لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القصص والروايات > روايات عبير > روايات عبير القديمة
التسجيل مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

روايات عبير القديمة روايات عبير القديمة


12 - الواحة - روزميري كارتر (قلوب عبير)

12 - الواحة - روزميري كارتر (قلوب عبير) هلا حبيباتي هذه الرواية طلبتها الغالية Dominique وهي من روايات قلوب عبير القديمة رواية حلوة وخفيفة وقصيرة في نفس

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-12-06, 09:04 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس برنزي


البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9717
المشاركات: 538
الجنس أنثى
معدل التقييم: كواكب عضو على طريق الابداعكواكب عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 153

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
كواكب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : روايات عبير القديمة
افتراضي 12 - الواحة - روزميري كارتر (قلوب عبير)

 

12 - الواحة - روزميري كارتر (قلوب عبير)


هلا حبيباتي
هذه الرواية طلبتها الغالية
Dominique
وهي من روايات قلوب عبير القديمة
رواية حلوة وخفيفة وقصيرة في نفس الوقت
اتمنى تنال اعجابكم وتقضوا معها وقتا ممتعا ومسليا


 
 

 


التعديل الأخير تم بواسطة giii giii ; 15-05-08 الساعة 02:46 PM
عرض البوم صور كواكب   رد مع اقتباس

قديم 15-05-08, 10:09 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Aug 2007
العضوية: 35918
المشاركات: 1,090
الجنس أنثى
معدل التقييم: giii giii عضو على طريق الابداعgiii giii عضو على طريق الابداعgiii giii عضو على طريق الابداعgiii giii عضو على طريق الابداع
نقاط التقييم: 305

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
giii giii غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كواكب المنتدى : روايات عبير القديمة
افتراضي

 

الملخص
لم تكن خائفة منه ، بل من مشاعرها
وعواطفها هي التي كانت ترعبها وتقلقها ،
كيف ستذهب معه وحيدة الى قلب الصحراء
، وتقاوم إغراءه وإنجذابها الى شخصيته؟ لا ،
لا يمكنها الذهاب ، لا لن تذهب.
شمخت برأسها معلنة :

" لا تخدع نفسك يا فريزر ، انا لا أخاف
منك ، كل ما في الأمر أنني لا أشعر برغبة في
التنزه خارج المخيم".
تبدلت ملامحه ، ولمحت في وجهه هبوب
عاصفة مدمرة ، عنيفة لا تبقي ولا تذر.
قال لها بإصرار حاسم:
" نغادر غدا مع شروق الشمس".
حلمها بالصحراء كان رائعا لولا القمقم الذي
إنفتح فجأة في قلبها.








الرواية



تعود كوري لاتيمر الى البيت لتجد
والدها غارقا في أحلامه المحطمة ، هناك رحلة
إستطلاع الى الصحراء قد يكون فيها
خلاصه ، ولكن من المستحيل عليه أن
يشارك فيها لأسباب تتعلق بالماضي.
كانت الأمطار تهطل بغزارة عندما اوقفت
كوري سيارتها داخل المرآب وهرولت مسرعة

نحو منزلها الذي تظلله أشجار جبل نييل ،
وبدا الضباب المنتشر فوق القمة وبين
المنحدرات كثيفا ، أبيض ، متموّجا، وترامى
البحر في البعيد كتلة رمادية ترغي وتزبد
بغضب هائل ، شعرت كوري أن الطقس قاتم
ومكفهر مثل مزاجها تماما ، وهي تبحث في
حقيبتها عن مفاتيح المنزل ، وما أن أصبحت
في الداخل حتى غمرتها سعادة بالغة ، وقع
نظرها على أبريق الشاي في المطبخ ، يتصاعد
منه بخار ساخن ، فعرفت أن والدها سبقها

الى المنزل.... والدها الذي لا يزال يتمتع
بكامل نشاطه الإجتماعي وحيويته الفكرية ،
رغم تقدّمه في السن ، وتقاعده عن العمل .
دخلت كوري غرفة الجل وس ن وهي تمسح
بيدها قطرات المطر التي بللت شعرها ،
وهتفت:
" متى عدت الى المنزل؟".
قال وعيناه مسمّرتان على مجلة يطالعها.
" منذ نصف ساعة".
فأردفت :

" الحمد لله على عودتك الآن ، إذ أن
الضباب يكاد يعمي الأبصار ، ولم يكن من
السهل علي قيادة السيارة في هذا الطقس!
."
وتمتم والدها ، جون لاتيمر ، دون أن يرفع
رأسه عن مجلته:
" اف لهذا الطقس !".
أثار تصرّفه البارد دهشة كوري ، وهو الذي
كان ينتظر عودتها بشوق ابوي ولهفة واضحة
، راحت تتمعن في ملامحه مستغربة ، حائرة ،

وهي تراه غارقا في تفكير عميق ،
فإستفسرت:
" هل تقرأ مقالا ممتعا؟".
رفع راسه اخيرا وقال بصوت هادىء مليء
بالحنان:
" نعم ، إنه مقال ممتع ، إن فريزر ملوري
ينوي القيام برحلة إستطلاع الى الصحراء".
وسألته:
" هل تعني صحراء كلهاري؟".

" بل بقعة قريبة منها ، إنظري هذه الخريطة
هنا...".
تقدمت منه والقت نظرة على المجلة ، كانت
الخريطة صغيرة ولكن واضحة ، تبرز مساحة
من الأرض تقع في الجزء الجنوبي الغربي من
افريقيا ، وهي مساحة شاسعة خالية لا إسم
لها ، هذه هي صحراء كلهاري ، وكان اصبع
لاتيمر يشير الى جزء ملون محاذ للصحراء.
وضعت كوري يدها بلطف على كتف والدها
، وخيل اليها أن الخريطة لا تعني أي شيء

للشخص العادي ، أما هي فتعرف كل شيء
عن هذه الصحراء التي نشأت على أرضها
وقرات عنها القصص الشيّقة ، ولطالما سمعت
عن تلك الرسوم الصخرية ، والرحلات
الطويلة المضنية ووحشة العزلة تخالطها
مشاعر الإكتشاف والريادة ، لقد فهمت
تماما معنى هذا المقال بالنسبة الى والدها
فسالته بصوت ناعم:
" هل وصلتك أخبار هذه الرحلة من قبل؟".
أجاب بصوت حزين:

" إن عمري لا يسمح لي بالإطلاع على مثل
هذه الأمور او المشاركة في تنفيذها".
لم يسبق له ان أبدى إهتماما بمسائل كهذه ،
إذ أن حياة جون لاتيمر كانت حافلة
بالنشاط والإنجازات ، ولطالما إشترك في عدد
لا يحصى من رحلات الإستطلاع ، بالإضافة
الى المقالات التي نشرها عنها ، وإكتسابه
بعض الشهرة ، لكن كوري ادركت مدى
شعوره بالأسى لإخفاقه في مجال واحد ،
فتابعت اسئلتها:

" انت لا تزال تفكر في تلك الرسوم
الصخرية ، اليس كذلك؟".
قال وهو يحدق في عينيها:
" نعم ، إنها هناك يا كوري ، في تلك البقعة
المجاورة لصحراء كلهاري".
صمتت لحظات معدودة ، تتمعن في وجهه
المرهق الذي دبّ فيه الحماس فجأة ،
فعادت بها الذاكرة الى ايام طفولتها :
" تبدو عليك علامات الثقة التامة ! ".

" انا واثق من وجودها هناك ) قال بنبرة
حادة ( مع أنني لم ارها بعيني".
" وتتمنّى الحصول على صور فوتوغرافية لهذه
الرسوم؟".
فكر لحظة ، ثم إنطلق بلهفة:
" إن الحصول عليها يمنح كتابي شكله النهائي
، إنها كل ما كنت أحتاج اليه طوال هذه المدة
، يا كوري ، إذ انها تضع اللمسات الأخيرة
على كل ابحاثي ، المخطوطة باتت جاهزة منذ
أشهر ، ومع ذلك كنت دائما أشعر بوجود

نقص ما ، بوجود رسوم الحيوانات الصخرية
هذه ، وان...".
" وإن فريزر ملوري ) قاطعته بهدوء ( سوف
يقوم برحلة الى الصحراء".
أجابها مطرقا براسه:
" إنها سخرية الأقدار ، أليس كذلك؟".
قالت كوري بحذر:
" كلا ، لنفترض ان المجال مفتوح امامنا
لتحويل هذه الرحلة لصالحنا".
عضّ والدها على شفتيه قائلا:

" هذا مستحيل ، حتى لو لم يكن عمري
ضدي ، فإنني آخر رجل يفكر فيه فريزر
لضمّه الى مجموعته".
لمست في صوته نبرات تدل على ذلك العداء
القديم ، وإستعادت كوري كل ما سمعته عن
تلك الرحلة التي نظّمها والدها مع فريزر
ملوري ، قاما بتلك الرحلة منذ أكثر من
عشر سنوات ، عندما كانت لم تبلغ الثانية
عشرة ، ولذلك لم تعد تذكر تفاصيلها كما
رواها والدها ، تذكرت بعض المماحكات

الكلامية حول الرسوم الصخرية ، كان طموح
والده ا الأساسي ، حتى في ذلك الوقت ،
دراسة الرسوم وتدوينها".
وكانا على وشك العثور على الرسوم ،
أوهكذا ظن والدها ، عندما بدات الأحوال
الجوّية تزداد سوءا ، مما أدّى الى إصدار فريزر
ملوري على مغادرة الصحراء بأقصى سرعة ،
ابدى والدها إعتراضه ، وحاول قدر
المستطاع تأجيل هذا القرار ، لكن فريزر
تمسك برأيه وإتخذ الخلاف الذي أعقب ذلك

طابع العنف ، الى درجة أشد مما كانت
تتصوره أنذاك ، وخرج فريزر ملوري منتصرا.
قالت ببطء شديد ، شاردة الذهن ، وكأنها لا
تعي معنى كلامها:
" لماذا لا أشترك انا بنفسي في هذه الرحلة؟".
نظر اليها والدها بدهشة بالغة ، ثم أطلق
قهقهة قصيرة:
" أنت ؟ آسف يا عززتي ، لم أدرك للوهلة
الأولى انك تم زحين ، حتى ولو لم يكن

مشروعك مستحيلا ، فإن موقف فريزر منك
لن يكون افضل منه من موقفه مني".
نظرت اليه بإستهجان:
" لأنني إبنتك ؟".
" هذا أحد الأسباب ، اما السبب الرئيسي
فيعلّق بكونك إمرأة".
سالته بفضول:
" ألا يحبّ النساء؟".
قال وقد تجهم وجهه:

" يمتع نفسه بهنّ عندما يحلو له ، وهو ذو
براعة مشهورة في إصطياد النساء ، لكن
فريزر لا يحترم المرأة كإمرأة ، كانت أمّه إمراة
لعوبا ، وجذابة الى حد كبير ، غير انها لم تكن
تهتم كثيرا بشؤون عائلتها ... تركت فريزر مع
والده عندما كان صبيا يافعا وتزوجت رجلا
آخر يستطيع إشباع رغباتها".
" ومنذ ذلك الحين ) علّقت كوري مستغربة (
أدان كل النساء؟".

أومأ جون لاتيمر براسه ، ثم أخذ يدرس
الخريطة مرة أخرى ، وقال بصوت مضطرب
:
" أنا واثق من وجود تلك الرسوم هناك ، إنها
تنتظر من يعثر عليها ، إنني مستعد للتخلي
عن كل شيء في سبيل الحصول على مجموعة
صور محترمة لكتابي".
تركته كوري منكبا على دراسة المقال
وتوجهت الى المطبخ ، وما أن بدأت بإعداد
طعام العشاء حتى نسيت كل شيء عن رسوم

الحيوانات والرحلة الصحراوية ، شعرت بجوع
طاغ في تلك الساعة المتأخرة ، وسيطرت
عليها مشكلاتها الخاصة الملحّة، مع كل ذلك
، لم تخبر والدها عن الخلاف الحاد الذي نشأ
بينها وبين اريك هوغن ، عليها أن تصل الى
حل حاسم قبل البوح باي شيء الى والدها
المرهق ، الطاعن في السن ، جلسا صامتين
الى مائدة الطعام ، وخلافا للعادة ، حيث
كانا يتبادلان الأحاديث حول شؤونهما

اليومية ، غرق كل من الأب والإبنة في
افكاره الخاصة.
اوى جون الى الفراش باكرا ، وحاولت كوري
وهي تتمنى لوالدها نوما هنيئا ان تخفي
مشاعر الألم والقلق .... اشفقت عليه وهي
تراه يتقدم في السن بسرعة ، أن وجهه يزداد
ضمورا ، وقواه تدهورت الى حد مخيف ولا
تحتاج الى طبيب لتدرك أن والدها فقد القدرة
على مواجهة قساوة رحلة صحراوية كهذه.

عندما إنتهت من اعمال المطبخ ، جلست
كوري امام التلفزيون ، لقد مضى وقت
طويل منذ ان فعلت ذلك ، كانت تقضي
معظم وقتها مع اريك هوغن أو تحاول إنهاء
واجباتها الروتينية المهملة ، غير أنها في هذه
الليلة لا تشعر بدافع لعمل أي شيء .
ظلت تتابع عرض باليه ) لبحيرة البجع( الى
ان شرد ذهنها ، وشيئا فشيئا طغت همومها
على حواسها ، وجعلت تدرك عقم الهرب
منها عوض مواجهتها كما هي ، فكرت في

الأسابيع التي قضتها مع أريك هوغن بكل
عذوبتها وبهجتها.
كان أريد رجلا وسيما ، ذكيا ، مرحا ،
وإختارته كوري من بين مجموعة كبيرة من
أصدقائها لأنها وجدت فيه صفات مميزة ،
بارزة ، وهي كعارضة أزياء وجدت نقاطا كثيرة
مشتركة مع مهنته كمخرج افلام يقترن عمله
ببريق شخصيته.

لم تكن تعرف ما الذي سيفعله عندما يلتقيان
، ولكن لم يراودها الشك لحظة حول رغبته
في الترفيه عنها ، وإدخال الغبطة الى قلبها.
طاف بها في المطاعم والنوادي الليلة حيث
يتجمع اصحاب الشهرة والصيت الذائع ،
وتذكرت كيف كان الناس يتدافعون للقاء
التحية على أريك وإبداء الإعجاب به ، فإذا
بكل شخص يطلب منه توقيعه الخاص
والنساء يتعمدن التحدث اليه وإطراء
مواهبه.

ثم تقدم منهما مصوّر وهما يجلسان الى طاولة
يحتسيان الشراب ، وما ان اطل الصباح حتى
كانت صورتهما تزيّن صفحة إحدى الجرائد
المحلية ، وظهرت كوري ووجهها يكاد يلتصق
بوجه اريك ، وإبتسامة عريضة تلوح على
ملامحها وكانها في غاية السعادة ، تذكرت
لحظة إلتقاط تلك الصورة ، كان اريك يسرد
لها بعض النوادر ، وإضطرت للإنحناء صوبه
لسماع كلماته أمام تصاعد الضجيج حولهما
في النادي الليلي ، أما الصورة فأوحت بوضع

مختلف تماما ، حيث أن القارىء العادي لا
يوى سوى شخصين غارقين في أحلامهما
والفتاة تبدو اشد هياما وإنبهارا ، واعلن
التعليق تحت الصورة:
) فاتن النساء أريك يقع في شباك الحب( كما
إستطرد صاحب هذا السبق الصحفي يعلن
إسم كوري الكامل ويصف بعض جوانب
عملها.
ورغم إحساس كوري بالغيظ لإقتحام
الصحافة حياتها الخاصة ، لم تتوقف طويلا

امام مغزى هذه الصورة ، لا شك أن شهرة
أريك هوغن تكفي وحدها لجعله هدفا من
اهداف الصحافيين ، ومحط تعليقات زوايا
الثرثرة واخبار المجتمع ، ولم تعترض على ربط
إسمها بإسمه ، طالماانها دخلت في مرحلة الحب
والإنجذاب وكانت متأكدة ان اريك يبادلها
نفس المشاعر .
عندما طلب منها قضاء اسبوع معه على متن
احد أصدقائه ، بدات الشكوك تراودها ،
كادت أن تقبل وهي تتخيل وجوده معها

طوال هذه المدة ، وفي نفس الوقت أدركت
أن اريك يريد تطوير علاقتهما والإنتقال الى
مرحلة جديدة ، ولكن تربيتها الصارمة ،
ومقاييسها الأخلاقية التي تشربتها من والديها
لم تسمح لها بقبول كل ذلك دون زواج
رسمي.
لذلك رفضت دعوته بأسلوب لطيف رقيق ،
فاصيب اريك بدهشة بالغة ، لم يكن يخطر في
باله أن فتاة ما تستطيع مقاومة سحره
وشخصيته ، حاول أن يتمالك اعصابه

بسرعة ، وأظهر شهامة لم تعهدها من قبل ،
ولكن لم تفت كوري تلك النظرة الهازئة
الساخرة التي إرتسمت في عينيه قبل ان
يستعيد رباطة جأشه.
حافظ على الخروج معها الى الأماكن المعتادة
، غير انه أخذ بالتهرب منها كلما سنحت له
الفرصة ، وهكذا بدات الأعذار تتكاثر
بإستمرار ، تارة يقول لها انه منهمك في
أعماله ، وطورا يشرح لها أهمية بقائه في
الأستديو للإنتهاء من فيلم معقد وصعب ،

أرادت ان تصدقه، وهكذا علت ، ولم
تكتشف الحقيقة حتى اليوم ، روتها لها ميلتها
في عرض الأزياء : كان أريك قد انشأ علاقة
مع إحدى الممثلات ،وقضى معها اسبوعا
كاملا على اليخت ، وكانا تواعدا على تناول
طعام الغداء سوية منذ بضعة ايام ، فحدّثها
قلبها بإلغاء هذا الموعد ، كادت كوري ان
تدير قرص التلفون ، عندما فكرت في
الموضوع مرة أخرى ، لا يمكنها ان تدع

شخصا آخر يصدر الحكم عليه ، فلتدعه
يطلعها على الحقائق بنفسه.
وللمرة الأولى لم تعر إهتماما لجمال المطعم
المطل على الخليج الفاتن ، وحاولت في
البداية السيطرة على أعصابها وهما يحتسيان
بعض المرطبات ، وتصغي اليه يروي لها حادثة
شيّقة جرت معه أثناء التصوير ، إنتظرت حتى
بدا بتناول الطعام ، فبادرت الى إعلامه بما
ترامى الى مسامعها ، وبأقصى قدر ممكن من
الهدوء.

تجمد في مكانه ، ثم أشاح بنظره عن عينيها
الواسعتين البنفسجيتين صائحا :
" ماذا كنت تتوقعين ! انا لست راهبا يا
كوري ، إن مفاهيمك البالية لمتعد محط تقدير
معظم النساء".
وردّت بصوت منخفض:
" كان من حقي أن أعلم".
ولم يحاول إخفاء سخريته اللاذعة:

" لماذا ؟ أنا لست مدينا لك بشيء ، لم
أرتبط باي وعد او إلتزام ، لست ذلك النوع
من الرجال يا كوري".
ولم تجبه ، كان حلقها جافا فصعب عليها
التفوّه باية كلمة حتى ولو أرادت ، وتملّكتها
رغبة جامحة في مغادرة المطعم ، رمت من
يديها ا لشوكة والسكين بغضب وإنحنت
لإلتقاط محفظة يدها ، لكن أصابعه اوقفتها ،
واحست بقوة قبضته تكاد تعصر معصمها ،
قال بصوت ناعم هامس:

" لا تكوني حمقاء ، الأنظار مركّزة علينا ، لا
يمكنك الإنسحاب بهذا الأسلوب".
لا ، لا يمكنها الإنسحاب هكذا ، وجعل
جمهوره يدرك راي إمرأة فيه ، إن اريك لا
يستحق المسايرة وإظهار التفهّم لآرائه ،
ولكنها لم تشأ توتير الأجواء أكثر ،
وإستطاعت أن تفرض على نفسها إلتقاط
الشوكة والسكين مجددا ، وبعد دقائق
معدودة إسترسل اريك كعادته في الحديث ع
امور السينما وشجون التمثيل ، وكان شيئا لم
يكن.
إنتهت وجبة الطعام ، وعادت الى الأضواء
المتلألئة ، وإبتسامة عارضة الأزياء المصطنعة
، وما ان حل المساء حتى كانت أعصابها
كالوتر المشدود.
وها هي الان وحيدة في أجواء غرفة الجلوس
المريحة ، ذات الأضواء الخافتة ، تستطيع ان
تستعيد كل ما يجري ، وتفكر برويّة وهدوء ،
اقفلت التلفزيون وتمدّدت فوق الأريكة ،

أغمضت عينيها ، واضعة كفها فوق جفنيها
بلطف ورقّة ، وغرقت في إسترخاء حالم.
وجمح بها الخيال مرة اخرى ، لن ترى اريك
مجددا ، وهذه مسالة واضحة حاسمة ، لكن
حياتها تتطلّب تغييرات اوسع ، وأدركت فجأة
، عدم رغبتها في الإستمرار كعارضة أزياء ،
لا بد أنها أدركت ذلك في وعيها منذ فترة ،
وقد تكون الأسابيع التي قضتها مع أريك
حجبت عنها تذمّرها من مهنتها .

والان فقط ، بعد أن إنهارت اوهامها في هذه
اللحظات الهادئة ، إستطاعت كوري الإقرار
بعدم تفانيها لمهنتها كعارضة ازياء فعلية ،
وأنها تكره ساعات العمل الطويلة ، والرتابة
والأوقات المنظمة ، وراحت تفكر في بناء
حياة أخرى مختلفة ، اقل إرهاقا ، كان
التصوير هوايتها المفضّلة منذ عدة سنوات ،
مع انها لم تنظر الى إستخدام الكاميرا كخدمة
ثابتة ، هل فاتها القطار ، ولم تعد قادرة على
قلب صفحة جديدة؟

إن في العجلة الندامة ، حدثتها نفسها ، قبل
التخلي عن مهنة ، وإقتحام عالم جديد لا بد
لها من دراسة كل خطوة بتمعن شديد ، إنها
تحتاج الى إجازة ، إجازة تبعدها عن عملها ،
والأشخاص الذين تعرفهم ، إجازة تنقذها من
محيطها الذي يذكرها بقصة حبها المحطمة ....
إجازة تتيح لها فرصة إتخاذ قرار ناضج ، وها
هي إجازتها تنتظرها منذ اسابيع ، وأجّلتها
أكثر من مرة بسبب رايك ، اما الان فهي
حرة طليقة ، ولكن أين تذهب؟ وتزاحمت في


ذهنها عشرات الأمكنة ، عن منطقة راس
الرجاء الصالح جميلة وتعج بالسياح من كل
حدب وصوب ، غير أنها تريد الذهاب الى
مكان لم تره من قبل.
جلست متملمة ، تجيل النظر في الغرفة الى
أن لمحت المجلة التي تركها والدها على
الكرسي ، ومدت يدها ترفعها وتقلب
صفحاتها التي تركها والدها على الكرسي
،ومدت يدها ترفعها وتقلب صفحاتها حتى
توقفت عند المقال الذي كان يقرأه.

كان مقالا تزينه الصور.... صور طبقات
صخرية وبعض الخرائب والآثار ، ثم رأت
صورة فريزر ملوري ، فأخذت كوري تدرسها
بإمعان لبضع هنيهات قبل ان تشرع بمطالعة
المقال.
كانت تدرك لبّ الموضوع ، فريزر ملوري عالم
جيولوجي ، تمّ تكليفه بدراسة الطبقات
الصخرية في بعض المناطق الصحراوية ، ولا
تزال الرحلة في أطوارها الأولى من الإعداد
والتنظيم ولم يتم إختيار أعضاء فريق العمل

حتى الآن ، إنها مهمة تتطلب وجود علماء ،
وخبراء في حقول معينة ، ومصور ماهر يعمل
في معظم الحيان مع قائد الرحلة ، ويسجل
إكتشافات فريق العمل على فيلم وثائقي.
مصوّر... وأعادت قراءة الفقرة بشعور
غامض من احماس والتوقع ، ثم وجدت
نفسها تحدق ثانية في صورة فريزر ملوري
تمعنت في وجهه النحيل ذي الملامح الصارمة
الداكنة ، وعينيه السوداوين المتّقدتين ذكاء ،
وفمه القاتم الرابض فوق ذقن عريض ، لم

يكن وجه جميلا جمال وجه اريك ، ولكنه
لافت للنظر ، يترك أثرا مميزا ، فريدا .
لم يكن يخفى على كوري ان فريزر ملوري
يصغرها والدها في العمر ، وأدركت الان ان
الفرق بين عمريهما هو أكثر بكثير مما
إفترضت ، ويمكن القول وفقا لصورة أنه في
أواسط الثلاثينات ولم يكن جاوز الخامسة
والعشرين عندما تعرف عليه والدها ، ولا
شك أنه رجل فريد ، وبارع في أكثر من مجال

، وهو حسب نص المقال ، يحوز على إحترام
الرجال ولا يظهر أي إحترام للنساء .
مصوّر... وأعادت قراءة الفقرة بشعور
غامض من احماس والتوقع ، ثم وجدت
نفسها تحدق ثانية في صورة فريزر ملوري
تمعنت في وجهه النحيل ذي الملامح الصارمة
الداكنة ، وعينيه السوداوين المتّقدتين ذكاء ،
وفمه القاتم الرابض فوق ذقن عريض ، لم
يكن وجه جميلا جمال وجه اريك ، ولكنه
لافت للنظر ، يترك أثرا مميزا ، فريدا .

لم يكن يخفى على كوري ان فريزر ملوري
يصغر والدها في العمر ، وأدركت الان ان
الفرق بين عمريهما هو أكثر بكثير مما
إفترضت ، ويمكن القول وفقا لصورة أنه في
أواسط الثلاثينات ولم يكن جاوز الخامسة
والعشرين عندما تعرف عليه والدها ، ولا
شك أنه رجل فريد ، وبارع في أكثر من مجال
، وهو حسب نص المقال ، يحوز على إحترام
الرجال ولا يظهر أي إحترام للنساء .

ألقت المجلة من يدها ، وتوجهت الى الشباك
، كان الظلام مخيما ، كثيفا ، يحجب المنازل
المنتشرة في ظل الجبل ، ويخفي البحر المتثائب
من بعيد ، غير أن المطر لم يتوقف عن الهطول
، مخلّفا رائحة رطبة قوية ، تحبها ، وتعرف أنها
نادرة الوجود في قلب الصحراء .
الم تقل لوالدها أنها قد تنضم الى الرحلة ،
وإعتبر كلماتها مجرد نكتة عابرة ؟ هل كانت
تمزح عندما نطقت بتلك الكلمات ؟ نعم
.... وكلا ، إذ كانت في أعماق نفسها ،

وبدون قرار مسبق ، تتمنى مغادرة مدينة
الكاب ) في جنوب أفريقيا ( والعيش في
اجواء اخرى مغايرة ولو لفترة محدودة.
واي مكان أفضل من الصحراء؟ ربما
إستطاعت تبيّن رغباتها وأمانيها الحقيقية في
تلك الأرض الشاسعة وعزلتها الغريبة ، وهي
ستحقق غرضا آخر بإنضمامها الى الرحلة ،
فتأكد من وجود الرسوم الصخرية بناء على
نظرية والدها ، وتسجل وتدوّن من اجله كل

ما تعثر عليه ، ليضمّه الى كتابه الذي شارف
على الإنتهاء .
ومرت أمامها صورة والدها ببشرته المجعدة
وشعره الأشيب ، فغمرتها موجة من لعطف
والإشفاق ، لم يعد جون لاتيمر الآن سوى
طيف باهت لذلك الرجل الذي إرتاد ذات
مرة المناطق المعزولة المقفرة من أفريقيا ،
وبحيويّة أدت الى إكتشافات هامة ، كرس
معظ م حياته للتوصل الى معرفة أعمق حول
أصول الشعوب القديمة التي قطنت القارة ،

وكل ما عثر عليه ودرسه ود ونه وجد طريقه
الى صفحا ت كتابه.
وإعتقدت كوري ان المخطوطة التي طبعتها
على الآلة الكاتبة هي جزء لا يتجرأ من
الشخص الذي خطّها بيده ، كل صورة وكل
رسم أو تصميم ، ير وي تفاني رجل جعل
مهنته محور حياته بأكملها ، واصبح الكتاب
منذ مدة من الزمن جاهزا للنشر ، ولكن
والدها رفض إعتباره كذلك ، كأن ق


راسخة جعلته ينتظر العثور على سجل أو
وثيقة جديدة ، وينجز حلمه الكبير.
وإرتفع صوت من اعماقها يحثّها على
الإشتراك في الرحلة التي لم تسمع عنها إلا
منذ ساعات قليلة ، وهل بإستطاعتها
الإشتراك؟ تلك مسألة أخرى .
ألم يقل لها والدها أن ذلك مستحيل....
ونتيجة سبين رئيسيين ، إنها كوري لاتيمر ،
ويشكّل إسم لاتيمر بالنسبة الى فريزر ملوري

كابوسا مخيفا ، وهي إمرأة ، ولا مكان للنساء
في حياة قائد العملية.
إبتعدت كوري عن الشباك وأمسكت بالمجلة
ثانية ، فإذا بالوجه الصارم القوي يحملق بها
عبر الحروف السوداء ، ولمحت في عينيه تحديا
لا يقاوم ، وصاحت:
" سوف أذهب".
وإنتابتها فجأة نوبة من الضحك ، فتردد
صداها في الغرفة الخاوية ، الساكنة ، ثم
توجهت نحوغرفة نومها لرسم خطة محكمة ، لم

تمض عينيها إلا بعد ساعات طويلة ، واثر
إتخاذ قرار حاسم في تلك الليلة المصيرية .
نهضت في الصباح عاقدة العزم على تحقيق
هدفها ، بدا قرارها الليلي المفاجىء أكثر
واقعية في وضح النهار ، وإزدادت تصميما
على وضع خطتها موضع التنفيذ.
سوف تعمد غدا او بعد غد الى التوجّه
بسيارتها صوب مزرعة الغنم التي يملكها فريزر
ملوري ، وتقدّم طلبا للحصول على عمل
مصور معه ، ولكن عليها في البداية تدبير

بعض الأمور ، لا يمكنها تقديم نفسها اليه
بصفتها كوري لاتيمر ، إذ سيرفضها مباشرة ،
وبد ون تردد ، ويدل وجهه في الصورة أنه
رجل لا تحركه الدموع أو غصّات الإستجداء
أو أية خدع اخرى تتقنها الأنثى.
سوف تقدم نفسها اليه كشاب إسمه كولن
لارسن وستحمل معها مجموعة من أفضل
صورها ، ويناقشان الموضوع بصراحة رجلين
متمرسين.

وإنها ، لحسن حظها ، طويلة القامة ، فك رت
كوري وهي تقف أمام المرىة ، وإذا ما إرتدت
الثياب الملائمة ، وأجرت بعض التعديلات
الطفيفة ستبدو كرجل بدون عناء.
أمعنت النظر في مظهرها بعد مرور أربع
وعشرين ساعة مرة اخرى ، فشعرت
بالإرتياح التام ، قامت بتقصير بنطالها قليلا ،
وإرتدت قميصا مخططا واسعا لأخفاء أي
دليل أنثوي ، وقصت شعرها الأسود الطويل
، ووضعت فوق عينيها البنفسجيتين نظارة

ذات إطار يوحي بالجدية ، ثم لصقت شاربين
فوق شفتها العليا ، وخاطبت نفسها قائلة:
" كولن لارسن ، إنك رجل جذاب ، والويل
لمن يخالف رايك ".
كان جون لاتيمر قد ذهب الى المدينة عندما
خرجت القامة الهيفاء من المنزل متابطة
مجموعة من الصور ، وتوجهت الى المرآب ،
حددت موعد خروجها بدقة لا تقل عن
إختيارها للباسها فهي لن تبوح بشيء الى

والدها حتى تكون حصلت على عملها
الجديد.
قادت السيارة ببطء عبر منعطفات الجبل
الملتوية الشديدة الإنحدار ، ثم ضاعفت
سرعتها عندما بلغت الطريق العام المؤدي الى
البراري ، وما هي سوى لحظات حتى خلفت
المدينة وراءها ، وحتى جبل تيبل ، بقممه
المغطاة بالضباب ، إختفى عن الأنظار.
حاولت الإسترخاء وهي تقود السيارة ، لم
تكن المزرعة قريبة ، بل تبعد نحو مئة ميل

شمالي المدينة ، وكانت قبل مغاد رتها أجرت
مكالمتين بالهاتف ،مكالمة الى الوكالة التي
تعمل معها لتقول انها لن تكون هناك ذلك
اليوم ، والأخرى الى فريزر ملوري ، لتتاكد
من وجوده في مزرعته بعد إجتياز كل هذه
المسافة.
ومع إبتعادها عن مدينة الكاب إزداد إدراكها
للاسباب الكامنة وراء تكيّف الرجل الذي
ستقابله مع قساوة الصحراء وخشونتها ،
كانت في توغّلها شمالا تشاهد عالما آخر ، إذ

لا بحر ، ولا خضرة ولا شواطىء ذهبية
حالمة، إنها الآن في منطقة شاسعة منبسطة ،
جافة حارة ، وملائمة لتربية الأغنام ، أنها
شبه بادية ، فكرت كوري ، وفهمت كيف
يصبح الناس الذين يعملون هنا أشد خشونة
وقوة من سكان المدن.
وها هي الآن تبحث عن منعطف يؤدي الى
بلد يدعى ميوفونتين ، أي ينبوع الجمال ،
وأدّى بها طريق جانبي يكسوه الغبار الى
بوابتي حديد كبيرتين ، ترجّلت كوري من

سيارتها لفتح البوابتين ، ومرت عبرهما ثم
أوصدتهما قبل ان تتابع طريقها ، وشعرت
بيديها ترتجفان وهي تمسك مقود السيارة مرة
أخرى .
لم تكن المزرعة تبعد أكثر من ميلين عن
البوابتين ، ووجدت نفسها فجأة أمام مزرعة
تحيط بها أشجار الصفصاف وساقية صغيرة ،
ورات المنزل الرئيسي بهندسته الهولندية
الجميلة وبنائه الضخم ، مما اثار دهشتها ، لم

تكن تتوقع ان يكون منزل المغامر صاحب
الوجه الصارم بهذا الجمال الفائق.
بدت مذهولة ومضطربة الأعصاب ، وهي
تواجه هذا اللغز ، وإذا بثقتها تتضاءل
وتتلاشى مدركة أن فريزر ملوري سيكتشف
أمرها ، وسيلعن خدع النساء الخسيسة ،
وكادت ان تعود الى سيارتها وتقفل راجعة ،
وهمّت بإدارة محرك السيارة ، عندما عبرت
مخيلتها صورة والدها ، رأته جالسا على
كرسيه قرب موقد النار ، تحدق عيناه في

البعيد بحزن وترقّب وامل شاحب ، وبلمح
البصر ترجلت من سيارتها ومشت صوب
المنزل.
قابلها فريزر ملوري في حجرة المكتبة ، حيث
جلس وراء مكتب كبير نتن الأخشاب ، كان
منكبا على الكتابة ، فلم يرفع راسه لتوه ،
مرت لحظة مشحونة بالتوتر ، ثم راته ينظر الى
قامتها الفارعة بعينين متفحصتين ، إنتصب
واقفا وإتجه نحوها مرحبا :
" أهلا سيد لارسن".

ظلت كوري جامدة في مكانها ، وأحست
بشلل غريب يغزو أوصالها ، لا تدري ماذا
تفعل امام رجل غامض تقابله للمرة الولى ،
وكرر كلماته :
" سيد لارسن؟".
بلعت كوري ريقها ، لمحت تعبير عينيه
الفضولي ، ويده الممتدة لمصافحتها ،
إستعادت بعض رباطة جاشها ، ومدت يدها
وقالت بصوت عميق تلك الكلمات التي
طالما تدربت على تلاوتها:

" سيد ملوري ، اشكرك على إستعدادك
لمقابلتي".
صافحت يده يدها ، كانت قبضته قوية ،
متينة ، قبضة رجل يصافح رجلا آخر ،
سرت في كفها وذراعها قشعريرة غريبة دون
سبب واضح ، وصافحته بقبضة ثابتة ، قوية
، ثم سحبت يدها ومشت وراءه نحو المكتب
، شاعرة بالإرتياح لتمكّنها من الجلوس
والسيطرة على أوصالها المضطربة ، خاصة
وأن المكتب العريض يفصل بينهما الان ،

كان بالغ الجاذبية ، باهر الشخصية،
وأدركت ان ردة فعلها ربما عبّرت عن غريزة
طبيعية يصعب كبتها بسهولة ، وأخيرا سمعته
يسالها :
" هل تتناولين شرابا باردا؟".
كان حلقها جافا ، وتمنت لو يقدم لها عصير
برتقال بارد ، لكنها عدلت عن رأيها لكي لا
تثير شكوكه ، فإبتسمت:
" شكرا لا أريد شيئا".

قال بلهجة جازمة ، باسطا يديه المسمرتين
فوق مكتبه :
" حسنا لنبدا الحديث ، أنت تريد الإنضمام
الى الرحلة الصحراوية ".
" نعم ، كمصوّر".
" هل جلبت نماذج من صورك معك؟".
" نعم".
ناولته الصور ، وبدت أكثر هدوءا وثقة ،
إنكب على الصور يقلبها واحدة تلو الأخرى
، فراحت هي بدورها تتمعن في ملامحه ،

عجبت لمدى إضطرابها وتلعثمها منذ لحظات
قليلة ، مع أنها كانت رات صورته ، وعرفت
مسبقا ماذا تتوقع ، كان يشبع صورته....
شكل الفم وسخرية العينين السوداوين وعنقه
الغليظ الأسمر ، لكن الصورة تظل مجرد ظل
على الورق ، ورغم دقتها ، فهي لا تكشف
الرجولة التي يتمتع بها، ولا تبرز هذه الهالة
من القوة والسلطة والصرامة التي لمستها وراء
مظاهر الكياسة والتهذيب.

طالما حدّثها والدها عن فريزر ملوري ،
ووصف لها كل الصفات التي لمستها خلال
دقائق معدودة ، ولكن والدها رجل يصف
رجلا آخر ، وعرفت كوري ، بعد فوات
الأوان ، ان للمرأة موقفا آخر من ذلك تمنت
لو تستطيع سحب طلب العمل... ليس لأنها
لا تتقن مهنة التصوير ، أو تعجز عن تنفيذ
خدعتها .... بل لخوفها من أمر أعمق واشد
تعقيدا ، انه شعور بالخوف فهمت مغزاه
لكنها رفضت سبر اغواره السحيقة.

ألقى فريزر ملوري بالصور جانبا ، ونظرت
اليه كوري تتوقع رايه ، فقال :
" يبدو انها صور جيدة".
وعندما شكرته على إطرائه ، سالها :
" ما هي مدى معرفتك بالجانب الفني من
هذا العمل ؟".
" أعرف ما يكفي يا سيد ملوري".
صرفا بعض الوقت يناقشان جوانب التصوير
العملية، غمرت كوري غبطة منعشة وهي
تسهب في الحديث عن كيفية إلتقاط الصور ،

وإتخاذ الإحتياطات اللازمة في المناطق
الصحراوية ذات الوهج الكثيف ، والحصول
على العدسات الملائمة ، وتحميض الصور
وإستخراجها ، وتأكدت الآن أن مشاركتها
لوالدها في بعض رحلاته الشاقة لم تذهب
سدى ، وان تفكيرها في التخلي عن عالم
الأزياء لتصبح مصورة محترفة خطوة طبيعية
جدا.
وفجاة سالها فريزر:

" هل تعتقد انك تستطيع تحمّل أوضاع
الصحراء؟".
لاحظت تغيرا في لهجته ، فسارعت الى
طمأنته ثم إستفسرت :
" لماذا تسألني هذا السؤال سيد ملوري؟".
حاولت قدر إمكانها الإحتفاظ بمظهر هادىء
،وحدقت في عينيه معلنة:
" إن المظاهر خداعة) وإستطردت بصوت
منخفض( أستطيع تدبّر امري يا سيد
ملوري".

أجاب بلهجة جافة:
" هذه مسألة هامة ، إن الصحراء تضطرنا
للإعتماد على انفسنا".
تنفست كوري بإرتياح وهي تسأله:
" هل توافق على عملي معك سيد ملوري؟".
فإبتسم بلطف:
" لا حاجة للرسميات ، خاطبني بإسمي الأول
، فريزر ، إذا كنت ترغب في العمل ، يا كولن
، تبدأ الرحلة في غضون ثلاثة أسابيع".

-2 بعد ان نجحت في الذهاب الى الصحراء
، بقي على كوري أن تتعامل الان مع عشرة
رجال مختلفي الأمزجة ، وبعضهم ، كقائد
البعثة فريزر ملوري مثلا ، لا يطيق النساء !
تجمع فريق العمل في ميوفونتين بعد ثلاثة
أسابيع بالضبط ، كان الفريق يضم عشرة
رجال ، قدّم فريزر كل واحد منهم الى الاخر
باسلوب لا اثر فيه للرسميات ، سبق لبعضهم
أن إلتقى بالآخرين في رحلات مماثلة ، أو في

مؤتمرات تتعلق بإختصاصهم ، ولم يكن ذلك
مستغربا ، إذ ان العلماء والمهندسين
والجيولوجيين يعيشون في عالم خاص بهم.
إحتفظت كوري بالصمت أثناء وجبة الغداء
المبكرة، والأحاديث التي أعقبتها بهدوء حذر
، مكتفية بكلمات مقتضبة ردا على أي
سؤال يوجه اليها ، وقررت أن عدم لفت
الإنتباه اليها هو أفضل سبيل لنجاح خطتها
، إقترب منها أحد العلماء ، وبادرها
بالحديث ،ودار حوار متقطع ، لم يتطرقا

أثناءه الى الرحلة إلا بشكل عابر ، كان إسم
العالم مارك ، عذب العبارات ، لطيفها ، تعلو
وجهه مسحة من الجدية ، فإطمأنت كوري
الى شخصيته ودماثته ، ولكنها لم تدع نفسها
تسترسل في الحديث والتعرف الى اموره
الخاصة أكثر ، وذلك كعادتها عندما
تستلطف أحد الأشخاص.
لم يكن مضى على وجودها في صحبة هؤلاء
الرجال وقت طويل ، وأدركت لتوها ان
عليها الإحتراس الدائم والتنبه الى كل كلمة

تقولها ، أو أية حركة تقوم بها ، وهي التي
ستصرف معهم أكثر من شهر ، إنها رجل
يتحرك في محيط محفوف بالمخاطر ، محيط
الرجال.
ولا بد لها من مضاعفة إحتراسها في تعاملها
مع فريزر ملوري ، لاحظت قوة إدراكه
الخارقة التي لا تبارحه ، واية إشارة أو حركة
خاطئة توحي بأنوثتها ، ستثير شكوكه وتقضي
عليها ، وهو حتى الان لم يكشف الا جانبا

واحدا من شخصيته ، ولم تكن كوري بحاجة
الى إدراك تلك الجوانب الأخرى المتّسمة
بالعناد والتسلط والصلابة ، إنه رجل صعب
المراس ليس من السهل خداعه أو التمرد
عليه.
كان مارك مسترسلا في الحديث عندما ألقت
كوري نظرة عابرة على فريزر ، رأته يقف
وسط المجموعة ، حيث بادر أحدهم بسؤاله
عن موضوع معين وإلتف الجميع حوله
يستمعون الى جوابه بآذان صاغية ، لم تسمع

الكلمات التي تلفّظ بها ، لكن صدى صوته
تردد في أعماقها واثقا دقيقا ودودا واسع
الإطلاع.
وبدا لها أكثر طولا مما كانت تظن ، أكثر
طولا من الآخرين ، ولم يفتها أن كثيرين لا
تنقصهم الوسامة ، أو الحذاقة ، او الشهرة
في مجالاتهم المتعددة ، وأن معظمهم أسمر
البشرة مفتول العضلات مما يدل على قضاء
بعض أوقاتهم في العراء ، لكن فريزر شخص
مميز ، وفكرت كوري ان أي عابر سبيل لن

يتردد في إعتباره قائد فريق العمل ، واحست
بإعتزاز وهي تغرق في أفكارها هذه .
إن الطائرة التي ستقلهم في المرحلة الأولى من
الرحلة تربض في مهبط قريب اما القبطان
فكان فريزر نفسه ، وإزداد إحترام كوري له
عندما اقلعت الطائرة بدون عناء ، وكشف
هذا الرجل عن مهارة جديدة يحترفها بإتقان.
جلست كوري قرب النافذة ، وبدات الطائرة
تتوغل في إتجاه الشمال ، وهي تحاول سلخ
نظرها عن هذا الرجل الجذاب الذي ملك

حواسها ، مركزة نظرها على الأفق البعيد ،
والمساحات القاحلة المترامية.
كان مارك يجلس بجانبها ، يتصفح مجلة تقنية
، تماما مثل بقية زملائه ، لم تكن كوري في
مزاج يتيح لها المطالعة ، إنها تجد لذة خاصة
في تحليق الطائرة ، وخالت ان القبطان تحوز
عليه مشاعر مماثلة ، السرعة والقوة
والإندماج بالفضاء ، مسائل اليفة لديها .
تنبهت الى إنهماكها بفري زر ملوري في حين
يتوجب عليها التفكير في الأيام المقبلة ،

وأهمية المحافظة على قناعها المسرحي ن الويل
لها إذا إكتشف ملوري هويتها الحقيقية ،
ناهيك عن الغضب الذي سينتاب الرجال
الآخرين ، وهم يرون إمرأة عادية تقتحم
عالمهم الخاص ، حتى والدها لن يظهر تفهما
معقولا ل وضعها الشاذ.
لم تبحث خطتها مع والدها – إذ كان
سيحاول منعها من تنفيذها ، لم يعرف اكثر
من رغبتها في قضاء إجازة قصيرة بعد قطع
علاقتها مع أريك هوغن ، ولذلك لن يقلق

عليها كثيرا ، وسيرحب بها فور عودها ،
وسيطير من الغبطة عند رؤيته صور رسوم
الحيوانات الصخرية ، ويتناسى إنزعاجه من
إطلاعه على الحقيقة.
أخذت المناظر الطبيعية تتبدل والطائرة تتوغل
مخترقة الفضاء ، إنحسرت الأراضي الزراعية ،
وبرزت مساحات خالية من الأشجار ، ذات
تربة حمراء تتوهج في حرارة الشمس الساطعة
، إنهم يدخلون الصحراء الآن لا محالة ،
شعرت كوري بإنكماش في معدتها ، وألقت

نظرة سريعة على القبطان ، ثم اشاحت
بعينيها صوب النافذة.
وما هي إلا لحظات معدودة حتى كانت
الطائرة تهم بالهبوط ، ترجل الجميع وسط
بقعة معزولة ، وتوجهوا الى كوخ صغير ذي
حيطان طينية بيضاء وسقف من الفولاذ
المضلّع ، ولمحت ثلاث سيارات جيب تنتظر
على مسافة قريبة ، حيث توجه فريزر نحوها ،
ودخل في حوار ودي مع احد العمال.

وضعوا كل المعدات والأمتعة والحقائب في
السيارات ، ورأت فريزر في المقدمة وراء
المقود ، فإختارت السيارة الثانية ، لا يجوز
الإقتراب منه كثيرا لئلا يفتضح امرها ،
خاصة وانه رجل حاذق ، وهي تتصبب عرقا
كلما قابلته وجها لوجه.
راحت السيارات تشق طريقها في وسط
الهشيم والغبار ، والحر اللاذع ، وهي لا تزال
عاجزة عن طرد شبح فريزر من ذهنها ، إنه
يختلف عن كل الرجال الذين تعرفت اليهم

حتى الان ، فكرت بصديقها السابق أريك ،
بثيابه الأنيقة وتصرفاته المتقنة ، وعبر خيالها
شريط الممثلين والمخرجين والمصورين الذين
إختلطت بهم ، وتمتعت بصحبتهم حتى
الأمس القريب ، إن فريزر بخشونته ، ورجولته
الفظة ، يبدو شخصا غريبا ضمن هذه
الأجواء التي عايشتها ، لا يمكن ان تقبل به
كشخص تقيم معه علاقة ما خارج العلاقة
الحالية ، ومع ذلك وجدت إ بهارها به لغزا
محيرا.

حولت نظرها عن العربة الأمامية ، محدقة الى
الصحراء الصامتة ، وتساءلت بإمتعاض :
هل كانت مجنونة وهي تدخل هذه المغامرة ؟
من الصحيح ان قلب والدها يتقطر حزنا
على رسوم الحيوانات ، ولكنه لم يرها في
حياته ، كل ما في الأمر ان الوقائع التي
يستند اليها جاءت نتيجة محادثة مع أحد
المغامرين ذوي الخبرة الضئيلة ، سيفرح كثيرا
لو عادت اليه بصور الرسوم ، التي طالما

دغدغت احلامه ، وجعلته يؤجل نشر كتابه
الذي شغل معظم عمره.
والان بعد أن سبق السيف العذل ، ويتعذر
عليها التراجع ، إنحنت كوري باللائمة على
نفسها لأ نها سمحت لمشاكلها أن تدفعها الى
الإلتحاق بالرحلة وفق أعذار كاذبة ، فهي
كانت ستتغلب على غدر اريك آجلا أم
عاجلا ، أما بالنسبة الى عرض الأزياء ،
فكان من الفضل التخطيط لمهنة جديدة في
أجواء أقل خطرا من الصحراء.

إنها تتبع نزواتها عادة ، لكن ليس الى هذا
الحد المته ور ، إجتاحتها رغبة لتغيير مجرى
حياتها فلم تتمعن في نتيجة قرارها المتسرع ،
إختالت إعتزازا بقناعها الجديد ، فلم تحسب
حساب مدى إمكانية نجاحها في لعب دور
رجل لعدة أسابيع.
إن التحول الى الى رجل يتطلب أكثر من
شارب ونظارات مظللة ، سيكون عليها
قضاء الليالي في خيمة مشتركة ، حيث يخلع
الرجال ثيابهم أمامها ، وينطلقون في أحاديثهم

البذيئة ، وكيف ستخلع ثيابها هي وتستحم ،
وتهتم بنظافتها كأنثى ؟ هل تحلم أن تعيش
وسط كل هؤلاء الرجال ، وتخفي عنهم
حقيقتها؟
نعم.... ومضت عيناها ببريق عزم مفاجىء ،
إنها قادرة على إنهاء مهمتها ، وكما فات
أوان التراجع ، تبخرت كل البدائل ايضا ،
ستنهي مهمتها ولن يكشف أمرها احد.
توقفت القافلة بجانب منخفض طبيعي يشكل
حوضا مليئا بالمياه ، وإنتصبت بعض

الشجيرات الذابلة في الجهة المقابلة ، موفرة
شبه ظل لإتقاء الحر ، والهم من ذلك تؤمن
الشجيرات ملجأ من البرد الصحراوي حيث
تفقد الصحراء حرارتها بسرعة مع غروب
الشمس كما حدثها والدها ، ويصبح الليل
قارسا كالجليد.
ولاحظت كوري أن الشمس توشك على
المغيب ، بدت كتلة كروية مشتعلة ، تحضن
الأفق المترامي ، ورغم رؤيتها المتكررة لجمال
الغروب الأفريقي وجدت نفسها امام منظر

اخاذ لا مثيل له ، إكتنفها بهاء الفضاء
الرحب ، فلم تنتبه الى الرجال وهم ينصبون
الخيم.
وسمعت صوتا يهتف وراءها :
" إنه منظر اخاذ اليس كذلك؟".
إستدارت كوري ورفعت نظرها لترى رجلا
ينتصب شامخا أمامها كتمثال قديم ، تتدفق
حرارة الشمس العارية في ملامحه الصخرية ،
تجمد الدم في عروقها ، وحل في حلقها

جفاف رهيب ، بلعت ريقها ، وهي تلمس
أهمية إجابتها لئلا تثير الشبهات :
" إنها حقا أخّاذة".
رأت عيناه تتقلصان ، وكأنه ادرك مأزقها ،
لكن صوته ظل عاديا :
" ماذا دهاك يا كولن؟".
وقفت وقفة ثابتة لأخفاء إضطرابها الشديد ،
وتمتمت بصوت عميق منخفض النبرة:
" لا شيء البتة ، كنت أتخيل نفسي ألتقط
صورة هذا المشهد الرائع" .

" إنه مشهد يستحق لوحة زيتية ، وليس مجرد
كاميرا ، علينا الإسراع في نصب الخيام يا
كولن ، ما أن تغيب الشمس حتى تنتشر
الظلمة بسرعة".
" طبعا".
وعندما إنضمت الى الرجال المتحلقين حول
العربات ، أدركت كوري أنها إرتكبت أول
أخطائها ، وخطأ بالغ البساطة أيضا ،
إعتادت في حياتها القصيرة ان ترى الرجال
ينصبون الخيام والنساء يتولين شؤون الطهي ،

ولكنها تخلت الآن عن مهماتها كرجل ،
وبدون وعي منها .
لا بد من الإحتراس الدائم ، خاطبت نفسها
، وهي تتقدم لتساهم في أداء دورها ، وطرق
مسامعها صوت اجش:
" هل بدأنا بالتهرب من واجباتنا؟".
لم ترفع كوري عينيها ، عرفت ان صاحب
الصوت يدعى بويد خبير الحوال الجوية ،
ويكاد يضارع فريزر طولا ، وهو فظ وخشن
الملامح ، وكانت عندما تعرفت اليه في

الصباح لمست بعض الإزدراء في سلوكه ،
حاولت آنذاك طرد هذا الإنطباع ، معللة
نفسها بتوقع معاملة أفضل بعد زوال قلقها ،
لكن لهجته الهازئة هذه المرة بانت واضحة لا
شك فيها ، وأعاد الكرة:
" ما بالك أيها الرجل الهزيل؟".
ونتيجة خبرتها بالرجال ، فهمت كوري انه
يتعمد إستفزازها ، قالت باعصاب هادئة:
" لم يخطر ببالي التهرب من واجبي".
فتابع إستهزاءه بفظاظة:

" إنك مغرم بمغيب الشمس ؟ اعرف نوعيتك
يا لاسن ، لن يمكنك تحمل الصحراء طويلا".
وإقترب منها ، أحست بطبيعته العدوانية ،
المجسدة في منكبيه العريضين ، وصفات
الشقي المتنمر ، إستطرد ينفث كلماته :
" كيف حصلت على هذا العمل ؟ هل إنعدم
وجود مصورين آخرين ام ماذا؟".
كان من السهل الظهور بمظهر رجل ، أما
إنتحال جوهر شخصية الذكر ، فتلك مسألة
أخرى ، ما هي ردة فعل رجل حقيقي على

هجمات بويد ؟ تساءلت كوري بياس قاتل ،
هل يخرسه بكلمات محكمة ؟ ام أن هذه
طريقة إمرأة في مواجهة وضع كهذا ؟ ربما كان
يعمد الى لطمه على وجهه بجماع قبضته ؟
حتى ولو خسر العراك الذي لا بد من نشوبه
، يكون أثبت مقدار شجاعته ، كان ذلك
خيارا يستحيل عليها إنتهازه ، قالت بحذر:
" لماذا لا تبحث الموضوع مع فريزر ؟ إنه خير
من يشفي غليلك ".
وبصق بويد بقرف:

" يا لك من احمق مغفل".
أصاب بعض الرذاذ خد كوري ، إستشاطت
غيظا ، نسيت تلك اللحظة من هي ، وكيف
عليها أن تكون ، ورفعت يدها ، غير عابئة
بالعواقب لتصفع وجه بويد عندما قال صوت
هادىء :
" دع الولد وشانه ".
كان الصوت صوت مارك ، لم تره كوري
يقترب منها ، وهي تتأجج غضبا ، وإنتبهت

الى يدها المرفوعة ، فأرختها ببطء ، محاولة
كبت إضطرابها وقد صدمها الواقع الأليم.
كادت تصفع وجه بويد ، فيظنها صفعة رجل
، ويضطر لرد الصاع صاعين ، وكان إفتضح
أمرها خلال ثوان معدودة .
إستدار بويد نحو مارك يتهدده:
" لا تتدخل فيما لا يعنيك".
ورد مارك العالم الهادىء ، الدمث ، بلهجة
جازمة ، مما أثار دهشة كوري :

" كلا ، لا يجوز السماح لكما بالعراك في
يومنا الأول ، وإفساد معنويات الجميع".
ظل بويد في ثورة من الغضب :
" هذا الولد معتوه ، يتيّمه غروب الشمس
ونحن نقوم بكل الشغل ، لا مكان له بيننا ".
أجاب مارك بدون تردد :
" فريزر إختاره ، دعه وشأنه يا بويد ، لا يزال
في مطلع العمر ، وسيتعلم شيئا فشيئا ".
نظر بويد الى كوري التي ظلت صامتة طوال
الوقت :

" إياك أن تقترب مني أيها المغفل".
وعلّق مارك عندما هم بويد بالتحرك :
" إنه راي حكيم ، لا تقترب منه ، إنه يتقن
عمله ، ولذلك تجده هنا ، ولكنه يحب إثارة
المشاكل للآخرين ".
ووجدت كوري صعوبة في السيطرة على
صوتها وهي تقول :
" ولكن لماذا لا يزعج أحدا سواي ؟".
طمانها مارك بنظرات ذات مغزى :

" لأن احد أصدقائه الأعزاء اراد الحصول
على عملك ، ولكنك سبقته اليه ، ولا بد
من الإعتراف أن بنيتك لا تساعدك كثيرا ،
فتشجع اشخاصا مثل بويد لعرض
عضلاتهم".
قالت كوري بإعتداد لا يمت اليها بصلة:
" إن ضربة واحدة كانت كافية للقضاء عليه
، ولكن أعتقد انك على حق يا مارك ، من
الأفضل تجنبه قدر المستطاع".

-3 ثلاثة ايام في المخيم علّمتها كيف تتغلّب
على الصعوبات وتجد متعة في عملها ، ولكن
فريزر يفقدها توازنها ، إنه نقطة ضعفها
الوحيدة.
أخذ الليل يرخي سدوله عندما أنهى ارجال
نصب الخيام ، جمعوا بعض الأغصان اليابسة
والأعشاب الجافة ، واضرموا فيها النار ،
وذلك من اجل طهي الطعام وصد حيوانات
الصحراء المفترسة .

جلست كوري مسترخية بجانب السنة اللهب
المضطرمة ، تتنشق رائحة الطعام الشهية ،
وتصغي الى أزيز حشرات الليل تختلط
بهسهسة تقطّر اللحوم المشوية في قلب
النيران ، وطافت على فمها إبتسامة حائرة
وهي تفكر في زميلاتها وزملائها ، وردة فعلهم
إذا ما رأوها الآن ، مقرفصة فوق الرمل
بلباس الرجال ، تزدرد طعامها من صحن يثير
إشمئزاز عارضات الأزياء ، ذوات الأنفة
والناقة .

وادركت كوري ان عشاء الليلة سيكون
إستثنائيا ، لن يدخل فمها بعد الآن سوى
المآكل المعلبة ، وبكميات قليلة ، وستصبح
قطرة ماء أغلى من الذهب في أرض تندر
فيها مياه الشرب العذبة.
وإرتفعت حولها أصوات همهمة ، ذات رنين
عميق ، رجولي اجش ، كانت هذه هي المرة
الأولى التي تجد نفسها فيها بين مجموعة من
الرجال ولا تشكل محط الإهتمام والإطراء ،
أما الآن فكل رجل يرخي العنان للسانه ،

ويتفوه بما يطيب له ، دون رقيب أو رادع ،
ترى كيف كانوا سيتصرفون لو عرفوا أنها انثى
إقتحمت حياتهم الخاصة؟
كان مارك يجلس بجانبها ، غارقا في حديث
مع عالم جيولوجي ، وترامى صوته اليها هادئا
، خفيضا ، بارعا ، شعرت بالسعادة لكونه
صديقا له .
وها هو بويد ، يجلس بعيدا عنها ، يروي
نكتة بذيئة ، ويقهقه من أعماق قلبه.

زمت كورس شفتيها ، تضاءلت صورة بويد ،
خبير الأحوال الجوية ، في ذهنها ، لتحل
محلها صورة فريزر ملوري ، رأته ينتقل من
مكان الى آخر ، يتبادل أطراف الحديث مع
فريق عمله ، ولاحظت التجاوب الودي
الذي يحظى به ، حتى بويد تصرف بإحترام
فائق ، وفجأة سمعته يقول بصوت أقرب الى
الهمس:
" سمعت أنك تورطت في مشكلة مع بويد".
وافقت بهز الرأس ، مبدية إمتعاضها ، فتابع :

" إنه فظ المسلك ، ولكنه طيب القلب ،
حاول أن تتفهم طبيعته يا كولن".
" حسنا سأحاول ".
تمتمت عبارتها ، ونبضات قلبها تزداد خفقانا
، متمنية لو يدنو منها أكثر فأكثر ، ماذا
دهاها ؟خاطبت نفسها ...هل فقدت صوابها
؟ الم تلتحق بهذه الرحلة لأنها أرادت الإبتعاد
عن احد الرجال وكل ما يمثله ؟ اتت الى هنا
لحاجتها الى العزلة ، والتر وي ، وإستعادة
ثقتها بنفسها ، لم يخطر ببالها الإلتقاء بشخص

يؤثر على مشاعرها الى هذ ا الحد الهائل
المخيف.
تابع فريزر حديثه ، مشيرا الى إختصاص كل
فرد من أفراد الفريق ، كانت لهجته ودية ،
حميمة ، تهدف الى تهدئة أعصابها ، وحملها
على العمل بإنسجام مع بقية المجموعة.
لكنها كانت في عالم آخر ، فلم تفقه شيئا مما
قاله ، ومع أن الظلام الدامس حجب عنها
ملامح وجهه ، لم تجد صعوبة في رؤيتها كما
هي بعين خيالها ، وأحاسيسها ، وكل خفقة

في عروقها ، كان يتكىء على مرفقيه ، مادا
امامه ساقيه الطويلتين ، يكلمها دون تكلف
او إستهجان ، أما تلك الهالة الباهرة فظلت
تحيط به ، مضاعفة إستسلام كوري لخيالها
وأحلامها .
هل كان إهتم بها لو تعرف اليها ككوري
لاتيمر ، فتاة يتدلى شعرها الأسود فوق
كتفيها وينعكس مزاجها في عينيها
البنفسجيتين الواسعتين ؟ هل ينجذب نحوها
مثلما إنجذبت نحوه هي؟

يا للهول ، قطعت شريط أحلامها ، مدركة
أنها ترتكب حماقة مميتة ، يجب عليها
الإحتراس الدائم ، وعدم السماح لنفسها
بالتورط في علاقة عاطفية وحيدة الجانب تزيد
شقاءها شقاء ، أن فريزر ملوري لا يحترم
النساء ، رغم تمتعه بهن عندما تسنح له
الفرصة .
من المحتمل أن تنشأ بينهما علاقة عاطفية ،
لو إلتقيا في ظروف عادية ، لكنها ستكون
حتما علاقة محددة بمفاهيم فريزر ، ولن يكون

لها مستقبل ، إنها عارضة ازياء ، وإبنة جون
لاتيمر ، مما يعني إحتقار هذا الرجل لها أكثر
من إحتقاره لغيرها من النساء.
سرت رعشة باردة في جسم كوري رغم دفء
السنة اللهب ، وغمرتها الس عادة عندما نهض
فريزر وإبتعد عنها ، ثم حدقت في الظلمة
الداكنة منقبضة القلب ، يمزقها صراع عنيف.
كانت النجوم الساطعة تضيء السماء
الصافية بوهج باهر ، ولامست وجنتيها
نسمات الليل المنعشة، وهي تصغي الى

اللغط المتواصل حولها ، وفرقعة النيران
وطقطقتها ، وفجاة إرتفع في البعيد صوت
اشبه ببوق عميق ، هل هو صوت فيلة ؟
خيم الصمت على الجميع للحظات قليلة
كانهم تنبهوا الى وعورة الصحراء ووحشتها.
نهضت كوري ومشت مبتعدة عنهم عندما
إستأنفوا أحاديثهم المتنوعة ، وتوجهت بحذر
وبطء الى الخيم المخصصة لها ، وقع نظرها
على اسرّة داخل الخيمة ، لم يكن بإستطاعتها
طلب خيمة خاصة بها وحدها ، إذ كانت

ستثير الشكوك لو تقدمت بطلب كهذا ، عن
فريزر وحده كقائد الرحلة يتمتع بهذا
الغمتياز.
لم يكن امامها إلا طريقة واحدة لخلع وإرتداء
ملابسها ، لا بد لها من معاينة عادات رفاقها
واوقات دخولهم وخروجهم ، وقررت أن
افضل حل هو أن تأوي الى النوم قبل
الآخرين بقليل.
كانت كوري لا تزال مستيقظة عندما تفرّق
الرجال بإتجاه خيامهم ، ظلت ساكنة تتنفس

ببطء وإنتظام ، وعرفت أن بويد ومارك من
الذين سيشاطرونها الخيمة ، وسمعت بويد
يعلق بمرارة:
" يحتاج هذا الحقير الى النوم باكرا ليحافظ
على جمال وجهه".
ورد عليه مارك بحدة لم تعهدها من قبل:
" دعه وشأنه ، إن فريزر لاحظ مضايقتك
له".
" كان بإمكانه إختيار شخص أقل حقارة".
وإزدادت لهجة مارك حدة:

" ان لفريزر اسبابه الخاصة ، بالله عليك ، لا
تفسد كل شيء يا بويد ، إنها رحلة شاقة
وطويلة ولا يمكننا تحمل خلافات كهذه".
وتمتم بويد :
" الويل لك ايها الحمق".
وركل سريرها بغلاظة ، فحبست كوري
أنفاسها ، ثم أحست به يبتعد عنها.
أغمضت عينيها بإحكام وهي تصغي الى
احاديث الرجال ، وترامى الى مسامعها
حفيف الثياب وإرتطام الأحذية المخلوعة ،

وفكرت ان ما يمر بها الان سيكون اغرب
حدث في حياتها .
وإمتلأت الخيمة ، بعد برهة قصيرة ، بشخير
متواصل ، منتظم ، حال بينها وبين ملاك
النوم رغم تعبها وإرهاكها ، إستلقت في
الظلام تسترجع احداث يومها المثيرة ....
مفارقة والدها ، وصولها الى ميوفونتين ،
المواظبة على تمثيل دور الرجل ، التحليق
بالطائرة الى الصحراء ومواجهة بويد المزعجة
، إستعادتها حادثة حادثة الى أن توقفت

طويلا عند صورة رجل طويل ، ضامر القوام
أسمر الوجه ، صارم الملامح ، تدفعها جاذبيته
الى كشف هويتها كإمراة متيّمة.
بعد مرور ثلاثة أيام في الصحراء ، احست
كوري بإرتياح وهدوء الأعصاب ، وكان
ايامها الأولى سحابة صيف عابرة.... ثلاثة
ايام قضتها تعيش وسط المخيم ، تلتقط
الصور وتستمتع بعملها ، ثلاثة ايام في
صحبة مجموعة من الرجال ، حيث توطدت

صداقتها بمارك ، وتعلمت كيف تتفادى
شراسة بويد ومراسه العنيد.
وحده فريزر يفقدها توازنها ، هذه نقطة ثابتة
، كانت تمنّت أن تعتاد على شخصيته الجذابة
، أما ما حدث فكان العكس تماما ، بل
إزدادت الأمور سوءا ، ظلت ردة فعلها أزاءه
غريزية عفوية ، تبذل جهدها في كبتها ،
والإحتفاظ بموقف حيادي عادي.
أما مسرحيتها الخادعة فصارت الآن مسألة
طبيعية ، سهلة التنفيذ ، وواظبت بعد الليلة

الأولى على الإيواء الى الفراش قبل الآخرين ،
وتظاهرت في الصباح بالإستيقاظ متاخرة ، لا
ترتدي ملابس عملها إلا بعد مغادرة رفاقها
الخيمة، أما الإغتسال فكان مشكلة حقيقية
، إذ لا تتوفر الحمامات هنا ، ولكنها مشكلة
إستطاعت التغلب عليها ، تعلمت إستغلال
الوقت وإنتهاز الفرصة المناسبة ، ولأنها هادئة
الطباع ، محتشمة المسلك ، لم يعرها الاخرون
إهتماما.

لم يكونوا قد قطعوا مسافة طويلة حتى الان ،
إختار فريزر مكان المخيم قرب كومة من
الصخور تمت بصلة الى أبحاث الرحلة العلمية
، لم تتصور كوري انها ستنكب على عملها
بهذا الشغف ، كانت دراسات والدها قد
قادتها الى الألمام ببعض تفاصيل الجيولوجيا ،
ووجدت نفسها وهي تلتقط صور نماذج
صخرية تتوق شوقا الى الإطلاع أكثر على
أصولها وكيفية تركيبها

إنها تجد متعة غريبة في عملها ، حدثت كوري
نفسها وهي ترقب رمال الصحراء الحمراء
المتوهجة ، ها هي تقوم بمهمة مختلفة ، لم
يسبق لها القيام بها ، وتعيش في صحبة رجال
، لا علاقة لهم بمن عرفتهم في عالم الأزياء ،
إنهم اشد جدية ومباشرة ، باطنهم كظاهرهم ،
لا خداع ولا تكلف ، كأن إنعدام الإناث ،
ومستلزمات الصحراء الصارمة ، ومتطلبات
العمل مرآة سحرية تكشف طبيعتهم الأصيلة
وشخصيتهم الفعلية ، طارحة جانبا كل زيف

أو مظهر كاذب ، إنها من وراء قناعتها
تشاهد منظرا نادرا سقطت فيه كل الأقنعة
التقليدية وأعراف المجتمع المفيدة.
إنها تحيا لحظات مليئة بالمفاجآت السارة ،
كانت تتوثع صحراء قاحلة تعج بحر قاتل
ورمال لا حد لها ، ولا شك ان الحر متوفر ،
والرمال كذلك ، رمال حمراء كأنها تستمد
لونها من لهب الشمس ، لكن الصحراء
ليست مجرد رمال ، كانت هناك أغوار مليئة
بالماء ، تنمو على أطرافها شجيرات صغيرة

الحجم ، ومساحات واسعة من النباتات
القاسية العنيدة المتشبثة بالحياة في أرض تندر
الأمطار وموارد الطبيعة الخصبة.
وصلوا الى نهر يتماوج فيه القصب الطويل
الغليظ ، وإرتعدت فرائص كوري عندما رأت
أول تمساح ، أغبر اللون ، بشع المنظر ،
يتمد كأنه يغط في نوم عميق فوق ضفة الرمل
الحارة ، وعاجل مارك الى تهدئة روعها ،
وتحذيرها من مغبة الإغتسال او السير في
مجرى الماء الموحل.

كانت السهول المحيطة بالنهر تعج بالحيوانات
، وفي الليل ترامت الى مسامع كوري اصوات
بعض الفيلة ، لكنها لم تدرك مدى أعدادها
الكبيرة ، وفاتها ان الغابة المجاورة تزدحم
بالنمور والأسود التي تتغذى بما تصطاده من
الظباء والحمير الوحشية عندما ترد النهر
لإطفاء عطشها .
حتى الان لم تعثر على أثر للحياة البشرية في
هذه البقاع ، مع ان والدها حدّثها مرارا عن
وجود بعض الجماعات ذوي القامة الضئيلة

واللون الضارب الى الصفرة ، جماعات تتمتع
بقدرة عجيبة على العيش في قلب هذه
الأرض القاسية المعادية ، كما ان كوري لم يقع
نظرها حتى الان على رسوم صخرية ، وهي
أساس ابحاث والدها ، لكنها بعد مضي ثلاثة
ايام فقط أصبحت تفهم ولعه بهذه الأرض
الشاسعة ذات الشمس الحارقة ، والحياة
الخشنة.
سرت في شرايينها موجة من الحر اللاذع ،
وهي تجلس في سيارة الجيب التي أخذت

تشق طريقها الى الأمام دون ان تعرف
وجهتها المحددة ، كانت المشاهد الصحراوية
حولها تستقطب إهتمامها ، فلم تنتبه كثيرا الى
أي إزعاج اومشقة ، وبينما هي غارقة في
افكارها ، توقفت سيارة الجيب فجأة ،
وسمعت كوري عويلا حادا اليما ، نظرت الى
السائق مرتاعة ، ثم قفزت من العربة لتلتحق
بالرجال الذين تجمعوا على حافة الطريق .
رأت صبيا جاثيا في الغبار ، يتمد أمامه كبش
ماعز هامد الجثة ، وأدركت ما جرى ، كان

الصبي يسوق قطيعا من الماعز ، عندما إندفع
الكبش نحو منتصف الطريق ، فدهسته العربة
الأمامية وقضت عليه.
راح بويد ، سائق السارة ، يؤنب الصبي ،
ويوبخه على إهماله وطيشه ، فأجهش بالبكاء
وهو يسمع هذه اللهجة القاسية ، وهنا
تدخل فريزر ، دافعا بويد جانبا ، ومتوليا
زمام الأمور ، إنحنى ارضا ومر بيده فوق جثة
الكبش ، ثم اشار لأحد الرجال بجره الى حافة
الدرب ، وركز إهتمامه على الولد .

طغى على الصبي حزن عارم ، وكان عويله
الذي إخترق أذني كوري حادا يشق الفضاء ،
وعمد الى لطم راسه بالأرض مرتين ، وبقوة
مؤلمة.
وقف الرجال حائرين ، مكتوفي الأيدي ،
وتكلم فريزر الى الصبي ، حاول مخاطبته
بالإنكليزية ولغة أفريقيا الجنوبية ، وبلهجتين
عامتين ، لكن كلماته ذهبت سدى ،
وإسترسل الصبي في عويله.
صاح بويد يتوقد غيظا:

" إنه يحاول إستدرار الشفقة ، والحصول على
حفنة من الدراهم".
إستدارت كوري نحوه وقد إستبدت بها
غريزتها:
" هل أنت عديم الإحساس الى هذا الحد؟".
ورد بضراوته المعتادة:
" هذه مسألة لا تعنيك أيها المغفل".
وبادر فريزر بالقول:
" إنه مجرد حادث ليس إلا ".

ورأته كوري يمد يده الى جيبه ، ويمسك بكف
الصبي ويعطيه بعض الأوراق النقدية .
رفع الصبي الصغير وجهه الذي يكسوه
الوحل والغبار ، وحدج النقود برهة ، ثم راح
يعول مجددا ، قال فريزر باسى:
" أنا آسف لهذا الحادث ، ولكنني اعطيته
أكثر مما يحتاج لشراء كبش آخر".
وإزداد ب ويد شراسة:
" الأفضل أن تتجاهله دعه يعول الى أن تجف
دموعه".

ودفع فريزر بورقة نقدية الى اخرى الى يد
الصبي معلقا:
" لا بد من إستئناف الرحلة ، ليرجع كل
منكم الى عربته ".
" كلا ) صرخت كوري محتجة ، مستهجنة (
لا يمكننا ترك الولد في هذا الوضع".
ووجدت نفسها ، وبدون إنعام النظر ، تنحني
لتضم الصبي الى صدرها غير عابئة بالاوساخ
تلطخ ثيابها ولا بتاثير تصرفها على رفاقها ، لم
تفكر إلا بذلك الولد البائس ، وحاجته الى

العطف والطمأنينة ، أخذت تهدىء من روعه
، وتهمس في اذنه كلمات الحنان والشفقة ،
ولا يهم انه لا يفهم معنى كلماتها ، فهو
سيفقه نيتها وإهتمامها به .
وما لبث الولد ان سكن روعه ، وتوقف عن
البكاء والعويل ، إنه مجرد طفل ، فكرت
كوري ، طفل صدمته خسارة أعز ما لديه ،
ولا شك ان الدراهم تمكنه من شراء كبش
آخر ، لكن الوقت وحده والحب يشفيان

الجرح الذي فتحه الموت المفاجىء في قلب
ولد صغير.
إعتقدت كوري أنها قامت بواجبها نيابة عن
الجميع ، فليتوجهوا الآن الى السيارات لمتابعة
الرحلة.
رفعت بصرها ، كان الصمت يخيم على
الجميع ، صمت غريب ، أليم ، مترقب ،
جالت بنظرها من وجه لوجه ، فإنتابها
إضطراب شديد ، كان الرجال يحدجونها
بتمعن ، وعلت وجوههم إمارات الحذر

والتساؤل ، وعلى نحو مباغت ، زم بويد
شفتيه بخبث مخيف ، وبدا مارك عصبي المزاج
، اما ملامح ف ريزر فكانت كالحة قاتمة ، كان
وجه فريزر يثير فيها الرعب أكثر من أي
شيء آخر.
وقفت على قدميها ، متلعثمة ، تحاول إخفاء
إضطرابها :
" يمكننا الذهاب الآن".

لم يجبها أحد ، ولم تبدر اية إشارة من احد ،
اصيب راسها بالدوار وكررت كلماتها بلهجة
اقل إقناعا:
" يمكننا الذهاب الان ".
رنّ صوت فريزر في أذنيها :
" بعد قليل ، تعال معي".
نظرت كوري الى مارك نظرة إستجداء ، لم
ينبس ببنت شفة ، وخالته يهز برأسه مبديا
اسفه ، وعجزه عن مساعدتها.

لم يكن امامها خيار سوى السير وراء فريزر ،
وشعرت فجأة بالرعب الشديد ، ومع ذلك
صممت على كبت مشاعرالخوف امام
المجموعة ، مشت وراء فريزر برأس مرفوع ،
كانت كل الأنظار مركزة عليها ، وهي تخطو
خطواتها الوثيدة ، المرهقة.
جلست بجانبه في سيارة الجيب ، وإستعدت
كوري للمعركة الحاسمة ، تتجاذبها مشاعر
خفية ، غامضة اتجاه فريزر ، وكل ما يمثله من
قوة ورجولة وجاذبية.

وأخيرا فتح فاه قائلا بتمهل مقصود :
" نعم يا سيد كولن لارسن !".
وتمتمت كوري :
" نعم يا سيد ملوري!".
وخرج صوته رقيقا ، ناعما ، ومغلفا بالخطر:
" أعتقد أن عليك إيضاح موقفك".
وسألته بخفة ، وكانها احست بإقتراب ساعة
الإنفجار :
" تقصد تعويقي للرحلة ؟ لم يكن في اليد
حيلة ، والولد في تلك الحالة السيئة".

وهز رأسه :
" حسنا".
" لم نتاخر كثيرا ) ردت متلعثمة ( وعزّ عليّ
التخلي عن الصبي يعتصره الألم".
" ليس هذا هو الموضوع الرئيسي ، وأنت
تعرف في أي مكان هنا ....".
وعاد يسالها مشددا على السم الول:
" هيا يا كولن .... هل ستخبرني الحقيقة أم
تضطرني لإنتزاعها منك بالقوة؟".

رات في عينيه قساوة مدمرة تخمد النفاس ،
فقالت متوسلة :
" إنك تسيء الفهم ".
ورد بفم ممتعض:
" اسيء الفهم ؟ لنتحقق من ذلك...".
ومد يده الى وجهها ، ونزع الشاربين بحركة
سريعة.
لمست كوري شفتها العليا بانامل مرتجفة ،
شاعرة بإنهيار حصنها المنيع.... حاولت أن
تتكلم فخانتها قواها.

وإزداد فريزر غيظا.
" والان الى القناع الاخر ، هل تنزع
النظارات ام أنزعها أنا؟".
وجدت نفسها تتضرع قائلة:
" سانزعها ،سانزعها".
وها هي الان تبدو على حقيقتها ، تلتهمها
عينا فريزر بوقاحة ، وإنتقام ، وسمعته يبدي
إعجابه:
" يا للجمال ، يا للجمال ، ما هذه الأفكار
الجهنمية يا كولن؟ ) وبلع ريقه ( ولكنك

لست كولن طبعا ، ما هو الإسم الحقيقي
.... كارلا؟".
4 - بعد أن إنفضحت اللعبة ، أحست
كوري أن عليها الفرار من هذا المكان ،
ولكن فريزر قال لها : " فات أوان العودة
الآن ، لقد توغلنا كثيرا في الصحراء".
وقالت بصوت هامس:
" إسمي كوري".
" إسم عائلتك ؟ اريد أسم العائلة".

وإستطاعت لفظ إسم العائلة بشق النفس.
" لا تيمر ".
جحظت عيناه ، خالته متوتر الأعصاب ،
كان صدمة عنيفة أصابته ثم علت وجهه
إبتسامة هادئة ، واعلن بصرامة :
" إبنة جون لاتيمر ، والدك خطط كل ذلك
، يا للغرابة ، اذكر أنه شيطان خبيث ، ولكن
لم اتوقع خدعة كهذه.
وإنفجرت كوري :
" لا ، والدي لا علاقة له".

ورد فريزر بإشمئزاز :
" إذن ما هذه المسرحية؟ .... اليست
خدعة؟".
إعترفت كوري:
" نعم إنها خدعة ، ولكنك تظلم والدي
بدون مبررر ".
" انا .... أظلمه؟".
" نعم ) أكدت له كوري ( إنها خطتي وحدي
، ولا علاقة لأي شخص بها".

" ان والدك يريد الحصول على صور
الحيوانات الصخرية.... تلك الحيوانات
اللعينة التي لم يتاكد من وجودها حتى الان".
كان فريزر ثاقب البصيرة ، متقد الذكاء ،
وأدرك في ثوان معدودة هدفها من إنضمامها
الى الرحلة ، ولم تجد كوري مهربا من الموافقة
على رايه ، فصاح بها:
" إذن لماذا لم يأت هو بنفسه؟".
عضت كوري على شفتيها مستجمعة
شجاعتها :

" لأنك كنت سترفضه وتخيّب آماله ، اليس
كذلك؟".
واجاب متملصا من إبداء راي قاطع :
" ليست المسالة بهذه البساطة ، كان
بإستطاعته إخباري".
إستردت كامل ثقتها وهي تؤكد له:
" كلا ، إن والدتي معتل الصحة ، ولم يعد
قادرا على تحمل حياة الصحراء".
لم تثر كلماتها أي تعاطف مع وضعها ، بل
إزداد فريزر ملوري حدة:

" إذن قرّر أن تحلّي محله".
" لا ، قلت لك أن القرار قراري أنا".
" قرارك الذي وافق عليه بحرارة".
وتشبثت كوري برايها :
" على العكس من ذلك ، إن والدي لم
يعرف شيئا عن الموضوع".
خيّمت لحظة من الصمت ، كان فريزر يدرس
وجهها بتململ وتساؤل ، وخالت كوري ان
هذا الرجل العنيد يمسك مصيرها بين يديه ،

وقرأت في ملامحه علامات الشك والإرتياب
في كل كلمة تفوهت بها ، وسمعته يقول:
" إنك نادرا ما تلتقين بوالدك ، ولذلك
يمكنك الإختفاء من دون ان يدري اين
انت؟".
تلقّت كوري الطعنة بأنف شامخ:
كنت أعرف انك رجل متحجر القلب ،
متغطرس ، عديم الرحمة ، لكن فاتني انك
ايضا رجل خسيس وضيع".
وزم شفتيه:

" خسيس؟".
" ما معنى هذا الغمز واللمز إذن ؟ إن
علاقتي بوالدي علاقة وثيقة ، وكلها حب
وحنان ، والدي يعتقد انني أقضي إجازتي
السنوية ولا يتوقع عودتي قبل بضعة اسابيع".
" الم يخامره الشك حول نواياك الحقيقية؟".
ذكّرها السؤال بآخر لقاء لها مع اريك ، وكل
التعاسة التي تخللته ، أحست بإنقباض ،
فإبتعدت عن فريزر قائلة:

" والدي فهم حاجتي الى قضاء بعض الوقت
وحيدة".
وتمنت في اعماق نفسها لو يخلي فريزر
سبيلها ، ويدعها وشانها ، لو يتوقف عن
إستجوابها وينهي عذابها وقلقها ، وهي تحس
بتلك القوة الخفية التي ما زالت تشدها اليه.
لم تلمح اليد التي إمتدت صوبها ، طوّق
عنقها بأصابعه الطويلة ، فكاد وجهها
يصطدم بوجهه وهو يجبرها على النظر اليه ،

خفق قلبها في قفص صدرها كعصفور وجل ،
وخاطبها بلهجة هادئة مختلفة:
" بذلت جهودا كبيرة للإنضمام الى هذه
الرحلة، هل تعني لك الشيء الكثير؟".
حاولت التملص من قبضته دون جدوى ،
أحست بوخز غريب في وجنتيها وعنقها ،
وظل يراقبها بدقة ، ترى هل يدري مدى
تاثير شخصيته عليها ؟ نعم ، إنه يعرف كل
شيء ، وهو يجد متعة في ذلك ، كان حلقها

جافا ، فوجدت صعوبة قصوى وهي تتابع
الحديث:
" هل لك معرفة بأبحاث والدي العلمية ؟ لقد
وضع كتابا حول شعوب افريقيا القديمة ،
وهو يتوق للحصول على صور الرسوم
الصخرية منذ فترة طويلة".
سحب فري زر يده:
" إن لديه صورا اخرى".
اقرّت بهدوء :

" هذا صحيح ، ولكنه يريد هذه الصور مهما
كلّف الأمر".
أجاب فريزر بصوت يخالطه الغضب
والإعجاب الدفين :
" يا له من كهل عنيد".
وظنت أن التفاهم معه بات محتملا:
" هكذا تفضّل ان تراه ، ظل والدي يحلم
بالرسوم سنوات وسنوات ، وهو يعرف انها
هناك ، يؤمن أنها موجودة ، ولو كان اصلب
عودا لخرج الى الصحراء منذ زمن طويل ،

ولكن ليس في الأمر حيلة ولهذا السبب
قمت بالمهمة نيابة عنه لو كان لديك حلم يا
فريزر ، ألا ...".
ولم تكمل عبارتها ،، مدركة أن عواطفها
إستبدت بها ، لاحت في ذهنها صورة عجوز
خائر القوى ، ستمر على قيد الحياة لتحقيق
حلم واحد ، والى جانبها رجل شاب بلحمه
ودمه إفترضت أنه سيقدر معنى هذا الحلم ،
ولكنه خيب أمالها ، لم تحركه كلماتها المتوقدة
عاطفة ، بل أن بريق عينيه يروي لها قصة

أخرى ، إن الموقف يزداد سوءا مع كل كلمة
تنطق بها.
قالت وهي تنفجر غيظا:
أنت لا تفقه شيئا ، أو انك تتظاهر بالغباء".
ومضت عيناه ، وطاف شبح إبتسامة فوق
شفتيه:
" أنا افهمك تماما ، ولكن أعتقد ان والدك
سيكون في وضع أفضل لو رزقه الله إبنا
عوض هذه الإبنة ".
فتطاير الشرر من عينيها:

" إذن والدي على حق ، أنت تحتقر النساء ،
إنك تكرهنا ".
ضحك قائلا:
" أكرهكن ؟!! انا لا أكره النساء يا عزيزتي ،
إنني اتمتع بصحبتهن كثيرا في بعض الحيان )
ونظر نظرة ذات مغزى ( أما من حيث
إحتقارهن ، أكتفي بالقول أنني حتى الان لم
أجد إمرأة تحوز على إحترامي".

حدقت فيه كوري لحظة صامتة ، إجتاحتها
رغبة عا رمة لأثبات مدى خطأه ، قالت
بصوت مرتفع :
" واضح، إذن ، إنك كنت سترفضني لو
عرفت انني إمرأة ".
ورد ببرودة تامة:
" طبعا ، ولهذا السبب إنتحلت شخصية
رجل".

تنهدت بعمق ، إنه رجل صعب المراس ، يرد
على كل تهمة ، ومهما كانت محقة ، بإعتداد
وهدوء ، حاولت ثانية:
" أنت تعتبر النساء ناقصات العقول".
" أنا لم اقل ذلك".
سمعته يكبت ضحكة خافتة ، إن جوابه
واضح ، لا يحتاج الى تفسير ، فرغت جعبتها
من العبارات الملائمة ، لم تعد تفكر إلا في
الإبتعاد عنه والإنضمام الى الآخرين.

همّت بفتح باب السيارة ، لكنه سارع الى
جذبها نحوه ، وشعرت بيديه الكبيرتين تطوفان
فوقها وكاد يسحقها بجسمه الثقيل ، راحت
تقاومه بكل ما تملك من قوة ، لا لن تدعه
يعبث بها مهما بلغ إعجابها به ، إنه يحاول
إذلالها وتحطيم كبريائها ، فلتدافع عن نفسها
، وتلقّنه درسا لن ينساه.
وأخيرا أطلق سراحها ، ودفعها بعيدا عنه
بحركة مفاجئة ، فرفعت يدها ولطمته على
وجهه بعنف ، جاءت صفعتها تعبيرا عن

حنقها لاسلوبه في معاملتها ، وإنتقام ا من
نفسها لإعجابها به في المقام الأول ، وقال
يؤنبها :
" إياك أن ترتكبي هذه الحماقة مرة ثانية ".
وصرخت في وجهه:
" كيف تسوغ لك نفسك إهانتي ؟ يا
للجسارة !".
وهدّدها :

" إن جسارتي تسوغ لي كل شيء ، وإياك ان
تنسي ذلك ، والآن تعرفين دور النساء
الوحيد في حياتي".
أحست كوري بالغثيان في داخلها ، ولكن
ماذا تفعل في هذه اللحظة؟ عليها الفرار من
هذا المكان ، بعيدا عن هذا الرجل الذي لا
يعرف حدا للإذلال والإهانة ، لم تعد تفكر
في الرحلة ، أو الرسوم الصخرية ، ولا باحلام
والدها ، كل ما تتمناه هو الفرار ، وإنقاذ

نفسها ، وتمكنت بعد لحظات من التفوه
بسؤالها:
" هل تدلني على طريق العودة؟".
أجابها بلهجة جافة :
" فات أوان العودة الان".
حملقت في وجهه ، وهي تدرك معنى كلماته:
" فات الأوان؟ ولكن... أعني ... إنك
ستدعني امضي في سبيلي الان".
فإبتسم بخبث:

" يستحيل علي ذلك ، لقد توغلنا كثيرا في
الصحراء ، ولو كان هناك مهبط طائرات
قريب من هنا لوضعتك في أول طائرة".
إستفسرت بصوت مضطرب:
" تعني المهبط الذي حطت فيه الطائرة التي
اقلتنا الى هنا؟".
فنظر اليها بإشمئزاز :
" إبتعدنا كثيرا عن تلك البقعة ، إننا نحسب
مسافة كل يوم نقطعها ، ولكن لا أتوقع منك
إدراك كل هذا ، علينا القيام بأمور عديدة

إستعدادا لتقلبات الطقس يا كوري ، ولن
أسمح لنزوات إمرأة طائشة بإفساد برنامجي".
سألته والغصة تعض حلقها:
تعني.... تعني أنك تريدني ان أستمر في
عملي؟".
إلتوت شفتاه تأففا:
" أريدك! أنا لا اريد وجودك البتة ، ولكن لم
يعد أمامي خيار".
كان الإحتقار يفوح من ملامحه ... إحتقار
الغرور والإعتداد بالنفس... لم يكن فريزر

ملوري راضيا عن الوضع أكثر من كوري ،
ولكنه وجدها فرصة سانحة للتمتع بمنظر
تخضع لظرف قاهر غصبا عنها ، وكرهته
كوري في تلك اللحظة كما لم تكره أحدا من
قبل.
خاطبته بصوت منخفض:
لن اذهب معك، افضل ان اعود أدراجي ،
إن مهبط الطائرات لا يبعد كثيرا".
فرفع حاجبيه بإستهزاء:

" تعودين بدون ماء الشرب؟ لا تتوقعي ان
نمنّ عليك بقطرة ماء واحدة يا عزيزتي ، مع
ذلك ، أنت حرة ، إذا كنت تريدين العودة
سيرا على الأقدام ، فعلى الرحب والسعة".
أدركت كوري أ نها لن تستطيع السير أكثر من
ساعات قليلة في هذه الأرض الحارة الجافة ،
وستخور قواها ، وستصبح فريسة سهلة
للحيوانات الشرسة ، وسألته بكآبة:
" إذا وافقت على البقاء ، هل تضمن لي
إستمراري في عملي؟".

قال بلهجة جازمة :
" أضمن لك ذلك ، إستأجرتك كمصورة ،
وهذا ما ستقومين به ، لا مانع لديّ شخصيا
، ولكن الآخرين سينظرون اليك نظرة مختلفة
الان".
قالت كوري بثقة غير مقنعة:
" أستطيع تدبر امري ، ولا أعتقد أنني
ساتعرض للاذى وسط مجموعة من العلماء
ذوي اخلاق عالية ".
سألها بخفة:

" وماذا عن بويد؟".
" إنه فظ وجلف ولا يرتاح الى وجودي ،
وعلى الأقل هذه كانت مشاعره عندما ظن
أنني مجرد ولد".
" وتظنين ان مسلكه سيتغير بعد أن يعرف
أنك فتاة؟".
أجابت كوري بحزم:
" طبعا ، كان عداؤه نتيجة عدم تمتعي برجولة
كافية ، وسيبتهج الان بصواب رايه".
قال فريزر ملوري بنعومة:

" لا أظن أنك ساذجة الى هذا الحد ،
انصحك بالإبتعاد عن بويد".
سألته كوري بوقاحة:
" تعني أنك تقلق علي؟".
ونظر اليها بعينين جامدتين كالجليد:
" على العكس ، أنت تتحملين مسؤولية
أعمالك ، انا لا يهمني إلا راحة رجالي ، ولا
اسمح عادة للنساء بالإنضمام الى رحلات
كهذه) وتابع مشددا على كل كلمة ( إن

معاملتنا لك ستظل كما كانت ، فلا تحسبي
أن أنوثتك تؤهلك لإمتيازات خاصة".
" أنا لم اتوقع إمتيازات خاصة ".
قررت كوري أنها حلّت كل الإشكالات ،
وبدات بفتح الباب ، فسمعته يحذرها مرة
أخرى:
" دعي رجالي وشأنهم ! إن اية مشكلة
تثيرينها بأسلوب النساء المعروف ، ستضطرني
لجلدك جلدا موجعا".
وبعينين يتطاير منهما الشرر ردت كوري:

" أنك ستجد متعة في جلدي ، تماما كما
إستمتعت بإبراز عضلاتك أمامي ، أليس
كذلك؟".
ووافق بهدوء:
" بالضبط ، يسعدني أننا نفهم بعضنا الآن ".
ساد المخيم جوجديد تلك الليلة ، لاحظت
كوري هذا الإختلاف منذ ان ترجلت من
سيارة الجيب بعد حديثها الطويل مع فريزر ،
تبدلت نظراتهم ، وتغيرت أصواتهم ، فكرت

كوري ان الرجال اصيبوا بصدمة مفاجئة وهم
يكتشفون هويتها على هذا النحو .
إعتقدت أن الأمور ستعود الى مجراها الطبيعي
بعد مرور ساعات قليلة ، ما أن تغيب
الشمس ويباشرون بشيّ اللحوم فوق ألسنة
اللهب حتى تكون قصتها الغريبة في خبر
كان.
كم كانت مخطئة ، إزدادت قصتها مع مرور
الوقت غرابة وحدّة ، ظل الرجال يتصرفون
ظاهريا بأسلوب متّزن وودي ، لكن لم يفتها

التحفظ وبعض التكتم ، بعد أن كانوا
يطلقون العنان لألسنتهم ، ويتندرون بشتى
النكت البذيئة لا يقيّدهم وجود أنثى تعكر
صفو أحاديثهم .
لم تعد تبدر عن أي منهم كلمة نابية أو إشارة
جارحة ، حملوا اليها طعامها ، وكل ما تحتاج
اليه لتناول وجبتها ، ثم تركوها بمفردها وكانها
لا تنتمي الى عالمهم.
إنها سحابة صيف عابرة ، خاطبت نفسها ،
ما زالوا يعانون من الصدمة ، ويصعب عليهم

التكيف معها ، ولا بد لهم أن يتجاوزوا ردة
فعلهم الأولى ،
لم تعد تبدر عن أي واحد منهم كلمة نابية أو
إشارة جارحة ، حملوا اليها طعامها ، وكل ما
تحتاج اليه لتناول وجبتها ، ثم تركوها بمفردها
وكأنها لا تنتمي الى عالمهم.
إنها سحابة صيف عابرة ، خاطبت نفسها ،
ما زالوا يعانون من الصدمة ، ويصعب عليهم
التكيف معها ، ولا بد لهم أن يتجاوزوا ردة
فعلهم الأولى ، ويصبح وجودها مسألة

طبيعية ، كم ستكون حياتها حرجة وموح شة
إذا رفض الرجال قبولها كواحد منهم ؟ تمنت
ان يكون صباح الغد التالي عاديا ، وتمر
الأزمة بسلامة ، لكنها كانت بالغة التفاؤل.
وحده فريزر ملوري ظل كما هو ، وكان شيئا
لم يكن ، ظل يخاطبها بلهجته المعتادة ، مثبتا
لها ان آراءه وتصرفاته لا تؤثر فيها انثى
خبيثة.
إنها في ورطة حقيقية ، إمرأة وحيدة وسط
مجموعة من الرجال في صحراء نائية ،

إلتحقت بالرحلة للإبتعاد عن تعقيدات
العلاقات العاطفية ، ولا ترغب في تقييد
حياتها ثانية ، إن فريزر ملوري لا يدرك مدى
تصميمها على التمسك بحريتها ، وحتى مارك
مع إعجابها به ، لن تتعجل في التورط معه.
وإرتسمت صورة فريزر في مخيلتها ، بوجهه
الأسمر وملامحه الخشنة ، وبكل سطوته وقوة
رجولته ، وفجاة سرت في جسمها قشعريرة
غريبة ، فكادت تنفجر غيظا ، وإزدادت
إلتصاقا بموقد النار.

" هل تشعرين بالبرد؟".
إستدارت كوري ، وصوت مارك يرن في
أذنيها ، إبتسمت :
" قليلا".
" يجب أن تلتفّي بسترة الصوف".
" اعرف ، سامضي وأجلبها ".
" لا حاجة لذلك ، خذي سترتي".
وقبل ان تبدي أي إعتراضها ، كان مارك
يلف كتفيها بسترة صوفية سميكة ، قالت
محتجة:

" لا تتعب نفسك ، من السهل علي جلب
سترتي من الخيمة".
ورد بصوت بالغ العذوبة:
" اريدك ان ترتديها".
فكرت كوري قليلا ، قررت عدم المضي في
الإعتراض ، إن مارك صديقها الوحيد في
المخيم ، لم تشأ جرح مشاعره ، فقالت
ممازحة :
" هل كنت تعرض عليّ سترتك ليلة امس؟".
سمعته يشرح بصوت مداعب:

" ليلة أمس كنت كولن ، كنت فتى لطيفا ،
ولكن هذا كل شيء ) تابع بجدية( هل
صحيح ما قاله لنا فريزر يا كوري؟ انك أتيت
للحصول على بعض الصور لوالدك ؟".
" نعم ، هل تدينني من أجل ذلك ؟".
وأجاب بصوت اجش:
" أدينك؟ لا يمكنني إدانتك لأي سبب )
وإنحنى يحضن يدها بين كفيه ( أعتقد انك
اشجع فتاة عرفتها ، واشدهن جمالا ".

كان عمل كوري قد اتاح لها الإحتكاك بعدد
من الرجال ذوي المسلك ال راقي والمظهر
الانيق ، ولم يكن اريك اول رجل صادفته ،
ولكنه صدف ان حاز على إهتمامها اكثر من
الآخرين ، وطالما تغزل بها الرجال ، وتغنوا
بجمالها ، ومع ذلك وجدت هذه الكلمات
البسيطة التي نطق بها عالم في قلب صحراء
افريقية ، أعذب وأرق ما سمعته .
وصوت رقيق دافىء قالت:
" لماذا يا مارك ؟ ما أعذب كلماتك".

" وما هي الكلمات المعسولة التي يهمس بها
صاحبنا مارك في اذن سيدة؟".
لم يشعرا ببويد وهو يقترب منهما ، أحست
كوري بإشمئزاز وهو ينحني مقرفصا بجانبها ،
وخاطبته محاولة تجاهل عبارته:
" مرحبا يا بويد ، كنت ومارك نتبادل أطراف
الحديث".
وقال بلهجة مبطنة :
" اعرف ، وأحاديث حميمة على ما يبدو، ما
رأيك بنزهة قصيرة يا ملاكي؟".

احست كوري بمارك يحبس انفاسه ترقبا ،
فقالت بتمهل:
" لا ، شكرا، تبا للكسل ".
وإزداد بويد وقاحة :
" يا للكسل ! لا باس ، يمكننا التوجه الى
الخيمة ".
وصاح مارك بحدة وغضب:
" إخرس يا بويد ، كيف تجرؤ على مخاطبة
كوري بهذه اللهجة؟".
قهقه بويد بفظاظة :

" لا تحتد كثيرا يا عزيزي! إن كوري فتاة
ناضجة ، وتعرف كيف تتصرف ، ما رايك يا
ملاكي الطاهر؟".
إذن لم يطرا أي تغيير على بويد ، فكرت
كوري ، لم تصدق فريزر عندما حذّرها منه ،
وارادت ان تكلمه ، وتشرح له عدم رغبتها
في التورط معه ، ولكن مارك سبقها بقوله:
" لن اسمح لك بمخاطبة إمرأة محترمة بهذا
الأسلوب".
وضحك بويد:

" إمرأة محترمة؟ ما هذا الهراء يا مارك؟ إنها
إمرأة لعوب تحب أن يشاطرها الرجال
خيمتها".
فقد مارك أعصابه :
" إنني أحذرك ، دعها وشانها".
" وماذا ستفعل إذا عصيت أوامرك؟".
وضعت كوري يدها على ذراع مارك تتوسل
اليه ليخفف حدة غضبه ، وقد خافت عليه
من بويد وقبضته الحديدية.
وانقذ الموقف صوت فريزر وهو يصيح:

" كوري ، بيتر أعد لك طبقا شهيا ، هيا الى
هنا".
رفعت بصرها ونظ رت اليه ، لم تلمح تعابيره
في الظلام ، ولكنها تبينت شموخ رأسه
المتغطرس ، وقررت كوري أن فريزر تعمّد
التدخل في هذه اللحظة ، ويجب عليها وضع
حد لهذه العجرفة ، فأجابت:
" اشكر بيتر عني ، لست جائعة الآن ".
هز فريزر رأسه علامة السخرية ، ثم خاطب
بويد :

"هل تسمح بكلمة معك على حدة ؟".
رد بويد بشراسة :
هل تحاول فض المشكلة؟".
" لا أبدا ، اريد مناقشة بعض الشؤون
المتعلقة ببحثنا العلمي ) وتابع مؤكدا سلطته
(، بويد... اريد أن اراك ".
وهرول بويد وراءه ، لا يلوي على شيء.
إعتذر مارك لكوري من فظاظة بويد ،
فقالت:
" لا تهتم، أستطيع تدبر أمري".

وتوجها الى المخيم حيث تحلق الآخرون
ينشدون اغنية مسلية.
5 - حدّقت في الظلام الدامس قلقة ، لم
يكن يتبادر الى ذهنها انها معرّضة لأي خطر
حقيقي عندما رنّت كلماته في أذنيها ثقيلة ،
مخيفة :" الى اين تذهبي؟".
عندما إنضم مارك وكوري الى المجموعة، كان
احد الرجال يعزف القيثارة ، مداعبا أوتارها
بحنان ، أبدى الرجال ترحيبهم بكوري متهللي

الأسارير ، مخلّين لها أقرب بقعة من كومة
الحجر لتوهجة ، ولاحظت أنهم كانوا
يناقشون امرا ما ، وتوقفوا عن الكلام فجاة
مع وصولها ، لكنها لم تمتعض وبدا عليها
الإرتياح وهي تلم س وجود جو طبيعي ، لا
توتّر فيه.
بدأ لاعب القيثارة يعزف لحن عادي ،
وإنطلق الرجال يغنون اغاني بسيطة ، طالما
سمعتها كوري حول مواقد النار وفي العشايا ،
غمرتها موجة من السعادة وهي تصغي الى

الأصوات المتناغمة، إنها تحب طريقة العيش
هذه ، بعيدا عن جلبة المدينة ، والأجواء
المزيفة التي عملت فيها.
بدت الحياة في المخيم الصغير ،على أطراف
صحراء كلهاري الشاسعة ، اصيلة ذات
جوهر واضح ، ما أروع منظر النار الدافئة ،
وما أشهى نكهة اللحم المشوي وعبق الفحم
المتوهج ، ويا لروعة الفضاء يتلألأ بالنجوم
اللامعة ، ثم تلك المصابيح الخافتة تتوزع هنا
وهناك ، مرسلة نورا يضيء جنبات المخيم ،

وتمتد بعد ذلك ستائر الظلام ، يغلفها سر
غامض ، فتلفّ اقاصي الصحراء النائية.
إن لنار المخيم سحرا عجيبا ، يدب في قلوب
الرجال وعقولهم ، ياسرهم ويولد فيه م حنينا
لا ينطفىء ، فكرت كوري في والدها يجلس
وحيدا مع كتبه وأوراقه في ذلك المنزل الصغير
فوق منعطف الجبل ، فإجتاحها حزن كئيب.
جلس مارك بقربها ، ن وجوده قربها يريحها
ويدخل الطمأنينة الى قلبها ، تمت بينهما

أواصر الصداقة عندما كانت لا تزال كولن ،
ولم تتبدل صداقتهما بعد أن أصبحت كوري
، لم يشعر بالإهانة لتسترها وراء قناع خادع ،
إنه صديق مخلص ، يعتمد عليه ، تأكد لها
وهي تراقب وجهه الذي تضيئه النار أنه
اقرب شخص الى نفسها من بين المجموعة
كلها.
ثم عاودتها الشكوك ، وما هي مشاعرها أزاء
فريزر ؟ إنها لا تنكر إعجابها به في البداية ،
أما الآن فتغير الوضع ، إنه يتمتع بشخصية

فاتنة ، ولكنه متعجرف وعديم الرحمة ، لا ،
إن فريزر ملوري لا يحوز على إعجابها بعد
تجربتها المريرة معه .
تنبهت الى نسيم الليل البارد يغزو مسامها ،
فأدركت أن ساعة النوم قد إقتربت.
فكرت في مشكلاتها العملية الراهنة ،
إستطاعت حتى الآن تدبر أمرها وهي تشاطر
الخيمة مع ثلاثة رجال ، ولكن الوضع يختلف
في هذه اللحظة ، كيف ستصرفون بعد أن
إكنشفوا هويتها الحقيقية؟ خالت مارك يغرق

في حيرة مماثلة ، وهناك بويد وبيتر ، شريكها
الرابع في الخيمة، ماذا يدور في مخيلة كل
منهما؟
وما أن نهضت تريد الإنسحاب الى الخيمة ،
حتى سرت الهمهمات بين الرجال يبدون
تمنياتهم لها بقضاء ليلة سعيدة والتمتع بنوم
هنىء.
لم يتبادر الى ذهنها أنها معرضة لأي خطر
كبير ، لن يجرؤ أحد على لمسها ، حتى بويد
نفسه ، وأخيرا خاطبت مارك:

" أعتقد أنه حان وقت النوم".
وبدا مارك متوتر الأع صاب ، وسمعته يردد
إسمها :
" كوري.... كوري".
حبست أنفاسها تحسبا لأمر طارى:
" نعم؟".
" لا شيء البتة .... لا شيء".
وإضطرب صوتها:
" مارك... ما بالك؟ لم يتغير شيء".
وتلعثم:

" كوري...".
قاطعته بسرعة:
" من فضلك يا مارك دعني أوضح موقفي ،
بالنسبة الي ، كنت اعرف طوال الوقت أنني
إمرأة ، وأنكم رجال ، وإستطعت تدبر أمري
،ولم أتعرض للإهانة أو لصدمة ) وخانتها
الكلمات فإكتفت بالقول( أعترف أنه وضع
غير طبيعي".
وعلق مارك بجفاف:
" وبأقل تعديل".

خالت ان مارك يتحول ضدها ، وهذا يعني
وقوفها وحيدة ، لا بد لها من إكتسابه الى
جانبها ، وقالت بعد لحظات مشحونة
بالتوتر :
" ما أحاول قوله هو أن الأمور ما زالت كما
هي ، قضينا معا ثلاث ليال ، ولم يعبأ بي أحد
لأن هويتي كانت سرية ، ولا اجد أي سبب
للتصرف بشكل مختلف ، أنا لست كولن ،
ولكن لم ازل انا نفسي الشخص عينه الذي
شارك الخيمة معكم سابقا".

وإستطرد مارك بلهجته الجافة:
" تريدين منا أن ننظر اليك وكانك كولن
وليس كوري".
" أريدك ان تحافظ على موقفك مني".
ومر مارك بأصابعه فوق وجنتها:
" انا افهم ما تعنين ولكن لا اخالك تفهمين
نفسك يا كوري".
" أنا أفهم نفسي تماما".
قاطعها :

" أنا رجل ، وكذلك بويد وبيتر ، وأنت إمرأة
، إمرأة جميلة للغاية، ولا يمكن لك تجاهل
مشاعرنا عندما ننام وإياك تحت سقف
واحد".
وقالت متمهلة:
" اعترف أنني كنت غبية ".
فداعب وجنتها قائلا:
" غبية؟ قلت لك من قبل أنك شجاعة".
" كان عليّ التصرف بطريقة مختلفة".
أجاب بهدوء:

" هذا صحيح ، ولكنك لم تفعلي ، أؤكد لك
أن ضغط دمي الليلي سيرتفع كثيرا".
تأوّهت باسى:
" ما هذا الهراء يا مارك ؟ إنك ستظل
صديقي الوفي ".
وإرتسمت ملامح الإستغراب على محياه:
" صديقك؟ أنت في واد وانا في واد يا كوري
، مع ذلك ، اعدك بانني سأظل صديقا
لك".

واطرق مارك راسه متجهم ال وجه ، شعرت
كوري أنها تجلس قرب إنسان غريب ،
غامض ينذر مظهره بالخطر.
حدقت في الظلام الدامس حزينة ، قلقة ، لم
تكن تتوقع كل هذه التعقيدات ، وصارت
عاجزة عن التصرف بحكمة ، وتكوين راي
واضح حول ما يجري.
ربما كانت الأمور أقل تعقيدا مما تصورت ، الم
تقرر تجاهل بويد ، والإحتفاظ بهدوء أعصابها
امامه ؟ فلتتعامل مع فريزر بالأسلوب نفسه ،

وتتغاضى عن غروره الطائش ، ولتجد طريقة
معقولة للتفاهم مع مارك ، إنه يختلف عن
الآخرين ، وهي لا ترغب في إيذاء مشاعره.
نظرت الى مارك وهو يغرق في صمت عميق
، كان صمته ينبىء بتوتّر دفين ، وأزمة حادة
تضج في فؤاده ، ما اصعب هذا الموقف ،
إنعقد لسانها فلم تنطق بكلمة واحدة.
تمنت ان يزول التوتر مع صباح اليوم التالي ،
فلتذهب الى الخيمة الآن ، وتاوي الى فراشها

قبل غيرها ، إستدارت وتوجهت صوب
خيمتها.
" والى اين تذهبين ؟".
رنّت الكلمات في أذنيها ثقيلة ، مخيفة ، كان
فريزر يقف وراءها بقامته الشامخة .
قالت بعجلة :
" الى الفراش".
" اعتقد أنك تسيرين في إتجاه خاطىء".
أجابت بحذر:

" لا ، لا أظن ، هل نسيت أن هذه هي
الخيمة التي أتقاسمها مع مارك وبويد وبيتر؟".
خالت كوري أنها في كابوس رهيب وهي
تصغي الى جوابه:
" أنا لا أنسى شيئا ، تلك كانت خيمة كولن
، وليست خيمة كوري".
بدا فريزر في تلك الظلمة الداكنة شبحا مخيفا
، يبيّت نوايا خبيثة ، إن كلماته المبطنة تنذر
بخطر داهم ، ولكن لن تدعه ينجح في تنفيذ

خطته ، عليها الإحتفاظ برباطة الجأش ،
وإفشال مؤامرته الجديدة.
سالته بهدوء:
" هل لديك خيمة أخرى؟".
" نعم".
" أية خيمة؟".
تعمد تأجيل جوابه ، ليختلق جوا من ال ترقب
والقلق ، جمدت في مكانها ، مصممة على
عدم التفوه بحرف واحد لئلا تحقق مأربه .
وما لبث أن قال بسخرية لاذعة :

" خيمتي بالطبع".
أجاب بوقار وكياسة:
" شكرا على تلطفك وكرمك".
وجلجل مقهقها :
" تلطفي وكرمي؟".
" لا شك أنك تضحي كثيرا عندما تقرر النوم
مع الآخرين، وإخلاء خيمتك من اجلي".
بلغت سخريته حدا لا يطاق :
" يا عزيزتي كوري ، من قال لك انني أنوي
التخلّي عن خيمتي ؟".

إصطكت أسنانها ذعرا:
" لأنك ..... لأن المسألة واضحة ، أنت
قلت....".
قال بعنجهية:
" انا قلت أنك ستنامين في خيمتي ، وسأكون
أنا هناك ايضا ".
وصاحت بإضطراب:
" كلا".
فردّ بلهجة الآمر الناهي:
" نعم ".

" لا ، لن أنام في خيمتك".
حاولت أن تفر منه وتلجأ الى مارك ،
صديقها الذي سيدافع عنها ويحميها .
قبضت على معصمها اصابع فولاذية ،
وخالتها تكاد تمزق جلدها الطري وهي
تنتفض محتجة:
" دعني وشاني".
" ستاتين معي".
تملكها الغضب الشديد ، ولم تعد تبالي بشيء
، فصاحت:

" لا يمكنك إجباري على الذهاب".
فشدّ على معصمها بقوة:
" يمكنني إجبارك على فعل أي شيء ".
وراح يجرّها من يدها ، فلم يعد أمامها غلا
طريقة واحدة لإنقاذ نفسها ، سيهرع مارك
الى نجدتها إذا ما صرخت بأعلى صوتها ،
وكذلك بيتر ، وربما بعض الرجال الآخرين.
همّت بالصراخ ، ولكنه أحبط محاولتها ،
مطبقا بيده الغليظة على فمها الصغير ، والحّ
قائلا:

" هلا اتيت معي بهدوء؟".
هزت رأسها بعنف ، فعلّق واجما:
" سأجبرك بطريقتي الخاصة ، وإياك ان تحتجي
بعد ذلك".
أرخى قبضته عن معصمها ، وإنحنى يرفعها
عن الأرض كدمية خفيفة ، كان مفتول
العضلات صلب الصدر ، عريض المنكبين ،
أصيبت كوري بالدوار من الرجولة الخارقة،
وسحر البطش الماحق ، ولم تلبث ان
إستردت وعيها ، مدركة معنى ما يجري .

فتحت فمها مرة اخرى تهم بالصراخ ، ولكنه
خنق صوتها بقبضته العنيفة السر يعة ، قاومته
بكل قواها ، راحت تلكم بيديها ، وترفس
يقدميها دون فائدة ، شدّها الى صدره ،
فهبط قلبها في داخلها ، وهي تراه يهصر
جسمها الطري هصرا ، وكأنه يريد أن يؤلمها
ويعانقها في آن معا .
وتمكنت أخيرا من عضّه ، فصاح:
" يا لك من قطة شرسة!".

امسك اطرافها بإحكام وحملها الى خيمته
الغارقة في العتمة ، أغمضت عينيها وجلست
مذهولة لا تقوى على الحراك ، القى بها ارضا
، كخرقة ممزقة ، وسمعته يقول:
" حقا إنك إبنة جون لايتمر ، تصارعين حتى
النفس الأخير ".
إرتسمت إبتسامة شاحبة فوق شفتيها:
" لا أعتقد أن والدي نال شرف عضك
مثلي".
أجاب بمرارة:

" لا لم يعضّني باسنانه ، لكن لسانه عضّني
مئات المرات ، لم يكن يتراجع عن رأيه حتى
ولو أدرك أنه مخطىء".
إرتسمت أمام كوري ، لبرهة خاطفة ، صورة
والدها الهزيل ، تحيط به كتبه ، لقد فاته
القطار الان ويعجز عن مواجهة رجل شاب
قوي ، يفور نشاطا هكذا ترسخت قناعتها
بضرورة تنفيذ مهمتها .
قالت:
وانا لا أتراجع عن رايي كذلك!".

فكر فريزر مليا ، ثم إنحنى ورفعها على قدميها
، وصاحت:
" دعني وشاني".
" سمعا وطاعة ، ولكن بعد أن اوضح بعض
الأمور".
قرات في صرامة صوته عقلية لا تقبل أقل من
الخضوع التام ، إنها تدرك مدى تطفّلها ،
وفرض نفسها على شخص لديه مفاهيم
محددة حول دور النساء ، ولكن لا يحق

لفريزر إهانتها على هذا النحو ، لا لن تدعه
يدوس على كرامتها ، وأكدت له :
" أريد الحصول على صور الرسوم مهما
كلف الأمر".
" لا مانع لدي ، هذا إذا ما حسّنت سلوكك
... وإذا كانت الرسوم الصخرية موجودة".
شمخت بأنفها :
" أنا متأكدة من وجودها ".
" لا شيء يثبت وجودها سوى عناد والدك ،
وشهادة أحد عابري السبيل".

" إن والدي يثق بعابر السبيل ، الرسوم
الصخرية موجودة ولن أعود قبل تصويرها".
قال بإمتعاض :
" إنك اسوأ من والدك ، كم هو عمرك يا
كوري؟".
" إثنان وعشرون عاما".
" أكبر مما توقعت".
وسالته وقد هدأ روعها قليلا:
" إذن لديك فكرة عني؟".
وإستانف لهجته الساخرة:

بكل تأكيد ، أعرف عنك الشيء الكثير يا
كوري لايتمر ".
قضمت شفتها حائرة ، ها هو يعود الى الغمز
واللمز ، لتغيّر مجرى الحديث :
" كنت تنوي مناقشة مسالة معينة معي؟".
ضحك هازئا :
" أناقش؟ ليس عندأي مناقشة يا كوري ، بل
مجرد أوامر ، أوامر نافذة ، نهائية".
قالت بمرارة:
" تعتقد أنك تستطيع معاملتي كيفما تشاء".

فإنفرجت اساريره :
" بالضبط ، إصغي اليّ جيدا يا كوري لايتمر
، والويل لك إذا رفضت ، سأعاملك مثل
أي شخص آخر ، لا يهمني انك أنثى كما
سبق لي القول ، وسوف تدعين رجالي وشأنهم
، وهو ما قلته لك أيضا ، إياك إستغلال
عواطفهم ، يكفي ان مارك وبويد يتنافسان
عليك".
فضّلت تجاهل إستفزازاته :

" ألهذا السبب نقلتني من خيمتهما ؟ لا شك
أنك مهتم بسلامتي؟"
فإستطرد ساخرا:
" لا تكوني ساذجة ، إن لهما مطلق الحرية ،
ولن اتدخل في شؤونهما الخاصة ، إن فتاة
تلتحق برحلة كهذه لا تستحق تأمين سلامتها
."
لاحظت أنه يتعمد جرح كبريائها بإستمرار ،
نظرت اليه متعجبة :

" ماذا إذن ؟ ما هو مبرر إخراجي من
الخيمة؟".
" إنتظر قليلا وقال:
" لم أكن مهتما بسلامتك ، كل ما يهمني
تامين راحة رجالي ، علي إتخاذ الإجراءات
اللازمة قبل أن ينفجر الوضع بين بويد
ومارك".
ردت بإستهجان :
" انت لا يمكنك تخيّل رجل بدون غرائز
وضيعة مثل غرائزك ".

" غرائز وضيعة ؟ لا يا عزيزتي ، إنها غرائز
الرجولة ، وكلنا سواسية الحمد لهل".
إلتهب الغضب في جوارحها :
" أنت ابغض رجل رايته في حياتي ، ولا توجد
قوة في الأرض تجبرني على النوم في خيمتك
الليلة".
هدّدها بفظاظة:
" تعرفين ان لا فائدة من عصيان أوامري".
" لا ، ليس هذا صحيحا".

خطت الى الوراء مذعورة ، عازمة على الفرار
، سدّ باب الخيمة ، لا مجال للهرب ، قال
لها:
" لا مانع لدي ، من إثبات رأيي ثانية".
كانت هذه المرة على اهبة الإستعداد عندما
تقدّم نحوها ، قاتلت بشراسة القطة المحاضرة
، خمشت ، خدش ت ، وكشفت عن أنيابها ،
ولكن دون فائدة ، ظل كالطود الشامخ
ترتطم فيه م وجة ضعيفة .
وسالها :

" لماذا تقومين هكذا ؟ انصحك بالرضوخ
وإطاعة اوامري ".
فصاحت رافضة:
" آه كم أكرهك ".
" تكرهينني ؟ ما هذه المسرحيات ؟ هل عدنا
الى عالم الأزياء ؟ أهكذا كنت تتصرفين مع
أريك هوغن؟".
رمت كوري براسها الى الوراء :
" أريك ؟ من أخبرك عن أريك؟".

" إن صحف مدينتكم ليست غريبة عليّ
رايت بعض الصور المثيرة لكما معا".
بلعت كوري ريقها ، إذن لقد رأى صورتها مع
اريك ، في المطعم ، كم كانت حياتها آمنة
آنذاك ، يا لسخرية الأقدار كيف تبدّل كل
شيء ! وظل فريزر يحملق في عينيها وهي في
حالة من الإرتباك الشديد.
6 - لمحت في وجه فريزر جمودا رهيبا ، كانت
عيناه مسمّرتين على يدها وهي تلامس ذراع

مارك ، اساء فهم دوافعها ، ومع ذلك ،
شعرت بغبطة خفية.
سألته كوري بفارغ صبر:
" اين سأنام الليلة؟".
" ستنامين هنا".
وصرخت بحدة:
" إذن أنت تنام مع الآخرين".
رد فريزر باسلوبه المعتاد:

" لا ابدا ، لقد أوضحت موقفي ، ولكن
إطمئني ، إنك في أيد أمينة ".
تكوّمت كوري في الزاوية ، وتلحفت بما توفر
من الأغطية والبطانيات ، وتظاهرت بالنوم ،
لن تخلع ثيابها قبل أن تتأكد من غرقه هو
الآخر في نوم عميق.
ظل فريزر صامتا ، ثم سمعته يتنقل في الخيمة ،
فخالته يستعد للنوم ، كانت قد أدارت
ظهرها متحاشية النظر اليه أو رؤية وجهه
المتعجرف وملامحه القاسية ، إنها لحظات

مؤلمة ، تمزق قلبها المعذب ، وتقتل كل شعور
بالصداقة والإخلاص في النفس البشرية.
تاكد لها ان فريزر لا يعاني من أي عذاب أو
صراع ماثل ، أخذ يصفر الحانا مختلفة وهو
يطوف في الخيمة ، وكأن كل شيء على ما
يرام.
توقعت ان يبادر الى التمني لها) بليلة سعيدة(
أو ) اراك في الغد إن شاء الله( ولكن توقعاتها
ذهبت سدى.

ما هي إلا لحظات حتى اخذت تشف أذنيها
بشخيره البطيء الثقيل يملأ ظلام الخيمة
،غرق في نوم عميق ، تاركا إياها مسهدة
كأنها تستلقي على فراش من الشوك والجمر
، وبدأت تكشف في قلب تلك العتمة
المخيفة مدى سيطرة فريزر على حواسها
ومشاعرها ، كان يملك سحرا عجيبا يجذبها
اليه ، يؤرقها ، ويقلب كل مفاهيمها التقليدية
بصدد الحب والزواج ، تلك المفاهيم التي
تلقتها منذ نعومة أظافرها .

وترامت الى مسمعها أصوات مبهمة ،
متقطعة من الجانب الآخر من المخيم ، ثم
بدأت الأصوات تزداد وضوحا ، إنها اصوات
الرجال يتوجهون الى خيمهم ، وتبينت صوت
بويد يتلفظ بإسمها وإسم فريزر .
كان صوتا متهكما ، يرن بقهقهة لئيمة ، لم
تسمع كل كلمة قالها ، ولكنها فهمت مغزى
حديثه وإصراره على الطعن بسمعتها ،
تنهدت بإمتعاض وهي تتمنى لو تنشق الأرض
وتبتلعها.

وإضمحلت الأصوات ، ساد الصمت داخل
الخيمة وخارجها ، وفجأة مزق هدوء الليل
زئير متواصل ، ترددت أصداؤه في جنبات
الصحراء .
إنه أسد ، غرزت كوري أظافرها في لحم كفها
، تصاعد الزئير من مكان قريب ، ولا بد ان
الأسد يطوف الآن حول المخيم ، إرتعدت
فرائصها ، وفطنت الى وجود فريزر معها ،
فهدأ روعها قليلا ، إنه رجل متعجرف ،

متحجر ، وسليط ، ولكنه سيؤمن لها الحماية
في هذه اللحظة الحرجة ، مرت دقائق
مشحونة بالتوتر ، تتقاذفها مخاوف رهيبة ،
ولا تلبث أن تطمئن الى سلامتها وهي تفكر
بفريزر ومدى صلابته وجرأته .
وإستسلمت اخيرا للنوم ، عندما فتحت
عينيها كانت خيوط الفجر تتسلل من فجوة
ضيقة في الخيمة ، فركت جفنيها وكأنها في
حلم مذهل ، تزاحمت في ذهنها أحداث اليوم
الفائت ، فهزت رأسها تحاول طرد أشباحها.

كانت الخيمة خاوية ، لا بد أن فريزر
إستيقظ قبلها ، ترى هل رآها تغط في نوم
عميق؟ سرت في وجنتيها حمرة الخجل ،
وتسارعت نبضاتها.
وما أن أصبحت في الخارج حتى رأت المخيم
يموج حركة ونشاطا ، كان الرجال قد إرتدوا
ملابسهم الكاملة ، وبدوا حليقي الذقن ،
أنيقي المظهر ، وهو تطور جديد ، عرفت
كوري انها مسؤولة عنه بعد إكتشاف هويتها
كأنثى ، ثم لاحظت أن الجميع يتوقع منها

إعداد وجبات الطعام ، لم تعترض ، إنها تهوى
طهي الطعام ، وطالما أبدت اسفها لإنشغالها
بأمور أخرى ، ومع أن وسائل الطهي ومواد
الأكل لا يمكن مقارنتها بما يتوفر في المدينة ،
فإن كلمات الشكر والثناء التي اثارتها وجباتها
المرتجلة جعلتها تنسى أية صعوبة أخرى.
وعلّق فريزر ، وهو يمضغ لقمته الأخيرة:
" إنه فطور شهي".
كانت هذه الكلمات الوحيدة التي سمعتها
منه بعد أن احداث الليلة الفائتة في الخيمة ،

وتسارعت نبضات قلبها ، وقف قربها بقامته
الشامخة ، أسمر الوجه ، تموج عيناه بصفاء
البحر الهادىء ، يدل مظهره أنه قضى ليلة
هنيئة ، ولم يكن لوجودها في خيمته أي أثر
يذكر على اسلوب حياته.
قالت مبتسمة:
إذن للنساء بعض الفائدة؟".
مط شفتيه متهكما:
" أنا أول من يوافق على ذلك".
فإمتعضت قليلا:

" بالله عليك ما هذا الكره الدفين؟".
رد بإعتدال :
" لا تتظاهري بالبراءة ، من يقرع الباب
يسمع الجواب ، ولا تفكري برد بارع الان ،
كنت تعرفين رايي مسبقا".
راقبته يبتعد عنها ، طويلا ، خفيف الحركة ،
ثابت الخطى ، تمنت لو تستطيع إرجاع
عقارب الساعة ، وتبديل كل قراراتها.
حمل مارك صحن الطعام ، وجلس بجانبها ،
ظل لحظة صامتا ، بدا متوترا شارد النظرات ،

وفطنت الى أن مزاجه السيء يرتبط بشيء
فعلته، كانت تبحث عن أسلوب ملائم
لكسر حاجز الصمت بينهما عندما بادر الى
القول :
" ماذا جرى ليلة أمس؟".
" لا شيء البتة....".
ونظر اليها بعينين حادتين :
" لا ضرورة الى التظاهر بالبراءة يا كوري ،
إن فريزر ملوري يحب اللهو مع النساء ".
قالت كوري بخفة عفوية :

" هذا إذا وجد رغبة لدى النساء".
أصيب مارك بالحرج :
" لم أقصد.... لا اعني...".
قالت بلطف ، يؤنبها ضميرها:
" أعرف انك صادق النية ".
" هل انت متاكدة أنه لم يحدث أي شيء؟".
لم يحدث أكثر من تصدع في عالمها خاطبت
كوري نفسها ، وأصبحت كالركن المتداعي ،
ولكن ذلك لن يثير إهتمام فريزر في شتى

الحوال ، ولا يجوز لها إلقاء التبعة عل كاهل
مارك ، فأجابته بصوت عال:
" أنا متأكدة تماما".
تبدلت لهجته
" كوني حذرة يا كوري".
وعدته ، مدركة معنى عبارته:
" سأكون حذرة كل الحذر ".
وإستطرد:

" إن فريزر قائد جيد ، ولكنه صعب المراس
أيضا ، ستتعرضين لمتاعب كثيرة إذا ما وقعت
في غرامه".
لمست كوري مدى أسى مارك وإنزعاجه ،
وضعت يدها بلطف على ذراعه ، وقالت
مبتسمة :
" لا تقلق علي ، لا مبرر لقلقك إطلاقا".
ون صوت فريزر يناديها :
" كوري".
فإستدارت قائلة:

" نعم؟".
" أريد منك إنجاز بعض الأمور المستعجلة".
وردت :
" سمعا وطاعة".
إختارت كلماتها بدقة ، وتمعن ، لمحت في وجه
فريزر جمودا رهيبا ، كانت عيناه مسمرتين
على يدها تلامس ذراع مارك ، واساء فهم
دوافعها ، مع ذلك، شعرت بغبطة خفية ، لا
بأس من إكتوار فريزر ببعض الغيرة ، ربما

كانت هذه نقطة ضعفه ، شمخت بانفها ،
وإرتات إثارته أكثر :
" لينظف ال صحون احد سواي".
مع ذلك نجح في إلهائها بشؤون اخرى ،
قضت معه أكثر من ساع يبحثان شجون
التصوير والمهمات المترتبة عليها ، كرهت في
البداية طريقته الفظة في إصدار الأوامر ،
ولكنها تناست حنقها وهي تزداد إنهماكا في
عملها الشيق .
قال فريزر وهما في طريق العودة الى المخ يم:

" ألم أحذرك من العبث مع الرجال؟".
عرفت كوري ما الذي يشغل باله ، إنه
سينحو عليها باللائمة في كل ما تفعله ، إذن
، لا فائدة من إطلاعه على الحقيقة حول
ذلك المشهد الذي رآه بام عينه.
إبتسمت مستفسرة :
" أنت تغار من مارك؟".
عض شفتيه إمتعاضا ، وبقبضة صلدة طوّق
معصمها:
" يا لك من إمراة شريرة ".

واظبت على إغاظته :
" أنت تتهرب من الإجابة على سؤالي".
فرد بإزدراء :
" تعرفين جوابي ، لماذا أغار؟ أنت لا تختلفين
عن أية إمرأة أخرى".
كان غروره لا يطاق ، ولكنها اصرت على
رايها :
" أنت غيور".
ضغط باصابعه على معصمها:

" إن ذوقي ارقى مما تتصورين ، ولا أجد مبررا
لتبديد وقتي على عذراء مثلك ".
إنه لا يكف عن إهانتها ، قالت بصوت
خفيض:
" ليتني بقيت في المنزل ولم أشاهد وجهك في
حياتي".
قال يزيد نيران غيظها وقلقها إضطراما:
" إن رأيك مشابه لرأيي ، احذرك ثانية يا
كوري ، إياك وإثارة المتاعب بين افراد
البعثة".

احست بضعفها وأنوثتها الغضّة في آن معا :
" لم أفعل شيئا غير لائق مع مارك أقسم
لك".
اجابها بصوت مخيف :
" هذا هو رأيك ، ولكن يجب أن تعلمي أن
مارك على وشك الوقوع في غرامك".
صاحت مستنكرة ، وهي تدرك في قرارة
نفسها صدق كلمات فريزر:
" هذا هراء ، إن مارك مجرد صديق ودود".
وإسترسل:

" طبعا ، غير ان صداقة كهذه مليئة
بالأخطار ، ولن يدرك ذلك إلا بعد فوات
الأوان".
وقالت بعفوية :
" وهذا ما يوجد بيني وبينك أليس كذلك؟
مجرد صداقة ".
أجاب بتمهل:
" إن الأمور تحت سيطرتي المباشرة ، ولذلك
لا خطر علي ، أست طيع البقاء معك أو
التخلي عنك ساعة أشاء".

ادركت ان الإعتصام بالصمت خير وسيلة
تتبعها مع هذا الرجل المتعجرف، ولكن
كلماته الأخيرة افقدتها صوابها ، فقالت
متحدية:
" ألست من لحم ودم مثل الآخرين؟".
طوّقها بذراعيه القويتين ، وشدها اليه بهصرها
هصرا ، هل يريد عناقها أم إيذاءها ؟ وكادت
تصرخ ألما عندما دفعها بعيدا عنه ، فسقطت
أرضا ترتعد من الخوف ، نظر اليها بإزدراء

قاتل ، تضج في صدره غرائز سافلة ، وفي
عينيه بركان مزمجر ، نهضت تهمس بدعة:
" لماذا فعلت ذلك؟".
فقال بصوت أجش:
" لثبت لك انني من دم ولحم كأي رجل آخر
، ولكنني استطيع السيطرة على نفسي عندما
يحلو لي ، أما أنت فلا تملكين إرادة أو أي
شيء ، إنك اسيرة غرائزك".
إنفجرت غضبا:
" يا لك من وحش ضار ".

وبدأت تبتعد عنه حائرة ، مضطربة
الأعصاب ، إنها انثى جميلة الق وام والوجه ،
تعيش بين مجموعة من الرجال وسط صحراء
مقفرة ، ومن الطبيعي ان تلفت الإنتباه ،
وتخلق اجواء غير طبيعية ، ماذا تفعل ؟ لم تجد
جوابا شافيا ، كل ما تريده الآن تجنّب فريزر
ملوري وكل ما يمثله من غرور ، ورجولة
وجاذبية ، إنه يكاد يدمر طمأنينة نفسها التي
لم تفقدها في كل مراحل حياتها.

لم تنبس ببنت شفة وهي تتابع سيرها ، وحتى
عندما سمعته يحذرها مجددا من مغبة التورط
مع مارك .
تنفست كوري الصعداء عندما تركها فريزر
وشأنها ذلك اليوم ، وشغلت نفسها بعد
الغداء مع بعض الرجال ، متلكئة في إلتقاط
الصور الى ان رأت الشمس تتوا رى وراء
الأفق ، وأخذ الجميع يستعد لإستقبال الليل.
فقد ظلام الصحراء سحره ، خالت النجوم
المتناثرة في الفضاء الشاسع باهتة ، تبعث

على الرهبة والحزن ، حتى زئير الأسد بات
قصة عتيقة تدعو الى التثاؤب عوض التيقظ
والترقب ، ستنطفىء النار بعد قليل ، ويأوي
الرجال الى الفراش ، وستجد نفسها وحيدة
في الخيمة مع فريزر ملوري ، ورغم تصميمها
على صده ، وعدم السماح له بمسها او
التحدث معها ، توجست شرا وسرت في
شرايينها قشعريرة مخيفة ، إن مجرد التفكير في
فريزر يقلب كل حساباتها ويحوّلها الى ريشة في
مهب الريح .

ترى هل ينتظر فريزر تقدم الليل ؟ خاطبت
نفسها ، رأته يتحدث مع بيتر ، ولم تتمكن
من سماع الحوار ، ولكن بدت عليه إمارات
الود والغرتياح ، أدركت انه لا يعير إهتماما
لقلقها واوهامها ، فاصيبت بخيبة أمل.
رفع فريزر عينيه وحدّق اليها كأنه أحس بها
تراقبه ، وإلتقت نظراتهما برهة عبر السنة
النار ، كانت برهة قصيرة خالتها دهرا ، إذ
تراءى لها أنه لا يوجد احد سواهما في هذه

الصحراء ، تجمّد الدم في عروقها وهي تشيح
بوجهها صوب الأفق المظلم.
وتنبهت فجأة الى قرارها السابق ، لتذهب
الى الخيمة لتوّها وتأوي الى النوم قبل أن
يدركها فريزر ، إن مشاعرها الرقيقة لن تقوى
على خوض تجربة مريرة جديدة وربما اشد
غرابة.
7 - قررت الإبتعاد عنه حتى لو إضطرت الى
عصيان أوامره ، ولم يخطر لها أن هناك رجلين
آخرين يتنافسان عليها بكل ما أوتيا من قوة.

وهكذا مضت كوري الى الخيمة ، تاركة مارك
في خيبة وإرتباك ، لكنه بقي في مكانه قرب
النار مدركا عقه التحدث اليها في هذا الوقت
بالذات.
اخذت تستعد للنوم ، مطمئنة الى وجودها
وحيدة ، وإنشغال فريزر بأمور أخرى ، وما
ان سمعته يقترب من الخيمة حتى إستلقت
متظاهرة بالن وم العميق ، أحست به يعاينها ،
ويتمعن في وجهها ، وجدت صعوبة في

المحافظة على تنفسها الطبيعي المنتظم وقد
راح قلبها يخفق كالمطرقة ، هل إنطلت عليه
الحيلة ؟ ليس من السهل خداع رجل حاد
الملاحظة مثل فريزر ، خاطبت نفسها وهي
تترقب خطوته التالية.
بدا أنه غير مكترث كث يرا بوضعها ، ها هو
يبتعد قليلا ويباشر بخلع ملابسه ، كادت أن
تفتح عينيها قليلا وتختلس النظر ، ثم إستقر
رايها على تحاشي أي خطأ قد يورطها في

مماحكات مؤلمة ، ومهاترات باتت تعرف
عواقبها.
وبعد لحظات معدودة كان شخيره البطيء يملأ
أرجاء الخيمة ، إنه لم يبالغ عندما أكد لها
قدرته على التحكم بعواطفه ، والسيطرة على
نزواته الطارئة ، تمنت لو كانت تملك قوة
إرادته وبرودة أعصابه.
إستلقت متململة في الظلام ، محاولة التركيز
على أي شيء آخر ، إنها لن تسمح لفريزر

بالإستيلاء على مشاعرها ، والإنزلاق في
هاوية غروره وتصرفاته الفظة ، وإلا قضي
عليها كإنسانة حرة طليقة.
نهضت في صباح اليوم التالي متاخرة ، وبعد
أن غادر فريزر الخيمة ، وإتجهت الى نار
المخيم فإختارت مكانا بعيدا عنه قدر
الإمكان ، إلتفتت بدون تعمد فرأته يراقبها ،
إلتقت نظراتهما لحظة طويلة، لو كان فريزر
رجلا آخر لما ترددت كوري في الإبتسام له

وإلقاء تحية الصباح عليه ، لكنه فريزر ، ولا
تليق به تحية الصباح العادية .
وقبل ان تشيح بنظرها بعيدا عنه ، لمحت
كوري في عينيه تلك النظرة الساخرة
المتهكمة ، كادت تسحق فنجان قهوتها وهي
تحتسي رشفة حارة ، لا فائدة من التظاهر
بالهدوء، ما أن يقع نظرها عليه حتى
يكتسحها إضطراب هائل لا يقاوم.
قررت الإبتعاد عنه باي ثمن ، حتى لو
إضطرت الى عصيان أوامره ، إن غروره

الوقح لا يترك مجالا للتفاهم معه ، أو
الإقتراب منه بحرية وعفوية.
قضت كوري صباحها تلتقط الصور مع مارك
ومجموعة من زملائه ، وكان يتحين الفرصة
ليتبادل معها بعض الكلمات ، طلب منها ان
تتنزه معه في المساء ، وبعد الإنتهاء من العمل
، وافقت كوري مع معرفتها لتحذير فريزر
وإعتراضه ، كان مارك رجلا يوحي مظهره
بالثقة ، وما أعذب تلك الإبتسامة تحوم على
شفتيه وهو يرمقها بإعجاب خفي ، وإزدادت

قناعة بتقديرها له وإرتياحها الى رفقته، كان
فريزر حذّرها من مارك ، ووقوعه في غرامها ،
ربما كان ذلك صحيحا ، مع انها تمنت ألا
تصل الأمور بينهما الى هذا الحد ، إنها لا
تتمنى أكثر من بناء صداقة متينة ، مؤهلة
للإستمرار والنمو زمنا طويلا .
لم تعثر على اثر لفريزر ، ظنت كوري انه
منهمك في التنقيب عن موقع جديد ،
تنفست الصعداء لغيابه ، وزال توترها الدائم
الذي يلازمها مع وجوده بجوارها.

وكم كانت مخطئة ، ها هو شبحه يطاردها ،
ويسكن أفكارها ، إستشاطت غيظا وهي
تلمس ضعف إرادتها وهشاشة عزيمتها ، الم
تقرر تجنبه والإبتعاد عنه؟ نعم إن الإبتعاد عنه
جسديا مسالة سهلة ، ولكن ما الذي تفعله
بعقلها ومشاعرها وعواطفها ؟
حان وقت تناول الشاي ،وجدت نفسها
تتحدث الى الرجال الآخرين بإندفاع منقطع
النظير ، الأمر الذي اثار دهشتهم ، ولفت
انظارهم .

عادوا الى المخيم عند الظهيرة ، ودنا منها
فريزر وهي تلتهم طعامها ، كان يريدها أن
تعمل معه بعد الظهر ، إزداد وضعها سوءا ،
خانتها إرادتها وغمرتها احاسيس غريبة وهي
تتأمل قامته الطويلة ووجهه الصارم.
خرجت الكلمات من فمها بشق النفس:
" آسفة ، لا أستطيع العمل معك اليوم".
فتقوّس حاجباه:
" لا تستطيعين ؟!".
تمتمت متلعثمة:

" إنني مشغولة بإنجاز بعض الأم ور في الموقع
الآخر ، ولا يمكنني التوقف الآن ".
لم يجبها ، أخذ يتمعن في وجهها صامتا ،
إحمرت وجنتاها خجلا وقالت بصوت
مخنوق:
" إنني مشغولة ، هل انت أصم؟".
ضحك بملء فمه ، وإقشعر جسم كوري ،
أدركت أنه يخترق معاني كلماتها ، ويفهمها
على حقيقتها ، لا بأس ، لتحتفظ الآن
برباطة جاشها ، وتهيء نفسها لمواجهته في

وقت لاحق ، لا فائدة من الرد عليه وهي في
حالة يرثى لها ، لا تحسن إخفاء مشاعره ا ،
ولا تعرف كيف تتلقى عجرفته الطاغية ،
أغمضت عينيها ، ودفت رأسها بين راحتيها.
إرتفع صوته هازئا ، مغريا:
" كوري ، سأتساهل معك اليوم ، لأن ذلك
لن يضيرني ، ولكن لا يمكنك تجنب العمل
الى الابد".
وأدركت كوري ان إنتصارها الذي حسبت
أنها حققته كان إنتصارا هشا ، سريع الزوال.

وجدت صعوبة في التركيز على عملها ،
تعثرت أكثر من مرة ، وكادت آلة التصوير
ان تهوي من يدها ، وتتحطم شظايا ، وترامى
اليها صوت مارك متسائلا:
" ما بالك يا كوري؟ هل أنت على ما يرام؟".
نظرت اليه ، فرأته يستبد به القلق ، إن بينه
وبين فريزر هوة شاسعة ، وكأن السيد ملوري
لا يعرف معنى للقلق ، أو الإهتمام بما
يصيبها ، والح مارك:
" كوري ، ما بك ؟".

حامت على ثغرها إبتسامة شاحبة:
" أنا بخير ، إطمئن".
فلم يقتنع :
" يبدو أنك شاردة الذهن ".
" لا بد أن الحر أثّر علي ، ولكنني بخير ،
إطمئن".
ظل مارك يرمقها فترة من الزمن ، وإحتضن
يدها مبتسما:
" أتمنى ذلك... اتمنى ذلك من كل قلبي".
وسمعت نفسها تقول له:

" ساذهب معك للتنزه كما إتفقنا ، لأثبت
لك صحة قولي ".
" إنها فكرة رائعة".
وكاد يطير فرحا ، مما جعلها تشعر بوخز
الضمير ولم تجد مبررا لشعورها المفاجىء .
أنهيا عملهما في وقت مبكر ، وفيما عاد
الآخرون الى المخيم سار مارك وكوري في إتجاه
معاكس .
كانت الشمس توشك ان تغيب ، باعثة
اشعة واهنة ، باهتة ، وترامى الفضاء الشاسع

فوقهما صافيا ، تمتزج في رحابه الوان الغروب
الذهبية القرمزية ، وخيم هدوء شامل ، يخبىء
في طياته حشرجة النهار المحتضر وأسرار الليل
الوليد.
وفجاة سمعت كوري صدى خشخشة على
مقربة منها ، إستدارت فوقع نظرها على
غزال ، ينتصب جامدا كالتمثال ، براقبهما
بحذر شديد ، وكأنه يهم بالفرار ، فكرت
كوري بالزئير الذي ترددت اصداؤه في
سكون الليل ، فأدركت أن الغزال سيكون

لقمة سائغة لأي اسد يتربص به ، إن حذره
مسالة طبيعية ، وهو في هذا الوضع الصعب
.
تقدما بخطوات وئيدة ، وإرتفعت أمامهما
شجرة زعرور شائكة وسط الأعشاب الذابلة
، وحطت على الأغصان العارية أسراب من
النسور الكاسرة ، سبق لكوري أن رأت
نسورا كهذه تغط منتظرة ، أو تحوم في الفضاء
، إنها من الطيور الجارحة ، تتحيّن فرصة
الإنقضاض على فريسة نال منها الأسد

حصته فتقتات بالفضلات الباقية ، إقشعرت
كوري وهي نرى النسور تغطي الشجرة ،
صامتة ، مترقبة.
ما أصعب مشهد الموت والإفتراس في هدوء
الغسق الجميل ، ولكن هذه هي حياة
لصحراء البدائية الصارمة ، حياة مضى عليها
آلاف السنين ، القوي يأكل الضعيف ،
حيث يهيمن قانون الغاب هيمنة مطلقة ، إنه
مفهوم متوحش يثير الرعب ، ولكنه يشيع
أيضا جوا من المغامرة والتحدي ، ومرة ثانية

، وبدون إرادة منها ، تراقصت صورة فريزر
في ذهنها .
إلتفتت الى مارك معلنة:
" إنها مناظر مثيرة ، اليس كذلك؟".
تبدلت ملامح مارك ، ووافق مرددا :
" إنها حقا مثيرة".
وتابعت تحاول إخفاء إرتباكها :
" أنت تحب هذه الحياة ، أليس كذلك؟".
ساد صمت غريب ، ثم قال مارك:
كنت أحبها كثيرا".

تساءلت بعجب:
" ولم تعد تحبها الآن ؟".
فإزدادت ملامحه تجهما:
" إنها حياة موحشة ن هل يمكنك التعوّد
عليها يا كوري؟".
علت وجهها مسحة من الحيرة القاتلة ، إنها
الآن في س يؤهلها لفك مغزى الكلمات
الغامضة ، وتعرف تماما كيف تضع حدا
لتمادي بعض الرجال من دون ان تجرح

مشاعرهم ، لكن مارك ليس ككل الرجال ،
إنها تعتبره من اعز أصدقائها ، فأجابته:
" لست... لست متأكدة".
وأدركت أنها لم تكن صادقة مع نفسها ، إنها
تستطيع التعوّد على هذه الحياة ، والتمتع بها
وذلك في ظروف معينة ، وبصحبة أناس
معنيين ، هبطت عليها الفكرة كالصاعقة، إنها
لا تكاد تصدق ما يدور في ذهنها ، رددت
كلماتها بشفاه مرتجفة:

" لست متأكدة ، إنني متعبة اكثر مما تصورت
، ما رأيك لو نعود الى المخيم؟".
قال:
" حسنا".
لم يدل صوته على شعور بخيبة الأمل او
الرفض ، لكن كوري عرفت مدى إنزعاجه
وتأففه وهما يتوجهان الى المخيم ، سرى
اللغط عندما اصبحا وسط حلقة الرجال ،
واحست كوري أن الجميع يحدجونها بنظرات
مستفهمة ، خبيثة ، لم يكن هذا شيئا جديدا

عليها ، فضّلت تجاهلهم ، والتظاهر بعدم
المبالاة، حتى بويد ، بكل وقاحته وإشاراته
المبطنة لم يعد أكثر من إزعاج يومي تعلمت
كيف تتحمله مكرهة ، وها هو يصيح
بلهجته المستهترة :
" ما هذا يا مارك ؟ هل انعم اله عليك
بأشياء حرمنها منها ؟ ".
وعلت القهقهات تصم الآذان ، ثم برز فريزر
، يسير متمهلا صوب كوري ومارك ،
حبست انفاسها ، لن تدعه يستغل الموقف

ويتهكم عليها ، ولم ينبس ببنت شفة ، لكنه
بدا في حالة من الإستياء الشديد ، خيم
صمت مشحون بالتوتر .
شعرت كوري بالغضب يتأجج في داخلها ،
انها لم تفعل شيئا يستحق هذه المعاملة ، هل
تنفجر غضبا ، وتلقن فريزر وبويد درسا
قاسيا ، أم تتصرف بوقار وتحفظ كرامتها ؟
إستقر رايها على الخيار الثاني .
إنطلق صوتها واضحا واثقا وقالت وهي
تلمس ذراع مارك :

" إستمتعت بالنزهة كثيرا يا مارك ، أتمنى أن
نقوم بنزهة ثانية في وقت قريب".
لم تنتظر جوابه ، وتوجهت صوب خيمة
المطبخ والإبتسامة تعلو فمها ، ومشت براس
مرفوع هادئة واثقة الخطى ، لكن ما أن
اصبحت في الداخل ، حتى تكدر مزاجها من
جديد.
ظلت تشعر بالإنقباض حتى صباح اليوم
التالي ، كان ذلك اليوم يوم عطلة ، حيث
إنهمك الرجال في المطالعة ، أو ممارسة بعض

الألعاب والتمارين الرياضية ، اما هي فكانت
في وضع لا تحسد عليه ، لا تدري ماذا تفعل
، أو أين تتوجه.
قررت مغادرة المخيم والإبتعاد عن هذه
الأجواء الخانقة ، وتذكرت تحذير فريزر لها من
مغبة التوغل في الصحراء بمفردها ، لكنها
إختارت تجاهل تحذيره ، لم تفكر طويلا في
المخاطر التي قد تتعرض لها.
كان مارك جالسا يسجل بعض الخواطر في
دفتر صغير ، وعندما مرت به رفع رأسه قليلا

، مبتسما بخجل ، ثم إستأنف الكتابة ،
إرتاحت الى تفهمه لوضعها وتركها تمضي في
سبيلها ، أما فريزر فلم تعثر على اثر له .
بدأ التوتر بالتضاؤل وهي تحث الخطى الى
الأمام ، كانت الشمس تطل من وراء الفق
متمهلة في صب حرها الحارق ، ولاحت في
البعيد صفوف من التلال الواطئة ترفل في
ضباب شفاف ، وإنتشرت هنا وهناك اشجار
غليظة الجذوع ، مجوقة على نحو يشكل مأوى
طبيعيا ، أسفت لعدم جلبها آلة التصوير ، إذ

كانت ستلتقط صورا رائعة تحتفظ بها لنفسها
، وتدخل روعتها بعض البهجة على قلب
والدها الحزين .
ومتى سترى الرسوم الصخرية؟ تساءلت كوري
، حتى الآن لم تجد شيئا ينبىء بوجودها ،
ساورتها الآمال بالعودة من الصحراء متابطة
الصور التي حلم بها والدها ، ستكون مواجهة
والدها محرجة وأليمة بدون هذه الصور.

خامرها شعور أن أحدا يتعقبها ، لم تسمع
وقع أقدام إذ ان سماكة الرمل كفيلة بإخماد
أي صوت .
طرق أذنيها حفيف العشب الجاف ،
وإنقصاف غصن يابس ، فتأكدت كوري انها
ليست وحيدة كما كانت تظن ، أهو حيوان
ام إنسان؟ ترددت في الإلتفات الى الوراء ،
وفي ظنها ان حركة كهذه قد تؤدي الى هجوم
مفاجىء.

حثتها غريزتها على الركض بأقصى سرعة ،
لكنها أجبرت نفسها على السير ببطء شديد
، كانت اعصابها كالوتر المشدود ، تصارع
هلعها بإرادة تلقائية إكتسبتها من مهنتها ،
لقد إبتعدت كثيرا عن المخيم وعليها ان تقفل
عائدة وعبر طريق جديد ، أكثر أمانا.
إنقصف غصن شجرة ، فإنتفضت مذعورة ،
وإمتدت يدهاالى شفتيها تطبق عليهما
وتكبت صرخة الهلع ، إستدارت تلقائيا،
تبحث عن شبح يحوم حولها.

كان بويد يقف على بعد خطوات منها ،
نظرت اليه شاعرة ببعض الإرتياح ، لم يخطر
ببالها أنها ستبتهج يوما برؤية هذا الوجه
المتورد الوجنات ، لكنها في تلك اللحظات
كادت تعانقه وتحمد الله على وجوده قربها .
إختنقت الكلمات في حنجرتها:
" أنت؟ بويد.... إعتقدت ...".
فإبتسم قائلا:
" ماذا إعتقدت ؟".

تبخر إبتهاجها العفوي وهي تتمعن في عينيه
الجاحظتين :
" إعتقدت أن أحدا يتعقبني ، ولم اكن مخطئة
، ما الذي أتى بك الى هنا؟".
" هل يحتاج الأمر الى شرح يا كوري؟".
بلعت ريقها ، تحاول تغيير مجرى الحديث:
" يا له من يوم جميل ، أظن انك رغبت في
التنزه قليلا ".
خنق قهقهته وهو يقول:

" رغبت في أكثر من نزهة يا ملاكي الطاهر ،
ولكن انت تعرفين هذا طبعا".
" لا افهم معنى كلامك".
إستبد بها الخوف وهي تفكر بالمسافة التي
تفصلها عن المخيم ، تراقص بريق خبيث في
مقلتيه وإستطرد:
" إن البراءة لا تلائمك ، ما أن تركت أريك
هوغن حتى وقعت في احضان فريزر " .
قالت بإصرار :
" انا عائدة الى المخيم".

وبدا جسمه الضخم سدا منيعا ، يلغي امامها
كل المنافذ ، فألحت عليه:
" دعني أمر يا بويد".
إبتسم :
" كفي عن التمثيل".
وتراءى لها أن هذا الرجل الضخم خفيف
الحركة ، سريعها ، وما ان حاولت التقدم
حتى امسك بها وشدّها نحوه ، فأطلقت كوري
صرخة الم وهو يغرز اصابعه القوية في لحم
ذراعها الطري ، قاتلته بعنف وضراوة ، لكن

دون جدوى ، طوّقها بذراعيه بقوة حيوانية
خانقة فكاد يغمى عليها ، ثم رفع راسه
ليتنشق بعض الهواء :
" ما هذه المقاومة ؟ هل تفضلين فريزر علي
."؟
وإنتهزت كوري الفرصة لتلطمه على وجهه
بجماع قبضتها ، فأ صابت أنفه ، ورأت الشرر
يتطاير من عينيه وهو يصيح :
" ستندمين على وقاحتك ايتها الشريرة".

ورماها ارضا وهي ترتجف ذعرا ، إنه ينوي
إخضاعها عنوة ، ماذا تفعل ؟ هل تقاومه ؟
وكيف؟.
وتصاعدت من اعماقها صيحة مولولة حادة:
" فريزر... فريزر اين انت؟".
ولكن لا حياة لمن تنادي ، ها هو ينحني
فوقها ، رفسته بجزمتها ، فلم يرتدع ، بل
إزداد إصرارا وهياجا ، وأخذ يمزق ثيابها ،
إستجمعت قواها لتعضه عضة موجعة ،

فكشف عن أنياب حادة ، ثم رأته يفغر فاه
دهشة ، وهو يرفع بصره الى أعلى.
كان مارك يقف فوقها ، يمسك بيديه شعر
ب ويد ، ويشده نحوه ، وقرأت في وجه مارك ،
رغم محنتها ، بحرا متلاطما من الغضب .
إنتصب بويد واقفا ، وزمجر:
" ماذا تفعل يا مارك ؟ هل تريد الإستئثار
بكوري؟".
هدده مارك بقبضته صارخا:
" لعنك الله كم أنت بذيء".

وتشابكا بالأيدي قبل ان تتمكن كوري من
التدخل ، راح كل منهما يلطم الآخر ويضربه
بكل ما أوتي من قوة ، خافت على مارك
الهادىء اللطيف ان يسحقه بويد سحقا
بفظاظته وجلافته .
لكنها فوجئت بمقاومة مارك ، وصموده أمام
اللكمات المتواصلة ، بدا غضبه العارم دافعا
صلبا يضارع وزن بويد الثقيل وقوته القاهرة ،
مع ذلك لم تطمئن كوري الى النتيجة ، إن
بويد سينتصر في النهاية ، وتلك مصيبة

فادحة لن تسمح بوقوعها ، راحت تبحث
كالمجنونة عن حجر ، أوغصن شجرة لتضرب
بويد ضربة محكمة.
لم يفطن أحد الى إقتراب الرجل الثالث ،
عمد بسهولة متناهية الى الفصل بين الرجلين
وتراجع مارك الى الوراء يلهث أعياء ، وحاول
بويد الإنفلات ليشن هجوما جديدا ، غير أن
قبضة حديدية سمرته في مكانه.
تنفست كوري الصعداء ، وهي لا تكاد
تصدق عينيها ، تجمدت لا تدري حقيقة

وضعها وقد راح فريزر يرمقها شزرا وإزدراء ،
ثم حوّل فريزر إنتباهه الى الرجلين ، معلنا
بصوت صارم جازم:
" لن أسمح بهذه الترهات مرة ثانية".
رد عليها مارك بعد أن هدأ روعه قليلا :
" إنك لا تفهم حقيقة ما جرى ".
فحدّق فريزر في وجه كوري بإحتقار مميت:
" إني افهم اكثر مما تتصورين ".
وهتف بويد مغتاظا:

" اريد القضاء عليه ، لا يمكنني السكوت
بعد أن إعتدى علي ".
تابع فريزر بحدة:
" أنت تعرفين سبب إعتدائه ، لا أريد اعذارا
واهية ، إننا فريق عمل موحد وعلينا العيش
سوية ، إن شجارا كهذا يسيء الى معنويات
الرجال ككل".
عقّب مارك موافقا:
" إن فريزر على حق".
فإزداد بويد عنادا :

" ليذهب بحقه الى الجحيم".
كرّر فريزر أوامره بثقة القائد :
" أريد أن تتصافحا مصافحة الرجال ،
ولنضع حدا لهذه المهزلة" .
هز بويد راسه متجاهلا يد مارك الممتدة
لمصافحته وقال رافضا:
" لا... لن أصافحه".
الحّ فريزر :
" صافحه الآن ".

بدا بويد أقل ثقة بنفسه ، وأدرك في قرارة
نفسه أن عناده لن يفيده امام إصرار فريزر
وأوامره الحاسمة ، ورأته كوري يلوي فمه
بإمتعاض ، ثم يستسلم للأمر الواقع معلنا :
" حسنا ، ولكن وجود إمرأة معنا كان لا
سبيل الى إنكاره".
إستدار فريزر نحو كوري :
" كلنا نوافق على رأيك ) وأشار بيده( لنتوجه
الآن الى المخيم".
" افضّل العودة بمفردي".

تعمدت كوري إعلان تمردها على فريزر
وعنجهيته بعد أن زال الخطر عنها ، وطوّق
ذراعها بقبضة محكمة:
" إن ما تفضلينه لا يعني شيئا بالنسبة الي ،
سأراكما وقت الغداء يا مارك وبويد".
8 - لا يمكنها بناء أي مستقبل مع هذا
الرجل ، لتطرد شبحه من ذهنها مرة والى
الأبد : إنه لن يتوانى عن تدميرها وسحق
آمالها الفتيّة ...

توقعت كوري درسا جديدا من التانيب
والتعنيف ، وهي تسير مع فريزر في طريق
العودة الى المخيم ، سيفرغ كل ما في جعبته
من عبارات الإزدراء والإحتقار ، إنها على
أهبة الإستعداد الآن لرد الصاع صاعين ، لن
تدعه يهينها وهي تعرف أن بويد تحرّش بها ،
وتعقّبها دون دعوة أو تشجيع منها.
ظل صامتا ، يراقب مارك وبويد يحثّان الخطى
أمامه ، كان عليها شق طريقها وسط
الأعشاب والنباتات الشائكة ، فتركته

يتقدمها ، وتلكأت وراءه ، تابع سيره واثقا
أنها لن تجرؤ على تحدّي إرادته ، فكرت في
الإلتحاق بمارك ، لإغاظته وجرح كبريائه ،
لكنها فضلت عدم إستفزازه ، والإنصياع
للامر الواقع ، الم تتعلم من بويد وخضوعه
لأوامر سيده ؟ أنه لا يقبل أي تجاوز لسلطته
المطلقة .
وحلّق بها الخيال بعيدا ، وكانها تغرق في حلم
جميل ومخيف في آن معا ، وللمرة الأولى

فكرت في فريزر كإنسان مختلف ، نظرت اليه
كزوج تحيا معه تحت واحد زوجة واما .
حاولت طرد هذه الأفكار من ذهنها ، إنها
افكار م زعجة لا يجوز التوقف عندها ، لا...
يستحيل عليها أن تكون له ، إن اية إمراة
تتزوج فريزر ملوري ستعاني الأمرين ، وستقع
تحت سيطرة رجل متحجر الفؤاد عديم الرحمة
، لا يرضى باقل من الطاعة العمياء.

وقررت أن المسألة لا تعنيها من قريب او
بعيد ، إذ لا يمكن لها أن تكون تلك المرأة
وهي تعرف مدى كره فريزر لها ومن الأفضل
تركيز إهتمامها على أمور مجدية وعملية،
وكان قد حان وقت الغداء ولا بد أن الرجال
يتضوّرون جوعا.
ما أن وصلوا الى المخيم ، حتى توجهت
كوري نحو المطبخ لتوها وفوجئت بفريزر
يسالها :
" الى اين تتوجهين يا كوري؟".

ردّت بصوت يضج تحدّيا:
" ما هذا السؤال ؟ إنني بخير الان ، ولا
حاجة الى شكر جهودك العظيمة".
فإقترح بهدوء:
" يمكنك شكر مارك ، تعالي يا كوري ".
ولمحت نظراته الشيطانية تعلن نواياه الخبيثة.
" الى اين؟".
" الى خيمتنا ".

تنهدت باسى ، يا لسذاجتها وطيبة قلبها ،
إن فريزر لن يدع الأمور تمر بسلامة ، قالت
بإستخفاف:
" ليس لدي ما أعمله في الخيمة ، وتنتظرني
واجبات كثيرة في المطبخ ، اراك في وقت
لاحق سيد فريزر".
فتحوّل وجهه الى كتلة من العداوة:
" لا يا عزيزتي ، ليست الأمور بهذه البساطة
، أريد مناقشة بعض المسائل معك ، وفي
هذه اللحظة".

لا فائدة من المقاومة ، الم يجد بويد نفسه في
وضع مماثل؟ وماذا كانت النتيجة ؟إن فريزر
يصدر الأوامر وينتظر تنفيذها والإنصياع لها ،
اطلقت آخر سهم في جعبتها :
" ليس لديّ ما اناقشه معك".
فتقوّس حاجباه بتهكم:
" إن لديّ أمورا كثيرة اريد مناقشتها معك".
لم ترغب في مشاكسته أمام افراد المجموعة ،
إن حظها بالنجاح شبه معدوم ، فلتحتفظ
إذن بوقارها وكرامتها ، وتنتظر فرصة أخرى.

اسدل فريزر ستار الخيمة وراءهما ، كان الجو
حارا وقاتما وتبينت ملامحه القاسية الصارمة ،
فسرت في جسمها قشعريرة خفية ، أشاحت
بنظرها عنه ، ثم فكرت بالفرارا الى الخارج ،
خانتها قواها فظلّت مسمرة مكانها ، مرت
لحظات مشحونة بالتوتر العنيف الخانق ،
وتمكنت بعد صراع نفسي مرير من النطق
بكلمات متقطعة :
" ما الذي ... تنوي مناقشته معي؟".
أجاب بعنجهية :

" الم أوصيك بالحذر والإحتراس؟".
" أنا... انا لم...".
" ..... وبتفادي المتاعب؟".
إغرورقت عيناها بالدموع ، لا تدري أهي
دموع الخوف والرعب أم الترقب وما يخبئه
المستقبل المجهول...
إضطربت مرتعشة ويده تلمس ذقنها ،
وتحتضن ع نقها برشاقة ممزوجة بإصرار عنيد ،
وجدت نفسها تحدق في وجهه تنتظر مفاجأة
ثانية ، قال لها بصوت عذب رقيق:

" ماذا كنت تتوقعين عندما إبتعدت بمفردك
عن المخيم؟"
" لم اتوقع.... أعني لم أعرف انب ويد
سيتعقبني".
وإستطرد بصوته العذب:
" كنت تعرفين كل شيء".
قالت بصوت أقرب الى الهمس:
"لا ، عليك أن تصدقني".
فتبدلت لهجته :

" كفي عن التظاهر بالبراءة ، إن هذه
الآلاعيب لا تنطلي عليّ ، كل منا يعلم من
أنت يا كوري ، وبويد أكثر علما من غيره ،
أما مارك فلا يزال غارقا في هيامه كالمراهق ،
ويرفض رؤيتك على حقيقتك".
حاولت التملص منه ، فأحكم قبضته حول
عنقها ، توسّلت اليه:
" دعني وشأني يا فريزر ".
" بعد أن أنتهي من إشباع رغباتك".

" أنت تسيء فهمي ، كل ما أريده هو
الخروج من هذه الخيمة ".
شدّها نحوه:
" ما الذي حملك على التنزه وحيدة؟".
رمت براسها الى الوراء:
" لن اسمح لك بإهانتي ، أنت شاهدتني اقاوم
بويد بكل قواي".
فإسترسل في إستهزائه المعتاد:
" ربما كنت تمثلين مسرحية جديدة".
فردّت بمرارة:

" أن بويد يثير إشمئزازي".
" وماذا عن مارك؟ هل كنت تنتظرين مارك في
تلك البقعة المنعزلة؟".
وقالت يائسة :
" فريزر لا...".
قاطعها :
" انا آسف لتطفّلي ، وإفساد خطتك ،
ولكن لا حاجة الى التوغل في الصحراء بعد
الآن ، أنا هنا رهن إشارتك".

خالت أنها في كابوس مرعب ، إرتبكت
كطفلة صغيرة ، زائغة البصر ، مشوّشة العقل
، لا تفقه ما يدور حولها ، تمنت في اعماقها
لو ان فريزر رجل اقل فظاظة وخشونة ، لماذا
لا يخاطبها بهدوء وروية ، ويعاملها بإحترام
يليق بمشاعرها ؟ إنها تكن له إعجابا دفينا
صادقا رغم تصرفاته وسلوكه ، ألا توجد
طريقة ما تمكّنها من التفاهم معه ، وبحث كل
الأمور بنضج وعمق ؟ هل كتب لها أن

تستمر في عراك مرهق معه ، لا تتوصل الى
اية نتيجة حاسمة؟
رأت وجهه يكفهر كليلة شتاء عاصفة ،
وكادت عيناه تنفجران حمما ، لا سبيل الى
إختراق هذه الحواجز الهائلة ، لتعتصم
بالصمت والصبر ، والأمل بغد مشرق بعد
هبوب العواصف وزمجرة الرعد.
غرز عينيه في وجهها ، ثم طوّقها بذراعيه ،
فاطرقت برأسها توجّسا ، راح يعانقها عناقا
طويلا صامتا ، إسترخت وهي تشعر ببعض

الدفء ، وبحرارة منعشة مفاجئة ، ما اروعها
لحظة ، وما اجملها وهي تذوب كقطعة ثلج ،
وتنبت وردة مفتحة البراعم والأكمام تتيه بين
أجنحة النسائم ،وتنثر عطرها مع إطلالة
الفجر .
أفاقت من حلمها وهي تشعر به يدفع بها
أرضا ، ويبتعد عنها ، أصيبت بالذهول ،
مرتعدة الفرائص ، مضطربة .
خرج من الخيمة ، مسرعا ، لا يلوي على
شيء.

ما هذا الجنون الذي إستبد بها ؟ سالت
نفسها منهكة يائسة ، إنها تحب فريزر ولا
يمكنها ان تحبه ، إنه يمثل كل ما تكرهه من
صفات مشارب ، ومع ذلك ، كانت
تتملكها مشاعر متضاربة إتجاهه تأججت في
داخلها عواطف غريبة لا تمر بها وهي في
صحبة مارك ، رغم إحترامها له ، وتقديرها
لمواهبه.
وادركت كوري وهي تستلقي على أرض
الخيمة أنها لن تقوى على طرد شبح فريزر من

ذهنها حتى ولو الغت الرحلة ، واقفلت
راجعة الى منزلها ، كانه قدر محتوم لا سبيل
الى رده أو تجاوزه.
أهملت طعام الغداء ذلك اليوم ، ولم يبحث
عنها أحد من الرجال ، حتى فريزر إختفى
عن الأنظار ، وتركها وحيدة في خيمتها
تضرب أخماسا بأسداس.
ومرت ساعة مرهقة ، مليئة بالقلق ، ثم سمعت
صوتا يناديها من الخارج:
" كوري؟".

ثم أطل براسه ، فهتفت:
" مارك؟ ما هذه المفاجأة؟".
" هل أنت بخير ؟".
" نعم الحمد لله".
ظل واقفا خارج الخيمة مكتفيا بمد راسه عبر
فتحة المدخل.
" تغيّبت عن الغداء".
فإستندت الى مرفقها:
" كنت أعاني من صداع أليم ، يمكنك
الدخول يا مارك".

قال بإلتياع:
" لا... هل أنت متأكدة من أن كل شيء
على ما يرام يا كوري؟ ألم يسبّب لك بويد
بعض الأذى " .
فضحكت قائلة:
" أنت تكفلت بحمايتي ، ولم أشكرك على
عملك النبيل حتى الآن".
أجاب وكأنه يعاني من قلق ما:

" كنت قتلته لو تجرأ على خدشك ، وماذا
عن فريزر؟ هل عمد فريزر الى..) وتجمّدت
الكلمات في حنجرته(".
قالت تطمئنه قدر المستطاع:
" أنا بخير يا مارك ، اقسم لك".
ومرت ثلاثة ايام باهتة ، عادية ، غير أن
كوري ظلت متوترة الأعصاب حائرة ، كان
فريزر يتجاهلها ويعتصم بالصمت أمامها،
وواظبا على تقاسم خيمة واحدة ، يقضيان
فيها ثماني ساعات من النوم لا تفصل بينهما

مسافة تذكر ، ومع ذلك لم يشعر بوجودها
ولو لحظة واحدة.
قامت كوري بكل ما يترتب عليها ، إلتقطت
الصور وأعدّت وجبات الطعام ، وصرفت
الأمسيات قرب نار المخيم تتحدث الى
الرجال ، وكان مار ك رفيقها الدائم، حيث
حمدت الله أكثر من مرة على صداقته
وإخلاصه ، وما ان تلتقي ببويد حتى تجده
يشيح بوجهه عنها ، وكأنه ينفذ وامر فريزر
بعدم الإقتراب منها ، وهو لا يفعل ذلك ،

خاطبت نفسها ، حرصا على مصلحتها ، بل
حماية لنفسه .
اصبح صمت فريزر طبيعيا ، إعتادت عليه
وقبّلته ، وبدات تعامله بالمثل ، لا تتحدث
اليه إلا عند الضرورة ، وبإختصار شديد ،
وعندما يهبط الليل لم تكن توحي بأي إستياء
أو أرق يقلق نومها .
وما ان تلفظ بإسمها في اليوم الرابع ، حتى
أصيبت بالذهول والدهشة المريبة ، إكتفى
بالقول:

" هل من جديد يا كوري؟".
كان ينظر اليها بإمتعاض ، ثم إنفرجت شفتاه
عن إبتسامة شاحبة ولمحت في عينيه بريقا
خافتا يزيده جاذبية ، وظهرت اسنانه بيضاء
قوية ، تزين وجها لوحته الشمس بسمرة
داكنة ، وبانت رقبته مستقيمة ، وسط ياقة
إنفتحت عن صدر عارم عريض.
عجزت عن محو صورته من مخيلتها ، هجمت
ملامحه بعفوية تلقائية وإستقرت في ذاكرتها ،

خالته سيقترب منها ويلمسها برقة ورشاقة لم
تعهدها من قبل.
كم حدّثت نفسها بتجاهله ودفن ذكراه الى
الأبد خلال الأيام الفائتة ، لا يمكنها بناء أي
مستقبل مع هذا الرجل بل ستجد نفسها تحيا
بائسة ، تعاني الوحشة والشقاء والعذاب ،
لتطرد شبحه مرة والى الأبد ، إنه رجل لن
يتوانى عن تدميرها وسحق كل آمالها الفتية.
وصمت عقلها منزويا يجرجر اذيال الهزيمة ،
ها هو فريزر يقف أمامها بكل رجولته

وشخصيته الطاغية ، فإستسلمت لعواطفها
وغرائزها ترمقه بعينين تشتعلان بلون
بنفسجي حالم ، همست:
" مرحبا يا ف ريزر".
" يبدوعليك االإرهاق".
قالت بتمهل :
" لم أتوقف عن العمل لحظة واحدة".
" وإسترحنا من المشاكل ، والنزهات
المنفردة".

تلقت سخريته بكبرياء وأناة ، كان يتمعن في
وجهها يكبت قهقهته الشهيرة.
اجابته بعد طول عناء:
" انك على حق ، لم اقم بنزهة واحدة".
فتابع سخريته:
" لا بد أنك قررت الإخلاد للراحة ، والكف
عن خوض المغامرات".
نظرت اليه بإستفزاز:
" وما الذي تعنيه بالضبط؟".

" أعني أنك تحتاجين الى تجديد نشاطك ،
والقيام بنزهة قصيرة ".
سألته:
" هل ننوي الإنتقال الى موقع آخر؟".
" لا ، لم نستكمل عملنا هنا".
" إذن لا أفهم أي نوع من النزهة يا فريزر؟".
" نزهة الى قلب الصحراء ، ونبيت الليل
هناك".
إضطربت قليلا وهي تستفسر :

" تريد إختيار مجموعة صغيرة للذهاب
معك؟".
وقال بصوت عذب:
" يمكنك قول ذلك ، مجموعة مكوّنة من
شخصين".
" تعني انا وأنت... ولا أحد سوانا".
" تماما".
إنطلقت الكلمات من فمها كطلقات نارية:
" لا ، هذا مستحيل ، ولماذا أنا بالذات؟".
" لأنني في حاجة الى مصور ".

هزت براسها معترضة ، محتجة:
" لا ، لن أذهب معك".
فالحّ قائلا:
" نعم ، نعم".
ارادت أن تصرخ ملء صوتها ، وتتوسل اليه
ليعفيها من هذه التجربة المرة ، ألا يفهم هذا
الرجل شيئا ، الا يدرك عذابها ، أم أنه يفهم
كل شيء ، ويتمتع بتجريدها من كل
اسلحتها وأسرارها؟ صاحت:
" يمكن لمارك أن يأتي معنا ".

وسمعت إصراره:
" انت وأنا فقط يا كوري".
لن يفوقها عنادا!
لوى فمه هازئا وقال:
" إذن أنت تموتين خوفا مني يا كوري
لاتيمر".
إنها لم تكن خائفة منه ، بل ان مشاعرها
وعواطفها هي التي كانت ترعبها وتقلقها ،
كيف ستذهب معه وحيدة الى قلب الصحراء
، وتقاوم إغرائه وإنجذابها الى شخصيته ؟ لا ،

لا يمكنها الذهاب ، لا لن تذهب ، شمخت
برأسها معلنة :
" لا تخدع نفسك يا فريزر ، أنا لا أخاف
منك ، كل ما في الأمر انني لا اشعر برغبة في
لتنزه خارج المخيم.
تبدلت ملامحه ، ولمحت في وجهه هبوب
عاصفة مدمرة ، عنيفة لا تبقي ولا تذر ، قال
لها بإصرار حاسم :
" نغادر غدا مع شروق الشمس".

-9 حاولت أن تنسى انها تغرس نبتة شقائها
مع هذا الحب ، سيكون لها متسع من الوقت
لتفكر بذلك ، أما الآن فعليها إقتناص هذه
الليلة النادرة مع من تحب.
إنبلخ الفجر يضيء أطراف المخيم المتثائب ،
ووقف بيتر بجانب سيارة الجيب لتلقي
تعليمات فريزر الأخيرة ، فهو سيتولى
مسؤولية الإشراف على العمل في غياب
القائد ، وبرز مارك من خيمته يحوم حول

السيارة ، كالح الوجه ، كئيب المظهر ،
أحست كوري أنه يتمنى لو يستطيع منعها من
الذهاب ، لكنه إختفى بإلقاء تحية الود اع ،
موصيا إياها بالإحتياط والحذر .
كان الفضاء يستحم بشعاع يوم جديد عندما
غادرت السيارة المخيم ، شعرت كوري
بلسعة برد خفيفة ، فتلحفت ببطانية زوّدها
بها فريزر ، جلست صامتة على الطرف
الأقصى من المقعد ، لا تدري ما تخبئه لها
الأيام المقبلة ، وخامرها إحساس غريب

بتطورات جديدة ستقلب حياتها رأسا عل ى
عقب .
إعتصم فريزر بالصمت أيضا ، يقود السيارة
فوق منبطح متعرج مليء بالحفر ، يحتاج الى
تركيز تام ، وراحت كوري بين الفينة والأخرى
تختلس النظرات اليه ، بدا كما توقعته دائما
صارما ، حازما ، مسيطرا على زمام الأمور.
فكرت في الحياة الزوجية معه ، وبما تنطوي
عليه ، لم يخامرها شك أنه سيكون الشريك

المهيمن ، ولكن زوجته ، إذا كانت تحبه ،
ستجد سعادة في العيش مع رجل بهذه
الصفات ، إذ أن شخصيته المهيمنة تعني
أيضا الأمان المادي والنفسي ، والإطمئنان
الى قدرته على معالجة أية مشكلة طارئة.
هل تقبل زوجته الجانب السيء من طبيعته ؟
ولم تتردد كوري في الإجابة على سؤالها بنعم
كبيرة ، إنه يخفي وراء هذا التفوق العالي
حنانا عميقا ، حارا ، اوهكذا إرتأت كوري

أن تتصوره.... زوجا محبا ، يفيض عاطفة
وحنانا.
" هل تستغرقين في أحلامك؟".
رن صوته كالجرس في تلك السكينة ، فنظرت
اليه مندهشة ، كانت واثقة من إنهماكه في
التركيز على الطريق الصعب ، فلم يتبادر الى
ذهنها أنه يعبأ بها ، يا لقوة ملاحظته وحدة
ذكائه.
قالت له:
" كنت أفكر في هذه الصحراء وغرابتها".

علّق يطمئنها:
" إنها حقا صحراء غريبة ".
ولم يفت كوري ان الحديث لم يكن يدور حول
الصحراء ، القت نظرة من النافذة وقالت:
كل هذه الأعشاب ، والمستنقعات ، كنت
اتوقع مجرد بحار من الرمل" .
قال متمهلا:
" وتوجد رمال أيضا ، وبكثرة وغزارة ، ولكن
من الصحيح القول أن التن وّع هو سمة هذه

الصحراء ، وهذا ما يعجز عن فهمه اللذين
لم يسبق لهم المجيء الى هنا ".
إستطردت ، وهي ترى سربا من الظباء يعدو
فوق العشب اليابس بحركات منتظمة:
" كم كان والدي سيعجب بهذا المشهد".
فوافق بصوت هادىء ، متعاطف :
" لا شك في ذلك".
سألته دون ان تلتفت اليه:
" أنت لا تكرهه إذن؟".

" لم اكرهه في حياتي ، إختلفنا في الراي ،
ولكن إحترامي له ظل كما هو ) ولمست يده
ذراعها ( إنظري يا كوري ، هل شاهدت
ذلك الفيل؟".
بلعت ريقها :
" ما اغباني ، خلته في البداية صخرة من
الصخور".
" إنه فيل".
إزدادت إهتماما :
" هل هو خطر ؟".

" في بعض الأحيان ، إن خطره يتوقف على
كيفية تصرفنا".
هل يحدثها بعبارات مبطنة مرة أخرى ؟ لم تعد
تبالي ، إنها تعرف الآن مدى إعجابها به ،
ورغبتها في إختراق اسراره الدفينة ، وهي
تعيش لحظات مليئة بالمفاجآت والإبتهاج
والتوقع.
وشعرت باصابعه تلتف بقوة حول ذراعها
وكأنه يقرأ أفكارها :
" تمتعي بهذه الأيام النادرة يا كوري".

ولاحت إبتسامة خفية فوق شفتيه ، فسرت
في فؤادها غبطة عارمة :
" هذا ما أنوي فعله".
وتبدلت الأجواء بعد ذلك ، لم يعد محتما
عليها الإستمرار في الحديث بل اخذت
الأمور تبدو طبيعية ، عفوية ، وزال أي توتر
أوشعور بالضغط والتكلف ، كان فريزر
يعرف الصحراء جيدا فراح يدلهّا على اشياء
جديدة من الصعب أن تتبيّنها وحدها .

إزدادت الشمس سطوعا ، ترسل أشعتها
الحارقة فوق الشجيرات والأعشاب والرمال
، وتوالت المشاهد الطبيعية أمام عيني كوري ،
زرافات وفيلة ، ظباء ، وقطعان من الوعول
ذات القرون الحادة ، القوية.
وتراءى في البعيد صف من التلال الواطئة،
تعانقها أكوام هائلة من الصخور ، وبدا فريزر
يتجه مباشرة نحو الصخور ، هتف بعد قليل
:
" هل الكاميرا جاهزة؟".

أوقف السيارة على مقربة من الصخور ،
وامسك بيدها يساعدها على السير فوق
الرمل الناعم ، لم ترفض مساعدته ، مع انها
كانت قادرة على تدبّر أمرها .
وها هو بثقة عارمة جازمة يشير الى الرسوم
الصخرية ، تلك التي داعبت أحلام والدها ،
وشغلت ايامه ، وملكت جوارحه ، حبست
كوري أنفاسها ، وهي لا تكاد تصدق
عينيها.

إنها تراها الان كما هي منحوتة ، بارزة، رائعة
، توقفت طويلا امام المشهد الأول ، الذي
يظهر مجموعة من الصيادين يطاردون
جاموسا.
كانت هناك رسوم عديدة ، يروي كل منها
قصة مختلفة ، ولم تتمالك من إبداء إعجابها
بمهارة هذا الفن القديم وهي تمعن النظر بدقة
وكأنها في حلم جميل .

مضى بعض الوقت قبل ان تتذكر آلة
التصوير المتدلّية من كتفها ، وإنكبت تلتقط
الصور بلهفة وشغف وحماس.
وحان وقت إستئناف الرحلة ، حيث توغّلا
في قلب الصحراء أبعد فابعد ، وعثرت على
مزيد من الصخور وال رسوم ، وتابعت إلتقاط
الصور بينما كان فريزر منهمكا في امور
أخرى.
إلتفتت كوري حولها ، منتبهة الى إقتراب
المساء ، وإمتدا د الظلال ، سيهبط الظلام

بعد فترة وجيزة وهما على بعد أميال من
المخيم ، كانت تعرف منذ البداية ، انهما
سيقضيان الليل وحيدين في الصحراء ، ولكن
معرفتها أصبحت الان واقعا ملموسا داهما.
أوقف فريزر السيارة قرب كومة من الصخور
، واطفأ المحرك ، وأعلن :
" سننصب الخيمة ، ونبيت الليلة هنا ".
وافقت بوجّس :
" نعم ، إنها بقعة ملائمة ".
حدجها قائلا :

" ماذا دهاك ؟ يبدو عليك القلق يا كوري".
ردّت بسرعة:
" لا تكن سخيفا".
قالت مبتعدة عنه:
" نعم ، لا يوجد ما يدعو الى القلق ، الم
يسبق لنا ان تقاسمنا خيمة واحدة ؟ يكاد
الظلام يداهمنا ، فلنبدأ بنصب الخيمة يا
فريزر".

راته يكبت ضحكة خبيثة ، إنه يفهم
مشاعرها ، فكّرت بحزن ولا سبيل االى
إخفائها عنه.
وسمعته يقول موافقا وهو يتجه نحو السيارة:
" إنها فكرة صائبة".
نصب الخيمة بسرعة فائقة ، وأوقد النار
لإتقاء لسعات البرد ، بدت الخيمة صغيرة ،
موحشة معزولة ، فوق بقعة شبه قاحلة ،
تحيط بها الرمال من كل جانب ، رمال مترامية
في كل إتجاه الى ما لا نهاية .

حمل فريزر صندوقا ثقيلا من السيارة ، ورماه
بجانبها ، عرفت كوري أنه يحتوي مآكل
متعددة.
كان الليل يرخي سدوله ، وهما يتناولان
طعامهما ، وفوجئت كوري بشهيتها ،
وإلتهامها الأكل إلتهاما ، رغم إعداد فريزر
لهذه الوجبة المرتجلة ، المكونة من لحوم
المعلبات المالحة.
غمرتها الطمأنينة ، وهي تجلس قرب النار
ذات الهسهسة المتناغمة والسنة اللهب

المتراصة ، إنها ليلة ستظل محفورة في ذاكرتها
مدى الحياة ، غدا عندما تعود الى منزلها ،
والدها والمدينة وضوضاءها ، ستحملها
أجنحة الخيال الى هذه البقعة بخيمتها الصغيرة
، ونارها الدافئة ، وستغرورق عيناها بالدموع
وهي تستعيد قصة حبها الجامح ، المجنون.
نعم ، إنها تحب فريزر ، وهي تدرك ذلك الآن
، منعها عنادها وكبرياؤها من الإعتراف بهذه
الحقيقة قبل هذه اللحظة ، خالت مشاعرها
في ذلك الحين مجرد نزوة عابرة لا تلبث أن

تزول ، إنها تحب فريزر ليس لانه شخص
جذاب فقط ، بل لأسباب أخرى كثيرة ،
تعشق قوته ، وحنوّه ، وتحب عقله الحاد
الذكاء وإستقامته وأمانته.
تحبه كما لم يسبق لها أن أحبت احدا من قبل
، كم تبدو علاقتها بصديقها أريك سطحية
وتافهة أمام هذا الحب الجارف ، الصادق ، لم
يعد اريك أكثر من ظل باهت لا يحتل حيزا
من وجودها.

ستحب فريزر الى الأبد ، هذا ما أدركته الان
، وأدركت أنها تغرس بنتة شقائها مع هذا
الحب ، إذ أنها لا تعني له شيئا ، لم يبادلها
عواطفها ، ولا يفكر إلا في رغباته الخاصة.
حاولت طرد شبح الشقاء من مخيلتها ،
سيكون لديها متسع من الوقت لمعاناة كل
ذلك في المستقبل ، أما الآن فعليها إقتناص
هذه الليلة النادرة والتنعم بوجودها مع الرجل
الذي تحب.


راحا يتجاذبان أطراف الحديث ، وإكتشفت
كوري صفات كثيرة مشتركة تجمعهما، كلاهما
يحبان العيش في الهواء الطلق ، والتمتع بجمال
الطبيعة ، يستمتعان بالألحان الموسيقية نفسها
، ويهويان مطالعة الكتب عينها ، حدّثها
فريزر عن مشاريع بالنسبة الى مزرعته ،
ومتاعب تربية الأغنام وإيجابياتها أيضا ،
وظلت صامتة تصغي بينما يروي لها أحلامه
وآماله ، وجدت غبطة عارمة في الإصغاء اليه

يسترسل في الكلام ، فتمنّت لو تمكث معه
قرب النار الى الأبد .
ثم كف عن الكلام ، غارقا في تفكير عميق ،
وسمعته يسالها برقّة :
" وما هي مشاريعك يا كوري؟ لا بد انك
تتوقين الى إستئناف عملك ، والعودة الى عالم
الأضواء والتالق".
همست ، تخنق غصّة:
" هذا ما يراه الجمهور من عالم الأزياء ، ولا
علاقة له بالواقع".

ألحّ قائلا :
" أنت تتوقين الى العودة".
أرادت أن تقول له : ) كلا ، لا أرغب في
العودة ، وعلى الأقل ليس الى العالم الذي
عرفته ، اريد الذهاب معك الى مزرعتك
والعيش وإياك طول العمر ( كيف ستكون
ردّة فعله ؟ هل يحتقرها ويسخر منها ؟ أم
يتجاهلها ويمضي في سبيله لا يلوي على
شيء ؟ لا تستطيع تحمل تجاهله وإنقطاعه
عنها ، وقالت بصوت مرتفع:

" هذه هي مهنتي يا فريزر".
تمهّل في الجواب ، ورأته يحمل قطعة من
الخشب ثم يرمي بها فوق لهب النيران ،
وخرجت الكلمات من فمه بتأن وأسى ،
فأدركت إساءة فهمها لنواياه وعواطفه :
" نعم عليك الإهتمام بعملك كما عليّ
الإهتمام بعملي".
وسألته وكأنها لا تدري مغزى عبارتها :
" هل تظن أننا سنلتقي ثانية؟".
نهض واقفا ، يحدق في البعيد:

" أنا لا أتردد على معارض الأزياء ، تقدّم
الليل يا كوري ، هيا بنا الى النوم".
سبقته الى الخيمة ، تلك كانت عادتها ، وكان
يتمهل قليلا في الخارج الى أن تخلع ثيابها
وتأوي الى فراشها ، أما في تلك الليلة فلم
تشعر باي دافع الى لإسراع ، والحذر من
العيون المتربصة ، تعمّدت أن تخلع كل قطعة
من ثيابها ببطء وه دوء ، وكأنها وحيدة في
غرفتها لا يقلقها أحد ، ولا تتوجس خيفة من
هجوم مفاجىء ، وسمعت وقع خطواته

الوثيدة تقترب من الخيمة ، وها هو يدخل
ويمضي الى زاويته ، إستدارت صوبه ، لم
يتحرك ، وباشر بإعداد فراشه رابط الجاش
فاتر الأحاسيس ) يا له من ثعلب مخادع(
خاطبت كوري نفسها ، إرتدت ملابس النوم
، وهو مطرق الراس ، يرفض رفع بصره أو
الإيحاء بأي إهتمام.
إقتربت منه بدلال أنثوي ، وقلب خافق ،
كادت تلتصق به ، توقعت أن يذوب الجليد

، ويجذبها نحوه بحنّو وشغف ، لكنها سمعته
يزمجر صارخا:
" عودي الى مكانك ، كفى خبثا ومراوغة".
وصاحت بصوت جريح:
" ما الذي تعنيه يا فريزر؟".
" أنا اعرفك جيدا ، وأعرف مؤامراتك
والاعيبك ، تآمرت عليّ ، وتسللت الى
رحلتي في ثياب رجل ثم دبّرت مكيدة للإيقاع
بين مارك وبويد ، وماذا تحيكين الآن من
مكائد ؟".

إسودّت الدنيا في وجهها ،وهتفت:
" يا لك من وغد وقح ، أخرج من الخيمة
الان ".
وراته يندفع الى الخارج كالثور الهائج.
لم يعد الى الخيمة إلا بعد أن تكومت في
فراشها ، وظن انها تغط في نوم عميق ،
وأحست به ياوي الى فراشه بهدوء ، ظلت
مستيقظة يؤرقها قلق عاصف ، يا لها من فتاة
غبية ، ها هي تتعرض للغهانة ، مرة تلو المرة

، ومع ذلك يضطرم حبه في فؤادها ، وتهيم
عشقا برجل فظ ، متحجر القلب .
وشعرت بحركة خفيفة حول فراشها ، بإنزلاق
شيء ما ، حملقت في الظلام ، وكادت ان
تصرخ مذعورة لولا أن صوتا في داخلها منعها
من إرتكاب حماقة كبرى.
كانت أفعى طويلة ملساء تتمدد قربها ، إنها
افعى سامة تدعى الكوبرا .
عليها الإحتفاظ بهدوء اعصابها ، عن اية
حركة ستؤدي الى عواقب وخيمة.

هل توقظ فريزر ؟وكيف دون أن تجفل الكوبرا
؟ لا بد لها من التصرف بحذر شديد إذ أن
زلّة واحدة تقضي عليها إلتفّت الأفعى منزلقة
نحوها ، فتجمد الم في عروقها ، ارادت أن
تمسك الأفعى وتقذفها بعيدا ، أرادت ان
تصرخ ملء حنجرتها ، ولكنها كانت تدرك
مغبة أعمال طائشة كهذه.
همست :
" فريزر".
إستيقظ لتوه ، نظر اليها مستفهما.

" ماذا؟".
تابعت همسها ، مشيرة الى الأفعى:
" صه ، كوبرا".
تمتم بهدوء:
" لا تتحركي ، سأتولى أمرها".
تناول عصا كان يحتفظ بها ، وإنقض على
الفعى يشبعها ضربا ثم رماها عن الفراش
وسحق رأسها على الأرض ،وحملها بطرف
عصاه الى خارج الخيمة جثة هامدة.

وعاد بعد قليل وكوري لا تزال ترتجف ذعرا ،
سألها بلهجة حارة صادقة:
" هل أنت بخير يا كوري؟".
نظرت اليه ، وفغرت فمها لا تستطيع التفوه
بكلمة ، سقطت ارضا مولولة ، محطمة
الأعصاب .
رفعها بيديه القوييتين ، مردّدا :
" كوري.... كوري ، لا تخافي ، لا حاجة الى
كل هذا الآن"

كان وجهه باهرا ، نبيلا لا أثر للإزدراء أو
السخرية في ثناياه ، وتمتمت:
" ليلة البارحة..".
" اعرف ، تصرفت بغضب".
سالته بإستغراب:
" لماذا غضبت؟ ماذا فعلت لأثير غضبك؟".
" لا شيء يا عزيزتي ، كنت رائعة وجميلة
كعادتك".
" وماذا بعد؟".
" سأشرح لك كل شيء في وقت لاحق".

وعانقها بحرارة وكأنه يكفر عن كل ذنوبه ،
ويعتذر لها مبديا أسفه لعنجهيته ، وتصرفاته
الفظة ، وكلماته النابية ، وتهمه الباطلة.
نهضا صباح اليوم التالي إنسانين جديدين ،
وجلسا يتناولان طعام الفطور ، ويحتسيان
القهوة ، والشمس تطل براسها فوق الافق
البعيد ، مرسلة اشعة دافئة ، منعشة ، لم
يتبادلا سوى بعض العبارات المقتضبة ، كان
الحب الذي يجمعهما أبلغ بيانا وأرقى تعبيرا
من أية كلمات ، مهما سمت معانيها.

وتأكدت كوري أن الندم لن يزورها بعد الآن
، ولن تعرف للأسف مكانا في قلبها.
ولم يتبادر الى ذهنها ، إلا بعد وقت طويل ،
ان فريزر لم يقل لها انه يحبها بعد أن أعترفت
بحبها له.
تابعا رحلتهما وسط الصحراء، وإنطلقت بهما
العربة فوق كثبان الرمال والنباتات الشائكة ،
وفجأة أطفأ فريزر المحرك وترجل من السيارة ،
إعتقدت كوري أنه يبحث عن شجيرات
وارفة الظلال لإتقاء الحر الحارق الذي أخذ

يندلع من تلك الشمس الساطعة وهي
تتوسط الفضاء ، قال لها :
" إنتظري هنا ، ساعود بعد لحظة".
راته يحث الخطى نحو أجمة من الشجار ،
ويدور حولها كأنه يفتش عن شيء ، ولم يلبث
أن قفل عائدا ، وفتح لها باب السيارة
لتترجل ، نظرت اليه مندهشة ، لا تجرؤ على
الإستفسار عن معنى كل ذل ك
مشت وراءه الى الأجمة، وكانت الحرارة حارقة
تكوي نعليها كيّا ، وتابع فريزر المسير غير

عابىء بظل شجرة عارية ، ففطنت الى أنه لا
يفكر في الحر الخانق الان.
لم يقع نظرها على الصخور الى أن أصبحت
على بعد خطوات منها ، إستدار فريزر وأومأ
اليها بالتقدم .
لم يقل شيئا ، لكن عينيه تألقتا ببريق غريب ،
اثار إستغرابها وزادها حيرة ، جمدت مكانها
تجيل النظر حولها ، هدا روعها وغمرها شعور
عارم بتوقع مفاجأة سارة طالما حلمت بها ،

أمسك فريزر بيدها ، ليعبرا ممرا ضيقا بين
الصخور ، يؤدي الى كهف شبه مظلم.
كانت أكوام من الحجارة تحجب المدخل ،
فكادت تتعثر وهي تتبين معالم درب ضيق
كسته العشاب والنباتات الشائكة ، ضغط
فريزر على يدها يساعدها ، ويجرّها الى
الأمام.
وها هما يقفان داخل الكهف ، خفق قلبها
دهشة ، مبهرة لا تصدق عينيها.

كانت رسوم الحيوانات الصخرية مطابقة
لوصف والدها لها... منظر صيد يغطي حائطا
باكمله ، وأدركت سر توق والدها ، وهيامه
بهذه الرسوم وهي تلمس الدليل القاطع لمس
اليد.
وراحت عيناها تتنقلان بين رسوم حيوانات
متعددة ، متنوعة ، بارزة الأطراف ، واضحة
التفاصيل ، تكاد تقفز من مكانها بعفوية
طبيعية رشيقة الحركة ، سريعة العدو .

رمقت فريزر ببصرها ، كان يراقبها وفي عينيه
ألف سؤال ، عجزت عن النطق أو التعبير
عن مشاعرها الجياشة ، تبدلت ملامحه
وإرتسمت فوق ثغره إبتسامة دافئة ، عذبة ،
وطوق منكبيها بذراعه مؤكدا إعتزازه بها،
وإغتباطه بمشاطرتها هذه اللحظات النادرة.
عاد الى العربة لجلب ىلة التصوير ، وإلتقطت
كوري عددا هائلا من ال صور ، وتمنت لو
تستطيع الإتصال بوالدها ، وإبلاغه نبأ
إكتمال حلم حياته وعمله.

جلست في العربة تطير فرحا وسعادة ، ترقب
فريزر وراء المقود متوجها بها في طريق العودة
، تململت في مقعدها ، تسأله وهي تعرف
الجواب سلفا :
" هل أتيت بي الى هنا للعثور على الرسوم
الصخرية؟".
" نعم".
إستطردت:
" إذن كنت تؤمن منذ البداية بوجودها؟".
فأجاب مبتسما:

" إن والدك رجل عنيد يا كوري ، وهو ايضا
حكيم وداهية ، كنت واثقا من نظريته وبعد
نظره ، ولم يخب ظني ".
وصلا الى أطراف المخيم ، ورات فريزر يوقف
العربة وسط دائرة من الأشجار ، طلب منها
إلتقاط بعض الصور في تلك البقعة دون ان
يوضح لها مغزاها او اهميتها ، وإنكبت على
عملها وهي مدركة أن الفيلم في الكامير ا
شارف على نهايته ، ووقف فريزر يدلي برايه ،
ويشير عليها بإلتقاط هذه الصورة أو تلك.

وفجأة سمعت حركة ثقيلة ، ووتا عميقا
كالبرق ، إلتفتت مذعورة فرأت فيلا هائجا
يهجم عليهما ، أسرع فريزر يجرها من يدها
للفرار قبل فوات الأوان.
وأطلقت ساقيها للريح راكضة صوب العربة ،
سقطت آلة التصوير من يدها فوق خرة ناتئة
، وتناثرت شظاياها فوق الرمال ، أرادت ان
تعود لعلها تنقذ الفيلم الذي يضم شريطه
حلم والدها ومحور حياته وعمله ، غير ان

فريزر دفعها الى الأمام ، وهو يعرف أن
تعرّض الفيلم للضوء قضى عليه وافسده.
ابدى فريزر أسفه وهو يدير محرك السيارة ، لم
يكن في وضع يسمح له بالعودة الان ، بدأ
الطقس يتغير ، وتجمعت سحب قاتمة تنذر
بعاصفة رهيبة ،وهما قرب المخيم الان ،
وكادت الرحلة تنتهي ، لن يهدر فريزر مزيدا
من وقته الثمين ، ويريد مغادرة الصحراء قبل
أن يقع ضحية تطوّرات مباغتة.

إنضما الى الرجال في المخيم ، وإنصرف
ف ريزر الى اعماله المتعددة، لاحظت إهماله
وتجاهله لها ، وغرقه في أحاديث خاصة مع
المجموعة ، يا لبؤسها وشقائها ، ماذا تفعل
الآن ؟ وقعت في حب رجل غريب الأطوار ،
وأعترفت له بصدق مشاعرها الدفينة ، وها
هو يمر أمامها وكأنها شخص عادي ، لا يعبأ
بها ، ولا يبالي بأعابها المرهقة ، وإضطرابها
وقلقها.

أوت الى فراشها في وقت مبكر ، ولم يزرها
النوم إلا برهة وجيزة ، ظلت مؤرقة ، تشعر
بالم موجع وعذاب نفسي طاغ ، ودخل فريزر
الى الخيمة في ساعة متأخرة حيث خلع ثيابه
بسرعة، وغط في نوم عميق مطمئن البال ، لا
يعكر صفو ليلته شيء مطلقا.
نهضت باح اليوم التالي ، فاخبرها الاخرون
ان فريزر ذهب قبل إنبلاج الفجر الى مكان
ما خارج المخيم ، ظلت امتة ، تتأجج في
داخلها نيران الغيظ والحيرة.

تقدم منها مارك يلقي التحية بخجل وإحترام ،
ودعاها للسير معه في نوهة قصيرة ، لم ترفض
بل قفز قلبها فرحا ، إن مارك صديق مخلص
تعتمد عليه ، وترتاح الى رفقته ، وما أن سارا
بضع خطوات حتى توقف فجأة ، واطرق
براسه ، وبغريزة الأنثى توقعت كل كلمة
سينطق بها ، وما لبث أن سالها بعفوية
مدهشة:
" كوري.... كوري هل تتزوجينني؟".
أجابته بلطف وكياسة:

" مارك ، يا صديقي العزيز ، اتمنى من أعماق
قلبي أن أقول نعم ، ولكنني لا أستطيع".
إحتضن يدها برقّة :
" ساوفر لك كل السعادة والأمان".
" أعرف ذلك".
يا ليتها لم تقع في حب فريزر ، خاطبت
نفسها ، إن مارك أكثر لطفا واشد نبلا من
أي رجل عرفته ، ولكانت أحبته حبا جما لولا
شبح فريزر الذي لا يبارحها ، إن مارك يمثل

كل الصفات التي تتمناها في الزوج المثالي
الذي تحلم به .
ولكنها تحب شخصا آخر ، ولا يجوز لها أن
تظلم مارك وتخدعه ، وقال بصوت مضطرب:
" كوري".
" مارك ، لا استطيع ، انا آسفة".
" هناك شخص آخر ) وعندما لم تجبه تابع
بحدّة ( فريزر ، اليس كذلك؟".
إغرورقت عيناها بالدموع يمزقها صراع حاد ،
وإزداد مارك عنفا :

" إن فريزر لا يليق بك يا كوري".
" لا يليق...".
" إنه لا يؤمن بالزواج".
قالت متنهدة:
" انا اعرف هذا ".
جذبها نحوه برفق:
" إذن.... لن تقضي حياتك وحيدة ، إنني
أحبك يا كوري".
إعتصمت بالصمت ، وإستسلم مارك للأمر
الواقع ، قفلا عائدين الى المخيم ، وكأن رابطا

خفيا كان يشدّهما الى بعضهما إنقطع فجأة ،
كانا يسيران على ارض المخيم بوجل ،
وتوجس ، وإلتفت مارك نحوها :
" وداعا يا كوري ، لا أعتقد اننا سنلتقي ثانية
، علينا الإستعداد الآن للرحيل من هذا
المكان والرجوع الى المدينة ".
أرادت كوري ان توضح مشاعرها الحقيقية
إتجاهه ، وتؤكد مدى إعجابها به وإعتزازها
بداقته ، ثم فطنت الى وجود فريزر يقف على
بعد أمتار منهما يراقبهما بحذر وترقب ،

راحت تنادي اسمه، وقد أذهلها بعودته الى
االمخيم :
" فريزر ... لم أتوقع عودتك بهذه السرعة".
إكتفى بهزة من رأسه ، وتوجه الى خيمته
عابس الوجه ، متثاقل الخطى ، ثم قفل راجعا
، وسمعته يعطي أ وامره الى الرجال بحزم الأمتعة
، والإستعداد للرحيل خلال ساعة من الزمن .
وها هي تقود سيارتها وحيدة ، تعبر منعطف
الجبل الحاد ، مسرعة قلقة ، تنظر الى ذلك
الضباب المتكوم فوق القمة، وكأنه يذكّرها

بفريزر ، وغموضه وإستعلائه ، وكيفية وداعه
لها بكلمات جافة مقتضبة ، تفوح عنجهية
وتكلّفا.
دخلت المنزل فهبّ والدها من كرسيه يرحب
بها ، ويعانقها بفرح وعطف أبوي ، وبعد ان
طمأنته عن نفسها ، وهدأت من روعه
لإكتشافه سبب غيابها الحقيقي ، اخذت
تشرح له مأساة الرسوم الصخرية ، وتحطّم
آلة التصوير ، وتلف الفيلم ، أصيب بخيبة
الأمل ، ثم لم يلب ثان إستعاد مرحه وحيويته

، وهي تروي له كيفية إكتشافها للرسوم ،
نسي الصور الفوتوغرافية ، وضياعها في
حادث مؤسف ، وغمرته سعادة لا توصف ،
لتأكده اخيرا من وجود الرسوم الصخرية ،
وتحوّل حلمه الى حقيقة ملموسة.
اتت على ذكر فريزر مرة واحدة، وبعد مرور
أسبوع على عودتها ، لم تشبع فضول والدها
، وتعطشه للإطلاع على أخبار رجل كان
صديقا له في غابر الأيام ، كان فريزر
موضوعا مؤلما حاولت تجنّب الخوض فيه ، أو

الإيحاء لوالدها بما يضج في داخلها من
أحاسيس ومعاناة.
خرجت ذات صباح الى المدينة تتجول في
أسواقها ، وتنتقل من مكان الى آخر ، وكأنها
تهيم على وجهها دون هدف او غاية ، قررت
دفن أحزانها في ضوضاء المدينة ، وصخبها ،
بعيدا عن الأجواء الهادئة التي تحملها عن
التفكير بقصة حبها الناقصة ، وكانت لا تزال
حائرة في موقفها من مهنتها كعارضة أزياء ،
تارة تعقد العزم على إستئنافها ، وطورا تتردد

وتقرر الإنتظار حتى تنجلي الأمور ، وتسيطر
على مخاوفها واعصابها المتوترة.
عادت قبل المغيب تقود سيارتها نحو منزلها ن
رأت سيارة طويلة فضية امام المنزل لم يقع
عليها نظرها من قبل ، وظنت ان أحد
الأشخاص اتى لزيارة والدها .
ترامت الى أذنيها الأصوات من غرفة الجلوس
، وسارت نحو الباب ثم تجمدت في مكانها ،

لم تتبين معالم الزائر ، غير أن قلبها حدّثها
بهويته.
خطر لها أن تدير ظهرها ، وتفر الى مكان
آمن تختبىء فيه ، وخطت تهمّ بالإبتعاد عن
الباب ، فسمعت والدها يناديها:
" كوري ".
اجابته بتافف :
" نعم يا ابي؟".
" عندنا زائر ".

دخلت غرفة الجلوس ببطء شديد ، واحست
بالوهن يتسرب في قدميها ، والدماء تتجمد
في عروقها.
إستدار نحوها بوجهه الأسمر ، وبعينيه
الضاحكتين:
" مرحبا كوري".
فردّت بصوت خافت :
"مرحبا يا فريزر".

لماذا اتى الى هنا ؟ لم يسبق له أن فكر في
زيارة والدها ، لماذا الآن بالذات ؟ هل جاء
ليضاعف عذابها؟
وهتف والدها وكانه يقرا أفكارها :
" لقد جلب لنا فريزر هدية".
ردّدت الكلمة كالصدى:
" هدية؟".
" هدية خاصة جدا".
هدية خاصة جدا ، ما الذي يعنيه والدها ؟

أشار والدها الى الطاولة في الزاوية ، فرمقتها
بإرهاق ، وخالجها شعور داخلي أنها تعرف ما
ينتظرها.
تبعثرت صور الرسوم الصخرية على الطاولة ،
مبرزة تفاصيلها الدقيقة ، وتبزّ صورها فنا
ودقة.
كانا يراقبانها بصمت ، وكأن الغرفة تشهد
حدثا خرقا ، تنعقد امامه الألسنة ، ونهض
والدها من مقعده ، يستأذن بالذهاب الى
مكتبه.

إستبد بها الإضطراب وهي ترى والدها يغادر
الغرفة ، ثم سألته:
" أنت إلتقطت هذه الصور؟".
هز راسه موافقا ، معتدا بنفسه.
وبلعت ريقها :
" شكرا يا فريزر ، يا له من عمل رائع".
" هذا اقل ما يمكنني القيام به بعد ذلك
الحادث المؤسف".
" كنت تعرف مدى أهمية هذه الرسوم
بالنسبة الى والدي ) وفكرت قليلا وهي

تستطرد( ولكن بإستطاعتك إرسال الصور
بالبريد ، لماذا قطعت كل هذه المسافة
لجلبها؟".
وقال بحرارة وجدّية:
" لأنني اردت يا عزيزتي أن أرى فرح والد
زوجة المستقبل بنفسي".
خفق قلبها طربا:
" فريزر ، ما الذي تقوله ؟ أنت لا تعني ...".

" نعم انا أعني كل كلمة اقولها ، وها انا
أسالك رسميا ، وأطلب يدك للزواج ، هل
تقبلين الزواج مني؟".
" نعم ، نعم ، كيف يمكنني أن أرفض ) ثم
فكرت قليلا ( ولكن اين موقفك من النساء
ونظرتك الضيقة اليهن؟".
إبتسم بحنو :
" هذا كان رايي الى أن إلتقيت بك ، لم اقرر
الوقوع في حبك ، يشهد الله انني قاومت
الشعور طويلا ، ولكن دون فائدة".

عانقها عناق العاشق المتيم ، ثم رفع راسه
قائلا:
" هيا بنا نزف النبأ السعيد لوالدك ، إنه
ينتظرنا بفارغ الصبر".

***
تمت



 
 

 

عرض البوم صور giii giii   رد مع اقتباس
قديم 16-08-11, 05:50 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
قارئ مميز


البيانات
التسجيل: Jun 2010
العضوية: 174082
المشاركات: 4,031
الجنس ذكر
معدل التقييم: fadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسيfadi azar عضو ماسي
نقاط التقييم: 4492

االدولة
البلدLebanon
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
fadi azar غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كواكب المنتدى : روايات عبير القديمة
افتراضي

 

مشكورة كتير حلوي

 
 

 

عرض البوم صور fadi azar   رد مع اقتباس
قديم 17-04-12, 07:56 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Dec 2010
العضوية: 208146
المشاركات: 5,688
الجنس أنثى
معدل التقييم: ندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييمندى ندى عضو جوهرة التقييم
نقاط التقييم: 1018

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ندى ندى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كواكب المنتدى : روايات عبير القديمة
افتراضي

 

روووووووووووووووووووووووووووووعه

 
 

 

عرض البوم صور ندى ندى   رد مع اقتباس
قديم 11-09-12, 10:24 AM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Jan 2012
العضوية: 234890
المشاركات: 541
الجنس أنثى
معدل التقييم: ام منى مصطفى عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 38

االدولة
البلدSaudiArabia
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
ام منى مصطفى غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : كواكب المنتدى : روايات عبير القديمة
افتراضي

 

تسلم ايدك على الرواية
روووووووعة

 
 

 

عرض البوم صور ام منى مصطفى   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
الرواية الواحة, desert dream, روايات رومانسية, روايات عبير, روايات عبير القديمة, روزميري كارتر, rosemary carter, عبير, قلوب عبير, قلوب عبير القديمة
facebook



جديد مواضيع قسم روايات عبير القديمة
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:33 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية