كاتب الموضوع :
رباب فؤاد
المنتدى :
رومانسيات عربية - القصص المكتملة
رد: 31_ قلب أخضر بقلم رباب فؤاد .. القلب الرابع
اكتست ملامحه بحزن عميق وذكريات ذلك اليوم البغيض تتدفق أمام عينيه وتخنق صوته الذي كان قوياً قبل لحظات ليقول بألم ـ"يوم تخرجنا كنا في قمة السعادة، وقررنا السفر إلى الإسكندرية للاحتفال. كنا أربعة أصدقاء واستقل كل اثنين منا سيارة. وأخذت أنا صديق عمري وتوأم روحي (جلال الصاوي). كنا لا نفترق أبداً، حتى ذلك اليوم الذي فرقنا للأبد. قضينا وقتاً ممتعاً واستمتعنا كثيراً، ثم قررنا في لحظة جنون أن نعود إلى القاهرة فجراً رغم أن لدينا شقة في الإسكندرية وكان يمكننا المبيت بها. لا أدري لماذا وافقت على اقتراح (جلال) المجنون بالعودة.. ربما لأن قدره كان يناديه. لكنني لازلت ألوم نفسي على مجاراته هذا اليوم، رغم أنني لم أكن مسؤولاً عما حدث بعد ذلك. حسب أقوال أصدقائنا كنت أتقدمهم بسيارتي، ولكن سرعتي كانت عادية لأنني بطبعي لا أميل إلى القيادة السريعة. ثم مرت من جانبهم شاحنة ضخمة تخطت سيارتهم ثم أصبحت فجأة فوق سيارتي قبل أن تتوقف تماماً فوق الجانب الأيمن الذي دهسته بالكامل وبداخله (جلال) رحمه الله".
قالها وتوقف عن الحديث ليلتقط نفساً مرتعداً يخفي به انفعاله للحظات همست فيها(علا) قائلة بتأثرـ"لا حول ولا قوة إلا بالله. أهذا هو الحادث الذي حدثتني عنه في المستشفى؟"
هز رأسه إيجاباً وهو يلتقط نفساً عميقاً يتغلب به على ارتجافته الداخلية ويواصل الحكي قائلاً ـ" نعم هو ذاته ولا داعي لتكرار الحديث عنه. المهم أنني حينما أفقت من المخدر وجدت والدة (جلال) إلى جانبي في المستشفى. كم هي سيدة عظيمة تحملت صدمة وفاة ابنها ودفنته قبل أن تأتي لترعى من كان سبباً في موته حتى عاد والداي من أمريكا. لن أنس موقفها ما حييت. كانت دائماً بمثابة أمي الثانية، وبعد موقفها ذلك أصبحت اعتبرها أمي الحقيقية، وظللت أبرها وارعها كأمي حتى لحقت بابنها الصيف الماضي".
ترقرقت الدموع بعيني(علا) وهي تقول بصوت مختنق ـ"إنا لله وإنا إليه راجعون."
تنحنح(مازن) ليتخلص من نبرة الحزن التي تغرق صوته قبل أن يواصل قائلاً ـ"حينما وصل أهلي أصروا على نقلي إلى أمريكا للعلاج، خاصة حينما رأوني مغطى بالجبائر من رقبتي وحتى قدميّ، وبالطبع لم يكن باستطاعتي الاعتراض لأنني كنت تحت تأثير المخدر أغلب الوقت، فالآلام كانت لا تُحتمل. وبفضل علاقات والدي نقلتني طائرة طبية خاصة تابعة للأمم المتحدة إلى نيويورك، وأجروا لي أكثر من جراحة لإصلاح جانبي الأيمن المهشم بسبب الحادث، ولإعادة توصيل الأعصاب في أصابع كفي الأيمن الذي فقدت القدرة على التحكم الطبيعي به. وبعد حوالي أربعة أشهر قضيتها في الفراش، بدأ العلاج الطبيعي. وكيلا أطيل عليك فقد تزوجت أخصائية العلاج الطبيعي التي كانت تتولى إعادة تأهيلي. هي كانت مسلمة من أصول شرقية لكنها لم تكن تمت للشرق ولا للإسلام بأي صلة، لا دينياً ولا أخلاقياً، ولذا لم نتفق وانفصلنا بهدوء. ومنذ ذلك اليوم لم ألمس أنثى، واقسم لك بالله أنني لم اكذب في أي كلمة قلتها. ها؟ هل تصدقيني؟ "
مسحت بأناملها دمعة حائرة حاولت السقوط على وجنتها وهي تقول بصوت حاولت منحه نوعاً من الجدية ـ"أيهمك رأيي؟"
قال برقة ـ"مادمنا سنرتبط، فرأيك يهمني بكل تأكيد."
قالت بجمود أدهشها قبل أن يدهشه ـ"موضوع الارتباط سابق لأوانه. أنت رويت لي قصة مؤثرة لكنك لم تحل المشكلة. فأنا لا زلت لا أعرفك، ولا يمكنك معرفة حقيقة البشر من خلال الحكايات... أليس كذلك؟"
شعر بالإهانة من عبارتها وتصاعدت الدماء إلى وجهه للحظات تعمد فيها أن يتأمل(علا) في صمت وهي تعض شفتيها ندماً على تسرعها قبل أن يقول بهدوء وثقة قاتلين ـ"بالطبع لا أحد يمكنه معرفة الحقيقة عبر الحكايا، لكننا نعرفهم عبر مواقفهم معنا ومع غيرنا. وإذا قلت لك إنني استطيع معرفة الأشخاص من المقابلة الأولى فلا تصدقيني، فأنا للأسف أفتقر إلى هذه الفراسة. لكنني أستطيع سبر أغوارهم بمرور الوقت، ولهذا لم أقف عند ما حكيته أنت لي عنك، واكتفيت بما رأيته فيك وأقنعني بطلبك للزواج. أظن أنك أيضاً رأيت مني أثناء تعاملنا سوياً ما قد يساعدك في اتخاذ قرار بشأننا، مع وضع (مودي) في الاعتبار بالطبع. لذا أريد منك جواباً نهائياً الآن. هل أنت مهتمة بطلبي أم لا؟"
وقف شيطانها أمامها في هذه اللحظة يسول لها الرد بكلمة كفيلة بهدم كل شيء في مهده، حينما قاطعها دخول أبيها الروحي وهو يقول بابتسامة واسعةـ"ها..علام اتفقتما؟ إذا أردتما رأيي فالتفاهم والقبول الآن يكفيان للارتباط بينكما، والحب يأتي بالعشرة الحسنة والمزيد من التفاهم. المهم هو اختيار الشخص الصحيح الذي يستحق أن تقضي باقي حياتك معه. أليس كذلك؟"
تبادل(مازن) نظرة سريعة مع(علا) قبل أن يعود صوته إلى حلاوته المعهودة وهو يقول بابتسامة جذابة ـ" أنا معك يا دكتور، ورأيي أن نعقد القرآن الآن، وتؤجل (علا) سفرها إلى الجمعة القادمة كي نسافر جميعاً بعد الزفاف".
اتسعت عيناها وهي تهب واقفة وتهتف بدهشة ـ"الزفاف؟ عماذا تتحدثون؟ أنا لم أتخذ قراري بعد. أعطوني مهلة لأفكر بعيداً عن هنا، وحينما أعود سأبلغكم بقراري".
هز(مازن) رأسه وهو ينهض هو الآخر ويترك (مودي) قائلاً بعناد طفولي ـ"وأنا لن أترك حرمي المصون تسافر دون محرم، وأظن أنني محق في ذلك. أليس كذلك؟"
التفتت إلى أبيها الروحي في يأس فقلب كفيه قائلاً ـ"معه حق دينياً."
مطت شفتيها كالأطفال وهي تقول بعناد مماثل ـ"لكنني سأكون في صحبة آمنة."
هز (مازن) رأسه ببطء وهو يقول بابتسامة مستفزة ـ"لن أطمئن عليكما مع غيري، ثم إنك لست ذاهبة إلى الحج كي تقولي صحبة آمنة. أنا زوجك ومحرمك".
ثم ما لبث أن اقترب منها في سرعة وهو يهمس بأذنها ـ"أو خطيبك ومحرمك. سنعقد القران هنا ثم نسافر سوياً، وهناك ستتعرفين إلي أكثر ثم تتقبليني كزوج حقيقي. ها.. ماذا قلت؟"
توردت وجنتاها حينما خُيل إليها أنها تفهم مغزى حديثه وصمتت للحظات قطعها الدكتور(مصطفى) بقوله ـ" السكوت علامة الرضا. وبصفتي ولي أمرك أنا أوافق على رأي(مازن)."
ثم وجه حديثه إلى(مازن) قائلاً ـ"اطلب (حمزة) و(رأفت) كي يشهدوا على زواجكما ويحضروا المأذون معهم. للأسف (شادي) ابني وأسرته في أمريكا، كان يتمنى أن يفرح ب (علا)، وبالتأكيد أسرتك كانت تتمنى حضور مثل هذا اليوم".
اتسعت ابتسامة (مازن) وهو يتأمل ملامح عروسه الخجلى ويقول بهدوء لا يخفي سعادته ـ"إن شاء الله سأصحب (علا) و (مودي) ونسافر نيويورك كي تتعرف إلى أمي وأبي وأسرة أخي (زياد). وقد يمكننا لقاء دكتور (شادي) وأسرته. أعتقد أنه يقيم في نيوجيرسي، أليس كذلك يا دكتور"؟
هز دكتور (مصطفى) رأسه إيجاباً وهو يقول بحماس ـ" بلى يقيم في نيوجيرسي، وهي قريبة جداً من نيويورك، لا يفصلهما سوى نهر هدسون. سيسعد (شادي) بكما للغاية".
ثم ما لبث أن حرك سبابته مهدداً في وجه (مازن) وهو يضيف ـ" وليكن بعلمك لو كان (شادي) تعرف إلى (علا) قبل زوجته لكان تزوجها دون نقاش، وحينها لم أكن لأزوجها لك مهما فعلت".
|