كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
سلامٌ ورحمـةٌ من اللهِ عليكم
صباحكم / ومساؤكم طـاعة ورضا من الرحمن
إن شاء الله تكونون بألف صحّة وعافية
فيه توضيح بسيط حابّة أذكره قبـل البارت وكثير منكم ملتبس عليه الموضوع ، وهو اسم " عبدالله "، عـاد فيه ثلاث عبادلة في الروايـة، وكل واحِد منهم شخص مختلف عن الثـاني مافيه بينهم علاقـة أبدًا، أولهم عبدالله السامِي - أبو أدهم - وهو ميّت، الثانِي عبدالله أبو ياسر، والثالث عبدالله رئيس بدر ، وركّزوا على إن عبدالله أبو ياسر ماهو نفسه رئيس بدر لا تخبّصون بينهم ، مجرّد تشابه أسمـاء فقط :""
+ القراء اللي يسألون عن نهاية الرواية، ملّيتوا :(؟ عذرًا بس ما أقدر أحدد كم بـارت بقى بالضبط، لكن الأحـداث مابقى منها الشيء الكثير جدًا، احذفوا " جدًا " وبيبقى الكثير بس :P .. حابّة أنوّه على مسألة إن الروايـة فيها نقلة زمنيّة قربنا منها كثير :" هالنقلة الزمنية راح تبدأ فيها منحنى ثاني من الروايـة وبنقترب من النهايـة أكثر، ونقدر نصنّف الروايـة على الزمنين اللي بيكونون من هالنقلة اللي بتنقلب فيها حيـاة كل الأبطـال بشكل كبير جدًا، ما بقى الشيء الكثير اللي يخليني أقول الرواية بتطول لسنة ثانية!، الأكثـر راح وبقى الأمتع بإذن الله ()
،
بسم الله نبدأ
قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر، بقلم : كَيــدْ !
لا تلهيكم عن العبادات
(68)
إنـارةٌ خافتـة، وتمتماتٌ أشدَّ خفوتًا، عيُونٌ تتابعُ الآيـاتِ بخشُوع، تقرأ سُورة المُلك قبل أن تستعدّ للنوم، المنجيةِ في الحيـاة البرزخيّة، وحياتُها هذهِ يُنجيها فيها إيمانها وصبرُها، قُربها من ربّها الذي تذبذبَ في الآونـةِ الأخِيرة، كم تشعر بالراحةِ اليوم! راحـةٌ لا تستطِيع وصفها سوى بالحمدِ والشكرِ لله، حمدًا للهِ أنّ يـاسر تهاوَى تفكيرهُ بتلكَ الذكرَى العابـرة، والتِي لم تصِر عابـرةً إلا حين غلّفها بالصمتِ والتنـآسي.
ابتسمَت وهي تختمُ قراءتها وتُغلقُ المِصحف، بسمةً تصفُو كقطراتِ المطـر، كصفـاء العسلِ الذهبيّ، بسمةً حينَ تُدغدغُ شفتيها بتلكَ الطريقةِ فهيَ تعُود ، تعُود لإليـن التي لا تعرفُ اليأسَ وتعبُر فوقَ كلّ عثرةٍ مهما تعرقلت، تستقِيم مهما تمايَلت.
وضعَت المصحف على الكومدينةِ أسفلَ ضوءِ الأبجورة، استعدّت لتُغلقهُ وتنـام، لكنّها توقّفت عن ذلك حين طُرقَ البـابُ فجأة، عقدَت حاجبيها باستنكـارٍ لكنّها سُرعـان ما أفردتهما ولوَت فمها وهي تُتمتم بحنق : محد غيرها هديل ، بالله هذا وقتها الحين!!
نهضَت عن السريرِ واتّجهَت للبـاب وهي تستعدّ لذرفِ الكلمـات الحـادةِ عليها وعلى إزعاجها، لكنّها أجفلَت ما إن فتحتهُ ورأت عبدالله خلفه، فغرَت فمها قليلًا لكنّها سرعان ما أطبقتهُ وهي تبتسمُ بحرجٍ وتهمس : يا هلا والله غريبة جاي لي بهالوقت؟
ابتسمَ لهـا بحنـان، لو تعلمُ أنّ هذا الوقتَ هو وقتُ الانكسـار! وقتُ الخيبةِ العُظمى والأسـى، لو كـان بيدهِ أن يكتمَ كلّ شيءٍ فقط! لكنّه لا يستطِيع، لا يستطِيع، لابدّ من الحقيقةِ أن تظهـر، لابدّ لكلّ شيءٍ أن ينجلـي مهما كان حـارقًا كالشمس في لحظةِ ظهِيـرة، مهما كـان قاسيًا كحبّاتِ البَرَد مع المطرْ، مهما كـان مرًّا كالعلـقم .. هي حقائقُ لا تتجزّأ، لا تحتملُ الإخفـاء وأكثر ما يُهلك أن تكُون تلك الحقـائقُ مؤذيـة/قاتلة!
ليَـأْسف على كلّ شيءٍ سيصِير! ليأسف على حُزنها، على النواحِ والانكسـار، لا شيءَ لديهِ إلّا الأسفُ والحُزن لأجلها، لا شيء لديهِ إلا الخنُوع لنظرةِ المنكسِرةِ التـي ستنحصرُ بها نظرتها الخجولة الآن!
همسَ بصوتٍ غصّ بعبرةٍ رغمًا عنه، عن ما يواجههُ الآن من وجَع، من صعوبةِ ماهو فيه، من قسوةِ الحفـرة التي وقعَ فيها ولابد لهُ أن يخرجَ لأجلهـا، هذهِ اللحظـة صعبة! صعبةٌ جدًا ورغمَ صعوبتها لابد لهُ من المواجهـة : جيتك بوقت غلط، السموحَة منّك بس الموضوع مهم وما يتأجّل لبكرا.
إلين بابتسامةٍ شفّافة : افا عليك تعال متى ما بغيت وخذ راحتك.
عبدالله بأسى : لو إنّي أقدر أخليها بوقت ثانِي وما أضايق نومتك!! بس الحين أفضل دامه محد صاحِي.
قطّبت ملامحها بتوجّس، مرّرت عينـاها على ملامِحه الجـادة لتزدردَ ريقَها بتوترٍ وهي تقرأُ فيها عاصفـةً ستأتِي ولن تكُون واهنـة، عاصفـةً قد تقتلعُ الكثير والكثير . . ارتعشَت أناملها قليلًا وصوتُها، شدّت على مقبضِ البابِ بتلقائيةٍ وهي تُريد قول " تفضل " ومن ثمّ تضيء الغرفـة أكثر، لكنّ تلك الكلمـة التي كانت على طرفِ لسانِها كانت بطيئة، بطيئةً حدّ أن سبقتها سواها ولم تستطِع كبح النبرةِ القَلِقَةِ فيها : وش صايِر عمي؟
تجاهل " عمي " التي لطالما عاتبها إن قالتها، الأمـر الآن أعمق من أن يلتفت لأيّ شيءٍ وإن كان يستفزّه ويرى أنّه موجِع! لفظَ بهدوءٍ ظاهريّ : أقولك وأنا واقف هنا؟ ماودك تدخليني؟
بللت شفتيها بحرجٍ رغمَ توترِها وهمسَت لهُ بالدخول، تقدّمتهُ لتضيء الغرفـة بينما أغلق هو الباب وهو يسألُ الله أن يمدّهُ بالقـوةِ وإيّاهـا، أن يتصلّب قلبها بدرجةٍ تكفِي لتجاوِز ما سيقُول، إن كـان هو قد كُسرْ، فكيفَ بها يا الله؟ .. إن كان كتفاه قد انحنا، فكيف لا يسقُط كتفاها من هولِ كلّ هذا؟!! كيف لا يسقطانِ مواساةً لسقوطِ الدمعِ من مقلتيْها؟!
جلسَت معهُ على أريكـة مزدوجةٍ انزوَت في إحدى جوانِب غرفتها أمامَ التلفاز، نظرت إليهِ بتوجسٍ وهي تفرك كفيها ببعضهما وتهتفُ بقلق : وش اللي صاير؟ ليش شكلك ما يطمن لا يكون قرايبكم صاير لهم شيء؟
ابتسمَ بصعوبة : تراهم يعتبرون الحين عيال خلّانك بعد ، بس تطمني محد منهم صاير له شيء سيء للحين وضعهم مثل ماهو.
شتت عينيها وهي تتجاهلُ الشطر الأولَ من حديثه، وبتساؤلٍ مرتبِك : طيب؟
عبدالله : وعدتيني مرة تكونين قويّة وما تطيحين عند أي عقبة صح؟
إلين وربكتُها تتضاعف، لفظَت بصوتٍ رافقتهُ بوادرُ تعثّرها إثر الخوف : أيه.
عبدالله بنبرةٍ تزيدُ القلقَ إجلالًا : أجـل الحين أبيك قويّة مثل ما وعدتيني ، وكوني واثقة دايِم إنّي معك، وكل اللي حولك معِك بعد.
ثبتت أحداقها بعينيه وهي تُقاومُ رعشـةَ الخوفِ التي أتلفَتْ أعصابها، أدرَكت في جملتهِ الأخيـرة مُصيبةً أخرى لن تتعلّق سوَى بحياتِها التي لم تكُن " ماضيةً " حتى! حياتها الحقيقة التي لم تعِشها، مأسـآةٌ جديدةٌ ستتعلّق بأمّها وأدهم، هذا فقط ما أدركته! هذا فقط ووحدهُ كافٍ ليجعلهُ بهذهِ الصورةِ المُهتزّة . . ألم تقُل بأنّها ستُولّف الحقيقةَ في برودْ؟ في تجاهلٍ أعمَى وصمت؟ ألم تقُل بأنها ستتناسى؟ بأنها ستكُون أقوى وتتجـاوزُ كلّ شيء؟ إذن لمَ الخوفُ الآن؟ هي التي ولِدَت من جديدٍ من رحمِ الصدمـاتِ والأحزان، لمْ قد تخـاف؟!!
ثبتتْ أحداقها أكثر، داهمتها الثقَة، القوّة، الثبـاتُ في وجهِ كلّ ما قد يقُول، نظرت إليه بثقةٍ منقطعةِ النظيـر وهي تهتفُ بصوتٍ قويّ النبـرات : لا تحاتيني ، أنـا قويّة ، مافيه شيء ممكن يهزّني لأنّ كل الزلازل اللي ممكن تصير بحياتي صارت وبدل ما تطيّحني خلّت مني انسانة أقوى . . قُول اللي عندك يا عمِي، ما بضعف وثقتي فيكم عاليـة.
ابتسمَ بحنانٍ وهو يمدُّ يديهِ ليمسك كفيْها ويعانقهما، وبرقّةٍ بعد أن أراحَت جانبًا كبيرًا من خوفِه تجاه ردّة فعلها، نعم! يريدها هكذا، يريدها قويّةً لا تتعثّر فلا تنهض، يريدها قويّةً من كلِّ شيء/حزن : كفو ، خليك كذا دايِم، لا تنكسرين عند ناس ما يستاهلون كسرك، أنت أقوى من كل شرّهم.
ابتسمَت ابتسامةً خافتـة وهي تهمس بحسرة : تقصد أدهم وأمي وأبوي؟
عبدالله بملامح غطّاها الحزمُ بعد الثبـات الذي رآها فِيه : أدهم وأمك ، وأبوك أحمد.
عقدَت حاجبيها قليلًا دُون أن تفقدَ بسمتها، وبنبرةٍ هادئةٍ تُصححُ لهُ خطأه : اسمه ماهو أحمد ، عبدالله، عبدالله السامِي.
ابتسمَ ابتسامة أسى وهو يمسحُ على كفّها بحنانٍ ويلفظ : لا يا إلين ، ماهو أبُوك، هالرجـال كان كذبـة وصدّقتيها، هو ماهو أبُوك مثل ما أدهم ماهو أخُوك . . كلّهم كذبة! كذبَة حقيرة وبس!
،
استلقَى بجانِبها، تسندُ ظهرها على ظهرِ السريرِ وكوبُ الحليبِ تحتضِنهُ كفوفها القمحية، أنفاسُها عـادت لتهدأ وعينـاه لا تهدآن من القلقِ الصـارخِ في أوجِ اشتعـاله . . أزاحَت الكُوب عن شفتيها وهي تمرر لسانها عليهما وتنظُر للدُخان الخافتِ المتصـاعدِ منه، ومن ثمّ أدارَت وجهها نحوهُ لتبتسم وهي ترى ثوران القلقِ في عينيه : والله العظيم إنّي صرت أحسن حتى قبل لا تجيب حليبك ذا.
ابتسم رغمًا عنه : اللي يسمعك يقول حالبتها مني بقرة أنا؟ وشو حليبك ذي؟!!
اتّسعت عيناها بصدمةٍ مما قـاله، وسرعـان ما انفجرَت ضاحكـةً وهي تتشبّث بالكُوب خشيةَ سقوطِه منها، في حين أجفل شاهين من ضحكها في بادئ الأمـر، لكن لم يكُن ليمرّ ثانيتين الا وهو يبتسمُ بإحراجٍ ويحكّ مؤخرة عنقه، وبامتعاض : أي اضحكي هذا جزاي خايِف عليك ومهتم فيك.
أسيل تزمُّ شفتيها كي تقتُلَ بقيّة الضحكـات لكنّها لم تستطِع أن تمحقَ أثـرها في ابتسـامةٍ واسعة، وبنبرةٍ ضاحِكَة : ما تقصّر والله عسى ربّي يسلم يدينك.
شاهين بامتعاض : عسى ربّي يسلم يدينك ! كذا بس؟ وين هديتي؟
أسيل بخجلٍ وهي تفهمُ قصدهُ جيدًا : أي هديّة.
شاهين يبتسم بمشاكسةٍ وهو يقرّب وجههُ منها : عطيني واتركي عنّك المماطلـة.
أسيل بغنجٍ خجُول : شاهييييين أنا تعبانة راعِني شوي.
شاهين بإصرارٍ يشير لها بعينيه : صغيرة بس حتى أنا تعبان من اليوم.
سعُلت بخجلٍ في حينِ مدّ شاهين يدهُ ليسرقَ الكوبَ من يدها ويضعهُ على الكومدينة، عـاد ليقتربَ منها وهو يلفظُ بلؤم : يلا يا بنت وراي نوم.
أسيل بضحكةٍ خجولة : حسبي الله على قلّة حيـاك.
شاهين : الحيا ما يبيك الا أنتِ ما يناسبنِي ، يلا بيبي هات بوسة.
ضحكَت ووجنتيها تلتهبانِ بحُمرةِ الخجلِ قبل أن تقتربَ منه أكثر وتقبله قبلةً سريعة، وحينَ تراجَعت لتهربَ كان هو قد أحاطَ خصرها ليُعيدها إليه ويقبّلها برقّةٍ قبل أن يتركها وهو يهمسُ ببحّة : قُبلة من الراحـة على عيُونك ، جعل التعب يبطي ما يقربِك
،
صورةٌ مشروخـة، قلمٌ فقدَ حبرَه، وريشةٌ تساقطَ منها الزغَب، أحـداقٌ كأنّها انشطرتْ من هولِ ما قِيل، وبشرةٌ شحبَت وانسلّ الدمُ عنها متجاوزًا المسامـات، صفـراء! والجفـافُ أصفر، أوراقُ الخريفِ صفراء، وبشرتها تصفرُّ أكثـر!! ابيضّت شفاهُها كحـالٍ جـاء في شتاءٍ قارِس، واشتعلَ قلبها نبضًا وكأنّمـا نارٌ تتراقصُ أسفله رقصةَ بالِيه، ترسّبت الشهقـةُ على حبـال صوتِها التي حاولت الاهتزازَ ليصعدَ لكنّ ثقلَ تلك الشهقةِ أكبـر .. راقبـها بصمت، بأسى، بحسرةٍ وهو يمسحُ على كفّها التي ارتعشَت وكأنّما كلماتهُ كانت تخرجُ - مادّةً - يُشعَرُ بها، تصتدمُ بجسدها مباشرةً فتُحيل بها كلّ تلكَ التغيرات، اتّساع أجفانها، انشطـارُ الحدقتين، انفراجُ الشفاهِ وارتفـاعُ الصدرِ في أنفاسٍ مذهُولة/مصعوقة!
قبضَ على كفّها بقوّةٍ وكأنّه يُريدها أن تصمدَ أمـام تلك الكلمات التي تصتدمُ بجسدِها وتهزّه، تثقبُ صوتها وتُلغِيه من قاموسِ الوجود . . سنةٌ وأشهُرٌ قليلة، قبلها جاءتها أمّها في رحلةِ انتظـار السائق أمـام الجامعة، وحكَت لها قصّة . . كان يا مكـان، في قديمِ الزمـان ، عائلة! لكِ، ولقلبكِ، وليُتمِك! كـان يا مكان، في قديمِ الزمـان ، ذئبٌ وليلَى، لم يكُن الذئبُ يريدها كمـا القصّة، بل تركَها ، ذئبٌ دُعيَ " عبدالله "، وليلَى في اسمِ " نجلاء "، كـان يا مكـان ، في قديمِ الزمـان، دم! ونسَب، وحلقةٌ لا تنتهي بثلاثةِ أسمـاءٍ فقط، كـان يا مكـان، في قديمِ الزمـان ، أم! لفظَت الطفلـة من رحمِها، أدخلتها الحيـاة، ومن ثمّ لفظتها من حياتِها!! .. كان لا مكـان، لا زمـان!! لم يكُن شيئًا ، وكانت نُطفة! ثمّ علقة! في رحمٍ لم يُرِدها، تكوّنت العظـام واللحم ونبضَ القلب، خرجتْ، وبكَت خرُوجها، وكـان ذاكَ البُكاء حديثًا على مدارِ اثنـانِ وعشرونَ عامًا . . وقبل العـام أشرقَت تلك الأمّ بمجزرة، بقصّةِ ما قبـل الولادةِ الحديثة، أبٌ وأخْ! لم يكُونــا!!! يــا حجمَ المُصيبة! يــا هــول تلك الفكرةِ فكيفَ إن قِيلت وكيفَ إن حدثَت؟ يا الله ما قـال؟ ليسَ أبي! ولا أخِي!! يا الله ما حُكِيَ؟ هل قصّة ما قبل العـام كاذبة؟ قصّة ما قبـل الولادة؟ قصّة ليلى والذئب؟ قصّة المجزرةِ والبكـاء؟ لا ! كيفْ؟ كيف؟ كيفَ يأتِي هذا الحديثِ في محضِ اعتراف؟ في محضِ نبرةٍ واحتضـانِ كفْ!! يا رعشـة جسدِي، يا موتَ صوتِي، يا انشطـار الأحداقِ ويـا سكُون الشهقةِ في حنجرتِي ، أينَ القوّة؟ أين الثبـات؟ كيفَ يُغـادر الصوتُ إن كان صاحبهُ قويّ؟ كيفَ تأتِ الرعشةُ إن كـان صاحبها ثابِت!! كاذبـةٌ الأقـوال، كـاذبة! فلمَ قد يكُون ما يقُوله هو صِدقْ؟!!
ارتعشَ الأكسجِين وانتفضَ في رئتيْها، غـادرها! وعاكـس الحالة الفسيولوجية للتنفّس، أصابـها دوارٌ عنيف، وصدعٌ في الخاصِرة! أصـاب هيكليتُها الاعوجـاج، ووجدَت نفسها دونَ شعورٍ تُغمضُ عينيها وهي تكـاد تفقدُ وعيها فعلًا، تغيبُ عن هذه الحيـاة التي آذتها كثيرًا، عن هذهِ الحيـاة التي خذلتها كثيرًا، عن هذهِ الحيـاة التي تكسرُها وتذرُوها المصائبُ في كلِّ الجِهـاتِ ولا تعوِي بثبات! كيفَ تُكذَّبُ القصة قبل سنـةٍ وتجيء أخرى؟ يستحيييييل!! يستحيييييييل!! كيف يُريدونها أن تعيش بهويّاتٍ ثلاث، يستحيييييييييل !! كيف يتلونَ عليها رواياتٍ ولا ينسُون أنّ لكلّ روايةٍ حبكَة! واللهِ أتقنوها!! يتقنونَ تأليفَ الأحـاديث، يتقنونَ تأليف القصصِ وزجّها في كلِّ عـامٍ بهويّة.
تلك الهويّة الهـاربة! يا إتقــانها في الخداعِ والتملّص!!
انتفضَ عبدالله بسرعةٍ وأمسكَ كتفيها ووجههُ ينقلبُ مائةً وثمانينَ درجةً وهو يرى هذا الانهيـار الجسدِي، وكم يخشى الانهيـار العاطفي! الانهيـار الذي دخَل إلى غرفتها وهو يخشـاه، يخشــاه!! يخشــاه بحجمِ المأسآة التي يُدركها في سطورِ هذهِ الروايـة . . هتفَ بنبرةٍ ارتعشَت وهو يشدُّ على كتفيها : إلين ، إلين اثبتي ، قلتِ إنِك قوية، أنتِ قويّة ما تنكسرين! ما تنكسرين يا إلين.
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تشدُّ بأسنــانها على شفتها السُفلى بقوّة، تعالَى صوتُ تنفّسها حدّ أن ارتفعَت اكتافها وانخفضَت بسرعةٍ بين يديه إثرَ تنفّسها، حبالها الصوتيةُ استطاعَت أخيرًا أن تتغلّب على الشهقةِ المتّكِئةِ عليها، نفضتها بقوّةٍ لتخرجَ كخروجِ الروحِ من الجسد، شهقةً كـان حجمها يدلُّ على عصيِّ تلك القصّة الجديدةِ على عقلها، روحِها، خرجَت لتخرجَ معها صوتُها محمّلًا بنبرةٍ واهنـةٍ فقدَت معالـم الحيـاة والوجُود : كِــذب . . كِـذب . . تكفَى قول إنّ هالحكِي كذب!!!
عبدالله بصوتٍ حـازمٍ لن يقبل بهِ التراجعَ بعد أن وصلْ : ماهو كِذب يا إلين هذي الحقيقة ، أمّك كذّبت عليك وأدهم مشى معاها في القصة وما صحح لنا من البداية.
تضــاعف انتفـاضها بشدّةٍ لتهزَّ رأسها بالنفيِ وتطلقَ أنينًا عاليـًا تبعهُ صوتٌ يائِس يكادُ ينحرفُ في بحّةِ بُكــاء : يارب ، يارب ، يارب .... تكفى لا تقولها، حرام عليكم!!! تكفون لا تلعبون فيني بهالطريقة ... يارب ، يارب ساعدني ياربي والله ما أقوى والله ما أقوى ...
شدّت على أجفانِها أكثـر ووعدُها بالقوّةِ والثبـات يندثِر، وعدها بعدمِ البُكـاءِ يندثِر، وعدها بأن لا تُبالـي بهم يندثر، لا تبـالي بهم في الحقيقة!! لا تبالـي بهم ولا تبكيهم، هيَ تبكِي نفسها! تبكِي قلبها، تبكي روحها والهويّة التي تهرولُ ولا تريدها ، تبكِي انفعالاتِ الشفـاهِ ليالٍ ظنًّا بأنّ دمـها عُرِفْ، بأنّ نسبَها عُرف، بأنّها عرفَت نفسها!! لم تعُد تريد الثبـات ، ستبكِي الآن ، ستبكي وتكسرُ ذاك الثبـات بانكسـارٍ جديدٍ كيفَ بأنثَى مثلها أن تحتمله؟!
انتحبَت بشدّةٍ وجسدها يتشنّجُ بقوّةٍ رهيبةٍ جعلَت عبدالله يستغفرُ بقوّةٍ تباعًا وهو يشدّها إليه ويحتضنها بين ذراعيْن إن بحثَت عن هويّةٍ ستجدها بينهما، إن بحثَت عمّن يحملها ستجدهُ في أضلعه، لكنّها الآن فقدَت الشعُور بكلِّ شيءٍ عـدا تلك القصّة التي عاشَت عليها سنةً وأشهـرًا، توسّلت فيها لشخصٍ ظنّته أخاها ، يا الله يا حجمَ مأسـآتها، ذهبَت لبيته رغمًا عنه، التصقَت بهِ رغمَ رفضهِ وكلُّ ذلك لأنّها أرادَت أخًا، عائلة، هويّةً تنتفضُ مبتعدةً عنها في لحافِ سفرٍ دائِم.
نشجَت بقوّةٍ في صدرِه وهي تُكرر " ياربي " بصوتٍ جازعٍ مُنكسِر، في حينِ كـان هو يشدِها بقوةٍ ويلفظُ من خلفها استغفارًا وآياتٍ يقرأها عليها علّها تهدأ، بينما انبثقَ الأسى من بينِ شفتيها، داهمَتها كلمـاتُ الاعتـراض، عدمُ التصديق، التنكيلُ حرام! كيفَ يفعلونها بمن مـات في أرضِ الهويّة!! : سوّى ، تحاليل ، أنت خليته يسويها صح؟!!
عبدالله بصوتٍ يغصُّ في ألمِه لهذا الانكسـار في حضنه وبصوتٍ جازِع : أيه أيه ، بس ماهي صعبة يتلاعب ، ماهي صعبة ..
آآآه ، آآهٍ تخرجُ منها وتعلُو بعلوِّ الخيبـة، بعلُوِّ الانكسـار، آهةٌ خرجَت من صدرِها محمّلةً بكلِّ معانِي الألـم . . آآآه ، وألفٌ منها لا تكفِي . . آآآه ، وألفٌ منها لا تشطُر هذا الأسى . . آآآه ، وترتيلةٌ أخيــرةٌ لاعوجاجِ الخـاصرة . . آآآه ، يا زماناتِ الحيـاة المُنتصفةِ ببكـاءٍ ودمُوع، تسقِي ضريحًا لا يهدأ بفحيحِ الانتظـار، تسقِي ترابًا يضمُّ ببرودتِه هذا الجسدَ الذي تعفّن بحُزنِي، آهٌ يا قصصَ السعـادة، كيفَ كذبتِ؟
ارتفعَ بكاؤهـا وصوتُها الهاتفُ باعتلاءِ الألـم منصّةَ الاحتمـال : ليه هوّ كذا؟! ليه الزمن كذا؟ يركض ويعيّي يشيلني على مركبْ ملاذ؟ ، شويّة ملاذ بس! والله ما أبغى منها كثير ، ما أبغى غير جزء يخليني ما أبكِي بعد ما أوعدنِي بعدم البُكا! آآآه يارب الوعُود! عجزت أوفي لنفسي ، عجز قلبي ما يحزن ! . .
عبدالله وصوتُها النازِحُ من عمقِ المعاناةِ يدفعهُ رغمًا عنهُ للانكسـار أكثر ، لكنّه بالرغم من ذلك يحاول أن يكون أكثر قوّةً ويلفظَ بنبرةٍ حازمـة : لا تقولين كذا ، قلتلك ما يستاهلون هالحزن والانكسـار ، ما يستاهلوووون!!
إلين بنواح : والله عجز يا عمي! يا يبه !! عجز قلبي ما يحزن، عجزت دموعي ما تطيح ، عجز هالثبات ما يهتز!! أنا كاذبـة لما أقول بصير أقوى ، كــاذبة !!!!
عبدالله بنبرةٍ أشدّ حزمًا : ما عليه ، خلاص لا تصيرين أقوى ، لا تمنعين بكاك بس ارجعي أقوى!! اضعفي يا إلين جعل هالضعف يزعزع مرقدهم ، اضعفي وابكي وبعدين صيري أقوى وتجاوزي.
إلين ووجهها يغُوص في صدره مبللةً ملابسه بدمعِها : بعد اللي قلته!! ما أقدر ، خــلاص هذي القشة اللي قسمت ظــهــري
أبعدها عنهُ قليلًا لينظُر لملامحَ غسلها الدمُوع وأغرقَ الحُزن المترسّب على بشرتها، تشنّجت شفاهُه وهو يمسح الدمعَ بكفيْه ويهتفُ بنبرةٍ متهدّجـة : هذا وأنتِ ما وصلتِ للموضوع الأكبر وقلتِ القشّة اللي قسمت ظهرك؟ خليتيني أندم إنّي حكيت!!
تقوّس فمها بألمٍ وهي تئنُّ بحسرةٍ وتهتفُ من بين شهقاتِها المُعذّبة : باقي بعد! بــاقي اللي أكبر!!! آآه ياربي آآآآه صبّرني ...
عبدالله بوجعْ : ما أقدر أتراجع، ودي أقول كل شيء وأخليها حُزن واحد ، الحُزن المُجّزئ يوجع أكثر خليه واحد يرحمك من تكرار وجعَه.
أغمضَت عينيها بقوّةٍ وهي تعضُّ شفتها السُفلى وتنتحب، لكنّ هذا الألـم في حُزنٍ تجزّأ! كيف يقول أنّ حزنًا واحدًا يرحمُ من التكرار وهي التي ذاقت الحُزن تكرارًا؟ ذاقَتهُ مُجزّئًا حتى هذهِ اللحظـة، ذاقتـه يحفُر في نُخـاعِها ويشلّها عن الحيـاة.
ارتعشَت شفاهها بقوّةٍ بعد أن حررتهما من أسنانها وهي تهتفُ ببحّةٍ حزينةٍ دونَ أن تفتحَ عينيها : مين هو أبوي؟ مين أحمد؟!!!
عبدالله بحقد : شخص حقير ، وما يستاهِل هالدموع منّك.
إلين بألمٍ تفتحِ عينيها قليلًا لتواجههُ بأحداقها الغارقةِ في محيطِ الدموع ولا مُنقذَ يُنقذها من الغرق : شلون سوّاها؟!
ابتسمَ ابتسامةً خافتـةً مستوجِعة : ما كنتِ بنت حرام ، تطمنّي من هالشيء ، المسـألة إنّ أمك وأبُوك كانوا متزوجين زواج تبيّن إنه خطـأ ، وأنتِ الشيء الصح فيه وبس!!
لم يقُل لهُ بأنّ امها تزوّجت وهي " متزوّجة "! لم يقُل لها بأنّ امها تساهَلت بنفسها ورمَت ذاتها على رجلٍ وهي لآخر، لم يقُل لها ذلك في خضمِ هذا الألـم، سيشرحُ لها أكثر في لحظةٍ تكون فيها قد نسيتهم ومحتهم من حياتِها، وقتها لن يكون الحديثُ موجعًا، هو في النهايـة زواجٌ خاطئ، ولن تهمّ التفاصيل الآن بينما لن توجعَ في لحظـةِ تجاوزٍ لهم.
همسَت إلين بوهنٍ أصاب جسدها حتى عضلة لسانها : شلون؟
عبدالله : ما تهم التفاصيل ، المهم إن الزواج كان خاطئ وعلى هالخطأ كان لازم ينفصلون .. ومن بعدها أبُوك رفض يعترف فيك بحجّة حقيرة وهي إنّ الزواج خاطئ وأمّك خلتك عنده ، * تنهّد بأسى وهو يلحظُ رعشة شفتيها بألم ، ليُردف * بس هو ما قدّر النعمة اللي عنده!!!
أنّت حنجرتها هذهِ المرّة، جُرحَت من نصلِ البكاء، وتذبذبَ صوتها الغارقِ في الوجعِ خارجًا إليه بنشيج : بس ، بس ماهو هي كانت متزوجة أبو أدهم . . وبع ، وبعدين ، أنا شلون بكون مسجلة بأوراق قديمة عندهم اني بنت ابوه وأخته!!
عبدالله بحزم : بشرح لك التفاصِيل بعدين ، * بتردد * الحين نجي للأهم !
انتفضَت وهي تتراجعُ للخلفِ وتضعُ كفيْها على أذنيها لتبكِي بقوّةٍ وانهــزام : باقي فيه أهم!! وأكيد بتقول أقوى من كل ذا دامه أهم !!! يا الله حرام عليكم والله حرام . .
نشجَت أكثر وهي تخفضُ رأسها دونَ أن تـخفضَ يدها، انسدلَ شعرها على جانبيّ وجهها ليبتلع عبدالله ريقهُ وهو يهمسُ بألـم : أدهــم ...
صرخَت مقاطعةً لـه : خلاص خلاص لا عــاد تقول شيء ، لا عــاد تقول شيء ، ما أقدر أتحمّل أكثر من كذا اتّقوا الله فيني !!!
عبدالله بجزع : ماراح أتراجع الحين ، لازم تعرفين كل شيء ...
لم تستطِع قولَ شيءٍ أكثر وهي تُكمل معزوفةَ الحُزن من حُنجرتها وتنتحِب، تُكمل المأسآة التي استندَت على حنحرتها وأثقلتها ليخرجَ نحيبها مُختنقًا.
في حين لفظَ هو بصوتٍ سبقهُ شهيقٌ سحب بهِ هواءً كافٍ حتى يجدَ القوّةَ فيما سيقُول : ابوك لازال للحين مسجّلك باوراق رسميّة بأنك بنته - نجلاء -، ومن هالأوراق استغـ .. استغـلك ، وزوّجك ..... لأدهم . .
يُتبــع ..
|