كانت فيكى ترفض أن يهتم بها هذا الرجل. لكنه الآن على بابها, مقدماً لها مساعدته و اهتمامه, مغرياً إياها.
ورددت: "لست جائعة."
ظنت أنها سمعته يقسم. كان هناك صوت وقع أقدام, ثم صليل ثم وقع أقدام مرة ثانية’ ثم مزيد من الصليل. "هاك." قال جيل. إنه أمام بابك. كان موزس لطيفاً بإحضارهما و تحمل المشاكل. فهم لا يدفعون له للتفتيش و الحمل. إذا كانت هذه طريقتك لشكره, فأحتفظى بها لنفسك."
سمعت وقع أقدامه تبتعد مرة أخرى. انتظرت وقتاً خالته طويلاً, لتزمجر معدنها مرة أخرى, و قد استبد بها الجوع.
كانت رائحة الطعام الساخن تفوح من تحت الباب. و كانت شهية لدرجة أنها لم تستطيع تحملها.
فى الجهة الثانية, كان جيل يتمتع بوجبته بينما وقفت هى, جائعة بسبب كبريائها و عنادها.
و فكرت فيكى: "يا إلهى, إنه طعام فقط كان بإمكانى أحضاره بنفسى’ إلا أنه على حق. إذا كان موزس قد تحمل مشقة إحضاره, فلا يجب علىّ إهداره."
بدت تضعف, ففتحت الباب قليلاً و تنازلت صينية ذهبية عليها صحون مذهبة تحتوى على معكرونة البريمافيرا مع سلطة خضار شهية.
فى اللحظة نفسها نظرت حولها و انتابها شعور قوى عندما التقت عيناها عينى جيل السوداوين.
كان قد جلس على إحدى كراسى غرفة الطعام قرب طاولة مغطأة بغطاء ناصع البياض. و كان حاجباه الداكنان يعطيان نظرة قاسية.
ابتسم بسخرية و حياها رافعاً فنجان القهوة.
"إذا لم تكن الآنسة خفيفة الظل. إنها جائعة أخيراً, كلى يا حبيبتى الآنسة خفيفة الظل, و أبقى دائماً ناعمة رقيقة كما أنت."
احمرت وجنتى فيكى. كانت تدرك بشئ من عدم الأرتياح أنه رآها للمرة الثانية خلال هذا اليوم من غير تبرجها. "إنه لمن المخجل هدر الطعام, هذا كل ما فى الأمر." قالت ذلك و هى تلتقط الصينية و تدخل الغرفة. "أشكر موزس عنى."
"إننى قد أقوم بأى شئ لإرضاء حاجاتك." قال لها ذلك رافعاً فنجانه لتحيتها مرة ثانية.
استدارت و دخلت غرفتها مغلقة الباب وراءها و محدثة صليلاً قوياً كما لو أرادت أخباره بأنها فى الداخل و هو فى الخارج.
حملق جيل فى الباب الموصد الذى كان يفصل بينه و بينها. مع ان الطعام كان شهياً إلا أنه لم يلمسه.
كانت صورة وجهها خالى من مساحيق التجميل ما تزال تحوم فى خياله. كان كلما رآها يتذكر زهرة. ليس زهرة تعيش فى بيوت البلاستك و تحتاج إلى رعاية, ليس برعماً فى حديقة, بل زهرة وحشية تدبرت نفسها فى العيش فى مكان خفى, و استطاعت الحفاظ على جمالها.
قبل القدوم إلى فيغاس لهذه الحفلة التنكرية المجنونة تصور عدداً لا بأس به من السيناريوهات مع هذه الفتاة. لكن أية واحدة منها لم تتناسب مع شخصيتها.
عندما نظر إلى وجهها العارى من الزينة, أو عندما فبلها, شئ ما فى دداخله هدد بالخروج عن سيطرته. لم يشعر هكذا مثل منذ ميللى. لماذا؟ كان هناك شئ غير جمالها, فقد تعرف إلى نساء أكثر رعة. لم تكن شخصيتها, فهى متقلبة, متهيبة, مليئة بالإدعاء.
باحثاً عن كلمة أفضل, تساءل ما إذا كان مبهوراً بشخصيتها. كانت تجمع الرقة و الخشونة معاً. كانت تبدو بحاجة إلى كل شئ, لكنها مستقلة لدرجة أنها تكره نفسها عندما تقبل العون.
على الرغم من كل ذلك, أحس أه خلف ابتسامتها الساخرة و المترفعة توجد اسرار و الكثير منها. و صمم على معرفتها. لكى يفهمها, عندها فقط سوف يختفى الغموض و سوف تتحرر من الخوف الذى يغمرها.
و كلما كان ذلك أسرع كان أفضل. ما يهمه من فتاة كان أقصى طموحاتها هو بيع مستحضرات التجميل فى غوسبورغ, نيو جيرسى؟ فتاة تكره العمل الاستعراضى و هدفها جعل الحياة آمنة و مملة؟
أراد إخراجها من تفكيره. فقد أغضبته و جعلته يغضب من نفسه, أيضاً. كان عليه أن يتوقف عن الأهتمام بها. و سوف يوقفه باية طريقة.
كان روتش قد حدد لـ فيكى الثياب التى عليها ارتداؤها فى كل مرة تظهر فيها. و قد أعطيت لهذا المساء سروالاً طويلاً من المخمل الأبيض ملاصقاً للجسد و بلوزة قطنية تصل إلى الورك مطرزة بخرز ذهبى.
منتديات ليلاس
كان عليها أن تسدل شعرها, و كان ذل يليق بها تماماً كانت زينتها كاملة, و كان ذلك جيداً بالنسبة لمظهرهاالخارجى. فى الداخل, لم تكن تشعر بأنها بخير. كانت تناضل لخلق مسافة تفصل بينها و بين جيل و المحافظة عليها.
لم تكن تسمح لنفسها بالتفكير به كرجل, أو حتى ككائن بشرى. كان وسيلة للوصول إلى نهاية ما, هذا كل ما فى الأمر. كان بطاقتها للخروج من نيويورك إلى حياة سليمة و طبيعية, طبيعية, قالت لنفسها عدة مرات, طبيعية, مثل الآخرين.
أخيراً, أخذت نفساً عميقاً و قررت أنها جاهزة. و لكن, عندما طرق الباب, تبعثر هدوؤها, و تطايرت شظاياه متلاشية فى عدة اتجاهات.
أحست بأنها ترتعش, لكنها نهضت و فتحت الباب. "نعم؟ هل حان الوقت؟"
"حان الوقت." و ارتجف صوت جيل. "يا إلهى, لا أستطيع التعود على هذا."
لم يكن قد غير ثيابه لكنه أضاف إليها كنزة من صوف الموهير ات اللون الأزرق الباهت فوق القميص. قفز قلب فيكى بطريقته التى لا تستطيع السيطرة عليها.
سماكة الكنزة جعلت كتفيه تبدوان أكثر عرضاً, و وركيه, على العكس أكثر نحافة.
"ما هذا الذى لا تستطيع التعود عليه؟" كانت فيكى مرتبكة ليس فقط بسبب كلماته بل بسبب وجوده أيضاً.
"الطريقة التى تتغيرين بها. منذ ساعة, فُتح الباب و رأيت فتاة ذات فم زهرى محاولة إدخال بعض المعكرونة إلى غرفتها. الآن لم تعد موجودة بدلاً منها, خرجت امرأة شقراء. عندى أحساس بأنه توجد عشرين امرأة فى هذه الغرفة, و ليس واحدة فقط."
"لا تكن سخيفاً, أن تعمل فى السينما. هناك تخيلات أيضاً. عليك التعود على ذلك."
"احاول دائماً تذكير نفسى, أنك انت, و ليس هى."
"ولِمَ هذا الأهتمام؟" قالت فيكى ذلك بسرعة و ابتعدت قليلاً عنه إذ كان قربه يشعرها بالارتباك. لكنه تقدم منها. و ردد بسخرية: "لأماذا هذا الأهتمام؟ لأننى أحب معرفة الصحيح من الخطأ.لأننى أحب معرفة مع ماذا و مع من أتعامل."
فقالت: "مع من؟ ألست عظيماً؟ لا أستطيع أبداً أن أبين متى أقول مع من. هل تستعمل فى تلك الطريقة؟ أم انك فقط تدعى -تتظاهر- أنك تعلم؟"
فقال من بين أسنانه: "يا إلهى. تريدين التعليق على معرفتى لقواعد اللغة؟ أنت غير معقولة. طبعاً, أنا ضليع بقواعد اللغة. لقد درست أمى اللغة الإنكليزية."
استدارت فيكى نحوه مديرة ظهرها إلى أبواب الشرفة. رفعت ذقنها . "معلمة لغة إنجليزية! يا إلهى. أنت مثقف. لابد من أنك نلت تربية حسنة جداً, يا إلهى."
"لقد نلت تربية أفضل مما كنت أريد. كان والدى وزيراً."
تفرست فيكى فى وجهه لترى إن كان يمزح. لكن تعابير وجهه كانت ثابتة جادة. و أحست للمرة الثانية بأنها كانت تقف قريبة جداً منه, لكنها لم تكن تستطيع التراجع. كان كتفاها ملامسان ستائر باب الشرفة.
"وزير." رددت و فى صوتها بعض السخرية. "أوه, يا إلهى, لقد أوتيت نشأة حسنة, لكنك أنتهيت فى هوليوود. إنك كبش محرقة العائلة؟"
قال متمتماً: "لبعض الوقت. لقد تقبلوا الأمر الآن, ماذا عنك؟ عن أهلك؟ و كيف كانت نشأتك؟"
اختفت ابتسامة فيكى. "لست كبش محرقة العائلة. إذ لا توجد عائلة أساساً. كانوا ممثلين, أو حاولوا أن يكونوا كذلك." و أخفضت رأسها حتى لا يتقابل نظرهما.
"أسمع! علينا الخروج إلى الشرفة, و ننهى هذا المر, آهـ, إننى تعبة من الإدعاء و أنتحال شخصية غير شخصيتى."
و استدارت تزيح الستائر, و حاولت فتح الباب إلا أنها لم تستطيع. فقد قاومها القفل.
"دعينى أقوم بذلك." قال جيل بصوته الخافت و هو يتحرك خلفها. "و أهدئى, من المفترض أن نخرج إلى الشرفة كالعشاق. لا تخرجى وحدك."
لف ذراعه حول خصرها و شدها نحوه برقة, من دون مقاومة. و همس فى آذنها: "أثبتى." و اراح ذقنه على كتفها. و مد ذراعه و فتح الباب. "الآن نخرج ببطء و هدوء."
فتح الباب مبقياً ذراعه حول خصرها. و أحست فيكى ببرد الصحراء. و أرتجفت قليلاً. اشتدت ذراع جيل حول خصرها و همس فى أذنها: "أذهبى نحو الشلال." ثم قبلها تحت أذنهاز كانت شفتاه, دافئتين حتى أنها أحست بالبرودة تنتشر فى أنحاء جسدها.
كانت الشرفة واسعةلدرجة أنها كانت تغطى معظم مساحة الطابق العلوى فى الفندق, كانت هناك أشجار و ورود كثيرة حول الشلال.
كانت المياة الدافئة فى حوض السباحة تتألق رأسمه أشباح تيارات. كان الشلال الاصطناعى ينساب فى الطرف البعيد للحوض. و كان, كما طرف الحوض, مضاءاً بكاشافات مخبأة خلف أوراق الشجر. و كانت الناباتات و الأشجار مزروعة بكثافة حول الشلال.
و سألت فيكى: "من يعيش فى هذا المكان, أثرياء أجانب؟"
"بالتحديد, ثرى متحرر جداً. لقد استأجره لمدة مئة عام. و قد أعاره لـ كاريسا."
و اشتدت ذراعه حولها. "من هنا."
قاداها نحو بستان من شجر الصنوبر. "دعينا لا نسهل الأمر عليهم فى السيلفرادو. فلنبق فى الخفاء لبعض الوقت و لندع الأمر يبدو طبيعياً."
أجبرت فيكى نفسها على الابتسام. "قلت هم. هل هناك أكثر من مصور واحد الآن؟" و أشارت برأسها نحو السيلفرادو.
أجابها و هو يقودها إلى ظلال بستان الأرز: "أجل روتش يراقب أيضاً من فوقنا, لقد استأجر غرفة حتى يتأكد مما إذا كنا نقوم بعمل جيدا."
"هذا جنون." قالت هذا بينما كان يتوجهان إلى القسم الأكثر عتمة فى البستان. كان خرير الشلال المصغر يخر و رائحة الكلور تنتشر فى الهواء ممتزجة بعطر الصنوبر, كان بامكانها أن ترى أضواء مئات الفنادق الأخرى, و النوادى الليلية, و الكازينوهات, و الأضواء الصامتة لقوس قزح مملكة النيون فى فيغاس.
توقف جيل عن الحركة و كذلك فعلت نيكى, بدأت بتحرير نفسها من عناقه, لكنه أمسك بها بسرعة.
و قال محذراً: "صه, ابقى قريبة. لا يمكنهم رؤيتنا جيداً من حيث هم, إنما يمكنهم رؤيتنا. خاصة و أنت ترتدين ثوب أبيض."
كان هناك مقعد من الرخام الباهت اللون قبالة الششلال بين الصنوبر. كانت الأضواء تتسلل عبر الأغصان الناعمة, غير متجانسة.
و قال لها جيل و هو يطلقها: "لقد أصبحت عصبية مرة أخرى, أليس كذلك إجلسي."
غاصت فيكى فى المقعد. "و من لا يكون عصبياً مع كل هؤلاء الذين يتجسسون؟ حتى روتش. كيف يتحمل جيل و كاريسا هذه الحياة؟ مراقبين و متخفيين من الصحافة؟ كيف يمكنهم البقاء متحجرى العقل؟"
جلس قربها, و وجهه يبدو كوجه طفل تحت الضوء الخافت.
"إنه الثمن الذى يدفعه المرء ليكون غنياً و مشهووراً. أنه كعقد صفقة مع الشيطان."
"ماذا تعنى؟" جعلتها كلماته تشعر بعدم الأرتياح. و تساءلت عما إذا كانت قد عقدت صفقة مع الشيطان بتوقيعها عقد روتش.
فقال: "لديهم الثراء – القوة." لكنهم يتخلون عن مكانتهم فى المجتمع البشرى. بمن يمكنهم الوثوق؟ من الذى سيحبهم لشخصهم؟ أو يكون وفياً لهم بسبب الصداقة, و ليس بسبب المال؟ أنهم يتوقفون عن كونهم أشخاص أنهم يصبحون سلعاً."
"يبدو ذلك رهيباً." قالت فيكى ذلك و هى تنظر إلى السماء. كانت سوداء حالكة, خالية من القمر و النجوم.
"بالنسبة للمشاهير, كل شئ يجرى أمام الكاميرا. العالم كله يشاهدهم و هم يقعون فى الحب, و يتزوجون, يطلقون. لا يمكنهم التعرض لإنهيار عصبى أو حتى الموت وحدهم." و مد يده و التقط يدها. "الصحافة دائماً موجودة, محولة كل شئ إلى أخبار."
فقالت فيكى: "هذا مخيف, إننى أكرهه."
"و أنا أيضاً."
و سألت: "لماذا يفضل البعض مثل هذا؟" و استدارت تتأمل مياه الشلال الأصطناعى المضاء بالألوان.
"أنت أخبرينى."
و مرر أصابعه بين أصابعها ثم وضع يديهما المتشابكتين على فخذه.
أحست يدها الناعمة بالبرودة بسبب ملامستها ليده الخشنة. "لا تحاول...." بدأت بالقول مع أنها لم تحاول الأبتعاد.
قال و هو يضع اصابعه على فمها: "صه. أنت متوترة من جديد. لا تخافى عندما المسك. فهذا لا يعنى شيئاً. علينا القيام بذلك. تعودى عليه, كونى مرتاحة له."
"لا أستطيع."
"بلى تستطعين." و مرر اصبعه بهدوء على شفتيها, ثم أمسك بيدها الثانية و رفعها قرب فمه و طبع قبلة فى راحتها.
أحست فيكى بالحرارة و عندما رفع فمه عن يدها أحست و كأنه نجمة نامعة فى مكان القبلة.
و قال بنعومة: "الآن. لقد طلبت منك أن تخبرينى. إذا لم يكن الثمن مرتفعاً, لماذا يريد أياً كان تحمله؟ الشهرة, الثروة؟" و أضاف للعض السخرية على الكلمتين الأخيرتين.
"أنا... أنا...." تلعثمت و ما زالت تشعر بحرارة قبلته فى راحتها. "أظن أنهم يعتقدون أن ذلك سوف يجعلهم كاملين." و فكرت بـ رواندا, التى ظنت أنه بالحب أو بالشهرة فقط يمكنها أن تصبح كاملة.
مــــنــــتـــديـــــات لـــــيـــــلاســــــــــــــــــ