لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > المنتدى العام للقصص والروايات > القصص المكتمله
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

القصص المكتمله خاص بالقصص المنقوله المكتمله


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-03-09, 01:02 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Wavey

 

ربع قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك.

ربع قرن من الأيام المتشابهة التي أنفقتها في انتظارك.

ربع قرن على أوَّل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب على ركبتي كانت أنت.

ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم يرك.

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيّة ذراعه، وفي المجن المغلقة قلبه..

لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثّتي، والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي، لتبقى عذراء.. وجبّارة مثلك. تحمل في لونها كلّ الأضداد.

كيف حدث كلّ هذا؟ لم أعد أدري.

كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبّ ينقلنا من شهقة إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل.

كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة تقف في وجه القدر؟

كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباً، كنّا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كلّ يوم. فلم يكن لك أيّ دوام جامعي.

كان عليك فقط أن تتحايلي على الآخرين بعض الشيء، وربما على ابنة عمك أكثر، حتى لا ترافقك لسبب أو لآخر.

كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مردداً تلقائياً، "إلى الغد": ترانا نرتكب أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض كلّ يوم. وربما لأنني كنت أكبرك سنّاً، كنت أشعر أنني تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي الشاذ وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب.

ولكن عبثاً كنت أحاول الوقوف في طريق ذلك الشلال الذي كان يجرفني إليك بقوة حبّ في الخمسين، بجنون حبّ في الخمسين، بشهية رجل لم يعرف الحبّ قبل ذلك اليوم.

كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، وينحدر بي إلى أبعد نقطة في اللامنطق.. تلك التي يكاد يلامس فيها العشق، في آخر المطاف، الجنون أو الموت..

وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات العميقة داخلي، إلى تلك الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى تلك المساحة البعيدة الأغوار التي لم تطأها امرأة قبلك، أنني أنزل أيضاً سلّم القيم تدريجياً، وأنني أتنكَّر دون أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطرّف، ورفضت عمراً بأكمله أن أساوم عليها.

لقد كانت القيم بالنسبة لي شياً لا يتجزأ، ولم يكن هناك في قاموسي من فرق بين الأخلاق السياسية، وبقية الأخلاق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت أتنكَّر لواحدة لأقنعك بأخرى.

تساءلت كثيراً آنذاك..

تراني كنت أخون الماضي، وأنا أنفرد بك في جلسة شبه بريئة، في قاعة تؤثثها اللوحات والذاكرة؟

تراني أخون أعزّ مَنْ عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة ومروءة، وأكثرهم شجاعة ووفاءً؟

تراني سأخون سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق عمر بأكمله. فأدنّس ذكراه وأسرق منه زهرة عمره الوحيدة.. ووصيّته الأخيرة؟

أيمكن أن أفعل كلّ ذلك باسم الماضي، وأنا أحدِّثك عن الماضي!

ولكن.. أكنت حقّاً أسرق منك شيئاً، في تلك الجلسات التي كنت أحدِّثك فيها طويلاً عنه؟.

لا.. لم يحدث هذا أبداً، كانت هيبة اسمه حاضرة في ذهني دائماً. كانت تربطني بك وتفصلني عنك في الوقت نفسه. كانت جسراً وحاجزاً في الوقت نفسه..

وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيح ذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر الماضي المصفرّة، لأقرأها أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني أكتشفها معك وأنا أستمع لنفسي، أقصها لأول مرة.

كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي تجهلينه، وكنتِ أنت الحاضر الذي لا ذاكرة له، والذي أحاول أن أودعه بعض ما حمّلتني السنوات من ثقل.

كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.

رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..

كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.

كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.

أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.

قلت:

- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟

قلت لك متعجباً:

- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟

قلت:

- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..

الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.

يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.

حلّ شيء من الصمت بيننا..

كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.

قلت:

- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.

وأضفتِ:

- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.

لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!

قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:

- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..

أجبت بشيء من السخرية:

- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!

أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.

لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.

قلت لك:

- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.

قلتِ:

- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.

ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:

- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.

كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.

يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".

يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.

لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟

مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.

لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّ للمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارج الأكل.

لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!

سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من خدوش طفولتي البعيدة:

- وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعد وفاة سي الطاهر؟

قلتِ:

- لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت في أعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليس لرجل..

كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لا يعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أن يتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبد المولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته القادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحين متضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلى به طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..

سألتك:

- من أين تعرفين كلّ هذه القصص؟

قلت:

- منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا سمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولون اهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونس كلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمر الفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ما جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياً كما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا من النساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته المعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمة الكاذبة!.

سألتك ضاحكاًً..

- وهل زرته أنت؟.

قلتِ:

- طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدة المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة، وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير في اختيار اسمي.

توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّر اللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:

- هل يسعدك أن أناديك "حياة"؟

قلت متعجبة..

- لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!

قلت:

- إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتك الذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتنا الاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.

ضحكتِ.. قلتِ:

- أتدري أنك لم تخرج أبداً من فترة الثورة، ولذا أنت تشعر برغبة في أن تعطيني اسماً حركياً حتى قبل أن تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل السري.. أيّة مهمة تراك تعد لي؟

ضحكت بدوري لملاحظتك التي فاجأتني بواقعيتها. تراك بدأت تعرفينني إلى هذا الحد؟

قلت:

- اعلمي أيتها الثوريّة المبتدئة أنه لا بدّ من أكثر من اختبار. لنكلِّف أحداً بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في مرحلة أولى بدراستك، ومعرفة استعدادتك الخاصّة!

أحسست لحظتها، أنّ الوقت قد أصبح مناسباً، لأقصّ عليك أخيراً قصّة يومي الأخير في الجبهة، ذلك اليوم الذي لفظ فيه سي الطاهر اسمك أمامي لأول مرة، وهو يودِّعني ويكلِّفني إذا ما وصلت إلى تونس على قيد الحياة أن أقوم بتسجيلك نيابة عنه.

وتلك الليلة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية التونسية، بجسد محموم وذراع تنزف، وأنا أردِّد لنفسي بهذيان الحمّى، اسمك الذي أصبح وسط إجهادي ونزيفي، وكأنه اسم لعملية أخيرة كلفني بها سي الطاهر، كنت أريد أن أحقق طلبه الأخير، وأطارد حلمه الهارب، فأمنحك اسماً شرعياً رسمياً.. لا علاقة له بالخرافات والأولياء..

أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه لأول مرة أدق باب بيتكم في شارع التوفيق بتونس. أذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها وكأن ذاكرتي كانت تقرأ مسبقاً ما سيكتب لي معك، فأفرغت مساحة كافية لها.

في ذلك اليوم الخريفيّ من شهر أيلول، انتظرت أمام بابكم الحديديّ الأخضر، قبل أن تفتح (أمّا الزهرة) الباب بعد لحظات بدت لي طويلة..

مازلت أذكر تلك الشهقة في نظرتها، كأنها كانت تنتظر شخصاً آخر غيري.

توقفت مدهوشة أمامي، تفحّصت معطفي الرمادي الحزين ووجهي النحيل الشاحب. توقفت عند ذراعي الوحيدة التي تمسك علبة الحلوى، وذراع معطفي الأخرى الفارغة التي تختبئ لأول مرة بحياء داخل جيب معطفي.

وقبل أن أنطق بأية كلمة اغرورقت عيناها بالدموع، وراحت تبكي دون أن تفكِّر حتى في دعوتي إلى دخول البيت.

انحنيت أقبّلها.. بشوق السنوات التي لم أرها فيها.. بالشوق الذي حمّلني إياه ابنها.. وبشوق (أمّا) التي لم أتعوَّد بعد سنتين ونصف على فجيعتها..

- واشك أمّا الزهرة؟

زاد بكاؤها وهي تحتضنني وتسألني بدورها..

- واش راك يا ولدي..؟

أكان بكاؤها فرحاً بلقائي، أم حزناً على حالتي، وعلى ذراعي التي تراها مبتورة لأول مرة.. أكانت تبكي لأنها توقعت أن ترى ابنها ورأتني.. أم فقط لأن أحداً قد دقّ هذا الباب، ودخل حاملاً في يده البهجة، وشيئاً من الأخبار، لبيت ربَّما لم يدخله رجل منذ شهور؟

- ع السلامة.. جوز يا ولدي جوز..

قالتها وهي تشرع باب الدار أخيراً وتمسح دموعها. ثم أعادت وهي تسبقني "جوز..جوز.." بصوت عالٍ كإشارة موجهة لأمك التي ركضت عند سماع هذه الكلمات، ولم أرَ غير ذيل ثوبها يسبقني، ويختفي خلف باب مغلق على عجل.

أحببت ذلك البيت.. بدوالي العنب التي تتسلّق جدران حديقته الصغيرة، وتمتد لتتدلى عناقيد ثريات سوداء على وسط الدار.

شجرة الياسمين التي ترتمي وتطلّ من السور الخارجي، كامرأة فضولية ضاقت ذرعاً بجدران بيتها، وراحت تتفرج على ما يحدث في الخارج، لتغري المارة بقطف زهرها.. أو جمع ما تبعثر من الياسمين أرضاً.. ورائحة الطعام التي تنبعث منه، فتبعث معها الطمأنينة، ودفء غامض يستبقيك هناك.

سبقتني (أمّا الزهرة) إلى غرفة تطل على وسط الدار مرددة:

- اقعد يا ولدي.. اقعد..

قالتها وهي تأخذ منّي علبة الحلوى وتضعها على الصينية النحاسية المستديرة والموضوعة على مائدة خشبية.

وما كدت أجلس أرضاً على ذلك المطرح الصوفي حتى ظهرت أنت في طرف الغرفة صغيرة كدمية، وحبوت مسرعة نحو العلبة البيضاء تحاولين سحبها إلى الأرض وفتحها. وقبل أن أتدخل أنا كانت (أمّا الزهرة) قد أخت منك العلبة وذهبت بها إلى مكان آخر وهي تقول: "يعطيك الصحة يا وليدي.. وعلاش عييت روحك يا خالد يا بني.. وجهك يكفينا..".

ثم عادت ونهرتك، وأنت تتجهين نحو الشّياحة الخشبية، الموضوعة على شكل قبّة صغيرة فوق كانون، والتي كانت ثيابك الصغيرة البيضاء منثورة فوقها كي تجفّ.. وعندها حبوت تحوي في خطوتين مترددتين، ويداك الصغيرتان أمامك تستنجدان بي.

لحظتها شعرت بهول ما حلّ بي، وأنا أمدّ نحوك يدي الفريدة في محاولة للإمساك بك. لقد كنت عاجزاً عن التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة، ووضعك في حجري لملاعبتك دون أن تفلتي مني.

أليس عجيباً أن يكون لقائي الأول بك هو امتحاني الأول وعقدتي الأولى، وأن أنهزم على يدك في أصعب تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل الذراع الواحدة.. من عشرة أيام لا أكثر..!

عادت (أمّا الزهرة) بصينية القهوة وبصحن "الطمّينة":

- قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه الطاهر؟

قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان في سؤالها مذاق الدمع. وفي حلقها غصّة السؤال الذي يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها أنني كنت تحت قيادته وأنه الآن في منطقة الحدود وأن صحته جيدة ولكنه لا يستطيع الحضور هذه الأيام، لصعوبة الأوضاع ولمسؤولياته الكثيرة.

لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن العدو قرر أن يطرق المناطق الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى تتمكن طائراته من مراقبة تحركاتنا.. وأنه تم إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من كبار القادة والمجاهدين، وأن ثلاثين منهم قد صدر في حقهم الحكم بالإعدام، وأنني أتيت للعلاج مع مجموعة من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان منهم قبل أن يصلا..

لقد قال لها منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، فرحت أغيّر مجرى الحديث.. أمددتها بتلك الأوراق النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، وطلبت منها حسب وصيته أن تشتري لك بها هدية، ووعدتها أن أعود قريباً لتسجيلك، بذلك الاسم الذي اختاره لك، والذي رددته أمّا الزهرة بصعوبة، وبشي من الدهشة، ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر بالنسبة لها صفة القداسة.

وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلّقت ركبتي وجئت فجأة لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم أتمالك لحظتها احتضانك بيدي الوحيدة.. ضممتك إليّ، وكأنني أضمّ الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي الثانية؛ كأنني أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحلام ذلك الرجل الذي لم يسعد بعد باحتضانك.

رحت أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكلّ تناقضي، نيابة عن سي طاهر وعن رفاق لم يروا أولادهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، ماتوا وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه، يحتضنون فيها بدل البنادق، أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم.

نسيت يومها أن أقبِّلك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نيابة عني. نيابة عن الرجل الذي سأتحول إليه على يدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسجّل جوار اسمك اسمي مسبقاً.. وأن أطلب ذاكرتك مسبقاً.. وأعوامك القادمة مسبقاً.. أن أحجز عمرك، وأوقف عدّاد السنوات الذي كان يركض بي نحو السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين شهرك السابع!

نسيت أن أستبقيك هكذا على حجري إلى الأبد، تلعبين وتعبثين وبأشيائي، وتقولين لي كلاماً لا أفهمه.. ولا تفهمينه.

لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقصّ عليك تلك القصة بإيجاز متعمّد، وأترك تفاصيلها المتشعبة لي.

توقفت فقط عند ذلك اليوم 15 أيلول 1957 الذي وقفت فيه لأكتب على سجلّ رسمي اسمك النهائي.

لم تسأليني أيّ سؤال توضيحي، ولا علَّقت يومها بكلمة واحدة، على قصّة لم يقصها عليك أحد قبلي. ربما لأن لا أحد وجد في تلك القصة ما يستحق التوقف.

استمعت إليَّ بذهول، وبصمت مخيف. وراحت غيوم مكابرة تحجب نظرتك عني.. كنت تبكين أمامي لأول مرة، أنت التي ضحكت معي في ذلك المكان نفسه كثيراً.

ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل على الحقيقة الموجعة، على شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤجّله في الوقت نفسه؟

نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أودُّ لحظتها، لو احتضنتك بذراعي الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما لم أحضن حلماً. ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر سرّي من الحنين والشوق.. وكثير من الغيوم التي لم تمطر.

استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:

- تعالي سأريك شيئاً.

تبعتني دون سؤال.

وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:

- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.

قلت متعجبة:

- وهل كنت مصيباً في حدسك؟

قلت:

- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟

أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..

- لا..

قلت:

_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!

قلت مدهوشة:

- عجيب.. عجيب كل هذا!

نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:

- أليست هذه قنطرة الحبال؟

أجبتك:

- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.

- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..

- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.

- فكرت قليلاً ثم قلت:

- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.

قلت:

- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!

لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..

لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.

قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:

- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟

فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.

كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!

وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.

قلت:

- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.

لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.

نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.

هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟

كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.

اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.

وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.

حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..

وكنت أحكم على نفسي بالجنون.

قضينا معاً وقتاً أطول ذلك اليوم.. وافترقنا مثقلين بالهزّات النفسية، مشحونين بالانفعالات المتطرّفة، التي عشناها خلال أربع ساعات من الحديث المستمرّ. قلنا الكثير، وسط دموعنا المكابرة أحياناً، ووسط صمتنا المخيف أحياناً أخرى.

كنت سعيداً ربما لأنني رأيتك تبكين لأول مرة. كنت أحتقر الناس الذين لا دموع لهم، فهم إما جبابرة.. أو منافقون. وفي الحالتين هم لا يستحقون الاحترام.

كنت المرأة التي كنت أريد أن أضحك وأبكي معها.

وكان هذا أروع ما اكتشفته ذلك اليوم.

تذكّرت لقاءنا الأول، الذي بدأناه دون تخطيط بالتعليقات الساخرة. يومها تذكّرت مثلاً فرنسياً يقوم: "أقصر طريق لأن تربح امرأة هو أن تضحكها"، وقلت ها أنذا ربحتها دون جهد..

اليوم اكتشفت حماقة ذلك المثل الذي يشجّع على الربح السريع، وعلى المغامرات العابرة التي لا يهمّ أن تبكي بعدها المرأة التي قد ضحكت في البداية.

لم أربحك بعد نوبة ضحك..

ربحتك يوم بكيت أمامي وأنت تستمعين إلى قصّتك التي كانت قصّتي أيضاً. ثمَّ في تلك اللحظة التي تأملت فيها تلك اللوحة بتأثر واضح. وكنت ربّما على وشك أن تضعي قبلة على خدّي، أو تحضنيني في لحظة حنان مفاجئ.. ولكنَّك لم تفعلي.

وافترقنا مثل العادة، ونحن نتصافح، وكأننا نخاف أن تتحول تلك القبلة العابرة على الخدّ، إلى فتيلة تشعل البراكين النائمة.

كنّا نفهم بعضنا بصمت متواطئ. كان حضورك يوقظ رجولتي. كان عطرك يستفزّني ويستدرجني إلى الجنون. وعيناك كانت تجرّدانني من سلاحي حتى عندما تمطران حزناً.

وصوتك.. آه صوتك كم كنت أحبه.. من أين جئت به؟ أيّ لغة كانت لغتك؟ أيّ موسيقى كانت موسيقاك..

كنت دهشتي الدائمة، وهزيمتي المؤكدة، فهل كان يمكن أن تكوني ابنتي، أنت التي لم يكن يمكن في المنطق أن تكوني شيئاً آخر غير ذاك بالنسبة لي.

ورحت أقاومك بحواجز وهمية أضعها بيننا كلّ مرة، كما توضع حواجز في ساحة سباق، ولكنك كنت فرساً خلقت للتحدي وربح الرهان. كنت تقفزين عليها جميعاً مرة واحدة، بنظرة واحدة.

كانت نظراتك تتسكع فوقي، تتوقف أحياناً هنا.. وأحياناً هناك، لتنتهي عند عينيّ أو زرّ قميصي المفتوح كالعادة.

قلت مرة وأنت تتأملينني أكثر:

- فيك شيء من زوربا. شيء من قامته.. من سمرته.. وشعره الفوضوي المنسّق. ربما كنت فقط أكثر وسامة منه.

أجبتك:

- يمكن أن تضيفي كذلك، أنني في سنه، وفي جنونه وتطرفه، وأنّ في أعماقي شيئاً من وحدته.. من حزنه ومن انتصاراته التي تتحول دائماً إلى هزائم.

قلت متعجبة:

- أتعرف عنه كل ها... أتحبه؟

أجبت:

- ربما..

قلت:

- أتدري أنه الرجل الذي أثّر أكثر في حياتي؟

أدهشني اعترافك. فكَّرت إما أنك لم تعرفي كثيراً من الرجال.. أو لم تقرئي كثيراً من الكتب. وقبل أن أقول شيئاً واصلت بحماسة:

- يعجبني جنونه وتصرّفاته غير المتوقعة.. علاقته العجيبة بتلك المرأة.. فلسفته في الحب والزواج.. في الحرب والعبادة، وتعجبني أكثر طريقته في أن يصل بأحاسيسه إلى ضدّها. أتذكّر قصة الكرز، يوم كان يحبّ الكرز كثيراً وقرر أن يُشفى من ولعه به بأن يأكل منه كثيراً.. كيراً حتى يتقيّأه. بعد ذلك أصبح يعامله كفاكهة عادية. كانت تلك طريقته في أن يشفى من الأشياء التي يشعر أنها تستعبده.

قلت:

- لا أذكر هذه القصة..

قلت:

- وهل تذكر رقصته تلك وسط ما يسميه بالخراب الجميل؟ إنه شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حدّ الرقص. إنه تميّز في الهزائم أيضاً، فليست كلّ الهزائم في متناول الجميع. فلا بد أن تكون لك أحلام فوق العادة، وأفراح وطموحات فوق العادة، لتصل بعواطفك تلك إلى ضدّها بهذه الطريقة..

كنت أستمع إليك بانبهار وبمتعة. وبدل أن أجد في ذلك "الخراب الجميل" الذي كنت تصفينه لي بحماسة، ما يمكن أن يثير مخاوفي من نزعة سادية، أو مازوشية ما قد تسكنك، رحت أنقاد لجمال فكرتك فقط، وأقول دون كثير من التفكير:

- صحيح.. جميل ما تقولين. _ ثم أضفت_ لم أكن أدري أنك تحبين زوربا إلى هذا الحد!

قلت ضاحكة:

- سأعترف لك بشيء.. لقد أربكتني هذه القصة كثيراً. يوم قرأتها شعرت بشيء من الغبطة والحزن معاً. كنت أريد أن أحبّ رجلاً كهذا.. أو أكتب رواية كهذه، ولم يكن ذلك ممكناً، ولهذا ستطاردني هذه القصة حتى أشفى منها بطريقة أو بأخرى.

قلت ساخراً:

- يسعدني إذن أن تجدي شيئاً من الشبه بيني وبينه، فقد تحققين الأمنيتين معاً..

تأملتني بشيء من الشيطة المحبّبة وقلت:

- معك أريد أن أحقق إحدى الأمنيتين فقط.

وأضفت قبل أن أسألك أيّهما:

- لن أكتب عنك شيئاً.

- آ.. لماذا..؟

- لأني لا أريد قتلك، أنا سعيدة بك.. نحن نكتب الروايات لنقتل الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً علينا.. نحن نكتب لننتهي منهم..

يومها ناقشتك طويلاً في نظرتك "الإجرامية" للأدب وقلت لك ونحن نفترق:

- أيمكنني أخيراً أن أطّلع على روايتكم الأولى.. أو "جريمتك الأولى"؟!

ضحكت وأجبت:

- طبعاً.. شرط ألا تتحول إلى محقِّق جنائي أو طرفٍ في تلك القصّة!

- تراك كنت تتنبئين بما ينتظرني، وتدرين مسبقاً أنني لن أكون معك قاراً محايداً بعد الآن.

في اليوم التالي أحضرت لي تلك الرواية. قلت وأنت تمدّين نحوي الكتاب:

- أتمنى أن تجد شيئاً من المتعة في قراءتها..

قلت مازحاً:

- وأتمنى ألا يفسد عدد ضحاياك متعتي!

أجبت باللهجة نفسها:

- لا.. اطمئن.. فأنا أكره المقابر الجماعية!

كيف نسيت هذه الجملة الأخيرة..

عندما أتذكرها الآن، أقتنع أن قصّتك الجديدة هذه، التي تروج لها المجلات والجرائد، لن تكون سوى ضريح فردي لبطل واحد ربَّما كان زياد.. وربما كان أنا.. فمن ترى المحظوظ منَّا بميتة كهذه؟!

وحده كتابك قد يحمل جواباً على هذا السؤال، وعلى أسئلة أخرى تطاردني.

ولكن.. لماذا يثير كلّ ما تكتبيه لديّ أكثر من سؤال؟ ولماذا أشعر أنني طرف في كل قصصك الواقعية والوهمية، حتى تلك التي كتبتها قبلي؟

ترى لأنني أتوهم أن لي حقاً تاريخياً عليك، أو لأنك يوم أهديتني كتابك الأول ذاك، لم تضعي عليه أيّ إهداء، وقلت ذلك التعليق المدهش الذي لم أنسه:

"إننا نخطّ إهداءً للغرباء فقط.. وأمّا الذين نحبهم فمكانهم ليس في الصفحة البيضاء الأولى، وإنما في صفحات الكتاب..".

يومها أسرعت إلى ذلك الكتاب ألتهمه في سهرتين. رحت أركض لاهثاً من صفحة إلى أخرى، وكأنني أبحث عن شيء ما غير الذي أقرأه. عن شيء قد تكونين كتبته لي مسبقاً مثلاً حتى قبل أن نلتقي. عن شيء ما قد يكون يربطنا من خلال قصة لم تكن قصتنا.

أدري أنَّ ذلك كان جنوناً، ولكن أليس في الحياة مصادفات مدهشة كتلك اللوحة التي رسمتها ذات أيلول من سنة 1957، وبقيت تنتظرك ربع قرن دون أن أنها كانت لك.. بل إنها كانت أنتِ؟

وكان ذلك محض أوهام.. لم تخبّئي لي في كتابك ذاك، سوى مرارة وألم وغيرة حمقاء، ذقت نارها لأول مرّة. غيرة جنونية من رجل من ورق، قد يكون مرّ بحياتك حقاً.. وقد يكون مخلوقاً خيالياً، أثَّثت به فراغ أيامك وبياض الصفحات فقط.

ولكن أين هو الحد الفاصل بين الوهم والواقع؟ لم تجيبيني مرة واحدة عن ذلك السؤال.. رحتِ تعمّقين حيرتي بأجوبة أكثر غموضاً.. قلت:

- إنّ المهمّ في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه لا غير، فوحدها الكتابة هي الأدب.. وهي التي ستبقى، وأمّا الذين كتبنا عنهم فهم حادثة سير.. أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسببٍ أو لآخر.. ثم واصلنا الطريق معهم أو بدونهم.

قلت:

- ولكن لا يمكن أن تكون علاقة الكاتب بملهمه مبسّطة إلى هذا الحد. إن الكاتب لا شيء دون من يلهمه.. إنه مدين له بشيء..

قاطعتني..

- مدين له بماذا..؟.. إن ما كتبه "أراغون" عن عيون "إلزا" هو أجمل من عيون "إلزا" التي ستشيخ وتذبل.. وما كتبه نزار قباني عن ضفائر "بلقيس" أجمل بالتأكيد من شعر غزير كان محكوماً عليه أن يبيضّ ويتساقط.. وما رسمه ليونارد ديفانشي في ابتسامة واحدة للجوكاندا، أخذ قيمته ليس في ابتسامة ساذجة للمونوليزا، وإنما في قدرة ذلك الفنان المذهلة على نقل أحاسيس متناقضة، وابتسامة غامضة تجمع بين الحزن والفرح في آن واحد.. فمن هو المدين للآخر بالمجد إذن؟

كان حديثنا يأخذ منحى آخر ربما أردته أنت في محاولة للهرب من الحقيقة. فأعدت عليك السؤال بصيغة أكثر مباشرة:

- هل مرّ هذا الرجل بحياتك.. أم لا؟

ضحكت.. وقلت:

- عجيب.. إن في روايات "أغاتا كريستي" أكثر من 60 جريمة. وفي روايات كاتبات أخريات أكثر من هذا العدد من القتلى. ولم يرفع أيّ مرة قارئ صوته ليحاكمهن على كل تلك الجرائم، أو يطالب بسجنهنَّ. ويكفي كاتبةً أن تكتب قصة حب واحدة، لتتجه كل أصابع الاتهام نحوها، وليجد أكثر من محقق جنائي أكثر من دليل على أنها قصتها. أعتقد أنه لا بد للنقاد من أن يحسموا يوماً هذه القضية نهائياً، فإما أن يعترفوا أن للمرأة خيالاً يفوق خيال الرجال، وإما أن يحاكمونا جميعاً!

ضحكت لحجتك التي أدهشتني ولم تقنعني. قلت:

- في انتظار أن يحسم النقاد هذه القضية، دعيني أكرر عليك سؤالاً لم تجيبيني عنه.. هل مرّ هذا الرجل بحياتك حقاً؟

قلت وأنت تعبثين بأعصابي:

- المهم أنه مات بعد هذا الكتاب..

- آ.. لأنك قادرة على أن تقتلي الماضي هكذا بجرة قلم؟

قلت وأنت تواصلين مراوغتك:

- أيّ ماضٍ؟.. نحن قد نكتب أيضاً لنصنع أضرحة لأحلامنا لا غير..

كان في أعماقي شعور ما بأن تلك القصة كانت قصتك، وأن ذلك الرجل قد مرّ بحياتك.. وربما بجسدك أيضاً.

كنت أكاد أشمّ بين السطور رائحة تبغه. أكاد أكتشف أشياءه مبعثرة بين صفحات كتابك. في كلّ فقرة شيء منه.. من سمرته.. من مذاق قبلته.. من ضحكته.. من أنفاسه.. ومن اشتهائك الفاضح له..

تراه أبدع في حبّك حقاً.. أم أنت التي أبدعت في وصفه؟ أم تراه محض اختراع نسائي، كسته لغتك رجولة وأحلاماً، صنعت لها بعد ذلك ضريحاً جميلاً.. على مقاسه. وأنا، بأيّ منطق رحت أطالع ذلك الكتاب، في زيّ عاشق متنكر ببدلة شرطي أخلاق. وإذا بي أنقّب بين الكلمات وأبحث بين الفواصل، عساني أكتشفك متلبسة بقبلة ما.. هنا، أو أكتشف الأحرف الأولى من اسمه هناك.

ذهب تفكيري بعيداً.. تذكّرت أنك في باريس من أربع سنوات، وأنك تقطنين عند عمك منذ عُيّن في باريس، أي منذ سنتين فقط. فماذا تراك فعلت قبل ذلك في كلّ الفترة التي كنت فيها بمفردك؟

أرهقني كتابك ذاك، كان ممتعاً ومتعباً مثلك.. اعترفت لك في ما بعد، أن علاقتي بك قد تغيّرت منذ قرأتك وأنني أشكّ في أن أكون قادراً على الصمود بعد اليوم.. فأنا لم أكن مهيأً لسلاح الكلمات.

قلتِ فقط وكأنَّ الأمر لا يعنيك تماماً:

- كان عليك ألا تقرأني إذن!

أجبتك بحماقة:

- ولكنني أحب أن أقرأك. ثم أنا لا أملك طريقة أخرى لفهمك..

أجبت:

- مخطئ.. أنت لن تفهم شيئاً هكذا.. الكاتب إنسان يعيش على حافة الحقيقة، ولكنه لا يحترفها بالضرورة. ذلك اختصاص المؤرّخين لا غير.. إنه في الحقيقة يحترف الحلم.. أي يحترف نوعاً من الكذب المهذّب. والروائي الناجح هو رجل يكذب بصدق مدهش، أو هو كاذب يقول أشياء حقيقيّة.

ثمّ أضفتِ بعد شيء من التفكير.. أعذب الكذب كان كذبك، وأكثره ألماً كذلك. قررت يومها ألا أنقّب بعد ذلك في ذاكرتك. أنت لن تبوحي لي بشيء. ربما لأنك أنثى تحترف المراوغة. وربما لأنه ليس هناك من شي يستحقّ الاعتراف.

كنت تريدين فقط أن توهميني أنك لم تعودي تلك الطفلة التي عرفتها. في الواقع.. كنت فارغة، وكان كذبك في مساحة فراغك. وإلا ما سرّ تعلّقك بي، ولماذا كنت تطاردين ذاكرتي بالأسئلة، وتسدرجينها للحديث عن كلّ شيء؟ لماذا كلّ تلك الشراهة للمعرفة، كلّ تلك الرغبة في مقاسمتي ذاكرتي وكلّ ما أحببت وما كرهت من أشياء.. أكانت الذاكرة عقدتك؟

***

لا بد لمعرضي أن ينتهي، لننتبه أننا نعرف بعضنا من أسبوعين فقط، وليس منذ أشهر كما كان يبدو لنا. فكيف فرغنا من ذاكرتنا في بضعة أيام؟ كيف تعلَّمنا في بضع ساعات قضيناها معاً، أن نحزن ونفرح ونحلم بتوقيت واحد؟

كيف أصبحنا نسخة من بعضنا.. وكيف يمكن لنا أن نغادر هذا المكان، الذي أصبح جزءاً من ذاكرتنا؟ كيف..؟ وهو الذي وضعنا لعدة أيام، خارج حدود الزمان والمكان، في قاعة شاسعة، يسكنها الصمت ويؤثثها الفن، وربع قرن من المعاناة والجنون؟

كنّا لوجة وسط عدة لوحات أخرى.

كنا لوحة متقلّبة الأطوار، متعدّدة الألوان، رسمتها المصادفة يوماً ثم واصلت رسمها يد الأقدار. وكنت أتلذذ بوضعي الجديد ذاك وأنا أتحول من صاحب ذلك المعرض، إلى لوحة من لوحاته لا أكثر.

لم يحدث، مثل تلك المرة، أن شعرت بحزن وأنا أرفع تلك اللوحات المعلّقة على الجدران، لوحة بعد أخرى، وأجمعها في الصناديق لأترك القاعة فارغة لرسَّام آخر، سيأتي بلوحاته.. بحزنه وبفرحه وبقصص أخرى لا تشبه قصّتي.

كنت أشعر أنني أجمع أيامي معك.

فجأة، توقفت يدي وهي على وشك أن ترفع تلك اللوحة التي تركتها للآخر.

تأملتها مرة أخرى، شعرت أنها ناقصة. لم يكن على مساحتها سوى جسر يعبرها من طرف إلى آخر، معلّق نحو الأعلى بحبال من طرفيه كأرجوحة حزن.

وتحت الأرجوحة الحديدية هوّة صخرية ضاربة في العمق تعلن تناقضها الصارخ مع المزاج الصافي لسماء استفزازية الهدوء والزرقة.

لم أشعر، قبل تلك اللحظة، أن هذه اللوحة في حاجة إلى تفاصيل جديدة تكسر هذا التضاد، وتؤثث عري اللونين اللذين ينفردان بها.

في الواقع، لم تكن "حنين" لوحة، كانت رؤوس أقلام ومشاريع أحلام تجاوزتها الأحداث بخمس عشرة سنة من الحنين والدهشة وليس فقط بربع قرن من الزمن.

حملتها تحت إبطي، وكأنني أميّزها عن الأخريات. كنت فجأة على عجل. أريد أن أجلس أمامها بعد كل تلك السنوات، محملاً بفرشاة وألوان أخرى، لأنفخ الحياة والضجيج فيها، وأنقل إليها أخيراً حجارة "قنطرة الحبال" حجراً.. حجراً. ولكن كان في ذهني المبعثر لحظتها هاجس آخر يطغى على كلّ شيء: كيف يمكن أن نلتقي بعد الآن... وأين؟

انتهت عطلتك الجامعية مع نهاية معرضي تقريباً. وها نحن محاصران بكل مستحيلات الزمان والمكان. ملاحقان بكل العيون التي قد تسرق سرنا. بكل أولئك الذين لا نعرفهم.. ويعرفوننا. أيّ جنون.. وأيّ قدر كان قدري معك! ولماذا وحدي تفضحني عاهتي؟ ولماذا كل هذا الحذر.. ولماذا أنت بالذات؟ كان مجرد احتمال لقائي بسي الشريف ذات يوم وأنا بصحبتك، يجعلني أعدل عن هذه الفكرة، وأشعر فجأة بحرج الموقف، وبذلك الارتباك الذي سيفضحني لا محالة.

اتفقنا على أن تطلبيني هاتفياً، وأن نتفق على برنامج جديد.

كان ذلك هو الحل الوحيد. فلم يكن ممكناً أ، أزورك في حيّك الجامعي. فقد كانت ابنة عمك تتابع دراستها معك في الجامعة نفسها.

أكان يمكن لنا أن نجد ظروفاً أكثر تعقيداً من هذه؟.

أطول نهاية أسبوع على الإطلاق، كانت تلك التي قضيتها في انتظار هاتفك صباح الاثنين.

يوم الأحد دقّ الهاتف.

أسرعت إليه وأنا أراهن أنّك أنت. فربما نجحت في سرقة لحظات تحدّثينني فيها.. ولو قليلاً. كانت كاترين على الخطّ. أخفيت عنها خيبتي. ورحت أستمع لها وهي تثرثر حول مشاغلها اليومية، ومشروع سفرها القادم إلى لندن.. ثم سألتني عن أخبار المعرض وقالت وهي تنتقل من موضوع إلى آخر:

- لقد قرأت مقالاً جيداً عن معرضك في مجلة أسبوعية.. من المؤكد أنك اطلعت عليه.. إنه بقلم روجيه نقَّاش، يبدو أنه يعرفك.. أو يعرف لوحاتك جيداً.

لم أكن أشعر برغبة في الحديث.. قلت لها باقتضاب:

- نعم، إنه صديق قديم..

تخلّصت منها بلباقة.

لم أكن أشعر بأية رغبة في لقائها ذلك اليوم. ربما كانت حاجتي للرسم يومها، تفوق حاجاتي الجسدية الأخرى.. وربما كنت فقط ممتلئاً بكِ.

عدت إلى مرسمي مثقل الخطى.

كنت شرعت في إعداد تشكيلة من الألوان، لأبدأ في وضع لمسات على تلك اللوحة.

ولكنني ارتبكت. تحولت أمامها إلى ذلك الرسام المبتدئ الذي كنته منذ خمس وعشرين سنة.

ترى قرابتها الجديدة لك، هي التي أضفت عليها هذه الصبغة المربكة؟

أم تراني كنت مرتبكاً لأنني كنت أجلس أمام الماضي لا غير.. لأضفي على الذاكرة_ وليس على لوحة_ بعض "الرتوشات"؟

كنت أشعر أنني على وشك أن أرتكب حماقة. وأدري_رغم رغبتي المضادة للمنطق_ أنه لا ينبغي أبداً العبث بالماضي، وأن أية محاولة لتجميله، ليست سوى محاولة لتشويهه.

كنت أدرك هذا.. ولكن هذه اللوحة أصبحت تضايقني فجأة هكذا.. كان كلّ شيء فيها مبسّطاً حدّ السذاجة، فلماذا لا أواصل رسمها اليوم، ولماذا لا أعاملها بمنطق فنّي لا أكثر؟

ألم يقضِ ( شاغال) خمس عشرة سنة في رسم إحدى لوحاته؟ كان يعود إليها دائماً بين لوحة وأخرى ليضيف شيئاً أو وجهاً جديداً عليها، بعدما أصرَّ على أن يجمع فيها كلّ الوجوه والأشياء التي أحبها منذ طفولته؟

أليس من حقي أيضاً أن أعود إلى هذه اللوحة، أن أضع على هذا الجسر بعض خطى العابرين، وأرشّ على جانبيه بعض البيوت المعلّقة فوق الصخور، وأسفله شيئاً من ذلك النهر الذي يشق المدينة، بخيلاً أحياناً، ورقراقاً زبديّاً أحياناً أخرى.. ألم يعد ضرورياً أن أضع عليها بصمات ذاكرتي الأولى، التي كنت عاجزاً عن نقلها في السابق، يوم كنت رساماً مبتدئاً وهاوياً لا غير؟

لا أدري كيف تذكّرت لحظتها روجيه نقّاش، صديق طفولتي.. وصديق غربتي.

ذكرت ولعه بقسنطينة، وتعلقه بذكراها، هو الذي لم يعد إليها أبداً منذ غادرها سنة 1959 مع أهله، ومع فوج من الجالية اليهودية التي كانت تريد أن تبني لها مستقبلاً آمناً في بلد آخر.

لك يحدث أن زرته مرة في بيته، دون أن يصرّ على أن يسمعني شريطاً جديداً للمطربة اليهودية "سيمون تمّار" وهي تغني المالوف والموشَّحات القسنطينية بأداء وبصوت مدهش، مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر، الذي أهدوها إياه في أول عودة لها هناك.. والذي يزيّن غلاف شريطها.

منذ بضعة أشهر أخبرني روجيه أن سيمن ماتت مقتولة على يد زوجها في إحدى نوبات غيرته، فقد كان يتهمها بحبّ رجل عربي.

سألته إن كان ذلك حقاً.. أجابني.. "لا أدري.." ثم أضاف بمرارة ما.. " أدري أنها كانت تحب قسنطينة".

وروجيه أيضاً كان يحبها.. وكان حلمه السري أن يعود إليها ولو مرة واحدة، أو يأتيه أحد على الأقل بثمرة واحدة من شجرة التين التي كانت تطال نافذة غرفته والتي كانت في حديقة بيته منذ أجيال..

وكنت أشعر بمزيج من السعادة والإحراج معاً وأنا أستمع إليه، يقصّ عليّ بلهجته القسنطينية المحببة التي لم يطمس ربع قرن من البعد أيّ نبرة فيها، شوقه إلى تلك المدينة.. لقاتلة!

وكان يزيد إحراجي كل ما قام به روجيه لمساعدتي منذ سنوات، عندما وصلت إلى باريس لأستقر فيها. فقد كان له من الصداقات والوساطات، ما يمكن أن يسهّل عليّ_دون أن أطلب منه_ كثيراً من المعاملات والمشكلات التي تواجه رجلاً في وضعي.

ذات مرة سألته "لماذا لم تعد ولو مرة واحدة لزيارة قسنطينة؟ أنا لا أفهم خوفك، إن الناس مازالوا يعرفون أهلك في ذلك الحيّ ويذكرونها بالخير.." أذكر وقتها أنه قال لي "ما يخيفني ليس ألا يعرفني الناس هناك، بل ألا أعرف أنا تلك المدينة.. وتلك الأزقّة.. وذلك البيت الذي لم يعد بيتي منذ عشرات السنين..".

ثم أضاف: "دعني أتوهم أن تلك الشجرة مازالت هناك.. وأنها تعطي تيناً كل سنة، وأن ذلك الشباك مازال يطلّ على ناس كنت أحبهم.. وذلك الزقاق الضيق مازال يؤدي إلى أماكن كنت أعرفها.. أتدري.. إن أصعب شيء على الإطلاق هو مواجهة الذاكرة بواقع مناقض لها.."

كان في عينيه يومها لمعة دموع مكابرة، فأضاف بشيء من المزاح "لو حدث وغيرت رأيي، سأعود إلى تلك المدينة معك، أخاف أن أواجه ذاكرتي وحدي..".

اليوم، وبعد عدة سنوات، أذكر كلامه فجأة_ هو الذي لم يطرح معي ذلك الموضوع بعد ذلك أبداً_

تراه نجح حقاً في التحايل على ذاكرته؟

وماذا لو كان على حق؟ يجب أن نحتفظ بذكرياتنا في قالبها الأول وصورتها الأولى ولا نبحث لها عن مواجهة اصطدامية مع الواقع يتحطم بعدها كل شيء داخلنا كواجهة زجاجية.. المهم في هذه الحالات إنقاذ الذاكرة.

أقنعني ذلك المنطق، وشعرت أن هاتف كاترين أنقذني بطريقة غير مباشرة من حماقة كنت على وشك ارتكابها.

لن يكون لتلك اللوحة أية قيمة تأريخية بعد اليوم، إذا أضفت إليها شيئاً هنا، أو طمست فيها شيئاً هناك.. ستصبح لوحة لقيطة لذاكرة مزوّرة.. وهل يهم عندئذٍ أن نكون أجمل؟

نظرت إلى خشبة الألوان التي كانت بيدي. فكّرت أنه رغم ذلك لا بد أن أفعل شيئاً بهذه الألوان.. وبهذه الفرشاة العصبية التي كانت تترقّب مثلي لحظة الخلق الحاسمة.

وفجأة وجدت الحلّ في فكرة بسيطة ومنطقيّة لم تخطر ببالي.

رفعت تلك اللوحة عن خشبات الرسم، ووضعت أمامها لوحة بيضاء جديدة، ورحت أرسم دون تفكير، قنطرة أخرى، بسماء أخرى، بوادٍ آخر وبيوت وعابرين.

رحت هذه المرة، أتوقف عند كل التفاصيل وأكاد أبدأ بها، وكأن أمر الجسر لم يعد يعنيني في النهاية، بقدر ما تعنيني الحجارة والصخور التي يقف عليها. وتلك النباتات التي تبعثرت أسفله، مستفيدة من رطوبة (أو عفونة) الأعماق. وتلك الممرات السرية التي حفرتها خطى الإنسان وسط المسالك الصخرية. منذ أيام (ماسينيسا) وحتى اليوم، في غفلة من الجسر العجوز الذي لا يمكن له في شموخه الشاهق، أن يرى ما يحدث على علو 700 متر من أقدامه!

أليس التحايل على الجسور هو الهدف الأزلي الأول للإنسان الذي يولد بين المنحدرات.. والقمم؟

أدهشتني هذه الفكرة التي ولدت في ذهني مصادفة؛ وأدهشني أكثر، كون هذه التفاصيل التي تشغلني اليوم بإلحاح، لم تكن تلفت انتباهي منذ ربع قرن، يوم رسمت هذا الجسر نفسه لأول مرة.

ترى لأنني كنت في بدايتي الأولى، محكوماً بالخطوط العريضة للأشياء كأيّ مبتدئ، وأن طموحي آنذاك، لم يكن يتجاوز رغبتي في إدهاش ذلك الدكتور_ أو إدهاش نفسي_ ورفع أثقال التحدي بيدٍ واحدة؟

وإنني اليوم بعد ذلك العمر.. لم يعد يعنيني أن أثبت شيئاً لأحد. أريد فقط أن أعيش أحلامي السرية، وأن أنفق ما بقي لي من وقت في طرح أسئلة.. كان الجواب عليها في الماضي ترفاً.. ليس في متناول الشباب. ولا في متناول.. ذلك المناضل أو المجاهد المعطوب الذي كُنتُه..

ربما لأن الوقت آنذاك لم يكن للتفاصيل، بل كانت وقتاً جماعياً نعيشه بالجملة، وننفقه بالجملة.

كان وقتاً للقضايا الكبرى.. والشعارات الكبرى.. والتضحيات الكبرى. ولم يكن لأحد الرغبة في مناقشة الهوامش أو الوقوف عند التفاصيل الصغيرة.

تراها حماقة الشباب.. أم حماقة الثورات!

أخذت مني تلك اللوحة، كل أمسية الأحد، وقسماً كبيراً من الليل. ولكنني كنت سعيداً وأنا أرسم، وكأنني كنت أسمع صوت الدكتور "كابوتسكي" يعود ليقول لي بعد ذلك العمر "ارسم أحبّ شيء إلى نفسك".

وها أنا أطيعه وأرسم اللوحة نفسيها، بالارتباك نفسه.

ولكن ما رسمته هذه المرة، لم يكن تمريناً في الرسم. كان تمريناً في الحبّ.

كنت أشعر أنني أرسمك أنتِ لا غير. أنت بكل تناقضك. أرسم نسخة أخرى عنك أكثر نضجاً.. أكثر تعاريج. نسخة أخرى من لوحة كبرت معك.

كنت أرسم تلك اللوحة بشهية مدهشة للرسم. بل وربَّما بشهوة ورغبة سرية ما..

فهل بدأت شهوتك تتسلّل يومها إلى فرشاتي، دون أن أدري؟!



***

في اليوم التالي، جاءني صوتك في الساعة التاسعة تماماً.

جاء شلال فرح، وشجرة ياسمين تساقطت أزهارها على وسادتي.

كنت أكتشف صوتك على الهاتف، وأنا في فراشي بعد ليلة مرهقة من العمل. شعرت أنه يشرع نوافذ غرفتي، ويقبّلني قبلة صباحية.

- هل أيقظتك.؟

- لا أنت لم توقظيني.. أنت منعتني البارحة من النوم لا أكثر!

قلتِ بلهجة جزائرية بين المزاح والجدّ:

- علاش.. إن شاء الله خير..

قلت:

- لأنني رسمت حتى ساعة متأخرة من الليل..

- وما ذنبي أنا؟

- لا ذنب لك سوى ذنب الملهم.. يا ملهمتي!

صحت فجأة بالفرنسية كعادتك عندما تفقدين السيطرة على أعصابك:

- ah.. non!

ثم أضفتِ:

- أتمنى أنك لم ترسمني.. يا لها من كارثة معك!

- وأين هي الكارثة إن كنت قد رسمتك؟

واصلت بصوت عصبي:

- أأنت مجنون؟ تريد أن تحولني إلى لوحة تدور بها القاعات من مدينة إلى أخرى، يتفرّج عليها كل من يعرفني؟!

كنت أشعر برغبة صباحية في مشاكستك، ربما من فرط سعادتي، وربما لأنني مجنون حقاً، ولا أعرف كيف أكون سعيداً مثل الآخرين.

قلت لك:

- أما قلتِ مرّة.. إن الناس الذين بلهموننا هم أناس توقفنا أمامهم ذات يوم لسبب أو لآخر، وأنهم ليسوا سوى حادثة سير. فإن أكون رسمتك لا يعني شياً، سوى أنني صادفتك يوماً في طريقي لا غير!

صحت:

- أأنتَ أحمق؟. تريد أن تقنع عمي وتقنع الآخرين أنك رسمتني بعدما صادفتني مرة على رصيف، واقفة مثلاً أمام ضوء أحمر.. إننا لا نرسم سوى ما يثيرنا.. أو ما نحبه.. هذا معروف!

تراك كنت تستدرجينني إلى ذلك الاعتراف، وتدورين حوله، أم كنت من الحماقة لتصدّقي زعمي بأنني لا أدري ذلك. لكنني وجدت في تلك الفرصة الصباحية، وفي ذلك الخيط الهاتفي الذي كان يفصلني ويقرّبني منك في آن واحد.. مناسبة لمصارحتك.

قلت:

- لنفترض إذن أنني أحبّك.!

كنت أنتظر وقع الكلمات عليك، وأتوقع عدة أجوبة لكلامي. ولكنك قلت بعد لحظة صمت:

- ولنفترض إذن.. أنني لم أسمع!

أدهشتني..

لم أفهم تماماً إذا كنت تجيدين ذلك "التصريح" أقل أو أكثر مما توقعت، أم أنك كعادتك تتلاعبين بالكلمات بمتعة مدهشة، وأنت تدرين أنك تلعبين بأعصابي لا غير، وتقذفينني من سؤال.. إلى تساؤل آخر.

- أين نلتقي؟

كان هذا هو السؤال الأهم الذي قررنا أن نجيب عليه بجدية.

تناقشنا طويلاً في عنوان مكان آمن يمكن أن نشرب فيه قهوة، أو نتناول فيه وجبة الغداء معاً.

ولكن باريس ضاقت بنا.

كنت لا تعرفين غير الأماكن التي يرتادها الطلبة. وكنت لا أرتاد غير المقاهي القريبة من حييّ. قررنا أن نلتقي في أحد المقاهي المجاورة لبيتي والتي تقدم وجبات غداء.

وكنت أقترف إحدى حماقاتي الكبرى.

لم أكن أعرف وقتها أنني أختار عنواناً لذاكرتي مجاوراً تماماً لعنوان بيتي، وأنني بذلك سأمنح الذكريات حق مطاردتي.

لم أعد أذكر الآن، كيف أصبح ذلك المقهى العنوان الدائم لجنوننا. وكيف أصبح تدريجياً يشبهنا، بعدما تعوّد أن يختار لنا زاوية جديدة كلّ مرة، تتلاءم مع مزاجنا المتقلّب، خلال شهرين من السعادة المسروقة..

كنا نلتقي هناك في أوقات مختلفة من النهار، وحسب ساعات دراستك وبرنامج أعمالي.

تعودت أن تطلبيني هاتفياً كل صباح في الساعة التاسعة، وأنت في طريقك إلى الجامعة. ونتّفق كل صباح على برنامج لك اليوم الذي لم بعد لنا فيه في النهاية من برنامج سوانا.

كنت أتدحرج يوماً بعد آخر نحو هاوية حبّك، أصطدم بالحجارة والصخور، وكل ما في طرقي من مستحيلات. ولكنني كنت أحبك. ولا أنتبه إلى آثار الجراح على قدمي، ولا إلى آثار الخدوش على ضميري الذي كان قبلك إناء بلّور لا يقبل الخدش. وكنت أواصل نزولي معك بسرعة مذهلة نحو أبعد نقطة في العشق الجنوني.

وكنت أشعر أنني غير مذنب في حبّك. على الأقل حتى تلك الفترة التي كنت مكتفياً فيها بحبك، بعدما أقنعت نفسي أنني لا أسيء إلى أحد بهذا الحب.

وقتها لم أكن أجرؤ على أن أحلم بأكثر من هذا. كانت تكفيني تلك العاطفة الجارفة التي تعبرني لأول مرة، بسعادتها المتطرفة أحياناً, وحزناه المتطرف أحياناً أخرى..

كان يكفيني الحب.

متى بدأ جنوني بك؟

يحدث أن أبحث عن ذلك التاريخ وأتساءل.. ترى أفي ذلك اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة؟ أم في ذلك اليوم الذي انفردت بك فيه لأول مرّة؟ أم في ذلك اليوم الذي قرأتك فيه لأول مرة؟.

أم ترى يوم وقفت فيه بعد عمر من الغربة، لأرسم فيه قسنطينة.. كأول مرة!

ترى يوم ضحكتِ أم يوم بكيت.

أعندما تحدَّثتِ.. أم عندما صمتِّ.

أعندما أصبحتِ ابنتي.. أم لحظة توهَّمت أنك أمي؟!

أيّ امرأة فيك هي التي أوقعتني؟.

كنت معك في دهشة دائمة. فقد كنت شبيهة بتلك الدمية الروسية الخشبية التي تخفي داخلها دمية أخرى. وهذه تخفي دمية أصغر، وهكذا تكون سبع دمى داخل واحدة!

كنت كلّ مرة أفاجأ بامرأة أخرى داخلك. وإذا بكِ تأخذين في بضعة أيام ملامح كل النساء. وإذا بي محاط بأكثر من امرأة، يتناوبن عليّ في حضورك وفي غيابك، فأقع في حبّهن جميعاً.

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 28-03-09, 01:05 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Five

 




أكان يمكن لي إذن أن أحبّك بطريقة واحدة؟

لم تكوني امرأة.. كنت مدينة.

مدينة بنساء متناقضات. مختلفات في أعمارهنَّ وفي ملامحهن؛ في ثيابهنَّ وفي عطرهنَّ؛ في خجلهنَّ وفي جرأتهنَّ؛ نساء من قبل جيل أمي إلى أيامك أنتِ.

نساء كلهن أنتِ.

عرفت ذلك بعد فوات الأوان. بعدما ابتلعتني كما تبتلع المدن المغلقة أولادها.

كنت أشهد تحولك التدريجي إلى مدينة تسكنني منذ الأزل..

كنت أشهد تغيرك المفاجئ، وأنت تأخذين يوماً بعد يوم ملامح قسنطينة، تلبسين تضاريسها، تسكنين كهوفها وذاكرتها ومغاراتها السرية، تزورين أولياءها، تتعطرين ببخورها، ترتدين قندورة عنّابي من القطيفة، في لون ثياب "أمّا"، تمشين وتعودين على جسورها، فأكاد أسمع وقع خلخالك الذهبي يرنّ في كهوف الذاكرة.

أكاد ألمح آثار الحناء على كعب قدميك المهيأتين للأعياد.

وكنت أنا أستعيد لهجتي القديمة معك. كنت ألفظ التا "تساء" على الطريقة القسنطينية.

كنت أناديك مدلّلاً "يالا" كما لم يعد الرجال ينادون النساء في قسنطينة.

كنت أناديك بحنين "يا أميمة" بذلك النداء الذي ورثته قسنطينة دون غيرها، عن أهل قريش من عصور.

وكنت، كنت عندما يجرّدني عشقك من سلاحي الأخير، أعترف لك مهزوماً على طريقة عشاقنا "نِشتيك.. يعن بُو زَيْنِك!".

تلك الكلمة التي كان أصلها "أشتهيك" والتي اختصروها منذ زمان لتخفي معناها الأصلي، وتتحول إلى كلمة ودّ لا غير.

فقسنطينة مدينة منافقة، لا تعترف بالشهوة ولا تجيز الشوق؛ إنما تأخذ خلسة كل شيء، حرصاً على صيتها، كما تفعل المدن العريقة.

ولذا فهي تبارك مع أوليائها الصالحين.. الزانين أيضاً.. والسرّاق!

ولم أكن سارقاً، ولا كنت وليّاً، ولا شيخاً يدّعي البركات، لتباركني قسنطينة.

كنت فقط، رجلاً عاشقاً، أحبك بجنون رسّام؛ بتطرف وحماقة رسام، خلقك هكذا كما يخلق الجاهليون آلهتهم بيدهم، ثم يجلسون لعبادتها، وتقديم القرابين لها.

وربما كان هذا، أكثر ما كنت تحبّينه في حبّي!

ذات يوم قلت لي:

كنت أحلم أن يحبّني رسّام. قرأت عن الرسامين قصصاً مدهشة. إنهم الأكثر جنوناً بين كلّ المبدعين. إنّ جنونهم متطرف.. مفاجئ ومخيف. لا يشبه في شيء ما يُقال عن الشعراء مثلاً أو عن الموسيقيين. لقد قرأت حياة فان غوغ.. دولاكروا.. غوغان... دالي.. سيزان.. بيكاسو وآخرين كثيرين لم يبلغوا هذه الشهرة. أنا لا أتعب من قراءة سيرة الرسّامين.

في الواقع شهرتهم لا تعنيني بقدر ما يعنيني تقلّبهم وتطرّفهم. تهمني تلك اللحظة الفاصلة بين الإبداع والجنون. عندما يعلنون فجأة خروجهم عن المنطق واحتقارهم له. وحدها تلك اللحظة تستحقّ التأمل والانبهار أحياناً، فهم يفعلون ذلك لمجرد تحدّينا وتعجيزنا بلوحة ليست سوى حياتهم.

هنالك مبدعون، يكتفون بوضع عبقريَّتهم في إنتاجهم. وهنالك آخرون، يصرّون على توقيع حياتهم أيضاً، بنفس العبقرية، فيتركون لنا سيرة فريدة، غير قابلة للتكرار أو التزوير..

أعتقد أن مثل هذا الجنون ينفرد به الرسامون. ولا أظن أن شاعراً يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه فان غوغ مثلاً في لحظة يأس واحتقار للعالم، عندما قطع أذنه ليهديها إلى غانية..

أو ما فعله ذلك الرسام المجهول الذي لم أعد أذكر اسمه، والي شنق نفسه، بعدما علَّق في سقف غرفته، لوحة المرأة التي أحبها والتي قضى أياماً في رسمها. وهكذا توحّد معها على طريقته.. ووقّع لوحته وحياته معاً مرة واحدة.

قلتُ:

- إن ما يعجبك في النهاية، هو قدرة الرسامين الخارقة على تعذيب أنفسهم، أو على التمثيل بها.. أليس كذلك؟.

أجبتِ:

- لا.. ولكن هنالك لعنة ما تلاحق الرسامين دون غيرهم؛ وهنالك جدلية لا تنطبق إلا عليهم. فكلّما زاد عذابهم وجوعهم وجنونهم، زاد ثمن لوحاتهم. حتى إن موتهم يوصلها إلى أسعار خيالية، وكأن عليهم أن ينسحبوا لتحلّ هي مكانهم.

لم أناقشك في رأيك.

رحت أستمع إليك وأنت ترددّين كلاماً أعرفه، ولكن فاجأني منك.

لم أتساءل يومها، إن كنت تحبينني لاحتمال جنوني، أو لشيء آخر. ولا أن تكون نيّتك اللاشعورية تحويلي إلى لوحة ثمينة أدفع ثمنها من حطامي.

هل سيزيد عذابي حقاً، من قيمة أية لوحة سأرسمها كيفما كان، تحت تأثير جوعي أو نوبة جنوني؟

اكتفيت بالتساؤل.. أين يبدأ الفنّ ترى؟.. وأين تبدأ النزعة السادية عند الآخرين؟

كنت أعتقد أن هذه الجدلية لا علاقة لها بالإبداع ولا بالفن، وإنما بطبع الإنسان لا أكثر.

نحن ساديون بفطرتنا. يحلو لنا أن نسمع عذابات الآخرين، ونعتقد، عن أنانية، أن الفنان مسيح آخر جاء ليصلب مكاننا.

عذابه يحزننا و يسعدنا في آن واحد. قصّته قد تبكينا، ولكنها لن تمنعنا من النوم، ولن تدفعنا إلى إطعام فنان آخر، يموت جوعاً أو قهراً أمامنا. بل إننا نجد من الطبيعي أن تتحول جراح الآخرين إلى قصيدة نغنيها، أو لوحة نحتفظ بها، وقد نتاجر بها، للسبب نفسه.

فهل الجنون قُصر حقاً على الرسامين دون غيرهم؟

أليس هو قاسماً مشتركاً بين كلِّ المبدعين، وكل المسكونين بهذه الرغبة المرضيّة في الخلق؟

فالذي لا يمكن بحكم منطق الإبداع نفسه، أن يكون إنساناً عادياً، بأطوار عادية وبحزن وفرح عاديّ. بمقاييس عادية للكسب والخسارة.. للسعادة والتعاسة.

إنه إنسان متقلّب، مفاجئ، لن يفهمه أحد ولن يجد أحد مبرراً لسلوكه.

كان ذلك أول يوم حدّثتك فيه عن زياد.

قلت:

- لقد عرفت شاعراً فلسطينياً كان يدرس في الجزائر. كان سعيداً بحزنه وبوحدته؛ مكتفياً بدخله البسيط كأستاذ للأدب العربي، وبغرفته الجامعية الصغيرة، وبديوانين شعريّين. حتى ذلك اليوم الذي تحسّنت أحواله المادية، وحصل على شقة وكان على وشك الزواج من إحدى طالباته التي أحبّها بجنون، والتي قبل أهلها أخيراً تزويجها منه.

عندما قرّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء، ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي..

عبثاً حاولت إقناعه بالبقاء. لم أكن أفهم حماقته تلك، وإصراره على الرحيل عندما أوشك أخيراً أن يحقق أحلامه. وكان يجيب ساخراً "أيّ أحلام.. أنا لا أريد أن أقتل داخلي ذلك الفلسطيني المشرّد.. فعندها لن يكون لأيّ شيء أمتلكه من قيمة..".

ويضيف وهو ينفث دخانه على مهل وكأنه يختفي خلفه كي يبوح لي بسرٍّ: "ثم.. لا أريد أن أنتمي لامرأة.. أو إذا شئت لا أريد أن أقيم فيها.. أخاف السعادة عندما تصبح جبرية. هنالك سجون لم تخلق للشعراء..".

وكانت الفتاة التي أحبّته تزورني راجية أن أقنعه بالبقاء، وأنه مجنون ذاهب إلى الموت وإلى حتفه المؤكد. ولكن عبثاً، لم تكن هناك حجة واحدة لإغرائه بالبقاء.. بل إنه في تطرفه المفاجئ، أصبح يجد في حججي ما يزيده إغراءً بالرحيل.

أذكر أنه قال لي يومها بشيء من السخرية، وكأنه يعطيني درساً في الحياة:

"هناك عظمة ما، في أن نغادر المكان ونحن في قمة نجاحنا. إنه الفرق بين عامة الناس.. والرجال الاستثنائيين!".

سألتك إن كنت تعتقدين أنّ شاعراً كهذا، هو أقلّ جنوناً من رسام قطع أذنه؟

لقد استبدل براحته شقاءً لم يكن مرغماً عليه. واستبدل بحياته موتاً، دون أن يكون مجبراً عليه.

لقد أراد أن يذهب إلى الموت مكابراً وليس مهزوماً ومكرهاً. إنها طريقته في أن يهزم مسبقاً شيئاً لا يُهزم، وهو الموت.

سألتني بلهفة:

- هل مات؟

قلت لك:

- لا.. إنه لم يمت.. أو على الأقل مازال على قيد الحياة حتى تاريخ بطاقته الأخيرة التي بعث إليّ بها في رأس السنة، أي منذ ستة أشهر تقريباً.

ساد بيننا شيء من الصمت، وكأن أفكارنا معاً ذهبت إليه..

قلت لك:

- أتدرين أنه كان سبباً غير مباشر في مغادرتي الجزائر؟ معه تعلّمت أنه لا يمكن أن نتصالح مع كل الأشخاص الذين يسكنوننا، وأنه لا بد أن نضّحي بأحدهم ليعيش الآخر. وأمام هذا الاختبار فقط نكتشف طينتنا الأولى، لأننا ننحاز تلقائياً إلى ما نعتقد أنه الأهم.. وأنه نحن لا غير.

قلت وأنت تقاطعينني:

- صحيح.. نسيت أن أسألك لماذا جئت إلى فرنسا؟

أجبتك وتنهيدة تسبقني، وكأنها تفتح أبواب صدر أوصدته الخيبات:

- قد لا تقنعك أسبابي.. ولكنني مثل ذلك الصديق، أكره الجلوس على القمم التي يسهل السقوط منها. وأكره خاصة أن يحولني مجرد كرسي أجلس عليه إلى شخص آخر لا يشبهني.

لقد كنت بعد الاستقلال أهرب من المناصب السياسية التي عرضت عليّ، والتي كان الجميع يلهثون للوصول إليها.

كنت أحلم بمنصب في الظل يمكن أن أقوم فيه بشيء من التغيرات دون كثير من الضجيج ودون كثير من المتاعب. ولذا عندما عيّنت كمسؤول عن النشر والمطبوعات في الجزائر، شعرت أنني خلقت لذلك المنصب. فقد قضيت كلّ سنوات إقامتي في تونس في تعلّم العربية والتعمق فيها، وتجاوز عقدتي القديمة كجزائري لا يتقن بالدرجة الأولى سوى الفرنسية. وأصبحت، في بضع سنوات، مزدوج الثقافة، لا أنام قبل أن أبتلع وجبتي من القراءة بإحدى اللغتين.

كنت أعيش بالكتب ومع الكتب. حتى إنني كدت في فترة ما أنتقل من الرسم إلى الكتابة، خاصة أن الرسم، كان في نظر البعض آنذاك، شبيهاً بالشذوذ الثقافي، وعلامة من علامات الترف الفني، التي لا علاقة لها بظروف التحرير.

عندما عدت إلى الجزائر بعدها، كنت ممتلئاً بالكلمات.

ولأن الكلمات ليست محايدة، فقد كنت ممتلئاً كذلك بالمثل والقيم، ورغبة في تغيّر العقليات والقيام بثورة داخل العقل الجزائري الذي لم تغير فيه الهزات التاريخية شيئاً.

ولم يكن الوقت مناسباً لحلمي الكبير الذي لا أريد أن أسمّيه "الثورة الثقافية". بعدها لم تعد هاتان الكلمتان مجتمعتين أو متفرقتين تعنيان شيئاً عندنا.

كانت هناك أخطاء كبرى تُرتكب عن حسن نية. فلقد بدأت التغيرات بالمصانع، والقرى الفلاحية والمباني والمنشآت الضخمة، وترك الإنسان إلى الأخير.

فكيف يمكن لإنسان بائس فارغ، وغارق في مشكلات يومية تافهة، ذي عقلية متخلفة عن العالم بعشرات السنين، أن يبني وطناً، أو يقوم بأية ثورة صناعية أو زراعية، أو أية ثورة أخرى؟

لقد بدأت كلّ الثورات الصناعية في العالم من الإنسان نفسه، ولذا أصبح اليابان (ياباناً) وأصبحت أوربا ما هي عليه اليوم.

وحدهم العرب راحوا يبنون المباني ويسمّون الجدران ثورة. ويأخذون الأرض من هذا ويعطونها لذاك، ويسمّون هذا ثورة.

الثورة عندما لا نكون في حاجة إلى أن نستورد حتى أكلنا من الخارج.. الثورة عندما يصل المواطن إلى مستوى الآلة التي يسيّرها.

كان صوتي يأخذ فجأة نبرة جديدة، فيها كثير من المرارة والخيبة التي تراكمت منذ سنين. وكنت تنظرين إليّ بشيء من الدهشة وربما من الإعجاب الصامت، وأنا أحدثك لأول مرة عن شجوني السياسية.

سألتني:

- ألهذا جئت إلى فرنسا إذن؟

قلت:

- لا.. ولكنني جئت ربما بسبب أوضاع هي نتيجة أخطاءٍ كهذه، لأنني ذات يوم قرّرت أن أخرج من الرداءة، من تلك الكتب الساذجة التي كنت مضطراً إلى قراءتها ونشرها باسم الأدب والثقافة، ليلتهمها شعب جائع إلى العلم.

كنت أشعر أنني أبيعه معلّبات فاسدة مرّ وقت استهلاكها. كنت أشعر أنني مسؤول بطريقة أو بأخرى عن تدهور صحته الفكرية، وأنا ألقّنه الأكاذيب بعدما تحوّلت من مثقف إلى شرطي حقير، يتجسّس على الحروف والنقاط، ليحذف كلمة هنا وأخرى هناك.. فقد كنت أتحمل وحدي مسؤولية ما يكتبه الآخرون.

كنت أشعر بالخجل وأنا أدعو أحدهم إلى مكتبي لإقناعه بحذف فكرة أو رأي كنت أشاركه فيه.

ذات يوم، زارني زياد.. ذلك الشاعر الفلسطيني الذي حدّثتك عنه، والذي لم أكن التقيت به من قبل.

وكنت اتصلت به لأطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو لي قاسية تجاه بعض الأنظمة.. وبعض الحكام العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم بتلميح واضح، ناعتاً إياهم بكل الألقاب.

لم أنسَ أبداً نظرته ذلك اليوم.

توقّفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة مهينة وقال:

" لا تبتر قصائدي سيّدي.. ردّ لي ديواني، سأنشره في بيروت".

شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني على وشك أن أنهض من مكاني لأصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته وكلماته الاستفزازية.

ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟

ترى هويّته الفلسطينية، أو تلك الشجاعة التي لم يواجهني بها كاتب قبله، أم ترى عبقريّته الشعرية؟ فقد كان ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في ذلك الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء كالأنبياء هم دائماً على حق.

تلقَّيت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئاً من سنوات سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوّهة مثلي؟

قلت له متحدياً، وأنا ألقي نظرة غائبة على غلاف تلك المخطوطة: "سأنشره لك حرفياً".

كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو الشجاعة التي كان لا يمكن لموظف مهما كان منصبه أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته، لأن الموظّف في النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيّاً!

سبب لي ديوانه عند صدوره بعض المتاعب. شعرت أن هناك شيئاً من الزيف الذي لم أتحمّله.

ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا باسم الصمود ووحدة الصفّ، نصمت على جرائمها؟ ولماذا من حقّنا أن ننتقد أنظمة دون أخرى حسب النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان بواخرنا؟

بدأ شيء من اليأس والمرارة يملأني تدريجياً. هل أغير وظيفتي لأستبدل بمشكلاتي مشاكل أخرى، وأصبح هذه المرة طرفاً في لعبة أخرى؟

ماذا أفعل بكل ما كدّست وجمعت من أحلام طوال سنوات غربتي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي الأربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي الأخرى؟

ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر العنيد الذي يسكنني، ويرفض أن يساوم على حريته، وبذلك الرجل الآخر الذي لا بد أن يعيش ويتعلم الجلوس على المبادئ.. ويتأقلم مع كل كرسي.

كان لا بد أن أقتل أحدهما ليحيا الآخر... وقد اخترت.

كان لقائي بزياد منعطفاً في حياتي.

اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيراً ما تبدأ بالمواجهة والاستفزاز واختبار القوى.

فلا يمكن لرجلين يتمتع كلاهما بشخصية قوية وبذكاء وحساسية مفرطة، رجلين حملا السلاح في فترات من حياتهما.. وتعودّا على لغة العنف والمواجهة، أن يلتقيا دون تصادم.

وكان لا بد لنا من ذلك الاصطدام الأول.. وذلك التحدي المتبادل لنفهم أننا من طينة واحدة.

بعدها أصبح زياد تدريجياً صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقاً.

كان نلتقي عدة مرات في الأسبوع، نسهر ونسكر معاً، نتحدث طويلاً عن السياسة، وكثيراً عن الفنّ، نشتم الجميع ونفترق سعيدين بجنوننا.

كنا في سنة 1973. كان عمره ثلاثين سنة، وديوانين، ما يقارب الستِّين قصيدة، وما يعادلها من الأحلام المبعثرة.

وكان عمري بعض اللوحات، قليلاً من الفرح وكثيراً من الخيبات، وكرسيين أو ثلاثاً، تنقّلت بينها منذ الاستقلال، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة.. وبمذاق غامض للمرارة.

ذات يوم، رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثلاثة. عاد إلى بيروت لينضمّ إلى الجبهة الشعبية التي كان منخرطاً فيها قبل قدومه إلى الجزائر.

ترك لي كلّ كتبه المفضّلة والتي كان ينقلها من بلد إلى آخر. ترك لي فلسفته في الحياة، وشيئاً من الذكريات، وتلك الصديقة التي كانت تزورني أحياناً لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب لها، وكانت ترفض أن تنساه.

قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل:

- ولماذا لم يكتب لها؟

قلت:

- ربما لأنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان يريد أن تنساه وتتزوج بسرعة، كان يريد لها قدراً آخر غير قدره.

سألتني:

- وهل تزوجت؟

قلت:

- لا أدري.. لقد فقدت أخبارها منذ عدة سنوات، ومن الأرجح أن تكون تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من الجمال. ولكن لا أعتقد أن تكون قد نسيته، من الصعب على امرأة عرفت رجلاً مثل زياد أن تنساه..

شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيداً في أفكارك.

تراك كنت قد بدأت تحلمين به؟

تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو الأخرى، وأنا أردّ بعد ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، بأجوبة تثير فيك فضول الأنثى والكاتبة في آن واحد؟

حدّثتك عن قصائده كثيراً، وعن ديوانه الأخير، الذي كتب قصائده كما يطلق بعضهم الرصاص في الأعراس والمآتم ليشيّعوا حبيباً أو قريباً.

كان هو يشيّع صديقاً قديماً اسمه الشعر، ويقسم أنه لن يكتب بعد اليوم سوى بسلاحه.

في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغ رشاشه المحشو غضباً وثورة في وجه الكلمات.

كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق في شيء!

آخ.. كم كان زياد مدهشاً!

لا بد أن أعترف اليوم أنه كان مدهشاً حقاً، وأنني كنت أحمق. كان لا بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال لا تلتقي..

لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟

أكنت أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خلاله أن لي قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر بذلك في عينيك؟

أم كنت أصفه لك في صورته الأجمل، لأنني كنت أعتقد حتى ذلك اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي لا غير..

ربما كان كل هذا حقاً.. ولكن..

كنت أريد أيضاً، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب هذه الأمة.

رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاً لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه وعروبته..

جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه الأمة.

كنت لا أريد أن تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقّبة للآثار والذكريات، في مساحة مدينة واحدة.

فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر..

وكان يمكن أن تكون لك قرابة به.

كنت أريد أن تملأي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين معهم من مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية.

ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو عرفتِ رجالاً مثل زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق أبطال وهميين. هنالك في هذه الأمة أبطال جاهزون بفوقون خيال الكتّاب..".

لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحوّل ذات يوم إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منّا أحببت أكثر، ولمن بنيت ضريحك الأخير، وروايتك الأخيرة..

ألي.. أم له؟

في ذلك اليوم، وضعتِ فجأة قبلة على خدّي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب:

" خالد.. انحبك.."

توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن وقتها أن أحتضنك، أو أقبّلك.. أو أردّ عليك بألف.. ألف أحبك أخرى.

ولكنني جلست من دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني:

" لماذا اليوم بالذات؟"

أجبتني بصوت خافت:

- لأنني اليوم أحترمك أكثر. إنها أول مرة منذ ثلاثة أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه الأسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاً عن الشهرة أو الكسب لا أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من الصفر هنا..

قاطعتكِ مصحِّحاً لكلامك:

- لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من قناعاتي.

شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من علاقتنا، وأنك عجينة تأخذ فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحلامي القادمة.

تذكّرت جملة قرأتها يوماً في كتاب عن الرسم لأحد النقّاد تقول:

"إنّ الرسام لا يقدم لنا من خلال لوحته صورة شخصيّة عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاً عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة لملامحه القادمة".

وكنتِ أنتِ مشروعي القادم.

كنت ملامحي القادمة، ومدينتي القادمة. كنت أريدك الأجمل، أريدك الأروع.

كنت أريد لك وجهاً آخر، ليس وجهي تماماً، وقلباً آخر، ليس قلبي، وبصمات أخرى، لا علاقة لها بما تركه الزمن على جسدي وروحي من بصمات زرقاء.

يومها عرضت عليك بعد شيء من التردّد، أن تزوري ذات يوم مرسمي، لأريك ما رسمته في الأيام الأخيرة.

وكنت سعيداً أن تقبلي عرضي دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على ألا تسيئي الظنّ بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك العرض نهائياً إذا ما ضايقك.

ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عُرض عليها زيارة مدينة للألعاب:

- أو... رائع يسعدني حقاً أن أزوره!

في اليوم التالي، طلبتني هاتفياً لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني خلالهما.

وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن.

أنت في بيتي.. أحقاً سيحدث هذا؟

أحقاً ستدقّين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه الأريكة، ستمشين هنا أمامي.

أنتِ.. أخيراً أنتِ؟

أخيراً سأجلس إلى جوارك، وليس مقابلاً لك. أخيراً لن يلاحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تلاحقنا عيون روّاد المقهى، ولا عيون الغرباء من المارة.

أخيراً يمكننا أن نتحدث، أن نحزن ونفرح، دون أن يكون من شاهد على تقلباتنا النفسية.

رحت من فرحي أشرع الباب لك مسبقاً، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع.

أيّ جنون كان.. أن آتي بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السريّ الآخر، أن أحوّلك إلى جزء من هذا البيت.

هذا البيت الذي أصبح جنّتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي بعدك.

أكنت عندئذٍ أعي كلّّ هذا؟ أم كنت سعيداً وأحمق كأيّ عاشقٍ لا يرى أبعد من موعده القادم؟

تساءلت بعدها.. إن كنت حقاً لا أريد غير إطلاعك على لوحتي الأخيرة.. وعلى حديقتي السرّيّة للجنون.

تذكّرت كاترين، وتلك اللوحة التي رسمتها لها اعتذارا لأنني ذات يوم، كنت عاجزاً عن أن أرسم شيئاً آخر غير وجهها، بينما كان الآخرون يتسابقون في رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون الجميلة.

تذكّرت يوم عرضت عليها أن تزورني لأريها تلك اللوحة..

لم أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباً بعد ذلك في علاقة غير بريئة دامت سنين.

أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلّة التعقّل، ورغبة سرية لاستدراج الظروف لأشياء أخرى؟

تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، وهي تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء المتّكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة:

- هذا مكان يغري بالحب..

فأجبتها بشيء من الواقعية:

- لم أكن أعرف هذا قبل اليوم..

فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية ما تغري بالجنون؟

ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيّ جنون..

اليوم، بعد ستّ سنوات على تلك الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هزّاته النفسية المتقلبة.

ها أنت تدخلين في فستان أبيض (لماذا أبيض؟)، يسبقك عطرك إلى الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك.

ها أنا أكاد أضع قبلة على خدك.. وإذا بي أصافحك (لماذا أصافحك؟).

أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية (لماذا أيضاً بالفرنسية؟) تراني كنت أبحث عن حرّيّة أو جرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟

على تلك الأريكة جلستِ.

قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس:

- لم أكن أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق!

سألتك:

- كيف كنت تتصورينه إذن؟

أجبتني:

- بفوضى.. وبأشياء أكثر.

قلت لك ضاحكاً:

- لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبّرة، بأشياء كثيرة مبعثرة لأكون فنّاناً. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسّامين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من الترتيب داخلي.

لقد اخترت هذه الشقة الشاهقة، لأن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة لا تؤثث بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل والألوان.

فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة، ودعوتك للخروج إلى الشرفة.

قلت:

- انظري هذه النافذة، إنها الجسر الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس المتقلّبة.

كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة لأتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر.

يحدث كثيراً أن أرسم أمام هذه النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج لأتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح بدموع مدينة تحترف البكاء.

يحلو لي الجلوس هنا على حافّة المطر قريباً ومحمياً منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني لأحاسيس متطرفة.

" إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر"

عندئذٍ، نظرت إلى السماء وكأنك تصلين لتمطر، وقلت بالعربية:

- إن المطر يغريني بالكتابة.. وأنت؟

وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب".

نظرت طويلاً إلى السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران.

كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما لأنني تعودت أن أراها رمادية.

وربما لأنني تمنيت في سرّي، لو أمطرت لحظتها؛ لو تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة.

ولم أقل لك شيئاً من كل هذا.

نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.

كنت أراهما لأول مرة في الضوء. شعرت أنني أتعرف عليهما.

ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما أجمل من العادة.

كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من البراءة، والمؤامرة العشقية..

تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف الجواب مسبقاً:

- لماذا تنظر إليّ هكذا؟

كان صوتك بالعربية يأتي كموسيقى عزف منفرد.

وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم:

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر

سألتني مدهوشة:

- أتعرف شعر السياب أيضاً؟. عجيب!

قلت في جواب مزدوج:

- أعرف "أنشودة المطر".

عرت أنك ربما أحببتني أكثر تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في نظرك السيّاب أيضاً.

وككل مرة أفاجئك فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني:

- متى قرأت هذا؟

أجبتك هذه المرة:

- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.

بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:

- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟

قلت:

- إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراً أن " أبولينير" قد خلّد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مولعاً به. إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب. بعضهم خلّد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوماً، وثالث مدينة عبرها مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى الأبد.

سألتني:

- وهل رسمت أنت هذا الجسر؟

- أجبتك متنهداً:

- لا.. لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما ما رأيناه يوماً ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبداً. وهكذا قضى (دولاكروا) عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى (أطلان) عمره في رسم مدينة واحدة.. هي قسنطينة.

لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابلاً لهذه النافذة، لأرسم بشيء من التوتر الاستثنائي لوحتي الأخيرة.

كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى.

وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. لا غير. وأدركت أننا في النهاية لا نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا.

سألتني بلهفة:

- هل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟

قلت وأنا أقودك إلى مرسمي:

- طبعاً.

وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة الملأى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضاً بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت بالانبهار نفسه:

- كم هو رائع كلّ هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسماً قبل اليوم..

كنت أودّ أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل اليوم".

ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكّرتني بمرور امرأة أخرى من هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلتِ فجأة:

- وأين هي اللوحة التي حدّثتني عنها؟

أخذتك إلى الطرف الآخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات الأخرى المبعثرة حولها.

هنالك علاقة عشقية ما بين أيّ رسام ولوحته الأخيرة. هنالك تواطؤ عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء.

فالرسام مثل الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للّون الأبيض، واستدراجه إياه للجنون الإبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء.

كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي اللون الأبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟

ولماذا، رفضت أن أرسم شيئاً بعد لوحتي هذه، وفضّلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، لأشهد لها أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو جدار كما تحال عشيقة عابرة.

أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم تعطنيه حتى النساء؟

ربما.. لأنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماً.. مع الوطن!

قلت وأنت تتأملينها:

- إنها مشابهة للوحتك الأولى "حنين" ولكنها تختلف عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في الألوان الترابية الخام التي استعملتها، إنها تعطيها نضجاً.. وحياة أكثر.

قلت وأنا أنقل نظري منها إليك:

- لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنتِ.

- أنا؟

- أتذكرين يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل لأرسمك. اتّهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت ملامحك. لا تخافي، لن أرسمك أبداً ولن يعرف أحد أنك عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة أيضاً.

وأضفت:

أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا..

قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة كاترين:

- وهي؟

كان في سؤالك شيء من عناد الأطفال وأنانيتهم، وشيء من عناد النساء وغيرتهنّ.

قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من الأرض:

- هل تزعجك هذه اللوحة حقاً؟.

أجبت بشيء من الكذب الواضح:

- لا..

واصلت وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون:

- إذا شئت سأتلفها أمامك..

صحت:

- لا، أأنت مجنون!

قلت بهدوء:

- لست مجنوناً.. وهذه اللوحة لا تعني شيئاً بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة عابرة.

قلتِ بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها:

- إنها مدينتك الأخرى.. أليس كذلك؟

من أين جئت بتلك الرصاصة الأخيرة، لتطلقيها على تلك اللوحة؟

اعترفت لك بتلميح واضح:

- لا.. ليست مدينتي، إنها وسادتي الأخرى.. أو إذا شئت سريري الآخر فقط!

شعرت أن شيئاً من الحمرة قد علا وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على ملامحك التي تغيّرت في لحظات.

ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك:

-... لا يهم!

قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك:

- لا تغاري من هذه اللوحة. هنالك امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه..

نظرت نحو المكان الذي أشرت إليه. كان ثمّة تمثال ينتصب على الأرض في حجم امرأة.

قلت بتعجّب:

- هذه.. لماذا هذه؟

قلت:

- لأنها المرأة الوحيدة التي ارتحت لها حتى الآن، والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي. كنت في السابق أملك منها نسخة مصغرة. وقررت منذ سنتين أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه الأكبر.

كانت تلك إحدى نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على اقتنائها، إنها تشبهني كثيراً. أنا بذراع واحدة وهي بلا ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة مختلفة، لأسباب مختلفة. ولكننا صامدان معاً، لن تمنعنا عاهتنا من الخلود.

لم تعلّقي على كلامي.

يبدو أنك لم تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال لامرأة، ضرب من الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان الرجل رسّاماً، وكانت المرأة فينوس لا غير!

المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة بالعبقرية التي تلامس الجنون. ولكنك كنت أعقل من أن تكشفيها. ولذا كلما أردت أن أعطيك دليلاً على جنوني، لم تكوني تصدقيني تماماً.

رحتِ فقط بحماقة أنثى، تسترقين النظر إلى لوحة كاترين، وكأنها وحدها تعنيك. ورحت أنا أحاول فهمك.

ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في تلك اللحظة بيننا بحضورها الصامت الذي يذكّرك بمرور امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة تلك المرأة، والإغراء الاستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف خصلات شعر فوضوي؟

أكنت تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون من حقك أن تعاتبيني على لوحة واحدة رسمتها لامرأة، دون أن يكون لي الحق في أن أحاسبك على كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك الرجل الذي عذّبتني به صدقاً أم كذباً؟

عادت عيناك إلى اللوحة الأخيرة. تأملتها قليلاً ثم قلت:

- إذن هذه.. أنا!

قلت:

- ربما لم تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه المدينة؛ من استدارة جسورها، من شموخها، من مخاطرها، من مغارات وديانها، من هذا النهر الزبديّ الذي يشطر جسدها، من أنوثتها وإغرائها السري ودوارها.

قاطعتني مبتسمة:

- أنت تحلم.. كيف يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين هذا الجسر؟

كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري أنني لا أحب سوى الجسور الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في بطاقات نهاية السنة، مرشوشة بالثلج والفضة، تعبرها العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة المعلّقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. لا أكر أنني عبرتها مرة واحدة راجلة، أو حاولت مرة واحدة النظر منها إلى أسفل.. إلا شعرت بالفزع والدوار.

قلت:

- ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة السقوط الذي لا يقاوم؛ هو التفرج على العالم من نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة، التي تجذبك للأسفل والأعلى في وقت واحد، لأن السقوط دائماً أسهل من الوقوف على قدمين خائفتين! أن أرسم لك جسراً شامخاً كهذا، يعني أن أعترف لك أنك دواري. إنه ما لم يقله لك رجلٌ قبلي.

أنا لا أفهم أن تحبّي قسنطينة وتكرهي الجسور؛ وتبحثي عن الإبداع، وأنت تخافين الداور. لولا الجسور لما كانت هذه المدينة. ولولا شهقة الدوار، لما أحبّ أحد.. أو أبدع.

كنت تستمعين إليّ، وكأنك تكتشفين شيئاً لم تنتبهي له من قبل برغم بساطته.

غير أنك قلت:

- ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل لو رسمتني أنا وليس هذا الجسر. إن أي امرأة تتعرف على رسام، تحلم في سرّها أن يخلّدها، أن يرسمها هي.. لا أن يرسم مدينتها؛ تماماً كما أنّ أيّ رجل يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه شيئاً، وليس عن شيء آخر له علاقة به. إنها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى لا تفسير لها.

فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة.

هل رسمت نسخة مزوّرة عنك إذن؟ أحقّ أنه ليس بينك وبين هذا الجسر من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة طبق الأصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك في النهاية، أن تصبحي نسخة أخرى عن كاترين لا غير، أن تتحولي إلى لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من المساحيق، يشبه وجهه؟

ترانا لم نَشْفَ من هذه العقدة؟

قلت لك بشيء من اليأس:

- إذا كان هذا ما تريدين.. سأرسمك.

أجبتني بصوت فيه خجل ما:

- أعترف أنني منذ البداية، كنت أحلم أن ترسمني أنا.. وأن أحتفظ بهذه اللوحة عندي كذكرى، شرط ألا تضع عليها توقيك إذا أمكن..

شعرت برغبة في الضحك، أو على الأرجح برغبة في الحزن، وأنا أكتشف ذلك المنطق العجيب للأشياء.

كان من حقي إذن أن أوقع الرموز واللوحات التي ليس بينها وبينك من شبه. وأما أنت فليس في وسعي أن أضع أسفل رسمك توقيعي. أنت المرأة الوحيدة التي أحببتها، لن يقترن اسمي بك ولو مرة واحدة، حتى في أسفل لوحة؟

هناك إذن الذين يشترون توقيعي فقط، وليس لوحاتي. وهناك أنت التي تريدين لوحتي دون توقيع.

وهنالك أنا.. المجنون العنيد الذي يرفض هذا المنطق الجديد للأشياء، ويرفض باسم الحبّ أن يحولك إلى لوحة لقيطة، لا نسب لها ولا صاحب. يمكن أن تتبنّاها أية ريشة وأي رسام.

حيّرك صمتي.. قلت شبه معتذرة:

- هل يزعجك أن ترسمني؟

قلت ساخراً:

- لا.. كنت أكتشف فقط مرة أخرى، أنك نسخة طبق الأصل عن وطن ما، وطن رسمت ملامحه ذات يوم. ولكن آخرين وضعوا إمضائهم أسفل انتصاراتي. هنالك إمضاءات جاهزة دائماً لمثل هذه المناسبات. فمن الأزل، كان هنالك دائماً من يكتب التاريخ، وهنالك من يوقّعه، ولذا أنا أكره اللوحات الجاهزة للتزوير.

تراك فهمت كل ما قلته لك لحظتها؟

بدأت أشكّ فجأة في وعيك السياسي. لقد كان كلّ ما يهمّك في النهاية، هو موضوع لوحتك لا غير.

قلت وأنت تغادرين المرسم:

- أتدري أننا لن نلتقي لمدة شهرين؟ سأسافر الأسبوع القادم إلى الجزائر..

صحت وأنا أستوقفك في الممر:

- أحقٌ ما تقولين؟

قلت:

- طبعاً أنا أقضي دائماً عطلتي الصيفية مع والدتي في الجزائر. ولا بدّ أن أعود الأسبوع القادم مع عمي وعائلته.. لن يبقى أحد هنا في باريس.

وقفت مذهولاً وسط الممشى. أمسكت بذراعك وكأنني أمنعك من الرحيل، وسألتك بحزن:

- وأنا..؟

- أنت.. سأشتاق إليك كثيراً. أعتقد أننا سنتعذّب بعض الشيء.. إنه فراقنا الأول. ولكن سنحتال على الوقت ليمرّ بسرعة.

ثم أضفتِ بلهجة من يريد أن يحل مشكلة، أو ينتهي منها بسرعة:

- لا تحزن.. يمكنك أن تكتب لي أو تطلبني هاتفياً.. سنبقى على اتصال.

كنت على حافة البكاء.

كطفل أخبرته أمه أنها ستسافر دونه. وكنت أنت تزفّين لي ذلك الخبر، بشي من السادية التي أدهشتني. وكأن عذابي يغريك بشيء ما.

هل أمسك بأطراف ثوبك كطفل وأجهش بالبكاء؟

هل أتحدث إليك ساعات، لأقنعك أنني لن أقدر بعد اليوم على العيش بدونك، وأن الزمن بعدك لا يقاس بالساعات ولا بالأيام، وأنني أدمنتك؟

كيف أقنعك أنني أصبحت عبداً لصوتك عندما يأتي على الهاتف؟ عبداً لضحكتك، لطلتك، لحضورك الأنثوي الشهيّ، لتناقضك التلقائيّ في كل شي وفي كل لحظة. عبدٌ لمدينة أصبحت أنت، لذاكرة أصبحت أنت، لكل شي لمسته أو عبرته يوماً.

كان الحزن يهجم عليّ فجأة، وأنا واقف هكذا في ذلك الممر أتأملك بذهول من لا يصدق.

وكنت قريبة مني حد الالتصاق، كما لم يحدث أن كنته يوماً. بحثت في ملامحك عن شيء يفضح لي في تلك اللحظة عواطفك؛ لكنني لم أفهم شيئاً.

أتراه عطرك الذي كان يخترق حواسي ويشلّ عقلي، هو الذي جعلني عندئذٍ لا أتعمّق في البحث؟ كنت أعي فقط أنك بعد لحظات ستكونين بعيدة، بقدر ما كنت ساعتها قريبة.

رفعت وجهك نحوي.

كنت أريد أن أقول لك شيئاً لم أعد أذكره. ولكن قبل أن أقول أيّة كلمة، كانت شفتاي قد سبقتاني وراحتا تلتهمان شفتيك في قبلة محمومة مفاجئة. وكانت ذراعي الوحيدة تحيط بك كحزام، وتحولك في ضمة واحدة إلى قطعة مني.

انتفضت قليلاً بين يدي كسمكة خرجت لتوّها من البحر، ثم استسلمت إليّ.

كان شعرك الطويل الحالك، ينفرط فجأة على كتفيك شالاً غجرياً أسود، ويوقظ رغبة قديمة لإمساكك منه، بشراسة العشق الممنوع. بينما راحت شفتاي تبحثان عن طريقة تتركان بها توقيعي على شفتيك المرسومتين مسبقاً للحب.

كان لا بدّ أن يحدث هذا..

أنت التي تضعين الظلال على عينيك، والحمى على شفتيك بدل أحمر الشفاه، أكان يمكن أن أصمد طويلاً في وجه أنوثتك؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم شفتيك، وها هي الحمّى تنتقل إليّ، وها أنا أذوب أخيراً في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية الارتباك.

لا أجمل من حرائقك.. باردةٌ قُبل الغربة لو تدرين. باردةٌ تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة الدفء. باردٌ ذلك السرير الذي لا ذاكرة له.

دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع. دعيني أخبّئ رأسي في عنقك. أختبئ طفلاً حزيناً في حضنك.

دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه المساحات المحرقة.. لي.

فاحرقيني عشقاً، قسنطينة!

شهيّتين شفتاك كانتا، كحبّات توت نضجت على مهل. عبقاً جسدك كان، كشجرة ياسمين تفتحت على عجل.

جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ والانتظار. عمر من العقد والحواجز والتناقضات. عمر من الرغبة ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة. عمر من الارتباك والنفاق.

على شفتيك رحت ألملم شتات عمري.

في قبلة منك اجتمعت كلّ أضدادي وتناقضاتي. واستيقظ الرجل الذي قتلته طويلاً مراعاة لرجل آخر، كان يوماً رفيق أبيك.

رجلٌ كاد يكون أباك.

على شفتيك وُلدتُ ومتُّ في وقتٍ واحد. قتلت رجلاً وأحييت آخر.

هل توقّف الزمن لحظتها؟

هل سوّى أخيراً بين عمرينا، هل ألغى ذاكرتنا بعض الوقت؟

لا أدري..

كلّ الذي كنت أدريه، أنك كنت لي، وأنني كنت أريد أن أصرخ لحظتها كما في إحدى صرخات "غوته" على لسان فاوست "قف أيها الزمن.. ما أجملك!".

ولكن الزمن لم يتوقف. كان يتربص بي كالعادة. يتآمر عليّ كالعادة. وكنت بعد لحظات تتأملين ساعتك في محاولة لإخفاء ارتباكك، وتذكيري بضرورة عودتك إلى الجامعة.

عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة أخيرة لاستبقاك.

قلت وأنت أمام المرآة تضعين شيئاً من الترتيب في مظهرك، وتصففين شعرك وتعيدين جمعه:

- أفضل شيئاً بارداًً إذا أمكن..

تركتك في الصالون وذهبت إلى المطبخ. تعمدت ألا أستعجل في العودة، وكأنني فجأة أخجل من آثار قبلي على شفتيك.

وعندما عدت بعدها، كنت أمام المكتبة تلقين نظرة على عناوين الكتب، وتقلّبين بعضها. ثم سحبت من أحد الرفوف كتاباً صغيراً، سألتني وأنت تنظرين إلى غلافه:

- أليس هذا الديوان لصديقك الشاعر الذي حدّثتني عنه؟

أجبتك بسعادة وأنا أجد أخيراً في ذلك الموضوع مخرجاً لارتباكي:

- نعم.. هناك ديوان آخر له أيضاً تجدينه على الرفّ نفسه.

قلت:

- هل اسمه زياد الخليل؟ لقد سمعت هذا الاسم قبل اليوم.

قلبتِ الكتاب. رأيتك تتأملين طويلاً صورته على ظهر الكتاب. تقرئين بعض السطور.. ثم قلت:

- أيمكن لي أن أستعير منك هذين الديوانين؟. أفضّل أن أقرأهما على مهل هذا الصيف، فليس لي ما أطالعه.

أجبتك بحماسة، أو بحماقة:

- طبعا، إنها فكرة جيدة.. أنا واثق أن هذين الديوانين سيتركان تأثيرهما على كتاباتك. ستجدين أشياء رائعة خاصة في الديوان الأخير "مشاريع للحبّ القادم". إنه أجمل ما كتب زياد.

رحت بسعادة تخفين الكتابين في حقيبة يدك. كنت وقتها في سعادة طفلة تعود إلى بيتها بلعبٍ أحبّتها.

طبعاً، لم أكن أعي في ذلك الحين، أنني سأكون بعد ذلك لعبتك الأخرى، وأن هذين الكتابين سيتركان تأثيرهما أيضاً على مجرى قصتنا.

كنت تستعيدين تدريجياً وجهك العادي وملامحك الطبيعية.

وكأن زوبعة حبّي لم تمرّ بك. فهل كان ذلك تمثيلاً أم حقيقة؟

حاولت أن أنسى خيبتي معك، أمام تلك اللوحة التي كانت السبب الأول في زيارتك. حاولت أيضاً أن أخفّف من خيبتك.

قلت:

- سأرسمك، ستكون لوحتك تسليتي في هذا الصيف..

ثم أضفت دون أية نية خاصة:

- يجب أن تزوريني مرة أخرى لتجلسي أمامي، حتى أتمكن من رسمك. أو تعطيني صورة لك أنقل عنها ملامحك.

قلتِ وكأن الجواب كان جاهزاً لديك:

- لم يبقَ أمامي متّسع من الوقت لأعود إليك هذه الأيام، وليس في حوزتي أية صورة. يمكنك أن تستعين بصورتي الموجودة على ظهر كتابي، في انتظار أن أعود.

أعترف أنني لم أفهم في ذلك الحين أيضاً، إذا كان في جوابك شيء من التلميح لي بأنك لن تعودي إلى هذا البيت، أم أنك كنت تجيبيني بتلقائية بريئة لا أكثر؟

ألست أنت التي كنت تلحّين عليّ أن أرسمك؟

فلماذا حوّلت هذه اللوحة إلى قضية شخصية أنا وحدي معنيّ بها؟

لم أناقشك كثيرا. كنت أدري أنني في جميع الحالات سأرسمك. ربما لأنني لا أعرف كيف أرفض لك طلباً، وربما لأنني لا أعرف كيف سأقضي الصيف دون استحضارك ولو رسماً.

ذهبت ذلك اليوم بعدما وضعت قبلتين على خدّي، ووعدتني بلقاء قريب. لم يعد ممكناً بعد قبلتنا أن نتصافح..

كنت أعي أنّ شيئاً ما قد تغيّر في علاقتنا، ولم يعد ممكناً بعد اليوم لذلك المارد الذي انطلق فجأة من أعماقنا، أن يعود إلى قلب الزجاجة التي أغلقناها عليه لأسابيع كاملة.

كنت أعي أنني أنتقل معك في بضع لحظات من الحب إلى العشق. من العاطفة البريئة إلى الشهوة، وأنه سيكون من الصعب، بعد اليوم، أن أنسى مذاق قبلتك، وحرارة جسدك الملتصق بي للحظات.

كم دامت قبلتنا تلك.. دقيقتين؟ ثلاثاً؟ أم خمس دقائق للجنون لا غير؟

أيمكن أن تفعل تلك الدقائق القليلة كل الذي حلّ بي بعد ذلك؟

أيمكن أن تلغي خمس دقائق، خمسين سنة من عمري؟

وكيف لم أشعر بعدها بأيّ إحساس بالندم، بأيّ خجل تجاه ذكرى سي الطاهر؟ أنا الذي كنت أقترف يومها أول خيانة بالمفهوم الأخلاقي للخيانة.

لا.. لم يكن في قلبي سوى الحب.

كنت ممتلئاً بالعشق، بالشهوة، بالجنون. كنت أخيراً سعيداً. فلماذا أفسد سعادتي بالندم، بالتساؤلات التي ستوصلني إلى التعاسة؟

لا أذكر من قال " الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه.." ولم يكن في القلب مساحة أخرى ولو صغيرة، يمكن أن يتسلل منها شيء آخر غير؟ الحبّ.

ألم يكن كلّ ذلك جنوناً.

كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيداً إلى ذلك الحدّ، وأنا أدري أنني لم أمتلك منك شيئاً في النهاية، سوى بضع دقائق للفرح المسروق، وأن أمامي متسعاً من العمر.. للعذاب؟ إلى (ذاكرة الجسد)2
الفصل الرابع


كان لرحيلك مذاق الفجيعة الأولى. والوحدة التي أحالتني في أيام إلى مرتبة لوحة يتيمة على جدار، تحضرني جملة تبدأ بها رواية أحببتها يوماً..
"ما أعظم الله! فهو عظيم بقدر ما أنا وحيد. إني لأرى المؤلف فيبدو لي كلوحة.."
وكنت أنا في عزلتي ووحدتي، ذلك المؤلف وتلك اللوحة معاً. فما أكبر وأبرد ذلك الكون الذي كنت معلّقاً على جداره، في انتظارك!
كنت أدخل بعدك منحدرات الخيبات النفسية والعاطفية في الوقت نفسه. وأعيش ذلك القلق الغامض، الذي يسبق ويلي دائماً كل معرض لي. وكنت أقوم تلقائياً بجردة لأفراحي وخيباتي.
انتهى معرضي إذاً. لم تهتم به غير صحافة فرنسية مختصّة كالعادة. وبعض المجلات العربية المهاجرة.
ولكن يمكن أن أقول إنه حصل على تغطية إعلامية كافية، وأن الذين كتبوا عنه أجمعوا على أنه حدث فني عربي في باريس.
وحدها الصحافة الجزائرية تجاهلته، عن إهمال لا غير، كالعادة. جريدة ومجلة أسبوعية واحدة، كتبتا عنه بطريقة مقتضبة. وكأنهما تعانيان فعلاً من قلة الصفحات، وليس من قلة المواد الصحافية.
بينما لم يحضر ذلك الصديق الصحافي، الذي وعدني بالحضور إلى باريس لقضايا شخصية، ولإجراء مقابلة مطوّلة معي بالمناسبة نفسها. ورغم أنني رجل غير مولع بالأضواء، والجلوس لعدة ساعات إلى صحافي للحديث عن نفسي، فإنني كنت أتمنى أن تتم تلك المقابلة، لأتمكن أخيراً من الحديث مطوّلاً إلى الشخص الوحيد الذي كان يعنيني حقاً.. القارئ الجزائري.
عبد القادر طلبني ليخبرني أنه اضطر للبقاء في الجزائر، لتغطية مهرجان ما من أحد المهرجانات التي ازدهرت هذه الأيام، لأسباب غامضة يعلمها الله.. وآخرون.

ولم أعتب عليه.. ليس هناك من مقارنة بين مهرجان أو ملتقى رسمي، يتم إعداده والإنفاق عليه بالعملة الصعبة وبين أي معرض مهما كان اسم صاحبه، والسنوات التي أخذتها منه تلك اللوحات.

في النهاية لا يمكن حتى أن أعتب على الصحافة الجزائرية.

ماذا يمكن أن يقدم معرض للوحات الفنية من متعة أو ترفيه للمواطن الجزائري الذي يعيش على وشك الانفجار، بل الانتحار، ولا وقت له للتأمل أو التذوق، والذي يفضّل على ذلك مهرجاناً لأغنية (الراي). يمكن أن يرقص.. ويصرخ.. ويغني فيها حتى الفجر، منفقاً على تلك الأغاني الشعبية المشبوهة، ما تجمّع في جيبه من دينارات، وما تراكم في جسده من "ليبيدو"؟
تلك "الثروة" الوحيدة التي يملكها شبابنا حقاً، والتي كعملتنا يدري أين ينفقها خارج الأسواق السوداء.. للبؤس.
بعضهم أدرك هذا قبل غيره.
سنة 1969، وفي عزّ الفراغ والبؤس الثقافي الذي كان يعيشه الوطن، اخترع أحدهم في بضعة أيام، أكبر مهرجان عرفته الجزائر وإفريقيا، كان اسمه "المهرجان الإفريقي الأول"، دعيت إليه قارة وقبائل إفريقية بأكملها لتغني وترقص _عارية أحياناً_ في شوارع الجزائر لمدة أسبوع كامل على شرف الثورة!
كم من ملايين أنفقت وقتها، على مهرجان للفرح ظلّ الأول والأخير. وكانت أهم إنجازاته التعتيم على محاكمة قائد تاريخي كان أثناء ذلك، يستجوب ويعذّب رجاله في الجلسات المغلقة.. باسم الثورة نفسها.
ودون أن تكون لي صداقة ما بذلك القائد، الذي كان اسمه الطاهر أيضاً، ولا أيّ عداء خاص لذلك الحاكم الذي كان يوماً مجاهداً وقائداً أيضاً، بدأت أعي لعبة السلطة، وشراهة الحكم. وأصبحت أحذر الأنظمة التي تكثر من المهرجانات والمؤتمرات.. إنها دائماً تخفي شيئاً ما!.
فهل هي مصادفة أن تبدأ مشكلاتي من ذلك الحين، ويولد أول مذاق للمرارة في حلقي يومها؟
عندما التقيت بذلك الصديق بعد أشهر، اعتذر لي بأسف صادق، ووعدني ألا يفوّت معرضي القادم.
ربّتّ على كتفه ضاحكاً وقلت:
- لا يهم.. بعد أيام لن يذكر أحد اسم ذلك المهرجان. ولكن التاريخ سيذكر اسمي لا محالة ولو بعد قرن!
قال لي بمزاحٍ لا يخلو من الجد:
- أتدري أنك مغرور؟
أجبته:
- أنا مغرور لكي لا أكون "محقوراً" فنحن لا نملك الخيار يا صاحبي. إننا ننتمي إلى أمة لا تحترم مبدعيها وإذا فقدنا غرورنا وكبريائنا، ستدوسنا أقدام الأميين والجهلة!
تساءلت بعدها أأكون مغروراً حقاً؟
اكتشفت بعد شيء من التفكير، أنني لا أكون مغروراً إلا لحظة أقف أمام لوحة بيضاء وأنا ممسك بفرشاة. كم بلزمني من الغرور لحظتها لأهزم بياضها وأفضّ بكارتها، وأتحايل على ارتباكي بفائض رجولتي، وعنفوان فرشاتي؟
ولكن..
ما أكاد أنتهي منها، وأمسح يدي من كل ما علق بها من ألوان حتى أرتمي على الأريكة المجاورة، وأتأملها مدهوشاً، وأنا أكتشف أنني الوحيد الذي كان يعرق وينزف أمامها..
وأنها أنثى عربية تتلقى ثورتي ببرود وراثي مخيف!
.. ولذا، حدث في لحظات انهياراتي وخيباتي الكبرى أن مزّقت إحداهنّ وألقيت بها في سلة المهملات، بعدما أصبح وجودها يضايقني.
هنالك لوحات هي من السذاجة والبرودة بحيث تخلق عندك عقدة رجولة.. وليس فقط عقدة إبداع!
ورغم ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي وهزائمي السرية أحدٌ.
فالآخرون لن يروا غير انتصاراتي، معلّقة على الجدران في إطار جميل. وأما سلال المهملات، فستبقى دائماً في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة عن الأضواء.
فالذي يجلس أمام مساحة بيضاء للخلق، لا بدّ أن يكون إلهاً أو عليه أن يغّير مهنته.
أأكون إلهاً؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، لم يبق منها قائماً غير الأعمدة الشاهقة المتآكلة الأطراف؟
هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من الداخل كل يوم؟ شهران.. ولا شي سوى رقم هاتفي مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجفّ لها الفرشاة.
وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل.
كنت أدرى جدلية الرسم والكتابة كما أردتها أنت.
كنت تفرغين من الأشياء كلما كتبتِ عنها، وكأنك تقتلينها بالكلمات. وكنت كلما رسمت امتلأت بها أكثر، وكأنني أبعث الحياة في تفاصيلها المنسية. وإذا بي أزداد تعلقاً بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران الذاكرة.
أن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضاً، بعدما أسكنتك قلبي؟
حماقة قرّرت في البدء ألا أرتكبها. ولكنني اكتشفت ليلا بعد آخر عبثية قراري.
لماذا كان الليل هزيمتي؟
ألأنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم لأن للفن طقوس الشهوة السرية التي تولد غالباً ليلاً في ذلك الزمان الخارج عن الزمن..
والخارج عن القانون؟
على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل..
كنت أقترفك..
كنت أرسم بشفتي حدود جسدك.
أرسم برجولتي حدود أنوثتك.
أرسم بأصابعي كل ما لا تصله الفرشاة..
بيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعرّيك وألبسك وأغيّر تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي.
يا امرأة على شاكلة وطن..
امنحيني فرصة بطولة أخرى. دعيني بيدِ واحدة أغير مقاييسك للرجولة ومقاييسك للحب.. ومقاييسك للذّة! كم من الأيدي احتضنتك دون دفء! كم من الأيدي تتالت عليك.. وتركت أظافرها على عنقك، وإمضاءها أسفل جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ.
أحبك السراق والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم تقطع أيديهم.
ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل، أصبحوا ذوي عاهات.
لهم كل شيء، ولا شيء غيرك لي.
أنت لي الليلة ككل ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية؟
أنت لذّتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطق.
كلّ ليلة تسقط قلاعك في يدي، ويستسلم حراسك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري، فأمرر يدي على شعرك الأسود الطويل المبعثر على وسادتي، فترتعشين كطائر بلّله القطر. ثم يستجيب جسدك النائم لي.
كيف حدث هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟
ترى صوتك الذي تعودت عليه حد الإدمان، صوتك الذي كان يأتي شلال حبّ وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة عليّ؟
حبك هاتف يسأل "واشك؟"
يدثرني ليلاً بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه قنديل شوق، عندما تنطفئ الأضواء.
يخاف عليّ من العتمة، يخاف عليّ من وحدتي ومن شيخوختي. فيعيدني إلى الطفولة دون استشارتي. يقصّ عليّ قصصاً يصدّقها الأطفال. يغنّي لي أغنيات ينام لسماعها الأطفال.
تُرى أكان يكذب؟ هل تكذب الأمهات أيضاً؟
هذا ما لا يصدقه الأطفال!
ما الذي أوصلني إلى جنوني؟
ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعل القبل كلّ هذا؟.
أذكر أنني قرأت عن قُبل غيرت عمراً ولم أصدّق..
كيف يمكن لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر طويلاً للجبروت والتفوق أن يقع صريع قبلة واحدة، سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى معبد، صحبة " Lou" المرأة التي أحبها أكثر من كاتب وشاعر في عصرها. كان أحدهم " أبولينير" الذي تغزّل فيها طويلاً وبكاها أمام هذا الجسر نفسه، واجداً في اسمها المطابق بالفرنسية تماماً لاسم الذئب " Loup" دليلاً قاطعا على قدره معها؟
أما (نيتشه) القائل "عندما تزور امرأة لا تنس أن تصحب معك العصا" فقد كان أمامها رجلاً محطما، ضعيفاً، وبدون إرادة. حتى إن أمه قالت يوماً "لم تترك هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثلاثة: إما أن يتزوجها.. أو ينتحر.. أو يصبح مجنوناً!".
كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل أخجل من ضعفي معك، وأنا لست فيلسوفاً للقوة، ولست شمشون الذي فقد شعره وقوته الأسطورية بسبب قبلة؟
هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأ عمري على شفتيك؟
لا أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هل انتحر أم أصبح مجنوناً؟
أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلّبات نفسية متناقضة، كدت ألامس فيها شيئاً يشبه الجنون، ذلك الجنون الذي كان يغريك، وكنت تتغزّلين لي به كثيراً، وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية.
فليكن.. سأعترف لك اليوم، بعد كل تلك السنوات، أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل.
أكان عشقاً فقط، أم لأهديك لا شعورياً اللعبة التي لم تكوني قد حصلت عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به.
حدث كثيراً وقتها، أن استعدت قصتي معك فصلا فصلا.
كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو لي حبك قصة أسطورية أكبر منك ومني. شيئاً ربما كان مقدراً مسبقاً منذ قرون، منذ.. كانت قسنطينة مدينة تدعى (سيرتا).
ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجلاً استوقفتك ذاكرته وأغراك جنونه بقصة ما؟
ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما، تحلمين بارتكابها في كتاب قادم؟
ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "الإجرامي" فيك، فأذكر أنني كنت أيضاً نسخة عن والدك. وأنني بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى الأبد ذاك الجسر السري الذي كان يجمعنا.
آنذاك، كنت أقرر الاعتذار منك. وأستيقظ من نومي وأتجه إلى مرسمي. أجلس طويلاً أمام لوحتك البيضاء وأتساءل: من أين أبدأك؟
أتأمل طويلاً صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها دون إهداء. أكتشف أن وجهك لا علاقة له بالصورة. فكيف أضع عمراً لوجهك الجديد والقديم معاً. كيف أنقل عنك نسخة دون أن أخونك؟
أتذكر وسط ارتباكي ( ليوناردو دافنشي)، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادراً على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان نفسه. بأي يد تراه رسم (الجوكندا) ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن أرسمك أنا؟
ماذا لو كنت المرأة التي لا ترسم إلا باليد اليسرى، تلك التي لم تعد يدي؟
خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس لأتفرج عليك عساني أكتشف أخيراً سرك. فربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهمك.
فكرت حتى في إمكانية عرض تلك للوحة مقلوبة في معرض. سيكون اسمها "أنت".
سيتوقف أمامها الكثيرون. وقد يعجبون بها، دون أن يتعرف أحدهم تماما عليك.
أليس هذا ما تريدين في النهاية؟!
***
مرّ أكثر من أسبوع، وأكثر من نشرة جوية قبل أن يأتي صوتك ذات صباح دون مقدمات:
- كيف أنت؟
اندهش القلب الذي لم يتوقع هدية صباحية كتلك. وارتبك الكلام:
- وينك؟
كان صوتك يبدو قريباً أو هكذا خيّل لي. ولكنك أجبتني بضحكة أعرف مراوغتها:
- حاول أن تحزر!
أجبتك كمن يحلم:
- هل عدتِ إلى باريس؟
ضحكت وقلت:
- أي باريس.. أنا في قسنطينة. جئت هنا منذ أسبوع لأحضر زواج إحدى القريبات.. وقلت لا بد أن أطلبك من هنا. طمّني عنك ماذا تفعل في هذا الصيف.. ألم تسافر إلى أيّ مكان؟
اختصرت عذابي في بضع كلمات قلت:
- إنني متعب.. جدّ متعب.. كيف لم تتصلي بي حتى الآن؟
فقلت وكأنك طبيب سيكتب وصفة لمريض، أو شيخ يطلب منه كتابة حجاب أو تعاويذ سحرية:
- سأكتب لك.. والله سأكتب لك قريباً.. يجب أن تعذرني. أنت لا تدري كم الحياة هنا مزعجة وصعبة. إن الواحد لا يخلو لنفسه في هذه المدينة ولو لحظة. حتى الكلام على الهاتف مغامرة بوليسية..
- وماذا تفعلين؟
- لا شيء.. أنتقل من بيت إلى آخر، ومن دعوة إلى أخرى. حتى المدينة لم أتجول فيها على قدمي، لقد عبرتها بالسيارة فقط..
ثم أضفت وكأنك تذكرت فجأة شيئاً هاماً:
- أتدري.. أنت على حق. إن أجمل ما في قسنطينة، جسورها لا غير. لقد ذكرتك وأنا أعبرها..
كنت أود تلك اللحظة لو سألتك "هل تحبينني؟" ولكنني سألتك بحمافة:
- هل تحبينها؟.
أجبتني بعد شيء من الصمت، وكأنني طرحت عليك سؤالاً يستدعي التفكير:
- ربما بدأت أحبها..
قلت:
- شكراً..
ضحكت.. قلت وأنت تنهين المكالمة:
- أيها الأحمق.. لن تتغير!
***

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 28-03-09, 01:10 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Shot

 

المرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج.. ويفتح عينيه لينظر إلى الباطن.. وما النظر سوى تسلقك الجدار الفاصل بينك وبين الحرية..".
في ذلك الصباح، أشعلت سيجارة صباحية على غير عادتي. وجلست على شرفتي أمام فنجان قهوة، أتأمل نهر السين، وهو يتحرك ببطء تحت جسر ميرابو.
كانت زرقته الصيفية الجميلة، تستفزّني ذلك الصباح دون مبرر. تذكرني فجأة بالعيون الزرق التي لا أحبها.
أترى لأنه لا نهر في قسنطينة.. أعلنت العداء على هذا النهر؟
نهضت دون أن أكمل سيجارتي. كنت فجأة على عجل.
فليكن.. عفوك أيها النهر الحضاري. عفوك أيها الجسر التاريخي. عفوك صديقي (أبولينير). هذه المرة أيضاً سأرسم جسراً آخر غير هذا.
كنت هذه المرة ممتلئاً بك، بصوتك القادم من هناك، ليوقظ من جديد تلك المدينة داخلي.
ألم أكن قد لمست الفرشاة من ثلاثة أشهر. وكان داخلي شيء ما على وشك أن ينفجر بطريقة أو بأخرى. كل تلك الأحاسيس والعواطف المتضاربة، التي عشتها قبل رحيلك وبعده، والتي تراكمت داخلي كقنبلة موقوتة.
وكان لا بد أن أرسم لأرتاح أخيراً.
أرسم ملء يدي.. ملء أصابعي. أرسم بيدي الموجودة وبتلك المفقودة. أرسم بكل تقلباتي، بتناقضي وجنوني وعقلي، بذاكرتي ونسياني. حتى لا أموت قهرا ذات صيف، في مدينة فارغة إلا من السواح والحمام.
وهكذا بدأت ذلك الصباح لوحة لقنطرة جديدة، قنطرة سيدي راشد.
لم أكن أتوقع يومها وأنا أبدأها، أنني أبدأ أغرب تجربة رسم في حياتي، وأنها ستكون البداية لعشر لوحات أخرى، سأرسمها في شهر ونصف دون توقف، إلا لسرقة ساعات قليلة من النوم، أنهض منها غالباً مخطوفاً بشهية جنونية للرسم.
كانت الألوان تأخذ فجأة لون ذاكرتي، وتصبح نزيفاً يصعب إيقافه.
ما كنت أنتهي من لوحة حتى تولد أخرى، وما أنتهي من حيّ حتى يستيقظ آخر، وما أكاد أنتهي من قنطرة، حتى تصعد من داخلي أخرى..
كنت أريد أن أرضي قسنطينة حجراً.. حجراً، جسراً.. جسراً.. حياً.. حياً، كما يرضي عاشق جسد امرأة لم تعد له.
كنت أعبرها ذهاباً وإياباً بفرشاتي، وكأنني أعبرها بشفاهي. أقبّل ترابها.. وأحجارها وأشجارها ووديانها. أوزّع عشقي على مساحتها قُبلاً ملونة. أرشها بها شوقاً.. وجنوناً.. وحباً حتى العرق.
وكنت أسعد وذلك القميص يلتصق بي، بعد ساعات من الالتحام بها.
العرق دموع الجسد. ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة. ولا من أجل أية لوحة. الجسد يختار لمن يعرق.
وكنت سعيداً أن تكون قسنطينة، هي اللوحة التي بكى لها جسدي.
في ذلك الشهر الأخير من الصيف، كنت ما أزال أتوقع رسالة منك، تعطيني شيئاً من القوة والحماسة اللتين افتقدتهما خلال الشهرين الماضيين لغيابك. عندما فاجأتني رسالة من زياد.
كانت رسائله القادمة من بيروت تدهشني دائماً حتى قبل أن أفتحها.
كنت أتساءل كل مرة، كيف وصلت هذه الرسالة إلى هنا؟ من أي مخيم أو من أية جبهة، تحت أي سقف مدمر يكون قد كتبها؟ أي صندوق أودعها، وكم من ساعي بريد تناوب عليها حتى تصل هنا، داخل صندوق بريدي.. بالحي السادس عشر بباريس؟
كنت أعاملها دائماً بحب خاص. كانت تذكرني بزمن حرب التحرير، يوم كنا نبعث الرسائل لأهلنا مهربة تحت الثياب.
كم من الرسائل لم تصل، وماتت مع أصحابها! وكم من الرسائل وصلت بعد فوات الأوان. هنالك قصص تصلح لأكثر من رواية.
آخر رسالة لزياد كانت تعود لما يقارب السنة.
كان يحدث أن يكتب لي هكذا دون مناسبة، رسائل مطوّلة أحياناً، وموجزة أحياناً أخرى، كان يسمّيها "إشعار بالحياة".
في البدء ضحكت لهذه التسمية التي يريد أن يخبرني بها فقط أنه مازال على قيد الحياة.
بعدها أصبحت أخاف صمته الطويل، وانقطاع رسائله. فقد كان يحمل لي احتمال إشعار بشيء آخر.
هذه المرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في بداية أيلول. وأنه ينتظر جواباً سريعاً مني ليتأكد من وجودي في باريس في هذه الفترة.
فاجأتني رسالته.. وأسعدتني وأدهشتني.
ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ما كدت أذكره معكِ حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا سيكون رد فعلك إذا قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن يكون قد مات، وأبديت اهتماماَ بقصته؟
كان الصيف ينسحب تدريجياً. وكنت أستعيد توازني تدريجياً كذلك.
لقد أنقذتني تلك اللوحات من الانهيار. كان لا بد أن أرسمها لأخرج من تلك المطبات الجنونية التي وضعت عليها قدميّ معك.
كنت قد فقدت كثيراً من وزني. ولكن لم يكن ذلك يعنيني. أو ربما لم أكن وقتها لأنتبه له، بعدما أصبحت أنظر إلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى نفسي في مرآة.
كنت أعتقد أن الذي خسرته من وزن في أيام، هو الذي ربحته من مجد إلى الأبد. ولذا كان يحلو لي أن أتأمل نزيفي وجنوني معلّقاً أمامي: إحدى عشرة لوحة لم تعد تكفيها جدران البيت.
وربما جاء تعلّقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا أضع فرشاتي لآخر مرة وأنا أنتهي منها، أنه قد تمر عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في الرسم.
فقد كنت فرغت مرة واحدة من ذاكرتي.. وارتحت.
كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة ترقّب للسعادة.
ستعودين أخيراً.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره من قبل. كانت الثياب الشتوية المعروضة في الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي تملأ رفوف المحلات، تعلن عودتك.
والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلها كانت تحمل حقائبك.
ستعودين..
مع النوء الخريفي، مع الأشجار المحمرة، مع المحافظ المدرسية.
ستعودين..
مع الأطفال العائدين إلى المدارس، مع زحمة السيارات، مع مواسم الإضرابات، مع عودة باريس إلى ضوضائها.
مع الحزن الغامض.. مع المطر.
مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون.
ستعودين لي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب الليالي الثلجية.
أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة لأندريه جيد "لا تهيئ أفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟
كنتِ في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسط الأعاصير والدمار. كنتِ معطفاً لغيري وبرداً لي.
كنتِ الأحطاب التي أحرقتني بدل أن تدفئني.
كنت أنتِ.
وكنت أنتظر أيلول إذن..
أنتظر عودتك لنتحدث أخيراً بصدق مطلق. ماذا تريدين مني بالتحديد. ومن أكون أنا بالنسبة إليك.. وما اسم قصتنا هذه؟
أخطأت مرة أخرى.
لم يكن الوقت للسؤال ولا للجواب. كان وقتا لجنون آخر.
كنت أنتظر الأمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى، اسمها زياد..
وكانت الأعاصير.
لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ خمس سنوات بباريس. ربما أصبح فقط أكثر امتلاءً، أكثر رجولة مع العمر، من ذلك الوقت الذي زارني فيه لأول مرة في الجزائر سنة 1972 في مكتبي. يوم كان شاباً فارعاً بوزن أقل، وربما بهموم أقل أيضاً.
مازال شعره مرتباً بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوماً على ربطة عنق، مفتوحاً دائماً بزرٍ أو زرين. وصوته المميز دفئاً وحزناً، يوهمك أنه يقرأ شعراً، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو وكأنه شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو.
في كل مدينة قابلته فيها، شعرت أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر.
كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالساً على حقائبه. لم يكن يوماً مرتاحاً حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراً لا يدري متى يأتي.
ها هو ذا.. كما تركته، محاطاً بأشيائه الصغيرة ومحملاً بالذاكرة، ومرتدياً سروال الجينز نفسه، كأنه هويته الأخرى.
كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزّة، من عمان.. ومن بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا.
كان يشبه كلّ من أحب. فيه شيء من بوشكين، من السيّاب.. من الحلاج، من ميشيما.. من غسان كنفاني.. ومن لوركا وتيودوراكيس.
ولأنني كثيراً ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت كل ما أحب ومن أحب، دون أن أدري.
كنت في حاجة إليه في تلك الأيام.
شعرت وأنا أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه السنوات دون أن أدري، وأنني بعده لم ألتقِ بشخصٍ يمكن أن أدعوه صديقاً.
ها هو زياد. باعدتنا الأيام وباعدتنا القارات. ووحدها قناعاتنا القديمة ظلّت تجمعنا.
ولذلك لم تزل في القلب مكانته الأولى. فلم يحدث لزياد أن فقد احترامي لسبب أو لآخر خلال كل هذه السنوات.
أليس هذا أمراً نادراً هذه الأيام؟
جاء زياد..
واستيقظ البيت الذي ظلّ مغلقاً لشهرين في وجه الآخرين،حتى في وجه كاترين نفسها.
راح زياد يملأه بحضوره، بأشيائه وفوضاه، بضحكته العالية أحياناً، وبحضوره السري الغامض دائماً. فأكاد أشكره فقط، لأنه أشرع نوافذ هذا البيت، واحتل غرفة من غرفه.. وربما احتلّه كله.
عُدنا تلقائياً إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس سنوات، عندما زارني لأول مرة في باريس.
رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريباً. جلسنا وتحدثنا في الموضوعات نفسها تقريباً، فلا شي تغيّر منذ ذلك الحين. لم يسقط نظامٌ عربي واحد من تلك الأنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ عرفته. لم يحدث أيّ زلزال سياسي هنا أو هناك، ليغيّر خريطة هذه الأمة.
وحده لبنان أصبح وطناً للزلازل والرمال المتحركة. ولكن من تراه سيبتلع في النهاية؟
كان هذا هو السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش يصبّ في النهاية دائماً في القضية الفلسطينية، وفي خلافات فصائلها، والمعارك التي حدثت بين عناصرها في لبنان، والتصفيات الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في الخارج.
كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في فورة غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا أكتشف بعضها لأول مرة.
وأكتشف أيضاً أن لكل ثوّار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم ومعايشتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمنٍ آخر وثورة أخرى.
ربما كان هذا الأسبوع هو أجمل الأيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات ألا أذكر غيرها، حتى لا أشعر بالمرارة ولا بالحسرة على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عن صواب.
كل ما مرّ بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم هكذا وجهاً لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة..
له قلت: "سنتغدّى غدا مع صديقة كاتبة.. لا بد أن أعرفك عليها..".
لم يبد عليه اهتمام خاص بكلامي. قال على طريقته الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسة الأدب تعويضاً عن ممارسات أخرى.. أتمنى ألا تكون صديقتك هذه عانساً، أو امرأة في سن اليأس.. فأنا لا صبر لي على هذا النوع من النساء!"
لم أجبه. رحت أتعمق في فكرته.. وأبتسم!
على الهاتف قلت لك: "تعالي غداً للغداء في ذلك المطعم نفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها.."
قلتِ:
"إنها لوحتي.. أليس كذلك؟"
أجبتك بعد شيء من التردد: "لا.. إنها شاعر!"
***
التقيتما إذن..
ويمكن أن أقول هذه المرة أيضاً:
"الذين قالوا وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح دون أن تنحني، لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى. وعندها لا تتصافح، بل تتحول إلى تراب واحد".
التقيتما إذن.. وكان كلاكما بركاناً.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضاً أنا الضحية!
مازلت أذكر ذلك اليوم..
وصلتِ متأخرة بعض الشيء، وكنت مع زياد قد طلبنا مشروباً في انتظارك..
ودخلتِ..
كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.
فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.
ها أنت ذي أخيراً..
أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.
ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟
وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:
- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟
ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:
- كيف عرفتِ؟
استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:
- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..
ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:
- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟
تدخّل زياد ليقول ساخراً:
- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!
وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:
- ماذا رسم؟
أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:
- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..
صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:
- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!
ثم وجّهتِ كلامك إليّ:
- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟
كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"
ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:
- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..
رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.
كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.
كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.
بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.
كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.
كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.
سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"
ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.
لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!
ربما كان زياد يشبهك أيضاً..
اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.
كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.
ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟
لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.
قلتِ له:
- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..
ورحت تقرأين أمام دهشة زياد:
"تربّص بي الحزن لا تتركيني لحزن المساء
سأرحل سيدتي
أشرعي اليوم بابك قبل البكاء
فهذي المنافي تغرّر بي للبقاء
وهذي المطارات ***** في انتظار
تراودني للرحيل الأخير..."
كنت أستمع إليك تقرئين شعراً لأول مرة.
كان في صوتك موسيقى لآلة لم تخلق بعد أتعرف عليها لأول مرة في حزن نبرتك التي خلقت في البدء للفرح.. فإذا بها عزف لشيء آخر.
وكان زياد يستمع إليك بشيء من الذهول، وكأنه فجأة يجلس خارج الزمن وخارج الذاكرة.
كأنه أخيراً قرر أن يجلس على شيء آخر غير حقائبه ليستمع إليك.
وعندما سكتِّ.. راح يقرأ بقية تلك القصيدة وكأنه يقرأ لك طالعه لا غير:
"ومالي سواكِ وطن
وتذكرة للتراب.. رصاصة عشق بلون كفن
ولا شيء غيرك عندي
مشاريع حبّ.. لعمر قصير!"
في تلك اللحظة.. شعرت أن شحنة من الحزن المكهرب وربما الحب المكهرب أيضاً قد سرت بيننا، واخترقتنا نحن الثلاثة.
كنت أحب زياد.. كنت مبهوراً به. كنت أشعر أنه يسرق مني كلمات الحزن، وكلمات الوطن، وكلمات الحب أيضاً..
كان زياد لساني، وكنت أنا يده كما كان يحلو له أن يقول.
وكنت أشعر في تلك اللحظة.. أنك أصبحت قلبنا.. معاً!
***
كان يجب أن أتوقع كل الذي حدث.
فهل كان يمكن أن أوقف انجرافكما بعد ذلك؟
كنت شبيهاً بذلك العالم الفيزيائي الذي يخترع وحشاً، ثم يصبح عاجزاً عن السيطرة عليه.
كنت أكتشف بحماقة أنني صنعت قصتكما بيدي. بل وكتبتها فصلاً فصلاً بغباء مثالي، وأنني عاجز عن التحكم في أبطالي.
كيف يمكن أن أضع أمامك رجلاً يصغرني باثنتي عشرة سنة، ويفوقني حضوراً وإغراءً، وأحاول أن أقيس نفسي به أمامك؟
كيف يمكن أن أفكّ صلة الكلمة التي كانت تجمعكما بتواطؤ، وأمنع كاتبة أن تحبّ شاعراً تحفظ أشعاره عن ظهر قلب؟
وكيف أقنعه هو الذي ربما لم يشفَ بعد من حبه الجزائري السابق، ألا يحبك أنت التي جئت لتوقظي الذاكرة، وتشرعي نوافذ النسيان؟
كيف حدث هذا.. وكيف أتيت بكما لأضعكما أمام قدركما.. الذي كان أيضاً قدري!
قال لي ذلك المساء:
- إنها رائعة هذه الفتاة.. لا أذكر أنني قرأت لها شيئاً، فربما بدأت الكتابة بعدما غادرت الجزائر حسب ما فهمت. ولكنني أعرف هذا الاسم.. لقد سبق أن قرأته في مكان ما.. إنه ليس غريباً عليّ.
قلت له وقتها:
- أنت لم تقرأ هذا الاسم وإنما سمعته فقط. إنه اسم لشارع في الجزائر يحمل اسم أبيها (الطاهر عبد المولى) الذي استشهد أثناء الثورة.
وضع زياد جريدته ونظر إليّ دون أن يقول شيئاً.
أحسسته ذهب بعيداً في تفكيره.
تراه بدأ أيضاً يكشف كل الهوامش المثيرة للقائكما في تلك الظروف.. وكل التفاصيل العجيبة التي لا يمكن أن يبقى محايداً أمامها؟
شعرت برغبة في الكلام عنك أكثر.
كنت على وشك أن أحدثه عن سي الطاهر. كدت أخبره أنك ابنة قائدي وصديقي. كدت أقصّ عليه حتى قصّتي العجيبة معك. أنت التي كان يمكن أن تكوني ابنتي، قبل أن تصبحي فجأة بعد ربع قرن حبيبتي!
كدت أحكي له قصة لوحتي الأولى (حنين) وتصادفها مع ميلادك. وقصة لوحاتي الأخيرة وعلاقتها بك.. وسبب تدهور صحتي وجنوني الأخير..
كدت أشرح له سر قسنطينة.
أصَمتُّ لأحتفظ بسرّك لي كما نحتفظ بسر كبير نتلذّذ بحمله وحدنا؟ أكان لحبك نكهة العمل السري ومتعته القاتلة؟.
أنم تراني كنت أخجل أن أعترف له دون أن أدري أنك حبيبتي، هو الذي لم أخجل منه يوماً والذي تقاسمت معه كل شيء؟
ألأنك حبّ لم يُخلق ليُقتسم، قررت منذ البدء أن تكوني لأحدنا.. فقط؟
أعن صداقة أو حماقة، كنت أريد أن أمنحه فرصة حبك الذي قد يكون حبّه الأخير، وأياماً من السعادة المسروقة من الموت المحتمل الذي كان يتربص به في كل حين.. وفي كل مدينة؟
ماذا جاء زياد يفعل في باريس؟ من الواضح أنه لم يأت في زيارة سياحية. ربما جاء ليقوم ببعض الاتصالات السرية، يلتقي ببعض الجهات.. يتلقى أو يعطي تعليمات لا أدري..
ولكنه كان قلقاً شيئاً ما. كان يتحاشى أخذ مواعيده على الهاتف، وكان لا يغادر البيت بمفرده إلا نادراً.
ولم أطرح عليه يوماً أي سؤال حول سبب زيارته لباريس. كان هناك شيء من بقايا فترة كفاحية في حياتي، تجعلني أحترم أسرار الآخرين عندما يتعلق ذلك بقضايا نضالية.
كنت أحترم سره، وكان يحترم صمتي. ولهذا نقلنا سرنا وصمتنا حتى قصتنا المشتركة معك.
أكان بحدسه المفرط يتوقع شيئاً ما بيني وبينك؟
أم تراه أمام تظاهري باللامبالاة، لم يتوقع وجود حبّ ملتهب كهذا في أحشائي.
وكيف يمكن أن يتوقع ذلك، وأنا أنسحب تدريجياً على رؤوس الأصابع، لأترك له المجال تدريجياً لمزيد من التوسّع؟
كنت أدعه يجيب على الهاتف نيابة عني. يتحدث إليك ويدعوك إلى البيت نيابة عني.
وكنت تأتين، وأحاول ألا أسأل نفسي لمن جئت.. ولمن تراك تجمّلتِ؟
ربما كان أكثر الأيام وجعاً يوم زرت البيت بعد ذلك لأول مرة.
كان لا بد أن ينبهك زياد للوحاتي لتنتبهي إليها. رحت تنتقلين من غرفة إلى أخرى وكأنك تعبرين غرف بيتك. لم يستوقفك ذلك الممر، ولا ذكرى قبلة قلَبت حياتي رأساً على عقب.
أكانت تلك اللحظة هي الأكثر ألماً، أم عندما فتحت (خطأ؟) باباً، فقلت لك موضّحاً "هذه غرفة زياد". فوقفت أمام ذلك الباب نصف المفتوح، لحظات بدت لي أطول مما قضيته من وقت أمام كل لوحاتي مجتمعة.
قلت وأنت تعودين إلى الصالون وتجلسين على تلك الأريكة نفسها:
- لا أفهم أن تكون رسمت كل هذه الجسور.. جنون هذا.. كان يكفي لوحة أو اثنتان..
أعن قناعة أم عن لياقة تطوع زياد ليجيبك نيابة عني، بعدما لاحظ وقع كلماتك عليّ، ولاحظ تلك الخيبة التي أفقدتني صوتي:
- أنت لم تتأملي هذه اللوحات.. لقد حكمت عليها من النظرة الأولى.. وفي الرسم، اللوحات لا تتطابق وإن تشابهت. هنالك أرقام سرية تفتح لغز كل لوحة.. شيء شبيه بـ (الكود) لا بد من البحث عنه للوصول إلى ذلك الإشعار بشيء ما يريد أن يوصله إلينا صاحبها..
لو مررت بنفس هذه السرعة أمام لوحة (لاعبي الورق) الشهيرة، لما لاحظت سوى لاعبين جالسين أمام طاولة، ولما انتبهت إلى كونهما يمسكان بأوراق بيضاء يخفيانها على بعض. إن ما أراد أن ينقله لنا "سيزان" ليس مشهداً للعبة الورق بل مشهد من التزوير المتّفق عليه.. وربما المتوارث مادام أحد اللاعبين أكبر من الثاني سناً.
وقبل أن يواصل زياد كلامه قاطعته قائلة:
- من أين تعرف كل هذا.. هل أنت خبير أيضاً في الرسم.. أم أن عدوى خالد انتقلت إليك؟
ضحك زياد واقترب منك بعض الشيء وقال:
- ليس هذا ميدان خبرتي على الإطلاق.. إنه ترف ليس في متناول رجل مثلي.. بل إن جهلي في الفن سبفاجئك. أنا لا أعرف غير قلة قليلة من الرسامين اكتشفت أعمالهم عن طريق المصادفة.. وفي الكتب المختصة غالباً.. ولكنني أحب بعض المدارس الحديثة التي تطرح أسئلة من خلال أعمالها..
الفن للفن لا يقنعني، والجوكندة المحترمة لا تهزّني. أحب الفن الذي يضعني في مواجهة وجودية مع نفسي، ولهذا أعجبت بلوحات خالد الأخيرة.. إنها أول مرة يدهشني فيها حقاً.
لقد توحّد مع هذا الجسر لوحة بعد أخرى في فرحٍ ثم في حزن متدرج حتى العتمة، وكأنه عاش يتوقيته يوماً أو عمراً كاملاً..
في اللوحة الأخيرة لا يظل بادياً من الجسر سوى شبحه البعيد تحت خيط من الضوء. كل شيء حوله يختفي تحت الباب فيبدو الجسر مضيئاً، علامة استفهام معلّقة إلى السماء. لا ركائز تشدّ أعمدته إلى أسفل، لا شيء يحدّه على يمينه ولا على يساره، وكأنه فقد فجأة وظيفته الأولى كجسر!
أترى بداية الصبح عندئذ أم بداية الليل؟ أتراه يحتضر أم يولد مع خيط الفجر؟ إنه السؤال الذي يبقى معلّقاً كالجسر لوحة بعد أخرى، مطارداً بلعبة الظلّ والضوء المستمر، بالموت والبعث المستمر، لأن أي شيء معلّق بين السماء والأرض هو شيء يحمل موته معه.
كنت أسمتع إلى زياد مدهوشاً، وربما اكتشفت شيئاً لم يخطر ببالي لحظة رسم كل هذه اللوحات.
أحقٌّ ما قاله؟
من المؤكد أن زياد كان يتحدث عن لوحاتي خيراً مني. مثل كل النقاد الذين يعطونك شروحاً مدهشة لأعمال فنية قمت بها أنت بكل بساطة، دون أية تساؤلات فلسفية، فيضحكونك إذا كنت فناناً صادقاً وبسيطاً لا تهمّك الرموز والنظريات المعقّدة في الفن. وقد يملأونك غروراً وجنوناً، إذا كنت مثل الكثيرين الذين يأخذون أنفسهم مأخذ الجد، ويبدأون عندئذٍ بالتنظير بمدرسة فنية جديدة!
كان في تحليل زياد حقيقة هامة أدهشتني ولم أنتبه لها من قبل.
لقد كنت أعتقد وأنا أرسم تلك الجسور أنني أرسمك، ولم أكن في الواقع أرسم سوى نفسي. كان الجسر تعبيراً عن وضعي المعلّق دائماً ومنذ الأزل. كنت أعكس عليه قلقي ومخاوفي ودواري دون أن أدري.
ولهذا ربما كان الجسر هو أول ما رسمت يوم فقدت ذراعي.
فهل تعني كل هذه الجسور، أن لا شيء تغيّر في حياتي منذ ذلك الحين؟
ربما كان هذا هو الأصح.. ولكن ليس هذا كل شيء. وقد كان يمكن لزياد أن يفلسف أيضاً رمز الجسر بأكثر من طريقة.. ولكن من المؤكد أنه لن يذهب أبعد من الرموز المعروفة، لأن رموزنا تأخذ بعدها من حياتنا فقط، وزياد في النهاية لم يكن يعرف كلّ ثنايا ذاكرتي.
ولم يكن زار تلك المدينة التي تعرف وحدها سرّ الجسور!
تذكّرت حين ذاك رساماً يابانيا معاصراً، قرأت عنه أنه قضى عدة سنوات وهو لا يرسم سوى الأعشاب. وعندما سُئل مرة لماذا الأعشاب دائماً.. قال: "يوم رسمت العشب فهمت الحقل.. ويوم فهمت الحقل أدركت سر العالم..".
وكان على حق. لكلٍ مفتاحه الذي يفتح به لغز العالم.. عالمه.
همنغواي فهم العالم يوم فهم البحر. وألبرتو مورافيا يوم فهم الرغبة، والحلاج يوم فهم الله، وهنري ميلر يوم فهم الجنس، وبودلير يوم فهم اللعنة والخطيئة.
وفان غوغ.. تراه فهم حقارة العالم وساديّته، عندما كان يجلس محموماً معصوب الرأس أمام تلك النافذة التي لم يكن يرى منها.. غير حقول عبّاد الشمس الشاسعة فلا يملك أمام إرهاقه إلا أن يرسم أكثر من لوحة للمنظر نفسه؟
لأن يده المحمومة لم تكن تقدر على رسم أكثر من تلك الزهور البسيطة الساذجة.
ولكنه.. كان يواصل الرسم برغم ذلك، لا ليعيش من لوحاته وإنما لينتقم لها ولو بعد قرن.
ألم يقل لأخيه تلك النبوءة التي حطّمت بعدها كلّ الأرقام القياسية في ثمن لوحة (عباد الشمس): "سيأتي يوم يفوق فيه ثمن لوحاتي.. ثمن حياتي".
تساءلت وأنا أصل إلى هذه الفكرة: هل الرسامون أنبياء أيضاً؟.
ثم رحت أربط هذه الفكرة بتعليق زياد "كل شيء معلّق يحمل موته معه.."
وإذا بي أسأل نفسي، أيّة نبوءة تحمل كلّ اللوحات التي رسمتها في درجة متقدمة من اللاوعي والجنون؟ أمَوْت أم ميلاد تلك المدينة؟ أصمود جسورها المعلقة منذ قرون في وجه أكثر من نشرة جوية وأكثر من ريح مضادّة؟ أم سقوطها جميعاً في دمار هائل مفاجئ، في تلك اللحظة التي لا يفصل فيها بين الليل والنهار سوى خيط باهت للغفلة.. غفلة التاريخ!
كنت تحت تأثير تلك الرؤية المذهلة، عندما جاء صوتك لينتزعني من هواجسي.
قلتِ وأنت توجّهين حديثك إليّ:
- أتدري خالد.. إن من حسن حظك أنك لم تزر قسنطينة منذ عدة سنوات.. وإلا لما رسمت من وحيها أشياء جميلة كهذه. يوم تريد أن تشفى منها عليك أن تزورها فقط.. ستكفّ عن الحلم!
طبعاً، لم أكن أدري آنذاك، أنك ذات يوم ستتكلّفين شخصياً بقتل ذلك الحلم، وتوصليني في ما بعد حتى أعتاب قسنطينة مكرهاً.
تدخّل زياد ليقول كلاماً جاء هذه المرة أيضاً سابقاً لوقته.. كالنبوءة.
قال بشيء من العتاب المهذّب:
- لماذا تصرين على قتل حلم هذا الرجل؟. هنالك أحلام نموت على يدها، دعيه سعيداً ولو بوهمه..
لم تعلّقي على كلامه، وكأن أحلامي لم تعد تهمك بالدرجة الأولى. سألته فقط:
- وأنت.. ما هو حلمك؟
قال:
- ربما مدينة ما أيضاً..
- هل اسمها الخليل؟
قال مبتسماً:
- لا.. نحن لا نحمل دائماً أسماء أحلامنا.. ولا ننتسب لها
اسمي الخليل ومدينتي اسمها غزة.
- ومنذ متى لم تزرها؟
- منذ حرب حزيران.. أي منذ خمس عشرة سنة تماماً..
ثم أضاف:
- يضحكني الذي يحدث لخالد اليوم، كان يقنعني في الماضي يوم كنّا في الجزائر بالزواج والعيش هناك نهائياً. لم يكن يفهم أن تطاردني تلك المدينة إلى درجة إخراجي من كل المدن. وها هو الآن يصل إلى كلامي من تلقاء نفسه، ويصبح بدوره مسكوناً بمدينة، مطارداً بها.
العجيب أنه لم يحدّثني عنها أي مرة.. وكأنه لم يكن يوليها اهتماماً من قبل. هنالك أشياء شبيهة بالسعادة لا ننتبه لوجودها إلا بعدما نفتقدها!
ربما كان ذلك ما حدث لي.. فقد كنت أعي تدريجياً أنني كنت سعيداً معك قبل تلك العطلة الصيفية.. وقبل مجيء زياد.. وقبل أن يتحول حبنا من عشق ثنائي عنيف إلى حب مثلث الأطراف كل زواياه متساوية، ومن لعبة شطرنج يحكمها لاعبان متقابلان، ويملأ الحب فيها كل المربعات السوداء والبيضاء، بقانون المد والجزر العشقي، إلى لعبة طاولة، نجلس حولها نحن الثلاثة، بأوراقنا المقلوبة، وأحزاننا المقلوبة، بنبضات قلبنا المشتركة، بذاكرتنا المشتركة، نتربّص ببعضنا ونخلق قوانين جديدة للحب.. نزوّر الأوراق التي نملك النسخ نفسها منها، نحتال على منطق الأشياء لا ليربح أحدنا الجولة، وإنما لكي لا يكون بيننا من خاسر، وحتى تكون نهايتنا أقلّ وجعاً من البداية.
كان واضحاً أن زياد كان يشعر أنني أحبك بطريقة أو بأخرى. ولكنه لم يكن يعي جذور ذلك الحب ومداه. ولذا كان ينساق إلى حبك دون تفكير ودون شعور بالذنب.
لم يكن لأحدنا وعي كامل لينتبه إلى أن العشق اسم ثنائي لا مكان فيه لطرف ثالث. ولذا عندما حوّلناه إلى مثلث، ابتلعنا كما يبتلع مثلث "برمودا" كل البواخر التي تعبره خطأ؟
كيف وصلنا إلى هنا.
أيّ ريح حملتنا إلى هذه الديار الغريبة عن طقوسنا؟ أيّ قدر بعثرنا ثم أعاد جمع أقدارنا المتناقضة المبعثرة، وأعمارنا وتواريخنا المتفاوتة، ومعاركنا وأحلامنا المتباعدة، وأوقفنا هنا، أطرافاً في معركة نخوضها مع بعضنا ضد بعضنا دون وعي؟
بعد أشهر قرأت بين أوراق زياد خاطرة، أدهشتني بتطابقها مع أحاسيسي هذه، كتب فيها:
"عشقنا جولة أخرى خسرناها في زمن المعارك الفاشلة، فأيّ الهزائم أكثر إيلاماً إذن؟
مقدراً كان كلّ الذي حصل.
شعبين كنا لأرض واحدة.
ونبيين لمدينة واحدة.
وها نحن قلبان لامرأة واحدة.
كل شيء كان معدّاً للألم. (هل يسعنا العالم معاً؟).
ها نحن نتقاسم كبرياءنا رغيفاً عربياً مستديراً كجرحنا. رصاصة مستديرة الرأس.. أطلقوها على مربع أحمر، يتدرب فيه القدر على إطلاق الرصاص على دوائر سوداء تصغر تدريجياً كالدوّار.. حتى تصل مركز الموت..
حيث الرصاصة لا تخطئ.
حيث الرصاصة لا ترحم.
وحيث سيكون قلب أحدنا.."
كان زياد في تلك الأمسيات الشتائية، يسهر أحياناً في غرفته ليكتب. وكنت أرى في ذلك علامة لا تخطئ..
لا بد أن يكون عاشقاً ليعود إلى الكتابة بهذه الشراهة، هو الذي لم يكتب شيئاً منذ عدة سنوات.
كنت أبتسم أحياناً، وصوت موسيقى خافتة ينبعث من غرفته حتى ساعة متأخرة من الليل.
كأن زياد كان يريد أن يملأ رئتيه بالحياة، أو كأنه لم يكن يثق بها تماماً. ويخاف إن هو نام أن تسرق منه شياً.
كان يستمع دائماً إلى الأشرطة نفسها التي لا أدري من أين أحضرها، والتي لم أكن مولعاً بها أنا على وجه التحديد، كالموسيقى الكلاسيكية.. وشريط لفيفالدي وآخر لتيودوراكيس.
وكنت أقول لنفسي وأنا أقضي أحياناً سهرة كاملة بمفردي أمام التلفزيون:
" إنه يعيش جنونه أيضاً. هنالك جنون الصيف.. وهنالك جنون الشتاء. انتهى جنوني وبدأ جنونه!".
ولكن.. كيف يمكن لي أن أعرف درجات جنونه هذا؟ من أين آتي بمقياس للزلزال، أعرف منه ما يحدث في أعماقه بالتحديد؟
كيف يمكن ذلك، ونوباته كتابات سرية لا يدري بها غير الورق. بينما يعلّق جنوني على الجدران إحدى عشرة لوحة تشهد ضدي.. وتفضحني.
فهل انتهى جنوني حقاً؟
لا.. أصبح فقط جنوناً داخلياً لا علاقة له بالإبداع. أصبح أحاسيس مرضيّة أبذّرها هباءً في الغيرة واليأس.
كان إذا غيّر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهو يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك..
نسيت في زحمة غيرتي، حتى الأسباب التي جاء من أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه الأخرى.
.. ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه.
ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماً على الإطلاق. فقد كان عليّ أن أترككما عشرة أيام كاملة معاً في مدينة واحدة. وربما غالباً في بيتٍ واحد هو بيتي.. نظراً لصعوبة لقائكما خارج البيت.
سافرت يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعاً، لنضع شيئاً من الترتيب في علاقتنا، وأنه كان لابد لأحدنا أن يتغيّب لتحسم هذه الأمور الغامضة بيننا نهائياً.
طبعاً، لم أكن مقتنعاً في أعماقي بهذا المنطق، أو على الأقل بهذا القدر العنيد الذي جعل القرعة تقع عليّ.
فمن الواضح أن القدر كان منحازاً لكما. وكان ذلك يؤلمني كثيراً. ولكن ما الذي كان أشدّ إيلاماً لي:
أن أدري أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد لا سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتي في غرف لم أتمتع بك فيها؟
إلى أيّ حدّ ستذهبين معه.. وإلى أي حدّ سيذهب هو معك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوماً من قيم؟
قلت لكِ الكثير عن زياد.. ولم أقل لك الأهم.
كان زياد يوماً خليّتي السرية، أوراق انتمائي السرية.
كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراً سرّياً لعمرٍ آخر. فهل سيخونني زياد؟
كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه مسبقاً.
نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاً غير ذلك معك، أنا الذي تنكّرت أيضاً لسي الطاهر، لرجلٍ كان يوماً قائدي، وكان يوماً صديقي.. لرجل أودعك عندي وصيّة ذات يوم ومات شهيداً.
من منا الأكثر خيانة إذن؟
هو الذي قد يضع أحلامه ورغباته حيّز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفّذها لأنني لم أجد فرصة لذلك؟
أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتّى في غفوتي.. أم هو الذي ستكونين له بإرادتك؟
هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.
هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.
هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..
هنالك مدن.. كم تشبهك!
فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟
كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.
كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.
مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.
كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟
مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.
مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..
كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!
تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."
فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟
على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.
فلِمَ الخجل؟
هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟
فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!
هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.
ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.
فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.
كتبت لك مرة:
"أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم على طراز أندلسي.
أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك في تعاريج أنوثتك العربية.
بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي الأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم بالأندلس.
أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.
أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون البلدي الأخضر قبل أن ينضج.
أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّ بها، أشتهيك.."
كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرت في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.
تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.
لم أكن أجهد نفسي آنذاك في البحث عن الكلمات.
كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دون عقد.. ولا خجل.
معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها، أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.
رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها خال أسمر..
هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاء والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟
تراك قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟
أأدهشتك أم تراها جاءت في غير وقتها؟
كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من كل المسام، ويصبح لغتك.
فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن الحب؟
ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟
وعبثاً راح بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها منه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتى موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة غيرها طوال حياته.
الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لا يهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.
***

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 28-03-09, 01:17 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Flowers

 

عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.
كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.
استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.
أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.
ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.
كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..
كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.
ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟
كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!
فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟
رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.
فجأة حدثني عنك قال:
- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..
صحت بشيء من الدهشة:
- لماذا الأخير؟
قال:
- لأنني سأسافر الأحد..
- ولماذا الأحد؟
قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.
أجاب زياد:
- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..
ثم أضاف بشيء من السخرية:
- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.
تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟
مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.
حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.
يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!
ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.
أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.
كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:
- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..
وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟
لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..
قلت لك:
- أتدرين كيف مات لوركا؟
قلتِ:
-بالإعدام..
قلت:
- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.
إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!
شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.
كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.
ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.
وربما كان أكثره أيضاً.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.
كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.
سألتكِ بعدها:
- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟
أجبتِ:
-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.
كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."
ولماذا الوداع؟
هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟
كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.
كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.
وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.
وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..
كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.
فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.
هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.
هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.
هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..
هنالك مدن.. كم تشبهك!
فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟
كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.
كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.
مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.
كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟
مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.
مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..
كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!
تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."
فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟
على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.
فلِمَ الخجل؟
هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟
فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!
هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.
ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.
فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.
كتبت لك مرة:
"أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم على طراز أندلسي.
أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك في تعاريج أنوثتك العربية.
بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي الأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم بالأندلس.
أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.
أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون البلدي الأخضر قبل أن ينضج.
أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّ بها، أشتهيك.."
كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرت في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.
تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.
لم أكن أجهد نفسي آنذاك في البحث عن الكلمات.
كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دون عقد.. ولا خجل.
معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها، أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.
رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها خال أسمر..
هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاء والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟
تراك قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟
أأدهشتك أم تراها جاءت في غير وقتها؟
كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من كل المسام، ويصبح لغتك.
فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن الحب؟
ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟
وعبثاً راح بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها منه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتى موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة غيرها طوال حياته.
الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لا يهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.
***
عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.
كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.
استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.
أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.
ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.
كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..
كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.
ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟
كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!
فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟
رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.
فجأة حدثني عنك قال:
- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..
صحت بشيء من الدهشة:
- لماذا الأخير؟
قال:
- لأنني سأسافر الأحد..
- ولماذا الأحد؟
قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.
أجاب زياد:
- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..
ثم أضاف بشيء من السخرية:
- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.
تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟
مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.
حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.
يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!
ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.
أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.
كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:
- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..
وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.
أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟
لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..
قلت لك:
- أتدرين كيف مات لوركا؟
قلتِ:
-بالإعدام..
قلت:
- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.
إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!
شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.
كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.
ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.
وربما كان أكثره أيضاً.
تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.
كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.
سألتكِ بعدها:
- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟
أجبتِ:
-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.
كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."
ولماذا الوداع؟
هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟
كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.
كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.
وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.
وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..
كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.
فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.
رحل زياد..
ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.
كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.
رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.
لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.
ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.
كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.
سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟
أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!
في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.
كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.
كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.
وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟
أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.
كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.
كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!
كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.
تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟
تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..
أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.
كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها.
وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.
كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..
كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك.
تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.
تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله.
لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض.
كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.
كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.
كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!
كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك.
اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:
أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..
أجبتني بسخريتكِ الموجعة:
- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!
يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.
وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..
تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".
وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.
عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة:
- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!
أجبتك وسط تنهيدة:
- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!
ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:
"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".
كيف صدّقت يومها أنك كنت تخافين عليّ من العواصف والزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدميّ.. وتحرّضين القدر عليّ.
لم أتحرك أنا..
ظللت واقفاً بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات عدة.
كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين الأرض من تحت قدمي وأنني أنزلق نحو العمق.
كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنوات لتغتالني.
واليوم.. وسط الأعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة من الأحاسيس المتطرّفة والمتناقضة معاً.
"منعطف النسيان" قلتِ..
من أين يأتي النسيان..أسألك؟
مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على الهاتف، ليدعوني إلى العشاء في منزله.
فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها. فهمت منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا.
أعترف أنني كنت سعيداً ومرتبكاً بفرحي.
خجلت من نفسي لأنني منذ لقائنا الأخير لم أطلبه سوى مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليّ أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة معاً.
فجأة، أخذت قراراً ربما كان أحمق.
قررت أن آخذ إحدى لوحاتي لأهديها إياه.
ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد أتوقعها؟
سأثبت له دون كلام، أن لوحاتي لا تتداول إلا بعملة القلب وليس بالعملات المشبوهة.
بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى.
سأكون حاضراً في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلّقاً على جدار.
في اليوم التالي، حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء.
كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي الراقي بحثاً عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أولاً: عيناي.. أم قلبي.
عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط.
استقبلني سي الشريف عند الباب. رحبّ بي بعناق حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها بصعوبة.
بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماً أن تكون هدية له. تردد قبل أن يأخذها مني، لكنني استوقفته لأقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية لك.."
رأيت فجأة على وجهه فرحاً وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغلاف على عجل، بفضول من ربح شيئاً في اليانصيب.
ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة معلّقة وسط الضباب إلى السماء:
- هذي قنطرة الجبال!
وقبل أن أقول شيئاً عانقني وقال وهو يربت على كتفي:
- يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي.. تعيش!
لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، لأنه أهداني شيئاً ربما لم ينتبه لثمنه عندي.
رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك لوحتي باليد الأخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدّمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن يشهد الجميع على امتنانه لي. أو ربما على علاقتنا وصداقتنا الوطيدة، التي كان شائعاً عني أنني لا أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إلا على القلّة.
لفظ أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من يكون معظمهم.
لم أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسمّيه النبتات الطفيلية.. أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو من اللاشيء، في أي حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها ذات يوم على كل التربة.
لا أدري لماذا كنت دائماً أملك الحاسة القوية التي تجعلني أتعرّف على هذا النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختلاف أشكالهم وهيآتهم ومناصبهم يمتلكون مظهراً مشتركاً يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع.
نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل المتبادلة فقط، كانت كافية لأستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من وجهاء المهجر، الذين يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية.
من الواضح أنني كنت في كوكب ليس كوكبي..
راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء من الفخر والمودة معاً..
والتفت إليّ ليقول لي:
_ أتدري خالد.. لقد حققت لي اليوم أمنية عزيزة عليّ. كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. لا تنس أنك صديق طفولتي وابن حيّي "كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحيّ؟
كنت أحب سي الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء من سي الطاهر، من صوته وطلّته..
وكان في أعماقه شيء نقيّ لم يلوّث بعد برغم كل شيء. ولكن حتى متى..
كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم.
أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك الاسم الكبير الذي يحمله إرثاً من سي الطاهر من التدنيس.
ترى أكان شعوري ذلك حدساً، أم استنتاجاً منطقياً لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطاً به؟
فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في أية بحيرة سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. ولا حياة للأسماك الصغيرة المعزولة في هذه المياه العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟
كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة، أنّ سي الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى الأمر.
قال جاري الأنيق خلف سيجاره الكوبي:
- لقد كنت دائماً معجباً برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم في بعض مشاريعنا.. ولكنني لا أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا.
لم أكن أدري آنذاك من هو محدثي.. ولا عن أية مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، لأفهم أنه شخصية فوق العادة.
وكأن سي الشريف تنبّه إلى أنني أجهل هوية محدّثي فتدخل موضحاً:
- إن (سي..) مولع بالفن، وهو مشرف على مشاريع كبرى ستغيّر الوجه الثقافي للجزائر.
ثم أضاف وكأنه تنبّه إلى شيء:
- .. ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم ترَ بعد تلك المركّبات الثقافية والتجارية الجديدة.. لا بد أن تتعرف عليها..
ولم أجبه..
كنت أراه يتدحرج أمامي من سلّم القيم، غباءً أو تواطؤاً لا أدري. فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنية بُنيت حجراًً حجراً على العمولات والصفقات، وتناوب عليها السرّاق كباراً وصغاراً.. على مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابلاً.. لتلك الخيانة.
ها هو إذن (سي...) يبدو طيباً و رجلاً شبه بسيط، لولا بدلته الأنيقة جداً.. وحديثه الذي لا يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق.
ها هو إذن.. تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية في عالم الثقافة..
أم أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزاً طبيعياً مذ شاع وباؤه "رسمياً" في أكثر من قيادة أركان عربية!
كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون شيئاً من ذلك العسل الذي كان يتدفق بين يديه نهراً من العملة الصعبة، في زمن القحط والجفاف..
وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعل وسط ذلك المجلس العجيب؟
كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على الأقل موعداً نادراً لي مع الوطن، أستعيد فيه مع سي الشريف ذكرياتنا البعيدة.
ولكن الوطن كان غائباً من تلك السهرة. ناب عنه جرحه، ووجهه الجديد المشوه.
كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث فيها بالفرنسية.. عن مشاريع سيتم معظمها عن طريق جهات أجنبية.. بتمويل من الجزائر.. فهل حصلنا على استقلالنا حقاً؟!
انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط كان (سي...) متعباً وله ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما ليلية أيضاً.
إن المال السريع الكسب، يعجّل في فتح شهيتنا لأكثر من ملذّات.
وكان يمكن أن أكون سعيداً ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محطّ اهتمام الجميع لأسباب لم أشأ التعمق فيها..
بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع (سي...) الذي فهمت أن الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، لأنه كان يحب أن يكون محاطاً في سهراته بالفنانين دليلاً على ولعه بالإبداع.. وذوقه غير العسكري!
والواقع أنه كان لطيفاً ومجاملاً.. وأنه حدثني يومها عن آرائه الفنية في مجالات مختلفة، وحبه لبعض الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مازحاً، إنه يحسد سي الشريف على تلك اللوحة، وأنني إذا كنت آخذ معي لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند زيارتي للجزائر..
ضحكت من مزاحه.
ولكنني كنت حزيناً بما فيه الكفاية بعد ذلك لأكون على حافة البكاء، وأنا أنفرد بنفسي ذلك المساء في سريري، وأتساءل أي حماقة أوصلتني إلى ذلك البيت؟
بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن ألمح حتى طرف ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان يفصلني.. عن عالمك.
في صباح اليوم التالي، دقّ الهاتف. توقعتك أنت، وكانت كاترين.. قالت:
- قبلات صباحية.. وأجمل الأماني لك..
وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت:
- .. اليوم عيد (السان فالنتان) القديس الذي يبارك العشاق.
فكّرت أن أطلبك بدل أن أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد أن أتمنى لك في عيد الحب؟
وأمام دهشتي.. أو تردّدي أضافت بلهجة ساخرة أحبها:
- اطلب أيها الأحمق.. فالدعوات تستجاب اليوم!
ضحكت..
كدت أقول لها أطلب شيئاً من النسيان فقط. ولكنني قلت شيئاً مشابهاً لذلك:
- أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن تبلّغي قديسك طلبي هذا!
قالت:
- با لك من مجنون.. أتمنى ألا يسمعك فيحرمك من بركاته إلى الأبد.. هل أتعبك موعدنا الأخير إلى هذا الحد؟
يومها ضحكت مع كاترين. ثم وضعت تلك السماعة لأبكي معك.
كنت أكتشف لأول مرة ألم ذلك العيد الذي لم أكن سمعت به من قبل.
لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أو حتى على تلك الزيارة، وذلك الموعد المتعمد الذي حضرته وتغيّبت عنه.
جاء عيد الحب إذن..
فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كلّ عيد وأنت كلّ هذا..
للحب عيد إذن.. يحتفل به المحبّون والعشّاق، ويتبادلون فيه البطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيّدتي؟
هم الذين أعدّوا لنا مسبقاً تقويماً بأعياد السنة، في بلد يحتفل كلّ يوم بقديس جديد على مدار السنة.. أليس بين قدّيسيهم الثلاثمائة والخمسة والستين.. قديس واحد يصلح للنسيان؟
مادام الفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، لماذا لا يكون هناك عيد للنسيان يضرب فيه سُعاة البريد عن العمل، وتتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيه الإذاعات من بثّ الأغاني العاطفية.. ونكفّ فيه عن كتابة شعر الحب!
منذ قرنين كتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي يقول: "كم هو الحب عقيم، إنه لا يكف عن تكرار كلمة واحدة "أحبك" وكم هو خصب لا ينضب: هنالك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها الكلمة نفسها"..
دعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجرّب معك ألف طريقة لقول الكلمة الواحدة نفسها في الحب..
دعيني أسلك إليك الطرق المتشعّبة الألف، وأعشقك بالعواطف المتناقضة الألف، وأنساك وأذكرك، بتطرّف النسيان والذاكرة.
وأخضع لك وأتبرأ منك، بتطرّف الحرية والعبودية.. بتناقض العشق والكراهية.
دعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحبّ.
تراني بدأت أكرهك يومها؟
ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمو بسرعة مدهشة، وأصبحت تجاور الحب بعنفه؟
ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلك الأعياد التي أخلفتها مروراً بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر الغامض الذي كان يسكنني، ذلك الجوع الدائم إليك، الذي كان يجعلني لا أشتهي امرأة سواك.
كنت أريدك أنت لا غير، وعبثاً كنت أتحايل على جسدي. عبثاً كنت أقدّم له امرأة أخرى غيرك. كنتِ شهوته الفريدة.. ومطلبه الوحيد.
الأكثر إيلاماً ربما، عندما كنت في لحظة حبّ أمرر يدي على شعر كاترين. وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء، فأفقد فجأة شهيّة حبّي وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن يفرش بمفرده سريري.
كان نحولها يذكّرني بامتلائك، وخطوط جسدها المستقيمة المسطّحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك.
وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغي عطرها، ويذكّرني كطفلٍ يتصرف بحواسه الأولى، أن ذلك العطر لم يكن العطر السري لأمي!
كنت تتسللين إلى جسدي كلّ صباح وتطردينها من سريري.
يوقظني ألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد قنبلة موقوتة، ورغبة ليلية مؤجّلة يوماً بعد آخر.
هل تستيقظ الرجولة باكراً حقاً، أم الشوق هو الذي لا ينام؟
أجيبيني أيتها الأنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة..
أَوَحدهم الرجال لا ينامون؟
ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك بالبكاء، أكاد أعترف لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني عاجز أمامها لأن رجولتي لم تعد ملكي، وإنما تتلقى أوامرها منك فقط!
متى بدأت أكرهك!
ترى في ذلك اليوم الذي لبست فيه كاترين ثيابها، مدّعية بمجاملة كاذبة موعداً ما لتتركني وحدي في ذلك السرير الذي لم يعد يشبع نهمها.
يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة: أنه يحدث للرجولة أيضاً أن تنكّس أعلامها، وترفض حتى لعبة المجاملة.. أو منطق الكبرياء الرجالي.. وأننا في النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد.
يومها تساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك القديس (السان فالنتان) قد استجاب لدعوتي بهذه السرعة.. وحوّلني حقاً إلى عاشق متقاعد!
أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليك آنذاك، وشعرت بشيء من المرارة المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم بترت ذراعي، كان يمكن أن أبكي يومها وأنت تسرقين منّي آخر ما أملك.
تسرقين رجولتي!
ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟..".
قلتِ:
- لا أدري.. حبك يزيد وينقص كالإيمان!
يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيد وينقص أيضاً كإيمانك..
يومها أضفت بسذاجة عاشق:
- وهل أنتِ مؤمنة؟
صحتِ:
- طبعاً.. أنا أمارس كل شعائر الإسلام.. وفرائضه
- وهل تصومين؟
- طبعاً أصوم.. إنها طريقتي في تحدّي هذه المدينة.. في التواصل مع الوطن.. ومع الذاكرة.
تعجّبت لكلامك. لا أدري لماذا لم أكن أتوقّعك هكذا. كان في مظهرك شيء ما يوهم بتحررك من كل الرواسب.
عندما أبديت لك دهشتي قلتِ:
- كيف تسمّي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل قناعاتنا قضية لا تخصّ سوانا..
لا تصدق المظاهر أبداً في هذه القضايا. الإيمان كالحب عاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية، درعنا السرية.. وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة.
أما الذين يبدو عليهم فائض من الإيمان، فهم غالباً ما يكونون قد أفرغوا أنفسهم من الداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة، لأسباب لا علاقة لها بالله!
ما كان أجمل كلامك يومها!
كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت المآذن في صباحات قسنطينة.
كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت (المؤدّب) في كتاتيب قسنطينة القديمة. فأعود إلى الحصير نفسه أجلس عليه بالارتباك الطفولي نفسه، أردّد مع أولاد آخرين تلك الآيات التي لم نكن نفهمها بعد، ولكننا كنّا ننسخها على ذلك اللوح ونحفظها كيف ما كان، خوفاً من "الفالاقة". وتلك العصا الطويلة التي كانت تتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة.
كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذي لم أصم من سنين.
كان يصالحني مع الوطن، ويحرّضني ضد هذه المدينة التي تسرق منّي كلّ يوم مساحة صغيرة من الإيمان.. ومن الذاكرة.
كنتِ يومها المرأة التي أيقظت ملائكتي وشياطيني في الوقت نفسه.
ثم راحت تتفرج عليّ بعدما حوّلتني إلى ساحة يتصارع الخير والشر فيها.. دون رحمة!
***

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
قديم 28-03-09, 01:28 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
عضو راقي


البيانات
التسجيل: Feb 2009
العضوية: 126160
المشاركات: 3,393
الجنس أنثى
معدل التقييم: الجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جداالجنية السمراء عضو سيصبح مشهورا قريبا جدا
نقاط التقييم: 586

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
الجنية السمراء غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : الجنية السمراء المنتدى : القصص المكتمله
Heeeelllllooooo

 

في ذلك العام.. كان النصر للملائكة.
قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كلامك، وربما أيضا للهروب منك إلى الله. أما قلت "العبادة درعنا السرية".
قلت سأحتمي من سهامك بالإيمان إذن..
رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في المدينة نفسها.
كم من الأيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول.. أحاول بترويض جسدي على الجوع أن أروّضه على الحرمان منك أيضاً.
كنت أريد أن أستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منك وحدك.
كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماً أنا، مكانته الأولى قبلك. هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب.
أعترف أنني نجحت في ذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أبداً.
كنت أقع في فخّ آخر لحبك. وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش بتوقيتك لا غير.
كنت أجلس إلى طاولة الإفطار معك. وأصوم وأفطر معك.
أتسحّر وأمسك عن الأكل معك، أتناول نفس أطباقك الرمضانية، وأتسحّر بك.. لا غير.
لم أكن أفعل شيئاً سوى التوحّد معك في كلّ شي دون علمي.
كنت في النهاية كالوطن. كان كلّ شيء يؤدي إليك إذن..
مثله كان حبّك متواصلاً حتى بصدّه وبصمته.
مثله كان حبك حاضراً بإيمانه وبفكره.
فهل العبادة تواصل أيضاً؟
انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموّي العابر، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه.
فقد كان في ذاكرتي ما عدا حزيران 67، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران 71 الذي قضيت بعضه في سجن للتحقيق والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهم بعد..
أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن (الكدية) الذي دخلته يوماً في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي 1945 حيث تمّت محاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية.
أيّ حزيران كان الأكثر ظلماً، وأية تجربة كانت الأكثر ألماً؟
أصبحت أتحاشى طرح هذه الأسئلة، منذ اليوم الذي أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن.
الوطن الذي أصبح سجناً لا عنوان معروفاً لزنزانته؛ لا اسم رسمياً لسجنه؛ ولا تهمة واضحة لمساجينه، والذي أصبحت أُقاد إليه فجراً، معصوب العينين محاطاً بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولة أيضاً. شرف ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا.
هل توقعت يوم كنت شاباً بحماسه وعنفوانه وتطرف أحلامه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجرّدني فيه جزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزجّ بي في زنزانة (فردية هذه المرة) زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المرّة..
الثورة التي سبق أن جرّدتني من ذراعي!
أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيّر من ذلك الشهر الذي قضم الكثير من سعادتي على مرّ السنوات.
تراني في ذلك العام تحرّشت بالقدر أكثر، ليردّ على تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلّت بي في شهر واحد؟
أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي لا تأتي سوى دفعة واحدة "كي تجِي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطّع السلاسل".
كانت تلك عبثيّة الحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظّ الذي لم تكن تتوقّعه.
ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كلّ السلاسل التي كنت مشدوداً إليها، معتقداً أنها أقوى من أن تكسرها شعرة!
قبلها لم أنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعة كشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سلاسل الأحلام، وسحبت من تحتي سجاد الأمان.
تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ستّ سنوات، تعود اليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهدّ السقف عليّ، بعدما اعتقدت أنني في حزيران 82 دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق شيء واحد قائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط..
كنت أجهل حين ذاك المادة الأولى في قانون الحياة:
"إن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء.. لا غير".
***
كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة، ومذاق اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرّة واحدة.
وكنت أعيش بين خبريْن: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية.
كان قدري يتربّص بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف، وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون عربي.. جاء ينزل بي عدّة طوابق في سلّم اليأس.
أذكر أن خبراً صغيراً انفرد بي وقتها وغطّى على بقية الأخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحراً بطلقات ناريّة، احتجاجاً على اجتياح إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض أن يتقاسم هواءه مع إسرائيل..
كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، ألم مميّز فريد المرارة.
فعندما لا يجد شاعر شيئاً يحتجّ به سوى موته.. ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضاً علينا.
ذهب قلبي طوال تلك الأيام عند زياد..
كان قديماً يقول: "الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعاً بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحراً أيضاً بطريقة أخرى احتجاجاً على خيبة أخرى..
تراه قالها يومها من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟
كنت أستمع إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل عدواه إليّ. فأقول له مازحاً: "يمكنني أن أسرد عليك أيضاً عشرات الأسماء لشعراء لم يموتوا في الصيف!".
فيضحك ويردّ: "طبعاً.. هناك أيضاً من يموتون بين صيفينْ! " فلا أملك إلا أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم!".
عاد زياد إلى الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه الأيام؟
في أية مدينة.. في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة للموت؟
منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك الحين؟
لم أكن قلقاً عليه حتى الآن. فقد عاش دائماً وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجلاً يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه بالجملة.
وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. ورحت أتشاءم وأنا أتذكّر كلامه عن الصيف.. وموت ذلك الشاعر منتحراً.
ماذا لو كان الشعراء يقلّدون بعضهم في الموت أيضاً؟ ماذا لو لم يكونوا فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتان البالين الضخمة يحبّون الموت جماعياً في المواسم نفسها.. على الشطآن ذاتها؟
لقد انتحر (همنغواي) أيضاً صيف 1961 تاركاً خلفه مسودّة روايته الأخيرة "الصيف الخطر".
فأية علاقة بين الصيف وبين كلّ هؤلاء الروائيين والشعراء الذين لم يتلاقوا؟
كان لا بد ألا أتعمّق كثيراً في تلك الفكرة، وكأنني أستدرج بها القدر أو أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف تلك الصفعة التي لم أنهض منها بعد، برغم مرور السنوات.
***
مات زياد..
وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة من مربع صغير في جريدة إلى العين.. ثم إلى القلب.. فيتوقّف الزمن. يتكوّر النبأ غصّة في حلقي، فلا أصرخ.. ولا أبكي.
أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة الفجيعة.
كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراته الأخيرة لي كانت تحمل أكثر من وداع؟
مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة مرات في اليوم وأنا أبحث عن أشيائي.
لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى كثير من الزاد لرحلته الأخيرة، أم كان يفكر في العودة ليستقرّ هنا ويعيش إلى جوارك كما كنت أتوهم تحت تأثير غيرتي؟
لم أسأله يومها عن قراره الأخير. لقد سكن الصمت بيننا في الأيام الأخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس إليه. وكأنني أخاف أن يعترف لي بأمر أخشاه أو بقرار أتوقعه.
لم يقل شيئاً وهو يسافر محمّلاً بحقيبة يد صغيرة. قال لي معتذراً فقط: "ألا يزعجك أن أترك هذه الأيام الحقيبة عندك.. أنت تدري أن مضايقات المطارات كثيرة هذه الأيام، ولا أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى من مطار إلى آخر.."
ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن لا شيء ينتظرني في المطار الأخير!".
لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى رصاصة الموت.
مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على يد الجميع متنا.. باسم كل الثورات وباسم كلّ الكتب.."
ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته هويته فقط!
نخب ضحكته سكرت ذلك المساء.
نخب حزنه المكابر أيضاً.. ذلك الذي لا يعادله حزن.
نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله الأخير.
بكيته ذلك المساء..
ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا.
وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر.
ولِمَ البكاء؟
لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً.
لقد هزمني حتى بموته.
تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها:
"لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!".
وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟
وأنتِ..
تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟
وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟
هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟
في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني.
وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق.
هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية.
وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية.
كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر).
وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها.
ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي.
فَلِمَ البكاء زياد؟
في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت.
هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا..
وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما..
وبين كلّ قطار وقطار.. قطار.
بين كلّ موت وموت.. موت.
فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار!
بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته..
بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا.
رحل زياد إذن..
وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها.
عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري.
ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب..
وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟
أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها.
أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات.
كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة.
سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات، اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم.
صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما عدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة".
ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا به؟
لم أجرؤ على السؤال.
كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنوات العشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي.
وكنت محاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة لهن:
أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أو ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة.
كلما عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً.
فقد كان لبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟
هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أم أحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟
أهي عبء.. أم أمانة؟
وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعه بحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟
وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأول عابر سبيل؟
وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبة أنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتالي ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً من قبل.
ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟
***
كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ.
أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد.
كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر..
ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟
من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟
ومن أدراني على يد من مات زياد؟
على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.."
فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟
في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.
شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة.
لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول.
شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج..
تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟
أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟
كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني..
لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت.
إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة.
رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها.
وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به..
ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة.
ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه.
ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ.
واجهة قماشية لمسكن من زجاج.
انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟.
بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك.
ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً.
ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس!
وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً.
أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه.
ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء.
لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟
من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟
وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك!
كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟
لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك.
ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق.
ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ (أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه.
أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني..
مربكة صور الموتى..
ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم.
فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم.
فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم.
فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم!
كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل.
تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا.
يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه.
وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة.
أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!"
ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة.
أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة..
كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟
كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة..
بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل..
كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب.
ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر.
من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟
كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى.
ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث.
ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته.
كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير.
قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة..
"على جسدي مررّي شفتيك
فما مرّروا غير تلك السيوف عليّ
أشعليني أيا امرأة من لهب
يقرّبنا الحب يوماً
يباعدنا الموت يوماً
ويحكمنا حفنة من تراب..
تقرّبنا شهوة للجسد
ثم يوماً
يباعدنا الجرح لمّا يصير بحجم جسد
توحدت فيك
أيا امرأة من تراب ومرمر
سقيتك ثم بكيت وقلت..
أميرة عشقي..
أميرة موتي
تعالي!؟
كم من مرة قرأت هذا المقطع. بأحاسيس جديدة كل مرة، بشكٍّ جديد كل مرة، وتساءلت بعجز من لا يحترف الشعر.. أين ينتهي الخيال.. وأين يبدأ الواقع؟
أين يقع الحد الفاصل بين الرمز والحقيقة؟
كانت كل جملة تلغي التي سبقتها. وكانت المرأة هنا جسداً ملتحماً بالأرض إلى حد لم يعد فيه الفصل أو التمييز بينهما ممكناً.
ولكن كانت هناك كلمات لا تخطئ بواقعيتها وبشهوتها المفضوحة:
"مرري على جسدي شفتيك"
"أشعليني أيا امرأة من لهب"
"تقربنا شهوة للجسد"
"توحدت فيك"
أكانت الثورة إذن حشواً من الكلمات لا أكثر برّأ بها زياد نفسه؟
كان يفضّل أن يهزمه الموت ولا تهزمه امرأة. قضيّة كبرياء.. مراوغة شخصية.. "أميرة موتي.. تعالي..".
ها هو الموت جاء أخيراً. وأنت تراك جئت في ذلك اليوم؟
هل انفرد بك حقاً.. أمرّرت على جسده شفتيك.. أأشعلته.. أتوحّد فيك.. وهل..؟
من الأرجح أن يكون ذلك قد حصل. فتاريخ هذه القصيدة يصادف تاريخ سفري إلى إسبانيا.
كان القلب قد بدأ يطفح بعاطفة غريبة لا علاقة لها بالغيرة.
نحن لا نشعر بالغيرة من الموات.. ولكننا لا يمكن أن نغيّر طعم المرارة في هذه الحالات.
فهل أمنع عيني اللتين يستوقفهما اللون الأحمر، من أن تقرأ هذه الخاطرة.. دون دموع.
"لم يبق من العمر الكثير
أيتها الواقفة في مفترق الأضداد
أدري..
ستكونين خطيئتي الأخيرة
أسألك.
حتى متى سأبقى خطيئتك الأولى
لك متّسع لأكثر من بداية
وقصيرة كل النهايات.
إني أنتهي الآن فيك
فمن يعطي للعمر عمراً يصلح لأكثر من نهاية!"
تستوقفني بعض الكلمات، وتستدرجني إلى الذهول..
ويأخذ الحبر الأحمر فجأة لوناً شبيهاً بدم وردي خجول يتدحرج على ورق.. ليصبح لون "خطيئتك الأولى..".
فأسرع بإغلاق تلك المفكرة وكأنني أخاف إن أنا واصلت قلب الصفحات، أن أفاجئكما في وضعٍ لم أتوقعه!
يحضرني كلام قاله زياد مرة في زمن بعيد.. بعيد.
قال: "أنا أكنّ احترماً كبيراً لآدم، لأنه يوم قرر أن يذوق التفاحة لم يكتف بقضمها، وإنما أكلها كلّها. ربما كان يدري أنه ليس هناك من أنصاف خطايا ولا أنصاف ملذّات.. ولذلك لا يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار. وعلينا _تفادياً للحسابات الخاطئة_ أن ندخل إحداهما بجدارة!"
كنت آنذاك معجباً بفلسفة زياد في الحياة. فما الذي يؤلمني اليوم في أفكار شاطرته إياها؟
ترى كونه سرق تفاحته هذه المرة من حديقتي السرية؟ أم كونه راح يقضمها أمامي.. بشهية من حسم اختياره وارتاح؟
"لا تملك الأشجار إلا
أن تمارس الحب واقفة أيضاً
يا نخلة عشقي.. قفي
وحدي حملت حداد الغابات التي
أحرقوها
ليرغموا الشجر على الركوع
"واقفة تموت الأشجار"
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيّع فيك رجولتي
إلى مثواها الأخير.."
فجأة بدأت أشعر بحماقة فتح تلك المفكرة.
أتعبتني تأويلاتي الشخصية لكل كلمة أصادفها.
وبدأت أشعر بالندم. فأنا برغم كل شيء لا أريد أن أكره زياد اليوم. لا أستطيع ذلك.
لقد منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وها أنا صغير أمامه وأمام موته.
ها أنا لا أملك شيئاً لإدانته، سوى كلماته القابلة لأكثر من تأويل. فلماذا أصرّ على تأويلها الأسوأ؟
لماذا أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر يحترف الاغتصاب اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يخلق على قياسه، بل ربما خلق على حسابه. فهل أطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟
لقد ولد هكذا واقفاً.. ولا قدر له سوى قدر الأشجار. فهل أحاسبه حتى على طريقة موته.. وعلى طريقة حبّه؟
وأذكر الآن أنني عرفته واقفاً.
أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي لأول مرة، عندما أبديت له بعض ملاحظاتي عن ديوانه، وطلبت منه أن يحذف بعض القصائد.
أذكر صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الوقت عند ذراعي المبتورة، قبل أن يقول تلك الجملة التي كانت بعد ذلك سبباً في تغيير مجرى حياتي. قال لي: "لا تبتر قصائدي..سيدي، ردّ لي ديواني. سأطبعه في بيروت.."
لماذا قبلت إهانته يومها، دون رد؟ لماذا لم أصفعه بيدي الثانية غير المبتورة وأرمي له بمخطوطه؟
ألأنني احترمت فيه شجاعة الأشجار ووحدتها، في زمن كانت فيه الأقلام سنابل تنحني أمام أول ريح؟
واقفاً عرفت زياد.. وواقفاً غادرني.
أما مخطوط تركني كأول مرة. ولكن دون أيّ تعليق هذه المرة.
لقد أصبح بيننا _منذ ذلك الحين_ تواطؤ الغابات... واليوم صمتها.
فجأة استيقظت داخلي بقايا مهنة سابقة. ورحت أقلّب ذلك الدفتر وأعدّ صفحاته وأتصفحها بعيني ناشر. وإذ بحماس مفاجئ يدبّ في قلبي ويغطّي على بقية الأحاسيس. وقرار جنوني يسكنني.
سأنشر هذه الكتابات في مجموعة شعرية، قد أسمّيها "الأشجار" أو "مسودات رجل أحبك".. أو عنواناً آخر قد أعثر عليه أثناء ذلك.
المهم.. أن تصدر هذه الخواطر الأخيرة لزياد. أن أمنحه عمراً آخر لا صيف فيه.. فهكذا ينتقم الشعراء دائماً من القدر الذي يطاردهم كما يطارد الصيف الفراشات..
إنهم يتحوّلون إلى دواوين شعر. فمن يقتل الكلمات؟
***

 
 

 

عرض البوم صور الجنية السمراء   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتبة احلام مستغانمي, ليلاس, مستغانمي, الحسد, القسم العام للقصص و الروايات, احلام, ذاكره, روايات كاملة, روياه ذاكره الجسد كاملة, قصه مكتملة
facebook



جديد مواضيع قسم القصص المكتمله
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:03 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية