لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-08-11, 07:08 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2011
العضوية: 228113
المشاركات: 7
الجنس ذكر
معدل التقييم: moonlights5000 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
moonlights5000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : moonlights5000 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الأخت أسيل المحترمة
شكرا جزيلا على ردك المشجع وأرجو أن توافيني بما ترينه جيدا أو غير جيد أو ما قد يحتاج إلي تعديل في الرواية وذلك بعد قراءة الفصول التي سوف أقوم بإضافتها قريبا

 
 

 

عرض البوم صور moonlights5000  
قديم 18-08-11, 07:10 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2011
العضوية: 228113
المشاركات: 7
الجنس ذكر
معدل التقييم: moonlights5000 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
moonlights5000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : moonlights5000 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الفصل الأول
آخر الرحلات إلي أستنبول
مدينة القدس.. عام 1901 ميلادية.
في باحة المسجد الأقصى وعلى بساطه الأخضر جلس الشيخ أيوب المقدسي وقد تحلق حوله رهط من الرجال مع من تحلقوا من طلاب علمه الكثيرين ينصتون للشيخ الوقور بإرهاف من على رؤوسهم الطير.
كانت صلاة العصر قد فرغت لتوها, وكعادة الشيخ أيوب جلس يحادث تلامذته ويلقنهم من علوم الدين على مختلف فروعها من حديث وفقه وشريعة وغيرها, كما كان يفعل عصر كل يوم وحتى مغيب الشمس, بصوته الهاديء وقسماته الوديعة ولحيته التي خالطها الشيب وتلك الابتسامة التي لا تفارق شفتيه. بيد أنه بدا في هذا المساء على غير ما عهدوه, فقد كان متهدج الصوت مضطرب النظرات تحمل أنفاسه بين الفينة والأخرى زفرات ملئها التوتر المشوب باللهفة والشوق وكأنه على موعد مع حبيب طال الشوق إليه وانتظاره.
مع مطلع عام 1860 ميلادية وفي بيت المقدس كان مولد الشيخ أيوب وبين أشجار الزيتون الوارفة, التي ملئت أرجاء المدينة فأضفت عليها من الجمال ما زادها رونقاً, كانت نشأته حتى بلغ من الشباب مطلعه. ولأن والده كان رجلا ورعا تقيا حالت ظروف الحياة القاسية بينه وبين حلمه في أن يصبح رجل دين يدعو إلي سبيل ربه فقد نذر ولده الوحيد للعلم وجعله وقفا على الدعوة لدين الإسلام, فما أن بلغ أيوب السادسة من عمره حتى دفع به والده إلي أحد مشايخ المدينة البارزين ليحفظ على يديه كتاب ربه ويتعلم كيف يتلوه حق تلاوته.
ولقد كان الفتى الصغير ذكيا ذا عقل متقد وشغف للعلم جعله يقبل عليه بنهم من لا يشبع, ولم يكن في تلك الأيام أسعد من والده على وجه البسيطة وهو يرى طفله الصغير يضرب في طرقات العلم بخطوات سريعة ثابتة وواثقة إلي الحد الذي جعل شيخه ومعلمه يتنبأ له بمستقبل باهر يضعه في مصاف الأئمة العظام.
عشر سنوات قضاها الفتي في كنف شيخه وأستاذه عبد السلام الأحمد فارتبط به إرتباطا وثيقا وكأنه جنين تشبث بحبله السُري..كان أشد ما جذبه لهذا الشيخ الوقور وأكثر ما أثار أعجابه في شخصيته الفريدة الرائعة هو علمه الواسع مع تواضعه الجم.
ذات يوم أمتدحه وأثنى على أتساع مداركه وتشعب معارفه فأطرق الشيخ برأسه وكست وجهه حمرة لم يستطع الفتى أن يفسرها وقتها, أهي حمرة الخجل؟ أم أنه الغضب قد أخذ بمجامع الرجل الوقور الطويل الصمت والتأمل؟.. ذلك أن الشيخ عبد السلام كان من ذلك النوع من الرجال الذي يرى في المديح باب للتملق ومسلكا من مسالك الغرور إلي النفس, وما أكثر من ملك عليهم الكبر ذواتهم لكثرة ما صب من مدح في مسامعهم.
أوجس الفتي في نفسه خيفة أن يعتريه غضب معلمه وأباه الروحي فسأله بصوت متعثر ينضح بالتوتر
"ماذا بك يا شيخي؟!"
رفع إليه شيخه رأسه ورمقه بنظرة ثاقبة أحس معها أيوب وكأنه عصفور قد بلله القطر فانتفض..ثم ما لبث أن جاءه صوت الشيخ كعادته جهورا عميقا وإن كان يحمل هذه المرة من الحدة ما لم يخفى على مسامعه
" أعلم يا ولدي أن العالم مهما بلغ من العلم إنما يحمل من بحور المعارف قدر ما يحمل الطائر في منقاره من ماء البحر, فالله عز وجل يقول في محكم آياته وما أوتيتم من العلم إلا قليلا,ومن سلك مسالك العلم أفنى فيها عمره وما قطع منها سوى خطوات قليلة, وأن العالم الحق من ظن في نفسه الجهل ذلك أن ظنه هذا دافعه لأن يسعى حثيثا خلف تحصيل المعرفة,وأن من أعتقد في نفسه أنه قد بلغ سنام العلم قعد عن طلبه وأصابه من الكِبر ما يرميه في مصاف الجُهل, وإني إنما أريدك أن تسعى وتلهث خلف المعارف, فلا تفرحن يوما بمدح جاهل ولا تحزنن لنقد عاقل ولا تجعل شيئا يحول بينك وبين مطلبك إلا الموت."
كانت كلمات الشيخ تقطر من فمه كالدر النفيس فبقيت عالقة بذهن أيوب لا تبارحه.. بقيت هناك في ركن قصي من عقله فما أمتدت إليها يد النسيان وما أستطاع أن يمحوها تعاقب الليل والنهار.
هو لا يزال يتذكر تلك الليلة البعيدة وكأنها الأمس القريب.. في تلك الليلة كان الشيخ عبد السلام يتأهب لسفر طويل أعتاد عليه في مثل هذا الوقت من كل عام وبقى على تلك العادة لم يقطعها حتى وافته المنية.. ذلك أنه ولشهر كامل كانت رحلته السنوية إلي قلب الدولة العثمانية الأستانة حيث كان يقضي أياما هناك مع صديق له يدعى كاظم باشا .
هكذا أخبره شيخه كما أخبره أيضاً بأن صديقه هذا يعمل في بلاط الخليفة العثماني وأنه قد تعرف عليه منذ سنوات حين أرسله السلطان الراحل عبد المجيد الثاني في مهمة هنا ببيت المقدس.
في تلك الليلة كان على أيوب أن يودع شيخه وأستاذه بقلب يكاد ينفطر كمداً فلكم كانت تلك الأيام التي يغيب فيها شيخه عنه ثقيلة على عقله ووجدانه ولكم كان يشعر بالوحدة والفراغ يكادا يذهبا بروحه.. كان دائما ما يساوره الإحساس بأن المدينة بل والعالم بأسره قد خلا من حوله فكان يعكف على حساب الأيام والليالي منتظراً عودة شيخه من رحلته.
غير أن الشيخ عبد السلام وفي رحلته الأخيرة تلك لم يعد.. أو ..
أو أنه عاد جسداً بلا روح.
وما كان الفتى يعلم أن وداعه لشيخه في تلك الليلة هو الوداع الأخير.
...................................
في أواخر عام 1876 م كانت أخر رحلات الشيخ عبد السلام إلي الأستانة.. ولم يكن هناك ثمة ما يذكره بأول مرة تقع عيناه فيها على هذه الدرة النفيسة سوى ذلك الأنبهار الذي طالما أستحوذ عليه وكان القاسم المشترك بين جميع سفراته إلي هناك.
بميناء على ضفاف البسفور رست به السفينة.
كان رصيف الميناء على صغره يضج بالحياة وبأكتاف متزاحمة ووجوه أختلط فيها السرور بالحزن .. فذاك الباسم قد جاء في أنتظار صديق أو قريب طالت غيبته وثار القلب شوقا لرؤيته.. وتلك المتجهمة الباكية لابد أنها زوجة أو أم في وداع زوجها أو ولدها الذي سوف تحمله الأمواج عما قريب نحو المجهول.. أقدام غادية وأخرى آتية.. أبتسامات لقاء وعبرات وداع.. أصوات مختلطة بألسنة متباينة.. فذاك يصيح بالتركية في خادمه أن يسرع بحمل حقائبه.. وهذان الصديقان قد أرتمي كل منهما بأحضان الأخر وقد لُفظت حرارة اللقاء على لسانهما بالعربية.. وتلك المرأة تقلب عينيها بحثا عن شخص تعرفه وهي تتأفف بلغة أوروبية..وذلك الشاب الحاد الملامح لابد أنه إيراني فقد كان ينادي علي أحد الحمالين بالفارسية و....
والشيخ عبد السلام هناك عند حافة السفينة قد ولى وجهه شطر تلك الأمواج المتلاطمة من البشر يرقب رصيف الميناء بشرود وإنبهار كادا ينسياه أن السفينة قد دخلت بوغاز الميناء وأن الرفاق على متنها شرعوا في مغادرتها.
رباه!!!!...
كم هي رائعة الحسن تلك المدينة!!..كأنها قطعة من الفردوس..كأنها عروس ليلة زفافها.. وكأن البسفور جبينها الوضاء كاللجين المذاب.
كل شيء فيها يسحر الناظر ويأسر الألباب!!.. مساجدها المهيبة.. قصورها الراقية..حدائقها الغناء..أسواقها.. محلاتها.. طرقاتها.
طرقاتها؟!!
إن كل خطوة في تلك الطرقات هي أقتفاء للتاريخ والحضارة .
منذ أن كانت لبنة خضراء في جدار الحضارة سرت النبؤة بأنها ستلعب دورا فارقا في تاريخ العالم.. كانت وكأنها ذلك النوع من العباقرة الذي يلفت الأنظار لموهبته وهو بعد ناعم الظفر.. قال عنها نابليون بونابرت الأول فيما قيل عنها من زعماء العالم ومشاهيره
" لو كان العالم كله دولة واحدة لكانت أستنبول عاصمتها."
فمتي كانت البداية ؟!.. ومتي كللت ببهاءها مفرق الأرض؟
"أختلف المؤرخون حول تحديد التاريخ الفعلي الذي أشرقت فيه شمس الأستانة على العالم وإن كان الراجح في الرأي بينهم أن مدينة بيزنطة – أول ما أطلق عليها من الأسماء – قد ظهرت للوجود عام 660 ق.م. على يد (بيزاس) ملك الميغاريون وذلك على الجانب الأوروبي من البسفور وما لبثت أن تطورت حتى صارت من أحصن المدن آنذاك.. وما زالت على حالها هذا حتى عام 196 م. إذ لحق بها الدمار والخراب في ذلك العام بعد أن أعلن عليها الحرب الإمبراطور الروماني (سبتيموس سفيروس) ووقعت تحت حصاره.. غير أن العناية الألهية شاءت أن تنتشلها مما لحق بها من دمار وخراب فكان ذلك علي يد البطريرك (ساويرس الأنطاكي) فأعاد إليها ما كان لها من مجد وإزدهار."
راح الشيخ عبد السلام يستمع بشغف شديد لقبطان السفينة التى كانت تحمله إلي أستنبول وقد جمعهما على ظهر السفينة السمر في ليلة هادئة ناعمة النسيم وقد حبس أنفاسه لا لإنبهاره فحسب بل ربما مخافة من أن تقطع تلك الأنفاس اللاهثة على القبطان حبل الحديث الذي راح يسترسل من فمه بحماسة الضارب لآباط الأمور.
" في عام 324 م. وبعد أن ألحق الإمبراطور الروماني (قسطنطين الأول) الهزيمة الساحقة بعدوه اللدود الإمبراطور ( فاليريوس ليسينيوس) بمعركة أسكودار جذب موقع المدينة الساحر نظره وشغفه فاستحالت بعد ست سنوات من المعركة أي في عام 330 م. إلي العاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية وتحول اسمها إلي القسطنطينية – أي مدينة قسطنطين – وظلت علي حالها من القوة والإزدهار حتي عام 395 م. حين فارق الحياة الإمبرطور الروماني (ثيودوسيوس الأول) وتقسمت إمبراطوريته من بعده فباتت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية البيزنطية التي جعلت من المدينة مركزا عالميا للتجارة بل ومركزا روحيا ودينيا للمسيحيين الروميين الأرثوذوكس الذين ملئوا أرجائها بأفخم الكنائس وأعظمها على الأطلاق آنذاك ككتدرائية آيا صوفيا التي تحولت فيما بعد مع الفتح الإسلامي إلي مسجد."
" يا الله!!..لكأنني أشاهد التاريخ يمثل حيا أمامي."
هكذا هتف الشيخ عبد السلام باللغة التركية العثمانية التي كان يجيدها تماما ًبعد أن توقف القبطان برهة يشعل فيها غليونه الذي لم يكن يفارق شفتاه قط.
" أكمل .. أكمل يا صديقي."
نفس القبطان دخان غليونه في الهواء قبل أن يستكمل حديثه وهو يطالع البحر الجاثي أمامهما هادئا ومهيبا والأفق المظلم الممتد أمامهما كأنه كهف عميق فاغر فاه ومتأهبا لأن يبتلع السفينة إلي المجهول.
كان حديث القبطان مشوقاً قد جذب مسامع الشيخ عبد السلام فأرهف السمع وأمعن الأنصات وهو يستمع إلي قصة فتح الإسلام للقسطنطينية عام 1453 على يد القائد العثماني محمد الثاني الفاتح الذي أعاد إليها شروقها ورونقها بعد أن سمح لسكانها من المسيحيين الفاريين بالعودة إليها وأطلاقه لسراح من كان قد تم سجنهم من الجنود والسياسيين ليعيشوا بكل حرية في أحضان إسلامبول – هكذا أطلق عليها السلطان محمد الفاتح وهي كلمة تركية تعني مدينة الإسلام أو تخت الإسلام – بل وجعل منها مدينة متعددة الثقافات بما شملتهم من مسلمين ومسيحيين ويهود.
ولأن السلطان محمد الثاني أراد لمدينته أن تكون أجمل عواصم العالم فقد شيد فيها من القصور والحمامات والحدائق العامة والأسواق والمعاهد والخانات وغيرها من الأبنية ما جعل من بهاءها مضرباً للأمثال فكان من أشهر ما خلفه السلطان في المدينة قصر الباب العالي ومسجد أبي أيوب الأنصاري الذان كانا وما زالا شاهدان على عظمة الفن المعماري الإسلامي.
ومنذ ذلك الحين الذي ظلل فيه الحكم الإسلامي سماءها حملت من الأسماء ما لم يحمله غيرها من المدائن من حيث الكثرة والعدد فهي الأستانة – عتبة السلطان – وهي الباب العالي.. ودار السعادة..ومقام العرش والدار العالية.. ثم هي أستنبول وهو أسم مشتق من الكلمة اليونانية أستنبولين أي " إلي المدينة".
كانت تلك الليلة التي دار فيها ذلك الحديث حول تاريخ الأستانة هي السابقة على بلوغ الرحلة نهايتها ودخول السفينة إلي الميناء ولقد أخبر الشيخ صاحبه الذي أسره بمعرفته الواسعة وتمني لو طال بهما الحوار إلي غير نهاية.. أخبره أن ثمة حالة من الذهول دائما ما تأخذه بعيدا عما حوله ومن حوله في كل مرة تقع فيها عيناه علي هذه المدينة الساحرة وكأنها مرته الأولي التي يخطو فيها على أرضها.
والحق أن كلام الشيخ لم يجد تصديقا من صاحبه ذلك أن الإنسان إذا ما أختلف علي مكان ما أو مدينة من المدائن وأعتاد إرتيادها فإنه ومن الطبيعي أن يألفها.. حقا أن الإنسان قد يرتبط عاطفيا ووجدانيا بهذه المدينة أو تلك على نحو قد يصل إلي حد العشق وربما الهوس ولكن أن يصاب بتلك الحالة التي يتحدث عنها الشيخ من الذهول والإنبهار كلما وطأها بقدمه وكأنها المرة الأولي التي يتعرف فيها عليها؟!!!.. هذا ما كان مستغربا من أمر الشيخ وما دفع القبطان إلي الإعتقاد بأن كلام صاحبه إنما هو ضرب من المبالغة أو ربما هو نوع من المجاملة الحميدة له كتركي ولد ونشأ بها.
ولإن كان القبطان لم يمل إلي تصديق الشيخ عبد السلام فيما قاله عن عشقه لإستنبول وهوسه بها بيد أنه سرعان ما داخله شعور بأن هذا الشيخ الوقور الجالس أمامه يحادثه ربما كان صادقا فيما ذهب إليه بشكل أو بأخر.. ولعل ما دفعه إلي تغير موقفه على هذا النحو هو ذلك الحزن والوجوم الذي بدا جليا على وجه الشيخ عبد السلام حين قال له مستكملا حديثه حول تاريخ الأستانه.
" غير أنه وفي يوم 14 سبتمبر لعام 1509 م. حدثت الفاجعة التي أشتهرت فيما بعد بفاجعة يوم القيامة الصغير.. إذ أنه وفي ذلك اليوم ضرب المدينة زلازل شديد قضى على أرواح الكثير من أهلها وخلف وراءه الكثير من الجرحى والعشرات من المباني والمعالم التي هدمت وبقيت على حالها من الخراب حتي أمر السلطان (بايزيد الثاني ) في عام 1510 بإعادة إعمار وبناء ما تهدم من الأبنية والمعالم مستخدما لذلك ما يزيد عن الثمانين ألف من العمال والبنائين."(4)
فرغ القبطان من حديثه محولا ناظريه نحو الشيخ فوجده واجما قد طأطأ رأسه يحملق في أرض السفينة الخشبية بنظرات تحمل من الأسى أكثر مما تحمل من غيره فابتسم بإشفاق وندت منه زفره وهو يتأهب للنهوض فانتزعت حركته المفاجأة الشيخ من شروده.
نظر الشيخ إلي صاحبه الذي كان الأن يقف أمامه متأهبا للإنصراف وسأله بصوت هامس
" إلي إين يا صديقي؟"
ضحك القبطان وهو يمد يده مصافحا الشيخ
" إلي العمل أيها الشيخ الكريم.. أنسيت أنني المسئول عن هذه السفينة؟."
" ولكن لا زال لدينا متسع من الوقت فلم لا تزيدني من حديثك حول الأستانة؟"
" إننا سوف نصل إلي الميناء غدا مع المساء إن شاء الله ولابد لي من إنهاء بعد الأعمال قبل أن يحل الغد."
" الأمر ما ترى إذن."
كان ذلك أخر ما دار من حوار بين الصديقان في تلك الليلة قبل أن يفترقا وقد خلف كل منهما في وجدان صاحبه من مشاعر الإعجاب والود ما أنبت في قلبيهما ألام الوداع في مساء اليوم التالي حين رست السفينة معلنة بلوغ الرحلة نهايتها.
كان الشيخ عبد السلام لا يزال على وقفته عند حافة السفينة يراقب من حوله وما حوله وقد داخله شيء من التوتر والقلق ذلك أنه راح يطوف بناظريه أرجاء الميناء بحثا عن وجه صديقه ومضيفه كاظم باشا دون جدوى.
على بعد خطوات منه وخلفه مباشرة كان القبطان واقفا يرمقه بنظرات باسمة وإن خالطها شيء من الأسى لوشك مفارقته ذلك الشيخ الجليل الذي سحره بهدوءه ووداعته وتواضعه الجم مع ما هو عليه من واسع العلم.. على أنه لم يطل تأمله لصاحبه المنشغل بمراقبة الميناء إذ شق طريقه بين جموع الراكبين المتدافعين في سبيلهم لمغادرة السفينة حتى بلغ موضع الشيخ فربت على كتفه بود ظاهر
" حمدا لله على السلامة يا شيخ عبد السلام."
أنتبه الشيخ على صوت صاحبه فالتفت إليه وأجاب باسما
"سلمك الله من كل شر يا صديقي."
" أتنوي مغادرة السفينة أم أنك قررت قضاء رحلتك علي متنها؟"
ضحك الشيخ مجيبا
" هذا يعتمد على قرارك أنت بالبقاء على متنها من عدمه."
ابتسم القبطان لمجاملة الشيخ
" لا تنسي يا عزيزي أن لي زوجة وولدا لم أرهما منذ شهرين كاملين.. غير أني أرجو أن تتيح لنا الأقدار لقاءا آخر عما قريب."
"إذن فهو الوداع على أمل اللقاء..ولكن حقائبي........"
قاطعه القبطان
" لقد أمرت أحد البحارة بمعاونتك على حمل حقائبك حتي تغادر الميناء."
" بورك فيك يا صديقي العزيز."
هبط الشيخ من السفينة وقد تبعه بحار شاب حاملا حقيبته حتي إذا ما باتا خارج الميناء شكر له الشيخ صنيعه وأذن له بالإنصراف.
كانت الحيرة قد ملكت عليه أمره إذ أنه وفي جميع زياراته السابقة على تلك الزيارة قد تعود من كاظم باشا أن يجده أول المستقبلين له غير أنه لا يراه هذه المرة فأوجس في نفسة خيفة أن يكون قد أصاب صاحبه ضرا أو نزلت به نازلة فعربد القلق في فؤاده وأعمل الفكر فيما عليه أن يصنع فلم يجد بدا من أن يستأجر عربة تحمله إلي حيث دار ضيافة كاظم باشا.
وبينا الشيخ في شروده يبحث عن مخرج لما هو فيه من مأزق إذ مرت به عربة مغطاة يجرها زوج من الخيول ما لبثت أن توقفت على بعد خطوات منه على نحو مفاجيء.. وما كادت تستقر مكانها حتى أطل من نافذتها الضيقة رأسا عرف الشيخ فيه وجه كمال جلبي رئيس الخدم بدار الضيافة.
زفر الشيخ بقوة ليتخلص من ذلك التوتر والقلق الذي كان يتملكه وأحس براحة عارمة تداخله وهو يتطلع إلي وجه كمال الباسم الذي أسرع بالهبوط وقد تبعه شاب طويل القامة قوي البنيان حليق الرأس واللحية.
دون أن ينبث الشاب القوي ببنت شفة وبخطوات من يعلم دقائق واجبه حمل حقيبة الشيخ وأودعها العربة وظل واقفا عند بابها يراقب في صمت ما يدور بين رئيسه وذلك الشيخ الوقور الذي كان يراه للمرة الأولي.
كان كمال في تلك اللحظة يحتضن الشيخ بحميمية وهو يقول بشبه صياح فرِح
" حمدا لله على سلامتك يا شيخ عبد السلام."
سأله الشيخ متلهفا دون أن يلتفت لعبارته السالفة
" أين كاظم باشا؟.. أرجو ألا يكون مكروها قد أصابه."
ضحك كمال وأجاب مطمئنا الشيخ
" بل أصابه الخير كله."
كان كاظم باشا شركس من ذلك النوع الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.. هكذا عهده الشيخ عبد السلام منذ أن عرفه.. ولقد كانت تلك المزية السر خلف دنوه من السلطان الراحل عبد المجيد حتى بات مستشاره الأثير.
ولذلك قصة عجيبة أنتشرت بين رفاقه المقربين.. أما تلك القصة فمفادها أنه ومنذ سنوات تولى كاظم باشا منصبه كقاضٍ شرعي بإحدي محاكم الأستانه, ولقد حدث ذات يوم أن نُظرت أمامه قضية ذاع خبرها في أرجاء الأستانة آنذاك فلقد عُثر في دار رجل سوداني الأصل كان يعمل حمالا على جثة رجل مقتول ولم يكن هناك من قرينة لتبرئة ذلك المتهم الذي لم يتفوه سوى بجملة واحدة كانت هي إجابته على كل سؤال يسأله له القاضي
" إني لا أعلم صاحب هذه الجثة والله يشهد على أني من دمه بريء."
لم يكن أمام كاظم القاضي في ذلك الوقت إلا أن يحكم بضرب عنق الحمال على ما أقترف من جرم حتى إذا ما جاء يوم القصاص إذا برجل تركي يقتحم على القاضي مجلسه وهو يصيح
" سيدي القاضي.. سيدي القاضي.. إن ذلك الحمال المسكين بريء من دم المقتول هذا."
تعجب كاظم لإقتحام الرجل مجلسه على هذا النحو ولقوله الذي كان يحمل نبرة ثقة ويقين فسأله عن برهان ما يقول.
طأطأ الرجل رأسه خجلا وهو يقول
" لأني أنا من قتله يا سيدي.. لقد كان بيني وبينه شيء من خلاف تطور إلي إشتباك وعراك إنتهي بقتلي له وكان بيت ذلك الحمال الأقرب إلي فهداني شيطاني إلي ان أتسلل إليه وألقي فيه بالجثة درءا للشبهة عني.. وها أنا ذا قد جئت تائبا أريد أن أريح ضميري وأن لا أكرر جرمي بقتل ذلك الحمال المسكين."
كان تلك هي القضية التي ذاعت بين الناس في المدينة وتناقلتها الألسن لا لغرابتها بل لغرابة ما نطق به كاظم من حكم إذا حكم بتبرئة الحمال والعفو عن القاتل التائب.
فلما أن علم السلطان عبد المجيد بما حدث وما كان في تلك القضية أرسل من فوره إلي الصدر الأعظم يطلب مثوله أمامه في القصر الشاهاني وبصحبته ذلك القاضى صاحب أغرب ما سمع من حكم.
"كيف تعفو عن قاتل أعترف بذنبه وبما أقترفت يداه؟!"
هكذا سأله السلطان عبد المجيد وقد تفردت بهما وبصحبتهما الصدر الأعظم قاعة العرش في قصر دولمة بهجت السلطاني.
أجاب كاظم بثبات من يعرف الحق ولا يحيد عنه
" عذراً شاهانتكم.. إن الله سبحانه وتعالي يقول أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.. ولقد قتل هذا الرجل نفسا وأحيا غيرها فهذه بتلك وحسابه إلي الله."
تعجب السلطان عبد المجيد لقول كاظم والتفت إلي الصدر الأعظم يسأله رأيه عما سمع
" ماذا يقول شيخ الإسلام فيما سمع الأن؟"
أجاب الصدر الأعظم باسماً
" إني يا مولاي لا أري غضاضة فيما حكم به القاضي كاظم.. بل لعلي أري في حكمه رأس الحكمة التي أصاب بها كبد العدل."
كانت تلك القصة الغريبة وذلك الحكم الأغرب هو مثار إعجاب السلطان عبد المجيد بكاظم الذي أحتل مكانة خاصة في قلبه فقربه منه وجعله مستشارا له وخلع عليه لقب باشا.
ولقد ظل كاظم باشا سنوات يعمل مستشارا لدي السلطان العثماني حتى لحق به ما يلحق بالناس وأخترمه الموت فتولى من بعده أمور العرش شقيقه السلطان عبد العزيز والذي كان على طرف نقيض من أخيه الراحل فما كان يقبل أن يتعرض فرمانا له أو رأيا إرتأه للنقد حتى وإن كان ذلك النقد من أحد مستشارى القصر الشاهاني.
ولطالما عارض كاظم باشا سياسة السلطان عبد العزيز التى كادت تودي بالإمبراطورية كلها وتجعل منها أثرا بعد عين.. لطالما وقف حجر عثرة ضد تلاعبه بمقدرات الإمبراطورية وثرواتها التي راح ينفقها ببزخ ألصق به لقب عبد العزيز المبذرحتي لقد بلغت ديون الإمبراطورية الخارجية في عهده 250 مليون ليرة.. فلما ضاق عليه صدر السلطان ونفذ صبره أمر بطرده من القصر السلطاني وإمعانا في التنكيل به ومخافة من أن يلتف حوله رجال القصر فيثيرون البلبلة والزعزعة في أركانه أمر بإلقاء القبض عليه وأودعه السجن.
بقي كاظم باشا في السجن سنوات لا يلتفت إليه أحد حتى تآمر رجال القصر على سلطانهم عبد العزيز فأنتزعوه من فوق العرش ليجلسوا مكانه السلطان مراد الخامس الأخ الأكبر للسلطان عبد الحميد والذي لم يدم على العرش سوى قرابة الثلاثة أشهر كانت كافية لأن يعمل رفاق كاظم باشا على إخرجه من محبسه قبل أن يصاب السلطان الجديد بالجنون ويطرد خارج قصر دولمة بهجت ليدخله أخوه عبد الحميد الثاني سلطانا للدولة العثمانية.
" ولما سمع مولانا السلطان عبد الحميد الثاني حفظه الله ما كان من أمر سيدي كاظم باشا وما وقع عليه من ظلم مبين من عمه عبد العزيز أرسل إلي قصر سيدي صباح اليوم رسوله يدعوه للتوجه لقصر دولمة بهجت ومقابلة شاهانته."
كان كمال يحادث الشيخ مفسراً له لغز إختفاء سيده وعدم أستقباله للضيف في الميناء هذا المساء وقد تهللت قسماته بالبشرى.. بينما راحت الجياد تلتهم الأرض إلتهاما وكأنها تسابق الريح إلي دار الضيافة وهي تجر خلفها العربة المغطاة حيث أستقر الشيخ وإلي جواره رئيس الخدم بينما قبالته جلس الخادم الشاب وقد أحتفظ بصمته دون أن يحرك ساكنا وكأنه تمثال قُد من صخر وأكتفي بالتشاغل عنهما بمراقبة الطريق من نافذة العربة الضيقة.
تسائل الشيخ متعجباً
"ومن أوقف السلطان علي نبأ كاظم باشا."
" لقد حدث منذ يومين أن جلس إلي السلطان عبد الحميد مدحت باشا الدفتردار وهو صديق مقرب لسيدي كاظم باشا."
" أجل .. إني أعرفه جيداً فلقد قابلته غير مرة بدار الضيافة.. أليس هو ذلك الأشقر طويل القامة ذو الشارب الكث."
ابتسم كمال جلبي مجيباٍ
" أحسنت.. إنه هو.. وهو أيضا من فاتح السلطان أدام الله حكمه في أمر سيدي كاظم باشا فتأثر شاهانته أيما تأثر بما سمع وأرسل في أستدعاء سيدي هذا الصباح فانطلق إليه ملبيا غير مبطيء بعد أن عهد إلي شرف إستقبالكم وحملني رسالة إعتذار إذ ربما يضطر لقضاء ليلته بالقصر السلطاني."
تنهد كمال كأنما قد أزاح عن صدره حملا ثقيلا قبل أن يستطرد
" هذا ما كان من أمر سيدي وما حبسه عن استقبال شخصكم الكريم اليوم.
ضحك الشيخ حتى بدت نواجزه وقال متهللا
" هذه والله خير بشرى."
ما أن فرغ الشيخ من عبارته حتى وقعت عيناه من النافذة على مسجد آيا صوفيا وكان على بعد أمتار قليلة منهم فاستأذن كمال في أن يعرجوا إلي المسجد فقد دنا موعد صلاة العشاء وقد حدثته نفسه أن يصلى لله شكرا على ما سمع من طيب الأخبار عن صاحبه قبل أن يرتفع الأأذان بالصلاة.
أومأ كمال برأسه ملبياً وطلب من الخادم الشاب أن يأمر السائق بالتوقف قائلاً
" مر السائق فاليتوقف عند المسجد يا مصطفي."
أنتبه الشيخ لوجود الشاب وكان قد جرفه الحديث فنسيه تماما وللمرة الأولي منذ أن وقعت عليه عيناه أتاه صوت مصطفي الخشن وهو يصيح بالسائق الذي كان يقود الجياد بالخارج أن يتوقف عند مسجد آيا صوفيا.
هذا كل ما كان من أمر الشيخ عبد السلام الأحمد منذ أن وطأ بقدمه أرض أستنبول وحتى هذه الساعة التي دلف فيها المسجد وبجواره رئيس الخدم كمال يتبعهما الخادم الغامض مصطفي.. وحتي لا نثقل على الشيخ أراه من اللياقة أن نتركه الأن لصلاته ولنبحر بعيدا إلي غير هذا الموضع لنري ما سيكون من أحداث أخرى.

 
 

 

عرض البوم صور moonlights5000  
قديم 09-02-12, 10:59 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2011
العضوية: 228113
المشاركات: 7
الجنس ذكر
معدل التقييم: moonlights5000 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
moonlights5000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : moonlights5000 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الفصل الأول
آخر الرحلات إلي أستنبول
مدينة القدس.. عام 1901 ميلادية.
في باحة المسجد الأقصى وعلى بساطه الأخضر جلس الشيخ أيوب المقدسي وقد تحلق حوله رهط من الرجال مع من تحلقوا من طلاب علمه الكثيرين ينصتون للشيخ الوقور بإرهاف من على رؤوسهم الطير.
كانت صلاة العصر قد فرغت لتوها, وكعادة الشيخ أيوب جلس يحادث تلامذته ويلقنهم من علوم الدين على مختلف فروعها من حديث وفقه وشريعة وغيرها, كما كان يفعل عصر كل يوم وحتى مغيب الشمس, بصوته الهاديء وقسماته الوديعة ولحيته التي خالطها الشيب وتلك الابتسامة التي لا تفارق شفتيه. بيد أنه بدا في هذا المساء على غير ما عهدوه, فقد كان متهدج الصوت مضطرب النظرات تحمل أنفاسه بين الفينة والأخرى زفرات ملئها التوتر المشوب باللهفة والشوق وكأنه على موعد مع حبيب طال الشوق إليه وانتظاره.
مع مطلع عام 1860 ميلادية وفي بيت المقدس كان مولد الشيخ أيوب وبين أشجار الزيتون الوارفة, التي ملئت أرجاء المدينة فأضفت عليها من الجمال ما زادها رونقاً, كانت نشأته حتى بلغ من الشباب مطلعه. ولأن والده كان رجلا ورعا تقيا حالت ظروف الحياة القاسية بينه وبين حلمه في أن يصبح رجل دين يدعو إلي سبيل ربه فقد نذر ولده الوحيد للعلم وجعله وقفا على الدعوة لدين الإسلام, فما أن بلغ أيوب السادسة من عمره حتى دفع به والده إلي أحد مشايخ المدينة البارزين ليحفظ على يديه كتاب ربه ويتعلم كيف يتلوه حق تلاوته.
ولقد كان الفتى الصغير ذكيا ذا عقل متقد وشغف للعلم جعله يقبل عليه بنهم من لا يشبع, ولم يكن في تلك الأيام أسعد من والده على وجه البسيطة وهو يرى طفله الصغير يضرب في طرقات العلم بخطوات سريعة ثابتة وواثقة إلي الحد الذي جعل شيخه ومعلمه يتنبأ له بمستقبل باهر يضعه في مصاف الأئمة العظام.
عشر سنوات قضاها الفتي في كنف شيخه وأستاذه عبد السلام الأحمد فارتبط به إرتباطا وثيقا وكأنه جنين تشبث بحبله السُري..كان أشد ما جذبه لهذا الشيخ الوقور وأكثر ما أثار أعجابه في شخصيته الفريدة الرائعة هو علمه الواسع مع تواضعه الجم.
ذات يوم أمتدحه وأثنى على أتساع مداركه وتشعب معارفه فأطرق الشيخ برأسه وكست وجهه حمرة لم يستطع الفتى أن يفسرها وقتها, أهي حمرة الخجل؟ أم أنه الغضب قد أخذ بمجامع الرجل الوقور الطويل الصمت والتأمل؟.. ذلك أن الشيخ عبد السلام كان من ذلك النوع من الرجال الذي يرى في المديح باب للتملق ومسلكا من مسالك الغرور إلي النفس, وما أكثر من ملك عليهم الكبر ذواتهم لكثرة ما صب من مدح في مسامعهم.
أوجس الفتي في نفسه خيفة أن يعتريه غضب معلمه وأباه الروحي فسأله بصوت متعثر ينضح بالتوتر
"ماذا بك يا شيخي؟!"
رفع إليه شيخه رأسه ورمقه بنظرة ثاقبة أحس معها أيوب وكأنه عصفور قد بلله القطر فانتفض..ثم ما لبث أن جاءه صوت الشيخ كعادته جهورا عميقا وإن كان يحمل هذه المرة من الحدة ما لم يخفى على مسامعه
" أعلم يا ولدي أن العالم مهما بلغ من العلم إنما يحمل من بحور المعارف قدر ما يحمل الطائر في منقاره من ماء البحر, فالله عز وجل يقول في محكم آياته وما أوتيتم من العلم إلا قليلا,ومن سلك مسالك العلم أفنى فيها عمره وما قطع منها سوى خطوات قليلة, وأن العالم الحق من ظن في نفسه الجهل ذلك أن ظنه هذا دافعه لأن يسعى حثيثا خلف تحصيل المعرفة,وأن من أعتقد في نفسه أنه قد بلغ سنام العلم قعد عن طلبه وأصابه من الكِبر ما يرميه في مصاف الجُهل, وإني إنما أريدك أن تسعى وتلهث خلف المعارف, فلا تفرحن يوما بمدح جاهل ولا تحزنن لنقد عاقل ولا تجعل شيئا يحول بينك وبين مطلبك إلا الموت."
كانت كلمات الشيخ تقطر من فمه كالدر النفيس فبقيت عالقة بذهن أيوب لا تبارحه.. بقيت هناك في ركن قصي من عقله فما أمتدت إليها يد النسيان وما أستطاع أن يمحوها تعاقب الليل والنهار.
هو لا يزال يتذكر تلك الليلة البعيدة وكأنها الأمس القريب.. في تلك الليلة كان الشيخ عبد السلام يتأهب لسفر طويل أعتاد عليه في مثل هذا الوقت من كل عام وبقى على تلك العادة لم يقطعها حتى وافته المنية.. ذلك أنه ولشهر كامل كانت رحلته السنوية إلي قلب الدولة العثمانية الأستانة حيث كان يقضي أياما هناك مع صديق له يدعى كاظم باشا .
هكذا أخبره شيخه كما أخبره أيضاً بأن صديقه هذا يعمل في بلاط الخليفة العثماني وأنه قد تعرف عليه منذ سنوات حين أرسله السلطان الراحل عبد المجيد الثاني في مهمة هنا ببيت المقدس.
في تلك الليلة كان على أيوب أن يودع شيخه وأستاذه بقلب يكاد ينفطر كمداً فلكم كانت تلك الأيام التي يغيب فيها شيخه عنه ثقيلة على عقله ووجدانه ولكم كان يشعر بالوحدة والفراغ يكادا يذهبا بروحه.. كان دائما ما يساوره الإحساس بأن المدينة بل والعالم بأسره قد خلا من حوله فكان يعكف على حساب الأيام والليالي منتظراً عودة شيخه من رحلته.
غير أن الشيخ عبد السلام وفي رحلته الأخيرة تلك لم يعد.. أو ..
أو أنه عاد جسداً بلا روح.
وما كان الفتى يعلم أن وداعه لشيخه في تلك الليلة هو الوداع الأخير.
...................................
في أواخر عام 1876 م كانت أخر رحلات الشيخ عبد السلام إلي الأستانة.. ولم يكن هناك ثمة ما يذكره بأول مرة تقع عيناه فيها على هذه الدرة النفيسة سوى ذلك الأنبهار الذي طالما أستحوذ عليه وكان القاسم المشترك بين جميع سفراته إلي هناك.
بميناء على ضفاف البسفور رست به السفينة.
كان رصيف الميناء على صغره يضج بالحياة وبأكتاف متزاحمة ووجوه أختلط فيها السرور بالحزن .. فذاك الباسم قد جاء في أنتظار صديق أو قريب طالت غيبته وثار القلب شوقا لرؤيته.. وتلك المتجهمة الباكية لابد أنها زوجة أو أم في وداع زوجها أو ولدها الذي سوف تحمله الأمواج عما قريب نحو المجهول.. أقدام غادية وأخرى آتية.. أبتسامات لقاء وعبرات وداع.. أصوات مختلطة بألسنة متباينة.. فذاك يصيح بالتركية في خادمه أن يسرع بحمل حقائبه.. وهذان الصديقان قد أرتمي كل منهما بأحضان الأخر وقد لُفظت حرارة اللقاء على لسانهما بالعربية.. وتلك المرأة تقلب عينيها بحثا عن شخص تعرفه وهي تتأفف بلغة أوروبية..وذلك الشاب الحاد الملامح لابد أنه إيراني فقد كان ينادي علي أحد الحمالين بالفارسية و....
والشيخ عبد السلام هناك عند حافة السفينة قد ولى وجهه شطر تلك الأمواج المتلاطمة من البشر يرقب رصيف الميناء بشرود وإنبهار كادا ينسياه أن السفينة قد دخلت بوغاز الميناء وأن الرفاق على متنها شرعوا في مغادرتها.
رباه!!!!...
كم هي رائعة الحسن تلك المدينة!!..كأنها قطعة من الفردوس..كأنها عروس ليلة زفافها.. وكأن البسفور جبينها الوضاء كاللجين المذاب.
كل شيء فيها يسحر الناظر ويأسر الألباب!!.. مساجدها المهيبة.. قصورها الراقية..حدائقها الغناء..أسواقها.. محلاتها.. طرقاتها.
طرقاتها؟!!
إن كل خطوة في تلك الطرقات هي أقتفاء للتاريخ والحضارة .
منذ أن كانت لبنة خضراء في جدار الحضارة سرت النبؤة بأنها ستلعب دورا فارقا في تاريخ العالم.. كانت وكأنها ذلك النوع من العباقرة الذي يلفت الأنظار لموهبته وهو بعد ناعم الظفر.. قال عنها نابليون بونابرت الأول فيما قيل عنها من زعماء العالم ومشاهيره
" لو كان العالم كله دولة واحدة لكانت أستنبول عاصمتها."
فمتي كانت البداية ؟!.. ومتي كللت ببهاءها مفرق الأرض؟
"أختلف المؤرخون حول تحديد التاريخ الفعلي الذي أشرقت فيه شمس الأستانة على العالم وإن كان الراجح في الرأي بينهم أن مدينة بيزنطة – أول ما أطلق عليها من الأسماء – قد ظهرت للوجود عام 660 ق.م. على يد (بيزاس) ملك الميغاريون وذلك على الجانب الأوروبي من البسفور وما لبثت أن تطورت حتى صارت من أحصن المدن آنذاك.. وما زالت على حالها هذا حتى عام 196 م. إذ لحق بها الدمار والخراب في ذلك العام بعد أن أعلن عليها الحرب الإمبراطور الروماني (سبتيموس سفيروس) ووقعت تحت حصاره.. غير أن العناية الألهية شاءت أن تنتشلها مما لحق بها من دمار وخراب فكان ذلك علي يد البطريرك (ساويرس الأنطاكي) فأعاد إليها ما كان لها من مجد وإزدهار."
راح الشيخ عبد السلام يستمع بشغف شديد لقبطان السفينة التى كانت تحمله إلي أستنبول وقد جمعهما على ظهر السفينة السمر في ليلة هادئة ناعمة النسيم وقد حبس أنفاسه لا لإنبهاره فحسب بل ربما مخافة من أن تقطع تلك الأنفاس اللاهثة على القبطان حبل الحديث الذي راح يسترسل من فمه بحماسة الضارب لآباط الأمور.
" في عام 324 م. وبعد أن ألحق الإمبراطور الروماني (قسطنطين الأول) الهزيمة الساحقة بعدوه اللدود الإمبراطور ( فاليريوس ليسينيوس) بمعركة أسكودار جذب موقع المدينة الساحر نظره وشغفه فاستحالت بعد ست سنوات من المعركة أي في عام 330 م. إلي العاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية وتحول اسمها إلي القسطنطينية – أي مدينة قسطنطين – وظلت علي حالها من القوة والإزدهار حتي عام 395 م. حين فارق الحياة الإمبرطور الروماني (ثيودوسيوس الأول) وتقسمت إمبراطوريته من بعده فباتت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية البيزنطية التي جعلت من المدينة مركزا عالميا للتجارة بل ومركزا روحيا ودينيا للمسيحيين الروميين الأرثوذوكس الذين ملئوا أرجائها بأفخم الكنائس وأعظمها على الأطلاق آنذاك ككتدرائية آيا صوفيا التي تحولت فيما بعد مع الفتح الإسلامي إلي مسجد."
" يا الله!!..لكأنني أشاهد التاريخ يمثل حيا أمامي."
هكذا هتف الشيخ عبد السلام باللغة التركية العثمانية التي كان يجيدها تماما ًبعد أن توقف القبطان برهة يشعل فيها غليونه الذي لم يكن يفارق شفتاه قط.
" أكمل .. أكمل يا صديقي."
نفث القبطان دخان غليونه في الهواء قبل أن يستكمل حديثه وهو يطالع البحر الجاثي أمامهما هادئا ومهيبا والأفق المظلم الممتد أمامهما كأنه كهف عميق فاغر فاه ومتأهبا لأن يبتلع السفينة إلي المجهول.
كان حديث القبطان مشوقاً قد جذب مسامع الشيخ عبد السلام فأرهف السمع وأمعن الأنصات وهو يستمع إلي قصة فتح الإسلام للقسطنطينية عام 1453 على يد القائد العثماني محمد الثاني الفاتح الذي أعاد إليها شروقها ورونقها بعد أن سمح لسكانها من المسيحيين الفاريين بالعودة إليها وأطلاقه لسراح من كان قد تم سجنهم من الجنود والسياسيين ليعيشوا بكل حرية في أحضان إسلامبول – هكذا أطلق عليها السلطان محمد الفاتح وهي كلمة تركية تعني مدينة الإسلام أو تخت الإسلام – بل وجعل منها مدينة متعددة الثقافات بما شملتهم من مسلمين ومسيحيين ويهود.
ولأن السلطان محمد الثاني أراد لمدينته أن تكون أجمل عواصم العالم فقد شيد فيها من القصور والحمامات والحدائق العامة والأسواق والمعاهد والخانات وغيرها من الأبنية ما جعل من بهاءها مضرباً للأمثال فكان من أشهر ما خلفه السلطان في المدينة قصر الباب العالي ومسجد أبي أيوب الأنصاري الذان كانا وما زالا شاهدان على عظمة الفن المعماري الإسلامي.
ومنذ ذلك الحين الذي ظلل فيه الحكم الإسلامي سماءها حملت من الأسماء ما لم يحمله غيرها من المدائن من حيث الكثرة والعدد فهي الأستانة – عتبة السلطان – وهي الباب العالي.. ودار السعادة..ومقام العرش والدار العالية.. ثم هي أستنبول وهو أسم مشتق من الكلمة اليونانية أستنبولين أي " إلي المدينة".
كانت تلك الليلة التي دار فيها ذلك الحديث حول تاريخ الأستانة هي السابقة على بلوغ الرحلة نهايتها ودخول السفينة إلي الميناء ولقد أخبر الشيخ صاحبه الذي أسره بمعرفته الواسعة وتمني لو طال بهما الحوار إلي غير نهاية.. أخبره أن ثمة حالة من الذهول دائما ما تأخذه بعيدا عما حوله ومن حوله في كل مرة تقع فيها عيناه علي هذه المدينة الساحرة وكأنها مرته الأولي التي يخطو فيها على أرضها.
والحق أن كلام الشيخ لم يجد تصديقا من صاحبه ذلك أن الإنسان إذا ما أختلف علي مكان ما أو مدينة من المدائن وأعتاد إرتيادها فإنه ومن الطبيعي أن يألفها.. حقا أن الإنسان قد يرتبط عاطفيا ووجدانيا بهذه المدينة أو تلك على نحو قد يصل إلي حد العشق وربما الهوس ولكن أن يصاب بتلك الحالة التي يتحدث عنها الشيخ من الذهول والإنبهار كلما وطأها بقدمه وكأنها المرة الأولي التي يتعرف فيها عليها؟!!!.. هذا ما كان مستغربا من أمر الشيخ وما دفع القبطان إلي الإعتقاد بأن كلام صاحبه إنما هو ضرب من المبالغة أو ربما هو نوع من المجاملة الحميدة له كتركي ولد ونشأ بها.
ولإن كان القبطان لم يمل إلي تصديق الشيخ عبد السلام فيما قاله عن عشقه لإستنبول وهوسه بها بيد أنه سرعان ما داخله شعور بأن هذا الشيخ الوقور الجالس أمامه يحادثه ربما كان صادقا فيما ذهب إليه بشكل أو بأخر.. ولعل ما دفعه إلي تغير موقفه على هذا النحو هو ذلك الحزن والوجوم الذي بدا جليا على وجه الشيخ عبد السلام حين قال له مستكملا حديثه حول تاريخ الأستانه.
" غير أنه وفي يوم 14 سبتمبر لعام 1509 م. حدثت الفاجعة التي أشتهرت فيما بعد بفاجعة يوم القيامة الصغير.. إذ أنه وفي ذلك اليوم ضرب المدينة زلازل شديد قضى على أرواح الكثير من أهلها وخلف وراءه الكثير من الجرحى والعشرات من المباني والمعالم التي هدمت وبقيت على حالها من الخراب حتي أمر السلطان (بايزيد الثاني ) في عام 1510 بإعادة إعمار وبناء ما تهدم من الأبنية والمعالم مستخدما لذلك ما يزيد عن الثمانين ألف من العمال والبنائين."(4)
فرغ القبطان من حديثه محولا ناظريه نحو الشيخ فوجده واجما قد طأطأ رأسه يحملق في أرض السفينة الخشبية بنظرات تحمل من الأسى أكثر مما تحمل من غيره فابتسم بإشفاق وندت منه زفره وهو يتأهب للنهوض فانتزعت حركته المفاجأة الشيخ من شروده.
نظر الشيخ إلي صاحبه الذي كان الأن يقف أمامه متأهبا للإنصراف وسأله بصوت هامس
" إلي إين يا صديقي؟"
ضحك القبطان وهو يمد يده مصافحا الشيخ
" إلي العمل أيها الشيخ الكريم.. أنسيت أنني المسئول عن هذه السفينة؟."
" ولكن لا زال لدينا متسع من الوقت فلم لا تزيدني من حديثك حول الأستانة؟"
" إننا سوف نصل إلي الميناء غدا مع المساء إن شاء الله ولابد لي من إنهاء بعد الأعمال قبل أن يحل الغد."
" الأمر ما ترى إذن."
كان ذلك أخر ما دار من حوار بين الصديقان في تلك الليلة قبل أن يفترقا وقد خلف كل منهما في وجدان صاحبه من مشاعر الإعجاب والود ما أنبت في قلبيهما ألام الوداع في مساء اليوم التالي حين رست السفينة معلنة بلوغ الرحلة نهايتها.
كان الشيخ عبد السلام لا يزال على وقفته عند حافة السفينة يراقب من حوله وما حوله وقد داخله شيء من التوتر والقلق ذلك أنه راح يطوف بناظريه أرجاء الميناء بحثا عن وجه صديقه ومضيفه كاظم باشا دون جدوى.
على بعد خطوات منه وخلفه مباشرة كان القبطان واقفا يرمقه بنظرات باسمة وإن خالطها شيء من الأسى لوشك مفارقته ذلك الشيخ الجليل الذي سحره بهدوءه ووداعته وتواضعه الجم مع ما هو عليه من واسع العلم.. على أنه لم يطل تأمله لصاحبه المنشغل بمراقبة الميناء إذ شق طريقه بين جموع الراكبين المتدافعين في سبيلهم لمغادرة السفينة حتى بلغ موضع الشيخ فربت على كتفه بود ظاهر
" حمدا لله على السلامة يا شيخ عبد السلام."
أنتبه الشيخ على صوت صاحبه فالتفت إليه وأجاب باسما
"سلمك الله من كل شر يا صديقي."
" أتنوي مغادرة السفينة أم أنك قررت قضاء رحلتك علي متنها؟"
ضحك الشيخ مجيبا
" هذا يعتمد على قرارك أنت بالبقاء على متنها من عدمه."
ابتسم القبطان لمجاملة الشيخ
" لا تنسي يا عزيزي أن لي زوجة وولدا لم أرهما منذ شهرين كاملين.. غير أني أرجو أن تتيح لنا الأقدار لقاءا آخر عما قريب."
"إذن فهو الوداع على أمل اللقاء..ولكن حقائبي........"
قاطعه القبطان
" لقد أمرت أحد البحارة بمعاونتك على حمل حقائبك حتي تغادر الميناء."
" بورك فيك يا صديقي العزيز."
هبط الشيخ من السفينة وقد تبعه بحار شاب حاملا حقيبته حتي إذا ما باتا خارج الميناء شكر له الشيخ صنيعه وأذن له بالإنصراف.
كانت الحيرة قد ملكت عليه أمره إذ أنه وفي جميع زياراته السابقة على تلك الزيارة قد تعود من كاظم باشا أن يجده أول المستقبلين له غير أنه لا يراه هذه المرة فأوجس في نفسة خيفة أن يكون قد أصاب صاحبه ضرا أو نزلت به نازلة فعربد القلق في فؤاده وأعمل الفكر فيما عليه أن يصنع فلم يجد بدا من أن يستأجر عربة تحمله إلي حيث دار ضيافة كاظم باشا.
وبينا الشيخ في شروده يبحث عن مخرج لما هو فيه من مأزق إذ مرت به عربة مغطاة يجرها زوج من الخيول ما لبثت أن توقفت على بعد خطوات منه على نحو مفاجيء.. وما كادت تستقر مكانها حتى أطل من نافذتها الضيقة رأسا عرف الشيخ فيه وجه كمال جلبي رئيس الخدم بدار الضيافة.
زفر الشيخ بقوة ليتخلص من ذلك التوتر والقلق الذي كان يتملكه وأحس براحة عارمة تداخله وهو يتطلع إلي وجه كمال الباسم الذي أسرع بالهبوط وقد تبعه شاب طويل القامة قوي البنيان حليق الرأس واللحية.
دون أن ينبث الشاب القوي ببنت شفة وبخطوات من يعلم دقائق واجبه حمل حقيبة الشيخ وأودعها العربة وظل واقفا عند بابها يراقب في صمت ما يدور بين رئيسه وذلك الشيخ الوقور الذي كان يراه للمرة الأولي.
كان كمال في تلك اللحظة يحتضن الشيخ بحميمية وهو يقول بشبه صياح فرِح
" حمدا لله على سلامتك يا شيخ عبد السلام."
سأله الشيخ متلهفا دون أن يلتفت لعبارته السالفة
" أين كاظم باشا؟.. أرجو ألا يكون مكروها قد أصابه."
ضحك كمال وأجاب مطمئنا الشيخ
" بل أصابه الخير كله."
كان كاظم باشا علوي من ذلك النوع الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.. هكذا عهده الشيخ عبد السلام منذ أن عرفه.. ولقد كانت تلك المزية السر خلف دنوه من السلطان الراحل عبد المجيد حتى بات مستشاره الأثير.
ولذلك قصة عجيبة أنتشرت بين رفاقه المقربين.. أما تلك القصة فمفادها أنه ومنذ سنوات تولى كاظم باشا منصبه كقاضٍ شرعي بإحدي محاكم الأستانه, ولقد حدث ذات يوم أن نُظرت أمامه قضية ذاع خبرها في أرجاء الأستانة آنذاك فلقد عُثر في دار رجل سوداني الأصل كان يعمل حمالا على جثة رجل مقتول ولم يكن هناك من قرينة لتبرئة ذلك المتهم الذي لم يتفوه سوى بجملة واحدة كانت هي إجابته على كل سؤال يسأله له القاضي
" إني لا أعلم صاحب هذه الجثة والله يشهد على أني من دمه بريء."
لم يكن أمام كاظم القاضي في ذلك الوقت إلا أن يحكم بضرب عنق الحمال على ما أقترف من جرم حتى إذا ما جاء يوم القصاص إذا برجل تركي يقتحم على القاضي مجلسه وهو يصيح
" سيدي القاضي.. سيدي القاضي.. إن ذلك الحمال المسكين بريء من دم المقتول هذا."
تعجب كاظم لإقتحام الرجل مجلسه على هذا النحو ولقوله الذي كان يحمل نبرة ثقة ويقين فسأله عن برهان ما يقول.
طأطأ الرجل رأسه خجلا وهو يقول
" لأني أنا من قتله يا سيدي.. لقد كان بيني وبينه شيء من خلاف تطور إلي إشتباك وعراك إنتهي بقتلي له وكان بيت ذلك الحمال الأقرب إلي فهداني شيطاني إلي ان أتسلل إليه وألقي فيه بالجثة درءا للشبهة عني.. وها أنا ذا قد جئت تائبا أريد أن أريح ضميري وأن لا أكرر جرمي بقتل ذلك الحمال المسكين."
كان تلك هي القضية التي ذاعت بين الناس في المدينة وتناقلتها الألسن لا لغرابتها بل لغرابة ما نطق به كاظم من حكم إذا حكم بتبرئة الحمال والعفو عن القاتل التائب.
فلما أن علم السلطان عبد المجيد بما حدث وما كان في تلك القضية أرسل من فوره إلي شيخ الإسلام يطلب مثوله أمامه في القصر الشاهاني وبصحبته ذلك القاضى صاحب أغرب ما سمع من حكم.
"كيف تعفو عن قاتل أعترف بذنبه وبما أقترفت يداه؟!"
هكذا سأله السلطان عبد المجيد وقد تفردت بهما وبصحبتهما شيخ الإسلام قاعة العرش في قصر دولمة بهجت السلطاني.
أجاب كاظم بثبات من يعرف الحق ولا يحيد عنه
" عذراً شاهانتكم.. إن الله سبحانه وتعالي يقول أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.. ولقد قتل هذا الرجل نفسا وأحيا غيرها فهذه بتلك وحسابه إلي الله."
تعجب السلطان عبد المجيد لقول كاظم والتفت إلي شيخ الإسلام يسأله رأيه عما سمع
" ماذا يقول شيخ الإسلام فيما سمع الأن؟"
أجاب الشيخ باسماً
" إني يا مولاي لا أري غضاضة فيما حكم به القاضي كاظم.. بل لعلي أري في حكمه سهم الحكمة الذي أصاب به كبد العدل."
كانت تلك القصة الغريبة وذلك الحكم الأغرب هو مثار إعجاب السلطان عبد المجيد بكاظم الذي أحتل مكانة خاصة في قلبه فقربه منه وجعله مستشارا له وخلع عليه لقب باشا.
ولقد ظل كاظم باشا سنوات يعمل مستشارا لدي السلطان العثماني حتى لحق به ما يلحق بالناس وأخترمه الموت فتولى من بعده أمور العرش شقيقه السلطان عبد العزيز والذي كان علي خلاف شبه دائم مع كاظم باشا.
ولطالما عارض كاظم باشا سياسة السلطان عبد العزيز التى كادت تودي بالإمبراطورية كلها وتجعل منها أثرا بعد عين.. لطالما وقف حجر عثرة ضد تلاعبه بمقدرات الإمبراطورية وثرواتها التي راح ينفقها ببزخ ألصق به لقب عبد العزيز المبذرحتي لقد بلغت ديون الإمبراطورية الخارجية في عهده 250 مليون ليرة.. فلما ضاق عليه صدر السلطان ونفذ صبره أمر بطرده من القصر السلطاني وإمعانا في التنكيل به ومخافة من أن يلتف حوله رجال القصر فيثيرون البلبلة والزعزعة في أركانه أمر بإلقاء القبض عليه وأودعه السجن.
بقي كاظم باشا في السجن سنوات لا يلتفت إليه أحد حتى تآمر رجال القصر على سلطانهم عبد العزيز فأنتزعوه من فوق العرش ليجلسوا مكانه السلطان مراد الخامس الأخ الأكبر للسلطان عبد الحميد والذي لم يدم على العرش سوى قرابة الثلاثة أشهر كانت كافية لأن يعمل رفاق كاظم باشا على إخرجه من محبسه قبل أن يصاب السلطان الجديد بالجنون ويطرد خارج قصر دولمة بهجت ليدخله أخوه عبد الحميد الثاني سلطانا للدولة العثمانية.
" ولما سمع مولانا السلطان عبد الحميد الثاني حفظه الله ما كان من أمر سيدي كاظم باشا وما وقع عليه من ظلم مبين من عمه عبد العزيز أرسل إلي قصر سيدي صباح اليوم رسوله يدعوه للتوجه لقصر دولمة بهجت ومقابلة شاهانته."
كان كمال يحادث الشيخ مفسراً له لغز إختفاء سيده وعدم أستقباله للضيف في الميناء هذا المساء وقد تهللت قسماته بالبشرى.. بينما راحت الجياد تلتهم الأرض إلتهاما وكأنها تسابق الريح إلي دار الضيافة وهي تجر خلفها العربة المغطاة حيث أستقر الشيخ وإلي جواره رئيس الخدم بينما قبالته جلس الخادم الشاب وقد أحتفظ بصمته دون أن يحرك ساكنا وكأنه تمثال قُد من صخر وأكتفي بالتشاغل عنهما بمراقبة الطريق من نافذة العربة الضيقة.
تسائل الشيخ متعجباً
"ومن أوقف السلطان علي نبأ كاظم باشا."
" لقد حدث منذ يومين أن جلس إلي السلطان عبد الحميد مدحت باشا الدفتردار وهو صديق مقرب لسيدي كاظم باشا."
" أجل .. إني أعرفه جيداً فلقد قابلته غير مرة بدار الضيافة.. أليس هو ذلك الأشقر طويل القامة ذو الشارب الكث."
ابتسم كمال جلبي مجيباٍ
" أحسنت.. إنه هو.. وهو أيضا من فاتح السلطان أدام الله حكمه في أمر سيدي كاظم باشا فتأثر شاهانته أيما تأثر بما سمع وأرسل في أستدعاء سيدي هذا الصباح فانطلق إليه ملبيا غير مبطيء بعد أن عهد إلي شرف إستقبالكم وحملني رسالة إعتذار إذ ربما يضطر لقضاء ليلته بالقصر السلطاني."
تنهد كمال كأنما قد أزاح عن صدره حملا ثقيلا قبل أن يستطرد
" هذا ما كان من أمر سيدي وما حبسه عن استقبال شخصكم الكريم اليوم.
ضحك الشيخ حتى بدت نواجزه وقال متهللا
" هذه والله خير بشرى."
ما أن فرغ الشيخ من عبارته حتى وقعت عيناه من النافذة على مسجد آيا صوفيا وكان على بعد أمتار قليلة منهم فاستأذن كمال في أن يعرجوا إلي المسجد فقد دنا موعد صلاة العشاء وقد حدثته نفسه أن يصلى لله شكرا على ما سمع من طيب الأخبار عن صاحبه قبل أن يرتفع الأذان بالصلاة.
أومأ كمال برأسه ملبياً وطلب من الخادم الشاب أن يأمر السائق بالتوقف قائلاً
" مر السائق فاليتوقف عند المسجد يا مصطفي."
أنتبه الشيخ لوجود الشاب وكان قد جرفه الحديث فنسيه تماما وللمرة الأولي منذ أن وقعت عليه عيناه أتاه صوت مصطفي الخشن وهو يصيح بالسائق الذي كان يقود الجياد بالخارج أن يتوقف عند مسجد آيا صوفيا.
هذا كل ما كان من أمر الشيخ عبد السلام الأحمد منذ أن وطأ بقدمه أرض أستنبول وحتى هذه الساعة التي دلف فيها المسجد وبجواره رئيس الخدم كمال يتبعهما الخادم الغامض مصطفي.. وحتي لا نثقل على الشيخ أراه من اللياقة أن نتركه الأن لصلاته ولنبحر بعيدا إلي غير هذا الموضع لنري ما سيكون من أحداث أخرى.

 
 

 

عرض البوم صور moonlights5000  
قديم 09-02-12, 11:01 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2011
العضوية: 228113
المشاركات: 7
الجنس ذكر
معدل التقييم: moonlights5000 عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
moonlights5000 غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : moonlights5000 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

الفصل الثاني
حول عائلة الراسي
القاهرة عام 1876 م.
ما أقسى اليتم..وما أثقله على قلب من عرفه وذاق مرارته..وما أشد ما يورثه في الوجدان من آلام وأحزان وجراحاً في النفس لا تندمل.
إن من فقد أحد والديه أو كليهما بات مقاتلا في معترك الحياة بلا درع يحميه أو ملجأ يأويه وهو في وحدته القاسية وتيه روحه المعذبة كشجرة سقطت عنها أوراقها وتركتها وحيدة في مهب الريح كلما هبت عليها عاصفة أكرهتها على الإنحناء لها والركوع صاغرة أمامها.
وماذا يملك حيال نوازل الدنيا ومصائبها العظام من رمته الأقدار في لجة اليتم وتركته وحيدا يصارع الأمواج العاتية بجسد متهاوٍ وساعد مهيض ؟.
إن آلام اليتم وعذاباته لتصنع في وجدان الفتي صنيع المثال في الصخر فتشكل شخصيته وتحفر ملامحها متضافرة في ذلك مع ما يلاقيه من ظروف إجتماعية وأحداث حياتية تدفعه دفعاً بقوة القدر في طريق للحياة طورا ما يكون معبدا بالسعادة والأمال الكبري وأطوارا كثيرة ما يكون ممتلء بعثرات الفقر والجوع والعبرات السخينة.
فاليتم إذا قد يصنع من الإنسان شيطانا وقد يصنع منه نبيا.. قد ينمو من تجرع كؤوس الحرمان من حنان الأم وحكمة الأب وهو حاقد على من في الدنيا وما فيها فيستحيل إلي شيطانا مريدا يصب جام غضبه على من يقترب منه ويحرق بسياط حقده حياته وحياة الأخرين من حوله.
وعلى النقيض قد يترعرع من تجرع ذات الكؤوس وقد ملء الحب كيانه لكل من عرفهم وعرفوه وصادفهم في نهر الحياة فلا يدخر من عطفه وحنانه وإنما يوزعهما على كل من حوله وما حوله بسعادة ورضا وسلامة نفس قلما يشعر بها غيره من بني جلدته.
ولقد كان رفعت الراسي من ذلك النوع الأخير.
كان رفعت يقطع ذلك الشارع الطويل الهاديء بأحد الأحياء في وسط القاهرة الراقية حيث كان مسكنه مرتديا بذته العسكرية وقد حمله الهدوء الذي خيم من حوله إلي ذكريات الماضي البعيد..ذكريات طالما تمنى لو أسقطها عن عقله النسيان فيسقط معها ما أنقض ظهره من هموم وما لف كيانه من عذاب.
إنه الأن رجلا قد قفز خطوة واحدة فوق حاجز الثلاثين من العمر..علمته حياة الجندية التي قضى فيها سنوات طوال الخشونة واستعمال القسوة في موضعها وأبرزت في ملامح شخصيته كثيرا من الصلابة وقوة الإرادة ومع كل ما سلف لا تزال أحزان الماضي ترمي بظلالها على حاضره فتعكر عليه صفو أيامه، فلقد كان كثيرا ما يحدث مثلا أن يتذكر مرض والده وما كان يعانيه من قسوة الألم ووحشيته فكانت تترقرق عيناه بالدمع.
بالرغم من أن المرض الأخير قد حل ثقيلا على جسد والده ولم يكن هو قد تعدى بعد الثامنة من عمره إلا أنه ما أنفك يذكر تلك الأيام السوداء من حياته على نحو عجيب.
لكم أعتصره الألم وهو يري دموع والدته لا تنقطع كمدا لأنات زوجها العليل وقد وقف الطب عاجزا أمام مرضه العضال فلم يستطع إلي ردعه سبيلا حتي فاضت روحه إلي بارئها ليبدأ الفتي الصغير رحلته مع اليتم.
كان ثمة سؤال قد فرض نفسه على عقل الفتى ذات يوم فراح يتدبره ويجادل نفسه فيه وقد دب الرعب بقلبه وأثار فيه بواعث الشفقة والحنو.. فماذا لو لم يكن له عم في مثل ثراء عمه سليمان باشا الراسي ليكفله ويعينه على نوائب الدهر؟!.
حقا إن والده خليل أفندي والذي كان يعمل مستخدما بديوان البريد المصري كان إلى حد ما ميسور الحال بيد أنه لم يخلف له بعد أن مات عنه ما قد يعينه ووالدته على تكاليف الحياة ذلك أنه لم يكن علي ما كان عليه شقيقه سليمان من غنى فاحش وحظ وافر.. بل إنه ما كان ليحصل على وظيفته تلك لولا معاونة شقيقه الذي رمت به الأقدار في خضم النفوذ والثراء بمصادفة قلما يجود بها الدهر على شاكلته من بسطاء الناس.
................................................
لم يولد سليمان باشا وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال وإنما حدث في صدر شبابه أن أختير مع جماعة من طلاب الأزهر للسفر في بعثة إلي باريس لدراسة القانون.. بهرته باريس بجمالها وأضوائها ومنازلها وشوارعها المزدحمة.. غاص فيها حتى النخاع.. أنتابه حلم غريب بأن يرى المحروسة يوما على مثل هذا الجمال والبهاء .. بدا له حلمه هذا ضربا من الخيال وما خطر بباله أن العمر سيمتد به حتى يراها في مثل حسن باريس وربما أكثر منها رونقا وحسنا.
كانت أجمل أوقاته وأحبها إلي قلبه والذي حرص على الإحتفاظ بذكرياتها في عقله ووجدانه هي تلك الأوقات التي كان يقضيها ليلا سيرا علي الأقدام في باريس يتفرس جمال شوارعها الذي لم يكن يعادله في الدنيا إشراقا سوى جمال نساءها.. ذات ليلة ساقته الاقدار إلي فتاة في مثل عمره أو تقل سنوات معدودات.. ظنها في باديء الأمر فرنسية فقد كانت تحمل ملامح أوروبية أو أقرب إلي الأوروبية فتعرف إليها.. ولكم كانت دهشته حين سمعها تتحدث إليه بالعربية فسألها عن هويتها
قالت له الفتاة بارعة الجمال أنها تركية وأن أسمها ثريا علوي.. ثم راحت تحكى له عن مرض والدها الذي جاء إلي فرنسا للعلاج وقد أصر على أن ترافقه مع والدتها وأبن عمها كاظم.
بدت له ثريا بملامحها الرقيقة وصوتها الرقراق كطائر مغرد يحلق في فضاء من الحسن والبهاء.. احس بقلبه يخفق بشدة وقد أسرته بابتسامتها من قبل أن يتعرف إليها.
كانت شمس ذلك اليوم قد أوشكت على المغيب وبالرغم من مشهدها الحزين وهى تودع الدنيا إلا أنه شعر بأن شمسا أخري تشرق في وجدانه.
راح يحدثها عن نفسه وابتسامته لا تفارق شفتاه فأسرها هو أيضا بلباقته وقدرته العجيبة على جذب الأنظار والنفوس إليه – تلك الموهبة التي ورثها عنه رفعت – فاستسلمت لمشاعرها الوليدة دون مقاومة تذكر.
مضى بهما الوقت وهما لا يشعران كأنهما طفلين حالمين.. أستأذنها في أن يلقاها مرة أخرى فأذنت له وتعددت بينهما اللقاءات.
مرت بهما الايام وقد توطدت بينهما العاطفة حتى ظنت ألا فكاك من هيامها به وبات يقينا راسخا في عقله وفؤاده بأنها ضالته المنشودة وشريكة عمره التي طالما حلم بها ففاتحها في أمر زواجهما فعربد الخوف في أعماقها حتى كاد يفتك بها.
لقد كان أشد ما تخشاه ثريا هو رفض والداها لذلك الزواج.. فما كانت لتتخيل أن يوافق أبوها على أقترانها من شاب في مقتبل عمره لا زال دارساً.. ثم..
ثم إنه ليس من بني جنسها .. أنه مصري الجنسية من أسرة متواضعة كما أخبرها أما هي فتركية من أصل عريق ذات حسب ونسب فهل سيوافق والدها لو أنه وقف على حقيقة فتاها؟.
بدت له في حيرتها كعصفور بلله القطر.. وبالرغم من تكهناته الصائبة حول قلقها وترددها بيد أنه سألها أن تصارحه بأسباب ما يداخلها من قلق وحيرة فأخبرته.. ولقد كان على يقين من أن ما ذهبت إليه من مخاوف لن يعدو الحقيقة بعينها فأصابه ما أصابها من وجد وحزن وراح يعمل فكره فيما يتوجب عليه فعله.
بقي سليمان أياما متفردا بحزنه لا يطالع عليه أحدا من رفاقه بالبعثة مع إلحاحهم عليه أن يكاشفهم بما وراء تلك الحالة من الصمت والشجن التي أكتنفته ولم يعتادوها فيه.. فكان قليلا ما يغزو النعاس أجفانه ونادرا ما يقبل على طعام، وهو في تلك الحالة كغيره من المحبين الذين يرون أحلامهم تتسرب من بين أصابعهم كالماء دون أن يرتووا منه.
كانت الأيام تمر به سريعة كالبرق وقد أوشكت مليكة قلبه على الرحيل عائدة إلي موطنها بعد أن من الله على أبيها بالشفاء حتى كانت ساعة جلس فيها وحيدا على شاطيء نهر السين يتفكر في أمره وما ألم به وبمحبوبته معا فبزغت في عقله فكرة استصاغها ربما لجودتها وربما لأنه لم يكن يملك خيارا أخر غير أن يقوم على تنفيذها.
لقد أخبرته ثريا بمسكنهم في باريس فلماذا لا يذهب لزيارتهم والجلوس إلى أبيها ليفاتحه في أمر زواجه من أبنته مستخدما في ذلك كل ما حباه به الله من لباقة وقدرة على الإقناع.. إنه لن يخسر شيئا إن فعل ولكنه قد يخسر كل شيء لو لم يفعل.
لماذا لا يذهب إليه من غده إذن وليكن ما يكون؟!
ولقد فعل وجلس إلى والدها فاصابه في بادئ الأمر إنطباعا سيئا حول ذلك الشيخ ذو الوجه العثماني الحاد الملامح المتجهم النظرات كتمثال خاو من المشاعر وأصابه إرتباك كاد يعقد لسانه لولا أن جمع شتات نفسه وراح يتحدث إلي الشيخ في أمور شتى لا علاقة لها بمبتغاه
وأخذ يعرج به من موضوع لأخر في نواحي الحياة فاستطاع أن يستقطبه إليه لما راح يحدثه باسترسال عن تاريخ تركيا والإمبراطورية العثمانية العظيمة وما لها من أياد على دولة الإسلام.
إطمئن الشيخ إلي الفتي وأنس في نفسه راحة تداخله نحو سليمان الذي بدا له شاب ذكي لبق ذا شخصية آسرة وإن لم يعلم كيف تعرف إليه وما السر خلف زيارته تلك وليس بينهما من رباط أو علاقة تجمعهما
والحق أن سليمان لما أراد أن يفاتحه فيما يبتغيه وما يرنو إليه أحس بكلماته تتحطم علي جدار شفتيه فتأبى أن تغادرها لذا فقد رأي أن يرجيء الأمر على أن يستأذن الشيخ في معاودة زيارته لاحقا.. ولما كان مساء ذلك اليوم وفي لقاء جمعه بثريا - التي أصابتها زيارة سليمان المفاجئة لهم بذهول كاد يذهب بعقلها خوفا وفرحا في آن - أخبرته بما قاله عنه والده بعد مغادرته وكيف أصابه الإرتياح لذلك الشاب الغريب الذي إقتحم عليه حياته بجسارة ودون إنذار بل وكيف أن كاظم أبن عمها قد داخله نفس الشعور نحو الفتى وأقترحت عليه أن يلتقي بكاظم بعيدا عن المنزل ليفاتحه في الأمر ويتخذ منه معينا على إقناع والداها بمرادهما.
لاقى إقتراح ثريا هوى في نفس سليمان فوافقها من فوره على أن تدبر هى شأن هذا اللقاء فلم تتردد في ذلك إذ أنها كانت تبادل كاظم الثقة وتتخذ منه صديقا وخزانة لأسرارها وهو ما حدا به أن يتفهم موقفها وقد أخذته نوبة من الضحك حين فاتحته في الأمر وأوقفته على سر زيارة الشاب الغريب لهم .. ذلك السر الذي طالما أعمل فكره في محاولة الوصول إليه، على أنه لم يوافقها الرأي في باديء الأمر فهو وإن كان قد سكن إلي الفتي وأرتاح إليه إلا أنه لا يزال غامضا وغريبا عنهم فكان ذلك خلف رفضه.. إلا أنه مع ما رأي من أبنة عمه وصديقته من حزن وإصرار وافق على مضض فكان لقاءه بسليمان.
أخبره سليمان بأنه قد أوشك بتفوق على إنهاء دراسته التي سوف تفتح له أفاقا جديدة في مصر وربما ترتقي به إلي مكانة مرموقة تضعه في مصاف الصفوة من المجتمع.. وأنه لا يرغب في دنياه سوي الإقتران بثريا وهو في سبيل ذلك لا يترفع أن يقبل بشروط والداها مهما كانت مجحفة له إذ لم يعد لحياته معنى دون قربه منها.
جاء حديث الفتي صادقا حارا فلمس أوتارا في قلب كاظم الذي شعر وكأنه يعرف سليمان منذ عهد بعيد وما أن أنتهى لقاءهما حتى كادت السعادة تطيح بسليمان وتلقيه في هوة الجنون فلقد وافق كاظم على أن يسانده ويدعمه حتى يصل لمبتغاه بل ونصحه ألا يعارض عمه في أي مما قد يمليه عليه مهما بلغ من إجحاف، ذلك إن أراد أن يتزوج بثريا حقا.
ولعله يكون ضربا من المبالغة إن قلنا أن كاظم وسليمان قد وجدا إستحسانا للفكرة من الشيخ علي الفور .. بل على العكس من ذلك فقد انتفض والد ثريا غضبا وكاد أن يطرد سليمان خارج المكان لولا أن عمل كاظم - الذي كان يمتلك ثقة الشيخ فيه - على تهدئته وإذهاب حنقه وبقيا يحدثانه ويحاولان إقناعه بشتى السبل حتى أنتهيا إلي وعده لهما بالتفكير في الأمر قبل حسمه.. ولقد وجد سليمان في وعد الشيخ رضا لنفسه وبارقة أمل.
ظل سليمان أياما تتخطفه الأفكار وهو حائر بين اليأس والرجاء حتى جاءه بشير الخير وهو لقب ألصقه سليمان بكاظم منذ ذلك اليوم الذي حمل فيه كاظم له نبأ موافقة عمه على زواجه من ثريا بشرط أن ينتقل معهم للعيش بالأستانة.
وما كاد سليمان ينهى دراسته في ذلك العام حتى سافر إلي الأستانة لينفذ الشيخ وعده له ويتم قرانه بثريا.
بقى سليمان في الأستانة قرابة العامين يرفل في سعادة لا تضاهيها سعادة وقد من الله عليه بكبرى بناته رقية ذلك الملاك الصغير والتي كانت أشبه الناس بوالدتها.. ثم إن علاقته بحماه قد توطدت حتى صارا أخلاء وبات سليمان نديمه ومستشاره إلى أن عاوده المرض فلم يمهله هذه المرة وإنما أسلمه ليد المنون فأصاب سليمان من الكمد ما لم يستطع معه البقاء في أستنبول.
عاد سليمان بعد وفاة حماه إلي المحروسة حاملا معه زوجته وأبنته التي لم تتم عامها الثاني بعد وكتابا من كاظم إلي رفيق باشا شركس صديق الشيخ الراحل بالقاهرة يوصيه خيرا بسليمان وأسرته فكانت معرفته برفيق باشا نافذته إلي عالم المال والنفوذ.
............................................................ ....
أفاق رفعت من شروده علي نسمة هواء راحت تداعب وجهه بنعومة هادئة وكان قد أسلم قياده لقدمه تحمله بخطوات بطيئة مثقلة على ضفاف النيل في طريقه إلي مسكنه فراح يتأمل النهر الهاديء وقد تدفقت مياهه كالفضة الذائبة متلألئة تحت ضوء الشمس فداخله شعورا بالراحة وصفاء النفس.
تمنى وهو يطالع النيل ببهاءه وعظمته لو توقف به الزمن ودامت تلك اللحظة للأبد فما كان يسعده ويغمره بالسكون أكثر من رؤيته لهذا النهر الخالد العظيم.
حين كان صبيا في الخامسة عشر وقبيل إلتحاقه بالجيش كان في بعض أحيانه ما يجلس على ضفاف النهر ينادمه ويناجيه كأنه صديق حميم.. بل إنه جعل من قاعه مخزنا لأسراره التي كان يبثه إياها ولواعجه التي ثارت كبركان لا يخمد في أعماقه وقد تملكه الهوى وسكن فؤاده وباتت ملك أبنة عمه الصغرى حديثه ونجواه كلما أنفرد بنفسه أو بالنهر.
لم تكن ملك تقل جمالا عن شقيقتها الكبرى رقية بل ربما فاقتها حسنا ودلالا وإن لم يكن حسنها ودلالها هما ما رميا برفعت في شباك غرامها وإنما رقة مشاعرها وما تحمله روحها من خفة وجاذبية هما في نظره أهم وأسمى من جمالها المادي.
بيد أنه مع ما كان يكنه لها من مشاعر نقية وهوى عذري أبعد ما يكون عن شوائب الملذات، كان ثمة احساس بالذنب يراوضه ويقض مضجعه إذ أنه كان يري في حبه وهيامه بها خيانة لعمه بشكل أو بأخر.
قد يبدو ذلك الشعور الذي أنتابه مستغربا ومحيرا بل وربما لغزا يستعصي علي الحل.. والحق أنه كان كذلك فحتى تلك اللحظات التي كان يقترب فيها رفعت من منزله بوسط القاهرة لم يجد تفسيرا لذلك الشعور ولا على أي وجه هذه الخيانة المزعومة لعمه..
إن ما كان يهمه أنذاك هو ألا يعكر صفو علاقته بعمه أو يلحق به الأذي ولو معنوياً.. فمن كان مثله لا يكون له أن يضرب بعصا الخيانة والغدر علي يد قد أمتدت له بالإحسان. فما باله بعمه وأبيه بعد أبيه الذي طالما أحتضنه وأغدق عليه من عطفه.
كان رفعت لا يزال في طيات الغيب عندما عاد عمه من أستنبول ليجد أخاه خليل قد تزوج.. ولقد شاء الله أن يولد رفعت بعد عام من ذلك وأن يولد معه في نفس العام أبن عمه صادق.. ثم من بعدهما بعامين كانت أولى صرخات ملك في الحياة.
إنه لا يزال يذكر تلك الأيام التي قضاها بمنزل عمه وقد أنتقل للعيش بكنفه بعد وفاة والدته.. كان في ذلك الوقت في الحادية عشر من عمره.. وإن كان القدر قد حرمه كلا والديه فإنه من جانب أخر قد أتاح له الأقتراب من ملك على نحو ألهب صدره بهواها.
ياللوعة العاشق وهو يري حلمه أبعد عنه من كبد السماء مع قربه ممن يهواه فؤاده..إنه يقاسم ملك دقائق حياتها.. يراها كل ساعة بل كل لحظة من نهاره وليله.. يداعبه طيفها في اليقظة والمنام..ولكم شاركها مرتع الطفولة حيث ألقى القدر في وجدانه أول بذور الهوي هناك بين الماء والخضرة.
هناك في قرية منية الرحمانية عند أطراف الدلتا وعلى ضفاف النيل كانت ذكريات الطفولة مع أميرته الصغيرة..
أستطاع عمه سليمان - بعد أن تغلغل في عالم الأتراك والشراكسة من ذوي المناصب العليا في ذلك الوقت وأتسعت علاقاته وصداقاته بهم – أن يشتري من الخديوي سعيد الباكاوية وأن يمتلك بمنية الرحمانية زماما شاسعا من الأرض يقع عند أطرافها وعلى ضفة النيل مباشرة منزلا أشبه بالقصور أشرف على بناءه مهندسا فرنسيا كان قد التقى به ذات يوم في حفلة أقامها رفيق باشا شركس فأتخذ منه صديقا.
ولقد أعتاد عمه - سليمان بك آنذاك – في تلك الأيام التي كان يدعو فيها رفاقه لقضاء بعض الوقت هناك أن يصطحبهم معه فكانت تلك أسعد أيام في حياة رفعت.
لطالما شارك ملك المرح في تلك الأيام الخوالي.. ولطالما تضاحكا وهما يطاردان الفراشات الصغيرة في حديقة المنزل الغناء..كانت تتملكه في تلك اللحظات مشاعر لم يستطع أن يصفها.. بل إنه وبعد سنوات من تلك الأيام كان كثيرا ما يتلعثم في حديثه إلي ملك إذا ما سألته عما كان ينتابه حين كانا يمرحان سوية علي ضفاف النيل وبين الحقول الخضراء.
أجل.. كان دائما ما يتلعثم ويحاول أن يغير دفة الحديث، إذ كيف لعاشق أن يلفظ قلبه على لسانه؟!.. إنه مهما حاول أن يفعل فلن تسعفه الكلمات.
ذات يوم – وكان ذلك في زيارتهما الأخيرة للقرية قبل أن يلتحق بالجيش – أرادت ملك أن تجرب أمتطاء الخيل فتسللت إلي ذلك الأسطبل الصغير عند سياج المنزل فانتبه إليها أحد الخادمين وأسرع إلي منعها برفق وهوادة مخافة أن تلحق الأذي بنفسها وبهم جميعا إذا ما علم والدها بالأمر فخرجت باكية تشكو إلي رفعت ما كان من الخادم.
أقسم لها رفعت يومها أن يلبي رغبتها وأن يجعلها تمتطى الخيل فتسللا سويا خارج المنزل وأنطلقا في طرقات القرية حتى بلغا دار الشيخ عبد الوهاب أبو الأسرار أحد مشايخ القرية حيث شاهد رفعت ذات مرة جوادا صغيرا مقيدا هناك أمام الدار.
كان الجواد لا يزال مقيدا هناك فأختبئا خلف شجرة كبيرة علي مقربة منه حتى إذا ما سنحت الفرصة أنطلق رفعت ليفك قيده ويهرع به إليها، ثم ما لبثا أن كانا سويا على صهوة الجواد الذي أنطلق بهما وهي تتصايح بمرح وسعادة. حتى كانت لحظة أنفلتت فيها يدها التي كانت تتطوق رفعت من الخلف فسقطت من فوق الجواد الجامح.
أحس رفعت بالدنيا وقد غامت أمام عينيه وهو يهرع نحوها وقلبه يكاد ينخلع خوفا عليها.. راح يناديها باسمها في هلع ورعب وهو يراها تتأوه على مقربة منه.. ساعدها على النهوض وهو يسألها إن كان مكروها قد أصابها فأومأت برأسها نفيا.. أحس بدموعها حمما تحرق فؤاده وصوتها المتهدج يبثه خوفها عليه مما قد يصنعه بهما والدها.
تناسى رفعت ما قد يلاقيه من غضب عمه وما قد يفعله به في فورة غضبه أو أنه كان يملك من الشجاعة ما يجعله لا يأبه بما قد ينزل عليه من عقاب، فلقد طلبت إليه ملك ألا يخبر أباها بما كان مخافة أن يصيبه منه مكروه غير أنه أبى إلا أن يوقفه على ما كان من الأمر فخير له أن يعلم عمه منه لا من غيره ما أقترفه من ذنب.. ثم إنه قد أخطأ وعليه أن يتحمل عاقبة خطأه.
كان سليمان بك جالسا إلي رفيق باشا يتحادثان في بعض شؤون الدولة وقد عرج الحديث بهما إلي ما يدور في أروقة الجيش، ذلك أن رفيق باشا كان ضابطا قياديا بالجيش مثله في ذلك مثل العديد من الضباط الشراكسة والأتراك آنذاك، غير أن طرقا على باب الغرفة قد قطع عليهما ما هما فيه من نقاش.
ما أن أذن سليمان بك للطارق بالدخول حتى فتح الباب وظهر على أعتابه رفعت وقد أطرق برأسه نحو الأرض خجلا.. أذن له عمه بالدلوف فتقدم محييا دون أن يرفع إلي أي منهما عينيه وشرع يقص على مسامعهما ما كان من أمره وملك بصوت أصابه الخجل بالخفوت.
أعتلت وجه سليمان بك حمرة الغضب وهو يسأله إن كان قد لحق بأبنته أذى فأومأ رفعت برأسه أن لا، بينما رماه رفيق باشا بنظرة إعجاب وهو يخاطبه بشىء من الدهشة
" يالجراءتك!!..أما خشيت من غضبة عمك وما سيلحقه بك من عقاب؟!."
تطلع إليه رفعت وهو يجيبة بنبرة لم يخفى عليهما ما تحمله من ثقة وثبات
" سيدي.. إن من يركب البحر لا يخشى من الغرق.. ثم إنني أجل سليمان بك أبا وأحترمه عما ولا أظنك تخالفني الرأي أن الحب والإحترام بغير خوف أفضل ألاف المرات من الخوف بلا حب أو إحترام."
تضاعف إعجاب رفيق باشا بالشاب الواقف أمامه وقد ملئته الثقة والعزة بالنفس.. أما سليمان بك فقد زال عن محياه ما كساه من حنق وقال وهو يشير للفتى محذرا
"سيكون لي معك شأنا أخر حين نعود للقاهرة."
أنسحب رفعت من الغرفه وقد تملكته حيرة لازمته ما تلى من ليال قضاها وهو يتفكر في قول عمه.. لقد كانت إشارته نحوه محذرة على نحو صارخ غير أن هدوءه وشبح الابتسامة التى ارتسم على شفتيه كانا يوشيان بما خلف كلماته من بشرى.
فهل أدرك عمه بفراسته ما يكنه من عشق لملك؟.. ولو أن ما ذهب إليه من ظن صحيح فهل يقبل بأن تكون له زوجة؟
لقد أخبره عمه من قبل بقصة زواجه من ثريا هانم علوى.. وما كان بينهما من فوارق وما اعترض هواهما من عوارض، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فهل يجد عمه غضاضة في أن تنتهى قصته وملك ذات النهاية السعيدة؟
إن ثريا هانم تكن له كل المودة والعطف ومنذ أن ألتحق بمنزلها للحياة فيه بعد وفاة والدته لم تفرق يوما بينه وبين ولدها صادق في معاملة.. لقد كان حنانها ينسال ليغمره فيزيل عنه همومه وأحزانه على نحو عجيب.. بل لقد كانت نظرتها الحانية الشفوقه له دائما كعصى ساحر تلمس شغاف قلبه فتملئه بهجة وسعادة وتعوضه قسوة اليتم والحرمان.
لذا فقد كان على يقين تام من انها ما كانت لتعوقه أن يبلغ ما يرنو إليه.. غير أن أكثر ما كان يؤرقه هو ما سيكون عليه موقف عمه.. كان الأمر مربكا له وقد هوى عقله فريسة للأفكار المتناحرة وكاد يصيب روحه اليأس لولا ما حدث وعجل بعودتهم جميعا من منية الرحمانية إلي القاهرة.
في نهايات عام 1860 م. وبينا سليمان بك وأسرته وصديقه رفيق باشا بالقرية إذ جاء الأخير رسولا من القاهرة يخبره بقرب خروج الوالي سعيد باشا لزيارة المدينة المنورة وقد أقام من أبن أخيه إسماعيل نائبا له ليباشر سلطاته في إدارة شؤون القطر المصري أثناء غيابه.. وما أن جائهم الرسول حتى أستعدوا من ساعتهم للعودة إلي المحروسة ذلك أن رفيق باشا وإسماعيل كانا على صداقة قوية نشأت أواصرها بينهما منذ كانا في مقتبل عمريهما
كان إسماعيل بك في ذلك الوقت يدرس بتلك المدرسة التي أنشأها محمد على باشا بفرنسا وخصصها للمصريين لدراسة الفنون العسكرية وكان أفتتاحها في سبتمبرعام 1845 م. برعاية المرشال سولت وزير الحربية الفرنسي آنذاك .. غير أنها لم تدم سوى ثلاث سنوات قبل أن يعود بعض طلابها الذين بلغوا الخمسة والثمانين شابا إلي مصر وبقي البعض الأخر لإستكمال الدراسة في الكليات المختلفة فكان أن تحول إسماعيل إلي كلية سان سير الحربية لإستئناف دراسته حيث ألتقى برفيق شركس وحيث نبتت بينهما الصداقة التي دامت بعدها لسنوات طوال.
ولقد كانت تلك بطبيعة الحال فرصة ذهبية لسليمان بك كيما يدنو بضع خطوات من إسماعيل فقد كانت ثمة إرهاصات مبكرة وشواهد من الأحداث توشي بألا بديل عنه وريثا لعرش عمه سعيد باشا.. بل لقد كانت الأحداث تنساب في مجرى القدر علي نحو قاطع بأن إسماعيل هو والي مصر القادم فلقد حدث في عام 1858 م. حادث مفاجيء أزال تلك العقبة التي كانت تعترض طريقه إلي العرش حين أقام سعيد باشا حفلا في الأسكندرية ودعا إليه كل أفراد العائلة فلبى الجميع الدعوة إلا واحدا وهو إسماعيل.. وبينما القطار عائدا من الإسكندرية بعد إنتهاء الحفل حاملا في إحدي عرباته الأمير أحمد رفعت شقيق إسماعيل الأكبر وولي العهد إذ فقدت الطوافة التي كانت تحمل عربة الأمير وسقطت في النيل عند كفر الزيات حيث لم يكن الكوبري قد أنشيء بعد وكانت عربات القطار تحمل إلي الجانب الأخر من النيل فوق طوافات فغرق الأمير أحمد رفعت وأصبح الطريق ممهدا لإسماعيل لإعتلاء العرش بعد عمه.
المهم أن تلك المناسبة – خروج سعيد باشا لزيارة المدينة المنورة – كانت فرصة سانحة ما كان لسليمان بك أن يدعها تفلت من يده مهما كان الثمن فهو لن يسمح للقدر أن يخدعه كما خدعه من قبل ذلك بعامين حين خرج سعيد باشا للأستانة مخلفا وراءه إسماعيل نائبا.. يومها عرض علي صديقه أن يصحبه معه إلي قصر عابدين ليكون في وداع الوالي سعيد باشا على أن يعرفه بإسماعيل فوافق صديقه وأبى قدره إذ ألم به مرض ثقيل ألزمه الفراش شهرا كاملا فحال دونما يخطط له.. وإن كانت الفرصة قد لاحت له مرة ثانية ليبلغ مراده فقد إغتنماها أيما أغتنام.
كانت السعادة تملأ كيان سليمان بك في تلك الليلة التي عاد فيها من قصر الوالي بعد أن ودع سعيد باشا وجلس إلي إسماعيل ولي عهده ولا غرو أن تتملكه السعادة وقد قفز بخطوة واحدة إلي قلب عابدين حيث السلطة والمنعة.
داخلت رفعت بعض الراحة حين رأى ما عليه عمه من بشر وإن بقي شيء من الخوف المشاغب في صدره.. على أن مخاوفه تلك لم تكن ترجع لجبن أصابه وإنما مردها إلي حيرته مما يدور بخلد عمه وما يخبأه له فيما هو قادم من أيام.. وإن كان الأمر برمته بالنسبة له يكتنفه الغموض غير أن بارقة أمل قد لاحت له في الأفق في ظهيرة ذلك اليوم الذي طلب فيه عمه أن يلحق هو وصادق به في غرفة مكتبه.
في حزم قاطع وجه سليمان بك حديثه إلي أبن أخيه قائلا
" أنصت إلي جيدا يا رفعت.. أنت تعلم أنك لا تقل مكانة عندي من صادق.. وإني إنما أهتم لأمر مستقبلك كما أهتم لأمر مستقبله..لذا فقد قررت أمرا أريدكما أن تمعنا فيه الفكر."
قال رفعت الذي أرهف السمع متلهفا
" نحن رهن إشارتك وطوع أمرك يا عم."
أستطرد سليمان بك وهو يرمق الفتى مترقبا ردة فعله على ما سيقول
" لقد قررت إرسالكما لإستكمال دراستكما في فرنسا سويا.. فماذا تقولان؟"
تهللت أسارير صادق الذي قال في شبه صياح
" نعم الرأي يا أبي."
أما رفعت فقد غاضت الدماء في محياه وأصابه شحوب مفاجيء ولم يخفى علي عمه ما طرأ عليه من تغير وقد أطرق برأسه وما تملك فؤاده من حزن حاول جاهدا أن يجهضه ففر هاربا إلي صفحة وجهه
"ماذا تقول يا رفعت؟"
هكذا سأله باسما فأجاب الفتى بصوت متهدج
"الأمر ما تراه يا عم فلا رأي بعد رأيك."
ضحك سليمان بك قائلا
" هذا ما توقعته بالضبط.. لقد راهنت نفسي على عدم قبولك بالسفر."
نظر إليه رفعت دهشا
" أخشي أنني لم أفهمك يا عم."
أومأ إليه بإشارة محذرة وقال مازحا
" لا تتهمني في ذكائي يا فتى.. على كل حال ما كان لي أن أقبل ببعدكما سويا عني."
صاح صادق
" إذا كان رفعت يأبى السفر فلا مناص من أن أسافر أنا.. ولسوف أكون مطمئنا لوجوده إلي جواركم."
لم تصل عبارة صادق السالفة إلي مسامع رفعت ذلك أن الأفكار قد حملته بعيدا عمن حوله.. إنه لم يكن ليقبل بالسفر أبدا.. لم يكن ليقبل أن تبعده طول المسافات والأيام عن هواه ومنيته.. إنه يحس بنيران الجوى تلهب قلبه وهو بعد إلي جوارها فماذا لو أنه أرتحل بعيدا عنها؟.. خطر بباله للوهلة الأولي أن عمه إنما أراد بسفره أن يفرق بينهما فقد بدر منه غير مرة من العبارات والإيماءات ما يوحى بإدراكه لم يضطرم في صدره من عشق أفلا يكون ذلك القرار المفاجيء بسفره بحجة الدراسة هو رفضا ضمنيا لهذا الغرام؟
شعر الفتي بدوار يلف رأسه وقد مادت الأرض تحت قدميه بالرغم من عبارة عمه الأخيرة المطمئنة فهو إنما يريد الحقيقة مجردة لا لبس فيها فقد أوشكت قواه أن تخور أمام تلك الهواجس التي راحت تتلاعب به بلا رحمة أو هوادة
عمد الفتي إلي إستجلاء الحقيقة فقال بلا مواربة
" إذا كانت رغبة صادق في السفر فإنني أراه من الأوجب أن يسافر هو.. أما أنا فلن أذهب ما حييت إلي أبعد من مصر فإن لي فيها ما يجعل رحيلي عنها مستحيلا."
قال سليمان بك باسما
" ألم أقل لك أني قد راهنت نفسي علي رفضك.. على كلٍ لقد رتبت لك أمرا أخر لا أظنك ترفضه هذه المرة."
أطلت من عين الفتي نظرة متسائلة بينما أردف عمه
" لقد أثرت بشجاعتك وثقتك بنفسك إعجاب رفيق باشا حين كنا بمنية الرحمانية.. ولقد حدثني في شأنك منذ أيام قليلة وأقترح أن يسعي لك لتنتظم في سلك الجيش كضابط."
يالذلك الشعور بالراحة وهي تهدهد حواس الإنسان بعد أن كادت عواصف القلق تذهب روحه.. إن ما زفه إليه عمه الأن قد أغدق عليه فيضا من السرور والفرحة لم يشعر بمثلها من قبل قط.. على أن بقاءه بمصر إلي جوار فاتنته لم يكن هو المصدر الوحيد لتلك السعادة وإنما ما أخبره به عمه عن عزم رفيق باشا إلحاقه بالجيش.. لو صح ذلك إذن لبات قادرا في غضون عامين على الزواج من ملك.. لسوف يدرس القوانين العسكرية.. ويجتاز أختباراتها بتفوق.. وينضم إلي صفوف الضباط ..ويتقدم لخطبة ملك ..و..
وحملته أحلام اليقظة بعيدا فأسلم لها عقله حتى أنتزعته منها صيحة صادق
"رفعت.. أين ذهبت يا رجل؟!."
أنتبه رفعت قائلا
" ماذا؟!."
" ماذا دهاك؟!"
"لا شيء."
"لا شيء!!.. ألا تري ما أنت عليه؟!."
أدلي سليمان بك دلوه في الحوار قائلا
"لا يدرك ما يعتمل بصدرك يا رفعت إلا من تجرع نفس كأسك."
ها هي الحقيقة تأتيه سافرة.. فعبارة عمه الأخيرة لا تحمل سوي معنى واحد ، وهذه الابتسامة المشجعة على شفتيه تزف له من الأمال العريضة ما تقر بها عينه. ولكنه وفي غمرة سعادته أنتابه خجل من وجد نفسه فجأة عاريا في طريق عام.. لقد كاد الخجل يقتله، ولا عجب فهكذا خلقه الله حييا خجولا.
ما أن فرغ رفعت من لقاءه هذا حتى تنفس الصعداء وهرول إلي ملك يخبرها بما كان وأهازيج البهجة والشوق تهز وجدانه فكادت الفرحة أن تطيح برشدها فما كانت أقل منه عشقا أو هياما.. وهما وإن لم يكاشفا بعضهما من قبل قط بمكنون فؤادهما ولم يبثا بعضهما ما يعانياه من لواعج الهوى بيد أن نظراتهما كانت دائما رسولهما الأمين، فللنواظر لغة لا يقف علي مفرداتها ولا أسرارها إلا من سلك دروب الهوى عاشقا.. ولقد سارا سويا في تلك الدروب حتى بلغا منها مبلغا أورثهما الوفاء والإخلاص المتبادل فلم يطرأ على قلبيهما ما قد يعكر صفو حياتهما بعد أن تزوجا بل لقد إزداد تعلق قلبيهما بعد أن رزقهما الله بولدهما الوحيد الذي أراد له رفعت أن يحمل أسم من أسره بإحسانه وجمائل صنعه فأسماه سليمان.
" سيدي.. سيدي رفعت."
كان رفعت يهم بإجتياز أعتاب منزله عندما جاءه صوت مناديه فالتفت إليه ووقعت عيناه على شاب يقف على بعد خطوات منه وقد حمل مع ابتسامته حقيبة كبيرة فوق كتفه .
تساءل رفعت في أعماقه عن ذلك الشاب الصغير ذو الوجه المألوف.. إن ملامحه السمراء الرقيقة هذه تحتل من عقله مكانا قصيا لا تبلغه يد الذاكرة غير أن مظهره القروي وذلك النوع من الحقائب التي كان يحملها والتي أشتهر باستعمالها أهل القري ثم تلك الابتسامة الفطرية الأقرب إلي السذاجة ، كل هذا كان يوحى بأن هذا الشاب لابد وأنه من أهل منية الرحمانية.
مد رفعت يده يصافح الشاب الذي بدا عليه الأسف وهو يسأل رفعت
" إنك لم تعرفني بعد.. أليس كذلك يا سيدي؟"
" الحق ما قلت يا فتى.. فمن أنت؟"
" أنا غريب أبن الشيخ عبد الوهاب أبو الأسرار."
أتقدت ذاكرة رفعت بغتة مع ذكر الفتى لإسمه وضمه إليه فرحا وهو يقول
" حمدا لله على سلامتك يا غريب.. لا تؤاخذني فقد مرت سنوات طويلة منذ رأيتك أخرمرة."
" لا عليك يا سيدي."
" هيا معي إلي الداخل فوجهك يصرخ بما عانيته من مشقة في رحلتك إلي هنا."
أراد غريب أن يعتذر فقد أوشك الليل أن يرخي سدوله ولولا وصية أبيه له بأن يكون إبلاغ تحياته إلي رفعت هو أول ما يفعله عندما تطأ قداماه أرض المحروسة لما آتاه في مثل ذلك الوقت.
" لا تعتذر يا غريب فلن أتركك ترحل في مثل هذا الوقت.. هيا لتستريح من عناء السفر ولسوف أصحبك بعد ذلك حيثما تريد."
على مضض وافق الفتى وتبعه إلي داخل المنزل.

 
 

 

عرض البوم صور moonlights5000  
قديم 19-07-12, 12:39 AM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو مميز

البيانات
التسجيل: Apr 2010
العضوية: 159313
المشاركات: 6,037
الجنس أنثى
معدل التقييم: عذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسيعذرا ياقلب عضو ماسي
نقاط التقييم: 7887

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عذرا ياقلب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : moonlights5000 المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

تغلق لتاخير

 
 

 

عرض البوم صور عذرا ياقلب  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العرب, إلياذة
facebook



جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:07 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية