د/ أدهم عوني
النــــــــــــــــداء
ينابيع من السعادة والفخر والثقة تفجرت داخل رأسه , وسرت عبر عينيه في نظرة طويلة إلى العبارة المنقوشة غلاف كتابه الجديد , هذا الشعور الذي يخالجه كلما رأى خلاصة إفرازات عقله أمامه .
قصص قصيرة . . . روايات . . . . كتب . . . . أشعار
أعوام من الإنتاج بلا توقف .
تراجع بمقعده للخلف , وارجع رأسه للوراء , وحقيبة ذكرياته تنفتح ومحتوياتها تمر أمام عينيه . . .
عودته إلى بلدته , معاناته الشديدة حتى أصدر كتابه الأول , جهوده بعد ذلك ليثبت في ارض الكتابة مع كتابه الثاني , ومع كتابه الثالث تجاوز عنق الزجاجة وتوالت إصداراته.
انه يشعر بالفخر الشديد , لقد أصبح الأفضل وبلا منازع . .
لو انه حصل على عشرة فان الكاتب الذي يليه بالتأكيد سيحصل على ستة على الأكثر.
فرشاة التفكير ترسم في عقله. .
أه . . . . . . لو جئت قبل قرون لأصبحت أبو الأدب العالمي , وربما لو جئت أبكر لاخترعت أنا كل فنون الأدب.
أنا فقط أتيت متأخرا , ولكن . . .
وإني وان كنت الأخير زمانه لأتى بما لم تأت به الأوائل
كما قال أبو العلاء المعرى , وكأنه يصف حاله , وربما كان قالها هو .
وا . . . . . .
قطع تسلسل أفكاره طرقات على الباب , وضعه يحتم عليه استقبال الزوار في كل وقت,وأشياء كثيرة أخرى , ليس المهم أن تكون المهم, أن تبدو, تلك هي القاعدة التي تحكم حياته .
اعتدل في مقعده ثم قال :
ادخل
انفتح الباب عقب كلمته , وظهر أمامه خادمه وخلفه صديقه اشرف , خطا اشرف إلى الداخل وعلى وجهه ابتسامه واسعة وهو يقول :
كيف حالك يا صديقي؟ , مبارك لك روايتك الجديدة , إنها رائعة , مازلت قادر على الإبداع أيها الثعلب .
ما كل هذا التبسط؟!! , ومن هو حتى يحكم على روايته؟!! , متى سيفهمون انه يختلف؟!! , وانه لا يحب أن يعاملوه هكذا , انه لم يعد مثلهم بعد الآن , صديقكم القديم قد مات, أنا شخص أخر يا سادة .
الشخص الذي طالما مرح معكم قد مات , أنا الآن شخص أخر فقط اكتب وأخر ما أفكر فيه هو أمثالكم .
ارتسمت تلك العبارة في ذهنه إلا انه لم ينطق حرفا منها فهذا لا يليق بصانع تاريخ مثله .
صافح اشرف في شي من البرودة دون أن ينهض من مكانه , ثم قال مستفسرا في جدية :
خيرا؟
وان كان لم يتكلم فان نظراته قد أعلنتها صراحة في وجه اشرف : أسرع, فليس لدى وقت لك , ولولا انه لا يليق لطردتك حالا , تلك النظرات اللاتي استقبلها أشرف, مما ساعده على حسم أمره وقتل تردده:
بارك لي يا آخى فقد أنهيت روايتي الجديدة.
سجين في قلب كلمات اشرف اللزجة مثله, ولا يستطيع الخروج ولكن. . . لا باس من بعض اللعب في اتجاه أخر .
قال في سخرية :
وهل كانت لك واحدة قديمة لتكون هناك جديدة .
بدا اشرف وكأنه لم يسمعه وهو يكمل وعلى وجهه نظرة من حقق نجاح عظيم :
ستكون رواية رائعة , وستأخذ مكانها بجوار أعظم الرو. . . .
قاطعه ادهم قائلا بلهجة المعلم الخبير وهو يرفع سبابته محذرا :
إياك أن تقول هذا : فهذا أول الطريق إلى الهاوية , أن يحس الكاتب بجودة عمله.
بدا ادهم ساعتها كمن يقول التدخين ضار بالصحة والسيجارة في فمه.
انه فقط كالكاشينوم -كائن يردد كلام يسمعه ليبدو كمن قاله - يردد كلام قد سمعه حتى يبدو عبقريا كمن قاله.
اخرج أشرف رزمة ضخمة من الأوراق من حقيبته , ووضعها على المكتب وهو يقول :
أتعرف ؟, سيكتب مقدمتها صديقي بالمراسلة الكاتب الإنجليزي الشهير د . و .كارول
لم يكن ادهم قد سمع عنه من قبل, إلا أن طبيعته تأبى الاعتراف بان لا يعرف؛ لذا فقد قال بسرعة و بلهجة العالم بكل شي :
كارول . . . . أتعرف لا أظنه رائعا إلى هذا الحد , كان يمكنك أن تجد أفضل لو أردت .
كان ادهم يشير إلى نفسه إلا أن اشرف تجاهل عبارته وهو يقول في مرح :
سيكتب شي على غرار " هذه الرواية الأولى لأشرف حامد إلا أنى شعرت عندما انتهيت منها أنى قرأت لواحد من كتاب الماضي العظام , فهذه الرواية جديرة بان تأخذ مكانها بجوار الحرب والسلام, وأي كتب خالدة أخرى ."
طبعا أنا لا اعتبر الحرب والسلام الأروع, ولكن الكثير يفعلوا , و كارول يفعل لذلك أنا العب بقواعدهم , وسأقبل وضع روايتي إلى جوارها .
غاص ادهم في بحيرة السخرية مرتديا بزة التهكم :
بجوار الحرب والسلام . . . . . .وكان هذا المكان مفتوح لواحد مثلك ليدخله .
اشرف بدهشة :
-ماذا ؟
ادهم بصرامة وجدية :
أقول على ماذا تبنى حكمك ؟ , كم واحد قرأ الرواية لتقول هذا ؟
- فقط صديقي الإنجليزي , ولقد قال كلام كثير لم افهم معظمه , ولكني خمنت انه يقول أنها جيدة
مرتديا ثوب الاستنكار قال ادهم :
لم يقراها احد تقريبا و تقول هذا , ماذا إذا لو قراها عشرة واثنوا عليها؟ , كنت ستقول أنها ستزيح الحرب والسلام وتأخذ مكانها .
قال اشرف في سرعة :
ولهذا أنا هنا ,فأنت تساوى التسعة الباقيين,فانا أريدك أن تقراها, وتخبرني برأيك فيها وتساعدني على تصحيح الأخطاء, التي لابد أنى ارتكبتها إثناء الكتابة , سأتركها لك حتى تقراها, وسأنصرف ألان فلابد أنى قطعت خط إبداعك المتواصل .
ونهض من مكانه وتطلع إلى الكتب الموضوعة في مكتبة ادهم, ثم قال متظاهرا بالحزن :
ولكن للأسف لا أستطيع أن اتركها؛ فليس لديك الحرب والسلام , وأنا لن أضع روايتي إلا بجوار الحرب والسلام .
- . . . . .!!
/ / / / / / / / / / / / / / / /
ألقى ادهم نظرة سريعة بلا اكتراث على الأوراق التي احضرها اشرف , فتح أول ورقة , إنهم بيننا , عنوان سخيف ومشجع جدا على أن يلقى بالأوراق وينهض , وبعد أيام يتصل بأشرف ليخبره أن الرواية هي السوء نفسه .
بدت له الفكرة حمقاء فعدل عنها سريعا , إنها تضيع عليه الكثير من المرح , لقد عذبه اشرف كثيرا ,ولذلك فسوف يقراها بحرص شديد , ولسوف يستمتع بتحطيمه قطعة قطعة , يقول أنت كتبت كذا يالك من أحمق , لم تكتب كذا يالك من جاهل , ولماذا فعلت هذا ؟!! أتعرف ؟ أفضل شي أن تحرق الرواية، وتذهب لأحد يعلمك الأحرف , أو تبحث عن حرفة تناسبك .
بدأت عيناه تتشمم الأوراق بحرص, تتذوق أولها في تعفف. . . لا باس ,تأكل ثانيها . . .ثالثها. . . , ثم راحت تلتهمها بسرعة كشخص صام طوال عمره , وحان موعد إفطاره .
لم يفق ادهم إلا عندما أنهى الرواية وجلس مصعوقا مصدوما , فالرواية فاقت كل تصوراته .
الرواية اقل ما توصف بها أنها الروعة . . السحر . . الجمال , إنها. . . . . إنها بالفعل ستأخذ مكان بجوار الحرب والسلام , بل ربما تزيحها جانبا .
منتدى ليلاس الثقافي
أخطاء . . . . لم يرى حتى نصف خطا .
ولكن كيف يبدع واحد مثل اشرف هذه التحفة الرائعة ؟!!
صحيح أن اشرف كان مفاجأة دائمة للجميع بعقليته الغريبة وتفكيره المختلف, فلقد كان ينام عندما ينشط الجميع , وينشط بعد أن ينام الجميع , لقد كان يفعل كل شي ولا احد يعرف كيف ولا متى .
ولكن أن يبدع مثل هذه الرائعة , فهذا مستحيل .
المفترض أن تخرج هذه الرواية من عقل كعقله وليس من عقل هذا ال. . . . الأشرف .
ولكن لم لا ؟!!
انه يتذكر عندما ذهب إلى قريته في احد الأعياد جاءه بعض شباب العائلة , وراحوا يعرضوا عليه بعض أعمالهم القصصية, فراح ينقدهم في هدوء , كانت القصص أشبه بأكواب عصير معدة جيدا فقط ينقصها بعض السكر , وبدلا من أن يساعدهم في وضعه, راح يخبرهم انه لا يوجد كوب من البداية , وأنهم لا يملكون إلا بعض الماء ينثرونه بلا معنى , في حين كان هو يمتص رحيقها , وعندما عاد راح يفرز عسله على الورق لتصبح واحدة من أعظم كتبه.
أصبح يعود لبلدته من حين لأخر يجلس إلى الشباب يسمع منهم يحاورهم يناقشهم , يشترى رحيق أفكارهم مقابل بعض المال ثم يعود, ومعه دماء جديدة تضخ في كتبه .
شعر باز رعتها تمتد نحوه. . . .
الآن هذه الرواية قد جاءته على طبق من فضة وهى جاهزة فقط سيحملها للناشر .
أحاطت به ازرع الفكرة وكبلته تماما. . . .
فلو إفترضنا أن الغزال يمكن أن يقاوم بين أنياب الأسد, أو أن القرد يستطيع المقاومة ورأسه في فم التمساح, أو أن السد الترابي يمكنه أن يقاوم السيل المنهمر, لقلنا إن ادهم فكر حتى أن يقاوم .
أدهم عوني
إنهم بيننا
تبدو رائعة , وأقوى من أن تقاوم ,وستأخذ مكانها بالتأكيد بجوار الحرب والسلام .
فقط الحمقى يضيعون الفرصة عندما تأتيهم , وهو ليس أحمق بالتأكيد .
/ / / / / / / / / / / / / / / /
اشرف . . ., وماذا يستطيع أن يفعل ؟ سيختفي من أمامه لبعض الوقت , ولن يجد اشرف ما يفعله سوى الصمت , وحتى لو تكلم فمن سيصدقه أمام كلمة الكاتب الكبير؟
سيقف مرتديا قناع الحكمة والوقار بعيون حزينة ويقول :
لا اعرف لماذا يفعل إنسان مثل هذا ؟ , لقد أصبح العالم خطرا على المبدعين
/ / / / / / / / / / / / / / / /
التقط الأستاذ عزت عصام مدير دار النشر رزمة الأوراق الضخمة من يد ادهم وهو يقول :
تبدو كبيرة هذه المرة , وبالتأكيد فهي رائعة كسابق أعمالك , اعتقد انك ستغير وجه الأدب .
ابتسم ادهم ولم يجيب وإنما خفض بصره وكأنه يقول ليس إلى هذا الحد , أو أنت تبالغ كثيرا.
قلب عزت صفحات الرواية, وراح يقرا اسطر متفرقة , ثم قرأ أول صفحة وقال:
بداية قوية , تبدو مختلفة , حدثني عنها .
رأى اشرف أمامه يقول : إنها روايتي أنا أيها اللص .
ابتسم , هذا العالم لمن يحسن استغلاله , وليس لمن يملكه, هز رأسه ليطرد منها صورة اشرف ثم التقط نفسا عميقا وقال:
هذه الرواية بالذات تختلف , فانا اعتبرها قطعة منى ؛ فلقد ظللت اعمل عليها لسنوات , ولقد استهلكت فيها أقصى طاقتي , وا . . . . .
وصمت عندما رأى عزت يتطلع إلى الكتب في مكتبية بنظرة غريبة , نظر إلى حيث ينظر عزت لاشى غريب .
مجموعة عادية من الكتب المقامر . . الجريمة و العقاب . . الحرب والسلام . . إنهم بيننا . . .الإخوة كرا. . .عاد ببصره سريعا إنها هي بالتأكيد , وبجوار الحرب والسلام , إذا فقد كان يعرف , من البداية وهو يعرف ولكنه فقط . . . .
لم يتركه عزت لأفكاره وإنما التقط الرواية من المكتبة وهو يقول في هدوء ساخر :
المشكلة أن هناك تطابق بين روايتك الإنجليزي د . و . كارول حتى أنى اعتقد انه سرق روايتك وأصدرها قبلك بعشر سنوات .
هنا أدرك كل شي ....
لقد نسج اشرف الشبكة ببراعة,ودخل هو إليها كالساذج , فاشرف كان يعرف أن هذا سيحدث.
رواية عالمية+ أحمق لا يقرا إلا قليلا = محاولة اخذ الرواية= الموقف الذي هو فيه.
طعنة غادرة, و صفعة قاسية لكبريائه , وضربة قاسمة لعقله الجبار .
ولكنه لم يختر أية رواية وإنما اختار واحدة عالمية . . . فلماذا؟
يريد أن يظهره بلا قناع أمام نفسه , ولكنه لا يهتم بمثل هذا , فهو يعرف نفسه جيدا .
كل ما يهمه هو الخروج من هذا الموقف , بعدها سينتقم ,و سيكون انتقامه جدير بان يدرس في الجامعات الفضائية , حاول أن يقول أي شي إلا أن الكلمات ذابت على شفتيه .
بدا اشرف بوجهه المصفر وعرقه الغزير وشفتاه اللاتان تتحركان بلا كلمة مثير للشفقة إلى حد بعيد .
قطع عزت أفكاره قائلا :
اشرف حامد , لقد أرسل إلى الرواية وخطاب يخبرني فيه بكل شي .
خرجت الكلمات متقطعة متفرقة بلا معنى من فم اشرف :
أنني . . . أنا . . .كنت . . . .
أشار إليه عزت أن يصمت , وهو يكمل بنفس الهدوء وبلهجة مسرحية :
لقد حاولت سرقة رواية صديقك , وحاولت أن توهمني أنها روايتك , وهذا يجعلني أقول انك لص وأحمق نعم أحمق ؛ فأنت لا تميز ، وتسمح للآخرين بخداعك .
وهذا يجعلني أقول . .
وصمت لحظة راقب خلالها التعبير المرتسم على وجه ادهم ثم أكمل :
انك تحتاج لبعض التعديلات ؛ حتى لا تسقط ثانية أثناء عملك معي .
لو أن احدهم قرر أن يفتتح متجرا للدهشة , لأصبح ادهم اكبر مموليه, ولكان أفضل بضاعته التعبير الذي ارتسم على وجهه في تلك اللحظة .
قال المدير بلهجة تقريرية تخلو من أي انفعال :
لست مثاليا بقدر ما أخاف على عملي , وأنت سلعة مطلوبة والقراء يحبون ما تقدم , فحتى لو كان لي اعتراض عليك , إلا أنني أقدم لهم ما يحبون, فلو طلبوا سم لقدمته لهم.
أنا فقط كالقطار أحملك إلى القراء , ولا يهمني من أنت , ولا من أين تملا حقيبة كتبك .
أنت معي ما لم تضرني فلو فعلت فستجدني اشد أعدائك , فقط حاول أن تكون اشد حذرا فلو سقطت ثانية, فسيسحقك القطار وبلا رحمة .
ثم ابتسم المدير وربت على كتف ادهم وهو يقول :
والآن أريدك أن تكتب واحدة تستحق بالفعل مكانا بجوار الحرب والسلام .
/ / / / / / / / / / / / / / / /
اتجه ادهم نحو سيارته المتوقفة أمام الدار , صعد إليها بسرعة , اخرج هاتفه المحمول وكتب :
اشرف , يحسن بك أن تختفي ؛ فاني اقسم أن أجعلك تتمنى أن تكون بجوار كاتب الحرب والسلام .
تمت بحمد الله
30-09-09, 02:51 PM
بجوار الحرب والسلام
جديد مواضيع قسم القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
العرض العادي
