كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / مساءكم طاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحة وعافية
بنزل نص الجُزء ذا عشان اللي كانوا منتظرين ، والنصف الآخر بينزل بعد بكرا مع إضافة أجزاء له ، أتوقع كذا نرضي الأطراف . .
بسم الله نبدأ ، قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر ، بقلم كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(81)*1
يغوصُ في نسيمِ الصباح وهدوئِه، يتخلخلُ سكونهُ ضحيجُ صوتها وعبثُ كفيها، عقدَ حاجبيه، كـان مستيقظًا وساكنًا أسفـل اللحاف، يضعُ الوسـادة على وجههِ ليظهر أمامها أخيرًا بهيئة النائِم، جلبَت إلى رأسِه الصـداع من العبثِ الذي ثُقيمه والضجيج الذي تولّدهُ بكفيها على الجمادات.
وقفَت إلين أمام مرآةِ التسريحةِ وهي تُغلق قرطها الؤلؤي، تنظُر لهُ عبر المرآة بحاجبينِ ينعقدان ترقّبًا، وبصوتٍ مرتفعٍ بعض الشيء : أدهـم ، الساعة بتجي 7 وامتحاني 8 .. قوم.
أدهم الذي كان يشعُر بها منذ البداية، أزاح الوسادة عن رأسِه لينظُر إليها بملامِحه الناعسة، شعره يُكمـل الفوضى التي اكتنـزت بها الغرفـة . . مرّر أحداقه على ما حولها، " بوكس " حذائِها الذي لم ترتدِه من قبل كان مرميًا بجانِب التسريحة، منشفتها ارتمَت بإهمـالٍ على كرسيّ التسريحة أيضًا، عطرها المفتوح، والكثير من الفوضى من حولها جعلته يرفعُ حاجبـه وهو يلفُظ باستنكـار : كل هالتخبيص أيش؟
إلين التي لم تفهمه أدارت رأسها إليه وهي تلفظُ دون فهم : وشو؟
أدهم بسخرية : يا الله الصبر يوم ورى الثاني انصدم فيك أكثر .. الحين هالحوسة تطلع من جامعية وفوق كذا متزوجة؟
لم تستوعِب في بادئ الأمر، بقيَت تعقدُ حاجبيها وهي تراهُ يجلسُ والوسادة التي كانت تُخفي ملامحهُ أمسكَ بها باسترخاءٍ على حُجرِه وهو يُشير لما حولها بابتسامةٍ مُستهزئة ، نظـرت حيثُ يشير لتنتبه للفوضى التي قصدها، حينها احمرّت ملامحهـا بحرج، تلك الحُمرة التي يهوى والتي يعشق، تلك النظـرة التي التي تهزمُ بورديّةٍ يراها بعينيه لونَ بتلاتِ زهرةِ أقحوانٍ ناعمـة، تخطفُ وجناتها شفافيّة ندى عكـس حُمرةً سقاها ونضجَت أكثـر . . كـاد يبتسم، إلا أنّه بتـر بسمته وأبقـى على السخريـة في ملامِحه، بينما رفعَت إلين نظراتها إليه وهي تتنحنحُ بحرجٍ وتلفظَ بخفوتٍ متدارك : برتّبها بعد ما أرجع ، لا تدقّق كثير وكأنّي بكامل استرخائي اليوم ، يعني المفروض تعذر أي تصرّف مني.
رفـع أحد حاجبيه باستخفاف دون أن يُجيب بكلمـة، عينيه عبرتـا عليها من أعلاهـا لأسفلـها بنظرةٍ أربكتـها، كانت ترتدِي قميصًا أبيضَ وتنّورةً تسبقُ كاحليها بسوداويّةٍ لم تطغـى على شفافيّة بشرتها، رفـع عينيه إلى عينيها وهذهِ المرّة كانت نظراتـه ماكرة، لم تفهمها لكنّها ارتعبَت منها لتقبـض كفيها وتسيرَ بربكـةٍ دون هدى لافظةً بربكـة : بيمشي الوقت بسرعة يعني قوم تجهز لا يروح امتحاني.
لم تغِب نظرته الماكـرة تلك وهو يرتمي بجسدهِ للخلفِ ويلفظ : وش دخلني بامتحانك أنا؟
إلين تنظُر نحوه بضجر : ينقصني غباءك الحين؟ قوم عشان توصلني.
أدهم ببرود يضعُ ذراعه على عينيه : ماني موصلك .. بنام.
اتّسعت عينـاها دون استيعابٍ بينما شفتيها انفرجتـا قليلًا، لم تتبيّن صدقـه جيدًا لتهتفَ بتساؤلٍ متوجّس : تمزح صح؟ ترى مو وقت مزاحك والله قوم واللي يعافيك.
أدهم يُزيح ذراعه لينظُر للأعلـى، تشبّثت نظراته في نقوشِ السقفِ بحيرةٍ زائفـةٍ يستذكر بها كلمـاتٍ قالتها لهُ البارحـة : أنا كلب وحيوان وحقير عشان كذا ماني موصلك، * وجّه عينيه إلى ملامحها المذهولة ليُردف بتدارك * آه صح وأنا سبب رسوبك قبل وطبعًا مظلوم بهالنقطة عشان كذا بكون سبب رسوبك الحين بكل صدق وإخلاص.
مرّت لحظـة صمت، لحظـةٌ واحدة ، قبل أن تشتعـل عيناها بانفعـالٍ وتتحرّك نحو الكومدينة التي وضـعت عليها هاتفها وهي تلفظُ بعنف : بتذلني على كلامي أمس يعني؟ كلب وحقير وحيوان وش تبي بعد؟
في لحظةٍ خاطفةٍ أدرك أدهم وجهتها، نظـر للكومدينة ليدرك ما كانت تريده بالضبط، جلس سريعًا لتعتلِي صرختها المكتومـة وهي تركضُ باتّجاه الكومدينة لكنّه كان أسرع ليسرق هاتفها وهو يضحك بانتصـارٍ وتلاعب : بتتّصلين بمين؟ محد بياخذك للجامعـة غيري عشان كذا خليك مُطيعة.
إلين تتراجـع للخلفِ بعد أن اصتدام ساقيها بالسرير، نظـرت نحوه بحقد، كـان قريبًا منها، يستندُ بإحدى ذراعيه على طرفِ السرير والأخرى ترتفـع بكفّها الحاملـة هاتفها، يلوّح بهِ باستفزازٍ وهو يبتسـم بانتصـار، بينما اشتعلَت في ملامحـها مشاعر الازدراءِ والحقد، وبقهر : ماني بحاجتك ، بيوصلني ياسِر لو ما تبي.
أدهم ببرودٍ يدسُّ الهاتفَ في جيبِ بنطالِ بجامته، رغـم أنّ اسمـه يُشعلـه إلا أنّه أطفـأ اشتعاله قبل أن يؤثّر بِه ، لمَ قد يبقـى حبيسَ ماضيها وهي التي بدأت تتجـاوز ماضيه وتتقبّله مبدئيًا؟ ليسَ عدلًا منه أن يحاسبها على ذلك، لكنّه بالمقابل، لم يكُن ليسمـح لها أن تذهب معه بأيّ حالٍ من الأحوال. نطقَ أخيرًا باستفزاز : شلون بتتّصلين فيه؟
إلين بحقدٍ تمدُّ كفها : هات الجوال!
أدهم وجسده يسترخِي بوضعِه ذاته، يتمدّد على جانِبه بشكلٍ مـال بفوضويّةٍ على السرير، يستندُ على ذراعِه اليُسرى ويمينه تعبثُ بمفرش السرير ببرودٍ مستفزّ : طلبك بريء أو نقول سـاذج ، لو تبينه تعالي خذيه غصب عني.
اختلطَت الربكـة في عينيها بالحقد، يُدرك أنّها لن تتجرّأ، كما أنّها ليست من الغبـاء أو الاندفاع الساذج حتى تظنّ ولو للحظةٍ أنها تستطِيع هزيمته وأخذه قسرًا ، بتلقائيةٍ منفعلـةٍ بدأت عيناها تطوفانِ في الغرفـة، تبحثُ عن هاتفِه، تحفظُ رقم هديل وستتّصل بها وتطلبُ منها أن تُخبـر ياسِر بما تريد تحتَ أيّ حجـة ، لكنّها لم ترى هاتفه من حولها، بدأ صدرها يشتعلُ أكثر، وصل إليها صوته في اللحظة التي رفعَت فيها معصمها كي تنظُر للوقتِ الذي عبـر : حتى لو اتصلتِ يا حلوتي وش بتقولين له؟ عندك استعداد تفشلين عمرك؟
إلين تُخفض معصمها وهي ترفـع عينيها إليه وتلفظ بحقد : بقوله تعبان يا عساك اليوم تطيح مريض وما تقوم إلا بعد اسبوع قُول آمين.
أدهم يرفـع حاجبه الأيسـر بحدة : ما بقول ، بس تراك تصعبين الموضوع أكثر ، تقدرين تقنعيني فاستغلّي أساليب الاقناع ومكانتك والوقت الباقي وأطربيني . . كلي آذانٌ صاغية يا عزيزتي.
ارتفـع صدرها في نفَسٍ مزحومٍ بانفعالِها لينخفـض بقهرٍ وهي تنظُر لملامِحه العابثـةِ بها، لن تسمـح لهُ بإذلالها بحجّة توصيلها، لن تسمح له !!!
لفظَت بصوتٍ غاضب : بعلم عمتك عليك!
أدهم يضحكُ بصخبٍ مستمتع : هههههههههههههههههههههه يا حياتي ، بس اشتكي لها ما عندي مانع بتفشلين عمرك بس ، الموضوع عندي عادي وهي متعودة علي وعلى عنادي لو قررت شيء فراسي اليابس ما يلين حتى لو كان قدامها ... روحي ، بتفشلين عمرك بس وموقفي ما راح يتغيّر.
شدّت قبضتيها بقهر، عينيها التحمتـا بعينيه والاختنـاقُ بدأ ينقضُّ على صدرها قهرًا ، يُرمّمُ أنفاسها ويحوّر في حنجرتها غصّة ، لفظَت بصوتٍ خفت ونبرةٍ أصبحَت تحملُ بعض الرجاء : وش تبي مني طيب؟
أدهم بثقةٍ يجلسُ ليستند بظهرهِ على ظهر السرير، وبنبرةٍ ثابتـة : اعتذري عن كلامك أمس.
إلين تشدُّ على أسنانِها بغضب، تُشتت عينيها والوقتُ يضيعُ منها ، لكنها في النهاية أعادت نظراتها التي سكَنت إليه ، ملامحها تشنّجت أكثر ، لكنّ عينيها كانتا تسترخيـان على وجههِ الصامتِ وابتسامته الهادئـة بترقّبها : ما غلطت يوم قلت عنك حيوان.
أدهم يمطُّ فمـه باسترخـاء : الوقت بيروح وراح يروح ويمكن راح ولو راح بتاكلين تراب .. ما عندي مشكلة أنتظر أكثر.
إلين تُخفض نظراتها ناظرةً لساعةِ معصمها الذي لم ترفعه، لم ترى الساعـة، لكنّ حركتها تلك كانت دليل ربكتـها وانفعالها . . أعادت نظراتها نحوه باختنـاق ، يحمرُّ وجهها بقهر ، لتلفظَ بينما شفاهها تتحرّكُ بصعوبـة تشنّجها : غير الاعتذار ، إلا لو يهون عندك تذلني !
أدهم يرفعُ حاجبيه بحدّةٍ واستخفاف : أذلك ! هذي نظرتك للاعتذار . . تراك غلطانة يا حلوة ولازم تعتذرين . . قوليها أشوف.
إلين بغضب : ماني معتذرة! حتى لو الاعتذار ما يذل بس طريقتك وأنتِ تأمرني أقولها هي اللي تخليه مُذلّ.
أدهم : براحتك ، شكلك ما تبين تداومين.
إلين تقتربُ من السريرِ بانفعالٍ حتى اصدامَت أقدامها بِه وهي تلفظُ بصوتٍ مكبوت، تريد أن تنفجـر بهِ لكنّها في موضِع المهزوم أمامه : شيء ثاني غير الاعتذار وبعطيك.
نظر لها بصمتٍ لوهلـة، بضجر ، لكنّ نظراته تبدّلت فجأةً بالمكـر السابق وعادت تنظُر لها من أعلاها لأسفلـها، حينها ارتعشَت بتوترٍ وهي تعُود خطوةً مرتبكـةً وتُردف بتشتّت : غير الاعتذار وقلّة الأدب.
لم يستطِع منع نفسه من الانفجـار بضحكةٍ صاخبـةٍ انفلتت من بين شفاهِه ، وبنبرةٍ ضاحكة : تظنيني مسكين بطلب منك بوسة مثلًا؟ لا لا تطمني ما أحب أجبرك على شيء بيصير بايخ لو كان غصب عنك . . بس مممم ، هو مو شيء قليل أدب نقدر نقول شيء يقوّم أسلوبك القليل أدب ذا.
شعرت بالغيظِ من حديثه، ضيّقت عينيها وتنفّست بسرعةٍ وكبتٍ وهي تشدُّ على قبضتيها إلا أنها قيّدت شتائمها لتلفظَ بصبرٍ نفد : وشو؟
أدهم بجدّيةٍ ينظُر لها بحدة : تعدّلي! ما أبـي أسمع منك سب وقلة أدب مثل أمـس وهذا عندي أهم من الاعتذار بما أنّ اعتذارك ما يدل إنك ماراح تكرّرينها . . شويّة احترام لي ولهالزواج.
إلين وهي تتوعّده بداخلها ، لا بأس ، طلبه سهل ، فقط سترغم نفسها على كل ما يريد ليومٍ واحد ومن ثمّ ستردُّ لهُ ذلها على احتياجها له الآن ! : طيب.
أدهم يُكمل برويّة : ومن معاني الاحترام لزواجنا بعد شكلك ، طفشت من بساطتك وكأنك جالسة مع أخوك والا أبوك ... اكشخي ترى فشلتيني قدام عمتي ما كأننا تونا متزوجين.
رفعَت حاجبها بوحشيّة وهي تصرخ بداخلها بشتائم مغتاظة ، لكنّها لفظَت من بين أسنانها بصبرٍ من خلفِه وعيد : أوامر ثانية؟
أدهم ببرود : لا ، البسي عبايتك على ما أطلع من الحمام.
،
كيف يأتِي الكلامُ كـ " لكمةٍ " تدمِي الشفـاه بنصلِها؟ وكيفَ لحديثِ اللسانِ أن يُشبـع الصدورَ وجعًا، وحشةً كالقبر! كيفَ تأتِي " تُحبّك " دون أن تُثمر في الفمِ ابتسامـة توقٍ وحبور!
" تراها تحبك " !!!
تقلّب على سريرهِ وهو يُغمـض عينيه، ينبطِح على بطنِه، وتتكرر تلك الكلمـة في عقله ليتناسـى بقيّة المحادثـة، هل كـان هناك حديثٌ من بعدِ تلك الجملـة التي انتهَت بنقطـةِ - توكيد -! هل كـان هناك كلامٌ غير أنّ امه أهدتهُ ( بركانًا ) وذهبَت؟ لتتركه أخيرًا في صخبِ أفكاره، يسهرُ الليـل مفكّرًا، هل قالتـها لهُ حيرانـةً ظنّت ذلك بعينيها، أم أنّها هي من قالتـها لها فلفظتها مؤمنةً بِها مدركةً لمعانِيها؟
وبحجـم ما كان في السابـق يتلهّفُ لحبّها، هاهو الآن مرتعبٌ لتلك الفكـرة، متوجـس، وفي ذاتِ اللحظـةِ يهتزُّ قلبـه بخيانةٍ عظمـى لعقله!
سهـر تلك الليلـة، يطرد التفكير ، ويهزمـه أرقـه ، يضجُّ بأفكـار تتعلّق بمتعب، بأمّه ، ويكبُر تفكيره بأسيـل فيصخبَ باحتجاجاتِ عقله، تُقام حربٌ شعواء ، ولا يجدُ في تلك الليلـة متّسعًا لينـام وهو يناجِيها بعيدًا " لا تحبيني "، فقط ، لا تقعِي في حبّي فيصعُبَ عليّ التأقلـم أكثر، لم يكُن الفراقُ صعبًا ، لكنّ وطأته هي التي حملَت تلك الصعوبة . . لو كان الفراق صعبًا لما مارسنـاه بكلمة!، الصعوبة تكمـن في تقبّله، وليس اقترافِه! ليسَ كلّ ما اقترفنـاه في حياتنا كنّا نريده ، الكثير من آلامنا كان لأنّنا وقعنـا في اختياراتٍ قاهرة، كـان فتحُ بابِ عذابها سهلًا ، والتنـاسي مُعضلةً لم تُحل!
فتـح عينيهِ على صوتِ رنينِ هاتِفه، تضيقُ أحداقه ليجلـس وهو يوجّه عينيه إليه، مدّ يدهُ نحوهُ وهو يتنهّد بيأس، رفعهُ وهو بمرّر أصابعه بين خصلاتِ شعره كي يهذّب فوضويّتها. ابتسم ما إن رأى أن المتّصـل متعب، ومن ثمّ ردّ ليردفَ بهدوء : صباح الخير.
متعب : صباح النور وش مسوّي؟
شاهين : أبد أتقلب على السرير صار لي ساعة ، ليه تسأل؟
متعب : ما عندك شغل!
شاهين : مالي خلـق ، مقفل العيادة وحتى المستشفى ما عندي التزامات فيه بهالوقت.
عبـر الصمتُ لبرهـةٍ لم يُجب فيها متعب، حينها عقد شاهين حاجبيه بقلق، وما إن أفرج شفتيه ليقول شيئًا ما حتى قاطعـة متعب بهدوء : شلون أمّي؟ للحين زعلانة منك!
ارتبكَ قليلًا، عقدَ حاجبيه باستغرابٍ من سؤاله في هذا الوقت ، إلا أنه لفظَ أخيرًا بهدوء : لا ماهي زعلانة.
متعب بهدوء : ما سألتك من فترة عن هالموضوع ، بس أتوقع ما راح تمرّره ببساطة وأكيد زعلانة منك .. لا تكذب.
شاهين بانزعاج : وش مناسبـة هالسؤال؟
متعب : قدرت أحصّل الفرصة عشان أروح المحكمة وأفسخ عقدي فيها.
تصلّبت ملامحـه ، ليردف متعب مباشـرةً دون أن يُهدِه الفترة الكافية للتفكير : أبيك تمرني بعد الظهر.
،
تعلّقت نظـراتها بالبـاب ، أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تزفـر وقلبها يضطربُ بنبضاتِه ، ارتفعَت أجفانها لتستديرَ ناظرةً لأرجوان التي كانت تجلسُ على الأريكة وتنظُر لها بصمت، وما إن استدارَت لها بنظـراتها تلك التي كانت كمـن يستغيثُ بها حتى تنهّدت ووقفَت ، تحرّكت نحوها بهدوء، وما إن وصلَت إليها حتى لفظَت برويّة : إذا كنتِ قد الغلط كوني قد الحساب.
جيهان وجبينها يتجعّد بقلـق ، ابتلعَت ريقها، تريد منها أن تُهدّئ من خوفِها لتأتيها الآن بكلمـاتِها تلك ، أفرجَت شفتيها والغضب بدأ يتسلّل إليها من فرطِ انفعالها، أدركَت أرجوان ما ستقول لذا قاطعتها بحزمٍ خافتٍ كي لا يصل صوتها لوالدهما : جيهان عن البزرنة! بطّلي أسلوب الأطفـال وعدم المبالاة هذي ، يا تبعدين عن الغلط يا تكونين قده ، المفروض حسبتيها قبل لا تطلعين له.
زمّت شفتيها بقهرٍ يغصُّ بكلمـاتها، يتقوّسُ فمها باختنـاق، ومن ثمّ تهمـس بتحشرج : شلون أتجاهـل وجوده؟ . . ما طلعت له بس ما قدرت أتراجع وأدخل.
أرجوان بحزم : أجـل تحملي مسؤوليّة غلطك اللي ظليتي تتفاخرين فيه قدامي بعد.
جيهان بقهر : ما تفاخـرت ، مين يتفاخـر بوجعه؟
أرجوان تتنهّد بيأسٍ وهي تُغمـض عينيها لبرهـة، تعبُر أنفاسُ جيهان المنفعلـة هدوءَ المكان وتصخبَ باحتجاجاتِ قلبها ، كـان يقول " اشتقتِ؟ " بصيغة السؤال ويتبجّحُ بمكانتِه، كـان يلفظها فيغيظها بثقتـه ، أنّ لا سكونَ من بعدِه ، لا ثبـات ، يَعلم جيدًا كمْ هزّ السكون فيّ بعد ابتعاده، يعلم كيفَ أنّه شتّت في قلبي نبضاتِه وكيف أنّ صدرِي تشابـكت أضلعهُ ببعضها دون أن تتحطّم ، كيف يتحطّم جسدٌ رخويٌّ كان يقوّمـه " عيناك "؟ عبـرت الأشهرُ ولم يكُن عبورها كعبُورِ الكـرام ، لم تعبر واللهِ بل لازالت تستندُ بين حاجبيّ في تجاعيدِ ذكرى ، أن أمكثَ عند النافـذةِ وأعقدَهما لأنّك لم تمـر ، ولأنّك مررت، وأصابعك تتشبّثُ بأصابع أنثـى سواي.
أن لا تعبُر يا فواز ، وحتى حين تعبُر لا أراك فارغًا من جسدٍ إلا أن أرى ذكراي تمشي بجانبـك ، تعبُر ، ومعكَ حضورٌ آخر.
عضّت شفتها بألم، بينما فتحَت أرجوان عينيها لتهمـس بخفوت : لو بدخل معك أحس بيعصّب أكثر وبيظن إنّك دايم تقابلينه ومن هالحكي وأنا أتستر عليك ، عشان كذا ادخلي بروحك ، لا تخلينه يشك إنك مكرّرة هالغلط.
أومأت بصمتٍ ومن ثمّ استدارت عنها لتمدّ يدها لمقبـض البـاب . . ومن ثمّ تفتحه. بينما كـان يوسف في تلك اللحظـة يستريحُ على مقعدِ المكتبِ أمام حاسوبِه، وحين وصَل إلى مسامِعه صوتُ الباب حرّك كفه بهدوءٍ ليطبـقه بهدوءٍ أكبر، ومن ثمّ نزع نظّارته ليطوي ساقيها وتلتفُّ ساقـا الخوفِ على قلبها .. وضعـه جانبًا، ومن ثمّ أدار رأسه نحوها لتظهـر ملامحه الجامدة لها، وبهدوءٍ أربكها أكثر : قفلي الباب.
دون أن تلتفتَ مدّت يدها للخلفِ لتدفعه وتتركـه يُغلـق بذاته، تنهّد يوسف بعمق وهو ينظُر للأسفل لوهلـة، ومن ثمّ رفـع عينيه إليها ، لافظًا بخيبة غزَت ملامحه : كنت ما أتوقع منك أي شيء ، شلون هالغلط بالذات؟
ابتلعَت ريقها، وانخفضَت أحداقها رغمًا عنها للأسفـل وجملته ترجمها الخيبـة والخذلانُ منها بصورةٍ جعلتها تخجـل، لم تستطِع النظـر لوجهه، إلا أنها استطاعَت بخفوتٍ أن تلفظَ مبرّرةً تبريرًا ضعيفًا أمامه : ما كنت متعمدة أطلع له .. ما كنت أدري إنه موجود أصلًا.
يوسف يعقدُ حاجبيه بحدّة : أدري إنّك ما تعمدتِ تطلعين له .. بس تعمدتِ تظلين واقفة قدامه . . ما خجلتِ من نفسك قدام ربك؟ لأننا في النهاية ما تهمك نظرتنا ، طيب ربّك ما يهمك إنه يشوفك؟
جيعان تبتلعُ ريقها وهي تُشتت عينيها على خطوطِ الرخـام وتقاسِيم الأرضيّة المُكرّرة ، لا ترى أبعد من الأرض وصوتها المُتعثّر يلفُظ بنبرةٍ مُحرَجة : يبه ترى ما قربت منه ولا سويت يعني ذنب كبير ، كنت بعيدة عنه و . . .
يوسف يقاطعها بصوتٍ غاضب : استحي على وجهك وبطّلي هالتبريرات ، لا تخليني أنصدم فيك أكثر قولي إيه غلطانة والسلام! ، بس تبررين وتقولين ذنب صغير! في النهاية تراه ماهو زوجك، انتبهي لهالنقطة ، فواز ماهو زوجك عشان توقفين قدامه وتحكين معه بدون ضرورة !!
أطبقَت شفاهها ولم تستطِع أن تُضيفَ شيئًا على حديثِه، شعرت بحرجها يتصاعـد منه كما وجعٌ تسلّل في حجراتِ قلبها، ارتفعَت كفّها لتعانـق عضد يدها الأخـرى، بينما تنهّد يوسف وهو يرفـع كفّه ليضعها على رأسِه ، لا يدرِي كيف يترجـم غضبه منها ويَجعلها تستوعبُ حجمَ ذنبها ، لا يريد أن يتعامـل معها بطريقةٍ تؤذي نفسيّتها السيئة ، وفي ذات اللحظـة لا يريد أن يتهـاون وتكرّر ما فعلت.
لفظَ بغضبٍ دون أن يُحيد بنظراته عنها بسؤال أربكَها : قد سويتها من قبل ووقفتِ تكلمينه؟
قفزَت إلى عقلها ذكـرى وقوفها معه أمام المطعـم حين كانت تراقبُ والدها، لكنّها لم تذهب إليه بنفسها بل هو من تبعها بعد أن رآها! زمّت شفتيها بربكـة، وذكرى أخـرى تقفزُ من مركزِ ذاكرتها، حين وقفَت معه في إحدى الليـالي وقبل أن تنتهي من عدّتها، حين نزفَت بطريقةٍ أخـرى ، ورأت في عينيه عدم المبـالاةِ بالغيـاب وبالبُعد.
كانت تريد أن تكذِب، لذا أسقطَت عينيها عليه في سرعةٍ خاطفة لتشتّت أحداقها عنه مباشـرة، وبخفوت : لا.
يوسف لم يُرِد تكذيبها، أراد فعلًا أن تكون صادقـة، لكنّه وببساطـةٍ قرأها ! . . أغمضَ عينيه وهو يتنهّد دون تصديق، يضغطُ بكفّه على رأسه مستشعرًا صداعًا بدأ يتسلّل إليه، وبنبرةٍ خافتـةٍ غاضبة غيرَ مستوعبةٍ للحدّ الذي وصلَت إليه : تكذبين علي !!!
تصلّبت ملامحـها وهذه المرّة شعرت بالخوفِ وليس فقط الحرج منه، رفعَت وجهها بسرعة وهي تلفظ : يبـه . .
يوسف يقاطعها بحدةٍ وهو يقف : تتمنين ترجعين له؟
صُدمَت بسؤاله الذي باغتها به، اتّسعت عينـاها بصدمـةٍ وهي ترفَعهما إليه، والإجابـة تشتّت في عقلِها، تتمنى أن تعود إليه؟ تدرك أنّ الإجابـة " لا "، لكن لمَ ضاعت؟ لمَ تشعر أنها ضاعَت عن صوتِها، عن لسانها الذي تشنّج في إجابةٍ ضائعة ، وشفاهها تنفرج، تنتظِر أن تنطـلق تلك الكلمة من بينهما، دون أن تنطلق!
أردف يوسف بغضب : قبل لا يطلقك بملء إرداته كنتِ طالبة الطلاق بنفسك وبكامـل اقتناعك ورافضته ، وش اللي اختلف بعد ما صار الطلاق؟
شحبَ وجهها ، انسحَبت الدمـاء من عروقِ وجهها وظهر جلدها أبيضًا باصفرارْ، تعلّقت نظـراتها بملامِحه ، لا شيء اختلَف ، وهي لا تريد أن تعودَ إليه بحجمِ ما تريد أن يبقـى يعيشها ، أن يبقـى دون غيرها وإن اقتربَت منه سواها . . لمَ تقرن ذلك بـ " العودة "؟ لم لا تجدُ مصطلحًا آخر غير أن تصيّرهُ وطنًا كمـا كان، وهل بقيَ كذلك؟ هل بقيَ كذلك لتسمّيها " عودةً إليه "؟!
لحَظ يوسف شحوبَ وجهها وبهوتها أمام سؤاله ، حينها أغمـض عينيه وهو يمسـح على وجههِ بكفّه ، وبنبرةٍ هدأت إلا أن الغضب لم يرتحـل عنها : تقدرين تطلعين ، مو عارف شلون أتصرف معك مو عارف أبد! ، * أردفَ وهو ينظُر لها بخذلان * لا تصدميني فيك أكثر!
لم تكُن تستطيع أن تتحرّك ، تشعر أنّ أقدامها صارت هلاميّةً حدّ أنها حملتها بقوّةٍ خارقـة إلا أن التحرّك بها كـان صعبًا ، لكنّها دون أن تعلـم كيف ذلك . . تحرّكت.
وضعَت كفّها على المقبـض، وانسـاب من برودتِه رعشةٌ ملأت عظامـها ، ما الذي كـانهُ فيها وبقيَ حتى هذهِ اللحظة؟ ما الذي يجعلـها لا تريد نسيانه، وتكذِب ، تكذِب بطريقةٍ تُثير الشفقة عليها وإن صدّقها ، تُثير الشفقة في عينيها، تقُول أمامه أنّها لا تمانـع بالبدايات ، وأنّ الحسنـات يُذهبنَ السيئات ، إن كـانت السيئةُ فراقك والحسنـاتُ لقيـاك فكيفَ تُمحَى ذنوبي؟ كيفَ أزاحمـك بالحسناتِ وأنت حسناتِي في الحُب؟ لم يكُن الذنب أنتَ بل كـان افتراقنا ، كـان الأخير بيننا " ذنبٌ " كيفَ يُمحـى ونحنُ نمارسه ونقدّسه بطريقةٍ حمقـاء حتى هذهِ اللحظة! نقدّسه بخوضنا فيه، بمضاعفتِه حتى مـالت كفّته عن حسناتِك.
كيفَ تُمحى السيئـات بحسناتٍ وآخر ما كـان قبل احتضارنا - سيئة -.
،
العـاشرة وبضعُ ذراتٍ من العبَث، كـان يكمُن في سكونِه وحسب ، لم يستطِع أن يسترخِي كمـا يجب، تعبثُ بمزاجِه أمواجُ الاضطراب ، يتنهّد وهو يسندُ مرفقيهِ على طاولـة المكتَب ، يُغطّي بكفيه أنفـه وفمه، ويضغطُ بسبّابتيهِ ما بينَ عينيهِ وهو يُغمـضهما ويزفُر هذهِ المرّة برويّة ، يفتـح عينيه لتظهـر نظرتهُ المُنتشـر فيها ظلامٌ أزلـيٌّ لا يدري من أيـن بدأ، ربّما أبديّ ، لا يدري كيفَ سينتهِي !
فتـح عينيه، يُشتّت أفكـاره عن عقله أكثـر ، أفكاره التي تذهبُ إليها زاويـةً من إحدى زوايـا غرفةٍ يعيشُ فيها وتمارسُ الضغطَ عليه ، زاويـةٌ هي إحداها ، ومن قبلها سلمـان ، الآن عناد ، ومن قبله أيضًا أحمـد ، يعيشُ في هذهِ اللحظـة انفعالاتٍ ستقتلـه ، يعُود لاسترجـاع الحقيقةِ ويجدَ جزءً منه لا يريد التصـديق ، لا يريد ! أن يكُون خلال كلّ تلك الأشهـر يرى امرأةً ساقطة! يجلسُ معها ، يُمسك بها ، ويواسيها بعنـاق ، يقبّلها قبلاتٍ تقول بأنّ جسدها كـان طاهرًا، وأنّه يومًا لم يكُن لسواه طوعًا ، كـان يعتبـرها عذراء، نقيّة ، والآن باتَ حين يراها يشعُر أنّه ينظُر لشيطان ، يراها بعينِ رجلٍ ألقيَ عليهِ سحرٌ يُظهر - زوجته - قبيحةً في عينيه لا يستطِيع النظر إليها!
شدّ على أسنانه، يدهُ في لحظةٍ مـا كـانت قد تناولَت إحدى الأقـلام على الطاولة، شدّ عليها بين أنامله، ونظراتهُ تقسو بعتمتها أكثـر ، سيعلم كلّ شيء ، يجب أن يعلـم عن مغامراتِها السابقة التي قامـرت فيها بجسدِها ، كم رجلًا تملّكها؟ كم رجلًا نظرت إليه بفجورٍ لا يدري كيفَ يسكُن تلك الملامـح وتلك العينين! متى ابتدأت ، ومتى انتهت !!
زمّ شفتيه بغضب، زفـر وهو يُسدل أجفانه بانفعـال ، ينتفـخ صدره بأكسجينٍ حـارٍ يشتعلُ بزفيرهِ الذي يلقيه ملتهبًا فينقـل ذرّاتِ حرارته من حولِه ، يعُود ليفتـح عينيه، ومن ثمّ يمرّر طرف لسانه على شفاهه ، بينما أصابعه تترك القلم ليسقطَ على المكتبِ محدثًا صوتًا صغيرًا عبَث بالسكون أكثر.
نظر لهاتِفه بملامـح قاسية، ومن ثمّ مدّ يدهُ مقرّرًا البدء بالخطوة المهمّة الآن . .
اتّصـل على الرقـم المُدرج في ورقةِ الملاحظـاتِ على سطحِ المكتب، انتظـر قليلًا والرنينُ يتواتـر في مسامِعه ويضجُّ بالمزيدِ من الضحيج ، جـاءه الرد ، حينها ابتسم ابتسامةً باردةً ودائمًا تلك الابتسامـات الباردة تعبّر عن اشتعالاتٍ أرمدتْ دواخلنـا ، دائمًا تلك الابتسامـات التي لا دفء فيها ، تعنِي أنّنا نشتعل!
لفظَ بهدوءٍ رزين : السلام عليكم ، أبو ابراهيم؟ . . . عظّم الله أجركم في فقيدكم الله يرحمه ويغفر له . . . . معك سلطان النامي . . أيه كان يشتغل عندي من قبل . . . معليش نخلي هالمواضيع القديمة على جنب؟ الاشكاليات القديمة مالها معنى بهالوقت ، ودي أحكي معك بموضوع لو يسمح لك وقتك.
،
انقضـى وقتُ الغداء، ونهضَ أدهم ليتّجه ناحية المغاسِل في اللحظةِ التي كانت فيها إلين تضـع ملعقتها وتحمدُ الله وقد انتهت من طعامِها ، ابتسمَت سُهى برقّةٍ وهي تنظُر لها ، وبهدوءٍ تسبق لحظة وقوفها : ما سألتك عن امتحانِك.
رفعَت إلين أحداقها لتبتسمَ لها ابتسامةً تُماثلها في الهدوءِ والرقة ، وبخفوت : كويس الحمدلله.
سهى : ما نبي أقل من A+ تمام؟
إلين بابتسامةٍ خجولةٍ بعض الشيء : إن شاء الله ،
وقفَت سهى بهدوء، بينما مرّرت إلين لسانها على شفتيها وهي تفقدُ بسمتها ، وقفَت بالمقابـل وهي تنظُر لها بتردّد، لمَ تتردّد وكأنها مُخطئةٌ في معمعةِ الربكةِ هذِه؟ ، تنحنحَت بحرجٍ ومن ثمّ هتفت بصوتٍ هادئٍ تُسـابق ابتعادها : ممكن أطلب منك شيء بسيط؟
استدارَت سُهى إليها وهي تعقدُ حاجبيها باستغراب ، لكنّها لم تفقد بسمتها وهي تلفظُ برقّة : تفضلي حبيبتي.
إلين التي لم تكُن تستطِيع أن تحتمـل أكثر ، تحتمـل ولوجَ " نجلاء " في الحدِيث ، انكسابُ تلك الأحرفُ في مناداةٍ مستفزّةٍ لها وحديثٌ يخصّها ، هتفت بصوتٍ متّزن : أبيك تناديني إلين مو نجـلاء ، أحب اسمي هذا أكثر،
في البداية عقدت سُهى حاجبيها قليلًا باستغراب، ارتبكَت إلين قليلًا وهي تُشتّت أحداقها عن عينيها خشيـةً من أسئلةٍ واستفساراتٍ قد تجعلهـا تثور ، لكنّ سهى في النهاية ابتسمَت، أومأت بتفهّمٍ ومن ثمّ لفظَت بنبرةٍ هادئة : بحاول أتعود عليه.
ابتسمَت لها إلين ابتسامةً صغيرةً قبـل أن تتحرّك سهـى من أمامـها وتبتعد ، حينها تنهّدت بعمقٍ وهي تُغمـض عينيها، تقفُ على أرضٍ تقشعرُّ من أسفلـها وتشعرُ أنها تموجُ من فوقها ، كـان حضورهُ هو سبب ذلك الشعور ، ليسَ جسدها فقط من يقشعرُّ لحضوره حتى الأرض التي تقفُ عليها.
فتحَت عينيها بهدوءٍ كـاذب، من خلفِه أعاصيرُ تئِدُها، لا تُظهرها في أحداقها التي اتّجهت للنظـر إليه بجمودٍ بـارد.
لم يقِف أدهم وهو يتجاوزُها ويتحرّك مبتعدًا، لم تنتبه حتى إن كـان نظر إليها أم لا، وصوتُه جاء بعد ابتعادِه آمرًا بحزمٍ ونبرةٍ هادئة : تعالي وراي.
ومن ثمّ ابتعَد دون أن ينتظـر ردّها ، ارتفـعت حواجِبها باستنكار ، واعتلَت على ملامِحها تكشيرةُ استهجانٍ من أمرهِ المتسلّط هذا وهي تُتمتمُ من بين أسنانِها بغيظ : نعم !!!
من يظنُّ نفسه؟ حسنًا هي الغبيـة التي أهدتـه حق التسلط بهذِه البجاحـة عليها . . تنفّست بقوّةٍ وعُمقٍ وهي تومئ رأسها بتوعّد ، لا تدري ما الذي تستطِيع فعله له، لكنّها من غيظها كانت تتوعّده بأمرٍ لا تدري ماهو وربّما لن تجدهُ حتى! تحرّكت بحنقٍ وهي تشتمهُ في داخِلها، لن تتبعه ، من يظنُّ نفسه ليأمرها بتلك الطريقة؟ . . اتّجهت نحو المغاسـل كي تغسِل يدها، في اللحظة التي كانت فيها سُهى تتحرّك أمامها وهي تبتسم : بشيل الصحون أنا هالمرة.
إلين : شدعوى أنا جاية الحين.
فتحَت المـاء لينسكِب بصوتِه على كفيها ومسامِعها، غسَلت كفيها سريعًا، ومن ثمّ سحبَت منديلين لتجفّفهما بهما وتتحرّك بعد أن رمتهما في سلّةِ المُهملات، خرجَت لتجدَ سهى قد انتهَت من تنظيفِ طاولـة الطعام، حينها تنهّدت واتّجهَت مباشـرةً للمطبَخ، وما إن دخلت حتى لفظَت بامتعاض : تراك ضيفتي تحرجيني كذا.
سـُهى التي كـانت تريد غسل الصحونِ أيضًا. التفتَت برأسها إليها لتبتسمَ وتلفظ : وأنتِ تجرحيني لو تعتبريني ضيفة ، بعتبر نفسي ثقيلة عليكم وقتها لأن الثلاثة الأيام للضيف مرّت.
شعَرت بالحرجِ ما إن انتبهت لما قـالته، بالتأكيد عمـة أدهم والتي عاشَت معهُ هنا قبلها سيكونُ من " قلّة الذوق " أن تُطلقَ عليها مُسمّى ضيفة، تنحنحَت بحرجٍ ومن ثمّ اقتربَت منها لتقفَ بجانبِها وهي تلفظ بحرج : طيب عشاني خليني أغسلها هالمرة ،
سهى تتراجـع قليلًا : إذا ودّك هالشيء أجل أنا بجهز الشـاي.
إلين تستدِير إليها بيأس : يا بنت الحلال والله إن ترتاحين ، كافي الغداء إنتِ اللي مسويته
سهى تضحكُ بنعومةٍ وهي تتّجه للباب : خلاص خلاص ما نزعلك ، بس ترى خاطري بحلى وبسويه بعد ساعة كذا ، ما راح تمنعين إلا لو كنت مثقلة عليك عاد.
خرجَت بعد جملتها تلك لتتنهّد إلين وهي تستدير، ودون أن تفكّر بأدهم وأمـره باتّباعـها له بدأت تنظّف الصحون.
،
في جهةٍ أخـرى ، خرجَت من الغرفة وهي ترفـع شعرها بكفيها وتربطهُ بإحدى خُصلاتِه ، مرّرت أحداقـها بربكـةٍ في الممرّ ، تخشـى تواجـده، في اللحظـةِ ذاتها التي يؤلمـها ابتعادُه ، لا تدري كيفَ تنـام ولو لسويعاتٍ بسيطةٍ تلك الليـالي الراحلـة بعيدًا عنـه، في بيئةِ الجفـاف باحتقـارِه وكرهـه ، كم صـار معدّل كرهها في قلبه؟ ستونَ سيفًا ونيفٌ من السهـامِ يُطلقها إليها، لونينِ من عُتمـةِ الدهرِ وخمسُ شظايا ، تخترقُ الجلدُ دون أن تراها ويكون شعورها بِها كبيرًا.
مرّرت لسانها على شفتيها بضيق، لازالت تعرجُ بشكلٍ بسيط، لكنّ لحظـات العرجِ وصمةٌ على جبينِها بحجـم ما اقترفت ، ليسَت وصمـةَ سقوطٍ منـه ، فمن المُجحِف في حقّه أن تنسـى ما كان عليه سابقًا للحظـاتٍ ولّدت فيها رجُلًا آخر ، بذنبها، وبخداعها وبكلِّ سوءاتِها تجاهه.
تنهّدت وهي تنظُر لبـابِ غرفته، تخشـى أن يكون هنا، لذا تحرّكت نحو الدرج لتنزلَ وتبحثَ عن سالِي لتسألها عنه، وما إن وجدتها ومعها " قطّتها " التي ما عادتْ تمكثُ معها طويلًا وترعاها عنها سالِي حتى ابتسمَت ببهوتٍ وهي تهتف : سالِي.
نظرت لها سالِي وهي تعقدُ حاجبيها لترخيهما تلقائيًا مع ابتسامةً هادئةٍ في حين تحرّكت القطّة مباشرةً متّجهةً لغزل : نعم.
وجّهت غزل نظراتها للأسفل، تستشعِرُ ملمـس شعيراتِها وهي تتلوّى بين ساقيها وتتغنّجُ بالتمرّغ في بشرتِها العاريةِ من أسفل تنوّرتها القصيرة ، ابتسمَت ، فقط ابتساماتُها الفاتـرة التي تعبّر عن كونِها " لا تجيد التعبير "، رفعَت عينيها إلى سالي، ومن ثمّ غابَت بسمتُها ، لتسألها بصوتٍ باهتٍ لا لـون له : سلطان موجود؟
عقدَت سالي حاجبيها، إلا أنها أجابَت بأنْ هزّت رأسها بالنفي دون صوت ، حينها أردفت غزل بنبرتها تلك ذاتها : ما رجع من الصبح !
قطّبت جبينها بعد جوابِ سالي الذي كان " لا "، ومن ثمّ مررت طرف لسانها على شفتيها لترطّب جفافهما ، أومأت ، لا تدري معنى تلك الايماءة ، لكنّها فقط أومأت ومن ثمّ تحركت مبتعدةً وصوتُ مواءِ قطّتها يصِل لمسامِعها.
صعدَت من جديد ، لم تتّجه لغرفتـها الحاليـة، وقفَت أمام بابِ غرفته/غرفتهما السابقة، ومن ثمّ تنفّست بعمق، تريد أن تأخذ بعضًا من أغراضها التي لم تأخذها معها ، هذا كـان عذرها ، وكـانت في اللحظة ذاتها تستطِيع أن تطلب من سالِي ذلك ، لكنّها أرادَت لجدرانٍ احتوَت لحظاتٍ سابقةٍ معه أن تحتوِيها الآن، أرادَت لرائحتـه أن تتغلغل رئتيها، أرادَت أن تكبّل شيئًا يخصّه في صدرِها قبل أن تعودَ لوكـر الوحدة.
فتحَت الباب، وابتسمَت بحنينٍ وهي تدخُل ، خطَت خطوتينِ فقط، لتتوّقف أقدامها وهي تُغمـض عينيها ورائحته كـان زخمها حاضرًا بقوّة ، ليسَت مجرّد رائحـةٍ تلك التي تُسـافر بنا بينَ شخوصِ السكينةِ وأحداثٍ من حربٍ قائمـةٍ على الضيق، تبترُ ساقيه ، وتُشفيها من أمراضٍ باغتتها في ليـالي ، ومعها نهاراتٌ حارّة ، بعضُ الروائحُ تكون دواءً من الحُزن حين تتعلّق بمَن نُحب.
تنفّست بحشرجة، ومن ثمّ قبضَت كفيها وهي تتحرّك ، البابُ المفتوحُ وقفَ من خلفِه سلطان، كـان قد استنكـر حين وجدهُ مفتوحًا ، رفـع حاجبه بعد أن اصتدمَت عينـاه بظهرها، والحدةُ في ملامِحه تضاعَفت فوق حالِها قبل أن يراها، إن كان التفكيـر بِها يؤجّجُ فيهِ اشتعالاتٍ فكيفَ برؤيتها أمامه؟ تجمّدت ملامحـه بنمطِ الازدراءِ والاحتقـار، ليصخَب صوته فجأةً من خلفِها بغضبٍ حادٍ جعلها ترتعدُ للحظةٍ بصدمةٍ من حضوره : وش قاعدة تسوين هنا؟
اتّسعت عيناها بصدمـة، وتصلّب جسدها أمامه ، ظهرها شعرَت ببرودةٍ سلّت عمودهُ الفقري، رعشـةٌ عبَرت في أطرافها، وفي اللحظـة ذاتها ألـمٌ لازال يسكُن بمرارتِه حُنجرتها ، أن تخشـاه، ويكون حضوره بوقعٍ مُرعبٍ بدل الاطمئنـان ، يُحزنها أن تنقلـب آياتُ الحنـانِ في صوتِه وملامِحه والتماعِ عينيه إلى أحاديثَ من الغضبِ والقسوة! يُحزنها هذا الانقـلاب الذي تسبّبت بِه ، والذي لا تدري حتى الآن ما مقـداره ، لازالت ترى تقاسيـم الكَبتِ فيه ، لم ينفجـر بالكامـل ، تخشى تلك الحقيقة! انفجارهُ يعنِي أن يحلَّ بقسوتِه عليها كلّ يوم، لكنّه كـان فقط يكرهُ الالتقـاء بها، لم يصِل للمرحلـة التي تجعله يريد أن يراها ، فقط ليوجعها!
ابتلعَت ريقها بربكـة، بينما تحرّك سلطان بخطواتٍ وقعُها كطبول الحربِ التي كان في أحزابها فرسانٌ وهي طرفٌ مُفردٌ لا سـلاح له ، بل كـانت مجرّد عـلمِ الاستسلام ، بيضـاءَ بكذب، ترمُز للضعف، والانهزامِ بطريقةٍ سريعة !
لفظَ سلطان بجفافٍ حاد، لم يكُن لينتظر خروجها، شـرع بخلعِ ثوبِه وهو ينطقُ بعجلةٍ آمرة : اطلعـي الحين ، لا تمر ثانية زيادة وأنتِ قدامي ، وبوقت ثاني بشوف وش شغلك اللي خلاك تدخلين هالغرفة.
عضّت طرف شفتها، وبشكلٍ تلقائيٍّ رفعَت وجهها ، لم تُرِد الانصيـاع الآن بقدر ما جـال في لسانها تبريرها الكاذب " بغيت كم غرضْ لي " لكنّ تبريرها ذاكَ بُتـر ، تقاطعَت أفكارها بشهقةٍ صاخبـةٍ مصدومةٍ وهي تراهُ قد جلسَ على السريرِ وكفيه تخلعانِ قميصـه الداخليّ الملطّخ بالدم ، تمامـًا كثوبهِ المرميّ على الأرض.
،
تبسّمت شفاهُه بهدوء، بعضٌ من القلقِ يجيءُ في صومعةِ هذا السكون أو الهدوءِ ما قبـل الضجيج ، يدرك أنّه هذهِ المرة لم يطلُب لقاءه لمجرّد اللقـاء ، كان طلبهُ مغلّفًا بأحـاديثَ كثيرة ، ربّما لن تعجبه !
هتفَ بنبرةٍ هادئـة لا تُفصـح عن توجّسه : وش كنت تبي تقول؟
متعب ينظُر إليه بملامِح تزورُها أحاديثُ مسـاءٍ متكدّرة! عقدَ حاجبيه عقدةً شائكـة، ومن ثمّ هتفَ بخفوت : بعد كل هالوقت وبعد كل اللي صار ، تدري وش اللي تغيّر بالضبط؟
تجعّدت ملامـح شاهين دون فهم، بارتيـابٍ على الوجـه الصحيح، مرّر طرف لسانهِ على شفتهِ السُفلى ، كالعـادةِ يحتضنهما مطعمٌ أو مقهـى على ضفافِ الاختفاء، أو يجلسان في سيارةِ شاهين ويتحدّثان كمـا الآن . . هتفَ بسؤالٍ حائر : وش تقصد؟
متعب يبتسمُ دون تعبير ، أشـاح عينيه عنه لينظُر للأمـام، ومن ثمّ هتفَ بصوتٍ هادئٍ هدوءَ الموت! : أقصد اللي تغير بعد هالوقت ، وبعد ما دخـل بقلبي حقد تجاهك ، بعد ما تزوجتها وبعد كل شيء! . . تشوف إنّ فيه شيء بيننا تغيّر؟
أجفلَت ملامحـه ، رغـم أنّه تنبّأ بهذا المعنـى إلا أنّه حين لفظها شعـر بأنّها أنيـابٌ تنهشُ من لحمِ هدوئِه/استقرارِ حواسّه . .
عضّ باطِن خدّه ، وجمّد الكثيـر من إدراكـه أمام جوابٍ واحدٍ يُدرك أنّ الخطأ يهزّه مهما حـاول إقنـاع ذاته ، وكـانت إجابته الأخيرة صادرَة من نبرةٍ حادةٍ واثقة : لا.
أغمَض متعب عينيهِ وابتسامته تتحوّر لأخرى ، لم تنكمـش، ولم تتّسع أيضًا ، لكنّ روحها اختلفَت ، وظهرت بحلّةٍ أخـرى لم يفهمها شاهين . .
متعب بنبرةٍ كـان فيها لذعةً ما ، لذعةً لربما ساخرة! : تقدر تثبت لي؟
تباطأت نبضـات قلبه قليلًا، بشعورٍ متوجّسٍ وملامحه يطغى عليها التساؤل والحذر : أثبت !! لحظة ممكن أفهم بس وش مناسبة هالكلام؟ اتفقنا نقفـل هالموضوع ونحاول ننساه !
متعب يوجّه وجهه إليه، احتدّت نظراته بقسوةٍ مفاجئةٍ وصرامـة وهو يلفظُ بغضب : ما عاد ودّي أحـاول ! إذا هذا أسلوب المحاولة فما أبيه !
صُعق من انفجارِه المفاجئ ، تنفّس بعمقٍ حادٍّ وملامحه تتقلّبُ بتموجـاتِ انفعالاتِه التي سيطر عليها وهو يهتف بنبرةٍ لازالت هادئة : أي أسلوب؟
متعب بحنق : أنت على بالك إن أسلوب النسيان ذا لازم يكون بالطـلاق؟
اتّسعت عينـاه قليلًا بصدمة، لم يستوعبْ لوهلـةٍ أنّ أسيـل طرأت بهذهِ الطريقة في صخبِ هذا الحديث، اضطربَت عضلاتُ وجهه ، جعّد جبينه بحدةٍ وهو يهتفُ من بين أسنانهِ بغضبٍ ماثلـه فيه : متعب !
متعب يرفـع حاجبهُ بحدّة : تبي الإجابة الصح؟ وبدون ما نكذب على نفوسنا يا شاهين . . أنا وأنت صار بيننا حاجز ، بنكذب لو نقول إنّه بعد كل اللي صـار مافيه شيء اختلف! لا ، تدري ومعترف بداخلك إن فيه شيء اختلف وفيه حاحز بيننا ما راح ينهدم بمجرد طلاقك ! فيه حاجز ما راح يهدمه أي شيء ممكن نسويه أنا وأنت . . تجاهلنا لهالموضوع ما ينفيه.
ارتفـع صدرهُ بشهيقٍ حـادٍ ليزفُر بحرارةٍ هواءً تحمّل بثانِي أوكسيدِ الغضب ، لازال يكذبُ على نفسِه رغم إدراكه مهما كذب ، لذا شدّ على أسنانه بعصبيةٍ بالغـة ، نظر لهُ بنفور من تلك الفكرة ، في أحداقِه اشتعل قهرٌ من كـل شيء! القهرُ الذي يكبتهُ والانفعالاتُ التي يخفيها ، الضغطُ الذي يمارسـه بصمتٍ على نفسِه ويتصنّع أن كل شيء " لا بأس بِه "! كل شيءٍ سهـل وسيُحلُّ ببساطة! : أنت بروحك اللي بنيت هالحاجـز ، أنت المريض اللي بعدْ تصديقك لكذبة فيني وبعد حقدك قاعـد تبني هالحاجـز بس عشان زواجي !
متعبْ يبتسمُ ابتسامةً لا معنـى لها : ما راح أكرّر كلامي لأنّي أدري إنك مستوعبه وحاس فيه . . بس حابْ أقولك شيء بسيط ممكن يخليك تبدّل قراراتك ، الحـاجز اللي بيننا ما راح يروح سواءً طلّقتها أو لا .. النتيجة نفسها، والطلاق مو حـل ، كل اللي صـار بيننا واللي بقى بتحلّه السنين .. لو ما طلقتها بينحـل بعد أيام ونتناساها بعد ما نتجاوزه . . طلاقك ما راح يأثّر بشيء ، لا !، بيأثر ، بيخليني أحتقرك ! بس لو كملت معها صدقني بينحل كل شيء مع الأيام . . ليه تذنب بحقها واللي تسويه ماهو حل أصلًا؟
هذهِ المرّة ابتسمَ بسخريةٍ وهو يصدُّ عنه، يشعُر بالاختنـاق وهو ينظُر للأمام، أصابعه تطرقُ بعبثِ اللحظاتِ على المقود ، يعضُّ شفته أخيرًا والكلماتُ تتكوّن في حنجرته دون أن يستوعب وقعها بعد أن يلفظها : احتقرني . . كنت من قبل محتقرني وحاقد علي وكارهني بدون سبب وما أثر فيني ، بيزعلني يعني إنك تحتقر لسبب؟
متعب بنبرةٍ تسترخِي بهدوئها : كمّل . . أبيك تحاسبني أكثر.
شاهين ينظُر نحوه بضيق : ما أحاسبك ، أنا بس أوضّح لك إنه احتقر بكيفك ، ما يهمني ولا بيغيّر قراري.
ابتسمَ متعب بشرودٍ مُفاجئ ، كلمـةٌ وحيدةٌ ارتحلَت إليه ، كلمـةٌ فاترةٌ لا تحمـل سوى تعاميمِ الأسى : كرهتك!
تصلّبت عضلاتُ وجهه ، إلا أنّ بسمته تلك بقيَت ، بقيَت متصلّبةً لم تتبدّل . . أومأ بصمت، بينما أردف متعب بنبرتِه الهادئة ذاتها والتي تحمُل من خلفها عواصِف من رمـالٍ رماديّة : كنت أكرهك وبنفس الوقت ما أكرهك . . باللحظة وحدة أحس بمليون شعور! أحقد عليك ووصل فيني أدعي تخيل ! مرات كنت أستغفر ومرات لا ، أقول يستاهل! . . تلومني؟
شاهين بخفوتٍ يريده أن يُتابع ويسردَ حياتهُ هناك والتي رفضَ أن يقولها لهُ قبلًا : مقدر.
متعب : أنا ألومنِي ، وأنا عنّك، منّك ، وهذا أكثر شيء يقهرني بهاللحظة !
سكَن الغضبُ الذي كـان في صدرِه ، كل الانفعالاتِ سافـرت عن أحاسيسِه وهو يقرأ من تعبيرهِ ذاك كلّ الخيبـة التي جالت في صدرِه من نفسه التي حقدَت على نفسه !! . . لم ينبس ببنت شفة ، أراده أن يتحدّث أكثر ، أن يُتابع، لكنّه لم يتابع! بل صمت ونظر للأمام بسكون ، طـال الصمت لثوانٍ طويلة ، حينها وجد شاهين نفسه مرغمًا على النُطق بخفوت : كمّل !
ابتسمَ متعب وهو يُدير رأسه إليه : لا تحاول ، انتهت السالفة.
شاهين يتنهّد بيأس : جايبني عشان هالموضوع؟
متعب بنبرةٍ صارمة : لا تتعـامل مع الموضوع بهالاستخفاف! إذا لي خاطر عندك ، ولو شوي ، لا تطلقها وكمّل حياتك ، صدّقني ما راح يبدّل بالموضوع شيء ولا بيخلينا ننسى! وإذا عن نفسك وعن تقبّلك فالموضوع نفس هالحواحز اللي بيننا ، مع الأيـام بنتجاوز ويمشي كل شيء كأنه صار بس ما أثّر فينا !
شاهين يصدُّ عنه بضيق ، يعقدُ حاجبيه وينظُر عبر النافـذة لمجموعةِ مراهقينَ وقفوا على الرصيفِ أمامه يحتدمُ بينهم نقاشٌ صاخُب ، طـالت الثوانِي دقائق وشاهين يراقبهم بصمتٍ بينما أعاد متعب ظهرهُ للخلفِ وصمت يتابعه ، يغيبُ في صومعةِ تفكيره ، وفي اللحظةِ ذاتها ، لا يريد التفكير !
،
في قصيدتي قافيـة ، لا تُجيد الا الانكسـار على كلماتِ العتـاب، في قصيدتي وزنٌ انشطـر ، وتعبيرٌ باهِت ، وأطلالٌ تبكِي بعد أن طفـح من دمعِي الكثير ولم تستطِع حمله . . في قصيدتِي أقصوصـةٌ بلاغية ، والتحـام ، ومغيبٌ يسافـر فوق سفينـة الشروقِ ويهزمه بثقلِه . .
أسدلَت خمـارَ الانطفاءِ في شاشـة هاتِفها وهي تضعهُ جانبًا ، كـانت تقرأ نصوصًا نثريةً استوقفتها الأخيرةُ في صورةِ قصيدةٍ مكسورة تحكِيها .. رفعَت وجهها الهادئ ببطء لتنظُر لام سيف التي كانت تُحاكيها ، ابتسمَت ، لم تكُن تدري فعليًا ما قالت لكنّها ابتسمَت ، هل عقلها بالفعـل مسافرٌ إليه قلقًا؟ منذُ استيقظَ في الصباح بل منذ البارحـةِ وهو مزاجـه سيءٌ لأجل ابنه.
ام سيف بتساؤل : ما قالّك سيف متى بيرجع اليوم؟
ديما : ما قـال ، بس أتوقع بيتأخر ، هو حاليًا مع زياد.
ام سيف بعبُوس : الله لا يفجعنا بس.
سمعا صوتَ البابِ الذي فُتِح ، استدارتـا ليظهر لهما سيف الذي دخـل وهو يضعُ شماغه على كتفِه وشعره الفوضويِّ يُظهر عبثَ كفيه اللتينِ مسّدتا الصداع فيه ، ألقـى السلام بصوتٍ هادئ ، ومن ثمّ اقتربَ منهما وهو يسمع صوتيهما في ردٍّ خافتٍ " وعليكم السلام ".
جلسَ بجانِب ديما ، بينما لفظَت امه بقلقٍ مستفسرة : شلونه؟
سيف بإجابةٍ موجزة : إن شاء الله خير.
ام سيف باحباط : إن شاء الله.
وجّهت ديما نظراتها إليه ، تصلّبت ملامِحها ما إن رأت عيناهُ تتغلغلُ عينيها في نظراتٍ غريبـةٍ ومُرهقةٍ كملامِحه ، ارتبكَت ، لكنّها لم تُحِد بأحداقها عنه ، بقيَت تنظُر لها ، يُرسل عبر عينيه كلمـاتٍ إليها ، ربّما يريد الشكوى أو أن يفرّغ مافي صدرِه بكلمـاتٍ ويرى أنّ جمودها حاجز ! لا تدري ، لكنّها شعرت بِه يريد قول شيءٍ ما!
زفـر سيف زفرةً عميقة ، ومن ثمّ وبشكلٍ لا مبـالي بمكانِهما مـال برأسهِ نحوها ، وضعهُ على حُجرها واستلقَى نصفَ استلقاءٍ على المساحة الفارغةِ في الأريكة ، أجفلتْ ديما بصدمة ، واحمرّت ملامحها وهي تفغرُ شفتيها بينما سيف يهتفُ بصوتٍ خافتٍ مبحوحٍ وهو يغمض عينيه : راسي يعورني.
ابتلعَت ريقها ، وعينيها ارتفعتا بحرجٍ إلى امه التي وقفَت بقلقٍ وهي تلفُظ : أجيب لك شيء تشربه !
ديما بارتباكٍ تحاول أن تتحرّك من أسفله : لا خالتي أنا برو . . .
قاطعتها امه بحزم : لا ! ما تشوفينه واضح يبيك جنبه ، أنا بروح اجيب له أي شيء يشربه ومعه حبوب لراسه.
اومأتْ باختنـاقٍ من حرجها، بينما ابتعدَت امه عنهما ، حينها ابتسمَ سيف ابتسامةً مُشاغبة وهو يهمس : يدينك دواء ، أحب ملمسها براسي.
عقدَت ديما حاجبيها بغضبٍ منه ، وبخفوتٍ حاد : ما تستحي؟
سيف بتجاهلُ الاجابة عليها : راسي يعورني.
.
.
.
يُتبع بالجزئية الأخرى . .
،
|