كاتب الموضوع :
كَيــدْ
المنتدى :
الروايات المغلقة
رد: قيودٌ بلا أغلال عانقت القدر
،
عـاد للمنزِل بعد ثلاثِ ساعاتٍ من الغِيـاب، كـان قد خرجَ أكثر من ثلاثِ مرّاتٍ اليومَ ليغيبَ وقتًا لا يتجـاوزُ الساعـة، مقيّدٌ حتى في قسوتِه! لا يستطِيع تركها طويلًا حبيسةَ غرفتهِ لذا كـان لا يهنـأ في خرُوجِه، ولا يستطِيع من الجهةِ الأخرى تركها طليقةً وهو لا يستطيع الثقة بكونِها لن تهرب! ، شعرَ بالحقدِ يتصـاعدُ نحوها، شعُوره بالضيق لكونِها تدفعهُ لمعاملتها بهذهِ الطريقةِ " اللا بشريَة "، شعورهُ بالضيقِ لكونِه باتَ مقيّدًا قربها خوفًا من هربِها، وبالرغم من هذا الضيق لن يتركها دونَ حساب! لن يتركها بهذهِ البسـاطةِ ليسَ لشيءٍ سوى أنّ مرارةَ الخداعِ باتَ حجمها كبيرًا في حلقِه . . وجدَ سالِي بعد دخُولهِ تجوبُ في المنزلِ حتى تُغلقَ الأنـوار، ومـا إن رأتهُ حتى اندفعَت فجـأةً إليهِ وهي تلفُظ برجـاء : بابا سلطان حرام إنتَ سوّي كذا هذا مدام غزل يبكي فوق . .
عقدَ حاجبيْه بضيقٍ وهو يُشيح بنظراتِه عنها ويمضي متجاهلًا حديثها، إلّا أنها بالرغمِ من ذلك لم ترضى أنْ تنحلّ عن قيمها، فمهما كان الإنسـان مُخطئًا، مهما اعتقدَت في عقلها أنّ غزل خطيرةٌ ربّما، إلا أنّها لم ترضى يومًا بهذا العقـاب اللا انسانِي، فالبشرُ بطبيعتهم يحبّون الحرية، لذا شعرَت بالشفقةِ على غزل التي حُبست لثلاثِ ساعاتٍ وحيدةً في الأعـلى ومن قبل ذلك تركها ثلاث مرّاتٍ أو أربعَ لساعـةٍ كاملـة. أردفَت بجدّية : هذا فيه انسان حـرام سوّي فيه كذا ، إنتَ فيه كويّس بابا سلطان مافيه سوّي كذا
سلطان بضيقٍ يقفُ مواجهًا لها بظهرهِ وهو يرفعُ إحدى كفيْه ويمسحُ جبينه : خلاص سالي لا تزودينها عليْ اللي فيني مكفيني . . * تنهّد بعجزٍ ليُردف * جهزي لها شيء تاكله والحقيني فوق.
لفظَ بكلمـاتِه تلك ومن ثمّ تحرّك باتّجـاه عتبـاتِ الدرج، بينما زفَرت تلكَ بأسى وهي تهزُّ رأسها وتلفظَ بكلماتِ حسرةٍ ذاهبـةً باتّجـاه المطبـخ.
اقتربَ من غرفتِه بينمـا كلُّ خلايـاه تشعر بالنفُورِ منها، تركها لثلاثِ ساعات! وساعـةٌ واحدةٌ تكفِي لجعلهِ يشعر بالصديدِ يلتحقُ بحنجرتِه ويذُوقَ بها مرارةً تُضاعفُ كُرهه لها، ماذا عسـاهُ يفعل؟ كيفَ يتركها طليقةً بكامِل غبـائِه وهو بعيدٌ لا يطمئنُّ لما قد تفعله؟ أرغمتهُ على سوءَاتٍ تجعلُ منهُ رجلًا قبيحًا يضرُّ بأنثى، وبالرغمِ من كونِها تستحقُّ القسوةَ إلا أنّه لم يشعر بالمرارةِ إلا حين اضطر لحبسِها والانسلاخِ من كلِّ معانِي البشرية.
عضّ شفتهُ بقهرٍ تفنّنت في رسمِه ليومينِ بصدرِه، أخرجَ مفتـاح غرفتهِ من جيبِه بينما يدهُ الأخرى تقبضُ على الكيسِ الذي يحمله، لو أنّ بوسعهِ تمزيقَ كلّ هذا القهرِ في الجماداتِ حوله، لو أنّه فقدَ الشعورَ بكلِّ ما حـولهُ منذُ اغتيلَ مِن سلمـان، لو أنّ البلادةَ أصابتهُ فجأةً حدّ أنْ يتركها لقدرها بعيدًا عنه، لكنّه لا يقدِر! لا يقدِر أبدًا، ولو أنّ هذا الضيقَ لا يزاورهُ ويفقد انسانيتهُ بعد كلّ ذلك ولا يشعرُ بالمرارةِ تغزوه!!!
فتحْ البابَ ودفعه بينمـا عينـاهُ تستعدُّ للمحِها، ومن ثمّ ستشتعلُ نارُ حقدِه من جديدٍ ليُحرقها ككلّ مرةٍ يراها فيها منذ البارحة!! . . وجدَ السريرَ خاوِي، عقدَ حاجبيْه وهو يحرّك أحداقهُ في الغرفـةِ الواسعة ولا يجدها!! شدّ على الكِيس أكثر وأقدامهُ تتحرّك تلقائيًا باتّجـاه الحمـام الذي كـان مفتوحًا، لا يمكن أن تكون هربَت!! يستحيل ذلك !!! . . دخَل الحمـام بعجلةٍ ليجدهُ خاويًا أيضًا، حينها فغرَ شفتيْهِ وعينـاه تتّسعـان بغضب، تراجعَ للخلفِ وهو يعضُّ شفتهُ السُفلى، لكنّ أنّةً خافتـةً دفعتهُ ليستديرَ بسرعةٍ ليُفاجئ بها جالسةً على الأرضِ وظهرها يتّكئُ على السرير، لم يكُن ليراها حينَ دخَل كونُ إحدى جانبيّ السريرِ يقابلُ البابَ في شكلٍ عرضيٍّ وهي تختبئُ في الجانبِ الآخـر، زفَر باحتراقِ أعصابِه زفرةً تحمّلت بحرارةِ غضبهِ أجمع، فرّغ مافي صدرِه من غضبٍ في تلكَ الزفـرة، ومن ثمّ تحرّك باتّجـاهها تضمُّ جسدها بذراعيها ورأسها يميلُ يمينًا حتى يكادُ يسقُط عن عنقها، إحدى قدميها ممتدّةٌ على الأرض، والأخرى تعكُفها لتُلامسَ بباطنَ قدمها العاريـة الأرضَ البـاردة . . زفَر مرّةً أخرى وهو يحملُ جهاز التحكّمِ ويخفضَ برودةَ التكييف، عوضًا عن كونِ بجامتها خفيفةً كانَ بنطالها يرتفعُ إلى ركبتيها، وضعَ الجهازَ على الكومدينةِ ومن ثمّ نظرَ إليها، إلى ملامحها المستكينةِ في نومِها الموجعِ في أنّاتٍ تُصدرُ متقطّعةً متباعـدة، الملحُ يترسّبُ ماؤهُ على وجنتيْها، سمـراءُ تلكَ العيُون احترقَت بلهيبِ دمعِها، احترقَت أجفانُها بالحُزن، ذاك الحزن الذي تخلّفهُ في صدرها بيديها، يعبُر بأطنـانِ الألـمِ إلى محاجرِها فتلتهبُ عيناها بالحُمرة التي ينتظرها الآن ما إن تفتحَهما، لا ذنبَ لهُ بهذا الحُزن! لا ذنبَ له بهذا البُكـاء الذي ما ظنّ يومًا أنّه سيُخلّفهُ بِها، أشدُّ جريمةٍ هي تلك التي يقترفها المرءُ في حقّ نفسه، فما الذي فعلتِه بنفسكِ يا غزل؟ كيفَ امتلكتِ الجرأةَ على قطعِ اليدِ الممتدّةِ نحوكِ بلطفٍ لتأتيك اليدُ الأخرى / المُناقِضة لذاك اللطف! . . هزّ رأسهُ بقهرٍ وهو يقتربُ منها أكثر، رمَى الكِيس الذي كانَ يحملهُ على السريرِ ومن ثمّ انحني إليها، دسّ إحدى كفيهِ أسفل ركبتيها والأخرى أسفل عنقها ومن ثمّ رفعها عن الأرضِ الباردة، لم تشعُر بهِ في بادئ الأمـر أو لم تستوعب بالمعنى الصحيح الكفّ التي تحملها والصدر الدافئ الذي كانت وجنتها تلتصقُ بها، لكنّه ما إن وضعها على السريرِ حتى شهقَت وهي تفتحُ عينيها اللتين كانتا محمرّتين فعلًا، انتفضَت في اللحظةِ التي سحبَ فيها كفيْه من أسفلها، بينما اتّجهت أحداقها إليه ليرفعَ جسده وهو يرمُقها ببرود، ازدردَت ريقها وهي تُشيحُ نظراتها عنهُ وتمسحُ على عينيها بإحدى كفيها، حُنجرتها جُرحَت بالأنينِ السابق! تخثّنت دمـاءُ هذا الوجعِ فيها وفقدَت هويّة صوتها في غيرِ البُكـاء والأنين، الحديثُ باتَ مؤلمًا، التّشكِي لا يُسفها، لمن تشتكِي؟ لمَن تفرّغ هذا الوجعْ؟ كانَ أوّل مينـاءٍ للتشكّي، وآخرُ مينـاء! كان الوحيدَ الذي أخبرها بأن تُطفئ ثورانَ أشرعتها وتسترخي في أضلعِه، لكنّه باتَ ساخنًا فجأة، لم يعُد يأوي، باتَ يجرحُ سفينتها بتعاملٍ قاسٍ! بتعاملٍ وجَدت فيهِ البردَ والخـواء!!
استدارَت قليلًا لتتمدّد على جانبها الأيسَر وتواجههُ بظهرها، وبغصّةٍ يخرجُ صوتها مبحوحًا بعدَ أنْ فُقِد، يؤذي حُنجرتها المستوجعة، بنبرةٍ كـان بها الكثيرُ من الأسى كما الخوفْ : الحيوانات مكانها ماهو في السرِير، ليه شلتني عن الأرض؟
انقبضَت عضلةٌ في وجنتِه وهو يرمقها بذاتِ نظرتهِ البـاردة، وبصوتٍ قاسي : لا تمثّلين دورَ المُضطَهد!
غزل بحُزنٍ يتّزنُ في صوتِها لينشطِر عن هدوئِها الثبـات : مو قاعدة أمثّل ، أنت اللي قلت هالشيء من حبسَك لِي بهالطريقة وكأنّي حيوان عندك!
جلس على السريرِ بجانبها لتبتعدَ عنهُ تلقائيًا وقلبها ينبضُ بتسارِع خوفِها منهُ وربكتها، بينما ابتسمْ هوَ بقسوةٍ وهو يمدُّ يدهُ نحو الكيس الذي كان عند قدميها، ليلفظَ بحدّةِ قسوتِه التي تقتل : عارفة قدرِك ، كويّس.
ارتعشَت شفاهُها وهي تُغمض عينيها بقوّةٍ وتُحيطُ جسدها الهُلاميَّ بذراعيْها، تقوّست على ذاتِها وتقوقعَ البُكـاء في حنجرتها بعد أن تعِب منها، تعبَت الدمُوع من عبورِ محجريها، من عناقِ أحداقِها، تعبَ البُكاء من حُزنها، لم تتخيّل يومًا أن يكون ضربَ الكلامُ أقسَى من ضربِ اليديْن! لمَ كلماتُه تجرح؟! لمَ تؤذِي بهذهِ الطريقة؟ ألأنها اعتـادت قبلها اللطف؟ ألأنها اعتادت من قبلها الاحتواء؟ لم تظنّ يومًا أنّه يملك هذا القدر من القسـوة، تلكَ العينين كيفَ تقسُو وهي ملاذ؟ تلك الشفـاهُ كيفَ تجرحُ وهي قبّلت مرةً رأسها بمواساة؟ ذلك الصدرَ الدافئ، كـان مرّةً مينـاء، كيف أصبحَ يا اللهُ قبرًا؟
استدارَت أكثر حتى كـادت تدفُن وجهها في الوسـادة، تقوّست شفاهُها بوجعٍ يحرقُ خلايـاها، يحرقُها رغمَ البردِ فيها! رغمًا عن كلِّ شيءٍ كـان حديثُك يا سلطـان ينخرُ ببرودِه بقسوةٍ تحرق! كيفَ تجتمعُ الأضداد؟ لا تدري! مثلما جاءَت القسوةُ بعد اللطف هاهي الحرارةُ تجتمعُ مع برودةِ كلماتِه. همسَت بغصّةٍ احتوَت الكثيرَ من الرجـاءِ والألم، تغمضُ عينيها وتصدُّ عنهُ وعن قسوةِ عينيه بحجمِ ما تستطِيع : عمري ما توقّعت إنّ قسوة أبُوي ممكن تصير ولا شيء عندك ! عند أي شخص !! عمري ما توقّعت أصلًا إن فيه شيء أقسى من الضرب ! رجّعني له يا سلطان تكفى! نـاره ولا جنّتك إذا باقي نقدر نقول إنّك جنة!!
سكَن كلُّ شيءْ، غابَ صوتُ أنفاسِه وبقيَت أنفاسهَا المُتألّمة، صمتَ صوتهُ لترتعشَ حتى في صمتِه، احتضنَت نفسها أكثـر دونَ شعورٍ منها وهي تدفنُ وجهها هذه المرّة في الوسـادة وكأنّها تدرك مليًّا أن هذا الصمتَ وهذا الهدوءَ يسبقُ عاصفـةً مـا، ولم تكدْ في تلك اللحظـة أن تمرّ خمسُ ثوانٍ على هذا الانكماشِ الذي أصـاب جسدها حتى شعرَت بأصابعِ يدهِ تنغرسُ في كتِفها، صرخَت بذعرٍ بينما أدارها سلطان بقسوةٍ ليقلبها على ظهرها وتتّجه عيناها المتّسعتينِ بذعرٍ لعينيهِ فوقها، وجههُ الذي اقتربَ من وجهها، نظراتُه الحـادة والمُرعبـة، تلكَ النـارُ التي تُحيطُ بأحداقِه، تلكَ النـار السوداءُ التي تكادُ تلتهمها، اقتربَ من وجهها أكثر وهو يشدُّ على أسنانه، وبصوتٍ حـادٍ رتّل فيهِ أقسى معانِي الغضب : لو أسمع منّك هالجملة مرّة ثانية صدّقيني بخليك تنسين كل شيء شفتيه من أبوك من قبل، بخليك تنسين أبوك من الأسـاس وما تذكرين إلا سلطان وقسوة سلطان . . * أضاف بصوتٍ أكثر حدّةٍ وهو يكاد يغرس أصابعهُ في جلدها * رجعة له احلمِي فيها ، قلتها لك وبكررها .. ثمن غبائِك حياتِك اللي بحتكرها فيني وبس! صلّي صلاة الميّت على حريّتك.
عضّت شفتها المرتعشتينِ وعيناها تخفُتـان بدمعِها الذي اجتمعت قطراتُه في موجةٍ عاتيةٍ، موجةٍ أهلكَت قواربَ النجـاة من اعصـارٍ تكوّن في - سلطان -، ارتعشَت نبرتها في فمِها لتخرجَ بكلماتٍ متقطّعةٍ واهنـة : أثبَت لي .. إن كل .. الرجال .. مثل بعض!
ابتسمَ بسخرية : تهينيني لا حطيتيني في مقارنة مع أبُوك.
زمّت شفتيها وهي تنظُر لملامحهِ التي تشوّشت بتكتّل الدموعِ في عينيها، انكسَرت الصورةُ المثاليـة، الحنـانُ الصافِي، ورأت الآن صورةً أخرى امتلأت قسوةً مؤلمـة! قسوةً جلبَت حزنًا عاقـر حزنًا قبلهُ كـان يمتلئُ قهرًا . . عقدَت حاجبيها حين استذكَرت ذاكَ الحُزن، تلكَ الخيبة، ارتعشَ جسدها لذكرَى لم تعبُر وبقيَت تسكنها حتى الآن، لذا واتتها رعشـةُ قهر، أسقطَت دمُوعها دُون شعورٍ منها وهي تشعُر بالانكسـار يتكرّر، صورتيْن تمثّل بها سلطـان، صورتيْن كـان ختامها الألـم! . . لذا وجدَت نفسها دونَ شعورٍ تشدُّ على أسنانها بقهرٍ منهُ ومن هذهِ الصورة التي ناقضَت سابقتها، أطلقَت كلماتها المقهورة بوهنٍ وبالرغمِ منه كانت حدّة تلك الكلمـات كافيـةً لتُغيظه : حقير ، حيوان ، حشـرة و *** و . . .
قاطعهـا بصرخـةٍ مُفاجئةٍ وهو يضعُ كفّهُ على فمها ويخترقُ فكّها بأناملِه، لم تكُن تلك الصرخـة سوى باسمها، باسمها الذي باتت تكرهُه، باسمها الذي أضـاف إليه حرفًا أو اثنين ودلّلها به، بـ " غزال/غزالة "! صرخَ باسمِها جافًّا من تدليلهِ وانتقـل الجفافُ إلى أنامِله التي تيبّست مخترقـةً فكّها، دفنَ رأسها بالوسادةِ وهو يضغطُ عليه ويشدّ قبضتهُ الأخرى على كتِفها لافظًا من بينِ أسنانِه بغضبٍ حـاد : يـــا وقــــحــــة ، باقي عندك وجه تحكين وتسبّين؟ أنا اللي بربّيك يا بنت أبوك ، أنا اللي بربّيك !!!
أغمضَت عينيها بقوّةٍ ورغمًا عنها كانت تنتفضُ أسفلهُ بخوف، ندمَت لمـا قالتهُ بعد اشتعـال عينيه أكثر، اشتعـال كان يعلُو دونَ حاجتهِ لحطبٍ فكيف إذا أضافتهُ إليه؟ . . أمـال فمهُ بقرفٍ منها وهو يُقرّب وجههُ من وجهها، كـانت تشعر بأنفاسِه الحـارة، الحـاقدة، شعُورها بها تقتربُ منها دفعها لمحاولـة إشاحةِ وجهها عنهُ إلا أنّ يدهُ التي كانت لا تزال على فمها كـانت خيرَ مُقيّد، فتحَ فمهُ حتى يهتفَ بشيءٍ مـا لربّما تكون قسوته أكبـر، لكنّ صوتَ البـاب في تلكَ اللحظـة جعلهُ يتجمّد لثانيتيْن قبل أن يُبعد كفّه عن فمها وينهضَ عن السرير، اتّجهَ للبـاب بينما ضمّت هيَ جسدها في علامـةِ احتمـاءٍ كرّرتها عشرات المرّات لخوفِها منه، عضّت شفتها حتى تُسكن رعشـتها، ولو أنّها تقضُم الرعشـة في كامِل جسدِها !! . . سمعتهُ يشكُر سالِي ومن ثمّ يغلق البـاب، تحرّك حتى وصل للطـاولة ليضعَ الصينية التي حملَت كوبيْن من العصير وصحَنًا احتضن " ساندويتشين "، اعتدل في وقفتهِ وهو ينظُر نحوها بجمودٍ لافظًا : تعالي كلي لك شيء قبل لا تنامِين.
لم تنظُر نحوهُ وهي تزدردُ ريقها، لا تملك الجرأة في الرد بعد أن استنفدت جرأتها في شتائمها التي تمنّت لو أنّها أثلجَت حرارةَ هذا الخوفِ وربكتها، رفعَ إحدى حاجبيه بحدةٍ من تجاهلها، ليردفَ بصوتٍ حادٍ حازم : غــــزل ، ما ودي أكرر الكلام اللي بقوله.
زمّت شفتيها لتشدّ على أجفانها بقوّةٍ وتهتفَ بضعفٍ موجِع : ما أحب آكل قبل النوم.
سلطان بحزم : دامه وصل بتاكلين غصب عن ما أحب ذي ، قومي أشوف.
نهضَت رغمًا عنها وهي تُعيد شعرها خلفَ أذنها باضطرابٍ وتنظر للأسفل، اتّجهت نحوهُ بخطواتٍ مُتباطِئة ترسمُ فيها بفرشـاةٍ مِهترئةٍ اهتـراءَ حياتِها، هاهيَ حياتُها تكتملُ لوحتها في الألـوانِ ذاتها، حين ظنّت أن تلك العتمةَ أضيأت لبعض الوقتِ كانت واهية! لم تُضيء عتمتها، لم تُرسم ولو - خطأً - بلونٍ فاتـحٍ يملأ عتمتها ببعضِ التفاؤل، كـان الفرح حكرًا على غيركِ يا غزل، على غيرِك!!
جلسَت على الأريـكة المعتمةِ كحياتِها بلونٍ ليلكيٍّ يغمّد الضوءَ بظُلمتِه، نظَرت للصينية فوقَ الطـاولة ووجهها المُنتفخ ببكائِها يشرح المأسـآة التي تعيشها منذُ يومين، في حين كان سلطـان قد جلسَ على أريكةٍ منفردةٍ وهو ينظُر نحوها بحدّةٍ اكتمـلت بصوتِه الآمـر : مدّي يدك تبيني بعد أعلّمك شلون تآكلين والا منتظرتني أأكلك يا بنت الأمير؟!
انقبضَت عضلاتُ وجهها ومن ثمّ تحجّرت بمدى الضعفِ والإهـانات التي يُطلقها إليها اليوم، سواءً كـانت مباشرةً أو غيـر مباشِرة، الكلام يجرح أكثر من أذى الجسدِ فعلًا! يجرحُ أكثر من جلدٍ وصفعة! يجرحُ حين يكُون صاحبها مُتقنًا لمـا سيُخرجه، ولم تظنّ لوهلةٍ أن يكون سلطان متقنًا بهذهِ الدرجة!!
مدّت يدها المُنتفضـة نحو الصينية لتبدأ بالأكـل دون رغبةٍ وهو يراقبها بجمود، تركها حتى أنهَت نصف الساندويتش ومن ثمّ وضعته وهي تهمسُ بغصّةٍ جعلت عبُور اللقمـة مؤلمًا : خلاص شبعت.
سلطان بجمود : والعصير!
غزل بنبرةٍ باهتة : مالِي خاطِر فيه.
سلطان وشفاهُه المتشنّجة تتحرّك بثقلِ رغبتِه في إرغـامها على كلّ ما يُريد! : ماراح أمشّيها مثل الساندويتش، اشربيه.
رفعَت نظراتها المُنكسِرة إليه وهي تستشعرُ الاضطـهاد في صوتِه، من الواضح أنّه لا يريد شيئًا بحجمِ التسليَةِ بإرغامِها على الأكل، لم تستطِع الاحتمـال! لم تعُد تستطِيع الاحتمـال!! ثقُلت أهدابها بقطرةِ دمعةٍ عادَلت في وزنها أطنـان وجعها، لم تكُن أهدابها لتحمل تلكَ القطرة، لذا سقطَت ببطءٍ وهي تنظُر نحوهُ بانكسـار، حينها انتفضَ وهو يقف، أشـاح نظراته عنها وهو يشدُّ على أسنانه بقوّة، ارتفعَ صدرهُ بشدّةٍ ليهبطَ بعنفِ تنفّسه، اتّجه نحوَ الحمـام بخطواتٍ واسعة وهو يلفظِ بنبرةٍ جامـدة وعينيه تهربـان عن النظرِ إليها : الكيس اللي فوق السرير فيه جوّالك اللي صلحته لك، لا تفتحينه الا بكرا . .
وقفَ أمام البـابِ وهو يُمسك بمقبضِه ليُردفَ بصوتٍ انخفضَت قسوتهُ التي فرّغها في الشدِّ على المقبضِ حتى آلمته مفاصله، ليُردف : ونامِي اليوم متطمّنة لا تجلسين تتنافضين وتزعجيني بالنُوم ، أنا كنت حالف ما أقربك من قبل، وماراح أقربك لين ما أكفّر عن حلفانِي.
دخَل الحمـام وأغلقَ البـاب لتنتهي كلماتُه، ليُبتـر صوته الذي لربّما ظنّ أنّه سيُطمئِنها، لكن لا، لم تكُن تلك الكلمـات مطمئنة، لم تكُن سوى دليلًا على كونِ كلّ شيءٍ سيصير مؤخرًا ، لن يتراجع، لن يتراجع أبدًا ..
،
تضعُ ظاهـر كفّها على عينيها وهي تفغُر فمها لتلتقطَ الأكسجِين، جسدها المسجّى فوقَ السريرِ واهِن، والغُرفـةُ بـاردةٌ بدرجةٍ تشعُر أنّها تُجمّدها، أو ربما نقصُ الأكسجين في دمِها يُشعرها بهذهِ البـرودة . . تشعُر أنّ قلبها سيخترقُ أضلعها ويخرجُ من شدّة نبضاتِ قلبها التي بات نبضها في كامِل جسدِها، بينما السـاعةُ تدقُّ بتعانقِ عقاربها عند الثانية عشرةَ منتصفَ الليل.
سمعَت صوتَ بابِ الجنـاحِ الخارجيِّ يُفتح، ومن ثمّ صوتُ شاهين الذي ألقى السـلام بصوتٍ عالـي، اتّجه مباشرةً نحوَ الغرفـة وصوت خطواتُه يسبقه، حينها أزاحَت كفّها عن عينيها وهي تنظُر باتّجـاه البـاب الذي فُتح ودخَل منه شاهين مبتسمًا بإرهـاق الليلةِ الماضيـة الذي امتدّ حتى هذهِ اللحظـة، هتفَ بنبرةِ شوقٍ إليها : هلا بالكيـان اللي اشتاقته عيُوني.
ابتسمَت بصعوبةٍ وإجـهاد، حاولَت الجلوسَ إلا أنّها لم تستطِع، حينها عقدَ حاجبيه بشدّةٍ وهو يلحظُ الإرهـاق الذي يطفُو على ملامحها، سافـر الإرهاق الذي كان على ملامحه وغـادر موكبَه وهو يندفعُ إليها بخطواتٍ واسعَة حتى وقفَ بجانبِ السرير وهو يلفظُ بقلق : بسم الله عليك شفيك؟
حـاولت الجلوس من جديدٍ إلّا أنّ يديه امتدّتـا ليُسكنها على السريرِ وهو يلفظُ باهتمـام وقلق : لا تقومين . . مختنقة؟
أغمضَت عينيها بإجهادٍ وهي تتنفّس بصوتٍ مسموعٍ وتهزُّ رأسها بالإيجاب، حينها تحرّك يدير رأسه يمينًا ويسارًا وهو يسألها بعجلة : وين بخاخك؟
حرّكت شفتيها الباهتتين بصعوبةٍ لتهمس بصوتٍ مبحوحٍ وكلماتٍ تخرجُ إليه بصعوبة : م مافيه ، داعي .. تو شربت ، حبوبي . .
عاد ليقتربَ منها وهو يمدُّ يدهُ ليضعها على صدرها جهةَ قلبها، شعرَ بتسارعِ نبضاتِها ليلفظَ بعقدةِ حاجبين : بيوتالين؟
هزّت رأسها بالإيجـابِ ليتحرّك بخطواتِه بعجلةٍ ناحيـة الباب وهو يلفظُ بضيق : بسوي لك شيء دافي تشربينه ، وإذا ما تحسّنتي استخدمي البخاخ ومن بكرا تغيّرين حبوبك لشراب أو أي حبوب ثانية عشان الخفقان.
لم تردّ عليهِ وهي تشعر فعليًا أنّ تنفّسها بات أفضلَ مما كـان قبل دقائِق، في حينِ اتّجـه شاهين للمطبخِ حتى يصنعَ لهـا حليبًا ساخنًا وهو يشمّر أكمـامَ ثوبِه . . حتى هذا الاهتمـامُ يقتل! لا تدرِي كيف تجيئها هذهِ الأفكـار في لحظـاتِ تعبِها وإرهـاقها، لكنّ اهتمامهُ يقتلها رغمًا عنها، رغمًا عن تعبِها وأوجاعِها.
،
يقتربُ من غرفتِها والأحـاديثُ تتصادمُ في حنجرتِه، الأحـاديثُ والحقائق التي لابد من أنْ تظهر، حـان وقتُ ظهورها، حـان وقتُ بزوغِ هذا الماضِي المُخرِس للهدوء، كيف يشرحُ صعوبـة ما يحدث؟ صعوبة المهمّة التي ألقَت على عاتِقه وكان ذنبًا أن يؤخر القيـام بها بعد أن غابَت لأربعـة عشرَ عامًا، بعدَ أن استكـان الكذبُ بينَ طيّاتها وعاشَت في حياةٍ زائِفة!!
جــاءت الحقيقةُ يا إلين/نجـلاء، جـاءت بقسوتِها التي تُثمر في صوتِه المبحوح . .
.
.
.
انــتــهــى
موعدنا القادم يوم الخميس
وبإذن الله هذي آخر الاعتذارت أو نقول بتصير اعتذاراتي شبه نادرة في القادم بحسب شدّة الظروف - بإذن الله -
ودمتم بخير / كَيــدْ !
|