لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


اشياء لايبددها الزمن

أشياءُ لا يبدّدُها الزمن (1) عزيزتي (رباب): مضت جروحٌ كثيرةٌ واعتادَ القلبُ الألم. وعلى عكسِ ما تظنّين، لم تعُدْ حقيقةُ مرضي تُؤلمُني. وما

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-03-10, 05:09 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Mar 2007
العضوية: 25442
المشاركات: 126
الجنس ذكر
معدل التقييم: نجم الخيال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
نجم الخيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
افتراضي اشياء لايبددها الزمن

 

أشياءُ لا يبدّدُها الزمن


(1)

عزيزتي (رباب):

مضت جروحٌ كثيرةٌ واعتادَ القلبُ الألم.

وعلى عكسِ ما تظنّين، لم تعُدْ حقيقةُ مرضي تُؤلمُني.

وما آلمتني، وما آخافني شبحُ الموتِ إلا من أجلِ (شريف).

أفزعتْني فكرةُ أن يفقدَني أنا أيضًا، وأنا آخرُ من له في الدنيا بعدَ رحيلِ والدينا.

وهو مرهفُ الحسّ، ما زلتِ تلمَسينَ الحزنَ في عينيه، حتى وهو يبتسم.

تصدّقين: إنّني أعتبرُه ابني أكثرَ من كونِه أخي الذي يصغرُني بعامين؟!

وباستثناءِ صداقتِك، فإنَّ عالمي كلَّه يدورُ حولَه.

عامّةً أنا لستُ متشائمةً كما ظننتِ من خطاباتي السابقة.

كلُّ ما هنالكِ أنّي أردتُ أن أشكوَ إليكِ بثّي وهمّي، فكأنّما أغسلُ منهما روحي.

آسفةٌ أنّي أحمّـلُكِ همومي، فبخلافِ أنّي أحاولُ أن أكظمَها، مبديةً التجّـلدَ أمامَ (شريف) ـ وهو عبءٌ أعيذُكِ أن تعرفي ما أثقلَه ـ فأنا أيضًا أرتاحُ لحكمتِك التي تفوقُ عمرَكِ بكثير، وأرى في كلماتِكِ ما ينيرُ بصيرتي.. إنّني حقًّا أحتاجُ إلى مشورتِكِ، وأنا التي أكبرُكِ بثلاثةِ أعوام.

عامّةً، لم أعدْ أجدُ الوقتَ الكافيَ لتستأثرَ بي همومي، فمـع اقتـرابِ الامتحانان، صارتِ المذاكرةُ تشغلُ كلَّ وقتي، حتّى لقد صرتُ أكتفي بقليلٍ من الدموعِ، قبلَ أن يُسلمَني إرهاقي إلى راحةِ النوم.

لا أدري إن كانَ المستقبلُ سيمتدُّ أمامي، ولكنّي أودُّ أن أُحرزَ مجموعًا عاليًا في الثانويّةِ العامّةِ.

على الأقلِّ حتى أُدخلَ السرورَ على قلبِ (شريف).

أنتِ أيضًا يجبُ أن تعتني بمذاكرتِك، فإنَّ عقلَكِ النيّرَ يُنبئُ بمستقبلٍ واعد.

اكتبي لي أنّى استطعتِ.

(عزة)

***

عزيزتي (رباب):

أسعدتْني جدًا هديّتُكِ التي أرسلتِها بمناسبةِ نجـاحي في الثانويّةِ العـامّة.. ولولا بهجةٌ لمعتْ في عينيْ (شريف) لاعتبرتُها أجملَ ما تلقيت.

وصلتْني صورتُك.. لكم نضجتِ في عامٍ واحد، وازدادَ حسنُكِ إبهارًا.. حفظكِ الله.

أمّا بالنسبةِ لصورتي، فأعتقدُ أنّي في غنىً عن الاعتـذارِ، وليتَكِ تُعفينني من اللائمة.

إنَّ الزمنَ يتسرّبُ من ملامحي، ويحتلُّها الشحوبُ في اطّراد، ناهيكِ عن الحزنِ الذي حمّلني عمرًا لم أعشْه.. لن أعيشَه!

يمكنُكِ الاكتفاءُ بصوري القديمة.

ومن يدري.. ربّما استطعنا التلاقي يومًا ما.

أمّا بالنسبةِ للكلّيّة، فقد قرّ عزمي على دخولِ كلّيّةِ الآداب.

أسعدني ما ذكرتِ عن تعميقِ قراءاتِكِ في فتـرةِ الإجازة، وعن تعلّمكِ للخطوطِ العربيّة.

رجاءً لا تَنسَيْ إجادةَ الطهيِ والعنايةِ بالمنزل، حتّى تكتملَ أركانُ شخصيّتِكِ، ما بينَ الجمالِ والأخلاقِ والثقافةِ والمهارة.

لك مني أجملُ المنى.

(عزة)

***

عزيزتي (رباب):

ما زلتِ تُلحّينَ في التساؤلِ عن حياةِ الجامعةِ.

إنّها ليستْ أسرارًا عسكريّةً حتّى أخفيَها عنكِ!

وباستثناءِ صداقتي لـ (هبة) وقد حكيتُ لك عنها، لم يطرأْ شيء.

أعرفُ أنّكِ ستتهمينني بالكـذبِ حالَ قراءتِكِ للجملةِ السابقة، فما زالَ المكرُ يطلُّ من خطاباتِكِ كلّما سألتِني عن (إيهاب).

قلتُ لكِ مرارًا إنّه لا يشغلُ تفكيري.

صحيحٌ أنّه وسيم، وأنّه متعدّدُ المواهبِ والأنشطة، وليس تافهًا كمعظمِ الشباب.

وصحيحٌ أنّه يهتمُّ بي، وأنَّ فتياتِ الدفعةِ يحسدنني لذلك.

ولكن..!

إنَّ في عينيه أجملَ معاني الربيع، وابتسامتَه غدٌ، وحماسَه طموحٌ لا يعرفُ الكلل.

كيفَ يمكنُ إذن أن تحتضنَ عينيه، عينانِ يسكنُهما الخـريف، وابتسامتَه قلبٌ لا ينتظرُ الغد، وحماسَه ألمٌ لا طموحَ له؟

سأعترفُ لكِ للمرّةِ الأولى أنّي انجذبتُ إليه.

ولكنَّ ذلكِ ملأني بالمزيدِ من الحزنِ!

لا أعرفُ ما الذي يُمكنُ أن يراه في ملامحي الشاحبة، وجسدي الهزيل، وأيّامي التي تتناثرُ في ريحِ الخريف.

آسفةٌ أنّي لا أستطيعُ إكمالَ الكتابة.

أشعرُ أنَّ الحـزنَ سيخنقُني.

ليتَه يبتعدُ عنّي بدلا من أن يَزيدَني ألمًا على ألم.

في انتظارِ كلماتِك.

(عزّة)

***

عزيزتي (رباب):

كنتُ قد ظننتُ أنَّي قد ذقتُ من الآلامِ ما حصّنني ضدَّ أيِّ ألم.

ولكنّي كنتُ واهمة.. كان هناكِ المزيد!

لقد صارحني (إيهاب) بإعجابِه بي.

كانَ من المفروضِ أن يُسعدَني هذا.

كان من المفروضِ أن تمتزجَ سعادتي بالخجلِ، ويتلوّنَ وجهي بأزهـارِ الربيعِ، وأنا أهربُ منه بعينيّ.

و لكنَّ العكسَ هو ما حدث:

ملأتِ المرارةُ قلبي، وفردَ خفاشُ الحزنِ جناحيه على روحي، وسالتِ الدموعُ من عينيّ.

ولكنّه لم يندهش.

كانَ يعرفُ حقيقةَ مرضي.

(هبةُ) سامحها اللهُ أخبرتْه بكلِّ شيء.

قالَ كلامًا كثيرًا عن تمسّكِه بي أكثر، وأنَّ الأعمـارَ بيدِ اللهِ، وأن كثيـرًا من العرائسِ يقضينَ في ليلةِ العُرسِ وهنَّ في أتمِّ العافية، وأنَّ اقتناصَ لحظةِ سعادةٍ واحدةٍ في حياةٍ تمورُ بالآلامِ، لهو هدفٌ كافٍ في حدِّ ذاتِه يستحقُّ المغامرةَ، و.. و.. و....

إنّه لا يعرفُ شيئًا اسمُه اليأسُ حقًا!

وهذا هو أكبرُ عيوبِه!

كلُّ ما سيجلبُه لنفسِه هو المزيدُ من الأمل.. والألم.

سيراهنُ على الحصانِ الخاسر.

وماذا ستكونُ النتيجة؟

سيجعلنُي أتعلّقُ بالحياةِ من جديدٍ لأنّه فيها، وسيضاعفُ آلامي ـ إن لم يكُن قد فعل ـ أضعافًا مهولة.

وأقصى ما سيحصلُ عليه ـ إن حصلَ عليه ـ بعدَ سنواتٍ من الدراسةِ وعراكِ الحياةِ، هو زوجةٌ مريضةٌ، تتركُ له طفلا هزيلا، وتركةً من الذكرياتِ المؤلمةِ التي لا تنتهي.

إنّ هذا ظلمٌ بيّن، إن ارتضاه هو لنفسِه، لم أكنْ أنا لأرتضيَه له.

لهذا طلبتُُ منه أن يبتعدَ عنّي وهربتُ منه وأنا أتعثّرُ في دموعي.

ومن يومِها لم أذهبْ إلى الجامعة، ولن أذهبَ إليها إلا في فترةِ الامتحان.

هذا الموضوعُ منتهٍ بالنسبةِ لي.

خيرٌ له أن يتألّمَ لفقدي الآنَ وما زلتُ طيفًا يداعبُ خيالَه، عن أن يقتطعَني الموتُ وقد صرتُ جزءًا منه.

وهذا هو قراري الأخير، فأرجوكِ لا تراجعيني فيه.

صديقتُكِ المعذّبة (عزّة)

***

عزيزتي (رباب):

شارفَ عامٌ على الانقضاءِ وما زلتِ تُلحفينَ في السؤالِ عن (إيهاب).

لماذا لا تصدقينَ أنَّ هذا الأمرَ قد حُسمَ منذُ زمن؟

وأنتِ في غنىً عن أن أذكرَ لكِ كم هو مؤلمٌ، أن أراه ما زالَ يُطاردُني بنظراتِه الحزينةِ حتّى الآن، ولا كم هو مُجَهدٌ قلبي الذي يهفو إليه بلا أمل.

أشعـرُ كأنّني ظمأى على ضفّةِ غديرٍ صافٍ، جائعةٌ على مائدةٍ حافـلةٍ بأطايبِ الطعام، خائفةٌ في ليلِ الذئابِ، لا أستطيعُ الاستنجادَ وفـارسي عن كثب.. مفردةٌ ضدَّ الحزنِ، وحيدةٌ وسْطَ من أهوى، عاشقةٌ بلا أمل.

أرجوكِ نحّي عنا هذا الأمرَ فهو مثارُ شجونٍ، وهي لا تنقصُني.

لعلّكِ تعرفينَ أنَّ (شريفَ) الآنَ في الثانويّةِ العامّة، وأنّي أحاولُ جاهدةً أن أوفّرَ له الجوَّ المثاليَّ الذي يُساعدُه على التركيزِ والاستذكار.

فدعيني أرجوكِ أؤدّي هذه المهّمةَ بنفسٍ مستقرّة.

اعتني بنفسِكِ جيدًا.

(عزة)

***

عزيزتي (رباب):

تحرّرتُ أخيرًا من الألم.

إنَّ سكينةً عميقةً تسكنُني، وراحةً لذيذةً تغمرُ روحي، كأنَّ أجنحةَ الملائكةِ تحفُّها.

كلُّ الأطبّاءِ حمقى.. كانَ العلاجُ أمامي منذُ البدايةِ وتغافـلتُ عنه.

توجّهتُ إلى اللهِ بقلبٍ صافٍ وأخلصتُ له العبادة.

وكلّما سجدتُ اقتربت.

ماذا يفعلُ الألمُ إذن أمامَ مثلِ هذه الروعة؟

ما انفككتِ تسألينني عن (إيهاب).

الآنَ أنا أحبُّ اللهَ فقط، ولا أفكّرُ في (إيهابَ) أو في سواه.

بل لا أفكّرُ في الزواجِ كلّيّةً.

فبخلافِ أنّي لا أصلحُ له، أفكّرُ أن أعيشَ ما تبقّى من حياتي كالراهبات، أنتظرُ اللحظةَ التي ألتقي فيها باللهِ سبحانَه.

دعكِ منّي الآنَ وأخبريني كيفَ حالُ مذاكرتِك؟

انتبهي جيّدًا، فمقدارُ الجهدِ الذي ستبذلينه هذا العامَ، سيُحدّدُ الكلّيّةَ التي ستلتحقينَ بها.

مع تمنياتي بالتوفيق.

(عزّة)

***

عزيزتي (رباب):

تساءلتِ بسعادةٍ بالغةٍ، عن سببِ ازديادِ معدّلِ خطاباتي لكِ في الشهورِ الماضية، وعن نبرةِ الأملِ التي تفوحُ من ثناياها.

لا أكتمُكِ سرًّا أنّي أكتبُ لكِ يوميًّا تقريبًا، وإن لم أكن أرسلُ إليكِ كلَّ الذي أكتبُه!

أمّا عن نبرةِ الأملِ التي تتحدّثينَ عنها، فقد علّلتُها لك من قبل:

لقد عرفتُ طريقي أيتها العزيزة.. منذُ فترةٍ وأنا أعيـشُ في معيّةِ الله، وكلما أوغلتُ في العبادةِ تمكّنَتِ الراحةُ من قلبي.

هكذا أردُّ على فقراتِ خطابِكِ تباعًا، ووددتُ لو ابتدرتُكِ بالتهنئة، إلا أنّكِ أخّرتِ نبأَ نجاحِكِ بذلكِ المجموعِ الرائعِ، فآثرتُ أن أعاقبَكِ بالمثل!

تتساءلينَ أيضًا لماذا لم أعدْ أذكرُ لكِ من أخبارِ أخي (شريف) كما هي عادتي، بل وتدّعينَ أنّي لم أذكرْ لكِ حتّى بأيِّ كلّيّةٍ التحق!

لا أدري!.. ظننتُ أنّني قد أخبرتُك!

إنَّ (شريف) لا يغـيبُ عن بالي قط، وأنتِ نعمَ من يعرفُ، أنّي وهو كِيانٌ واحد، لا يفرّقُنا حتّى الموتُ ذاتُه!

عمومًا، إنّه يدرسُ الآنَ في كليّةِ (دارِ العلوم).

ثمَّ يبدو أنَّ النسيانَ ليسَ من شيمي وحدي، فأنتِ إلى الآنِ لم تذكري لي على أيِّ كلّيّةٍ انتويت!

وختامًا أرجو أن تقبلي منّى هذه الهديّةَ المتواضعة.

(عزة)

***

عزيزتي (رباب):

أشعـرُ بتهيّبٍ غيرِ يسير، ربّما تلمَسـينه في رعشةِ خطّي وأنا أكتبُ لكِ هذه الكلمات.

هل ستزورينَ (مصرَ) بصحبةِ والدِكِ حقًّا، أم أنّها دعابةٌ من دعاباتِكِ الظريفة؟

لكم تمنينا أن نتلاقى، وقد ربطتنا صداقةُ الورقِ لأكثرَ من خمسِ سنوات.

يا إلهي!.. أشعرُ بالكثيرِ من الإثارة!

لكم أتوقُ إلى هذا اللقاء!

في انتظارِكِ على أحرِّ من الجمر.

(عزة)

***

(2)

طوتْ (ربابُ) تلك الرسـائلَ، وتراجعتْ في مقعدِها في الطائرةِ التي تُقلُّها إلى (القاهرة) وهي تبتسم في سعادة.

أخيرًا ها هي ذي في طريقِها لتقابلَ صديقتَها العزيزةَ (عزة)، التي عاشتْ معها أفراحَها وأحزانَها عبرَ الورقِ لسنواتٍ عديدة.

انتهزت فرصةَ قدومِ والدِها إلى (القاهرةِ) لقضاءِ بعـضِ أعمـالِه التجـاريّةِ، وأصرّتْ أن ترافقَه.

بالتأكـيدِ سيكونُ أسبوعًا مميّزًا، ترافقُها فيه (عزّة) ليشاهدا معـالمَ (القاهرةِ) الشهيرة.

لكم عانتْ (عزة)!.. ولكم آلمتها معاناتُها!

فليكنْ أسبوعًا بهيجًا إذن، تُنسيها فيه الآلام.

***

أدهشها أكثرَ ممّا أحبطَها أنَّ (عزةَ) لم تكُنْ في استقبالِها في المطار.

وعندَما وصلتْ وأبيها الفندقَ، وجدتْ في انتظارِها رسالةَ اعتذارٍ منها، تطلبُ فيها أن تقابلَها في اليومِ التالي أمامَ برجِ الجزيرة.

***

أزاحتْ عيناها الوجوهَ في لهفةٍ وهي تبحثُ عنها.

خافتْ أن يكونَ الزمـنُ قد غيّرَ ملامحَها كثيرًا، خاصّةً أنَّ أحدثَ صورةٍ تمتلكُها لـ (عزّةَ) مضى على التقاطِها أربعُ سنوات!

ثمَّ توقفتْ عيناها عندَ شابٍّ يقتربُ منها، لم تدرِ لمَ بدتْ لها ملامحُه مألوفة.

توقّفَ الشابُّ أمامَها، وصمتَ لحظةً، قبلَ أن يمدَّ إليها صورةً كانت في يدِه.

التقطتِ الصورةَ في تهيّبٍ، وألقتْ عليها نظراتِها.

ولدهشتِها كانت صورتَها!

رفعتْ إليه عينين متسائلتينِ، فتمتم:

- (شريف).

خفقَ قلبُها بقلقٍ وهمهمت:

- أينَ (عزة)؟

غمرَ الحزنُ عينيه لحظةً، قبل أن يقول:

- لنجلسْ أولا في مكانٍ مناسب.

***

لم تدرِ حتّى أينَ هما.. فقط بمجرّدِ أن جلسا ابتدرتْه:

- أين (عزة)؟.. لماذا لم تأتِ معك؟.. هل أصابها مكروه؟

لم يُحُرْ جوابًا.. ولكن قرونًا من الحزنِ عربدَتْ في عينيه، لدرجةِ أنَّ قلبَها قد انقبضَ، وهي تسألَه بتهيّب:

- لماذا لا تجيب؟.. ماذا حدث؟

أخرجَ ورقةً مطويّةً من جيبِه، قدّمها إليها بأصابعَ مرتجفةٍ، وهو يقولُ بصوتٍ مخنوق:

- هذه رسالةٌ منها إليك.

فضّتِ الورقةَ بتوتّر:

- عزيزتي رباب.. لكم تمنّيتُ أن نتلاقى على أرضِ الواقع، ولكن يبدو أن الأجلَ لن يسعفَني.

كانتِ الدموعُ تتراقصُ في عينيها، حتّى لم تعدْ تستطيعُ تمييزَ الكلماتِ المكتوبة.

ولثوانٍ رانَ صمتٌ ثقيلٌ، وخيطانِ من الدمعِ يسيلانِ من عينيها، قبلَ أن تسألَه:

- متى حدثَ هذا؟

- [تردّد لحظة]: منذُ عامٍ تقريبًا.

- [توقّفتِ الدمـوعُ في عينيها، ونظـرتْ إليه غيرَ مصـدّقة]: هذا.. هذا مستحيل.. إنّ آخرَ رسالةٍ وصلتْني منها لم يمضِ عليها.....

- أنا الذي كتبَ هذه الرسائل.

- [نظرتْ إليه بدهشةٍ لم تلبثْ أن تحوّلتْ إلى غضب]: أنت؟

- [بخفوتٍ متهيّب]: أجل.

انفجرتْ تهتفُ من بينِ دموعِها:

- ومن الذي منحكَ الحقَّ لتخدعني بمثلِ هذه الطريقة؟.. لماذا لم تخبرني في حينِها؟.. لماذا حرمتني من أن أحضرَ لوداعِها.. من أن أراها ولو لمرّة؟.. لماذا؟.. لماذا؟

ودفنت وجهَها بينَ كفّيها، وانخرطتْ في البكاءِ بحـرقة، بينما سالَ الدمعُ من عينيْ (شريف) في صمت.

ولم يَدْرِ أحدُهما كم مرَّ على ذلك، قبلَ أن ترفعَ (رباب) وجهَها إليه، وتقولَ بحزم:

- سأقابلُكَ غدًا في مثلِ هذا الموعد.. أحضرْ معكَ كلَّ خطاباتي، فليس من حقّكِ الاحتفاظُ بأسراري وخصوصيّاتي.

ودونَ أن تنتظرَ إجابتَه، نهضتْ في حدّة، وغادرتِ المكانَ بخطواتٍ سريعة.

***

بعينينِ أرهقتهما كثرةُ الدموعِ وطولُ السهر، وقفتْ تبحثُ عنه.

ثمَّ توقفتْ عيناها عندَ وجهِه وهو يقترب.

الآنَ تدركُ جيّدًا لم بدا لها مألوفًا.. إنَّ ملامحَها العزيزةَ ذائبةٌ في ملامحِه.

غرقـتْ عيناها في دمعتينِ تترقـرقانِ في عينيه، فعادتْ دموعُها لتسيل، حتى عجبتْ من أينَ تنبعُ، وقد ذرَفتْ منها بالأمس أنهارا!

توقف (شريف) أمامَها، وهمـهمَ بتحيّةٍ لم تُميّـزْها، قبـلَ أن يمـدَّ إليها يدَه بمظروفٍ مغلقٍ، يبدو مكتظًّا.

أخذتْه منه في صمت.

ثمَّ فجأةً انخرطتْ في البكاء، فجذبَها من يدِها برفقٍ، ليجلسا على مقعدٍ حجـريٍّ قريب.

لبِثتْ تبكي بُرهةً، قبلَ أن تكفكفَ دمعَها، وتتمتم:

- لقد راجعتُ خطاباتِها بالأمس.. كنـتُ حريصةً على أن أحمـلَ معي نسخةً منها، حتى نسترجعَ أجملَ ذكرياتِنا.

لم يَجِدْ ما يقولُه، فتابعت:

- لقد عرَفتُ الخطابَ الذي بدأتَ فيه تكتبُ باسمِها.

ورمقته فوجدته شاخصًا، وعيناه نافذتا حزنٍ ينزف.

صمتت، فلم ينبس بكلمة.. سألته:

- هل ستظلُّ صامتًا هكذا؟

قال بخفوت:

- بجوارِ أنّه لا كلماتِ لديَّ، أخافُ أن أقولَ شيئًا يُضايقُكِ فتنصرفي.

- لماذا؟

- بسببِ غضبِكِ بالأمسِ للخطاباتِ الـ....

- بل لماذا لا تريدُني أن أنصرف؟

- [متنهّدًا]: لأنَّ روحَها تغشاني في وجودِك.. لكم كنتِ عزيزةً عليها!.. لم يكنْ لها من حديثٍ غيرُك.

- أنا أيضًا أحسُّ بروحِها فيك.. إنَّ بينَكما تشابهًا كبيرا.

نظرَ في عينيها لحظةً في صمت.

في هذه اللحظةِ وجدتْ نفسَها تهوي مع شلالاتِ الحزنِ إلى أغوارِه السحيقة.

سألته:

- لماذا فعلتَ هذا؟

- تعنينَ الخطابات؟

- نعم.

- [تنهدَ تنهيدةً حارة]: لستُ أدري.. كانتِ الصدمةُ هائلة.. لسنواتٍ كنتُ أتوقّعُ أن أفقدَها في أيّةِ لحظة.. ربما أظهرتُ التجلدَ أمامَها حتّى أمنحَها أملا كنتُ أنا في أمسِّ الحاجةِ إليه.. ربما أقنعَتْ هي آلامَها أن تنزوىَ تحتَ قناعِ بسمتِها الشفافة.. ربما ضحكـنا معًا وقلبانا يُضرعُهما البكاء.. ولكنَّ هذا قَطّ لم يُقلّلْ من فداحةِ المفاجأة.. [وسالت دموعُه] هل تعرفين؟.. المرّةُ الوحيدةُ التي رأيتُ فيها بسمةً صافيةً مطمئنّةً تُلقي أنوارَها على ملامحِـها، كانتْ في لحظةِ الفِـراق.. فجـأةً بدا أنَّ أعباءَ السنينَ قد تفتّتتَ، وذرتها نسماتٌ مسّتْ روحَها وهي تُجـيبُ بارئَها.. لياليَ طـوالا لم تفـارقْ هذه الصورةُ مُخيّلتي، وأنا معتكفٌ وحدي، تنداحُ حجرتُها في داخلي بلادًا من الذكرياتِ التي حلوُها شجنٌ ومرُّها ألم.. أبكي أو أجمدُ أو أتبعُ أطيافَها، تتقمّصُ رُوحَها وتتحرّكُ من حولي، تنسِلُ من ذهني تسكبُ الدمعَ في عيني، وترتدُّ إلى قلبي تَسكنُ فيه، وتُسكنُ الأشجانَ إلى الأبد.

وصمتَ ريثَ أن تحورَ غصّةٌ مرّرتْ حلقَه، وأردفَ:

- طيفًا وراءَ طيفٍ، كانتْ روحُها تغشاني.. آلافٌ من الأفكـارِ والمشاعـرِ والذكرياتِ راحتْ ترقى بي إليها، حتّى أحسستُها أنا وأحسستُني هي.. لم يكُنْ أنا الذي يكتب.. كانَ كلُّ شيءٍ حيٍّ منها بداخلي هو الذي يكتب.. هي التي حرّكتْ يدي.. هي التي بثّـتكِ كلماتِها.. هي التي أمرتني أن أرسـلَ خطاباتِها إليك.. كانت هي.. هل تصدقينَ هذا؟

ونظرَ لها بعينينِ مفعمتينِ بالرجاءِ والدمع، فتمتمتْ من بينِ دموعِها:

- أصدّقُه.

- للهِ كيفَ هانتْ آلامي ووحشتي!.. حينَئذٍ كانت تكتبُ لكِ كلَّ يوم.. حينَئذٍ لم تعُدْ تتركُني لوحدتي في جوفِ الليلِ اللزجِ المقيت.. حينئذٍ كنتُ أحيا لتحيا بي.. وحينما كنتِ ترسلينَ خطاباتِك، كانت روحُها تضوعُ بينَ ضلوعي، وتَشيعُ في جسدِ الذكرياتِ السجينِ حركةً نابضة، وتتراقصُ على الجدرانِ الخامدةِ أطيافًا من الأحـلامِ، رغمَ انطفاءِ الشمـوع.. [ودفنَ وجهَه بينَ كفيه] سامحيني.. لطالما وددتُ أن أصارحَـك، ولكنّي خِفتُ على روحِـها التي أحيا بها، يبدّدُها التياثُ عقلي في وحشةِ الصمتِ وكآبةِ الوَحْدة.

أحسّتْ بأنّها على وشكِ الاختناقِ من فرطِ الحزن، وتفجّرتْ في عينيها دموعٌ، حاولتْ باستماتةٍ أن تكبتَها.

لم تدرِ لماذا.. فقط أحسّتْ أنَّ (عزةَ) لو كانتْ مكانَها ما كانتْ لتستسلمَ للدموع.

ثمَّ إنها سألتْه، وكانت أكثرَ تماسكًا:

- هل.. هل حزنتَ لخبرِ قدومي؟

رفعَ وجهَه ينظرُ لها بعينينِ مندهشتين، فاستطردتْ موضّحةً:

- يعني.. كنتُ سأكتشفُ كلَّ شيءٍ لا محالة.

قالَ وشبحُ بسمةٍ يتراءى في غيومِ شجونِه:

- لم يَرِدْ هذا إلى ذهني.. كلُّ ما راودني هو أنَّ شيئًا حلُمَتْ به كثيرًا قد آنَ له أن يتحقّق.. حتّمًا سعِدَتْ.. وحتمًا مسّتْني سعادتُها.. هل تعلمينَ؟.. إنّني أقرأُ لها كلَّ خطاباتِك.. ودومًا كانت نسمةٌ معبّقةٌ بالشذى، تُداعبَ خطابَكِ كلّما وردَ به ما يُسعدُها بك.. ودومًا كانَ عصفورٌ وحيدٌ يشدو بشجنٍ كلّما وردَ به ما يقلقُها لك.. [وضحك فجأةً رغمَ دموعِه].. أتعرفين: كلُّ من رآني أقرأُ خطاباتِكِ على قبرِها ظنّني مجنونًا!

- [بدهشة]: هل كنتَ تحملُ خطاباتي لتقرأها لها؟

أومأَ برأسِه في صمتٍ، فقالتْ بتأثّر:

- سامحني لغضـبي منكَ بالأمس.. ولكنَّكَ تعـرفُ هولَ الفاجعةِ تحتَ وطأةِ المفاجأة.. آسفة.. إنَّ ما فعلتَه حقًّا لهو شيءٌ نبيل.

سألها (شريف):

- هل تودّينَ رؤيتَها؟

- [بلهفة]: يا ليت.

- [ناهضًا]: إذن هيّا بنا.. لكم تتوقُ إلى رؤيتِكِ هي أيضا.

وذهبا.

***

(3)

لولا خشيةٌ دينيّة، أن تقـعَ في شركٍ أو وثنيّة، لاحتضنتْ قبـرَها حتى تَرهَكَ جدرانَه أو يرهكَ ضلوعَها.

و تجمّدَ الزمنُ بـ (رباب)، إلا من خيطينِ من الدمعِ يُغرقانِ وجهَها، وشريطٍ من الذكرياتِ ينسابُ داخلَها.

وبخفوتٍ همهمت:

- مرحبًا يا عزيزتي.. أنا (رباب).

تحرّكتْ نسمةٌ رقيقةٌ، طربتْ لها شجرةٌ مورفةٌ تظلّلُ القبر، وتهادتْ على أنغامِ حفيفِها زهرةٌ ناضرةٌ، حتّى استقرّت تحتَ قدمي (رباب)، فنظرتْ إليها لحظةً، ثمّ انحنت تلتقطُها، واعتدلتْ تتأمّلُها قبلَ أن تهمس:

- نعم.. هناكِ أزهارٌ كثيرةٌ تتساقطُ وهي في أوجِ نضارتِها.

ووضعتِ الزهرةَ برفقٍ على القبرِ، وكفكفت دمعَها وقالت:

- أتعرفين؟.. رغمَ كلِّ الحزنِ الذي يكتنفُني، إلا أنَّ شيئًا من الراحةِ مسّني إذ جئتُ إليك.. نعم يا صديقـتي.. هناكِ أرواحٌ لا يستطيعُ حتّى المـوتُ أن يفرّقَها.. والآنَ ها نحن قد التقينا.. ربّما لا يكـونُ اللقاءَ الذي به يومًا حلُمْنا.. ربّما لا أستطيعُ رؤيتَكِِ أو لمسَك.. ولكنّي متأكّـدةٌ أنكَ تسمعينني الآنَ.. ومتأكّدةٌ كذلكِ أنّكِ كنتِ دائمًا معي، عبرَ خطاباتي التي قـرأها لكِ (شريف).. [وعاد دمعُها يسيل] آهِ للقـلبِ الذي تسكنينَ، وآهِ يا للروحِ التي أنتِ بها ماثلة.. تأكّدي أنَّ شيئًا لن ينتـزِعَ مكانَكِِ من قلبي، لا ولن يقربَ ذكراكِ النسيانُ، أو يشغَلَني عنكِ الزمان.

وانخرطتْ في بكاءٍ مرير.

***

كانَ (شريف) يرقُبُها من بعيد، وهي تبتعدُ عن القبرِ بخطواتٍ متثاقلةٍ وتتّجهُ إليه.

توقّفت أمامَه وهي لا تكادُ ترى من فرطِ ما أغشتْ عينيها الدموع.

قال لها برفق:

- هيّا بنا.

تثاقلتْ لحظة، قبلَ أن تنظرَ للخلفِ تجاهَ القبر.

استرعى انتباهَها أنَّ شخصًا ما كانَ يقتربُ منه.

تابعته ببصرِها إذ توقّفَ أمامَه، وإذ وضعَ زهرةً على شاهدِه.

سألتْ (شريف):

- من هذا؟

- [ملتففتًا حيثُ تشير]: لقد حيرني هذا السـؤالُ مثلَكِ تمامًا، حتى عرفتُ إجابتَه.. هذا هو زميلُها (إيهاب).

- [اتسعتْ عيناها وكررت في شجن]: إيهاب!.. [وصمتتْ لحظةً بتأثّر] كثيرونَ هم من فقدوها.. [وسألته] هل يداومُ على القدومِ إلى هنا؟

- أكثرَ ممّا أفعلُ أنا!.. [وصمتَ لحظة] في البدايةِ أحنقني الأمر.. أحرقتْني غيْـرةٌ لم ألبثْ أن اكتشفتُ أنها من أمورِ الحمق!.. ثمّ إنَّ وفاءَه مسّـني، وجعلني شيئًا فشيئًا أتعاطفُ معه.

تنهدتْ (ربابُ) ونظـرتْ لـ (إيهابِ) لحظةً، قبلَ أن تلتفتَ إلى (شريف) وتهمهم:

- هيا بنا.

***

ألقتْ عليه السلامَ فأجابَه والتفت.

التقتْ عيناه بعينيْ (رباب)، التي تمتمت:

- أستاذ (إيهاب)؟

- هل تعرفينني؟

- رأيتُكَ بالأمسِ في نفسِ هذا المكان.

- [التفتَ إلى القبرِ في حزن]: أحضرُ أنّى استطعت.

و التقطَ الزهرةَ التي وضعَها على القبرِ بالأمسِ، وقد نالَ الذبولُ من نضارتِها، فمسَّ وريقاتِها برقّة، وهمس:

- زهرةٌ تذبلُ تلوَ أخرى.

- [التقطت بدورِها الزهرةَ التي وضعتْها بالأمسِ]: هناكَ دومًا المزيدُ من الأزهار.

- والمزيدُ من الحزن.

- هل تحزنُكَ زهرةٌ تذبُل؟

- حينما لا يقبلُها من أهوى.

- و من أدراكَ أنّه لم يقبلْها؟

- لقد ذبلَت.

- حتّى لو قبِلها فستذبُل.

- لقد رفضَ واحدةً لا تذبلُ أبدًا.

- هل قالَ لا؟

- أبى أساسًا أن يسمعَني.

- و من أدراكَ أنّه أبى؟

- إنّه لا يجيب.

- لا ينفي هذا أنّه استمع.

- و لا ينفي أنّه أعرضْ.

- أوَ فعل؟

- ألا ترينَ حزني؟

- أوكّدُ لكَ أنّكَ واهم.

- لا أحدَ يتوهّمُ الحزن!

- يتوهّمُ ما يجلبُه.

- لا بدَّ أنَّ هناكِ ما دعَّه إلى ذلكِ دعّا.

- أو هناكَ ما لم يرَه.

- لم يرَ أفقَه في ضبابِ عينيها.

- الضبابُ سببتْه الدموع.

- و ما سَبَّبَ الدموع؟

- أنت؟

- أنا؟

- نعم.

- كانت تكرهُني إلى هذه الدرجة؟

- كانت يبرّحُها حبُّكَ إلى هذه الدرجة.

- و من أدراكِ؟

أخرجتْ من حقيبتِها مجموعةً من الخطاباتِ، قلّبتْ فيها لحظةً، قبلَ أن تنتزعَ ثلاثةً منها وتقدّمَها إليه في صمت.

نظرَ لها بتساؤلٍ، فدفعتِ الخطاباتِ إلى يدِه تستحثُّه ليأخذَها.

أخذَ الخطاباتِ وشرعَ يَجري فوقَ سطورِها بعينيه.

وراقبتْ (رباب) وجهَه بينما يقرأ.

بدا لها وجهُه مرآةً، قرأتْ عليها انعكاسَ الكلماتِ التي يقرؤها.

وببطءٍ نبتتْ في عينيه دمعاتٌ.. وببطءٍ أخذتْ في النموّ.

وما إن انتهى، حتّى رفعَ لها عينيه يسألُها بصوتٍ مختنق:

- من أينَ حصلتِ على هذه الخطابات؟

- هي أرسلتْها إليّ.

- كنتما صديقتين؟

- لأكثرَ من خمسِ سنوات.

- [بمرارة]: إذا كانت قد شعرَتْ تجاهي بمثلِ هذه المشاعرِ، فلماذا أبدتْ لي نقيضَها؟

- [بإشفاق]: خافتْ أن يُعذّبَكَ فِراقُها؟

- [بتهكّم حزين]: أو لم يفعل؟

- هكذا كانت تحبُّك.

- فليسامحْها الله.. لقد آلمتني ألمينِ أيّهما أبلغُ من آخَـرِه: ألمَ الصـدِّ وألمَ الفِراق.

هاجَ عذابُه حزنَها، فسالَ المزيدُ من دموعِها، دونَ أن تجدَ ما تقول.

وابتسمَ (إيهاب) ابتسامةً باهتةً وتمتم:

- على كلِّ حالٍ أشكرُك.. لكم أراحني كثيرًا أن أعرفَ، أنّها كانت تحملُ لي، بعضَ ما أحملُه لها من المشاعرِ النبيلة.

غمغمتْ بأحرفٍ بلا معنى، وصمت لحظة.. سألها برجاء:

- هل.. يُمكنُني الاحتفاظُ بهذه الخطابات؟

- آ.. بالتأكيد.. إنَّ معي أصولَها.

- [بامتنان]: أشكرُك.. أشكرُكِ كثيرًا.

- لا مُوجبَ لهذا.

التفتَ إلى المقبرةِ، وسكنَ لحظةً، ثمّ غمغمَ بصوتٍ اختلطَ فيه الحزنُ بالحنان:

- أما أنتِ يا جُرحي الحبيب، فلي معكِ عتابٌ طويل.

ووضعَ زهرةً ناضرةً على القبر، وغرقَ في شرودِه، حتّى إنَّ (رباب) التي اغرورقتْ عيناها بالدموع، انسحبتْ دونَ أن يشعرَ بها.

***

قبلَ أن تميلَ الشمسُ إلى الغروب، هبطَ عصفورٌ من عصافيرِ الجنّةِ، وحملَ في منقارِه زهرةً ناضرةً موضوعةً بعنايةٍ على شاهدِ قبرٍ، وحلقَ بها عاليا، حتى اختفى في الأفق.

***

قالت لـ (شريف)، وهما يجلسانِ في أوّلِ مكانٍٍ التقيا به:

- لقد أنهى أبي أعمالَه، وسنسافرُ غدًا.

- لقد قلتِ إنّكِ ستمكثينَ أسبوعًا!

- لكم أودّ!.. على الأقلِّ حتّى أبقى بقربِها.

- هي أيضًا تودُّ أن تبقَيْ بقربِها.

- كأنّكَ تتحدّثُ بلسانِها!

- إنّها تسكنُني.

- [ترددتْ لحظة]: هل أتجاسرُ وأطلبُ منكَ خدمة؟

- مريني.

- أريدُ أن أرسلَ لها خطاباتي كما اعتدنا دومًا.. هل ستوصلُها إليها؟

- [سرى على ملامحِه شبحُ ابتسامة]: لطلبتُه لو لم تفعلي.

- [بارتياح]: أشكرُك.

- هناكِ طريقةٌ لهذا.

- مُرني.

- هي أيضًا ما زالَ لديها ما تقولُه لك.

- [مبتسمةً]: لطلبتُه لو لم تفعل!

ثمَّ أخرجت مظروفَ الخطاباتِ الذي سلّمه لها من قبلُ، وقدّمتْه إليه متمتمةً:

- أعتقدُ أنَّ هذه الخطاباتِ تخصُّ (عزة).

التقطَ (شريف) المظروفَ منها، وهو يشعرُ حيالَها بامتنانٍ عميق.. تمتم:

- أشكرُك.. لا تعرفينَ كم هي عزيزةٌ هذه الخطابات.

- بل أعرف.

و تبادلا نظرةً باسمةً مبلّلةً بالدمع.

***

بينما وقفَ (شريف) يُراقـبُ طائـرتَها تبتعد، خيّلَ إلى (رباب) وهي ترمقُ السحبَ عبرَ النافذة، أنَّ عصفورًا بعيدًا يلوحُ على الأفق، وكأنّه يحملُ في منقارِه زهرةً ناضرة.

***

عزيزتي (رباب):

ما زالَ نسيمُ زيارتِك يُعبّقُ روحي.

الآنَ تأكّدنا ممّا قلناه دومًا.

نعم يا عزيزتي: إنَّ شيئًا ـ حتّى الموتَ ـ ما كانَ له أن يُفرّقَنا.

سمعتُ كلَّ كلماتِكِ، وآنستني صحبتُك، وارتاحتْ روحي لقربِك.

صحيحٌ أنَّها كانت زيارةً قصيرة، وليتها طالت، وليتها تتكرّر.

و لكنَّكِ تركتِ فيها من لمساتِكِ الرقيقةِ ما سيبقى على الدهر.

أشكـرُكِ لموقفِكِ من (إيهاب).

لكم آلمني حزنُه، وما كنتُ أظنُّه بمثلِ هذا الوفاء.. ليته لا يكون!

أمّا موقفي أنا فما زالَ كما هو: أتمنّى أن تسلبَني الحياةُ منه، ويرتاحَ الحزنُ في قلبِه، في ركنٍ هادئٍ من أركانِ الذكرياتِ الشجيّة.

أخي (شريف) يُقرؤكِ السلام.

لكم آنسَه في وحدتِه الطويلةِ، وجودُكِ العابرُ الماثل.

ما انفكّ يحدّثُني عنكِ كثيرًا، ولهجتُه تحملُ الكثيرَ من الإعزاز.

لا أوصيكِ به خيرًا.

طمئنينا عليكِ باستمرار.

و إليكِ منا أجملُ السلام.

صديقتُك إلى الأبد: (عزة)

***

محمد حمدي غانم
(24/2 ـ 1/3)/2002

 
 

 

عرض البوم صور نجم الخيال  

قديم 12-03-10, 12:34 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 125494
المشاركات: 1,456
الجنس أنثى
معدل التقييم: روح الامس عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 25

االدولة
البلدSudan
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
روح الامس غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : نجم الخيال المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

رااااااااائعة
وفكرة غريبة اول مرة اقرأها
اعجبتني هذه الصداقة الابدية وهذا التضحية وهذا الحب
اعجبني ما قرأت هنا حقا حتى انني سأقرأه مرة ثانية

اخي اسعدني عودتك لقد افتقدنا ابداعك المتميز هنا

تقبل مروري
تحياتي

 
 

 

عرض البوم صور روح الامس  
قديم 12-03-10, 09:59 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Mar 2007
العضوية: 25442
المشاركات: 126
الجنس ذكر
معدل التقييم: نجم الخيال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
نجم الخيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : نجم الخيال المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

روح الأمس:
شكرا لتقديرك.. سعيد أن أعجبك العمل..
وإن شاء الله اضيف المزيد من الأعمال قريبا.
تحياتي

 
 

 

عرض البوم صور نجم الخيال  
قديم 13-03-10, 11:29 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Aug 2009
العضوية: 149019
المشاركات: 2,028
الجنس أنثى
معدل التقييم: HEART WHITE عضو على طريق الابداعHEART WHITE عضو على طريق الابداعHEART WHITE عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 263

االدولة
البلدLibya
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
HEART WHITE غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : نجم الخيال المنتدى : الارشيف
Congrats

 

اهلا أخي نجم الخيال....لقد تهت بين اسطر هذا الابداع ....كلمات قمة في الروعة....لقد جمعت الحب والحزن في لوحة تسلب الب.....اهنئك علي هذه الفكرة الرائعة وعلي هذا القلم المبدع الذي سحرني وشدني اليه....تقبل مروري ....مع تحياتي...

 
 

 

عرض البوم صور HEART WHITE  
قديم 14-03-10, 02:27 AM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Mar 2007
العضوية: 25442
المشاركات: 126
الجنس ذكر
معدل التقييم: نجم الخيال عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدEgypt
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
نجم الخيال غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : نجم الخيال المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

HEART WHITE
شكرا لكلماتك المشجعة.
تحياتي

 
 

 

عرض البوم صور نجم الخيال  
 

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
لايبددها الزمن, أشياء لا, الزمن, يبددها
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 11:54 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية