةً حَديثها لياسمين.. نَطَقت بغصّة ووجها الذي كان يَسْكنهُ أحْمر النيران.. بات احْمرار القَهر يَصبغهُ: إختش لها الحق إنها تطردني من بيتها.. ولها الحق إنها ترمي عَلي كل الكلام اللي يبرّد حرتها.. مع إن ما أعتقد في كلمات تقدر تطفي النار اللي في جوفها.. وأنا كنت مترددة أجي اهني حرجًا منها وخوفًا من إني أصحّي الجرح اللي سببته لها "رَفعت يَدها مُشيرةً بإصبعها لها وهي تُردف بكلمات اهتزّت من ولادة دموع عينيها" لكن إنتِ ما لش أي حـ ـق إنش تهاجميني وترمين عَلي كلامش السّم.. كنت متعاطفة معاش.. لكن اللحين خليتيني أتأكّد إنش ما تستاهلين التعاطف.. لأنش إنتِ اللي رميتين نفسش في هالمعمعة.. إنـــتِ "أشارت لأنفال قائلة" إختش تعرف شنو يعني الوحدة تنجوي من مراة.. شنو يعني مراة تحوم وتحوم حوالين زوجها لين ما تاخذه منها "والدموع ترسم على وَجْنتيها ليالي الوِحدة التي شَهِدت على هَجْرِ فيصل ونَبْذه" وشنو يعني إن الزوجة تدووس على قلبهـ ـا وروحها وكرامتها عشان تحافظ على بيتها "عادت وأشارت إليها باشْمئزاز" وإنتِ استغليتين المشكلة اللي بيني وبين زوجـ ـي وصرتين تلاحقينه.. وهو عطاش وجه.. طبعًا مو حبًا فيش.. بس عشان ينتقم مني
صَرخت في وجهها وهي ترتعش من رأسها حتى أخمص قَدميها: فيصل حَبني.. حَبنـــي
حَرّكت رأسها بشفقة عليها وهي تُعَقّب باستغراب: للحين مُصرّة تجذبين على روحش؟ ياسمين احنا نعرف.. المرأة تعرف إذا كان الرجال يحبها أو لا.. مو معقولة ما عرفتين ولا حسيتين ولو للحظة إنه ما يحبش!
باستفزاز: إنتِ اللي تجذبين على نفسش "سَخرت" ما تبين تصدقين إنّه نساش وأخذ غيرش.. وحدة أصغر وأجمل منش
ارْتَفَعَ حاجِبها لتقذفها بالسهم ذاته لا بل أَكثر حدّة وحُرقة: مدام نساني ليش سوى المستحيل عشان يرجعني؟ مدام نساني فليش اللحين أنا حامل منه وإنتِ لا؟
تَسَمّرت في مكانها وعيناها جَحظتا ليتضح ارتجاف عدستاها من هَوْل الصّدمة.. شهقت بقهرٍ عارم وهي تندفع إليها بجنونٍ وتهوّر هائجةً بحقدٍ دَفين: يــــا حقيـــرة
أَمسكتها أنفال بسرعة وهي تُحاول أن تسيطر على انفعالها الهستيري: ياسميــن شنو فيــش! اعقلــي وبلا هالتصرفات
صَرخت وهي تُحاول التمَلّص من قَبضتيها المُحْكَمَتَيْن: هديـــني.. هالحقيــرة تستاهل كَــف على وجهها يعلّمها شلون تتحجى.. هديـــني أنفــاال
قابلتها بصرخة: خـــلاااااص "التَفتت لجنان وبلوم" وإنتِ ما له داعي التجريح
رَدّت بحزم: ما كنت ناوية التجريح.. أنا جيت اهني عشان نقعد بكل هدوء حالنا حال الأوادم ونتناقش.. لكن إختش اللي قلبتها لحرب وهي اللي بدأت في الهجوم والتجريح "نَظرت لها والدموع تغسل وجهها المُمتزجة فيها مشاعر متناقضة، وباستطراد" فيصل غلط صح.. غلط في إنّه استغلش.. بس إنتِ بعد غلطانة.. وما يصير ترمين عليه كل الغلط وتتهمينه إنّه دمر حياتش.. إنتِ اللي سمحتين له يدخل حياتش.. إنتِ انضريتين صَح.. بس ما خسرتين كل شي.. مثل ما توش تقولين.. إنتِ صغيرة وجميلة.. يعني الحياة قدامش.. لا تستمرين في الغلط لأن استمرارش هذا ورفضش لمواجهة الغلط ممكن يخليش فعلًا تخسرين كل شي "أردفت وهي تتناول حقيبتها" ارجعي لعقلش وتفاهمي مع فيصل.. تراه من بعد اللي صار بينكم ما ترك الشقة.. قاعد ياكل في نفسه ومعذّب ضميره.. في النهاية هو ما يستاهل يتحمل الخطأ والعذاب النفسي بروحه.. اثنينكم ارتكبتون أغلاط واثنينكم لازم تصححونها

أنهت كلامها ثُمّ تحركت لتتجاوزهما.. ولكن قَبْلَ أن تمر من باب المجلس، التفتت لأنفال لتقول بنبرة سَيْطَرت عليها الخَيْبة: أدري ما راح تسامحيني.. بس بعد بقولها.. سامحيني.. آسفة.. من كل قلبي آسفة على كل جرح سببته لش
ثُمّ استدارت.. ومن ثُمّ غادرت.. بَعدَ أن أَلقت آخر أسلحة الحَرب.. فلا دَخل لها بعد اليوم بياسمين ولا أنفال.. مُهمتها انتهت.. ليس بالشكل الذي تصورته.. ولكنّها انتهت بأقل الأضرار.. وهي مُقتنعة بهذه النهاية. ما يهمها الآن حقًا هو زوجها وابنتها.. وذلك الكائن الصغير الذي ينمو وَسط أحشائها. وَضعت يَدها على بطنها عندما وصلت لمركبتها.. شَدّت عليه وهي ترسم أَمام عينيها حياته.. هل ستكون مُظَلّلة بأشجارٍ زرعها رَبيع الوالدين؟ أَم أنّها لَن تعرف من الظِلال غَيْر الغَمام المُثْقَل بالأحزان؟

: مبروك

رَمشت بانتباه لصوته.. أخفضت يدها عن بطنها وهي تنظر إليه وهُو واقِفٌ على يسارها.. وَضّحَ وهُو يُبصر الحيرة في عينيها: سمعت إنش حامل.. فمبروك
ابتسمت بشحوب: شُكرًا
نَظَر لمنزله ثُمّ عادَ إليها مُسْتَفسِرًا: عدّت على خير؟ "هَزّت رأسها بلا والإحباط يكسوها.. فعقّب بتفاؤل" إن شاء الله تتعدل الأمور قريب
هَمست بتنهيدة لها لحنُ تَعب: إن شاء الله "استطردت ويدها تمسك بمقبض سيارتها لتفتح قفلها" مشكور أحمد مرة ثانية.. مشكور على كل شي.. وأوعدك ما راح تشوفني مرة ثانية ولا راح تسمع صوتي
قال بضحكة: لا عاد هذي مو على كيفش.. الديرة صغيرة
ابتسمت له بصمت.. رَكبت السيارة.. شَغّلت المُحَرّك ثُمّ فتحت النافذة.. رَفعت يَدها مُلَوّحة: مع السلامة
رَدّ بهمس: مع السلامة
تَحَرّكت مُبتعدة حتى اختفت عن مَدى رؤيته.. فاستدار لداخل المنزل ليصله توبيخ زوجته لشقيقتها: إنتِ ليش جذي غبية ومتسرعة؟ ليـــش؟ بدل لا تقعدين معاها وتتفاهمين هاجمتينها ورميتين عليها هالحجي! شنو استفدتين؟ مو جرحتين روحش بروحش؟ خليتينها هي الصح والحق معاها وإنتِ الغلط لابسش من راسش لين رجولش
من بين غَصّاتها وشهقات بكائها: قهرتني قهرتنـــي.. يا ليت عطيتها كــف
بنفاذ صَبر: ياسمين خـلاص.. خــلاااص.. بس عاد فكري بعقل.. طالعي الأمور بعيون واعية.. لين متى بتصرين على إنش مظلومة ومسكينة وهم العايلين عليش! الكل كان يشوف إنّه ما يحبش.. الكـــل.. أنا وأحمد وصديقاتش وزوجته! شلون إنتِ مو راضية تقتنعين! "وهي تَدق ناقوس كبريائها" أو إنش مقتنعة بس خايفة تعترفين.. خايفة تفشلين نفسش قدامنا.. خايفة إنش تطلعين خسرانة من هالحرب كلها؟
بقهر ومن بين أسنانها: أنفال اسكتي.. اسكتــي
هزّت رأسها: بسكت "مَسّت صدغها بإصبعها لتُكمل" بس هذا شغليـــه.. فكري عدل ولا تظلمين نفسش زيادة.. جنان صادقة.. بعدش صغيرة وجميلة والحياة قدامش.. لا تضيعين سنين من عمرش على شي غلط وما وراه إلا وجع القلب



تَطَلّعَت إليه.. تَفَرّست في وَجْهه.. قارنت بينه وبين ذلك الوَجه المُغَيَّب.. نَبّشت بين العَينين وفَوْقَ سطور ملامحه عن كلماتٍ مَخفية.. كَلماتٍ أُبكِمَت غَصْبًا.. ورُغم اليَباب العَظيم المُتمكن من ذاته.. إلا أَنّها وَجدت ضالتها.. لذلك نَطَقت بابْتسامة مائلة ونَظرة حاذِقة: عشان تحميها
صَمَت للحظات وعدستاه تحومان وَسطَ البياض قَبْلَ أن تستقران عليها بثقة مُهتزّة.. وبهمس: شنو؟
كَرّرت وابتسامتها تتسّع: عشان تحميها.. طلقتها عشان تحميها
نَظَرَ دون تعقيب وهو يُكَوّر يَده المُرتجفة فَوْقَ فَخذه.. تساءَل بعدَ ثواني: شلون عرفتين؟
وَضّحت: لأن صالح الله يرحمه قَبل لا يسافر برلين طلقني.. عشان يحميني طلقني
نَفَثَ زَفْرة مُتَذَيّلة بآه مُرْهَقة وهو يَحني ظَهره.. تَخلّلت أصابعه خصلات شعره بضياعٍ وتخبّط.. رَفعَ رَأسه إليها، وهو على حاله قال: عمتي ما كان قصدي أجرحها.. أو أهنيها.. بس حياتي صعبة "وبغصّة مكتومة صَدّعت ملامحه" صَعــبة.. ما أبيها تتبهذل.. ما أبيها تنضر
عقّبت بهدوء: الطريق الصعب يصير جنّة إذا مشوا فيه اثنين
حَرّكَ رأسه رافِضًا الذي نطقت به: لا.. إلا طريقي.. جحيــم.. جحيــم مُستحيل يتحول إلى جنة
رَنت إليه بنظرة مُشاكِسة وهي تسأل: متأكّد؟
عَقَدَ حاجبيه بعدم فهم لكنّه أجاب: اي متأكّد
قَذفت عليه ما أَصْمتهُ في ذاته: بس هي جنتك.. حتى لو كان الطريق اللي تمشي فيه جحيم.. فوجود الجنة بين ايدك.. وفي قلبك وداخل روحك.. يخفف عليك نارها.. صح ولا خطأ؟
تَراجع ظَهره للخلف برأسٍ مائل وكأنّهُ يُعْلن انهزامه.. نَطَقَ بعد ان خَلَع عن صوته بروده: صَـح.. صَح يا عمتي صَــــح
نَطَقت بجديّة مُلْقِيَةً عليه طَوْق نَجاة: محمــد.. مثل ما تعرف المرأة بعد ما يطلقها زوجها تعتد.. عدتها ثلاثة قروء.. وأنا قبل لا تنتهي عدتي خليته الله يرحمه يرجعني.. وهذا أفضل شي سويته في حياتي كلها.. حتى هو صالح قبل موته شَكرني.. شكرني لأني رَفضت إني أسمح للخوف يشوّه ذكرياتنا مع بعض.. ولأني هوّنت عليه ثقل المشي للموت
تَعَلّقت عيناه وقَلْبه وروحه بوجهها.. كلماتها شَكّلت حَلقة تُشبه هالة النّور.. وأَخذت تَدور من حَوْله.. كما لَو أَنّها تُريد أن تنتشله من قُعر الخسران الذي ألقى بنفسه فيه.. تُريد أن تنقذه من استبداد ذاته.. تُريد ان تنقذه من قَسْوته.. تُريد أن تنقذه من نفسه.. إليها.. إلى مَلاك.. جَنّته. تَنحنح وهو يَكسر نَظرته وبظاهر سبّابته يَمس أسفل أنفه.. وَقفَ قائِلًا بهدوء: عمتي خبري ملاك إنها تقدري تجي في أي وقت تاخذ أغراضها اللي في الشقة.. هي طبعًا للحين عندها المفتاح
وقفت لتُقابله مُتسائِلةً: ما راح تنتظر لين يجي يوسف؟
نَظَرَ لساعته سريعًا مُسْتَعلِمًا الوقت وهو يُجيب: مرة ثانية إن شاء الله بقابله.. اللحين لازم أمر على أمي
هَزّت رَأسها بتفهم وهي ترافقه لخارج المجلس إلى الباب: ما عليه يُمه.. سَلّم عليها
بابتسامة صغيرة جدًا: يُوصل "استطرد قَبْلَ أن يمضي" عمتي
أَطْبَقَ شَفتيه بتردد فاستفسرت: شنو؟ تبي شي يُمه؟
فَتحَ فمه.. أَطْبَق الشفتين من جديد ثُمّ مَرّر لسانه عليهما قَبْلَ أن يَنطق بنبرة حَوت الرّجاء: قولي لملاك تسامحني



عَيْناه تَمُرّان على الحروف بآلية.. يَقرأ الكلمة ثُمّ يَعود ويَقرأها مرة أخرى.. يَسْهو فتُسْرع عيناه إلى نهاية السطر.. فيستوعب أَنّه لَم يكون مُرَكِّزًا.. فيعود للكلمة الأولى ليقرأها مُجدّدًا.. وهكذا دواليك. فعينيه وإن كانتا تَمسحان الكلام بحدقتيه.. إلا أَنّ عَقله لَم يَكُن واعِيًا للمكتوب.. فهو مُلتفتًا عنه للفَوضى الحائمة داخله.. لوهلة شَعَرَ وكأن عَقله يطفو فوق بَحْرٍ من أفكارٍ لا قاع لها.. كُلّما حاولَ أن يلتقط فكرة وحيدة، انسلت من بين أصابعه ليغرق هو في الحيرة أكثر فَأكثر. عَزمَ على مُقابلتها.. لكنّهُ لَم يُقابلها.. لا لأنّه لَم يَرها.. ولكن لأنّه أحجمَ عن ذلك.. فهو تَشَجّعَ وقاد مركبته إلى منزل والدها.. إلا أَنّه لم يَبرح مقعده.. ظَلَّ يتأمل المنزل من خلف زُجاج السيارة وهو يَدعك راحتيه بربكة. كَرِه نفسه وكَرِه الضّعف الذي يسكنه.. وذلك الخوف الذي يُكبّل خطواته تمنى لو أنّه يَخلعه. زارَ المنزل رُبّما ثلاث مرات.. لكنّه وفي المرات الثلاث هذه، لم يَتجرأ وينزل من سيارته. زَفَرَ وهو يَترك القلم وَسَطَ الملف الذي يبدو أَنّه لَن ينتهي من قراءته.. مَسَح وجهه بكفّيه لمرتين مُتتاليتين وزفرة ثانية تَفر من فَمه. مَرّر أصابع يديه بين خصلات شَعره إلى أن استقرّ بهم خَلْف عُنقه.. عَلّقَ بَصره بنقطة عشوائية أَمامه وعقله يُعاود السباحة بين هذه الأفكار. كان يَقِف عند استقبال أحد الأجنحة الفارغة في مثل هذا الوقت.. كان يُريد أن يطّلع على ملفات بعض المرضى.. لكنّه وبسبب علّته لَم يَستطع أن يقرأ كلمة واحدة من ملفٍ واحد. إلى متى سيبقى على هذا الحال؟ يَحتاج لدفعة تُجبره على المَضي قَدمًا.. فإن طالَ وقوفه فلرُبّما لَن يَستطيع المشي مرة أخرى.. وبدلًا عن ذلك سَيُشَل.. إلى الأبد. فإن كان يُريد أن يَطْمئن.. وأن يَستشعر السكينة إلى حين مماته.. فعليه أَن يتحرك.. قبلَ فوات الأوان.

: دكتورة مروة يبونش في المختبر

التَفتَ بانتباه للاسم المُنادى.. استدارَ ويداه تنخفضان عن عُنقه.. وما إن وَقعت عيناه على جانب وجهها حتى اسْتَعَرَت نَبْضاته.. لَم يَدرِ أغضبًا استعرت أم شَوْقًا. ازدردَ ريقه بصعوبة وهو يَتَأمّل ما هو ظاهرٌ له.. على أنّ وجهها لَم يكن يُقابله بأكمله.. إلا أنّه استطاع أن يُبصِر اللون الشاحب الذي يُلَوّنه.. وذلك السّواد الذي يُعربد أسفل عينيها.. استطاع أن يلمحه بسهولة.. فهو كان شاذًا بالنسبة للون بشرتها الفاتح. استندَ بجانب جَسده على منضدة الاستقبال مُوَجّهًا حواسه لها.

تساءلت بهدوء عندما وقفت المُمرضة أمامها: من بالضبط يبيني؟
أجابت: محمود.. يقول طلعت النتايج اللي طلبتينها للمريض
استفسرت لتتأكد وهي تقترب من باب الجناح: المريض اللي نقلوه الصبح من الطوارئ؟
أكّدت: بالضبط
هَزّت رأسها قبل أن تقول بطلب: ما عليش أمر إيمان خبريه إن ربع ساعة وبجي له.. بروح أصلي.. واجد أخّرت الصلاة من زحمة المرضى
ابتسمت لها: مو مشكلة دكتورة.. وإذا تبين أنا بستلمهم وبخليهم على مكتبش
بامْتنان: تسوين خير حبيبتي.. ما تقصرين
ثُمّ خَرجت من الجناح وعيناه تتبعان طَيفها. انقضت دقيقة وبصره لَم يبرح الباب الذي عَبرته وفي عقله يَسترجع الحديث مرارًا وتكرارًا ويسترجع نبرتها المُميزة.. وأثناء استرجاعه قَفزت فجأة الجُملة التي نَطقت بها.. عُقْدة خَفيفة تكوّنت بين حاجبيه وهو يَستذكرها "بروح أصلي واجد أخّرت الصلاة".. كَرّرها وهو يَستمع إليها ببقايا صَوتها مرة واثنتان وعَشْر.. وفي كُل مرة تتضاعف عُقْدة حاجبيه. أخرجَ هاتفه من جيبه.. نَظرَ للشاشة ثُمّ رَفع رأسه للممرضة التي كانت تجلس خلف شاشة الحاسوب.. سَألها: نُرْس اليوم تاريخ جم؟
أَجابت بهدوء: ثمانية ثلاثة
ارْتَفَعَ حاجبه.. ثمانية ثلاثة.. مثل التاريخ الذي يُظهره هاتفه.. أَيُعْقَل! سَألها سؤال آخر: الساعة جم يخلص دوام دكتورة مروة؟
وهي تتصفح بعض الأوراق: لحظة أشوف.. اي.. دوامها يخلص الساعة تسع المغرب
أومأ لها: أوكي شُكرًا
تركَ الملف ثُمّ تَحَرّكَ مُسْرِعًا لخارج الجناح.. اسْتَقَلّ السلالم وكأنّه نَسي شيء اسمه مَصعد.. فالفكرة التي سَطعت فجأة في عقله المأهول أَحدثت ضجة داخله. في أقل من دقيقة كان يَدلف من باب الصيدلية.. وَقفَ أمام الأرفف بتيه وهو يَقبض على شعره من الخلف. قالَ رفيقه الصيدلاني: عبّود قول لي أي دوا تبيه أسهل مما تدور جذي
تَلفّت يُمنةً وشمالًا بأنفاسٍ مسموعة ومُضطربة.. المكان كان خاليًا إلا منهما.. لكنّه وعلى الرغم من ذلك اقترب منه وهمسَ بارْتجاف في الوقت الذي كان فيه قَلبه يَزعق من ضراوة نبضاته، وكانت فيه مساماته تُفرز قَلقها على شكل عَرق: أبي اختبار حَمْل



: اسمها فاتن.. عاشت بين برلين ولندن.. تزوجته وهي طفلة.. مراهقة.. طَلّقها.. وخطفني منها

بأسىً تُغَلِّفهُ سُخرية رَكيكة شَرحت لوالدتها "المُزَيَّفة" باختصار قِصّة والدتها "الحقيقية" أَثناء ما كانت تُعطيها أدويتها.. سَرْدٌ قَصير وسَريع.. كالكلمات التي نَتَلَفّظ بها عَلى عَجل خَشْية أن يُباغتنا نَصْل الشّفقة على أَنفسنا. قالت بهدوء التَّفكير: ما أذكر إن أبوش طراها من قبل
اسْتَفسرت وهي تُناولها كأس الماء: يُمه إنتِ كنتِ تدرين إنه يتزوج بالسر؟
ابْتَسَمت ولكن لَم تُجِبها.. اجترعت الماء ثُمَّ قالت بذات الابتسامة ونَظْرة لَم تَستطع تَفسيرها حُور؛ كانت تومض في عَيْنيها: هُو كان يحسبني إنّي ما أدري.. بس أنا كنت أدري.. المراة يا بنتي تعرف.. حتى لو ما تكون متأكدة.. على الأقل يكون عندها شك إن زوجها على علاقة مع مراة ثانية
تَنَهّدت وجَبل الصّبر بنتوءه يكاد أن يُهَشِّم أضلاعها، وبعتابٍ حَزين هَمست: وليش يا يُمّه واصلتين معاه؟ ليش ما طلبتين الطلاق؟
ببساطة أجابت: ما كان عندي غيره.. محّد لي يا حُور.. ولا كنت أبي أشغل أخواني فيني.. كلهم عندهم عوايلهم وعيالهم.. ما كنت أبي أثّقل على أحد.. وأبوش أخذ مني كل شي.. يعني حتى لو كنت بنفصل وبعيش بروحي.. من وين لي الفلوس؟ من وين بقدر أعيْشش؟
عارضتها: لا يُمّه.. كنتِ تقدرين تعيشين من غيره.. إنتِ عندش شهادة.. يعني كنتِ تقدرين تشتغلين وتكدّين علينا
رَفعت حاجبيها: وكنتِ تتوقعين بيخليني! مُستحيل كان يرضى إنش تعيشين بعيدة عنه
تَهَكّمت: ايــه من زود الحُب ما شاء الله
عَقَّبت بجدية: حُور أبوش يحبش.. حتى لو كان قاسي بس هو يحبش
استنكرت بحُرقة: بعد كــل اللي سواه وتقولين يحبني! شنو هالحــب الغريــب!
تمتمت: هُو ما ضَرّش
بغصّة وكلمات ترتعش من اهتزاز أنفاسها المقهورة: ايــه ما ضرني.. ما ضرني بطريقة مُباشرة.. بس ضركم.. ضر كل شخص عزيز على قلبـ ـي.. كل شخص أنا أحبه
رَفعت كَفّها تُخفي عَيْنيها الدامعتين عن والدتها وهي تَلتفت للجهة الأخرى.. نعم هُو لَم يَضرّها هي حُور.. ولكنّه ضَرَّ أحبّاءها.. وَوجع الإنسان على نفسه وَجعًا واحِدًا.. لكن وَجعه على أحبّائه يَنخر في القَلْبِ وَجَعْين. مَسَحت صَبيبها بسرعة بظاهر كَفّيها عُندما طُرِقَ الباب.. كانت مَلاك التي أخبرتهم بحضور المُحقّقَيْن من أجل التحقيق في قضية والدها.. وكذلك الأحداث الغريبة التي كانت تُصادفها مع يوسف. خَرجت مع والدتها التي أَصَّرت أن تُشاركهم جَلسة التحقيق على الرغم من تعبها.. فَبؤرة المُشكلة زَوجها.. فَقد تُعينهم في شيء. اسْتَقَرَّ الجميع في المَجلس.. رائد وعَزيز وبجانبهم يُوسف.. وعلى الأرائِك المُقابلة كانت تَجلس كُل من مَريم.. مَلاك.. حُور ووالدتها. تَكَلَّمَ رائد أَولًا بنبرة ثابِتة ومُحْكَمة: بنسألكم بعض الأسئلة.. طبعًا لكم حرية عدم الإجابة.. بس لازم تعرفون إن بإفصاحكم راح تفيدونا وتفيدون القضية اللي تسكّرت من عشرين سنة
هَزَّ الجَميع رؤسهم بالإيجاب دون أن ينطقون بكلمة.. فالجَو العام كانَ غَريبًا.. بهِ شَيءٌ من رَهْبة باردة تَلفح أرواحهم الوَجِلة. نَطَقَ عَزيز بنبرة كانت أكثر حدّة.. ليس بقصد.. ولكنّه اعتاد على ذلك: مُمكن تستغربون بعض الأسئلة.. وتقولون شدخلها في القضية.. بس لها دخل.. واحنا نحاول نجمع أكبر قدر من الأجوبة عشان نكون واثقين مئة بالمئة "أخرج من المَلف المتوسط الحجم المتروك على الطاولة الصغيرة أمامه صورة.. قَلَبَ وجهها ناحيتهم مُرْدِفًا" مَثَلًا هذا السؤال.. تعرفون هذا الشخص؟
أعطى الصورة لرائد وأشارَ له بأن يُمَرّرها على النساء ليتَسَنَّى لهن رؤيتها بدقّة.. وقال رائد أثناء ما كانت الصورة تُمَرَّر: حاولوا تتذكرون.. مر عليكم هالوجه أو لا.. وطبعًا الاسم.. اسمه رائد الـ.. .. ممكن تكونون سمعتون الاسم من قبل
بعد خمس دقائق من التدقيق والتشاور والحفر في العقل.. نَكَرَ الجَميع مَعرفة هذا الشخص الذي أَوْضَح لهم عزيز هوَيّته: هذا كان مُحقّق.. كان مُشتبه به بقتل مُحقّق آخر اسمه عمّار
اسْتفسرت ملاك: زوج غيداء؟
أَكَّد: اي.. زوجها.. ولقينا أثر لدم في شقته وبعد التحليل اكتشفنا إنه دم عَمّار اللي كان متّهِم رائد على إنّه عنده علاقة مع سلطان وهو المسؤول عن تنفيذ جميع جرايمه.. سواء من قتل أو سرقة أو حتى تهريب.. فكنا نتأمّل إن أحد فيكم شافه من قبل كدلالة على وجود علاقة بينه وبين سلطان
حُور كانت تَجلس على حافّة الأريكة.. يَديها الرَّاجفتين بين فَخذيها.. وجَسدها يَهتز للأمام والخلف بآلية تُثير الكآبة. كانت تَسْتمع بِصَمت.. باحْتراق.. وبأمنية الفَناء.. كانت تَتَمنّى لَو أَنَّها تَتَحوّل لتُراب.. لذرات غُبار.. أو حتى لدُخان.. ثُمَّ تختفي إلى العَدم بَعيدًا عن هذا الشّعور المُتَشَعِّب في الرُّوح كَأشواكٍ لا أغصانٍ رَقيقة. وكأنَّ أصابع الاتهام كُلّها تُشير إليها.. والسبب وشائج الدَّم التي تَربط بينها وبين ذلك الأب.. جيناته ودمائه كَوَّنتها.. إذن هي جُزء من أدرانه.. هي نَتاج إحدى نَجاساته.. هي كُلَّما تَصادمت أعين أحبّائها المهضومة بِعَينيها تَذَكّروا والدها.. هي منه وستبقى منه إلى الأبد. قالت ببحّة ونبرة باردة، وانقسامات الدّمع وسط مُقلتيها يُشَوّش عليها رؤية الأرْض المُطرقة إليها: وأبوي هُو اللي قتل عمي صالح.. هو اللي ذبحه وحرمه من عياله وزوجته وحرمهم منه.. هو اللي قتله
قالَ رائد: كل الأدلة تشير له.. بس كلها مو أدلة قاطعة
تساءلت ملاك: والمفتاح اللي عطيته محمد؟
هَزَّ عزيز رأسه بأسف: ما حصّلنا شي يفتحه
أخفضت رَأسها ليمينها وهي مَقبوضة.. أزاحت أصابعها بخفّة ليَتَّضح باطنها وما خَبأتهُ فيه.. رَفعت رأسها وبتردد: وهذي؟
نَظَر الجميع للسلسال الألماسي المُتدلي من أصابعها.. وكذلك التفت الجَميع لوالدة حُور استجابةً للشهقة التي فَرَّت من حنجرتها.. هَتفت بتعجّبٍ ساحق: ســلــســلــتــي!
مَلاك وبذهول أَطَّرَ ملامحها: شنــوو! متأكدة خالوو!
هَزَّت رَأسها: اي متأكدة.. هذي سلسلتي.. أخذها مني سلطان وضاعت منه.. واتهمني إنّي أخذتها
التَفتت ملاك ليوسف الذي وَضَّحَ لعزيز ورائد: هذي السلسلة لقيناها في مكتب أبوي.. في نفس يوم الحادثة.. لكن بعد ما شالوا أبوي
كَزَّ عَزيز على أسنانه حتى احتكّت مُصْدِرة صوت مُزعج ما كان إلا صَدىً لزعيق ذاته المغتاظة.. نَظر لرائد قائِلًا من بين أسنانه وعِرْقٌ قَد نَفَرَ من صِدْغه: أولاد اللذين.. قــلــت لــك تفتيشهم كان بأطراف أصابعهم.. مليون بالمئة كل اللي اشتغلوا على القضية أتباع هالواطي
هَمَسَ وهُو يَرى احتقان وَجهه: انزين إنت اهدأ "وَجَّهَ سؤاله لوالدة حُور" خالة تذكرين متى أخذ سلطان هذا السلسال؟
أَجابت وهي تَضع يدها على ذقنها: ما أدري متى بالضبط.. بس أنا اكتشفت إنّه مختفي لأنّي كنت بلبسه في عرس.. وهو نفسه العرس اللي كان في ليلة موت بو يوسف
اسْتفسر يوسف بأمَلٍ هَزيل: مُمكن يُعتبر هذا الدليل قاطع؟
هَزَّ رَأسه عَزيز هامِسًا وعيناه الثّاقبتان تَكادان أن تخترقان رداء الزَّمن: يصيــر.. يصيـــر "اسْتَطْرَدَ" يوسف بغينا تقول لنا بالتفصيل شنو كان يصير لك بالضبط وقت اللي تقعد وتشوف نفسك جارح زوجتك "نَظَرَ لحور" وإنتِ بعد إخت حور.. نحتاج التفاصيل حق التقرير قبل لا نقبض على الخدامة والسايق
تساءلت ملاك: والسلسلة؟
أجابها رائد: بناخذها طبعًا وبنفحصها.. ما أتوقع راح نلقى عليها البصمات اللي نحتاجها بما أن مرّت كل هالسنين.. بس راح نجرّب
حُور المُقيّدة بأغلال والدها تساءلت: ومتى.. راح تقبضون عليه.. على أبـ ـوي؟
رَدَّ عزيز بغموض: في الوقت المُناسب




يتبع

 
 

 

عرض البوم صور simpleness   رد مع اقتباس
قديم 03-02-20, 02:05 PM   المشاركة رقم: 1313
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Aug 2015
العضوية: 300973
المشاركات: 633
الجنس أنثى
معدل التقييم: simpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 475

االدولة
البلدBahrain
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
simpleness غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : simpleness المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي

 



حِيرة تَلْتَف حَوْلَ رُوحها كَثُعبانٍ يَنوي تَسْميمها.. وهي بما تَبَقَّى لها من قوّة كانت تُناهض خَباثته. ليس هُنالك وَقت لتحتار فيه.. بغيابها عنه ماتت الأسابيع والأيام والساعات.. حتى أَصْبحت تُرابًا يَتَخَلَّلَ فراغات أصابع الزَّمن بلا رَجعة. وهي بغباء كانت تَقِف في مُنتصف الطريق تُشاهد انفلات زمام الأمور من بين يَديها.. دُون أن تتدارك الأمر لِتُنقِذ حَياتها. مَكثت واقفة فَقط.. لتشهد على نَفسها وهي تُهَدِّم أُسرتها الصَّغيرة بمطرقة غُرورها. تَركت الصَّغير نائِمًا في دارها لتقصد مَكتب زوجها حيثُ كان يَعمل؛ بَعد أن حَملت معها جِهاز المُراقبة الخاص بالطفل. الباب مُوصَد.. كعادته كُلَّما انطوى في الداخل. طَرقته طرقات كان التَّردد واضِحًا فيها. لَم يَأتِها جَواب حتى بَعدَ أن نادته.. عَقَدت حاجِبَيها.. هل خَرج؟ ولكنّها لَم تَسمع صَوْت الباب.. أو أنّها لَم تنتبه؟ هَمَسَ صَوْت في عَقلها: فَلتفتحي الباب حَنين لتتأكدي
وبالفعل.. أمسكت المقبض فاتِحةً الباب بحذر لِيَظهر لها وهُو مُسْتَقِر على المقعد خلفَ مكتبه الكَبير.. قَرْفَصَ الإحباط فَوْق ملامحها.. ما دامَ هُو هُنا لِمَ إذن لَم يُجِبها؟ ما هذا الأسلوب الجَديد والجارح جدًا! يَتجاهلها بصراحة وَقِحة.. هي تَوأمًا لوقاحتها التي قابلتهُ بها مُنذ يومه الأَوَّل معها. لذلك تجاهلت قَهرها وجروحها الوَليدة.. ارتفع صَدرها مُسْتَنشقة بعُمق.. ومن ثُمَّ حَرَّكت المقعد للداخل.. حَركة عادية رَتيبة.. إلا أَنَّها أَخذت تَتباطأ شَيئًا فَشيء اسْتجابةً لأجواء الغُرفة التي جَذبت حواسها. تَوَقَّفَت في الوَسط.. دارت عَيْناها بذهول على الجُدران وعلى ما كان يَنطق فَوْقها. لَوْحات.. لَوْحات كَثيرة ومُتنوعة.. مُبَعثرة بعشوائية جَذَّابة.. لَوْحات لمبانٍ تعتقد أَنَّها رَأتها لمراتٍ في الشوارع.. إلا أَنَّها مُتَأكِّدة أَنَّها للتو تعلم أَنَّ بسّام مُهندسها. لَوْحات فَنِّية.. إبداعها يَتَخَطَّى استيعاب ذائقتها.. لَوْحات لوجوهٍ مَألوفة وأخرى يَبدو أَنَّها من رَحْم الخيال.. ولَوْحـ ـ..ـ ـات.. استنفرت نَبضاتها.. فاللوحات كانت.. كانت.. كانت لها! لوجهها.. مُذ كانت طِفلة.. حتى عُمرها هذا. وكُلّها.. كُل هذه اللوحات كانت ترجمانًا لإنسانٍ لَم تُفَكِّر ولو لِمرّةٍ واحدة أن تَنفذ إلى ذاته وتكتشف جَوْهره. أنهت مَسير النَّظر.. حَطَّت عَيناها عَليه.. هُو الذي كان يَعمل على حاسوبه وعلى أوراقٍ أَمامه.. بإشاحةٍ تامة عَنها.. وكأنَّ لا وجود لها. مَرَّرَت لسانها على شَفتيها وعدستاها تنحرفان بضيق جانِبًا قَبْلَ أن تعودان إليه.. وأثناء هذه الرحلة اللحظية القصيرة.. التَقطَ بَصرها لَوْحة أخرى كانت لا تزال مُثَبَّتة على الحامل.. لَوْحة أَجْبرت رُوحها أَن تَتنازل عن نَفَسِ الدَّهشة.. ذاكَ الذي تعتقد أَنَّهُ ثَقَبَ رئتيكَ ليَخرج. قَبَضَت على دَعامَتي المَقعد بشدّة مُحاولةً السيطرة على الارْتعاد الذي اتَّخَذَ جَسدها سَماءً رَمادية إليه.. بِها يُهَيِّ العَيْنين لانسلاخهما الطّبيعي الذي يُطَوِّرهما إلى سَحابَتين مُمطرتين. أَطْبَقت شَفتيها وهي تَجذبهما للداخل لألا تهرب شَهقة جَديدة.. في الوَقت الذي رَفعَ فيه جِفْنيه لتَلتقي عَيْناه المُتَّحِدة مع الشِّتاء مع عَيْنيها المُضْرَم فيهما أَلف نار ونار. تَطَلَّعَ إليها لثواني دون أن يُبدي أي رَدَّةِ فعل.. قَبْلَ أن يَلتفت إلى يَساره حيثُ كانت اللوحة. انْقَبَضَ قَلْبها عندما ارْتَفَعت زاوية شَفتاه كاشِفًا عن ابْتسامة مُطَعَّمة بسُخرية مَلأت عَيْنيه.. وضِحكة قَصيرة تُشبه الشَّخير المُتَهَكِّم غادرت حنجرته، قَبْلَ أن يَترك القَلم على سطح المكتب ويقف ليقترب منها. تَوَقَّفَ أَمامها وهُو يَعقد ذراعيه على صَدره.. أَدارَ نصف جسده لثانيتين ينظر فيهما للوحة مُجَدَّدًا.. والتي كانت فيها تَرقص الباليه بابْتسامة وملامح تنبض انتشاءً. عادَ ونَظَرَ إليها ولسانه يُرَطِّب شَفتيه.. سَألَ ببحّة بحاجبين مرفوعين: هـا.. انضافت اللوحة لقائمة الاكتشافات اللي تخليش تشفقين عَلَي؟
تَصَدَّعت ملامحها بعدم فَهم، وبهمس: شنـو؟!
عَدَّدَ بذات الابتسامة البغيضة: الرسايل.. والجديلة.. واللحين اللوحة.. أو أٌقدر أقول اللوحات! كلها أمور تخليش تشفقين عَلَي وتجيني لين اهني "خَطى لليمين قَليلًا وهو يُرْدِف بتفكير" أو أقول إن جيّتش سَببها غرورش؟ قلتين لنفسش واحد غبي يحبني.. لا بل يعشقني.. وبيسامحني مثل الجلب مهما أهنته.. ليش ما أرجع له؟ بيفيد صورتي وشخصيتي قدام الناس "استطردَ" وبالمناسبة.. مرة ثانية إذا تجسستين على أغراض غيرش.. حوالي ترجعينهم مثل ما كانوا قبل لا تلمسينهم.. طبعًا أقصد مخدتي ولحافي
مالَ رَأسها بخيبة والسحابتان تُرسِلان للوجْنَتين أَوَّلَ قطرتين.. وبهمسٍ يختنق من الغصّات عاتبته: حــ ـرام عليـ ـك بسّـــام
رَفعَ حاجِبَيه يَدَّعي التَّعجب: حَرام عَلَي "أَشارَ لنفسه" أنا حرام عَلَي؟! "عادَ واقترب منها وهُو يَنحني حتى يُقابل وَجْهه وجهها.. وباستطراد" تذكرين يوم أقول لش لا تخليني أندم ندم السنين؟ تذكرين حَنين؟
نَقَلت عدستيها بين عَيْنيه وبنداءٍ راجٍ: بسـ ـام
لَم يَسْمَح لها بأن تُكمل.. فهو استنتج بثقة هَدَّلت شَفتيه بابتسامة مُحْبَطة ليقول: طبعًا ما تذكرين.. وليش تذكرين أصْلًا! "هَزَّ رَأسه" لكن أنا أذكرش.. قلتها لش بعد ما أتعبتيني بداية حياتنا.. بعد ما خليتيني أتخبّط مو فاهم بأي طريقة أتعامل معاش.. قلتها لش عشان أحذرش.. لأنّي أدري.. أدري إذا هالنَّدم قَطَّع أصابع روحي إنتِ اللي بتخسرين.. إنتِ اللي بتنضرين "شَبَكَ عَيْنيه بعينيها ليهمس بفحيحٍ اسْوَدَّت منه الدّماء العابرة عروقها" أنا ندمان يا حَنين.. نَدمان على سنيني اللي راحت وأنا أحبش.. وأنــا مثل المجنـووون أعشقــش
تَنَهَّدت والنَّفس من بين أَضلاعها يعلو بتمزّق.. كما لَو أَنَّ كَلِماته قَطَّعتهُ إلى أَشْلاء. هَمَسَت بحشرجة والعينان تهفو إليه.. إلى الذات التي تَأمَل أَنَّها لَم تَمُت: أنا قسيت عليك بسّام.. وااجد قسيـ ـت.. من أول ليلة صرت فيها حلالك.. وحرمتك من شوفتي.... وحرمتك من الفستان الأبيض.. لين آخـ ـر لقاء بيننا "والدّموع تحرث الخدّين" جرحتك وأهنتـ ـك.. مثل ما قلت.. ما قابلتك إلا بالغرور.. ما قَدّرتك.. ولا قَدّرت بياض قلبك.. حتى حبّك الأسطوري.. ما قدرت أنا وغروري اللي منكّس راسي؛ إنّي أرقى له "وبرجفة عَثَّرت كلماتها" أنــ ـا.. مـ ـا.. مــا.. أستاهلك.. بسّــ ـام.. ما أستاهلك "رَفعت كَتِفيها لتؤكّد على الحَقيقة التي لا مندوحة لهُ منها" بـس إنت تحبني.. تحبنــي.. واللي يحب يفهم حَبيبه.. توقعتك تفهمني في الوَقت اللي أنا ما قدرت أفهم نفسي فيه!
عُقدة أَضفت على ملامحه ظِلالٌ مُظْلِم: ما تركتين لي مجال عشان أفهمش.. ما كان يجيني منش غير الصّد والهجر
أَصَرَّت وغُرَزٌ حَمراء تُجَعِّد جلدها الأبيض: على الرغم من صدّي وهجري توقعتك بعد تفهمني.. لأنّك إنت.. إنت بسّام
مَرَّرَ بَصره بين عَيْنيها المأهولتين بالأَملِ والرَّجاء والاسْتعطاف.. قَبْلَ أن يَشد جسده ليستقيم في وقوفه.. وبنبرة غليظة عَلَّقَ: إنتِ تجرحين وترهقين الروح والقلب.. وأنا المفروض عَلَي أنجب وأسكت وأتحمل! لا وفوقها أفهمش من غير ما تشرحين لي
اعْترَفت لتصدم ذاته الخائبة: ما تصورت ولو للحظة إن راح يجي يوم وبحتاج فيه إنّي أشرح نفسي لك
عَلا حاجِبه وبتهكّم: أووف.. شهالثقة هذي.. كلــش ما تناسبش
تجاهلت مُحاولته لاسْتفزازها لتُكمل: بسّام إنت احتويتني بكل ما فيك.. بقلبك واهتمامك وتفكيرك وحرصك.. كنت أشوف إن عيونك الثنتين عَلَي.. عَلَي أنا وبس وما تشوف غيري في هالدنيا.. وعشرتي معاك خلتني أتأكد إنك تفهمني أكثر من نفسي.. تفهمني من نظرة عيوني.. من نبرة صوتي.. حتى ملامحي كنت تفهمها "انغمرَ صَوتها في بَحْر البكاء الآسن وهي تُرْدف" ويوم جـ ـا الوقت.. اللي كنت أحتاج فيـه لشخص.. إنّه يفهمنـ ـي.. لأنّي كنت ضايـ ـعة داخل نفسي.. إنت.. الشخص اللي كنت أنتظره.. ما فهمتني!
تَعَرْقَلت شَهقتها بابْتسامته الغريبة وغير المتوقعة وبقت مُتعلّقة في حَلْقها.. أَخْفَضَ رَأسه وهي تَطَلّعت إليه بترقّب تنتظر ما سيقوله.. حَشَرَ يَديه في جَيبي سرواله ثُمَّ نَظر إليها بذات الابتسامة.. لينطق بهدوء مُهيب: العَجز يساوي الضعف.. والضعف يعاكس الغرور.. في نظرش طبعًا.. أما في نظري.. فالعجز تنخلق منه القوة.. والضعف يساوي الغرور.. وإنتِ بسبب ضعفش المتراكم من طفولتش ولأسباب واجد.. كان الغرور بالنسبة لش درع تخفين وراه ضعفش وتحمين نفسش به من الانكسار.. وانكسارش سهل حنين.. واااجد سهل.. لكن تجميعش صعب.. صعـــب.. من وقت ما انكسرتين من راشد وإنتِ مو قادرة تجمعين نفسش
سَألته سؤالًا أحاكهُ قَلْبها المُتلهف: وليش إنت.. ما جمعتني؟
رَفعَ كَتفيه: حاولت.. بس أطرافش حادة.. جَرحتني.. وبعدني أنزف.. ولو حاولت ألمس جزء منش.. بتتلطخين بدمي
هَمَسَت بلسان كُل الأزمنة: ما راح تكون مُشكلة.. لأن الحُب ينضج بالدّم
التَزَمَ الصَّمت لدقيقة سَمحَ فيها لعينيه بأن تُقَبِّلان بخنوع وجهها المُشَوّش الملامح... قَبْلَ أن يَهمس ببرود جَمَّد بهِ أطراف مشاعره: اللحين إنتِ شتبين؟ جاية لي اهني وفاتحة لي باب أنا سكّرته عشان أرتاح "استفسرَ" أو إنش حسيتين بحرج وإنتِ قاعدة في بيت أهلش.. أتعبتينهم معاش.. فقررتين تريحينهم وتجين لي اهني عشان أنا أعتني فيش؟ لمصلحة يعني
رَجتهُ من خَلْف أهدابها المُبَلّلة: بسّام خــلاص
واصلَ بعدم اهتمام ليُسْقيها شربة مما جَرّعته من عَلقم: طبعًا مصلحة.. أنا شنو أتوقع من وحدة مثلش شـ
سَيْفٌ.. سَيْفٌ تَصَدَّى لقذائفه وقَطعَ مسير كلماته الجارحة.. سَيْفٌ لَم يَكن سِوى وقوفها الذي نَزَلَ عليه كالصّاعقة. نَظر لها وهُو مَبهوت.. مَصْدوم.. والدّماء تنحسر عن وَجهه شَيئًا فَشيء. تَأَمَّلَ قَدميها المُلتَصِقَتين بالأرض بعينيه الجاحظتين.. اللتان مَضتا إلى ساقيها حتى اسْتَقَرَّت في عَيْنيها.. لتصرخ هي بصوتها المشروخ: مــو مــحــتــاجـة لك.. شوفني.. مو.. محتاجة.. لــك.. أقدر أوقـ ـف.. صار لي يوميــ ـن أقدر أوقف.. وما قلت لأحد.. حتى أبوي اللي ياخذني للعلاج ما قلت له.. لأنّي مابي أأملهم.. مابيهم يفرحون وبعدين ينصدمون.. لأنّي مو واثقة من نفسـ ـي.. مو واثقة إنّي أقدر أتحرر من هالسجن "ضَرَبت على صَدرها بحرقة ألهبت جواها ورُوحها المُرْهَقة" بسّام أنا مريضة "أشارت لقلبها" اهني مريض "ثُمَّ لعقلها" واهني مريض.. الدكتور قال لي إنّي تجاوزت أول مرحلة من المرض.. المرحلة اللي أعترف فيها لنفسي إنّي مريضة "أشارت لهُ وكأنّها تُهاجمه" وإنت تدري.. إنت تدري بسّام إني مريضة.. إنت فهمتني وللحين تفهمني.. حتى يوم شكّيت إنّك ما فهمتني.. خذلت شكّي وفهمتني "هَزّت رأسها بالرفض" ما أبيك تسامحني بسّام.. لأنّي عذبتك.. أستاهل إنّك ما تسامحني "مالَ رأسها ويداها تتشابكان راجيةً" بس ما أبيك تخليني.. لا تخليني بسّــ ـام.. لا تخليني أمشي في هذا الطريق بروحي.. أرجوك بسّام.. أرجووك "هَمَسَت تُناجي ذاته" أنــا.. أحتاجك
مَشاعرها التي تَعَرَّت أَمامه كانت طاغية.. غَمرتها بلا حدود.. لذلك أَخفضت رَأسها.. نَظرت لقدميها.. ليست واثقة في قدرتها على المَشي.. لَم تُجرّب المشي أصْلًا.. لكنّها مع هذا حَرّكت قدمها اليُمنى بحذر.. حركة بسيطة وخفيفة لَم يفترق منها باطن القدم عن الأرْض، إلا أنّها جعلتها تتقدّم قليلًا.. لكن عندما جاءت لُتَحرّك اليُسرى.. اخْتَلَّ توازنها وكادت أن تسقط.. لكنّهُ التَقطَ جَسدها بسرعة قَبْلَ أن تجتذبه الأرْض إليها.. وهي بدورها تَمَسّكت به. تَحَرّك باتّجاه المقعد ليُجلسها إلا أنّها تشَبَّثت به وبتوسّلٍ جُفَّ منهُ حَلقها: لا لا بسّام.. لا الله يخليك.. لا تبعدني عنك.. الله يخليك بسام.. الله يخليـ ـك "نَظَرَت إلى وجهه الذي لَم يَخلع ثوب الصّدمة بَعْد" من زمان.. ما لمستني.. من زمان ما كنت قريب مني هالكثر "أحاطت وجهه بكلتا يَديها وهي تُناديه بهمسٍ لهُ نوايا الشمس في إذابتها للجَليد" بسّــام.. حَبيبي طالعني "داعبت شُعيرات لحيته بأناملها وابتسامة صَغيرة بزغت على شفتيها تفاعُلًا مع النّداء اللطيف " بو حسيـن
اخْتَلجَ طَرف أهدابه، وكما السِّحر جَذَب النِّداء بَصره فرفعهُ إليها.. أَرْخَت كَفّيها على قَذاله لتهمس بآخر كلمات رُوحها: أدري ما عندك ثقة فيني.. وهذا من حقك.. بس لا تعطيني أنا فرصة.. اعط حبّك الفرصة.. تقدر بنفسك تمنح هالحُب كل اللي تمناه.. أنا وحسين؛ أسرتك الصغيرة.. الأسرة اللي كنت تحلم فيها من جم؟ من ثمنتعش سنة؟ من يوم كنت في عمر الخمستعش؟ "انخفضت يداها لمؤخرة عُنقه وجبينها يلتصَقَ بجبينه لتُرْدف بوَجْسٍ مُتعب افتقدت إليه مسامعه" بسّام أنا أفلست.. ما عندي شي يشفع لي عندك.. أفسدت كل شي.. بنفسـ ـي.. لكن أتمنى.. أتمنى هالحب اللي في قلبك ينقذنا.. ينقذ حياتنا
أغمضت عينيها في اللحظة التي ارتفعَ فيها صَدرها لتعبر منه تَنهيدة.. انتظرت منهُ جَواب.. تعليق.. سُخرية.. لكن لا شيء.. أنفاسه وَحدها من كانت تحتكر الحَديث. أرجعت رأسها للخلف بابتعاد.. لا تُريده أَن يُفَسّر قُربها على أَنَّهُ إغواء.. فهي تعلم جَيّدًا إلى أي مَدى يستطيع قُربها أن يُزعزع ثَباته.. وأنفاسه المُضطربة قبل ثواني كانت أكبر شاهد. أعادها للمَقعد وهي مُباشرة حَرّكته للخارج.. تابعها إلى أن اختفت حتى يَستطيع أن يَكشف سِتر حاله.. فجسده المَحْموم تَقهقر حتى اصطدم بالمكتب.. جَلس على الكرسي الجانبي وبيديه أَخذَ يَمسح وَجهه المُشْتَعل.. أَنفاسه لاهثة وداخله دوَّامة مُضطربة أَصابته بالإعياء.. منظرها وهي واقفة لا يُفارقه.. يا الله.. مُنذ متى لَم يُقَرَّ بَصره بقامتها الأنثوية؟ اشْرأبَّ عُنقه ليهمس بإغماضٍ من أعماق جَواه: الحمد والشكر لك يا رب.. الحمد لله.. الحمد لله
وهُنا.. على هذا المقعد.. وَسط هذه الغُرفة.. وبكلماته المُتَطَيّبة بعطر مشاعره اليانعة؛ كان قَد نَسَفَ كُل الذي نَطَقَ به وبَصقهُ أَمامها.. وبذلك يكون قَد رَفَعَ راية استسلامه.. مُجَدَّدًا. أَسْدَلَ جِفْنيه بِخَيْبة، مُغْتاظًا من ضِعفه ومن قَلْبه الذي لا يَعرف غَيْر الدّنو منها وإليها. هُو فَقط كَفَّ عن الإصغاءِ إلى العَطْف.. لَم يَعُد يَعطف عَليها.. لحظة لحظة.. لحظة بَسّام.. هل فعلًا لَم تَعُد تعطف عليها؟ حاوَلَ أن يَبْتَلع غَصّته لكن قَلْبه كان يَنبض هُناك.. ما بين حلقه وقَصبته الهوائية.. كما لَو أَنَّهُ كان يَستنشق نَبضات.. لا أَنفاس.. نَبضات تَرجوه بأن لا يَستفرغ قَلْبه. فهو من شِدّة غَضبه وإحباطه من نفسه.. كان يَتمنى لَو أن باستطاعته التَّخلي عن قَلْبه.. فهو دائه والمُسبّب الأوَّل لأوجاعه. فكيف لإنسان بالغ عاقل فَطِنٌ مِثله أن يَتلاعب به فؤاده؟ كالبندول يُحَرّكه يُمنةً وشِمالًا.. بلا أيِّ استقرار وثَبات. كلامه الذي قَذفَ بهِ قبل دقائق سَبق أن انتزعهُ زُهورًا من أَرْض رُوحه.. شَوَّهها.. ألبسها أشواكًا.. ومن ثُمَّ انتزعها من جذورها ليَمطرها بها على هَيْأة كلمات لاسعة.. تَخِز أعمق نقطة في ذاتها. تَدَرَّب على ذلك الحَديث كَثيرًا بينه وبين نَفسه.. كَتَبَ كلِمة.. ومَسَحَت ذاته كلمات مُسَنّنة خَشْية جرحها.. وبصعوبة بالغة اسْتطاعَ أن يَنطق بها مُدافِعًا عن هَزيمته.. بهذه الأَسْلِحة البالية ظَنَّ أَنّهُ يَفوز بذاته وإن خَسِر الحَرْب.. لكن حقيقةً.. ذاته لَم تَقْبَل يَومًا بِفَوزٍ يُصَيِّرها عدو لِمن قُيِّدت بها.. لتلك.. حَنينه. إذن.. المُحَصِّلة ماذا؟ تَحَرّكت يَده من عُنقه إلى فَمه.. أَطبقها فَوْقه وهُو يَرْنو للباب الذي غادرت منه.. المُحِصّلة يا بَسّام أَنَّك عالِقٌ بَيْن وَهْمِ الخَسارة.. وحَقيقة الفَوْز.. أَيَّ أنَّك عالِقٌ بين الحَرْبِ والحُب.. سَتخسر إن كُنتَ في الحَرْب خَصْمًا لها.. وستفوز إن كُنتَ في الحُب وَفِيًّا لها. والخسارة ما هي.. والفوز ما هُو؛ إلا ذاتك.



سَئِمت من سَحابة الظّلام المُخَيّمة فَوْقَ حَياتها.. لكن لا حيلة لها لتَبديدها.. فالرَّبيع اعتذَرَ عن القدوم.. فاضطّرت أن تستسلم لسوادها ولثقلها القَحِط من أَمطار.. وكان الاستسلام على هَيأةِ غَرق.. غَرقٌ بين أجنحة المشفى وبين المَرْضى. كانت تعمل أضعاف ساعات دوامها الأَصلي.. وفي بَعض الأحيان تَتَبرع لتَحل مَحل أحد الأطباء أو إحْدى الطَبيبات الذين يعتذرون لسببٍ طارئ.. كانت تَزج بنفسها بين فَوضى البَشر وآلامهم لعلّها تَسهو عن أَلِمها.. أَلم فَقدها إليه. ها هي تَخلع المعطف الأبيض.. المعطف الذي يفصلها عن واقعها.. تَركته بإهمال على مَقعد الرّاكب بعدَ أن استقرت في مَقعدها. شَغّلت المُحرّك.. ودون أَن تُسْهِب في التّفكير حَرّكت المَرْكبة. مَضت أيّام.. أسبوع.. وأكثر؛ مُذ أَلقت قُنبلتها وَسط ذلك المَنزل وهَربت.. مَضَت أيّامٌ وأَسابيع وهي تُحاول أن تَقتلع ذكراه.. أن تُميت وجوده.. أن تَسلخ بقاياه.. وأن تدفنه في زاوية منسية في الروح. لكن كُل محاولاتها باءت بالفَشل.. فكُلّما أَرادت أن تَفصلهُ عنها تَمَسّكَ بها أكثر.. يَنقسم داخلها وينتشر كمَرَضٍ لا عِلاج له.. مَرض عَجَبًا أَنّها تَسْتلذ بوجعه. يُرْضيها هذا الوَجع.. يُرْضي حواسها.. فطالما هذا الوَجع يُؤكّد على بقائِه حَيًّا فيها فأهلًا وَسهلًا به. وَصلت إلى المنزل.. أركنت السيارة في مكانها الخاص ومن ثُمّ غادرتها إلى الداخل وعلى كَتِفها تستقر حَقيبتها.. وحول ساعدها اسْتراح معطفها. دَلفت لتُقابلها العائِلة بأكملها.. عُقْدة خَفيفة تَوَسّطت حاجِبيها وخطواتها تتباطأ حتى توقّفت أمامهم وأمارات الاستغراب تتضح بين ملامحها.. نَطَقت شَقيقتها منار بحاجبٍ مرفوع وهي تَعلم ما يجول في عقلها من أسئلة: اليوم الخميس
ارتخت ملامحها وعاد البرود إلى مَسكنه بعد أن استوعبت سَبب تجمعهم في مثل هذا الوقت.. سَلّمت بهمس ثُمّ استدارت إلى السُّلم.. وقَبْلَ أن تَرْكب قال والدها بنبرة مُطَعّمة بالحنان والنصيحة: بابا مروة اقعدي معانا شوي
أَيّدهُ زوج شَقيقتها مرام: اي مروة اقعدي.. من زمان عن سوالفش
أَدارت رَأسها ويدها تُمسك بحاجز السّلم.. وبابْتسامة جانبية مُرْهقة قالت: بقعد.. بس كرمكم الله بدخل الحمام وبغيّر ملابسي
هَزّ رأسه والدها بتفهّم: اي اي زين يُبه.. اخذي راحتش
رَكبت العَتبات ولَم يَصلها هَمس مرام التي استنكرت مُحادِثةً والدها: بابا! ليش تبيها تقعد؟ الرجّال من زمان ينتظرها فوق
وَضَّحَ: قلت أمهّد لها قبل عشان لا تنصدم إذا دخلت وشافته
عارضتهُ منار: لا بابا.. الأحسن إنها تركب وهي ما تدري.. لأن أكيد لو درت إنه فوق في غرفتها ما بترضى تقابله.. تشوف من صارت سالفتهم واحنا نحاول فيها تكلمه وتتفاهم معاه وهي رافضة
أَفرجَ عن تنهيدة قَبْلَ أن يَسأل: وللحين ما قالت لكم ليش متهاوشين؟ أنا ما أسألها.. أقول مابي أتدخل.. بس انتو خواتها وبنات حالكم حالها.. متعودة عليكم أكثر
أَجابت مَرام بتوجّسٍ يحوم في صَدرها وهي تَضع كَف على الأخرى: لا والله ما قالت.. حاولنا فيها.. تقول شي خاص بينها وبينه.. فاحترمنا رغبتها
تنهيدة أخرى أتبعتها جُملة أمَل: الله كريم.. الله يهديهم ويتفاهمون اللحين ويحلّون اللي بينهم

،

فَتحت باب الغُرفة.. المَصابيح كانت مُضاءَة.. لَكنّها لَم تنتبه لذلك.. كَما أَنّها لَم تنتبه للرَّجل الذي كان يَتّكئ بجانب جَسده على الجدار المُجاور للنّافذة. مَشت إلى سَريرها بخطواتٍ تنتعل المَلَل.. أَلقت معطفها فوقه.. ومن ثُمّ حَقيبتها.. وأخيرًا حجابها. حَرّرت خصلات شعرها وبأصابعها أخذت تُمَسّد رَأَسها وهي تُصَعّد من صَدرها آهاتٍ مُذَيَّلة بتنهيدة مُتَقطعة. كانت مُغْمَضةَ العَيْنين وهي تُحاول أَن تَمْتص الصداع لعلّ عقلها يَهدأ.. ولكن من أَين لها الهدوء وَدوي انفجار القُنبلة لا زال يَترَدّد صَداه في جَوْفها؟ زَفَرت بضيق وهي تُخفض يَديها لقميصها الطويل لتفصله في ثانيتين عن جَسدها والعيْنان لا يزال الجِفْنان يُدَثّرهما. بَقت بالبلوزة الداخلية ذات الأكمام الطويلة وفي نَيّتها استحمامٌ طَويــل ودافئ.. لكن الجالسون في الأَسفل يُكبّلون رَغبتها. استدارت لخزانة ملابسها في اللحظة التي فَتحت فيها عَيْنيها.. حَركتها كانت سَريعة ومُفاجِئة بالنسبة لطاقتها البالية.. فهي شَعرت بدوار بَسيط وغشاوة تَتكتل فوق بَصرها.. تَمَسّكت بالخزانة وذاك الواقف خلفها تَقَدّم خطوة لَم يتبعها بثانية؛ فهو قَبَضَ يَده بتردّد عندما استقامت بهدوء لتتناول رداء استحمام نَظيف ومن ثُمّ تدلف لدورة المياه. زَفَرَ بعضًا من توتّره الذي تَضاعفَ عندما دَخلت.. فهو لَم يعتقد ولو للحظة.. ولو للحــظة.. أَنّها مُبَعثرة لهذه الدرجة! فَكَّرَ بأنها ستكون ضَجِرة وملامحها تَشوبها لَمحة من الحُزن.. لكن لَم يعتقد اَنّهُ سَيلتقي بوجهٍ هُو مرآة للحُزنِ نَفسه! جانب وجهها الذي استرق النّظر إليه قَبْلَ ساعات لَم يَمنحه سَوى نُبْذة عن قَبائِل الكَمد المُستوطنة أَراضيه. يا للهول مروة.. يا للهول.. أَطعمتِ الهَمَّ نَفْسَكِ بنَفْسِك! جَلَسَ على الأَريكة الجانبية في غرفتها عندما وَصَلَ إليه خرير الماء.. فَتحَ الكيس الصّغير الذي في يَده.. نَظَرَ للذي في داخله ثُمَّ أطبق طَرفيه من جَديد وهو يَطرد من صَدره تنهيدة. وهو في طريقه إلى هُنا والكيس هذا في يَده؛ لَم يَكُن قادِرًا على فَهْمِ نَفسه.. لَم يَكُن قادِرًا على فَك شِيفرة ذاته.. لَم يَكُن قادِرًا على تَمييز صَوْته من بين جَميع الأصوات الزاعقة داخله. لا يدري أَيُريد ذلك أم لا؟ أَهي "لا زالت" أُمنيته أم لا؟ أهذا صَحيح وسَليم أم لا؟ أَسئلة عَديدة لَم يَكُن شُجاعًا للحَد الذي يَجعلهُ يُجيب عَليها.. فهو إلى الآن لَم يَبرح ساحة المَعركة التي سَفكت على أَرْضها مَرْوة حَقارة الماضي. رَفعَ عَيْنيه لباب الدورة عندما انتبه لتوقّف انصباب المياه. رَكّزَ بَصره عليه وهو يُحاول أن يُسيطر على الرّجفة التي استحكمت من أطرافه.. شَدّ على الكيس الذي أَخذ يهتز في يَده ونَبضه يترقّب التقاء عَينيها بعينيه. لكنّها وللمرة الثانية لَم تنتبه له! فهي خَرجت بوَجه الغَمِّ ذاته.. بشعرها المُبلل المُلتصق بكتفيها وظَهرها.. وبجسدها المُلتف برداء استحمام يُغلق عند الصّدر. تنفّسَ بثقل وشَكلها هذا يُعيده لليلتهما الأخيرة.. لليلة التي يَفصل بينها وبين الإغواء خَيطٌ رَقيق اسْمه الحُب. أَرْخى طَرْفه عندما فتحت الزّر عند الصّدر.. وبهدوءٍ ونَبرة أعلى من الهمس بقليل: مَـروة
أَغمضَ للحظات بضيق عندما اخترقت حَلْقها شَهقتها الفَزِعة.. نَظَرَ إليها عندما هَتفت بصوتٍ خَنقتهُ بَحّة الصّدمة: عــبــد الله!
زَمَّ شَفتيه وعدستاه تَمران على ملامحها التي شَحبت وعينيها الجاحظتين.. ومن ثُمّ تنتقلان ليديها اللتين احمَرّت أطرافهما من فَرط شَدّها على ردائها.. هَمست بتأتأة وبصرها يَهرب من تَفَحّص عَينيه: شــ ـ...ــشــتسـ ـ... شــتسـ ـوي.. ليــ ـش!.. من متـ ـ.. من متى.. إنت اهنــ ـي!
بهدوء وهو يَقِف ليخطو إليها: من أول ما دخلتين الغرفة
ازْدَرَدت ريقها وعدستاها تتخبّطان على المكان بعشوائية لتُعيد لَحظة دخولها.. كَيف لَم تنتبه إليه؟ ألهذه الدرجة أغشى الحُزن وَعيها؟! تَصادمت أنفاسها بارْتباك عندما وَقفَ أمامها.. كان قَريبًا جدًا.. جـــدًا! فرائحته الرّجولية نَفَذت إلى قَلْبها المَكْدود من الشّوق. هُو سَمح لنفسه بأن يَتَأمّل وجهها للمرة الثالثة.. وهذه المرة عن قُرب.. وبدقةٍ أَكْبَر. بَشَرتها كانت مُكَوّنة من لَوْنَيْن.. أَصْفَرٌ نَضِج يُخالطهُ احْمرارٌ باهت كالذي كان يُكَحّل عَيْنيها.. وكأنّها كانت تبكي.. أو أَنّها فعلًا كانت تبكي.. فَقد استكانت فَوْقَ أهداب عَيْنها اليُسْرى دَمْعة مَنْسِية.. وأَنفها الصَّغير كذلك لَم يَنجو من الاحمرار.. أَمّا شَفتيها.. فَحدّث ولا حَرج.. فالجَفافُ قَد أَضرم بينهما تَشَقّقات تُنذر بولادة بَعضًا من الدّماء. انتبه من غُمرة تَأملاتها لصوتها المَبحوح، لصوتها الذي ابتلعتهُ الغصّة: شــنـ ـو.. تسوي اهنـ ـي؟
كانَ جَوابه أَنّهُ رَفعَ الكيس أمامَها.. نَقلت بَصرها بينه وبين الكيس وعلامات عدم الفَهم والاستغراب تحشو مُقلَتيها.. لذلك أخرج الذي فيه ومَدّهُ إليها بصمت.. وهي ما إن رأته حتى احْتَقنَ وَجْهها وكأنّما نار اشتعلت أَسفل جلدها.. تَساءلت بحُرقة وبصوتٍ مَشروخ: ليـــ ـــش؟ ليــش جايبه؟!
رَدّ بهدوئه الذي كان بالنسبةِ لها برود مُسْتَفِز: العصر قلتين للممرضة إنش أخرتين الصلاة "اعتلى حاجبه وهو يُكمل بثقة أَرعشت دواخلها" وفي هالوقت من هالشهر إنتِ لازم ما تصلين
حاولت أن تزدرد ريق البُكاء الذي يُقرقع وَسط حَلْقها.. لكن جيوش الغصّات كان يَقِف أمامه كالسّد.. لذلك أَطلقت شَهقة بلا حيلة قَبْلَ أن تهمس بتنشّق والدموع نِثارًا: صار لـ ـي.. شهـ ـور.. شهووور.. وأنا أشتريهم.. وأَتقطّع.. من الحســـ ـرة
رَكّزَ عَيْنيه في عَيْنيها وهو يَقرأ على وقع طبول نَبضاته رَغبته المُتردّدة وهي مَنقوشة على عَدستيها بإفصاحٍ جَريء.. لذلك ابتلعَ خَوْفه ودَفعَ ذاته ببقايا ثَباته ليقول: جربي.. اخذيه وجربي "وَضَعَ العُلبة في يَدها مُكَرّرًا بحزمٍ فاضَ من مُقلتيه" جــربــي
تَقَلقلت عَدستاها بين ملامحه وبدا لها أَنّها عَثَرت على وَميضٌ وَهِن يُشْبِه الأَمل.. مَرّرت لسانها على شَفتيها فاستطعمت بؤسها.. أَخفضت رَأسها للعُلبة التي وَضَعها في يدها.. ثُم أَلقت عليه نَظْرة بها شيء من تردّد قَبْلَ أن تستدير عائدة إلى دورة المياه. هُو ظَلَّ يُمَشّط الغُرفة جيئةً وذَهابًا ليُبدّد توتره أثناء دقائق الانتظار التي تتعمّد أن تكون طويلة في مثل هذه الأزمات. يعتقد أن حدسه سَيُصيب.. لكن لا يُريد أن يَتأمّل.. كما انّهُ لا يُريد أن يَفضح ذاته أمام ذاته. تَوَقّفت قَدماه.. فهي قَد انتهت.. ها هي تقف أَمامه.. بجفنين مُرتخيين.. وملامح لَم يَستطع أن يُمَيّز هذه المرة ألوانها. خَطت كما لَو أَنّها تَزحف.. وهو خَطى ببطء الخائف المُتوجّس.. وقَبْلَ أن يَصِل إليها.. سَقطت على رُكبتيها بانهيار وجَسدها تُمَيّلهُ ريحٌ هوجاء أَرعدت أوصاله.. أَسْرَعَ إليها وهي مُنكَبّة على السرير تَجُر النّحيب جَرًّا.. تَبكي وكأنّما الأَسى بَحرًا يَموج في صَدرها. جَلَس على الأَرض بجانبها وهو يُناديها ببعثرة: مروة "أَمسك ذراعها العاري بحذر" مروة
لَم تُجْبه ولَم تقطع سمفونيتها الحَزينة.. وهو لَم يَكن يَستطيع أن يَرى وجهها المخفي خلف شَعرها. فتّش بين يَديها بنظراته.. فَوجدَ الجهاز مَسْجون بين أصابع اليُمنى منهما؛ وهي قابضة عليه بقوّة عجيبة. أحاطَ معصمها وبلُطفٍ أداره لتتضح لهُ واجهة الجهاز التي أَرْسَلت لهُ النتيجة التي لا يدري.. أَطعنةٌ كانت أم قُبلةِ حَياة! اضطربت أنفاسه وبكاؤها هذا بَدأ يُحيك في نَفسه وَساوس لا حَصْرَ لها.. سَألَ بنبرة يكسوها الجَليد: ليش تصيحين؟
وكأنّ سؤاله كان السّكين التي اقتطعت أوتار آلتها المُزعجة.. انقطعَ صوتها ولكن انهمار قَلْبها لا زال يَلسع عَينيها.. أَدارت رأسها ناحيته وهي تُبعد خصلاتها عن وجهها.. نَظَرت إليه وهي تبتسم.. نعم وهي تبتسم.. ابتسامة كانت النقيض الأَكبر للفَرح.. هَمست بحشرجة: طبعًا تعتقد إنّي أصيح لأنّي ما أبيه.. ما أبي هالبيبي.. لأنّي ما أحبّك.. لأنّي جذابة وما تزوجتك إلا عشان أنتقم... صح؟
ببروده المُفْتَعَل: هذا الواضح لي
بغصّة خرجت بسببها كلماتها مُتورّمة: وشــ ــنــو كنت أقصـ ـد.. بكلامي.. قبــ ـل شوي! الحسـ ـرة اللي تشتعل في قلبي جمـــرة.. كل مرة إذا سويت التحليل وطلعت لي النتيجة بالسالب.. هذا يعني شنو؟ شنــ ـووو؟
عَقّبَ من بين أَسْنانه وهُو يُقَرّب وجهه منها لتلفح بشرتها الحسّاسة أنفاسه المُلتهبة: من حقـــي.. من حقي أشك.. من حقي ما أثق فيش وأصدقش "حَرّكَ رأسه بخيبةٍ وأسى وهو يُكمل والقهر حائرٌ وَسط مُقلتيه" كل شي.. كــل شي عايشته معاش قبل، اللحين بالنسبة لي ملوّث.. مَسموم.. كله جذب واصطناع وتمثيل.. شدراني إذا كنتِ فعــلًا تبين هالطفل مني ولا لا!
هَزّت رأسها: صح.. صح من حقك.. من حقك تفكر جذي "عَلّقت بصرها ببصره وهي تَقذف عليه سؤال أصابهُ بالهَوس في الأيام الماضية" بس إنت متأكد.. إن كل شي.. كـــل شي.. كان جذب وتمثيل؟ "كَرّرت بمعنىً يفهمهُ جَيّدًا" متأكد عبد الله؟
وكما تَخَبّطت ذاته حائرة أَمام هذا السؤال فيما مضى من أيام؛ تَخبّطت عدستاه على عينيها ووجهها بعجزٍ بَغيض.. احْتَكّت أَسْنانه بقهر قَبْلَ أن يَستدير عنها للأمام وهو يَعقد ذراعيه على صَدره كاظِمًا غَيْظه؛ وظَهره قَد استندَ للسّرير. بَقيَ على حاله هذا.. مُقابلًا مرآة خزانتها ليلتقط بذاكرته صورًا للوحتهما الكئيبة هذه.. اللوحة التي تنطق عَجزًا وضَياع. وهي بَقت على وضعها كذلك.. مُستندة بجانب جسدها إلى السرير ومُقابِلةً صَدّه.. تنتظر منهُ جَوابًا ترجو أن يُسْقي ذُعْر رُوحها بضع قطراتٍ من اطمئنان.



يُشاغبه مُنذ أكثر من ساعة.. كان كَظِلّه.. مُلازمًا له أَينَ ما ذهب.. حتى عندما كان يَدخل لدورة المياه يَبقى هو عند الباب يَنتظره، دون أن يَقطع شَريط نصائحه الذي خالَ أنّهُ سَيستمر للأبد. رَمى الأداة التي في يَده على الأَرْضِ بنفاذ صَبْر وهو يَصرخ فيه لدرجة أن العُمّال التفتوا إليه باستنكار: كَفى هاينز كـــفــــى! ما بك؟ انقضت ساعة وسَبع دقائق تَمامًا وأنت لَم تصمت ولو للحظة! أَلم تتعب؟
بقهر قال: أنا منهار من التّعب أَساسًا.. ولَن أرتاح إلا حينما تعود لزوجتك
تَغَضَّنت ملامحه بشفقة مُصْطَنعة وهو يَتهكّم عليه: تَركت بلدك وقطعت مسافات من أجل هذا الأمر! "طَبْطَبَ على خَدّه باسْتفزاز مُتَعَمَّد" يا لكَ من مسيكنٌ صَغير عزيزي هاينز
دَفَرَ يَدهُ بِغَيظ: موهاميــد أنا لا أمزح
عَقَّبَ ببرود وهو يَنحني ليلتقط أداته: وأنا لا أمزح "اسْتقامَ وهُو يُكمل بجديّة تامة" هاينز لا تُرهق نفسك أكثر.. أنا وملاك انتهينا
شَرعَ ذراعيه باسْتنكار شَديـد: لكن لمـــاذا؟ لماذا هذه النهاية! لماذا طلقتها موهاميــد! هــ
قاطعه: هاينز.. طوال معرفتي بك عاشرتَ وانفصلت عن عشر أو ربما عشرون فتاة.. هل لمتك في مرة أو تَطَّفلت وسَألت عن الأسباب؟ لا.. لَم يحدث ذلك أبدًا.. فعليك الآن أن تقوم بالشيء نفسه.. أن تتفهم قراري من غير أي سؤال
استدارَ عنهُ للمركبة التي يعمل عليها عندما حَشَره في الزاوية.. لكن هذا الذي قَدِمَ إليه من موطنه لا يتعب.. أَغمض مُحمد عينيه بملل عندما هَمَسَ هاينز بحقد: كل ذلك بسبب والدي
شَزرهُ بحدّة وهو يُقابله ويقول: انتهى الأمــر هاينز
تجاهله ليُواصل كَشف خفايا ذاته: هو الذي يستحق أن تكون نهايته سوداء.. كنواياه "أَرْدَفَ وفي عَينيه لَمعَ تَهديدٌ خَطير" لا تستغرب موهاميد.. لا تستغرب إن وَجدته في يومٍ قَريب مَقْتولًا
اتَّسَعت عَيْناه مُندهِشًا من الذي نَطقت بهِ عَيناه قَبْلَ لِسانه.. دَفَعهُ بقوّة من صدره وظَلَّ يَدفعهُ حتى وَصَلا لمكتبه.. حيثُ ألقاه على إحدى الأرائك بغضب.. هَمَسَ من بين أسْنانه: كيف تجرؤ على قول ذلك؟! بل كَيف تجرؤ على التفكير بذلك! كَيـــف! "أشارَ لرأسه" هل جُننت أيها الأحمق!
فَزَّ واقِفًا ليصرخ ووجه الأَبيض تَشرَّبَ لونًا قُرمزيًا يُنذر بالانفجار: نَعم جُـــنـــنـــت.. جُنــنت.. من يكون والده آستور لا لوم عليه إن جُنَّ.. أنا جُننت مُذ فَضَّل عمله على عائلته.. مُذ عَرَّضني ووالدتي لأخطارٍ لا جدوى منها.. مُذ أَفْقَدَكَ ذاتك ونهبَ من روحك حُلمك.. وأنا أَزداد جنونًا يومًا بعد يوم كُلَّما رَأيت نتائج حقارتهِ عَليك
قَبَضَ على ذراعيه وهُو يشَبك عينيه بعينيه ليهمس بأنفاسٍ سَريعة: اسمعني هاينز.. اسمعني.. عليك أَن تتأكّد أن كُل الذي فعله وسيفعله والدك في المُستقبل هو من أجل حماية وطنه وحمايتك أنت ووالدتك.. فعليكَ أن تفخر به
مالتَ شَفتاه ساخِرًا: وهل يَفخر الرجل بوالدٍ يعمل مع العصابة؟ "ارْتَخت قَبْضَتا مُحمد استجابة للسؤال الذي لَم يتوقعه.. فأكمل هاينز" أنا أعلم موهاميـد.. أعلم مُنذ زَمن أَنّه يَعمل معهم.. وواجهتهُ عِدّة مرّات ولكن أنكرَ ذلك.. وأنتَ تعينه دون أن تعلم أَنّهُ خائن
ارْتَدى عباءة بروده وهو يُبعد يداه عن ذراعيه ويقول مواجهًا إياه بسؤال: ومن قال لك أَنّ ليس لي علم بعمله معهم؟
هَزَّ رَأسه: ستقول لي أَنّه يعمل مُتخفّي.. وأنَّه استغلك أو "استعانَ" بك لتعمل مكانه حتى تصل لأساسهم.. لكن هذا عُذرٌ واهي.. فلديه ألف خطة وخطة يستطيع بها مُلاحقة هؤلاء المُجرمين دون أن يتعاون معهم أو أن يُدّمر حياتك
تَنهَّدَ وعُنقه يَشْرئب بضيق وقلّة صَبر.. قالَ والتّعب يكسو ملامحه: هاينز كَفى.. هو والدك.. وعليك أن تثق به بلا أسئلة ولا ظنون.. وتأكَّد.. بعد الله.. لولا والدك.. لكنتُ مَقتولًا منذ أربعة عَشر عامًا.. أو لكنت حتى هذه اللحظة مُكَبَّلًا في سجن أسفل هذه الأرض.. هو حاول أن ينقذني من أَسوأ الاحتمالات.. ونجحَ في ذلك
أَصَدَرَ صوت رافض من بين شَفتيه وبخيبةٍ قال: لا لَم ينجح.. للأسف لم ينجح.. ها أنت كما كُنت.. جَسد خاوٍ من كُل شيء.. حتى حبيبتك انفصلتَ عنها
أَغْمَضَ ولسانه يهمس برجاء: هايــنز
واصَلَ بحسرة وكأنّه لا يَسمعه: أنت أحببتها مُحمّد.. ولا زلت تحبّها.. لا تنكر ذلك.. وهي أَحبّتك.. لكنّكَ تريد أن تحميها.. لذلك أبعدتها عنك.. أنا أعرف ذلك أيضًا.. ولكنّني أردتك أن تعترف.. لرُبّما عندما تواجه نفسك وحقيقة حاجة ذاتك إليها لعدت إليها
أَطبَقَ كَفّيه أَمامه يَتَوَسّل من قُعر أَلمه: أرجوك هاينز أرجوووك.. كَفــى.. أرجوك كَفى
هَزَّ رَأسه بالإيجاب وجسده يتراجع للخلف ليجلس.. أحنى ظهره وأصابعه ارتفعت تتخلل خصلات شعره ومن قَلبه فَرَّت زَفرات مُلتهبة. استطرَدَ بعدَ ثواني وهو يَرفع رَأسه: لا أريد أن أجلس هنا.. أشعر بالاختناق.. سوف أخرج
عارضه: لا.. ابقى هُنا.. أعلم أَنّكَ ستذهب لتشرب سمومك وتسكر.. انتظرني لنصف ساعة حتى أُنهي عَملي ثُمَّ سنخرج معًا
وافقَ وظهره يعود للخلف ليسترخي في جلوسه.. أَمّا مُحمد فقد غادرَ المكتب عائِدًا لمركبته بعد أن ألقى نظرة على صَديقه. أمسكَ بأَداته.. شَردَ ذهنه وهو يُقَلّبها وَسط راحته.. الجميع يقولون الشيء ذاته.. هاينز.. عبد الله.. والدته.. جنان وأم يوسف.. جميعهم اتفقوا على أَنَّ الفراق خطأٌ جَسيم. ضَغَطَ على الأداة بقوّة نفرت منها عروق كَفّه وأَسنانه تنقض على شَفته.. أن يُفَكّر في العودة هو الخطأ الجَسيم.. لا يستطيع أن يُعرّضها لمثل هذا الخطر.. لا يستطيع أن يُعرّض حَبـ ـيــ ـبـ ـتـ ـه.. ازْدَرَد ريقه ونبضه يُعيد نطق الكَلمة بسلاسةٍ أكبر.. حَبيبتــ ـه.. حَبيبته! أَغمضَ عينيه بشدّة وفي نفسه تَمنّى لو يَطعن قَلْبه بهذه القطعة الحديدية التي في يده.. من الغَباء أن يَضعف الآن.. يَجب ألا يُعير اهتمامًا لأي شيء يُقال.. فالحُب لَن يَحمي حَبيبته.. بَل قَد يُلبسها الأكفان. ارْتَعدَ من رأسه حتى أخمص قَدميه عندما داهمته هذه الفكرة القاسية، الشرسة.. أن تموت ملاك.. ألا تكون على قيد الحياة.. أن يُقال عنها مَــيّـــتــة.. يــا إلهــي! صَدحَ صوتٌ في ذاته.. مُحمّد.. هي ستموت في يومٍ ما.. وأنت ستموت أَيضًا.. لا مناص من ذلك.. لكن أَيُعْقل.. أَيُعْقَل أن يَموت أَحدكما دون أَن يَحتفظ الآخر بأنفاسه المُوَدِّعة بين جَنبات رُوحه؟ أَيُعْقَل!




يتبع

 
 

 

عرض البوم صور simpleness   رد مع اقتباس
قديم 03-02-20, 02:08 PM   المشاركة رقم: 1314
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Aug 2015
العضوية: 300973
المشاركات: 633
الجنس أنثى
معدل التقييم: simpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 475

االدولة
البلدBahrain
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
simpleness غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : simpleness المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي

 



انتظرَ قُدوم الليْل.. لا يَدري لماذا.. ولكنّهُ فَضّل أن يَمتطي سِرْج الظّلام ليَجيء إليها.. أو إليه.. فهو لا يَعتقد أنّ أُوار الغَضَب المُشْتَعِلة داخلها سَتسمح لها بمُقابلة بَحْره. دَقّ الجَرس واسْتَقبلهُ ناصِر بصمت.. تَبِعهُ للداخل.. للأعلى.. وأخيرًا لِغُرفتها.. وأَمام الباب تَركهُ وَحيدًا.. كَوِحْدة الأمواج وَهي تَلتقي مع رِمال الشاطئ. ازْدَرَدَ ريقه.. فاكتَشَفَ حينها أَنّ ريقه جاف.. فَغُدده اللعابية قَد تنازلت عن مُهمّتها بعد أن أَصْبَحَ المَوْت أَكثر قُرْبًا. جَرّبَ أن يَتنهد.. حمدًا لله.. لا زال يَمْلك بضع ذرات هواء.. يَتَذَكّر أَنّهُ ظَفَرَ بها من بين يَدي أَيّام سَعيدة.. أَيّام نادِرة. طَرَقَ الباب لمرّة واحدة لَم يَتبعها بثانية. أمسكَ بالمقبض.. أَخفضهُ.. ومن ثُمَّ شَرَعَ الباب. دارت عَيْناه على الغُرفة.. الفارغة.. الفارغة منها. أَغلقَ الباب ثُمّ تَقَدّمَ بخطواتٍ مُتَرَيّثة.. فَقَد يُصادفها.. وهذا ما لا يُريده.. ويَعي أَنّها لا تُريده أَيْضًا. انتبه لباب غُرفة الملابس المُوْصَد.. وانتبه لابنه.. لصغيره.. طِفله وثَمَرة فؤاده.. كان مُرْتاحًا وَسَط سَريره الطفولي المُلتصق بسريرها. مَشى إليه على وَقعِ نَبَضاته.. بخطواتٍ بَطيئة تُناقض خطوات قَلْبه الحَثيثة. اسْتَقَرّ جَسده عند السَرير ولَم تَسْتقر أَنفاسه.. فَهي تَصادمت بشعواءٍ وارْتباك.. الْتَبَست عليه الأزمنة.. أَفي عَرصات الحاضر هُو يَختنق؟ أم بَين سفوح الماضي العَطِرة بأنفاسها الأولى يُحَلّق؟ هي.. هي.. والله هــي! مَدّ يَديه المُكَبَّلتين بالرّجفة.. باليُمنى مَسَّ رَأسه فأَحدثَ التّماس زِلْزالٌ في عَيْنهِ؛ سَقطت على إثْره دَمْعة تَشَرّبها شَيْبُ لِحيته.. وباليُسرى مَسَّ جَسده.. فَفاضت من صَدرهِ شَهْقة لَم تَكُن سِوى صَرْخة أَصدرتها رُوحه في خَضم صِراعها مَعَ الحَياة. آآآه... آه.. تَرَدّد سؤال في جَوْفه: السعادة على مَقَربة مِنّا.. قابَ قَوسَيْنِ من أَرْواحنا أَو أَدنى.. فَلِمَ تَفلت من بين أَيادينا؟ أَنا.. هُنا.. وفي هذه اللحظة.. أنا طَلال.. أَعترف بأنّ السعادة لها أَشكالٌ عَديدة.. أَشكالٌ يَرْسمها الإنسانُ بتجاربه.. بمِحنهِ وأَحزانه.. أَشكالًا ما هي إلا أَضدادًا لعذاباته.. وأنا.. هذا هُو شَكل سعادتي؛ أُسْرة.. أُسْرة أَساسها نُور ومنها تَتَفَرّع أَشكال سعادتي الثانية.. وهذا الطفل الصّغير.. فِرْعها الأوّل. كان فاتِحًا عَيْنيه.. أَهدابه الطويلة تَرْمش بخفّة، وكأنّهُ يُغنّي بها لنفسه تهويدة ما قَبل النوّم. أحاطه بذراعيه ورَفعه إليه.. قَرّبَ وَجهه من وجهه الدائري.. تَأمّله بابْتسامة تَطَوّرت إلى ضِحْكة مَبْحوحة ناقَضتها دُموع لَم يعرف سَببها.. أَلِفَرح وَلدتها عيناه أم لِكَمد. هَمَسَ إليه بصوتٍ مَسْموع.. صَوْتٌ أَجْبَر تلك المُخْتَبِئة أن تخنق بيديها شهقاتها: يُبـــ ـه.. يُبـه ناصِر.. شلونك حَبيبي؟ "واصَلَ كما لَو أَنّ هذا الكائن يَفهمه" أدري إنّك بخير.. مدامك بين أحضان نُور فإنت بخير "بِصدق والأَلمُ يُسْبِغ كلماته" آسـف يُبه ما ييتك بعد ولادتك مباشرة.. آسف لأني اتأخرت في تسميتك.. وآسف لأنّي ما أذّنت في إذنك "ابْتَسَمَ بشحوب" لكن جدّك ما قَصّر معاك.. ناصر العود ما قَصّر
أَخفضَ رَأسه ليُعيد الأذان. نَظَرَ إليه بَعدَ أن انتهى قائِلًا: أدري متأخرة.. بس مابي أخليها في خاطري.. ولا في خاطرك.
جَلَسَ على سَريرها والطفل لا زال بين أَحضانه.. يَرسم ملامحه في عَقله.. ويَنحته على جدران قَلْبه.. ويَحيكها بخيوطٍ من شَمس جِلْبابًا من نُور لتتزيّن به رُوحه. الشَّبه الذي يَجمعهُ بوالدته كَبير جدًا.. وكأنّ نُور نَذَرَت ملامحها الماضية إليه.. فوَجهه هذا أَعاده تسعة وعشرون عامًا إلى الوَراء. نَطَقَ بأسَى واسْتسلام ذاته كانَ جَليًّا بين كلماته: أَتمنى إن داخلك بعد يكون شَبيه لداخلها.. رُوحك وقلبك نسخة من روحها وقلبها "هَزّ رأسه يَنهاه" لا تاخذ من أبوك شي.. لا تاخذ من ظلام طَلال شي.. كُون نُور بويهك وبقلبك وروحك "مَسَحَ على شَعره والخَيْبة تغزو عَيْنيه على هَيْأة فَيْضانٍ مالح.. وبحشرجة أَفرت قَلْبَ تِلك المُعْرِضة" سامحني يُبه.. سامحني يا ولدي لأنّي حرمتك من الحياة الطبيعية من قبل لا تنولد
وكأَنّ الطِفل فَهمه واسْتوعَب كَلماته.. فَقد ارْتفعت من حَنجرته صَرخة بُكاء ارْتَبَكَ منها طَلال.. التَفَتَ لباب غرفة الملابس الذي فُتِحِ بقوّة وخَرجت منهُ نُور مُندَفِعة إلى ابْنها. أخذتهُ منهُ وهي تُصْغي لنبرة بُكائه وتَتفَحّص مَلامحه.. وفي ثواني تَرجمت حالته هذه.. فهو ببساطة جائع. جَلَست على الجهة الأخرى من السّرير وهي تهمس لهُ برِقّة بالصّبر والهدوء.. فهي سَتطعمهُ حالًا.. تحتاج فقط أن تفعل شيئًا واحِدًا.. وبحدّة تلاءَمت مع احتقان وَجْهها أَمرت ذاك المشدوه دون أن تَرْفع طَرْفها: اطْـلع برّا
بتوَسّل وجَسده يَستدير ليُقابلها: خليــني.. أرجوش نور خليــني
نَظَرت لهُ باستنكار وبملامح مُتَغَضّنة بها شيء من اشْمئزاز.. وهُو قابلَها بنظرات الطّفل المسجون داخله.. تلك النظرات التي تهوي لها مَشاعرها بانقياد.. لذلك أَشاحت عنه وهي تلتقط غطاء الطفل الخفيف.. سَترت بهِ نفسها حتى تستطيع إرضاعه براحة. أَسْنَدت ظَهْرها وبَصرها يُواجه الأمام.. تَشْعر بنظراته القادمة من على يسارها.. تَشْعر بها وهي تَخترق جَسدها لِتَطّلع على رُوحها. بالطّبعِ هي مَفضوحة أَمامه.. يَعلم جَيّدًا بأَنّها تُعاني في كُل ليلة حتى تنام.. ليس من إزعاج هذا الصغير.. ولكن لأنّها تفتقد للدفء الذي اعتادَ أن يَتركه بين زوايا جَسدها.. كما أَنّها تَفْتقد لنبضة الشّوق التي يُشْعلها كَشَمعة كُلّما أرادَ مُغادرتها.. والأَعظم من ذلك.. هي.. بكُل وجودها.. تَفْتقد إليه هُو.. بكُل وجوده. فالانفصال المادي الذي قُدِّرَ لهما يُعادله ورُبّما يَفوقه انفصالهما الرّوحي. وكأنّهما غَريبَيْن.. لا يَجمعهما سوى هذا الطِفل المسكين.. وهذا الشعور مُقيت؛ أن يُصْبِح جُزء منك غَريبًا عَليك كَطَرَفٍ اصطناعي يُشْغِل فَراغَ ما بُتِر. أَدارت رَأسها إليه فباغتَتها رَعشة.. ليس بسبب قوافل عَينيه.. لا.. فَالقوافل لَم تَكن تَحُج إليها.. كان حَجّها لابْنه.. وإنّما بسببِ عَينيه ذاتهما.. بسبب البؤس الذي يَسْبح وَسطهما. لا تُبالغ إذا قالت أَنّها رَأت نِهايته تَسْترق النّظر خَلْفَ أهدابه.. فاخضرار العَدستين غالتهُ النّار حتى تَرَمّدَ تَمامًا.. وغشاوة الدّمع التي تُشاغبهما كانت تُشْبِه بطريقةٍ ما الأكفان وهي تَلتف حَوْلَ الأجساد. كانت وبسبب انشداهها في الذي تَحكيه مُقلتيه تَتنفس بصوتٍ مَسْموعٍ ومُلْفِت.. حتى أَنّه حَرّكَ بَصره إليها. ارْتَعَدت بفَزَعٍ مَكتوم فأخفضت رأسها تُشْغل نفسها في طفلها الذي أنهى رَضعته. مَسَحت فَمه ثُمّ رَفعتهُ لتحملهُ على كَتفها.. وبيدها تَمسح على ظَهره. هُو هَمَسَ بتردد: أبوش قال لي.. إن خبّرش.. شنو صار بالضبط.. قبل "أَرْسَلت إليه إحدى سهامها اللاسعة ليَصْمت إلا أَنّهُ أكمَلَ بسؤال" هل مُمكن تسامحيني؟
رَدّت باقتضاب بهِ شيءٌ من الرّجفة: ما تغيّر شي بعد اللي قاله أبوي.. يظل اللي سويته حرام وخيانة لله ولعبد الله ولي.. فيعني الجواب واضح
هَزّ رأسه بتفهّم وهو يبتسم بإحباط ويُرْخي طَرْفه.. قَبْلَ أن يرفعه ليقول بطلب وعينه على الطفل: ما عليه أبوس ناصر؟
تَطَلّعت إليه والعَطْف يُحاول هَتْكَ حصون الغَضَب المُسيطرة عليها.. لحظات وسَلّمتهُ الصغير.. تناولهُ منها وهو يَبتسم ابتسامة تتعرّف عليها للتو.. ابتسامة يبدو أَنّها خاصة بابنه. قَبّلَ رَأسه.. ثُمّ قَبّلَ خَدّيه.. وأخيرًا قَبّلَ عُنُقه وهو يَسْتنشق رائحته المعجونة بالبراءة وبرائحة أمومتها. هَمَسَ لهُ ومن عَيْنيه أخذت تنعى الوَصايا: اذكرني بالخير يُبه "قُبْلة أخيرة.. قُبْلة استنشقت فيها رائحة الوداع تَركها على جَبينه ثُمّ قال" مع السلامة يا ولدي
أَعادهُ إليها وهي تُحاول أن تُسَيْطر على الانهيار الذي أخذ يُهَدّم قِلاع غَضبها.. وَقفَ دون أَن يُزيح بَصره عنها.. لوهلة شَعرت بأنّهُ يَحضنها ويُقَبّلها بعينيه.. كما أَنّهُ كان يُودّعها.. وَداع المَيّت لأحبابه. تَجَمّدت دمائها واختنقت أنفاسها بين أضلاعها عندما هَمَسَ بنبرة راجية: سامحيني نُور
تَراجعَ للخَلف.. قَلّصَ القُرب وضاعفَ المسافات.. فَتحَ الباب.. ثُمّ رَفعَ يدهُ مُلَوِّحًا بوَداعٍ أخير كانت خاتمته ابتسامته الخاصة بها: مع السلامة حَبيبتي



دَلفَ للمركز بخُطى ثابِتة.. صارمة.. تَضِج منها قوّة تَهْتز منها الأرْض المَسيكة من تَحته.. دَلفَ وعَيْناه تَبْرقان بثقة تُدَمِّر عَدوّه.. ثِقة بَصيرة يُسْتحال أن تَعميه. رَفَعَ حاجِبه بإهمال ويداه تُحشران في جَيْبي معطفه الأسود عندما أشارَ إليه بغضبٍ يَكاد يَنفجر منه: هــذا.. هــذا كان معاه.. وصفهم لي البوّاب
قالَ ببرود وهي يَتَّكئ على المكتب من خلفه: آسفيــن أخ رائد.. دخلنا شقتك وفتشنا
التفت رائد للضابط بعينين متّسعتين: يعــترف.. بكل وقاحة يعترف إنّه دخل وفتّش.. وإنـــت ساكت
سَألَ الضابط عَزيز باقتضاب وبحاجبين معقودين: صحيح إنّك إنت ورائد الأسبوع اللي راح فتشتون شقته بغيابه من غير أي أمر رسمي؟
أجاب رائد بهدوء: قلت لك من قبل اي
بحدّة: أنا أسأل عزيز
رَدَّ عزيز ببروده المُستفز وهُو يُخرج سيجارة ويُشعلها: اي صَحيح
علا صَوْته يَزجره: إنت تعرف إن هذا خطأ تتعاقب عليه
نَفَثَ الدُّخان ثُمَّ رَفَع كَتفيه يُمَثِّل قلّة الحيلة وهُو يُقنّع وجهه بالبراءة: والله إذا اللي المفروض يتصرفون ماخذين وضعية لا أسمع لا أرى لا أتكلم.. فاحنا مضطرين إننا نتصرف بروحنا
استنكرَ رائد: وأنــا شمسوي عشان حضرتك ورائد تفتشون شقتي؟
رَفعَ رائد وَرقة من على المكتب.. وبنظرة كالسهم: قتلت عَمّار.. في شقتك قتلت عَمّار قَبل سنتين
صَرخَ: جــذاب.. إنت من قبل تكرهني يالــ... واللحين تبي تتهمني بشي ما سويته
ضَحكَ عزيز وهو يَرْفع رأسه والدّخان يرْتفع من فمه.. تساءَل باسْتخفاف وهُو يَميل في وقوفه: زين إنت اللحين ليش مشتط وتصرخ وحالتك حالة! المفروض مدام إنك واثق ببراءتك لازم تكون هادئ
أنفاسه تتسابق إلى خارج صَدره لتتخبّط في المكان.. حاولَ أن يُسَيْطر على غضبه وهو يقول برجفة ووجهٌ لَسعهُ الخوف القرمزي: اي.. أنا بريء.. واتهامكم باطل
أشارَ رائد بإصبعه للورقة: دم عمّار كان على عجلة طاولة تلفزيونك.. حتى هالتحليل باطل؟!
مَدَّ الضابط يده: عطني أشوف
ناوله إياها وأخذَ يَقرأها لثواني قَبْلَ أن يَرْفع بَصره لرائد ويقول بهدوء: لازم ناخذك للتحقيق
استنكَرَ بردّة فعله المُتوترة: شنــو تحقيــق.. هذا كله جذب.. جـــذب.. إنت ما تفهــــم!
قال عزيز وهُو ينظر لعِقب السيجارة ويده تُطفئه في المنفضة: مع إن ما له داعي.. لأن التهمة لابسته وعندنا شاهد على تخطيطه لها.. بس ما عليه "نَظَر للضابط مُرْدِفًا بابْتسامة جانِبية دَقَّت ناقوس تَوَجّسه" بنمشي معاك خطوة خطوة وبنشوف لوين توصل
تَطَلَّعَ إليه لثواني بملامح مُتَغَضِّنة.. قَبْلَ أن يُنادي أحد الشرطة ليَسير معه برائد الذي كان يشتم ويصرخ للحَبس. تساءلَ رائد بعد أن خلى المكتب إلا منهما: إنت بتكون معاه في التحقيق؟
رَفَعَ حاجبيه: طبعًا.. ما أثق في ولا واحد اهني غيرك.. فأكيد مدام هو بيستلمه أنا بكون معاه مثل ما سمعت.. خطوة خطوة.. وإنت اهتم بموضوع فاتن
زَفَرَ بقلقه المُتشعّب في ذاته: الله يستر.. واجد متشائم من هالخطة.. حاس بيصير شي
قالَ عزيز مُحاولًا أن يُهَوِّن عليه: لا تفكر جذي.. تفاءَل.. وبيكون معاك فريق موثوق فيه محاوطين الفيلا اللي هُو فيها وأنا إذا قدرت بكون معاهم أكيد.. وفاتن كل اللي عليها إنها تسلمه اللي يبيه.. وفي الوقت المناسب تدخلون تقبضون عليه
ضحكَ بتوتر وهو يَمسح جانب وجهه: يا ليــت الموضوع بكل هالبساطة
بثقة: راح يعدّي ببساطة.. صدقنــي
رَفعَ كتفيه بخواء حيلة: يــا رب



تَتَغَلغل إلى نَفسها الكآبة وهي مَعجونةٌ بالحُزن كُلَّما وَقَعت عَيْناها عَليه. هي لا تنكر.. بَعدَ آخر حَديثٍ بينهما، وبعدما أَلقت عليه ذلك التهديد المُرْتَجِف؛ تَحَسَّن حاله.. ليس بصورةٍ كَبيرة.. ولكن مُقارنةً بالأسابيع الماضية فَقد كان أَفضل. فهو أَلغى تعاقده الدَّائم مع غُرفة النّوم.. أَصْبَح يَجلس في غرفة المَعيشة، كَما أنَّهُ نَزلَ عدّة مرات لغرفة نُور من أجل رؤيتها ورؤية الطِّفل. وها هُو في هذه الأثناء يقضي وقته مع ابنته المُكِبّة على جهازها اللوحي للإجابة على أسئلة اللعبة التعليمية التي كانت تستمتع بها. أما هي جِنان.. فكانت تُراقب الأَوضاع من مكانها.. داخل غُرفة الغَسيل.. حيثُ كانت تَكوي ملابس المدرسة الخاصة بِجنى. قَد شَرعت الباب بأكمله حتى يَتَسَنَّى لها استراق النظر بين الحين والآخر. صَحيح أَنَّ خروجه من الغرفة أَمْرٌ حَسَن.. إلا أَنَّهُ لَم يَتَحَرَّر من السلبية المُحيطة بِه. لا زالَ خامِل.. بعقلٍ شارد.. وجَسد هَزيل.. ويَد تَكاد أن تحفر خَدّه من فَرْط اسْتنادها عَليه. ببساطة، كانت صُورته المَعنى المادي للاستسلام. انتقلَ بَصرها منه إلى ابنتها التي نادته: بابا.. بابا.. بابا فيصل؟
زَمَّت شَفتيها بِضَجر أَغبش عَيْنيها الواسعتين وهي تراه ساهِيًا عن ابنته.. لكن جَنى أَصَرَّت في ندائها؛ فهي اقتربت منها أكثر وبيدها الصَّغيرة أَخذت تهز كَتفه وتُناديه بنبرةٍ أعلى: بــابــا.. بابا حبيـــبي
رَمَشَ بانْتباه فالتَفَت لها بالتوالي مع انخفاض يده عن خَدِّه.. رَدَّ بلُطف: آسف بابا ما سمعتش.. شنو تبين؟
أَشارت للشاشة قائلةً بإحباط: تعبت.. ما عرفت شنو الجواب؟
قَرَأ السؤال بنصف عُقدة قَبْلَ أن يَبتسم بخفّة وهو يَقول: بابا جَنى السؤال كَبير عليش
حَرَّكت كَتفها: عادي "تساءلت" تعرف الجَواب؟
هَزَّ رَأسه: اي أعرفه
باهتمامٍ وفضول يُحب المَعرفة: شنـــوو؟
أَجاب: التفاضل والتكامل
كَرَّرت من خلفه: التفاضل والتكامل "استفسرت" شنو يعني؟
ضَحك: أوووه لو بشرح من اللحين لسنة ما بخلص "قَرَصَ خَدّها بمُشاكسة مُرْدِفًا" وبعدين إنتِ شتبين من هاللعبة؟ صعـبة
أَجابت بعفوية: أحــب الماث بابا.. ماي فايفوريت سابجِكت.. وهذي اللعبة "أشارت بإبهامها" بيــرفكت
رَفَعَ حاجِبَيه يَسألها إن كانت ستصبح عبقرية: سو يو وِل بي أ جينييس؟
رَفعت ذِقنها بثقة منقطعة النظير لتُجيب بنعم: شُور آي وِل
احْتَضَنها وبِشَفتيه طَبَعَ قُبْلة على جَبينها بَعْدَ أَيَّامٍ عِجاف، وبحُب مُتَأصِّل في ذاته: الله يحفظش يا بعد قلبي
الحِوار كان قَصير.. بَريء.. ورَقيقٌ جِدًا جِدًا.. رِقَّة كتلك التي تَحط بها قَطرات النَّدى على الوريقات العُطشى. وهي كانت عُطشى، افْتَقَدت لِنَبع حَنانه الأبوي الذي لا يَبْخل على رَي ابنته. تركت غرفة الغسيل وهي تحمل الملابس باتّجاه غرفة طفلتها في الوَقت الذي ارْتَفَع في رَنين هاتفه.. عَلَّقتهم هُناك ثُمَّ خَرجت إليهما ليَقطع خطواتها الاسْم الذي هَتَفَ به فيْصل بلهفة: ياسْميـــن!
تَجَمَّدَت قَدماها على الأَرْض.. وبسرعة خَيالية حَملت الدماء الجليد إلى قَلْبها الذي انكمشَ على نفسهِ بخوف.. نعم بخوف.. فهي تَخشى مما تُحيكه تلك الفَتاة.. لا تدري ما هي خطتها التالية.. لا تدري هل أجدى حديثها المَشحون معها أم لا.. ولا تدري أَمن أجل الفِراق هي اتصلت أم من أجل لِقاء يُفني ما تبقّى منها؟
ازْدَرَدت ريقها وهي تعصر إصْبَعي يُسْراها بيمناها المُرتجفة.. تَحَرَّكت ببطء ناحيتهما لتجلس بالقرب من ابنتها تُخفي ارتباكها وجُل حواسها مُنصتة إليه..: اي اي.. أكيد ياسمين "صَمت لثواني ثُمَّ قال وقدماه تقودانه لغرفة النوم" مسافة الطريق بس وأنا عندش
دَلف للغرفة لخمس دقائق ثُمَّ خَرَجَ على عجل بعدَ أن أَبدل ملابسه.. ودون أن يُلْقي عليهما نَظْرة واحدة تابَعَ طريقه للباب وغادَرَ الشِّقة. هُنا التَفتَت جَنى لوالدتها مُتسائِلة بزَعل قَوَّسَ شَفَتيها: ماما بابا ما راح يرجع؟
لَم تُجِبها.. انهارَ كُل ما في جَوْفها ما خلا الغَصَّات التي قَيَّدتها قِسْرًا. ازْدَرَدت ريقها وهي تُخفي وَجعها.. ويَداها باستنجاد قَصدتا يَد طِفلتها الصغيرة.. وبصمتٍ تام احتضنتها؛ لتَسْتَمِد منها قوّة تُعينها على استقبال "الحَل" الذي يَعتمد عليه بُنيان حَياتهم.

،

تَقَلُّبات جَسدها على السَّرير تُشبه تلك التي تَحْتكر جَسَد الإنسان المُصاب بجُروح قاتِلة. حتى عَضلاتها وعِظامها آلمتها وهي تَتَقَلقل هكذا بتوتر.. لكن لا حيلة لها.. فالساعة قَد تجاوزت الثانية صَباحًا وهُو غادرَ مُنذ الثامنة مَساءً. ستّ ساعات.. سـتّ ســاعــات! زَفَرَت بحرارة وبأصابعها ضَغطت على جبينها ومُقدّمة رَأسها.. يا الله.. سينفجر هذا الرأس من هذه الأفكار التي تَطرقه بلا هوادة.. احتمالاتٍ كَثيرة.. هواجس تُثير في نفسها رَغبة الغثيان.. الغثيان من شِدّة الرُّعب.. كُلَّما ضَجَّت فكرة جَديدة.. ارْتَطَمَ قَلْبها بأضلاعها ثُمَّ انقَبض.. وكأَنَّهُ يُعَبِّر عن مَدى خوفه واضطرابه. سَتُجَنين جِنان.. سَتُجنيــن حتمًا إذا لَم تـ... تَصَلّبت حَركتها وفي لحظات أَغمضت عَينيها مُدَّعية النَّوم ونَبضاتها تكاد أن تفر من بين حجراتها من سرعتها.. فهو دَخلَ إلى الغرفة ورائحة عطره انتشرت في المَكان بتسَلّط استولى على أنفاسها. نَظَرت لهُ من خلف الغطاء المُمتد حتى أعلى أَنفها.. كان قَد دخل لغرفة الملابس.. سَيستحم طبعًا. وفعلًا هو خَرجَ بعد عشر دقائق بملابس النّوم وشعره المُبَلّل. لَم تستطع وهي في مكانها وبعينيها النصف مغلقتين وتحت هذه الإضاءة الصفراء الخافتة جدًا؛ أن تَسْتشف من ملامحه مَشاعره. كانت تنتظر أن يقترب من السرير.. لكنّهُ تَوَجّه للقِبلة وكَبَّرَ مُصَلِّيًا.. وطالت صلاته.. وطالَ سجوده.. وعندما تَوَقَّفَ مؤشِّر الساعة عند الثالثة صَباحًا.. كان هُو يَطوي السّجادة قَبلَ أن يَقصد السَّرير. أَغمضت سَريعًا وهي مُتأكِّدة بأن صوت نَبضاتها مَسْموعًا له، وأَنَّ أهدابها المَجنونة سَتفضحها وهي تشعر به يقترب منها.. أَنفاسه تَصطدم بوجهها بل وتستقر بين طَيّاته.. أَخفضَ رَأسه مُرخِيًّا جَبينه على خَدِّها.. ازْدَرَدت ريقها الذي تَحَوَّر إلى سَكانين وصَوت تَنهيدته يَخترق رُوحها.. يا الله.. مــا هــذا! ظَلَّ على هذه الوضعية لنصف دَقيقة قَبْلَ أن يبتعد ليستلقي في مكانه. فَتحت عَيْنيها المَسْكونَتين بالدّمع.. تَخَبَّطَت عَدستاها على ظَهره.. تَخَبُّطًا مَفزوعًا حائِرًا.. فماذا تعني هذه التنهيدة؟ وماذا يُقابلها من كَلمات؟!



البَحر صَديقهُ.. كانَ صَديقه.. لا يَعلم إذا البَحر لا يزال صَديقه.. أو بالأحرى.. هُو غير واثق من ذلك. فالجَميع تَخَلَّى عنه.. كُل الذين وَثِقَ بهم خانوه في فترةٍ من الزَّمن.. سواء باسْتسلامهم للموت.. أو بتعذيبهم القاسي له.. أو بِكَذِبهم.. أو بِصَدّهم وعدم غفرانهم.. أو وأو.. تَعَدَّدَت الأَسباب والنتيجة واحدة.. طلال وَحيد إلى الأَبد. اسْتَنكَرَ سؤال في جَوْفه: ورائد يا طلال؟ وفاتن مؤخرًا؟ هُما معك. رَدَّت ذاته المُصَابة بعشرات الطلقات المُنبثقة من أَسْلِحةٍ صَديقة يُفترض أَنَّها لا تخون: وما الضمان لبقائهم إلى الأَبد؟ هُما الآن معك.. لكن بعد سنوات عندما سَتنظر إلى يمينك ويُسراك.. هَل سَتَجِدهما هُناك؟ أَم أَنَّك لَن تُبصر غَير أَطلالهما تُلَوِّحُ من خلف ظهورهم المُنصرفة؟ زَمَّ شَفَتيه وهُو يسدل جِفنيه بإرهاقٍ من نَفسه قَبْلَ أن يكون ممن هُم حَوْله.. إرْهاق كان يَتَبَجَّح أَسْفَل عَينيه وبين طَيَّات ملامحه.. حتى أَنَّهُ شَعَرَ بِثقله يُكَبِّل مفاصله. ولكنَّهُ تَجاهل الأَمر.. كما تَجاهلَ أَنَّهُ لَم يَأكل مُنذ أَيَّام طَويلة.. لا يتذكر منذ متى لَم يَعبر فَمه غير بضع قطرات ماء. بالمُناسبة.. ها هي قَطرات أُخرى تَعبر أَبواب السَّماء.. بعنفوانٍ مُحَبَّب كانت تَتساقط على الأَرْض وكأنَّها تُوقظها من سُباتها.. لتُخبرها بأنَّ الجَفاف وَلَّى.. والسُّقيا ها هي هُنا.. تَهديكِ مَطَرًا لتَمنحي الحَياة والإنسان شَجرًا وزَهرًا ونَهرًا. وأنتَ طَلال.. متى سَيَحينُ مَوسم ارْتوائك؟ متى سَتُطلِق سَراحك السّنين العِجاف.. مَتى؟ زَفَرَ حرارة جَوْفه عندما أَرْكَن مَركبته على مَقربة من البَحر. أَوْقَفَ المُحَرِّك ثُمَّ نَزلَ منها باتّجاه قاربه. كان يَفك وثاقه عندما وَصله من يَمينه سؤال مُسْتَنكِر طَغت عليه جَلْجَلة المَطر: بتدخل البحر؟!
اسْتدار إليه وهو مُنحنٍ يُباشر عمله.. كان شابًا معه أربعة شبان آخرون يبدون أصغر سنًّا منه.. أَجابَ بهدوء: اي "أشارَ لقاربه" حَيّاكم
ضَحكَ الشاب وهُو يَقول بنبرته التي تُحاول أن تعلو فَوْق صَوتِ المطر: لا لا.. أصلًا كنا جايين بندخل نحدق بس غيَّرنا راينا من المطر.. من جذي استغربت إنّك تبي تدخل في هالجو
ابتسَمَ بخفّة: لا عادي.. متعوّد
قالَ شابٌ آخر: بس خطير.. الرياح واجد قوية وطرادك صغير
وهُو يَدفع القارب للبحر: لا تحاتي أخوي.. داخل البحر جم مرة في جو أَخس من هالجو
هَزَّ رَأسه الأوَّل: على راحتك.. رحلة مُوفَّقة
رَفَعَ يَده وبابْتسامة رَدَّ: مشكوريــن.. أشوفكم إن شاء الله
التَفَتَ لرفقائه عندما وَلَجَ طَلال للبحر والقارب يَسْري بهِ بسرعة شاقًّا المَوْج، قالَ وهو الذي حَذَّره: هذا مجنـووون.. شلون يَدخل في هالجو.. ما يشوف شلون الهوا!
أَضافَ أحدهم وهُو يُضَيِّق عَيْنيه مُحاولًا أن يَرى من بين الزَّخات المُتطايرة بعشوائية من فِعل الرّياح الهائجة: طَرَّاده صَغير.. مُستحيل يقدر يتحمل هالجو.. مطر وريح وبحر! هذا خل يحمد ربه إذا طلع منها عايش
تَبادَل الشَّباب الخَمسة النَّظرات والتَّوجّس يَتَقَلقل بينهم.. فالنَّاظرُ لهذا المَشْهد سَيعلم يَقينًا أَنَّ الخارج منهُ ليس إلا مَنكوبًا.
تَقَدَّمَ آخر إلى جهة سيارتهم قائِلًا: هو قال إنّه متعوّد وداخل البحر بأجواء أخطر.. هو أدرى بنفسه.. فخلونا نمشي لأن تسبحنا تسبّح
تَبعوه البقِيّة وآخرهم مَشى بَعدَ أن أَلقى نَظْرة أخيرة على خَيال طَلال "القُبطان" وقاربه الصَّغير.. ذلك القُبطان الذي فَقدَ مَوْطنه لِثلاث مَرَّات.. مَرَّة عند تُراب قَبْر والدته الرَّطب.. مَرَّة على مَقصلة الإعدام الذي شَنقهُ فَوْقها ناصر بحبل كَذِبه.. ومَرَّة تَحت أَهداب النُّور التي كَسفت شَمسها لِتُطَلِّقهُ ثَلاثًا بظلامِ هَجْرها. القارب يَحمله والبَحرُ يَحضنه، برحابة وَوداعة.. لطالما كان البَحرُ مَهْده.. وكَم سَتكون قِصّته شاعرِية إذ أَصْبَح لَحْده أَيضًا. ابْتَسَمَ وهُو يَقِف على الطَّرف الأمامي.. الأَمواج تَتقدمه خُيولًا تَشد عَزْمها للأَمام وكأنَّها في سِباق.. وعلى جانبيه هي أَجنحة تُحَلِّق برُوحه بين السَّماء والأَرْض. أَغَمَضَ مُوَلِّيًا وَجْهه شَطْرَ السَّماء.. ابتسامته اتَّسعت وغَدير السُّحب يَتناثر على وَجْهه بَكرم.. يُقَبِّلهُ أَوَّلًا.. ثُمَّ يُزيح عن مَلامحه أَسْقامَ ذاته.. وأَخيرًا يَنفذ لدواخله.. يُغَسِّلها ويُطَهِّرها من كُل ما هُو آسن. ماءٌ ثَجَّاج يَرْتطم بوجهه وجَسده.. باردٌ وعَذب وبهِ نعومة يُخَيَّل إليك أَنَّها ترتق صدوع قلبك. عُباب المَوْج يُحاوطه من كُل جانب وكأنَّهُ سَيِّد البَحر.. من أَجل ذلك هُو عَشِق البَحر.. لأَنَّهُ لا يُساومه بخيالاته ولا يحرمه من أحلامه.. ولأنَّه يَمنحه كُل الذي نُهِبَ منه.. يَمنحهُ الشُّعور الطَّيْب.. ذاك الذي يُشْبِه الرَّاحة التي تَملأ الصَّدر بَعدَ الشَّكوى. هُو مَدينٌ للبَحر.. مَدينٌ لِصَبرهِ عَليه ولعدم إعراضه عَنه. طَلال لا زال يُحادث السَّماء بذراعيه المَنشورتين.. ويَشكر البَحر بنبضاته المُتَوهِّجة.. لَم يَكن واعِيًا ورُوحه ما بين السَّماء والبَحْر؛ أَنَّ القارب أَصْبَح يَتمايل بشكلٍ أخطر من السّابق.. وأَنَّ الأمواج التي تَصفعها الرَّياح قَد أَغرقت نصفه.. لَم يَكُن مُنْتَبِهًا وهُو يَنسلخ عن الحَياة أنَّ وُقوفه المُتطرف لَم يَكُن سوى وُقوفٌ على حافة الهاوية.. وأَنَّ اللحْد الذي أَغراه لنهايته الشاعرية ها هُو يَفتح باعه إليه.. هُو بجسده الهَزيل المُخاصم الطّعام.. وبروحه الحائِرة بين البقاءِ والانسحاب.. وبذاته المأهولة بالطَّعنات.. سَقطَ في البَحر.. هَوى وَهوى معهُ انتشائه فأفاق عَقله.. في الأسابيع الماضية كان يَتمنى المَوت.. يَسْتجدي منهُ قدومًا في كوابيسه.. بل ويَنتظره بين اللحظةِ وأختها.. والآن.. الآن والمَوْتُ يُحاربه.. بقبضته الكَبيرة وَفَمه المَجبول على الابتلاع؛ اسْتوعَب أَنَّهُ لا يُريد المَوْت.. هُو يَهاب المَوْت.. هُو غير مُستعد للمَوْت.. فَأخذَ يُصارعه.. بقواه الوَاهنة حاولَ أن يَسْبح.. يُحَرّك ذراعيه وساقيه بثِقل.. يُريد أن ينجو.. يَحــتاج أن يَنجو.. فللتو أَصْبَحَ أَبًا.. ورُبَّما تُسامحه نُور.. لا يعتقد أَنَّها تستطيع أن تُفارقه أَبَد الدَّهر.. قَد تَتَجَمَّل حياته إذ هُو صَبر قَليلًا.. قَليلًا فَقط.. لكن.. كُل هذه الأَحاديث انتهى وَقتها.. ها هي قُدرته تَضعف.. تنهار.. أطرافه لَم تُعِنه على السباحة.. وصَدره قَد اجْترع الكثير من الماء.. والبَحر كعادته يُحَقِّق أحلامه. أَغمضَ عَيْنيه.. أَسْبَلَ يَديه ورجليه.. ارْتَخى جَسده.. وتَلَقَّفَهُ الماء برويَّةٍ وَحنان.. وها هُو البَحر يَسْتوي إليه قَبْرًا.



أَرْخت ذراعيها حَوْلَ رَأسها وهي تَسْتَرخي في اسْتلقائِها بَعدَ أَن كَشفت بَطنها للطَبيبة. أَغْمَضَت والمَلْمَس البارد للمادة الهُلامية فوق جلدها جعلها تَرجُف بلا إرادة منها.. زَفَرَت بهدوء وهي مُنتبهة لارْتباكها هذا.. الرجفة والنبضات الحَثيثة والبرودة المُتَعَلِّقة بأطرافها. لا داعي لكُل ذلك مروة.. لا تُفسدين هذه اللحظات الخاصة والمُميزة بقباحة الواقع. فَتحت عَيْنيها عندما طُرِقَ الباب.. لَم تتحرّك ظَنًّا منها بأنَّها إحدى المُمرضات.. لكنَّ وَجهه الذي لاحَ لها أَجبرَها على جَذب جَسدها للأمام بمفاجأة. نَظَرت إليه بعينيها المُتَوَسّعتين وهُو يَبتسم للطبيبة التي قالت له: زيـــن لحقت دكتور
عَقَّبَ وهو يقترب من السرير: خلصت العملية ومُباشرة جيت
أَوْمأت له: يعطيك العافية
وجسده يقف باستقرار على يسارها: يعافيش دكتورة
أَشارت لمروة وبيدها الجهاز: دكتورة ارتاحي
رَمَشت لمرتين مُتتاليتين وهي تتطلع إليها ببلاهة قَبْلَ أن تعود لوضعية الاستلقاء.. ازْدَردت ريقها ووجوده غير المُتوقع وقُربه المُبالغ فيه يَتَلَقَّفها يُمنةً وشِمالا.. ما أدراه أَنَّها هُنا؟ هل أخبرته الطبيبة؟ أو أَنَّهُ بَحثَ بنفسه؟ أين بحثَ أصلًا!

: هذا هو جنينكم

التَفَتَت للطبيبة بانتباه.. كانت تُشير بإصْبعها للتصوير الواضح في الشاشة، لذلك وَجَّهت نَظرها للشاشة.. لتستقبل وللمرة الأولى صُورة طِفلها.. نعم طِفْلها.. ها هُو.. واضِحٌ جِدًا من بين غَياهب رَحْمها ودِفئه.. مُسْتريح وآمِن هُناك.. طاهِرٌ وأَبيض.. لَم تُدَنَّس رُوحه بكُرهٍ أو انتقام. تَرَقْرَقت دَمْعة في عَيْنها أَحياها الشعور الذي غَمرَ دواخلها وأحاطها بسِعة.. زُهور تَفَتَّحت من بين الخَريف الشائب، وقناديل أضاءت العُتمة المُوحِشة، وأنهارٌ عَذْبة أَخذت تُنعِش ما مات وقُتِل وانتحر. أَدارت رَأسها لزوجها.. مُتَشَوِّقة لرؤية مشاعره على صَفحة وجهه.. تُريد أن تعرف.. هل قَلْبه يَرقص وَسط صَدره مثلما يَفعل قَلْبُها الطَّيْر؟ تَصادمت أنفاسها بزَهوٍ ودهْشة مما رَأته بين عينيه وعلى وَجهه.. تلك النَّظرة.. نَظرة الحِرْمان التي التقى فيها العَطش بواحته؛ أّذابت قَلْبها بكامل حجراته.. آآآه كَم أنتَ رَقيقٌ وشَفَّاف عبد الله.. وأنا.. أنا بانتقامي الأعمى فَضضتُ رِقّتك الشفافة عنوة. ارتعشت شَفتاه بابْتسامة تُقاوم دَمعة الفَرح.. ها هُو جنينه.. طِفله المخلوق من ظهره.. ها هُو يَسْبح بين ظُلماتٍ ثَلاث.. أشهرٌ فَقَط وسَيتَّخذ من حضنه مخدَعًا له وبحرًا لا يخون.. أبدًا لا يخون. تبادلَ مع زوجته نظراتٍ مُتناقضة في معانيها اقتطعَ وِصالها صَوت الطبيبة التي بَدأت تَسْتفيض في الشرح والنُّصح. وأخيرًا ناولتهما نسخة من التصوير قَبْلَ أن تتركهما وتخرج في حين أن مروة أَشغلت نفسها في مسح بطنها وترتيب ملابسها. ناداها بصوتٍ أٌقرب للهمس: مروة
رَشَّحت صَوْتها ثُمَّ أجابت ببحّة دون أن ترفع بصرها: نعم؟
جَلَسَ على المقعد أمامها وقال: طالعيني
تَرَدَّدت وبانَ ذلك على ملامحها.. لكنّها في النهاية ناظرته لينعكس أمامه ضَياعًا توأمًا لضياعه.. نَطَقَ بتنهيدة مُرْهَقة: راح نسافر
عَقَدت حاجبيها بعدم فهم ويداها تتركان قميصها: شنو؟
بَلَّلَ شَفتيه قَبْلَ أن يُفَصِّل لها بهدوء: إنتِ أنهيتين الامتياز.. فراح نسافر أنا وإنتِ.. راح نسافر أمريكا.. عشان تاخذين سنوات الإقامة هناك وتمتحنين للبورد
رَمَشَت وهي تُحَرّك رَأسها وبيدها تُطالبه بالتمهّل في مُحاولة للاستيعاب: لحظة لحظة.. شنو بنسافر أمريكا! "رَفعت حاجبيها ووجهها الشاحب أَطَّرته عروق تستعد لحقن الدّماء وهي تسَألهُ باستنكار" عبد الله إنت مستوعب شنو قاعد تقول!
رَدَّ بذات هدوئه غير المُتلائم مع الخَبر الذي فَجّره: اي مستوعب مروة.. كلّمت جم صديق لي هناك ورتبت كل شي.. ومثل ما سمعتين من الدكتورة إن ما في ضرر من السفر.. تطمني كل أمورش بتمشي تمام
عَلت نبرة صوتها والرَّجفة عادت لتستحكم منها: عــبــد الله شنو تطمني! جاي لي من غير مقدمات تقول لي بنسافر أمريكا! فجأة جذي! واللحيـــن وأنا توني في أول شهور حملي!
هَزَّ رَأسه بخَيْبة عَظيمة من نفسه ومن أُمّه ومنها هي ومن كُل ما هُو حوله، ومن حر فؤاده هَمس: مروة ما أقدر أقعد اهني.. مـا أَقــدر.. أحس كل شي قاعد على صدري.. يخنقني.. يخنقنـــي.. والله حتى النَّفَس بالغصب أقدر أتنفسه "مَسَح جانب وَجهه المُتَهَدِّل وهو يُكمل بنبرة هَزَّت كيانها من جذوره" ضاقت عَلي الدّنيا مروة.. والله ضاقت عَلي "وَقَفَ ليستطرد بضحكة مكسورة.. مُحْبَطة" يوم خطبتش أمي ما وافقت.. وبعد اللي صار عرفت ليش.. حزّتها.. قلت لغيداء.. قلت لها.. يا مروة.. يا هجرة ما بعدها رجعة.. ما كنت أدري.. إنّش بتكونين لي.. وإنّش إنتِ مع أمي.. بتوجهوني غصب لطريق الهجرة
هَمَست بصوتٍ تلتهمه اللوعة: عَبـ ـد الله
رَفَعَ يَده أمام وجهها يُقاطعها وعيناه تغشاهما رَمادية مؤسِفة: أنا ما سامحتش.. لكن سامحت أمي.. ما أقدر إلا إنّي أسامحها.. لأنها أمّي.. ولأنها أمّي.. أنا ما أقدر أقعد اهني.. ما أقدر أشوفها.. أخاف أقسي عليها بنظرة ولا كلمة.. وإنتِ "خَبَت نَبرته وتَصَدّعت ملامحه بألم" إنتِ كنتِ لي خلاص "أشارَ لصدره.. لقلبه" انحفر وجودش اهني "أشارَ لعروق ذراعه مُضيفًا وهي تشهق بالبُكاء الصارخ بالنّدم" تمشين اهني.. واللحين ولدي يكبر داخلش.. عشان جذي.. راح تجين معاي.. بتهاجرين معاي.. عشان نبدا من جديد "أَكمل بحشرجة ووسط عينه لَمحت أطيافًا مُوَدِّعة" أنا فقدت نُور بغفلة مني.. ومُستحيل.. مُستحيــل اللحين أفقدش.. خلني.. خلني أتألم منش عندش.. أشتكيش عندش.. أعاتبش وأهاوشش وإنتِ زوجتي.. حَلالي.. بتحمل كل هذا.. بتحمله مدام نار البُعد ما تجويني "رَفَعَ حاجِبه وعدستاه تتخبّطان على وجهها مُتسائِلًا" شنــ ــو.. جوابش؟
تَطَلَّعت إليه لدقائق ثُمَّ تَركت السّرير.. مَشَت إليه على وقع تصافق أهدابه.. وهُناك على صَدره وَسَّدت رَأسها وذراعاها تُحيطانه بتَشَبّث الغارق المُستنجد.. ودموعها التي سالت مَنحت قَلْبه الجواب. وهُو.. هُو المُهَشَّمة أَحلامه.. المُنحني صَبره.. والمَثقوب فَرحه.. ما كان له إلا أن احتضنها.. كَجمرةٍ تكويه احتضنها.



قالت مَلاك أَنَّ الليلة هي الليلة المَنشودة.. هي التي سَتكون الخَطَّ النهائي الذي سَيَخسر عنده والدها.. هي التي سَتُغشي الباقي من حياته بسوادٍ لا أَواصر بينه وبين الضِّياء. الخطة بسيطة.. فاتن سَتسلّمه المواد المَمنوعة.. وهُو سَيستلمها منها مُقابل مبلغ من النقود.. وأثناء هذه المُبادلة المُخالفة للقانون.. ستفاجئهم الشرطة باقتحامها للفيلا وإلقاء القَبض عليه.. هكذا ببساطة.. ببساطة لا يُمكن أن تَعبر من أَمام حَدس والدها. من أَجل هذا أَصدرت قَرارها بينها وبين نَفسها.. لَم تُناقشه مع ذاتها.. قَفَزَ في عَقلها ومُباشرة وافقت عَليه. وها هي الآن تَتخذه.. فمركبتها قَد تَوَقَّفت أَمام الفيلا التي سَكنوا فيها لفترة من الزَّمن.. كانت مزرعة أكثر من أن تكون مَنزل.. كما أَنَّها كانت مَعْزولة عن الشارع العام.. وعدد المنازل المُحيطة بها يُعَد على أَصابع اليَدين. مَرَّرَت بَصرها عليها من خَلْف زُجاج السَّيارة.. شَدَّت على المِقْود.. حفرة تَهوي إليها شجاعتها قَد انتصفت صَدرها.. ورَعشةٌ خَفيفة بَدأت تَتَسَلَّق جَسدها. خائفة هي.. خائفة للحَد الذي جَعلَ الخَوْف يَتَكَوَّر في حَلْقها.. يَمنعها من مُمارسة عملية تنفس صَحيحة. لا تدري ماذا يَنتظرها.. لا تدري ماذا تقول.. بل لا تدري لِمَ هي هُنا! نعم.. تُريد أن تُقابل والدها.. ولكن من أجل ماذا؟ وفاتن تلك.. ستكون هُناك.. يعني أنهما سَتلتقيان للمرة الأولى.. ففي أي مُنحدر ألقيتِ بنفسكِ حُور! دَعَكَت وَجهها بيديها وزَفرات مُضطربة تفر على عَجلٍ من جَوفها.. ازدردت ريقها ويداها تكادان أن تَقتلعان المقود من مكانه.. دُوار بَدأ يَتلقف أطرافها ليُحاصرها من كُل جانب.. والغثيان كالرِّيح يهيج وَسط صَدرها. مَسَحت بيدها المُسَوَّرة بالرَّجفة على قَلْبها المُختنق من قَبْضة التَّوجس.. خائفة مما سَيحدث بعد دقائق.. لا تدري ما الذي سَيحدث.. لكنّها خائفة منه.. وكَون الذي يَنتظرها مُبْهَم الملامح.. هذا ما كان يُعَرْقل خطواتها. بَعد نصف ساعة من التَّخبط بين الأسئلة اليتيمة من أجوبة.. وبين الخَوف من المُستقبل القَريب جدًا.. انتبهت لدخول مَركبة عَبر البوابة الكبيرة الواقعة أقصى يمينها. هُنا بَدأت نبضاتها أولى مراحل جنونها.. إن لَم تكن فاتن التي دَخلت.. فهو واحد من رِجاله.. يا إلهي.. وكأنَّ سماءها أصبحت أرضها.. تَمَسَّكت بمقبض الباب وعيناها لَم تُفارقان أسوار الفيلا الشاهقة... لَم تُسرف في التفكير حتى لا يَضطرها خوفها أن تتراجع. تَرَجَّلت من السيارة.. تَأكَّدت من مخزون أَنفاسها.. ثُمَّ خَطت بسرعة متوسطة إلى الداخل.

،


يتبع

 
 

 

عرض البوم صور simpleness   رد مع اقتباس
قديم 03-02-20, 02:11 PM   المشاركة رقم: 1315
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Aug 2015
العضوية: 300973
المشاركات: 633
الجنس أنثى
معدل التقييم: simpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداعsimpleness عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 475

االدولة
البلدBahrain
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
simpleness غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : simpleness المنتدى : القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
افتراضي رد: ذات مُقيّدة حوّل عُنُقِ امْرَأة / بقلمي

 



تَقابلت معه وَسط المنزل ومن حولهما تتوزع غرفتي الجلوس الواسعتين.. كانت تَحمل الحَقيبة المُستطيلة المُنتَظَرة.. تَشد على مقبضها كُل ثانيتين خوفًا من انزلاقها بسبب تعرّق كَفّها. ابْتَسمَ وقَدماه تَقودانه إليها.. ومع كُل خطوة تُقَرِّبهُ منها كان يَسْتَل من قَلْبها نَبضة.. فهي في الأَشهر الماضية تَخمرت بشجاعة رَكيكة.. والليلة.. آه من الليلة... الليلة هي تَعَرَّت من هذا الخِمار حتى أَن الخَوْف أَخَذَ يَتداعى من حولها ليُكَبِّلها عنوةً. تَمَسَّكت بالحقيبة مُجَدَّدًا.. وهذه المَرَّة العَرَق تعاضَد مع الرَّجفة مُضعفين قَبضتها. استعانت بابْتسامة بالية عندما وَقَفَ أَمامها.. وبهمسٍ مبحوح تَساءلت: مستعد لعملية المُبادلة؟
رَفعَ حاجِبَيه وقابلها بسؤال: أَي مُبادلة فيهم؟
تَطَلَّعت إليه لثواني وسؤاله جَليَّةٌ فيه المُراوغة.. لكن المُشكلة أَنَّها لا تدري يراوغها بماذا! حافظت على ثَباتها.. وأعادت تثبيت عباءة الثقة المُتَهَدِّلة على كَتفيها.. وبكلمات تدرعت بالحَذَر: على حد علمي إن اللي تجمعنا مُبادلة وحدة.. إلا إذا كنت ناوي نهايتك وخططت لشي من وراي!
شَخَرَ بسخرية وَخزت تَماسكها: وشنــو بيصير لو كنت مخطط من وراش! بتاخذين مكان فرناندو وبتعاقبيني؟
أَوسعت ابتسامتها ومن بين التباساتها قالت بثقة: لا طبعًا.. لأنّك أذكى من إنّك تعرض نفسك لمثل هالخطر
هَزَّ رَاسه مُهَمْهِمًا بتأييد قَبْلَ أن يُعيد سؤاله: ما قلتين لي.. أي مُبادلة فيهم اللي تسأليني إن كنت مستعد لها؟
هذه المرة انتصرت عليها العُقدة وتَوَسَّطت حاجِبَيها.. لَم تفهمه.. لم يتفقان على مُبادلة غير هذه.. هي تعطيه البضاعة وهُو يَرُد إليها المَبلغ. استقامت في وقوفها وهي تُحَرّك الحقيبة من جانب جسدها إلى منتصفه، وبيديها أمسكت بمقبضها وعيناها عليها.. وبهدوء قالت وهي ترفع بصرها إليه: ما أذكر إنَّ كان في بيننا مبادلة غير هذي الشنطة والمبلغ اللي يساويها
ابتسَم وبصوتٍ جهور قال: لا لا.. أكيد يا حلوة في غيرها.. أكيد يا وعد "مالَ رَأسه وهو يُضَيِّق عَيْنيه ليُرْدف فاصِلًا رُوحها عن جَسَدِها" ولا أقول يا فاتن؟
في ثواني تَلَوَّنت ابتسامته كَحِرباء بالمَكر.. قَبْلَ أن تتطوَّر لضحكة مُجَلْجلة.. فوجهها الذي نُهِبَ منه اللون كان بالنسبةِ له مَشْهَدًا يصلح للتندر. كانت تتمنى لَو أَنَّها في حُلم.. أو أَنَّها مَسْجونة بين قَبْضَتي كابوس.. أَو أَنَّ جاثومًا أَسود يُلاحقها من كُل جانب.. تمنَّت لو تكون اللحظة وَهْمٌ سُرِقَ من على غَفْلةِ الواقع.. أَو صَفْحة مَنسية بين صَفحات رواية سَعيدة.. أو ساعة دَهْماء اغتصبت وَجه صَباحها المُنير. تَمَنَّت من أعماق رُوحها أن تكون اللحظة أي شيء.. أي شيء.. عَدا أن تكون واقعًا وحَقيقة.. لكن أَسَفًا أنَّها كانت حَقيقة.. كالعينين في الرأس كانت حَقيقة. تَصافقت أهدابها ببعثرة عندما قَلَّصَ المسافة بينهما.. قَلْبها استنفر.. النبضات تَعَلَّقَت أقراطًا في أُذنيها.. حَبَسَت أَنفاسها بين أَضلاعها التي انكمشت كما لَو أَنَّها تحمي دواخلها من التَّشتت.. وهُو كان يَقترب حتى اصطدم طَرف حذائه بطرف حذائها. حشَرَ يَده في جَيْب ثوبه وهو يَهمس بخُبثٍ يَجري مع دمائه: هالكثر اشتقتين لي وجيتين لي برجولش بعد كل هالسنين؟ "دارَ المكان فيها وهي تُبْصِر السلاح في قبضته.. ضَحكَ مُعَلِّقًا" أوووف.. الخوف واكل منّك حتة
ثَبَّت فوّهة السلاح على فِكّها ورَفعَ بهِ وَجهها.. شَبَكَ عَيْنيه بعينيها المُتَحَوّرتين لمغارتين تسكنهما الوِحشة.. ارْتَفعت زاوية شَفتيه كاشِفًا عن ابتسامة تُقَطِّر ثقةً مُسْتَفِزة: ما أدري وين عقلش.. وعقل زوجش الغبي يوم فكرتون إنّ مُمكن خطة غبية مثل هذي تمشي عَلَي! "أَخْفَضَ السلاح ببطء مُرْبِك لُعِنقها نُزولًا لصدرها وهو يَهمس بحاجب أَرفعته أَنفة عَمياء" لكن قولي لي.. شرايش فيني وأنا أمثل الجَهل؟ أستاهل العلامة الكاملة صح؟
اقْتَلعت صَوْتها من تُربة حقدها العَتيقة لتهمس من بين أسنانها: حَقيـــــر
وَضَعَ سَبّابته على شَفتيها: أوش أوش
دَفرت يَده ببغضٍ يلهب وَسط مُقلتيها.. ارْتَفَعَ حاجباه وشفتاه تقوستا كما لَو أَنَّهُ كان يُقَيِّم فعلتها.. ومن ثُمَّ حَرَّك بصره على جسدها ومن عينيه كانت تنقذف سِهام وَقِحة.. كَرَّرت بعلو وهي تَرمي الحقيبة بغَضَبٍ ارْتعدت منه أوصالها: حَقيــر.. حَقيـــــر.. إنــت أحــقــر إنــســان على وجــه الأرض
ادَّعى الاسْتنكار: ليــش يا فاتن؟ ترى في يوم من الأيام هذا الجَسد كان مُلك خاص فيني.. أتصرف فيه على كيفي
دَفعتهُ من صدره بكلتا يديها وَالجنون تَفصلهُ عنها شَعرة.. كانت تدفعه ومن حنجرتها ترتفع صَرخات اجْترعَ القَهر كلماتها.. صَرخات بعُمر ضياعها وبعمر الظَّلم الذي أَفسدَ بهِ حياتها.. وهُو.. ذاك الجَبل الضخم.. لَم يَتحرّك جَسده قَيْد أُنملة. أخيرًا كَبَّلَ معصميها بيدهِ اليُسرى.. وباليُمنى ثَبَّت السلاح فوق قَلْبها.. وبصوتٍ مُجَلْجِل قال: شــوفي يا حــرم رائد الموقّر.. الفيلا كلها محاصرة برجالي.. وكلهم مسلّحين.. وهذا أنا عندي سلاحي.. فيعني أي حركة تصدر منش بتقابلها طلقة.. ليـن ما تموتين وترتاحين من هالدنيا.. فخليش آدمية لا تجيبين نهايتش.. ترى محد بينقذش.. هاللي شادة الظهر فيهم مُستحيل يقدرون يصمدون قدام القناصة اللي عندي
نَطقت من بين بحّاتها ومن بين انتحارات الدّموع فوق وَجْهها: اذبحني.. اذبحني وخلّصنــــي
ضَحكَ: لا ما يصيــر بهالسهولة.. طول عمرش عايشة في عذاب.. متعودة عليه يعني.. فما يصير تموتين من غيره.. لازم نذوقش آخر كاس منه
أسدلت جِفنيها.. لا بَل هَمُّ الماضي قَدِمَ إليها وأَرْخى جِفنيها لألا تُبْصِر خِيانة الحاضر الذي وَثِقَت به حَدَّ الغلو.. لَم تتخيَّل أن النهاية سَتكون هكذا.. لَم تتصور ولو للحظة أَنَّ العذاب سَيُرافقها إلى قَبْرها.. لِماذا؟ لماذا بَعد هذا السعي المُجِد بَحثًا عن الطمأنينة لا تَتلَقَّانا سِوى العذابات؟ أَلِهذه الدرجة أَلِفت أَرواحنا السَّواد وباتت بلا إرادة منها تَحيد عن طريقة الرَّاحة لتمضي إلى الهاوية.. حيثُ الغَرق في الأَوجاع؟ كَيْف لَم تنتبه؟ كَيْف لَم تتوخى الحَذر؟ بَل كَيف نَسى جِرْحها أَنَّ سُلطان يُستحال أن تعبره حيلة؟ هو المُحتال الأَكبر.. الثعبان الذي يَنقض عَليك في أَكثر لحظاتك صَفاء ليشوهها بسمومه.. تلك التي لا تقتلك.. بَل تختبئ بين عروقك لتدب بين دمائك أَلَمًا في كُل مرة تَسهو فيها عن واقعك استجابة لِسَكَرِ الأحلام. تَساءَلَ وهو يَضغط بالسلاح فوق قَلْبها: وين تبين تكون أول طلقة؟

: في بنتهـ ـا

التَفَتَ كلاهما بانصعاقٍ كادَ أن يَفقأ أعينهم من محاجرها.. تَسَمَّرَ بصرهما عليها وهي واقفة باستقامة تُعَكِّر ثَباتها الرَّجفة.. جلدها قَد تَبَدَّلَ لونه وبات أَحْمرًا يُصاحبه بَياض الخوف.. ذلك البياض الخاص بالموت.. وَوسط مُقلتيها كانت تهتز دُموع أَبت أن تَخدش وَجنتيها. هَمَسَ سُلطان بلعثمة: حُـ ــ ـ... ــ ـو...ر!
رَدَّت بصوتٍ هَزمته الأبوة الموبوءة: اي يُبـ ـه حُور.. حُور.. بنتك.. حُور بنت فاتن
نَظَرَ لفاتن المشدوهة وهُو وللمرة الأولى في حياته يَتلمظ الخوف.. الرُّعب.. والهَلع.. ازدْرَدَ ريقه ويده بسلاحها تبتعد عنها ليُقابل ابنته ويقول برجاءٍ لا يُليق به: حُور حبيبتي.. اسمعيني
بحَزمٍ وشدّة قالت: ما بسمع شي.. تبي تذبح بعد؟ ما عليه اذبح.. بس هالمرة اذبحني "وبلوعة التهمت كلماتها" لأنّـ ـي مو قادرة أعيش مع زوجي.. وأنا أدري إن أبـ ـووي.. ذابح أبوه.. أبووي اللي تسبب بمرض زوجي وتسبب بجرحي وضرري "عَدّدت على أصابعها وهي تشهق في بكائها الذي غَزا بدموعه مدائن وجهها" خطفتني من أمـ ـي.. وذبحت مربيتها وزوجها وبنتهم.. وذبحت عمــ ــي صالح.. صديق عمرك... ودَفنت يوسف في المرض.. وذبحت عَمّار.. وهذا غير العذاب والنار اللي عيشّت فيها أمي.. حرمتها من الضنا.. بقت فلوسها.. أهنت كرامتها وما تركت لها ولا ذكرى حلوة.. واللحيــ ـن.. اللحين جاي تكمّل! "تَقَدّم خطوة لَم يتبعها بأخرى والسبب يَدها التي ارتفعت تَمنعه.. وبجديّة تامة قالت والنحيب يَتَكَسّر في صَدرها" لا تقــ ـرّب.. إذا بتبرر.. لا تقرّب.. لكن إذا بتذبـ ـح.. قَرّب.. واذبـ ــحنـ ـي
هَرْولت إليها فاتن هاتِفةً من قُعر فَزعها: حُـــور "أمسكت بكتفيها تنهرها عن فعلتها المُتمرغة بالجنون" يُمـ ـه حُور لا.. لاا " أَكملت وهي التي لَم تتمنى بأن يُدَنّس لقائهما الأوّل بنجاسة سُلطان" اطلعي يُمه.. اطلعي من اهني.. أنــ ـا.. أنا أقدر أتصرف
نَظَرَت إليها لثانية.. ثُمَّ عادت تنظر لوالدها لتقول بثقة لَم تكن تعلم من أين أتت بها: لو طلعت من اهني ما راح أطلع إلا لمكانين.. للمقبرة.. أو لمركز الشرطة.. مكان ما بيسلم نفسه وبيعترف بكل جرايمه
أَطبقت السماء فَوْقَ عالمه.. شَعَرَ بالأَرْض تتمخّض من أَسْفله.. وخيل له أَنَّه يَسْمع صَوْت تَدمير قَصره العاجي الذي اتَّكأ على عرشه لعقود.. وقَلْبه.. ذاك الذي لا يعلو بين حجراته إلا زَئير الأَسد.. ها هُو يَكاد أن يُفرى من زَعيق نَبضاته المُضطربة. هَمَسَ يَستعطف فؤادها: يُبه حُور.. أنا.. أنا ما ضريتش
ابتسمت ابتسامة جرداء: أدري إنّك ما ضريتني.. بس سويت اللي أعظم "شَهقت حتى انجرح حَلْقها" ضَرّيــ ـت ناس هم محل نفســ ـي وقلبي وروحي.. ضرّيت أعــز الناس في حياتي "هَزَّت رَأسها بتعبٍ أَضنى وجودها" وأنا خـ ـــلاص.. حِملي ما يشيل وَجع زيادة.. بــــس.. رُوحي ما تبي الدنيا إذا بتفقد فيها عزيز
سَألها ووسط عينيه.. يا للهول.. وَسط عينيه قَد احترق دَمْعٌ أَحْمر: تبين الموت؟
ارْتَفَعَ صَدرها مُسْتنشقةً هواءً يَسعها في آخر لحظاتها.. قَبْلَ أن تُجيب بحروف مُرتعشة: الموت أرْيَح لي
فاتن التي لَم تعد تقوى قدماها على حَمل جَسدها المُتضعضع من ضراوة الموقف.. صَرخت في وجهها: حُــور اعقلي.. هذا مجنووون.. يسويــــها ويذبحش.. ما يعرف بنت ولا ولد "استدارت إليه تُواجهه وهي تَضع جسدها دِرْعًا أمام جسد ابنتها.. رَفعت ذراعيها جانبًا لتقول وشَرٌّ شَرِس كَشَّرَ عن أنيابه في عينيها" والله.. والله لو تجرحها ربع جرح راح أذبحك.. أذبحـــك يا سلطان وأشرب من دمك
حَرَّكَ يَده القابضة على السلاح ومعهُ تَحرّك فؤاد فاتن المُشارف على الانهيار.. أَمّا حُور.. فكانت غير واثقة إذ هي على أَرْض الواقع.. أَم أنّ رُوحها فارقت جَسدها لتتبعثر بين فراغات وَهْمٍ واسِع الخيال.. الدوار الذي حاصرها قَد أَصْبح جُزءًا منها.. لَم تعد قادرة أن تسيطر على أطرافها.. ساقيها بُترتا.. وذراعيها شُلَّتا.. حتى أَنَّ حواسها اختلطت ببعضها البعض وتصادمت.. لا تدري من أين تستنشق الهواء وكيف تزفره.. ولا من أين تتبع الضوء لترى.. ولا بأي لغة تستعين لتنطق.. هي حتى أصابها الشّك بأنّها أصبحت بكْماء من هَوْل المَشهد وسطوته. سلطان يستجيب ويده تتحرّك.. فاتن تتقلَّد سلاح الأمومة من أجل حماية فلذة كبدها.. وحُور.. تائهة بين الوجود.. واللاوجود.. ومن بين هذا وتلك وهذه.. صَدَح صوت إطلاق نار في الوقت الذي دَلف فيه رائد وعزيز على عَجل.
صَمْـــــت.. صَمْتٌ كالذي يَعقب الخط المُستقيم لقلبٍ ميّت.. صَمْتٌ عَمَّ الاَرجاء ومَلأَ الأَجساد الواقفة بصدمة.. فالنهاية غير متوقعة.. غير متوقعة إطلاقًا! كان أَوَّل من تَحرّك عَزيز.. خَطى حتى توقّف عند الجُثّة.. ثواني وأبعدَ عَيْنيه لألا يتمكن التّشمت من نظراته. قالَ بهدوء وهو يحشر يديه في جيبي بنطاله: انقطع سيل السّم
لَم يُعَقِّب أحد.. فلا زالوا واقعين في قَبْضة الصّدمة.. لكن رائد استطاع أن يُزيح عَيْنيه عن الجثة.. لينتقل بهما إليها.. بَصرها شاخص ووجهها قَد استفرغ كُل دمائه حتى استوى كَفنًا يُنذر بالسوء.. زاغت عدستاها وَسط البياض وأَهدابها أخذت تتصافق مُعلنةً استسلام وعيها للغياب.. صَرخَ وهو يَرى جَسدها يَميل بوهَن: فـــاتــــن انــتــبــهــي
استدارت بشهقة مذعورة وبردة فعل سريعة أَحاطت جَسدها بذراعيها قَبْلَ أن تُهَشّمه الأرض.. ضَرَبت على خَدّيها وهي تناديها بفزع: حنـ ـ.. ــحُور يُمــ ـه حُـ ـور.. حُـوور "التفتت لرائد الذي جلسَ بجانبها وصَرخت" رائـــد بــنــتــي.. بنتــــي بنتــــــي
قال يُطمئنها: اهدي اهدي.. فقدت وعيها بس.. إغماء عادي بسبب الموقف.. بس راح نوديها المُستشفى أفضل
وهي تَمسح على وجهها الناطقة بين طيّاته جراحها وآهات ماضيها وحاضرها: يا بعـ ـد عمري.. يا رُوحي إنتِ
وهُو يَضع ذراع أسفل ظهرها والأخرى أسفل ساقيها: خلينا نوديها السيارة.. عندي ماي وعطر.. حاولي تصحينها لين ما نوصّل المُستشفى
أَشارت للخارج بملامح مخطوفة: بس برا.. محاصرين.. قناصة
عَقَدَ حاجبيه: ما في ولا أحد برا!
التَفَتت بحقــدها لجثته وقدماها تَحرّكتا نحوه وهي تشتمه من بين أسنانها بقهــر: الـــ... الـــ... جذب عَلي الحقيــر
اعْتَرَضَ طَريقها رائد الذي وقف أمامها: فاتن مو وقته.. خلاص ارتحنا منه.. خلينا نلحق على بنتش "استقام جسده وحور بين يديه.. التفتَ لعزيز" لازم أمشي
هَزَّ رَأسه: أكيد أكيد.. أنا بكلم الفريق عشان يجون كلهم اهني
قبْلَ أن يعبر الباب وفاتن من خلفه: كــلمــنــي
رَفع يده مُشيرًا بإبهامها: تمام
استدار بعد خروجهم لسلطان.. لسلطان الميّت.. لسلطان المُنتحر بطلقة وجّهها لرأسه مُباشرة.. قَرْفَصَ عنده.. تَأمَّل بقعة الدّم الكبيرة المُتشكلة بجانب رأسه كالبُحيرة.. تَتَبَّعَ مسيرها ومن ثُمَّ ثَبَّتَ بَصره عليه.. لَم يَمنع الضغينة من أن تحشو مُقلتيه.. هَمَسَ بِغِل حاولَ ألا يمسّه التّشفي ولكنه فَشل: ذبحتهــم ظلم وكتبت بدمهم انتحار.. واليــوم إنت.. إنـــت.. كتبت بدمك منتحر



دَخَلَ إليهن بوجه الشُّؤم.. بالوَجه الذي يَصرخ بالفاجِعة ولكن بِصَمتٍ مُهيب.. يُجْبِرك على الإنصات لِسقوط الحَياة مُنهَزِمة على يَدي المَوْت. كانت تَقِف عند الخزانة الصَّغيرة الخاصة بطِفلها تَسْتخرج له ملابس نظيفة غير التي اتَّسخت من استفراغه.. ومُذ دَخل أَجْفَلت في مكانها.. جُود المَسْتَلقية على بَطنها فَوْقَ السَّرير تُلاعب الطِّفل؛ اعتدلت جالسة تَفاعلًا مع ملامحه المُوْحِشة.. والدتها وجِنان فَقد تَركتا الجُلوس لتَقِفا بِتَوَجّس.. أَما جَنى الصَّغيرة، فهي رَكَضت إليه دون أن تَفهم براءتها فَحْوى تعابيره. احتضنَها بيَد واحدة قَبْلَ أن يَخفض رأسه إليها ويقول بابْتسامة: بابا جَنى ما عليه تروحين فوق عند بابا شوي؟
هَزَّت رَأسها بطاعة ثُمَّ خَرجت تجري باتجاه شقتهم.. وهُو عاد ليَقذفهن بنظراته المُتكَتِّمة. تَساءلت لَيلى وهي تقترب منهُ والقَلق يُسَيّرها: ناصر.. شصاير؟ ليش وجهك جذي!
تَطَلَّعَ إليها لحظات قَبْلَ أن يُحَرِّك عَدَستيه لها.. لتلك التي اسْتوعبت منذُ النَّظْرة الأولى أن الأمر يَخصّها.. أن "الفاجعة" تَخصّها. لذلك حاولت أن تَطرح هي السؤال.. أن تستفسر عن المُتَضَرّر.. أن تَتَأكّد بأن ذ ا ك عَلى ما يُرام.. لكنّها لَم تَسْتطع.. لَم تَسْتطع أن تَجُر حَرْفًا واحدًا.. حَلْقها جُفَّ.. ولسانها شُلَّ.. وشَفَتيها أُطْبِقَتا بجمود. كَرَّرت لَيلى بحدّة وهذا الصَّمت يؤرقهن ويَزيد من قَلَقِهن بلا جَدوى: نــاصــر تحجــى.. شصاير؟
أَجابَ وعَيْناه لَم تَبْرحان ابنته التي تكاد أن تَسْتفرغ رُوحها: مــات
هَتفت ليلى باستنكار: شــنـــو!
كَرَّرَ واحْمرارٌ طَفيف يُحيط بمحجريه: مــات.. طــ ـلال.. مات
ثَلاث شَهقات فَرَّت من قلوب النّساء الثلاث.. عَداها هي التي انَقلَبَ الكَوْن من حَوْلها على عَقِبيه.. في لحظةٍ واحدة صَيَّرت الكَلِمة التي نَطَقَ بها الدُّنيا مَكانًا غَريبًا.. لا تَألفهُ ولا تَعرفه.. حَتى أَنَّ أَسْئِلة استغراب بَدأت تَصدح في جَوْفها.. أَين هي.. ولماذا هي هُنا.. وما الفائدة من وُجودها.. وما هُي الحَياة وما هُو المَوْت؟ أَسْئلة كَثيرة يُقابلها صَمْتِ مُطِبق.. فَبعدَ المَوْت تَنحني الأَجوبة باعْتذارٍ ثُمَّ تُغادِر.. لِتَضيع الأسْئلة في فراغاتٍ مع نَدَمِها. تَقَدَّم خطوتان سارِدًا عَليها حِكاية وَفاته: مات غرقان.. خانه البحر اللي وَثق فيه طول عمره.. مات وهو فاقد الأمل فينا كلنا.. رحت له.. شفته.. لونه راح.. ما بقى غير الزراق دليل على اختناقه.. وجسمه المبلل دليل على إن حتى البحر تخلى عنه
حَرَّكت رَأسها بالرَّفض.. الحركة كانت بَطيئة.. ثُمَّ أَخذت تتسارع شيئًا فشيء.. وكأنَّها برفضها سَتنفي حَقيقة مَوْته. جاءت لتمشي لوالدها لكنَّ قدماها المَشْلولتان من الصَّدمة أَوْقَعتاها أَرْضًا.. سَقَطَت على رُكبَتيها في الوَقت الذي اختْرق فيه نَشيجٌ جافَ صَدرها.. أسْرعت إليها كُل من لَيلى وجنان.. واحدة على يَمينها.. والأُخرى على يسارها في مَشْهَدٍ تَقليدي تُحاول فيه النّساء أن تحتوي وَجَع الأُنثى المُرَمَّلة، دون أن يَعْلَمن أَنَّ هذا الوَجع لا يَتّسع له حُضن.. ولا يندمل جِرحه.. ولا يُمحيه زَمن. شَهَقَت شَهْقة تَمَنَّعت عن رئتي طَلال ولَم تُنجِه.. شَهَقت والحَقيقة تُباغتها لتستقر طَعْنة وَسط قَلْبها وهي بكُل شراسة تَصدّها.. لكنّها تَفشل.. فالسَّهمُ يَنغرس دون تَوَقّف ودون رأفة. هَمَست بصوتٍ مبهوت وهي تُناظر والدتها من خلف غِشاء اللا واقع: مات.. مـ ـات.. طَلال مات.. يُمّـ ـه "عَلَت من حَنجرتها صَرْخة آه تَخْتَصِر حَرَّة الرُّوح وحُرْقتها" راااح يُمّـ ـ ـه.. راااح طلال يُمّـه راااح
قَرَّبت يَديها من خَدَّيها تُريد أن تلطمهما فسارعت والدتها الباكية تمنعها: لا يُمّـه لا تجزعين.. لا تجزعين واذكري الله.. قولي إنا لله وإنا إليه راجعون
ناحَت والعَيْنان مُغْمَضتان تَسترجعان الملامح الأخيرة.. الابتسامة المُوَدّعة.. والدمعة الحائرة بين اخضرارٍ رَمادي.. وبلوعة انتحبت: رااح وما سامحـ ـتـ ـه.. راح مكسـ ـور يُمّه.. كَسرته يُمّه.. كَسرته وخذلتـ ـه "اخْتنقت الشهقات بين أَضلاع صَدرها ولسانها يَتَحَسَّر بشَجن" ما استانس مع ولده.. انتظره طول هالسنيـ ـن.. وآخر شي مـ ـات وما استانس معاه "صَرخت بهستيرية وجسدها يَتلوى بين أيديهما" حــرمــتــه مــن ولــده.. حــرمـــتــه وخــذلــتــه.. لا يُمّـــه... لااا خل يَرْجع.. خل يرجع لو ساعة وأسامحـ ـه.. والله.. والله أسامحه... أَصْلًا سامحته.. والله والله سامحتـ ـه.. خـل يرجع.. مـــا أقدر.. مــ ـا أقدر أعيش من غيره يُمّــــــه.. خـل يرجع عشان ولده.. عشان ولــــ ـده
تَحَرَّكَ إليها.. قَرْفَصَ أَمامها ويده تُمْسِك بذقنها.. نَظَرت إليه والدّموع تَنعى فَقده وَسط عينيها وتبكيه على وَجْنتيها المُصْفَرَّتين.. هَمَسَ في الوَقت الذي هَبطت من عَيْنه دَمْعة وَحيدة: شفته.. مَيّت كان.. لونه الأزرق يقول ما له حياة ثانية.. بس الله نجّاه
تَقَلْقَلت عَدستاها بتخبّط على وَجْهه.. ماذا يقول؟ مــاذا يقـــول! أَو أَنَّها لَم تفهم ما يعنيه.. أو أنَّ أذنيها فاتتهما كَلِمة! التَفتت لوالدتها التي استنكرت بعلو وعُقدة شَديدة: نــاصــر إنت شقاعد تخربط!
قالَ وعيناه لَم تُفارقان وجه ابنته المخسوف: زوجش ما مات.. طلال ما مات.. كانت بينه وبين الموت لحظات بس.. وبفضل الله ومن عقبه الدكاترة اللي أنعشوه نَجى.. طلال بعده حي "شَدَّ على ذقنها وبقسوة أَرْدَفَ" فإذا ما تبينه يموت انهي تعذيبش وريحيه وريحي نفسش.. أنا ما بهذلت عمري ودست على كرامتي وقلبي وجمعتكم مع بعض.. عشان تجين وتدمرين كل هذا.. خـلاص.. الشي صار وانتهى.. اللحين هو زوجش وأبو ولدش.. وإذا هالكثر ما تقدرين تتحملين موته فوقفي جنونش قبل لا صــدق تندمين
تَرَكَ ذِقنها ثُمَّ وَقفَ ليُغادر غرفتها لغرفة نومه.. تَبعتهُ زوجته التي أغلقت الباب بقوّة أَحدث صوت تَبعهُ صرختها: إنــــت اســـتــخــفــيـــت! هـذي جذبة الواحد يجذّبها! "مَسَّت صِدْغيها بطرف أَناملها تُعَبِّر عن عدم استيعابها" أنا مو قادرة أصَدّق إنّك إنــت ناصر اللي طول عمرك تتصرف بحكمة تسوي هالسوّات! لو صار في بنتك شي؟ شنو بتنفعك هالجذبة!
هَزَّ رَأسه بخَيبةٍ من ذاته وهُو يَخلع غترته ويَرميها بجانبه: من زمان راحت من إيدي هالحكمة.. من زمان فقدتها "سَألها بَأسى صَدَّعَ ملامحه" ما شفتين حال ولدش؟ ما شفتينها هي نُور؟ كنت أظن إنّي ماشي صح.. بس طلعت أكبر غلطان
عَقَّبَت بقهـر: كيــفك إنت تحسّر على ضياع حكمتك على قولتك.. بس لا تقرّب صـوب عيالي.. للحين ما طلعت من الأربعين وتجي جذي ترمي عليها خَبــر جــذب زين ما راحت من جيسي "أشارت للخارج مع ارْتفاع صَوْت بكاء الطفل" هــا شوف.. فزعتها وفزعت ولدها "صَفَّقَت" عـاد اللحين استانس وارتاح إذا مرضوا
أَشاح عنها وهُو يَزْفر وأصابعه تتخللان خصلات شعره الشائبة.. يَعلم أَنَّهُ مُخطئ وأنَّ فعلته طفولية.. لكن منظر طلال وهو مُسَجَّى فوق السَّرير أَفقده عَقله.. سَلَب منهُ تلك الحِكمة التي لطالما كان يَتباهى بها.. لِوَهْلة ظَنَّ أَنَّهُ فَقدهُ للأَبد.. فَقدَ الابن الذي لَم يُنجبه.. فَرْق السّن بينهما ليس بكبير.. لكنَّ شُعوره ناحيته كان ولا زال شُعور الأب تجاه ابنه.. وأَن يَرى ابنه مُغَيَّبٌ شَبابه بثَوْب المَوْت.. هذا ما لا قُدرة لروحه على احتماله. أَخْفَضَ رَأسه وبيده ضَغَطَ على جَبينه وهو يَسْتمع لزفراتها وهمسها: إنا لله وإنا إليه راجعون.. استغفر الله ربي وأتوب إليه.. استغفر الله "دَنت منه حتى استقرت على رُكبتيها عند ساقيه.. أحاطت وَجْهه بيديها وهي تُناديه" ناصر "أَخفضَ يَده ونَظرَ إليها بقلّة حيلة.. شَدَّت بيديها ومن داخلها ثَبَّطت عَزم غَضِبها لتحتويه.. فالواضح أَنَّ الوقت غير مُناسب للوْم.. هَمست لهُ بمَلق" خلاص ناصر.. اللي صار صار.. وبسّك لوم لنفسك
قالَ بصوتٍ مُهْتَز تَجَرَّعَ فؤادها أَلمه: ليلـ ـى أنا اللي أتعبته.. من أول ما رفضته يوم خطب نور.. لين آخر شي "نزحت عن وجهها عدستاه مُسْتَرجِعًا مَشْهد طَلال المُرْعِب" يوم شفته جذي.. لا حول ولا وقوة.. ميت ليلى.. والله لو تشوفينه تقولين هذا روحه من زمان عرّجت لربها.. يوم شفته.. والله.. والله حسيت ظهري انكسر.. اسْودَّت الدنيا في عيوني.. طلال أمانة عندي ليلى.. هو ولدي.. ولــدي.. أنا اللي ربيته.. وأنا اللي كنت معاه في كل خطوة من خطوات حياته.. عَوَّرني منظره.. حسيته خَرق روحي
أَرْخت كَفّيها حَوْلَ عُنقه لِتَشدّه إليها بحنّية كانت الكلِمة السِّر التي فَتحت أبواب ذاته.. أحاطها بذراعيه ومن صَدره ارْتفعت تنهيدة انقبَضَ منها قَلْبها المُحِب.. رَأسه على كَتفها وهي تَهمس في أُذنه بعضًا من طَمأنينة: ناصر ما كان في إيدك شي قبل.. الله رايد إنها تتزوج عبد الله ويطلقها وبعدين تاخذ طلال.. ولو إنت ما رفضته.. جان الله سَبَّب سَبب غيرك وما تم هالزواج.. واللي صار بينهم كان نتايج أغلاط وتجاوزات كان بيجي يوم وبياخذون جزاهم عليها.. وخلاص خذوه.. وآخر شي غرقه قضاء وقَدر.. والحمد لله طَلع منها حَي.. بس إنت لا ترهق عقلك بالتفكير ولا تخلي اللوم كله عليك.. في النهاية احنا بشر.. مُستحيل كل اللي نخطط له يمشي صح مثل ما نتمنى.. حكمة ربي أقوى وفوق كل شي
كان كلامها بَلْسَمًا والله شَعرَ بهِ يُغَلِّف جواه بنعومة.. زُلالًا كان وطوق نَجاة من أَسواط الذات المُعاتِبة. هَمَسَ بعد دقائق قليلة تَنَعَّم فيها بحضنها المُشَرَّع لهُ ولتخبّطاته دَوْمًا؛ هَمَسَ: رُوحي لنور شوفيها
شَدَّت عليه وأناملها تَمسح فوْقَ شعره: معاها جود وجنان
لَم يُصِر.. طَبَع على كَتِفها قُبْلة كانت بعُمق ودفء الحُب المخلوق منذ الأزل في جواه لها وهُو يَسترخي بين أحضانها مُسْدِلًا جِفنيه.. فَلن يُمانع من أن يرتوي من فَيْضها العَذب ومن أَن يتدلل عليها.. فلا شيء يُضاهي كَفُّ لَيلى المُمطِرة.

،

على الجِهةِ الأخرى كان أَيضًا أَحدهم يُعاتِب نَفسه.. أو إحداهن. تَقِفُ عند سَريره.. كَفٌّ راجفة على جَبينه المُغَضَّن.. والأخرى فَوْقَ فَمِها.. تَكْبح بها لِجام الشَّهقات المُسْتَعِرة داخلها. كُل شيء حَدَثَ سريعًا.. ناصر اتَّصلَ بزوجها.. أخبره أَنَّ ثلَّة من الشَّباب انتشلوا "جُثَّة" طَلال من البَحر.. أَخبرهُ بأنَّه في طريقه إلى المُستشفى ليستعلم إن كان لا يزال حَيًّا.. المُكالمة استمعَ إليها كُل منها هي وغيداء.. غيداء أَصابها الهَلع.. وهي صُبَّ من فَوْقها ماء زَمهرير جَمَّدها.. قَبْلَ أن يهوي عليها جَبَلٌ ليهشّمها. فهي وَصَلت إلى المستشفى بقايا رُوح.. بقايا امْرأة على مَشارف الثُّكل. لا تدري كَيْف استطاعت أن تَبقى واعية طوال فترة انتظارهم وهُو في غرفة الإنعاش.. وعندما خَرجوا ليبشروهم ببقائه على قَيْد الحَياة.. شَعرت وكأنَّها جَرَت مَسافة سنوات ظُلمها وتعذيبها وانتهاكها له في ثواني فَقط لِتَصل إليه في اللحظةِ الأخيرة.. تلك التي فَصلت بينه وبين المَوْت. انْتبهت لنداء غيداء المُتلهّف: طـلال
أَبعدت بأناملها غمام الدّمع عن عينيها لتتمكن من النظر إليه جَيِّدًا.. زادَ تَغضّن جبينه وتضاعفت عُقدة حاجبيه.. أنفاسه المُستعينة بكمّام التّنفس أصبحت أسْرع من السّابق.. إذن هو يَصْحو. مَرَّرَت لسانها على شَفتيها ويدها البعيدة تنقبض بالقُرب من قَلْبها المُضطرب.. ازْدَردت ريقها بصعوبة عندما فَتحَ نصف عَيْنيه.. حَرَّكَ عَدستيه ببطءٍ شَديد.. وكأنَّه يَتَفَحَّصَ المكان ليتعرّف عليه.. أهو بَطن الأرْض أم سَطْحها؟ نادته غيداء من جديد وهي تحتضن يده بكلتا يَديها: طلال حبيبي.. تسمعني؟
أَرادَ أن يفتح عَينيه.. لكن الإضاءة أرغمته على الإغماض مُجَدَّدًا بانزعاج.. حاولَ ونَجَحَ أخيرًا.. لتتضح لهُ صورة غيداء الدَّامعة بابتسامة.. أرخى بصره ليديها.. كلاهما تحتضنان يَده.. عَقَدَ حاجبيه.. فجلده يستشعر دِفئًا يُبَث إليه من كَف مَجْبولة على الحَنان.. فإن لَم تَكُن يَدها فهي يَدُ من! رَفَعَ كَفّه الحُرّة لليَد المُرتاحة فوْق جَبينه.. مَسّها في الوَقت الذي التفت فيه لصاحبتها. نَقَلَ بَصره على وجهها لثواني قَبْلَ أن يُبْعِد يدها بنفور.. أَخفضَ الكمَّام عن أنفه وفَمه ليقول ببحّة مشروخة ولكن حادَّة: اطــلـعـي بـرا
نَطَقَت برجائها الأعرج: طــ ـلـ
قاطعها بحدِّة أكبر: بـــرا.. اطــلــعــي برا.. بــرااا
تَراجعت للخَلف وهي تُبصر بعين رُوحها المنهارة كيف أشاحَ عنها ودمعة يتيمة تُفارق عينه.. فاتَ الأَوان بَلقيس.. فاتَ الأوان.. تلك الأمومة التي كَبّلتيها قِسْرًا حتى ظَنَّت ذاتكِ أَنَّها ماتت تحت أنقاضٍ من كراهية مُصْطَنعة؛ لَم تعد ذات صلاحية.. لَا نَفعَ لها بعد الآن.. فالحاضر يُستحال أن يَقبل بِفَضْلة الماضي.



كانت تَخْلَع رِداء الصَّلاة عندما طُرِقَ الباب.. سَمحت بالدّخول وهي تَطوي الرّداء وعَيْناها تَسْتعلمان الدّاخل. مالت شَفتاها بابْتسامة عندما قابلها وَجْه والدتها التي بادلتها الابتسامة.. قالت وهي تَخطو إليها: تَقَبّلَ الله
: منا ومنكم صالح الأعمال
حَلّقَ الصّمت بينهما لثواني قَبْلَ أن تَقتطعه الوالدة بهدوء: يُمّه ملاك مُمكن تقعدين.. أبي أكلمش في موضوع
عَقَدَت حاجِبَيها وابْتسامتها تَنحى مَنحى الاستغراب: موضوع شنو؟
رَبّتت على السّرير بجانبها: إنتِ اقعدي
جَلست وهي تُدير جَسدها لتُقابلها بانتباه: قولي يُمّه
مَرّرت لسانها على شَفتيها ثُمّ ابتسمت وبيدها مَسّت خصلات شَعر ملاك الغافية على كَتفها.. أَخفضتها وبالتوالي أخفضت عينيها.. قَبْلَ أن ترفعهما لتُشبكهما بعينيها وتقول: مثل ما تعرفين إن عدتش انتهت قبل جم يوم "هَزَّت رَأسها تَحثِّها على المواصلة.. فأكملت والابتسامة تتسع" واليوم اتصلت أم محمد تخطبش.. لمحمد
ارْتَفَعَ حاجِباها لقمّة الاسْتنكار والتّهكم.. تَساءلت وهي تشخر بسُخرية: شنــو!
كَرّرت ناطِقةً الكَلِمات ببطء: أم محمد.. اتصلت.. تخطبش.. لولدها.. محمد
هذه المرّة اعْتلا حاجبها الأيسر فَقط ولسانها يُفْصِح عن سؤالٍ قُذِف من قَلْبها: ليش انتهت فترة نقاهته واللحين قرر يرجّعني لحياته؟
عاتبتها: مـلاك شهالحجي! "أَرْدَفت تُدافع عن مُحَمّد" الرّجال عنده ظروفه.. ويمكن تسرّع في قرار الانفصال.. بس اللحين هو يبيش.. بعقد جديد.. ومهر جديد "وشَفَتاها تَتسربلان بابْتسامة تَعَجّبت منها ملاك إلا أن الكلمات التي تبعتها أَفصحت عن معناها" ويبي يشوفش بالفستان الأبيض.. يبي يسوي عرس هالمرة
استنكرت وهي تثب واقِفة: نَعـــم! عرس شنو هذا اللي يبي يسويه! خلاص.. هو طلقني.. وأنا تقبلت واقعي وتقبلت انفصالي عنه.. شيبي اللحين جاي يخطبني مرة ثانية عقب ما خلصت العدة مُباشرة.. لا ويبي بعد ألبس له أبيض وعرس وحالة!
وَقَفت وقابلتها وهي تَفتح يَديها: والله يا حبيبتي على راحتش.. في النهاية الراي رايش مو راي أحد غير.. ولا هي غصيبة.. مدامش رافضة بقول لهم إن البنية ما تبيه
عَقَدت ذراعيها ولسانها يَتحرّك بتلعثم في جَوْف فَمها لتقول: شنو يعني يُمّه... ما يصير
رَفعت حاجبَيها تدّعي عدم فهم: شنو اللي ما يصير؟
ويَدها تَدعك ذراعها بحيرة: يعني أقصد عيب.. على طول نعطيهم جواب.. انتظري يومين وبعدين ردي عليهم "هَمْهمت وهي تُخْفي ابتسامة اهتزّت منها نَبضة في قَلْب ملاك.. ازْدردت ريقها قَبْلَ أن تتساءَل بربكة" ليش تبتسمين؟
تعجّبت وهي تتراجع للخلف: أنا ابتسم! ما ابتسمت "قالت قَبْلَ أن تُغْلِق الباب بملامح أَجبرتها على ارتداء الجديّة" ما في مانع إنش تستغلين هاليومين في التفكير.. يمكن يتغير رايش!
زَمّت شَفتيها بضيقٍ شَعرت بهِ كصَخرة عملاقة تَجثم فَوْقَ صَدرها.. شَدّت من عُقدة ذراعيها مع استدارتها ناحية النّافذة. وَقفت عندها.. أزاحت الستائر قَليلًا بطرف أناملها.. تَأمّلت السّماء التي طَلّقتها سُحب البارحة.. وكأن شَيئًا لَم يكن.. وكأنّها لَم تَكُن مُحَمّلة بهدايا تُسمّى مَطر. وهي.. هي مثل السُّحب بالنسبةِ إليه.. عابِرة.. تَجيء لسمائه مُلَبّيةً دَعوة القَحط المُصَدّرة من أرض ذاته.. وحينما يَتعب.. وتهزمهُ سَطوة الشمس ولَهيبها.. يَركلها بَعيدًا عنه.. بلا سَبب.. ولا خَبر. تَنَهّدت وبتنهيدتها كانت تُفْسِح المَجال للبُكاء بأن يَتَجمّع.. لكن لا شيء. تُريد أن تبكي.. تعتقد أنّها تحتاج أن تبكي.. أن تبكي قَهرًا منه وعَليه.. لكنّها غير قادرة على البُكاء. أن تَسْتَشعر خَواء صَدرك من البُكاء في حين أَنّ واقعك مَملوءٌ به ومُصِرٌّ عَليه.. هذا الأمر مُتعِب جدًا. تأففت ورَأسها يَميل جانبًا بخفّة.. حَكّت طرف جِفنها قَبْلَ أن تُبْصِر وعدستاها تَتخبّطان على المجال خَلْفَ الزُّجاج.. لماذا أخبرت والدتها بأن تنتظر؟ هل كان الانتظار من أجل ما قَصدت فعلًا؟ أم من أجل قَلْبها؟ قَلْبها الذي يَرجوها لِتمنحه وقتًا للاختيار.. وهل هي سَتقبل باختياره؟ تَنهيدة جَديدة.. وسؤال يَتردّد صداه وَسط رُوحها.. من أجلِ ماذا تُريدنا أن نلتقي مُجدَّدًا مُحَمّد.. من أجل ماذا؟




يتبع

 
 

 

عرض البوم صور simpleness   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
مُقيّدة, امْرَأة, بقلمي, حوّل, عُنُقِ
facebook




جديد مواضيع قسم القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 06:21 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية