كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
بهتَت في عقله الاستداركُ وهو يتلفّت يمنةً ويُسرة وقد فقدَ سرعة استيعابه وما الذي يجب أن يفعله الآن، أنفاسه تسارعت بانفعال، بينما كانت غادة تحاول الوقوف فلا تستطيع من جرحِها العميق في فخذها، فهي حين كانت تتّجه نحوَ حُسام رأت رجلًا يحادثه، لم ترى ملامحه فهو كـان يُحيط على نصفِ وجههِ السُفلي بوشاحِه، سارعَت في خطواتها بقلق، لكنّ رجلًا ظهرَ أمامها فجاةً جعلها تتوقّف وتتراجع بتلقائيةٍ من ظهوره المفاجئ والذي أرعبها، حاولت أن تتجاوزه بأن تحرّكت للجهةِ اليُمنى لكنّه توقّف أمامها أيضًا بعد أن تحرّك معها، ولم تكد تستوعب شيئًا إلا وشيءٌ حادٌ جـرح فخذها جرحًا غميرًا جعلها تسقطُ على الأرضِ وهي تتأوّه بألـم . . غابَ ذلك الرجُل مباشرة، وحين رفعَت أنظارها نحو المكان الذي كان فيه حسام .. كان قد غاب أيضًا !!
هتفَت تصرخُ في وجه بدر الذي كان لازال يجلسُ أمامها لا يدري ماذا يفعل : رووووح شوفه وين لا يصير له شيء !!
بدر يقف مباشرةً وهو ينظُر لفخذها، وبانفعال : فخذك !!
غادة بألم : مافيه شيء ، ماهو عميق لهالدرجة ولا راح أنزف كثير روووح له بسرعة بدر لا يصير له شيء.
بدر الذي نسيَ اصابتها التي لن تستطيع بها الحركة بسبب توتّره : لا تتحركين، خليك بمكانك بين الناس، وحاولي توقفين نزيف فخذك ..
تحرّك بعد ما قاله ليبحثَ عنه بضياعٍ بعينيه، ركضَ بين الناس ، وتوقّف بعد خطواتٍ ولازال قريبًا من المكان الذي كانوا فيه، لم تحِن الفرصة ليبتعدوا بالتأكيد، إلا إن كانوا قد تحرّكوا في سيارة !! . . وضعَ كفه على فمهِ وهي يُدير عينيه هُنا وهناك بعجز، كيف يجدهم؟ كيف؟
تحرّك من جديدٍ بخطواتٍ واهنـة، ينظُر للمبانِي والمحلاتِ حوله، الفنـادق، والممراتُ بينها، هذهِ المرة خفتت سرعتهُ في المشي وهو يدُور حول نفسِه ناظرًا هنـا وهناك، لكنّه توقّف فجأةً عن الحركةِ حين شعر بكفٍّ أمسكَت بمعطفِه الذي يصلُ إلى ركبتيه، استدارَ تلقائيًا ليرى فتَى صغير يكادُ عمره أن يكُون في العاشرةِ أو أقـل، ذو ملامح بيضاء وشعرٍ ناعمٍ أشقر يتطايرُ حوله مع الهواء .. صدّ عنه بتجاهلٍ وكاد يتحرّك نازعًا كفّه عن ملابسه قسرًا لكنّ الفتـى تحدّث بمـا جعلهُ يتجمّد في مكانه ويرهفُ السمع إليه، بفرنسيةٍ خافتة : هناك رجلٌ قـال لي أن أدعوك إليه وأقول " أخوك معه " ..
استدار بسرعةٍ وهو يوسّع عينيه ليلفظَ بانفعالٍ وصوتٍ حـاد : أين هو؟
تراجعَ الفتى للخلفِ بذعرٍ من صوته الحاد ليرفعَ يدهُ ويشير نحوَ زقـاقٍ كان قريبًا منهم، نظـر بدر حيثُ أشـار، وعضّ شفتهُ بانفعالٍ ودونَ ترددٍ منه تحرّك نحوه وهو يدرك أنّ ذلك فخٌ كي يستدرجوه، لكنّه لن يبالي، لن يتراجع أو يخـاف.
دخـل الزقـاق الطويل بخطواتٍ سريعةٍ راكضة وهو يوجّه يدهُ اليمنى نحوَ جيبِه الخلفيّ حتى يتلمّس سلاحه، أكمل طريقه والظـلام يكادُ يغشى المكان عدا من نورِ النوافذِ الخافتة حوله. وصل للنهاية ليجدَ انعطافًا، يريدون أن يكون في أبعدِ مكانٍ عن العامـة، أكمل طريقه وانعطفَ نحوَ اليمين، وامتدّ بهِ الطريق وخطواته أصبحَت أشدّ حذرًا بعد أن عمّ الظـلام، عينيه كانتا قد اعتادته، لكنّ هذا الاعتيـاد لم يكُن ليكفِي كي يصنع قليلًا الأمـان، تحرّك ببطءٍ بعد أن انتهَى الطريق ووجد أمامه جدارًا أخرسًا، كان قد جهّز سلاحه وبدأ يدور حولهُ بحذر، يستديرُ بسرعةٍ نحو أيّ صوت، هُم هنا ، يدرك ذلك الآن !
لم تكد أفكاره تلك أن تنتهي حتى شعرَ بخطواتٍ سريعةٍ خلفـه، استدارَ بسرعةٍ ليجدَ في الترحيبِ ضربـةً من طرفِ مسدسٍ أصابت وجنتهُ وجرحتها، تراجعَ خطواتٍ للخلفِ وهو يرفعُ مسدسه، لكنّه ركلَ يدهُ بسرعةٍ ليطير سلاحه خلفه، تقدّم بدر بسرعةٍ ولم يبالي بسلاحه وهو لا يرى في الذي أمامه سوى ظلّه في الظلام، استطـاع اختيار المكان المناسب بدقّة.
رفعَ قدمهُ بسرعةٍ ليعرقل وقوفه بأن أدخل ساقه بين ساقيه وحرّكها أفقيًا ليسقط، انخفضَ ليلكمـه وهو يصرخ : أين هو؟ تحدّث أين هو؟!!
ضربَ يدهُ ليُطيّر سلاحه الذي جرحَ بها وجنته، وتداخـل معه في عراكٍ بالأيـادي، ثبّت كتفيه على الأرض ومن ثمّ رفعَ إحدى يديه ليلكمه وهو يضغطُ على بطنهِ بركبتهِ مثبّتًا لهُ أكثر، صارخًا بغضبٍ يكرر سؤاله : أين هو؟!!
شدّ الآخر أسنانهُ والدمـاء تذوّقها في فمه، وبحدة : في الجحيـــــم . .
لم يشعر سوى بلكمةٍ أخرى كـانت في عُنقهِ مباشرةً، لم تكـن قاتلةً بحجمِ ما جعلتهُ يلتوي أسفلهُ وقد كاد يحطّم حنجرته لكنّه برعَ في توجيه القوّة فيها كي يتألّم ولا يموت، كـان بذلك يُعاقبه على ما قال . . شدّ على بطنِه بركبتها أكثر وهو يثبّت كتفيه ويدا ذاك أصبحَتا واهنتين لا تقويان على فعل شيء، هتفَ بدر بحدّة : تكـــلم !!
حاولَ الآخر أن يدفعهُ عنهُ بيديهِ ولم يستطِع، حاول دفعه بجسدهِ ليصبح فوقهُ وبدر أسفله ولم يستطع تحت وطأة بدر القويّة والتي يكادُ بها أن يقطّع أمعاءه . . تأوّه من ضغطه المستمرّ حتى يُجيب، فقدَ مقاومته كلّها ولم يستطِع أن يحرّك جزءً من جسدهِ حتى يداه . . لذا وجدَ نفسه يستسلمُ وهو يهتف بصعوبة : إنّه هنـ ـاك .. لـدى . . .
صمتَ في اللحظـة التي اعتلَت فيها آهةٌ من حنجرةِ بدر، اختـرق بها سكُون المكـانِ وظـلامه .. تراخَت يداه عن كتفيه وهو يشعُر بالدوار سيطـر عليه بعد الضربة القويّة التي هاجَمت مؤخرة رأسه، تركه وتراجعَت كفّه ليضعها مكان الإصابـة لتتبلّل بدمائه، تشوّشت الدنيا في عينيه وتمايلت، وذاك استغلّ الضعف الذي أصابه ليجلس بسرعةٍ ويدفعهُ عنه ليسقط بدر بسهولةٍ على الأرضِ وهو يُقاوم الاغمـاءة التي أصابته، يفتحُ عينيه بصعوبةٍ ويعُود لإغماضِها ، وصوتُ حسـام جاءهُ بعيدًا ينادِيه بنبرةٍ خافتـةٍ خائفة، كـان برفقة الذي ضربه، يناديه بنبرةٍ مستنجدة، لكنّه فقدَ القدرة على الوقوف، على المحاربـة لأجله، أغمضَ عينيه وصوتٌ هامسٌ من خلفهِ هتفَ بنبرةٍ ساخـرة : لا تخفْ يا عزيزي ، هُم لم يهتمّوا بك ، لست سوى أداة ، وجودك هنا هو غرضهم ، يكذبُون عليك بأنّها مُهمتك ويجب عليك أن تنجح ، أنتَ مجرّد طعمٍ يا عزيزي ، لن يضرّهم موتك.
تأوّه وكلماته الباقيـة غابت عنه، واستسـلم لعالـم الظلام الذي سحبـه إليه قسرًا، شفاهُه تتحرّك بوهن ، يُنادي بصوتٍ مُتلاشي اسم حسام قلقًا وخوفًا عليه، اسم غادة ، ويدعُو الله في داخِله أن يحفظهم . .
،
وضعَ المسدّس في حزامِه بضجرٍ وهو يرمُق بندقيّةً كـانت على طـاولةٍ قُربهم .. كـانوا خلفَ ذلك المبنى النائيّ ومعهم سنـد، يتدرّبون في الساحـة الخلفيِة كالعـادة ، العلاقة بين سعد وإبراهيم باتت أسوأ من السيئة، إذ لا تمرّ دقيقتين إلا ودخلوا في خصامٍ إن لم يكُن عراكًا ومن الجيّد أن سند لازال يحاول السيطرة عليهم بشدّةٍ واهية، كثيرًا ما تطوّر الحال بينهما حتى يكاد أحدهما أن يأخذ المسدّس ويمارسَ تدريبهُ على بشريٍّ هذهِ المرّة! حينها لا يتدخّل إلا سالم الذي يضرب كلًّا منهما ويهددهما بالقتل من الجهةِ الأخرى فهو لا يريد أطفالًا ..
اقتربَ إبراهيم من البندقيّة الموضوعةِ على الطاولُة ومن ثمّ حملها وهو يلفُظ بسخرية : ماهو المفروض كنّا نتعلم لذي أوّل وش له نقزنا لهذيك . .
نظَر نحوهُ سعد الذي كان يرتشفُ من قارورةِ الماء ما يروي ظمأه، وبتهكّمٍ ساخـر : واضح إنّهم يبونا نموت ، هي فائدة مؤقتة يا بيبي إذا ما متنا لقُربنا من الخصم أول مرّة بنموت المرة الثانية ويكون أفضل لهم نطوّل بالحيـاة قد ما نقدر.
إبراهيم يردّ بسخرية : ما يضر ، أنت بتموت وأنا بظل عايِش حتى لو كنت مبتدئ بسلاح يتطلّب قُرب . . شرايك نجرّب هذا؟
أشار للبندقـية ليبتسم سعد بحقد : بجرّبها عليك أحتاح جسم متحرّك لازم أطوّر مهاراتي شوي.
إبراهيم بسخرية : أنا أحتاج دقّة أكبر أبي لسـان متحرّك بس وبنهيه من ثرثرته.
سعد : بعيدة عليك.
إبراهيم يُعيد البندقيّة على الطاولة : منت أكبر طموحي تطمّن . . إن شاء الله كم شهر وبحصّل فلوس أكثر وبعدها بفتح مشروع يخليني مليونير.
سعد : مليونير بس؟ طموحك يجنن.
إبراهيم بسخريةٍ يرفعُ إحدى حاجبيه : أنت الكم ألف بعيدة عليك .. انتبه على أهلك بس ههههههههههههههههه
نظـر نحوه سعد بحقدٍ وهو يفهم مقصدهُ جيدًا، إذ أنّ رفضه السابق للتعامـل معهم دفعهم لتهديدهِ بعائلته لذا أصبحت المكافأةُ بسيطةً نظرًا لحياتهم، لا يهم! حتى نقودهم البسيطة لا يُريدها، ليست إلّا مـال حرامٍ ستُضاعف ذنبه، المهم الآن أن يحمي عائلته ما استطـاع بعد أن فشل مبدئيًا وفقد احترامه لذاتِه.
تحرّك إبراهيم ببرودٍ مقتربًا من قنينات المـاء حتى يأخذ قنينته ويشرب، راقبَ سند الذي كـان قد اتّجه للبوابـة التي وقفَ عندها سالم واستدعاه ليُحادثه، وبسخرية : هالورع مدري شلون مصدّق حاله وإنّه الهيبة اللي تقوطر وتخلينا نتّبعه.
سعد بصوتٍ عالٍ وهو يجلُس : يقولون الطيور على أشكـالها تقع.
نظَر لهُ من زاوية عينيه : تراك طحت عليْ يا بعدي.
سعد يهزُّ كتفيه بلا مبالاة : من رداة حظي الجميل.
إبراهيم يستديرُ ليسندَ ظهره على طرفِ الطاولة، وبابتسامةِ سخريةٍ حاقدة : شلون رئيسك؟
فترَت نظراتُ سعد قليلًا وهو يوجّهها إليهِ بصمت، حينها اتّسعت ابتسامة إبراهيم بشرٍ وهو يُردف : أيه هو .. ولد فهد الـ **** عسى الله يحرمه فهد.
سعد بازدراء : استغفر ربّك.
إبراهيم بحقد : ماهو ناقصنا بعد علّة ثانية تجي منه على الأرض، دمّه فاسد.
سعد بسخريةٍ مُزدرية : والله مدري مين اللي دمه فاسد، أنت لو منّك محترم الناس وشغلك ما كانت علاقتكم شينة وذلّك قدام العالم بطردك الشنيع في الملأ ، تـافل بوجهه بعد ما تطاولت عليه وش تتوقّع منه؟ أكيد بيعطيك كف ويطردك.
إبراهيم بحقدٍ وهو يسترجعُ الأيـام السوداء التي عاشها سابقًا حين كان يعملُ تحت سلطةِ سلطان : الله يلعنه! مو ناقصني الا هالبزر يكون رئيسي.
سعد بسخرية : البزر أنت ، شوف شلون ربّي موفّقه تزوّج وعمره 27 وأنت بتصك 38 وما حصّلت اللي ترضى فيك، سيء وش يبون فيك؟ وفوق كذا حاقد على الرجـال لسبب تافه.
إبراهيم يبتسم بسخرية : كنت تساندني ترى.
سعد باحتقارٍ لذاته : فزعة لصديق ما دريت بحقيقتك الا تو وبعد ما طاح الفاس بالراس.
تحرّك إبـراهيم بلا مبالاة : قلتها، بعد ما طاح الفاس بالراس، الحين بنموت سوا أو نحيا سوا شفت الصداقة كيف؟ هههههههههههههههه يا لبى قلبك.
لوَى فمه بتقرفٍ بينما ابتعدَ ابراهيم حتى ينضمّ لسند وسـالم من بابِ مضايقةٍ لسند الذي " أخذ مقلب بنفسه " بالمعنى الصحيح وعيّن نفسه رئيسًا لهم . . خطت أقدامـه إليهما ، وابتسـامةُ شرٍّ سطعَت على شفاهِه، ابتسامةُ حقدٍ تُنبئُ بشيءٍ مـا، شيءٍ سيصِيب سلطان بعد أيـامٍ قليلةٍ ولن يمرّ مرورًا عاديًا بعد أن يُصيبه . . قادمٌ يا سلطان، بحقّ الصفعةِ التي نلتها ذاك اليوم، بحقّ إهانتـك !!
،
صمتٌ عنيف، وكـأنّ قنبلةً سقطَت وأودَت بالمكـان خرابًا ليعمّ الصمتُ قسـرًا، هـو بالفعلِ ألقـى قنبلة، قنبلةً تجاوزَت في قوّتها كلّ المُفـاعلات .. الجفُول أصابهم، سَرت على ملامحِ ياسر الصدمة بينما كانت الصاعقـة تمرّ على وجهِ عبدالله فتشقّه بشدّتهـا، لم يتوقّع ولا واحدًا بالمائة ، أن يأتِيه بهذِه الجملة المجنونة والاندفاع الأكثر جنونًا! أن يختمَ على عدمِ التفكير فيما سيقُول قبل أن يقول أو على مكرِه بالمعنى الصحيح! مــاكر! يُدرك أنّه لن يستطيع الانفعـال والغضب أمام ياسِر، يدرك أنّه سينحرجُ ويتصنّع أنّه سيترك بعض الوقت للتفكير ولموافقة إلين كأيّ خطبـة، ماكر!
تجمّد عبدالله في مكانِه، الصمتُ أطبـق على المجلس، حتى ياسر بهتَت ملامحه غير مستوعبًا ما قالـه، استنكر! وكيف لا يستنكر؟ استنكارٌ جعلهُ يلفظُ بجفول : بأي صفة عرفتها وحطيتها في بالك؟
مرر أدهم طرف لسانه على شفتيه وهو يقدّر استنكار ياسر لخطبتِه هذه، فإلين كما قـال " مكفولة "، لا يقصد الاستنقاص منها بحجمِ ما كان الموضوع كلّه غريب ! . . ابتسمَ أدهم بثقةٍ وهو يُكمل المسرحيّة التي بدأها : قريبتي تدرس ويّاها في الجامعة ، ويوم إنّي خططت للزواج مدحت أخلاقها لي ، ما اهتميت إذا هي بنت ميتم أو لا ، تهمني أخلاقها فوق شيء والاسماء ما تعنيني بشيء !
ياسر يعقدُ حاجبيه دونَ اقتنـاع، في اللحظة التي كان فيها عبدالله صامتًا، يشدُّ على قبضتيهِ بشدّة، يكـاد ينفجر، يكاد يصرخُ في وجههِ ويطرده، لكنّه لم يكُن يريدُ لياسر أن يعلم بشيء! أراد أن ينتهي هذا الزواج دونَ أن يُعلَن، ونسيَ أنّه يتعاملُ مع الثعلب ! نسيَ أن من يتعامل معه لن يبالي بالطريقة التي سينال بها ما يصبُو إليه . .
نثـر أدهم نظراته ما بين عبدالله الصامت صمتًا يُدرك معناه أدهم واستنكرهُ ابنه، وما بين ياسر الذي صمت هو الآخر ينتظرُ حديثَ والده ... أردف بهدوء : عارف إنّ شكلي ماهو مضبوط جايكم بدون أهل ورجاجيل في خطبة ، بس كل أهلي بالشرقية وكنت حاب أشوف رأيكم بالأول قبل لا نخليها خطبة رسمية ، شاوروا البنت وأنا بنتظركم.
انتظـر ياسر جملةً من والدِه توضّح لأدهـم الكثير مما استجدّ في حـالها، لكنّ عبدالله كان يغرق في صمتٍ غريب، صمتٍ ليس وقته، ولا وقت التفكير بسببه ! لذا حملَ ياسر على عاتقه الحديث لينطق بنبرةٍ هادئة : أجل قبل لا نعلّم البنت وقبل لا تطلع ، لازم يكون عندك خبر باللي استجد ..
أدهم باهتمام : سم !
ياسر بصوتٍ لازال محتفظًا بالهدوءِ فيه، مشبّعًا بالثقة : البنت حصّلنا أبوها وصارت منسوبة له وهو وليّ أمرها ، مالنا كلمة بهالمواضيع.
تصنّع أدهم الصدمة، صمتَ قليلًا قبل أن يتداركَ الصمت أمام ياسر بتمثيلٍ متقنٍ جعل عبدالله يحتقره أكثر، وبنبرةٍ باهتة : حلو ، حلو كثيير ما عندي مشكلة بالعكس انبسطت لهالشيء ، أجـل عطوني اسم أبوها وبوصله.
ياسر بجمود : أحمد الأميـر ، احنا كذا أو كذا بنعلّمها ، بس كل الأمور الرسمية لازم تكون بينك وبين أبوها ماهو بيننا.
أدهم : أكيد طبعًا ، وهالرجـال معروف والله يكتب اللي فيه الخير.
وقفَ مودّعًا لهما، ووقفَ عبدالله معهُ مرغمًا يكتمُ كل انفعالاتِه الداخلية والتي تكادُ تحرقه، لم يقُل شيئًا ، لم يستطِع أن يقول شيئًا وبقى صامتًا، تكتنزُ في فمهِ شتائمُ الكُره والاحتقـار . . ودّع ياسر أدهم بابتسامةٍ هادئة بعكس ملامِح عبدالله الجامدة، وما إن ركبَ أدهم سيارته واختفى حتى وجّه ياسر نظراته نحو والده ليلفظ باستنكار : شفيك يبه فجأة كذا سكت وانقلب حالك؟ لو ماهو ولد صديقك كنت قلت الرجّال ماهو عاجبك ! وش فيك؟
تحرّك عبدالله بجمودٍ وهو يهتف : مافيه شيء ، بس كنت متضايق وأفكر بإلين، لو إنّ الخطبة لهديل كان الموضوع سهل بس إلين صعبة شوي . .
عقدَ ياسر حاجبيه وقد اقتنعَ بحديثه، فإلين لن يكُون الموضوع معها سهلًا نظرًا لكلّ العرقلاتِ في حياتِها . . لازال يذكِر اليومَ الذي سردَ فيها والدهُ حقيقتها ، والدها الحقيقيُّ الذي تركها صغيرةً وتبرّأ منها لأنّ زواجه بامها كان خاطئًا، لم يرضى أن يُخبره هو وهالة من أيّ ناحيةٍ كان خاطئًا بالضبط! لم يُرد أن يقُول له عن حقيقةِ امّها ، لذا أخبرهما أنّه الزواج كان باطلًا وحسب فتركها والدها بكلّ وضاعـةٍ لا يريد ابنةً من علاقةٍ باطلةٍ وإن كانت شرعًا تكون ابنته ! حقدَ على والدها، احتقـره ، وأشفق عليها من نصيبها الذي رمـاها في وحلِ اسمه ! ... لم يخبرهم عبدالله بحقيقةِ زواجها كما لم يُخبرهم برقيّة ، اخبرهم بالمهم ، فقط المهم . .
في جهةٍ أخرى ، يقُود سيارتهُ وهو يُدندنُ بمزاجٍ صافٍ، ابتسامةُ متعةٍ تزيّن ثغـره، لمعةُ سعادةٍ انبثقَت من عينيه .. اتّسعت ابتسامته أكثـر حتى ظهرت أسنانه، يريد الآن أن يضحك، يريد أن يضحكَ لشعوره أنّه اقترب، نعم اقترب! فهو تخطّى عقبة عائلة عبدالله التي لا تعلـم، كلّ ما يحتاجه الآن أن يجعلها توافق عليه، وأن يكمـل كلّ شيءٍ بزواجٍ طبيعيٍّ وكأنّهما لم يربطهما عقدٌ من قبـل ، يريد أن يجدّد عقد نكاحِه بها حتى يمحقَ كلّ شكٍ في قلبها وقلب عبدالله من وجودِ خطأٍ مـا ، حتى تأخذ كـامل حقّها في احتفالٍ تـام ، فستانٍ أبيض ، ليلـةٌ خاصّةٌ لهما ...
ضحكَ هذهِ المرّة بخفوتٍ وتعدّى إطـار إرادتِه، أخرجَ هاتفهُ من جيبِه ولم يستطِع منعَ نفسهِ من الاتصـالِ بها، من سمـاع صوتها حتى تكتمِل أسباب صفاءِ مزاجـه . . طـال الرنين حتى ظنّ أنّها لن ترد، لكنّها خالفت توقّعاتهِ بعد أن وصل إليه صوتها الغاضب والحاقد : أنت وش تبي بالضبط؟ بأي وجه تتّصل عليْ كم مرة أقولك ما أبي أتناقش معاك ولا أبيك .. افهم ما أبـــي انسان وضيييييع مثلك !!
لم تُخفي شتيمتها لهُ ابتسامته، ولم تأثّر بمزاجِه وسعادته ، تجـاهل ترحيبها الغاضب بهِ وهو يهتفُ ببحّةٍ وعشق : جيتك اليوم خـاطب ، لا ترفضيني ، اعتبريها رجّال جاي لأوّل مرة يخطبك وفكّري قبـل.
كانت تجلسُ على سريرها، وما إن سمعَت ما قاله حتى وقفَت بسرعةٍ كمن لدغها عقربٌ لتلفظَ دون استيعاب : وشوووو؟
أدهم بابتسامة : اللي سمعتيه ، اليوم خطبتك قدام عبدالله وياسر ، وبخطبك رسمي من أبُوك بعد ، لو كان اللي بيرضيك تجديد عقد فبجدد ، و ...
قاطعته بنبرةٍ حادةٍ إثر صدمتها بما يقول : أنت وش تقول؟ خطبتني ؟ وش تحس فيه؟ ، أبي أفهم بس وش تحس فيه يوم تطلبني بكل ثقة بعد ما خذيتني قبل وأنا جاهلة ! ما أبي منّك شيء ، ولا راح يرضيني الا الطلاق مين اللي قالك أبي تجديد عقد وخرابيط ؟!! اترك أساليبك الحقيرة عشان تتملّكني غصب عني ، اترك هالأسلوب الزفت يا أدهـم !!
أدهم وابتسامته لا تزال مرتسمةً على فمِه، لفظَ بثقة : انسي الماضي ، لأنّي كذا والا كذا مستحيل أتركك، بغيّر نظرتك لي ، بس أعطيني فرصة.
شتت عينيها وهي تتنفّس بانفعالِ الحقد الذي أرعشَ كفّها، وبصوتٍ غصّ في كُرهها لـه : مستحييييل ، إذا ما رضيت تطلّقني بلجأ للخلع ، كل شيء واقف بصفي، زواجك فيني وأنا صغيرة وبعدها تركك لي كل هالسنين !! مافيه عندك عذر يشفع يا أدهـم !
أدهم بأسى : ما كرهتي أبوك مثل ما كرهتيني فوق كل اللي سواه !
إلين بحدة : لأنّه غلط بحقّي بس ماهو مثلك! أنت ظليت تخدعني ، وفوق كذا اغتصبتني مرتين وأنا طفلة !!
أدهم بحدةٍ وهو يعقد حاجبيه : اغتصبتك!! وش تقولين أنتِ ما اغتصبتك بطّلي تتبلّين علي بهالطريقة !
إلين بسخرية : ظنّك الاغتصـاب لازم يكون بمعناه الأساسي ! كونك تقرّبت من طفلة عمرها ثمانية سنين وجلست تبوّس فيها هذا اغتصاب ، تحرّشك فيني وأنا بعمر 15 سنة يسمّى بعد اغتصاب واغتصاب بالمعنى الصحيح بس ما اكتمل . .
أجفَلت ملامحه بصدمةٍ من تفكيرها، ليسَ لمـا حدثَ وهي في سنّ الخمسَ عشرة عامًا فهو فعلًا كاد يفعلها، كـاد أن يمتلكها قسرًا في صورةِ اغتصاب، لكنّ صدمته الآن للاغتصاب الذي ذكرته وهي في عُمر الثامنـة ، ما الذي تفكّر بهِ بالضبط!! هل تراه بهذهِ الصورة المكسورةِ/المُتلاشية حتى يفعلها بطفلةٍ لم تصل للعـاشرة! إن كاد يفعلها دون وعيٍ وهي أكبر مما كانت بسبعِ سنين ولام نفسه على ذلك بعد أن عـاد وعيه إليه، بقيَ يحتقر ذاته لهذهِ اللحظـة لأنّها كانت في نظرهِ طفلة، لم تكُن تدرك شيئًا ! فكيف بطفلةٍ عُمرها ثمانية أعوام؟ ... أوقفَ سيارتهُ جانبًا وهو يرفعُ رأسهُ للأعلـى، صورتهُ في عقلها قد توسّخت بدرجةٍ غير معقولة، لا تُلامُ برفضـها القويّ هذا ، لا تُلام أبدًا! سنين تركهِ لها بهذا الشكل وخداعه بسمى " أخ " كان وحدهُ قاسٍ عليها لترفضَه، فكيفَ الحال مع هذهِ الصورة؟
أغمضَ عينيه وعنقهُ تمتدّ بينما وجههُ كان يُقابل سقفَ السيـارة، ابتلعَ ريقهُ بصعوبةٍ ليتحرّك عنقه في تقويسةِ الحديثِ الذي تتشاجرُ أحرفه في حُنجرته، اهتزّت حبـاله الصوتية، وأنفاسها وصَلت إليه بانفعالها، هـذا الانفعـال الذي شعر أنّه سيتبعهُ ذهاب صوتها وإنهاء الاتصـال، لذا وجدَ الكلمات تتسرّب منه، وجدَ الأحرف تتعانقُ في كلمات، والكلماتُ في جُمَل، وجدَ التبريرات تُهدَر من بين شفاهِه دونَ شعورٍ منـه : شِلتِك وأنتِ طفـلة، حميتك من أبُوي وأكّدت بخاطري إنّي ماراح أسمح لأي أذى يصيبك ، حميتك منه ، ونسيت أحمِيك مني بعد سنين !
هدَأ انفعـال أنفاسِها فجأة، وكأنّ الجفُول أصابها أمام كلماتٍ بدأ بِها التبرير، عـاد بها لسنواتٍ لم تعلَم ما كـان فيها تحديدًا .. وجَدت نفسها رغمًا عنها تستمِع ، " حميتك من أبُوي "، تُثبت أنّه عـاد للحظـاتِ ما بعدَ الحقيقة الناقصة، الحقيقةِ التي لم يُخبرها عبدالله كاملـة وقـال لها أنّ " زواج امها من أحمد كان خاطئًا "، لم يُخبرها كيف كان خاطئًا، ولم يخبرها كيفَ وصَلت إلى والدِ أدهـم ، كيف !!
أكمـل أدهم بصوتٍ هامسٍ يُحرر فيهِ حنجرتهُ من الكلمات الملتصقةِ به : لمّا بغَى يطلّعك من بيتنا عارضته ، وقفت ضدّه وتلقّيت كل ضربة وأنا أحضنك لصدرِي خايف يجي هالطفلة شيء منه ! ظلّيت أحميك لين وصّلك لأبُوك وضعتِي منّي ثمانية سنين !
ابتلعَت ريقها تُحاربُ غصّتها التي أرادَت محاربتها في صورةِ بُكاء، لكنّها قاومتها بقوّةٍ وهي تهتفُ بنبرةٍ خافتة : وين كانت هيّ؟
أدهم الذي فهمَ مقصدها جيدًا ويدرك كم ستجرحها الحقيقة، لكن لابد منها : أبوي طردها من البيت وما رضت تشيلك ويّاها.
إلين وصوتُها يختنقُ بشدّة : كيف صرت بنت أحمد شرعًا من زواج باطل وكنت في بداياتي بنت أبوك اللي كان متزوّج امي؟ عجزت أفهم !!
عقدَ أدهم حاجبيه، ظنّ في البدايةِ أنّها بسؤالها عن مكانِ امّها تُريد أن يُكرر ما تعلَم، ألم يُخبرها عبدالله بكلّ شيء؟!!
لفظَ باستنكار : عبدالله ما علّمك بكل شيء؟
إلين بضعفِ صوتها الذي هزمها أمامه : ما حكَى كثير عن امي وأبوي وشلون صار كل هالشيء !!
ارتعشَت شفاهُه قليلًا وهو يخفض وجههُ وينظر للطريقِ أمامه بضعفٍ يُماثـل ضعفَ صوتِها، ابتسمَ بحسرةٍ ليهتف : بتبكين لو حكيت؟
إلين باستسلامٍ إليه تُريد معرفة كلّ الحقيقةِ الغائبة : وعدت نفسي ما أبكي عشانكم ، مين أنتم؟
أدهم بابتسامةِ مواساة : كفو ، مين همّ؟
إلين : تراني أقصدك وياهم!
أدهم يضحك بخفوت : أدري ، بس حاولت أطنّش نفسي من بينهم ... صدقيني ما أبيك تبكين منّي وبحاول هالشيء ما يصير . .
تجاهلَت إلين حديثهُ وهي تلفظُ بإصرار : احكي ... قولّي عن حقيقة اللي صـار . . كل شيء لهاللحظـة ، ليه كنت بنت احمد؟ ليه ما كنت اختك؟ ليه تزوجتني وعمري ثمانية سنين؟ ليه تركتني؟ ليه اغتصبتني وأنا عمري 15 سنة ، ليه ما علّمتني إني زوجتك للحين؟!!!
يُتبــع ..
|