منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.liilas.com/vb3/f449/)
-   -   22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة ) (https://www.liilas.com/vb3/t95004.html)

nightmare 03-10-08 06:51 AM

22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
المجهول
Dance Of The Snake

الملخص
بين الحقيقة والوهم خيط غير مرئي وبين الحب والعاطفه خطوة قصيرة. لم يبرع دان ترافورد فى مهنة الطب وحسب بل وفى اغواء النساء ايضا . لكن جيسيكا الطبيبة الشابة القادمة حديثا الى المدينة قررت ان تظل بعيدة عن شباكة المغرية حتى لايضاف اسمها الى لائحه فتوحاته. المشكلة انه أبى ان ينظراليها كأمرأة, فتحدته. سلاحها ثقتها بنفسها وقدرتها على التحكم فى عواطفها…لكنه لم يدخر جهدا ولاحيلة ليجردها من سلاحها. القلعة المحصنه جهدا تبقى , الا اذا طال الحصار.. ويأتي الانهيار, عاده من الداخل.
منتديات ليلاس
الفصل الأول
1 - جيسيكا نيل كانت عرضة لملاحقة الكثيرين من الأطباء بسبب قلة الطبيبات الجميلات مثلها . ولكن اهتمامها كان ينصب على التفوق في مهنتها غير مبالية بكل مايمت بصلة الى أنوثتها…
تهادى جوناثان نيل على المقعد الجلدي خلف مكتبه الفاخر باضطراب وتململ واضحين وألقى نظرة فاحصة على ابنته جيسيكا الواقفة في وسط الغرفة, لاتحرك ساكنا لقد أثار قرارها شجونا قديمة في نفسه ونبش صفحات من الماضي طالما تمنى ألا تعود فبدا مغموما في عينيه أصداء قلق عميق وعلى شفتيه أشباح كلمات يحاول خنقها قدر المستطاع
اليوم قررت ابنته التقدم لوظيفة شاغرة في مدينة لويزفيل كطبيبة مساعدة للدكتور اوبريان وشريكه . جاءت لتعلمه بخطوتها لا لتأخذ برأيه فهو أعلم الناس بابنته وبصعوبة تراجعها عن قرار تتخذه.
زفر الأب العجوز زفرة طويلة ورفع حاجبيه سائلا:
- وماذا عن قرارك التخصص في طب الأطفال؟
- اجابت جيسيكا بجزم ممزوج باللوم:
- كان هذا قرارك ياوالدي من غير ان تستشيرني.
تردد صدى كلماتها في ارجاء الغرفة وأحست انها أخطأت في اختيار عبارتها لم تقصد ان تنفض الغبار عما حدث يوم قرر أخوها جايمس الذي يكبرها بأربع سنوات العدول عن اكمال تخصصه في الجراحة العامة كوالده مفضلا الالتحاق بكلية الهندسة . يومها لم تخف خيبة جوناثان نيل على احد لكنه كتم غيظه وجاهد في اخفاء قنوطه حتى لايشكل موقفه عثرة في مستقبل ابنه البكر الابن الذي اراده ان يجسد الحلم ويحمل اسم العائلة بعده في ميدان الطب.
منتديات ليلاس
منذ حداثتهما عمل الوالد الطبيب على تنشئة ولديه تنشئة صالحة وحاول منذ بدئهما دراستهما الثانوية جذبهما الى حقل الطب وماان أوشك على قطف ثمرة محاولاته حتى فوجئ بقرار جايمس لكن خيبته لم تدم طويلا وحلت مكانها فرحة عامرة عندما انبأته جيسيكا بعزمها على دخول معهد الطب وسلوك نفس الطريق الذي بدأه منذ أربعين سنة.
والآن ولما تكتمل الفرحة بعد هاهي تواجهه بقرار موجع آخر لاتدري ماستكون عاقبته.
مسح جوناثان وجهه براحة يده وكأنه يطرد صورا قاتمة من مخيلته وتطلع الى ابنته الحسناء بحنان:
-هل اسأت التصرف معك جيسيكا ؟
أدركت ان الفرصة سانحة لتكفرعن فظاظة عبارتها السابقة فأجابت بتودد:
-ماهذا الكلام ياوالدي؟أنت نعم الأب ولن أنسى أبدا ارشاداتك لي واهتمامك بمستقبلي.
أكمل العجوز بألم ماأحجمت ابنته عن قوله:
-وتعتقدين ان الوقت حان لتستقلي أليس كذلك؟
-علىّ ان أشق طريقي بمفردي واختار ماأظنه الأفضل.
خيم صمت ثقيل على القاعة وغرق الاثنان في سكوت وتردد. فجأة نهض الوالد عن مقعده ومشى نحو المكتبة الزاخرة بكتب الطب القيمة وصاح بصوت أجش تخنقه الغصة:
-ويحك ياجيسيكا لايعقل ان يهدر شخص بمستواك الثقافي حصيلة علمه وجهده في مكان مزر كلويزفيل.
-لاأظن ان انتقالي الى لويزفيل سيهدر مستقبلي ياوالدي بل سيتيح لي الاطلاع على حالات كثيرة ومختلفة تساعدني على اكتشاف مدى تقدمي كطبيبة.
-بامكانك اكتشاف ذلك هنا في هذه المستشفى.اجابت الابنة بعناد عكسته عيناها الباردتان:-كلا فأنا لم أفعل مايستحق الذكرطوال العامين المنصرمين ولم أعاين في هذه المستشفى سوى مرضى لم يكترث لهم بقية الأطباء لأن حالتهم لاتدعو الى القلق وبالتالي لافائدة لهم منهم.وأضافت بمرارة:-تدربي هنا لم يفدني على الاطلاق
-هذا تهجم فاضح ياجيسيكا.-انها الحقيقة ياوالدي.
التقت عيونهما للحظات قصيرة التقطت خلالها انفاسها وتابعت بلهجة حانقة:
-الأطباء هنا متشدقون يلهثون وراء المال والشهرة بأساليب قذرة ضاربين بجوهر هذه المهنة النبيلة عرض الحائط.علق جوناثان بتحد:
-أتعتقدين ان الأمر مختلف في لويزفيل؟
-لدي من الأسباب مايحملني على هذا الاعتقاد.
أدرك العجوز عقم الجدال فعاد الى المقعد وأسند رأسه الى حافته:
-يبدوانه كتب لي أن أصاب بالخيبة مرة بعد مرة.
لم تبال جيسيكا بما قال:-أظن ان وقع الأمر على أمي سيكون قاسيا.
- هل تريديني ان أفاتحها بالأمر؟
رفعت رأسها دلالة على الرفض مقتربة من مقعده برشاقتها المعهودة وقالت بحنان:
-سأطلعها على الأمر بنفسي الليلة بعد العشاء مباشرة.
عند عودتها الى المنزل اتجهت جيسيكا الى غرفتها وارتمت بارتياح على السرير. لقد تخطت لتوها العقبة الأولى ولم يبق امامها سوى والدتها المعروفة بصعوبة مراسها لكنها لن تدخر جهدا لنيل موافقتها ولو كلفها ذلك مخاصمتها.
استحمت وبدلت ثيابها ثم وقفت امام المرآة الكبيرة. لم تعتد الاهتمام بنفسها او صرف وقت طويل في التبرج كغيرها من الفتيات مفضّلة ارتداء مايريحها من الملابس منغير ان تأبه يوما للون او للزي فلديها القدر الكافي من الجمال وشعرها الكستنائي المتهدل بفوضى صارخة على كتفيها يزيدها انوثة واغراء وعيناها الواسعتان فوق أنفها الصغير تضفيان على محياها سحرا وجاذبية.
تذكرت أيام الدراسة عندما كانت محط انظار الشبان وانتقالها الى المستشفى حيث كانت عرضة لملاحقة الكثيرين من الأطباء بسبب قلة الطبيبات الجميلات لكنها لم تترك نفسها أبدا تنجرف في علاقة مع أي منهم فقد انصب اهتمامها على انهاء تخصصها في أسرع وقت واثبات مقدرتها في التفوق على أقرانها غير مبالية بكل مايمت الى الأنوثة بصلة.
جلست جيسيكا الى المائدة من غير ان تمد يدها الى الطعام مكتفية بتناول كوب من العصير تسترق النظر بين الحين والآخر الى والدتها متحينة الفرصة لمفاتحتها بالأمر اخيرا جاءها العون من والدها الذي انهى طعامه وتوجه لتمضية عدة ساعات في المكتبة كعادته في كل مساء تاركا اياهما بمفردهما.
استمعت اميليا نيل الى ابنتها وهي تبين لها فوائد الانتقال الى مدينة جديدة شاكية اليها رتابة العمل في مستشفى والدها ولما انتهت جيسيكا من تعليل قرارها سألتها والدتها بعصبية:-وهل يعلم والدك بالأمر؟- أجل لقد تباحثنا بالأمر اليوم بعد الظهر.
ازداد فضول الأم لمعرفة موقف زوجها فاستفهمت:
-وماذا كان جوابه؟-أظنه وافق في النهاية.
-لاعجب في ذلك فلا احد يجاريك في عنادك ياجيسيكا.
مضت الأيام سريعة مقربة موعد رحيل جيسيكا من غير ان يبدو منها ما يوحي بعدولها عن قرارها من جهتهما تجنب الوالدان الخوض في موضوع السفر مفضلين تجاهل الأمر وحذت ابنتهما حذوهما فصارت تتعمد التغيب عن المنزل وقضاء أطول وقت ممكن في المستشفى.
وفي الليلة الأخيرة لجيسيكا في جوهانسبرغ التقى الثلاثة على مائدة العشاء في جو مشحون بالقلق والغم بعد ساعات معدودة ستترك الابنة الوحيدة المنزل مخلفة وراءها فراغا من المستحيل ملؤه وشعورا بالخيبة يصعب التغلب عليه.
قطع صوت جوناثان الأجش حبل الصمت ضاربا بقبضتيه بعنف على الطاولة:
-انت مجنونة ياجيسيكا لتقدمي على هجر مدينة كجوهانسبرغ والتخلي عن الفرص المتاحة لك فيها ان كنت تسعين للعمل بمفردك فأنا مستعد لتدبير عيادة مستقلة لك لكن ان تدفني نفسك في بقعة قصية فهذا أسخف ماسمعته أذناي حتى الآن.
وعاود ضرب الطاولة بقبضته مطيحا بالاطباق الموجودة امامه وأردف:
-هذا عمل أخرق لايعقل ان يصدر عن احد من سلالة جوناثان نيل.
تبادلت جيسيكا ووالدتها نظرات قلقة ابتسمت بعدها الطبيبة الشابة بفتور:
-أشكر لك اهتمامك وتفانيك في الاعتناء بي ياأبي لكن قبل البحث عن عيادة ةالاستقلال في ممارسة المهنة عليّ ان أحصل على الخبرة اللازمة مضى عامان على عملي في المستشفى من غير ان تتاح لي الفرصة لأتحقق من قدرتي كطبيبة وهذا ماأتوق الى تحقيقه في لويزفيل.
-وهل كان عليك الارتباط بعقد لسنة كاملة؟
-انه أحد شروط الوظيفة وأنا سعيدة به …
قاطعتهما الأم خوفا من انعكاس الجدل على صحة الوالد العجوز وسألت ابنتها بحنان:
-وماذا عن موضوع الزواج ياابنتي؟
- الزواج؟
- اجل الزواج. خلال الأعوام الماضية كنت أكتفي بالاستماع اليكما تتناقشان امور الطب ومستقبل مهنتك كطبيبة والآن اكتشفت ان كثرة انهماكك في عملك أنساك انك امرأة.
فوجئت الابنة بالسؤال فردت من غير تفكير:
- طبعا ياأمي انما…
- اذن هلا أوليت الموضوع جدية واهتماما كافيين؟ستناهزين الثامنة والعشرين عما قريب ولن تبقي شابة مدى العمر.
ضاق جوناثان ذرعا بالكلام عن الزواج وهناك أمر يفوقه أهمية فهتف بتململ:
-بربك يااميليا ألايمكن تأجيل هذا الموضوع؟أمامها الوقت الكافي للتفكير بالزواج.
التفتت الأم الى زوجها تستميحه عذرا لمعارضتها كلامه:
-لا جوناثان فالوقت يمضي بسرعة أتظن اني لم ألحظ خيبة أملك بعد قرار جايمس ترك الطب؟ او اني لم انتبه لتحولك الى جيسيكا بعدما أحيت فيك حلمك الأكبر وأمنيتك الغالية وقررت دراسة الطب؟ لكنك نسيت عاملا في غاية الأهمية ياعزيزي وهو كون جيسيكا امرأة.
ضحكت جيسيكا تحاول التخفيف من حدة الموقف:
-وكم أنا سعيدة بذلك!
- مارأيك اذن بعريس لائق فتفرحين قلبي والدين عجوزين بأحفاد جميلين مثلك؟
- قريبا تتلقين هذا النبأ السار من زوجة جايمس.
صرخت اميليا بعدما نفد صبرها:
-ليس جايمس من يهمني الآن بل أنت.
نظرت جيسيكا الى والدها والدمع يكاد يفطر من عينيها:
-لايمكنني ان أعدكما بشئ قبل عثوري على الشخص المناسب.
-وكيف ستعثرين عليه وأنت تعاملين الشبان كما لو أنهم عينات صغيرة تحت عدسة مجهرك؟
-أعتقد اني لن أفكر بعدسة المجهر حين ألتقي الشاب المناسب.
-أرجو ان تكوني صادقة في ماتقولين يادكتورة.
رمقت الابنة والدها بنظرة دلال تستحثه على الكلام ومد يد العون اليها وللمرة الأولى منذ أيام تلحظ في عينيه بريقا ضاحكا وهو يطوق خصر زوجته بذراعه يسألها بتحبب:
-هل نظرت اليك يوما كعينة تحت المجهر؟
ردت اميليا على الفور:
-أبدا ياعزيزي فقد عملت منذ البداية على ان أكون دائما فتاة احلامك فلم تحتج الى مجهر أبدا.
-أمي أتعنين انك …
توردت وجنتا الوالدة خجلا وارتباكا فسارعت الى مقاطعة ابنتها بلهجة ناهية:
-لاتجنحي في خيالك ياجيسيكا ولا تحاولي تغيير الموضوع.
سارع جوناثان الى توضيح ماقالته زوجته:
-ماعنته والدتك في كلامها انها لم تجعلني يوما أشعر بتقدمنا في السن فبعد هذه السنين أحس وكأننا في بداية علاقتنا أليس كذلك ياعزيزتي؟
حدجتهما اميليا بنظرة ثاقبة وتمتمت بتوعد:
-احساس غريب ينبئني بأنكما تسخران مني.
ضحكت الابنة بدلال وتقدمت من والدتها تغمرها:
-لم نستطع تجاهل الحقيقة أليس كذلك ياأبي؟فبالرغم من سنك مازلت تتمتعين بقسط وافر من الجمال وخاصة حين تتورد وجنتاك.
-لاتكوني سخيفة كنت أحاول…
أيقنت جيسيكا ان الأمر تعدى حدود المزاح فقاطعتها بلطف:
-أعرف ياأماه فالحب الحقيقي هو المعاملة قبل ان يكون الكلام انه توافق القلب والعقل على اختيار الحبيب هذا ما سأطبقه حين أقع على الانسان المناسب فانجذاب الواحد نحو الآخر لايكون تاما الا حين يتأثر القلب والعقل في آن معا لذلك أفضل عدم الارتباط بأحد حتى أعثر على من يتمتع بهذا القدر من الجاذبية.
بدا الوالدان مقتنعين بكلامها فتخليا عن مناقشة موضوع الزواج وعادت اميليا تسألها عن السفر:
-أين ستقيمين في لويزفيل؟
-وضع الدكتور اوبريان الطابق السفلي من منزله في تصرفي انه كما وصفه صغير الحجم لكنه يفي بالغرض لدي هاتف مستقل وأملك صلاحيات واسعة لاحداث تغييرات فيه.
علق الأب بحسرة لم ينجح في كتمها:
-أرجو ان يكون القرار لصالحك ياابنتي.
عاد الصمت يلقي بثقله على الغرفة فنهض جوناثان عن مقعده متوجها نحو الحديقة بينما انهمكت ووالدتها في حمل الأطباق الى المطبخ للتفرغ بعدها لحزم الحقائب التي سترسلها الابنة في القطار الى لويزفيل.
في صبيحة اليوم التالي وقفت جيسيكا أمام مدخل المنزل يلفح وجهها الهواء البارد مودعة والديها ثم انطلقت بسيارتها بين خطوط الجليد المرسومة على حافتي الطريق وسطوح المنازل متجهة شمالا الى لويزفيل لحظات الوداع صعبة ويد والدها تلوح لها مازالت أمام ناظريها ودعاء أمها لها بالتوفيق مابرح صداه يتردد في أذنيها لكنها لن تتراجع عن قرارها ولن تدع العاطفة تقف حاجزا بينها وبين المستقبل.
لم تكد تبتعد عن جوهانسبرغ حتى شعرت بأطرافها تكاد تتجمد بالرغم من تشغيلها جهاز التدفئة لكنها لم تأبه بذلك وراحت تشغل نفسها بمنظر الوشاح الابيض وقد غطى البسيطة في حياكة رائعة.
أحست بتغير طفيف في الطقس فور اجتيازها السوتبانسبرغ وانحدارها في الطريق العريض ناحية الوادي حيث وجدت نفسها وسط غابات من أشجار الحبحب لم يقو الثلج على اخفاء خضرتها تذكرت ماسمعته عن هذه المنطقة وعن شتائها اللطيف وصيفها الحار فلم تقطع عدة أميال حتى خلعت سترتها الصوفية وقفازيها السميكين مبقية على قميص حريري رقيق ارتدت فوقها سترة جلدية زرقاء.
في نهاية الغابات سلكت جيسيكا طريقا متعرجا يصل الى سفح الجبل حيث تقبع في نهايته بلدة لويزفيل مرت على محطة للوقود عند أطراف البلدة فملأت خزان سيارتها ودخلت مكتب الاستعلامات للاستدلال على منزل الدكتور اوبريان.
أشارت المسؤولة باصبعها الى الطريق العام قائلة:
-عليك بالعودة مسافة نصف ميل والانعطاف شمالا عند الصخرة الضخمة ثم اتجهي الى اليمين عند التقاطع الثاني وستجدين منزلا مؤلفا من طابقين انه المنزل المنشود فالدكتور اوبريان وحده يملك مثله هنا.
عادت جيسيكا ادراجها الى السيارة ترافقها نظرات المسؤولة الفضولية وانطلقت تتبع التعليمات الى ان وصلت الى حيث الصخرة الكبيرة فانعطفت الى اليمين عملا بكلام السيدة لتجد نفسها بعد التقاطع الثاني امام المنزل ترجلت من السيارة وصعدت الدرجات القليلة امام مدخله الفخم تتأمل نوافذه الكبيرة وحديقته المنمقة لقيت الباب مفتوحا فأطلت برأسها من غير استئذان وألقت نظرة سريعة على الرواق الفسيح الممتد امامها تغطي بلاطه سجادة صينية ثمينة لكنها أحجمت عن الدخول وتغلب حياؤها على الفضول وضغطت على الجرس فعلا رنينه بنغمة حلوة في أرجاء المنزل.
مضت لحظات قبل ان تسمع جيسيكا صوت امرأة قادمة من الأعلى:
- دكتور نيل على ماأظن أرجوك تفضل بالدخول وسأوافيك حالا.
دخلت جيسيكا مرة أخرى تسترق النظر الى مصدر الصوت وخطت بضع خطوات في الرواق حتى بانت في الطرف الآخر امرأة بهية الطلعة ممشوقة القوام هتفت باستغراب خجول:
-آه أرجو المعذرة ياآنسة كنت أتوقع قدوم الدكتور نيل و…
- أنا الدكتورة نيل.
جحظت عينا السيدة تعجبا ورمقت ضيفتها بنظرة طويلة ختمتها بضحكة رنانة تردد صداها في أرجاء الرواق وسألت غير مصدقة:
-أنت؟ انت الدكتور نيل؟
لم يرق هذا الاستقبال لجيسيكا فقطبت حاجبيها وهمت بالتوجه الى الباب لكن السيدة استدركت الأمر قائلة:
- أنا آسفة ياعزيزتي لكن لم أقدر على تمالك نفسي.
- يبدو انك لم تتوقعي ان يكون الدكتور نيل امرأة.
- صحيح … أعني لا… ياالهي اني أتصرف كالبلهاء تماما ارجوك تعالي نجلس وسأشرح لك كل شئ.
سارت السيدة امام جيسيكا الى غرفة جلوس انيقة زاخرة بالتحف على انواعها وجلست قبالتها قائلة:
-لم يكف زوجي طيلة الاسبوع المنصرم عن الحديث عن الرجل القادم للعمل معنا اني أتحرق لرؤية وقع المفاجأة عليه حين يكتشف انك امرأة.
أربك كلامها جيسيكا فهي لم تدرك ابدا انهما يتوقعان رجلا للوظيفة الشاغرة فهذا سيزيد الأمر تعقيدا.
- لم يسبق للدكتور اوبريان ان استعلم عن هذا الأمر وخلته اكتشف ذلك بنفسه بعد مراسلتي له.
- انه يحب المفاجآت من حين لآخر ارجو المعذرة ياعزيزتي انا فيفيان زوجة الدكتور اوبريان والآن وبعدما اطلعتك على هويتي ارجو ان تشبعي فضولي وتخبريني الى ما يرمز الحرف ج.
- جيسيكا.
- نسيت ان أقوم بواجب الضيافة هل آتيك بفنجان من الشاي او القهوة؟
- شكرا لك لكن أفضل أخذ قسط من الراحه أولا بعد هذا النهار الحافل.
- بكل تأكيد سأرشدك الى…
قطع رنين الهاتف على فيفيان عبارتها فاعتذرت والتقطت السماعة مديرة ظهرها لجليستها.
- اجل يابيتر لقد وصل الدكتور نيل وكنت على وشك ارشاده الى حجرته سنكون في انتظارك هنا الى اللقاء ياحبيبي.
- أكان المتحدث الدكتور اوبريان؟
- اجل وسيوافينا بعد قليل دعيني أدلك الى مكان سكنك.
تبعتها جيسيكا على مهل تجتازان الحديقة الراقدة بحبور في أحضان خيوط الشمس الذهبية.
- بامكانك موافاتي الى مسكنك بالسيارة فهناك مرآب خاص بها.
قادت جيسيكا سيارتها عبر الطريق الرملي الملتف حول الحديقة وأوقفتها امام منزل خشبي فتحت فيفيان بابه لتدخل حقائبها لم يكن المنزل صغيرا كما خيل لجيسيكا فيه غرفتان للنوم اضافة الى قاعة للجلوس وأخرى للطعام ومطبخ وحمام صغيران تجولت مع فيفيان في أرجائه تستمع الى شرح مقتضب عنه:
- كان زوجي يشغل هذا المكان كعيادة قبل ان يحوله الى مسكن مستقل ينزل فيه ضيوفنا وعندما قرر الاستعانة بطبيب آخر وجدناه المكان الأفضل لسكنه قد يبدو فارغا لكن بامكانك اضفاء أي تعديل داخلي ترينه مناسبا.
اجالت جيسيكا نظرها في أرجاء قاعة الجلوس تتأمل اثاثها الخشبي وكأنها في منزل والديها فأغمضت عينيها متمتمة:
- انا واثقة من أني سأهنأ بكل أسباب الراحه هنا.
- هنا هاتف خاص بالمسكن ومنذ اسبوعين أضاف بيتر مكيفا للهواء للتخفيف من شدة الحر في الصيف وبما انك ستكونين منهمكة بالعمل معظم النهار فستنظمين الى مائدتنا كل ليلة لتشاركينا العشاء.
شكرتها جيسيكا بنبرة مهذبة لكن حازمة:
- أشكرك على حسن ضيافتك لكن أفضل تدبير أموري بنفسي.
- حسنا اعتذارك مقبول شرط ان تتناولي العشاء معنا هذه الليلة.
لم يسع جيسيكا غير القبول فتمتمت بحياء:
- شكرا جزيلا انت لطيفة للغاية.

nightmare 03-10-08 06:52 AM

- اتفقنا اذن والآن…
احجمت فيفيان عن اكمال عبارتها بعد ان سمعت وقع خطوات في الخارج:
- اعتقد انه بيتر.
بدا وكأن القادم توقف امام المدخل ومالبث ان علا صوته هاتفا:
- هل انت هنا يافيفيان؟
ابتسمت الزوجه بعد ان عرفت صوت زوجها وتطلعت الى جيسيكا بدهاء مجيبة:
- ادخل ياعزيزي اننا في غرفة الجلوس.
فوجئ بيتر وهو يدخل الغرفة بوجود جيسيكا وتسمرت عيناه الزرقاوان فيها لثوان قبل ان يعلق:
- مرحبا( ورمق زوجته بنظرة تساؤل مردفا) لم أدرك ان الدكتور نيل متزوج.
علت ضحكة فيفيان مقهقهة وتقدمت من زوجها موضحة:
- دعني أقدم لك يابيتر الدكتورة جيسيكا نيل (والتفتت الى ضيفتها) زوجي الدكتور اوبريان.
تغلبت جيسيكا على اضطرابها الناجم عن نظرات الطبيب المذهول ومدت يدها مصافحة:
- كيف حالك يادكتور اوبريان؟
- اني… ياالهي لم أتوقع أبدا ان…
مدت فيفيان يدها بدلال تعبث بشعر زوجها:
- لم أرك يوما بهذا الارتباك ياعزيزي انك تهذي كالمحموم.
- في الحقيقة لقد صعقتني المفاجأة.
حدجته جيسيكا بنظرة ثاقبة وسألت بعتاب:
- هل كوني امرأة يغير من الأمر شيئا؟
انتبه الطبيب الى ماسببته تصرفاته للضيفة الجديدة فهتف قائلا:
- ابدا… ابدامؤهلاتك ممتازة يادكتورة نيل وهذا جل مايهمني (وأردف بجدية) تصرفي هذا عائد الى ظني بأنك رجل ولم يخطر ببالي ابدا الاستعلام عن هذا الأمر أهلا بك في لويزفيل يادكتورة وأتمنى لك أطيب الأوقات وأهنأها معنا.
بعثت كلماته في نفسها شعورا بالارتياح فقالت مبتسمة:
- شكرا يادكتور اوبريان انا لاأشك لحظة في ذلك.
تدخلت فيفيان مقترحة:
- حسنا لندع جيسيكا الآن تأخذ حماما ساخنا وترتاح من عناء السفر أتمانعين في مناداتك جيسيكا؟
- لامانع البتة.
- سيكون العشاء جاهزا في تمام السابعة ياعزيزتي وان أردت اختصار المسافة الى منزلنا فما عليك سوى سلوك الممر الحجري في وسط الحديقة.
تأبطت فيفيان ذراع زوجها يهمان بالخروج وقبل ان يغادرا الغرفة التفتت الى جيسيكا وكأنها تنبهت الى أمر ما:
-لاتعيري الثياب أهمية بالغة فالعشاء عندنا يتم عادة في أجواء بسيطة وعائلية الى اللقاء.
بقيت جيسيكا دقائق طويلة في مكانها مستسلمة لشعور عارم بالارتياح تلفها الظلمة المخيمة على الغرفة مصحوبة بسحر الهدوء الطاغي باتت أكثر اقتناعا بأنها ستحب عملها الجديد خاصة بعد الاهتمام واللطف اللذين أبداهما مضيفاها.
خرجت الى سيارتها تكمل نقل أمتعتها الى الداخل وماان فتحت الصندوق الخلفي حتى رأت امرأة تجتاز الممر مهرولة ناحيتها وعلى ثغرها ابتسامة عريضة لمعت خلالها أسنانها البيضاء الناصعة:
- مساء الخير ياسيدتي أدعى كاتي وأعمل لدى السيدة اوبريان كلفت بمساعدتك في نقل الحاجيات.
لم تمانع جيسيكا فأغراضها كثيرة ويكفيها ماعانته من تعب في طريقها الى هنا فتركت الخادمة تهتم بالأغراض وصعدت الى غرفتها فاستحمت وتمددت على سريرها لفترة قصيرة.
اختارت لزيارة آل اوبريان ثوبا رقيقا بسيط الشكل واللون وانتعلت صندلا جلديا ابيض ثم صففت شعرها بسرعة امام المرآة وغادرت الغرفة مرجئة توضيب امتعتها الى يوم غد.
للمرة الثانية وجدت نفسها في غرفة الجلوس الأنيقة في منزل آل اوبريان انما من غير ان يثير وجودها هذه المرة دهشة الحاضرين.
- هل ترغبين بكوب من العصير ياجيسيكا؟
- فكرة لابأس بها شكرا يادكتور.
- أرجوك ناديني بيتر(وناولها كوبا من عصير البرتقال مردفا) بما اننا سنعمل معا فمن الأفضل رفع الكلفة بيننا منذ الآن.
ابتسمت جيسيكا موافقة ورشفت قليلا من العصير:
- أتيت في احدى رسائلك على ذكر طبيب مساعد آخر.
جلس بيتر على كرسي خشبي هزاز في مواجهتها وأجاب:
- اجل هذا صحيح واسمه دان ترافورد…
تدخلت فيفيان مقاطعة:
- انه شاب عازب وعيبه الوحيد هو سمعته السيئة في لويزفيل.
- ماهذا القول يافيفيان؟
نظرت فيفيان الى زوجها مكملة بهدوء:
- من الأفضل ان نطلع جيسيكاعلى حقيقة الرجل الذي ستعمل معه.
- دان طبيب ناجح جدا.
أصغت جيسيكا الى النقاش الدائر من غير تعليق.
- لاشك في مهارته كطبيب لكن حياته الشخصية صارت موضوع أحاديث كل سكان البلدة وهدفا لتعليقاتهم واشمئزازهم.
- لاعلاقة لنا بحياته الشخصية.
- بيتر انت تعلم مدى اعجابي بدان فبالرغم من استهتاره فهو لطيف وحلو المعشر شرط ان يتخلى عن نظرته التهكمية لبعض الأمور.
- لديه أسباب خاصة ليكون كذلك.
- ليس هذا بيت القصيد ياعزيزي فأهل البلدة على علم بعلاقته بالسيدة سامرز وانتقالها خصيصا من بريتوريا لتمضية نهاية الاسبوع معه.
لمعت عينا بيتر ببريق ماكر وضحك معلقا:
- سيلفيا سامرز تتمتع بجمال خارق.
ردت الزوجه بعصبية ظاهرة:
- طبعا ستراها فاتنة انا لاأفهمكم انتم معشر الرجال فأية امرأة تبرز مفاتنها وترتدي من الثياب ماقل ودل تصبح بنظركم آية في الجمال.
- هل تغارين منها فيفيان؟
ابتسمت الزوجه بدهاء محدقه في عينيه الزرقاوين:
- ياعزيزي كنت أغار لولا يقيني من انك تهيم بي وأعود فأكرر قولي علاقة دان بتلك الوقحة أساءت الى سمعته كطبيب في هذه البلدة واللوم يقع عليه وحده.
- بالله عليك يافيفيان لقد رسمت صورة قبيحة للمسكين في مخيلة جيسيكا ولما يتقابلا بعد.
التفتت السيدة اوبريان ناحية ضيفتها الصامتة وقالت بهدوء:
- عزيزتي جيسيكا انسي كل ماقلته عن دان فهو يتمتع ولاشك بسحر يسلب لب كل امرأة ويجعلها تشعر بأنها مميزة والنسوة ينكرن عليه تصرفاته وبالرغم من ذلك يتدافعن الى عيادته للتعرف عليه فكوني حذرة ياحلوتي.
خرجت جيسيكا عن صمتها مستفهمة:
- حذرة ممن؟دكتور ترافورد ام صديقته الحسناء؟
- من الاثنين معا واياك ان تثقي بأي منهما طبعا ليست السيدة سامرز من يشكل خطرا حقيقيا فهي قد تخدش عينيك لاأكثر بينما الخطر الأعظم سيأتي من دان فهو قد يقتلع قلبك من بين ضلوعك وهذا ماأخشى حدوثه.
أجابت جيسيكا بلهجة الواثق من نفسه:
- لاتنسي اني طبيبة يافيفيان وخبرتي في الرجال تعود الى أيام الدراسه.
- لكنك امرأة ايضا جذابة وتتمتعين بكل ما يفتح شهية الرجل.
اخفت جيسيكا حياءها بضحكة خفيفة معلقة:
- ليت أمي هنا لتسمع كلامك فقد دأبت طيلة السنوات الماضية على نفي هذه الصفة عني.
- لأنها ككل الأمهات تريد ان ترى ابنتها تنشأ في اجواء كالتي كانت سائدة في أيامها تهتم بأنوثتها الى جانب اهتمامها بالأعمال المنزلية.
ولكنك اخترت الطب كمهنة فزادها هذا اقتناعا بأنك اغفلت كونك امرأة وأهملت أنوثتك ألست محقة في قولي ؟
لم تقو جيسيكا على الانكار فهزت رأسها موافقة:
- صحيح ماتقولين.
نهض بيتر واضعا كوب العصير على الطاولة وهتف:
- عفوا لقطعي عليكما الحديث لكن عصافير معدتي تزقزق جوعا.
هزت فيفيان رأسها مازحة:
- عجيب أمركم ايها الرجال لاتفكرون سوى بملء بطونكم فلم يخطئ من قال (عند البطون تضيع العقول)
عند عودتها إلى مسكنها، جلست جيسيكا على الشرفة الصغيرة المطلة على الحديقة تفكر في واقعها الجديد. الدكتور أوبريان و زوجته يشكلان ثنائيا لطيفاً و ممتعاً للغاية. أنما ما يشغل بالها ما سمعته عن الطبيب الآخر و كيفية تصرفها معه، ستكون قوية و ستحاول تجنبه قدر المستطاع.
عادت إلى غرفة الجلوس و اتصلت بوالديها تطمئنهما عن وصولها بخير، ثم حضرت فنجاناً من القهوة حملته معها إلى غرفتها. لديها عطلة أسبوع كاملة لتعتاد المكان، و ترتيبه كما يحلو لها، و عليها استغلال بعضها لنيل قسط وفير من الراحة استعداداً لبداية أسبوع حافلة كما وعدها الدكتور أوبريان خلال العشاء
الفصل الثاني

منتديات ليلاس
2- حاولت جيسيكا اقناع نفسها أن دان ترافورد لا يختلف عن غيره من الرجال. لكنها مضطرة للاعتراف بأنه يتمتع بميزة خاصة، ميزة النفاذ إلى القلب بسرعة.

امضت جيسيكا عطلة نهاية الأسبوع في توضيب حاجياتها و إعادة ترتيب أثاث المنزل بطريقة تتناسب و ذوقها. بدأت فكرة العيش وحدها في مسكنها الصغير القابع على كتف حديقة آل أوبريان الغناء، فهنا ستحقق أمنية أمها و تكون طبيبة و امرأة في آن معاً.
في ساعة مبكرة من صباح الاثنين، اصطحبها بيتر إلى المنزل القديم في إحدى ضواحي المدينة و الذي يشغله كعيادة بعيداً عن الضوضاء و الزحمة. أول من التقت كانت الممرضة اميلي هانسن التي بالرغم من علامات الدهشة الفاضحة التي ارتسمت على وجهها عند تعارفهما، رحبت بها بحرارة متمنية لها التوفيق في عملها، ثم استدارت ناحية الدكتور أوبريان:
- اتصل الدكتور ترافورد منذ دقائق و سيتأخر في المجيء إلى العيادة.
- هل أعطاك سبباً لذلك؟
- ذهب عند الفجر إلى مزرعة آل كرايسون.
- ماذا حصل؟
- رفس ثور هائج أحد العاملين في المزرعة، و حالته تتطلب ادخاله المستشفى لاجراء عملية مستعجلة.
التفت بيتر نحو جيسيكا قائلاً:
- يبدو أنك ستمضين اليوم الأول بمفردك يا دكتورة. هل بمقدورك تسيير الأمور إلى حين رجوعي؟
أجابت الطبيبة الشابة بهدوء و ثقة:
- بكل تأكيد.
- حسناً، إن اردت الاستفسار عن شيء، نادي الآنسة هانسن و سأكون في المستشفى ان احتجتما إلي.
دخلت جيسيكا عيادتها بعد رحيل بيتر، تلقي نظرة على محتوياتها و تتفحص خزانة الملفات و أسماء المرضى، حين دخلت عليها الممرضة:
- هل تودين القيام بجولة للتعرف على المكان؟
- و لم لا؟
سارتا في الرواق الأبيض و قد زينت جدرانه لوحات هادئة الألوان و المناظر. توقفت الممرضة أمام إحدى الغرف قائلة:
- هذه الغرفة تابعة لعيادتك (و اشارت بإصبعها إلى الغرفتين المجاورتين) و هاتان الغرفتان للدكتور أوبريان. و تلك للدكتور ترافورد.
- و لماذا غرفتان؟
ابتسمت الممرضة معلقة:
- لن تطرحي هذا السؤال بعد أن تشاهدي شدة الازدحام هنا.
- مازلت لا أرى فائدة من وجود غرفتين لكل طبيب.
- وجودهما يتيح لك الكشف على مريضين في آن معاً. تعالي.
و أخرجت معطفاً قصيراً أبيض.
- من المؤسف أنه ليس مقاسك، فقد كان معداً لرجل.
فتحت جيسيكا حقيبتها الجلدية و تناولت سترة بيضاء مطوية بعناية و وضعتها على المقعد خلف مكتبها.
- لا بأس، فقد جلبت سترتي معي.
ابتسمت الممرضة بلطف و علقت:
- تصرف ذكي من جانبك يا عزيزتي، فهذه السترات الجاهزة لا تعجبني أبداً.
- متى يبدأ المرضى بالتوافد؟
- اعتقد أنهم بدأوا لتوهم، فأنا اسمع جلبة في غرفة الانتظار.
- إذن، من الأفضل أن تباشري عملك في الحال و لا تدعيهم ينتظرون. أليس كذلك؟
- في الحال يا دكتورة.
ما إن أغلقت الممرضة الباب خلفها، حتى أسرعت جيسيكا إلى ارتداء سترتها البيضاء ملقية نظرة سريعة على الغرفة تتحقق من مكان وجود آلات الطبابة. إنها عيادة صغيرة و مريحة تحوي كل ما قد يلزمها أثناء الكشف على المريض. سرير جلدي طويل و عالي مكسو بغطاء أبيض، و خلفه شاشة مربعة تظهر عليها نتائج الفحوص مباشرة. قرب المكتب، خزانة زجاجية صفت عليها آلات معقمة و بعض الأدوية الضرورية. إنها تجربة جديدة و غريبة تمر بها، فعملها هنا يختلف تماما عما كانت تقوم به في جوهانسبرغ.
لقيت جيسيكا بعض الصعوبات في تعاملها مع الدفعة الأولى من المرضى، و راعها ما لاحظته من تعابير متناقضة على وجوههم. فمن دهشة عند ولوجهم الغرفة إلى حيرة و ارتباك خلال الكشف، لينتهي الأمر باذعان حذر لارشاداتها. لكنها كانت تعلم في قرارة نفسها ان حيرتهم هذه ستزول فور مغادرتهم العيادة و في حوزتهم الوصفة الطبية.
تطلعت إلى ما تبقى من أسماء على اللائحة المعلقة أمامها، و نادت بأعلى صوتها:
- المريض التالي.
دخل مزارع ضخم الجثة لفحت وجهه شمس البيادر و فتلت ساعديه أعمال الحقل، خلع قبعة القش الكبيرة عن رأسه الضخم بوقاحة سائلاً بصوت أجش:
- هل استعان الدكتور أوبريا بممرضة أخرى؟
- لست ممرضة يا سيد بوشوف، بل طبيبة مساعدة.
فتح المزارع فاه مشدوهاً:
- أأنت الطبيب الجديد؟
ردت جيسيكا ببرود متعمدة:
- هذا صحيح. مما تعاني يا سيد بوشوف؟
أشار باصبعه الغليظة إلى صدره شارحاً:
- إنها القحة يا... يا دكتورة. تكاد تقتلني و تسبب لي ألماً مبرحاً هنا. هل بإمكانك اعطائي دواء ناجعاً لها؟
تقدمت منه على مهل ممسكة بسماعتها:
- سأكشف عليك أولاً.
انتفض الرجل فجأة و تراجع إلى الوراء مزمجراً بانفعال:
- تكشفين علي؟
لم تأبه جيسيكا لردة فعله، و أشارت إلى العازل:
- اخلع قميصك يا سيد بوشوف و استلق على السرير.
تناول قبعته ملوحاً بها و كأنه يحمي نفسه:
- لن أخلع قميصي أمام امرأة. صفي لي الدواء و لن أزعجك بعد ذلك.
حدجته بنظرة فاحصة و هتفت بتذمر:
- اسمع يا سيد، ليست المرة الأولى التي تقع عيناي على رجل كاشف الصدر، فاخلع قميصك و دعنا من هذه الحركات السخيفة.
- لن أفعل امام امرأة غير زوجتي. و أنت...
قحة مفاجئة صدرت خلف المزارع قاطعة عليه عبارته، فاستدارت جيسيكا ناحية الباب، لتلتقي عيناها بعينين رماديتين ترمقانها بنظرة شرهة، أثارت فيها ارتباكاً تخظى تأثيره حدود المفاجأة.
لم تهتم بسؤاله عمن يكون، فهالة الرجولة المحيطة بقوامه الرشيق و منكبيه العريضين، شلتها قبل ان تتمكن من الكلام.
- هل حدث سوء يا دكتورة؟
- أريد أن اكشف على السيد بوشوف لكنه يأبي خلع قميصه.
تدخل المزارع معترضاً بانفعال:
- انها امرأة يا دكتور ترافورد.
التفتت جيسيكا من جديد ناحية المتطفل، عند سماعها اسمه، تمعن النظر فيه بذهول مشوب بالاضطراب. ما برح واقفاً على عتبة الباب، يبادلها النظرات بعينين وقحتين لا يرف لهما جفن.
- و لا تنس يا صديقي أنها أيضاً طبيبة، و من المؤكد أنها رأت خلال عملها مئات الرجال الكاشفين عن صدورهم. لا تكن غبياً يا رجل و اخلع قميصك.
انصاع المزارع لأوامر الدكور ترافورد و خلع قميصه متلعثماً:
- بئس هذه الأيام اللعينة، فالعالم و لاشك سائر إلى الخراب.
غادر الطبيب الغرفة بهدوء كما ظهر، فالتقطت جيسيكا آلتها و بدأت الكشف على المريض من غير ان يبدي اعتراضاً.
استغرق الأمر دقائق قامت جيسيكا بعدها لتغسل يديها:
- بامكانك ارتداء قميصك ياسيد بوشوف.
- مالأمر يادكتورة؟
- احتقان في شعيباتك الرئوية،هل تدخن؟
- نعم.
- كم سيكارة يومياً؟
- ادخن...ادخن كثيراً.
اعادت جيسيكا السؤال بلهجة آمرة:
- هيا ياسيد بوشوف،كم سيكارة؟
اجاب المزارع بتذمر:
- حوالي الستين على مااعتقد،ولاتحاولي ان تسأليني التوقف عن التدخين.
- لن اطلب منك التوقف عن التدخين لكني سأسألك التقليل منه أو التوصل الى تدخين نصف العدد الحالي.
ثم اردفت قبل ان تسمع اعتراضه:
- سأصف لك دواء وعد الى هنا بعد اسبوع.
تناول المزارع قبعته بسخط واتجه نحو الباب:
- من الأفضل ان ارى الدكتور اوبريان أو الدكتور ترافورد.
ابتسمت جيسيكا وهي تكتب نوع الدواء على ورقة صغيرة امامها ثم تمتمت بتهكم:
- كما تشاء ياسيد بوشوف.
علت ضحكة جيسيكا بعد خروج المزارع حانقاً من عيادتها فالتحدي الخفي بين كونها امرأة وعدم اعتياد المرضى على ذلك ظهر جلياً منذ اليوم الأول لكن ضحكتها هذه لم تدم طويلا مع دخول المريض التالي.
تهادت جيسيكا على مقعدها بعد ان تأكدت ان المرأة التي خرجت لتوها من الغرفة كانت آخر اسم لديها لهذا الصباح. لقد نالت ماكانت تسعى اليه منذ فترة وأحست بتغيير في حياتها كطبيبة.كانت على حق عندما تجاهلت تحذيرات والدها وأقدمت على المجئ الى هذا المكان .أفاقت من شرودها عند سماعها وقع خطوات خلفها ،فاستدارت لتجد نفسها مرة
أخرى وجهاً لوجه مع دان ترافورد الذي لم يكتف هذه المرة بالوقوف عند الباب بل تقدم من مقعدها بقامته الطويلة مسلطاً عليها نظرات وقحه.
ألقت جيسيكا نظرة سريعة على الزائر الجذاب من غير ابتسام.
حدق دان ترافورد فيها طويلا ولم يترك مكاناً من جسمها الا وتفحصه.
من شعرها الأشعث حتى حذاءيها مما بعث فيها رجفة خفيفة لم تقو على اخفائها فتململت محركة كتفيها بعصبية واضحة.ثم تمتمت بصوت خافت:
- لالزوم للتعارف بعد ان اسدى اليّ السيد بوشوف خدمة جلة، اريد ان أشكرك يادكتور.
- لاتشكريني فربما احتجت لمساعدتك يوماً ما.
لم تدرك جيسيكا حقيقة مايرمي اليه لكن شعوراً داخلياً ينبئها بأن ماقصده لايتعلق بالعمل ابداً،فأجابت:
- بما اننا سنعمل معاً في الأشهر القادمة فانني سأكون مسرورة ان نحن تعاونا في العمل.
ارتسمت على ثغرة ابتسامة ماكرة اثبتت لجيسيكا صدق شعورها وقال معلقاً:
- يسرني سماع هذا الكلام.

nightmare 03-10-08 06:53 AM

حدقت جيسيكا طويلا في هاتين العينين المسلطتين عليها تحاول اقناع نفسها بأن صاحبها لا يختلف عن غيره من الرجال الذين مروا في حياتها لكنها مضطرة للأعتراف بأن دان يتمتع بميزة خاصة لم تعرفها من قبل ميزة النفاذ الى القلب بسرعة وقدرته العجيبة على جعلها تحس انها امرأة اذ ان كلماته اعادت اليها في لحظات شعورها بالأنوثة.
ارتبكت وأشاحت بوجهها نحو النافذة محاولة اخفاء قلق ارتسم فجأة على محياها ولم ينقذها من هذا الموقف المحرج سوى دخول بيتر اوبريان الغرفة.
منتديات ليلاس
- آه،انت هنا يادان اراك قد تعرفت على زميلتنا الجديدة .
رد دان ببرودة من غير ان تطلق عيناه سراح جيسيكا:
- اجل لقد تعارفنا.
هتف بيتر موزعاً نظراته بين الأثنين:
- حسناً هل سارت الأمور على مايرام هذا الصباح؟
ابتسم الدكتور ترافورد بسخرية قاطعاً على جيسيكا فرصة اخبار بيتر بما حدث مع المزارع بوشوف.
- على أفضل مايرام يابيتر.
التفت بيتر نحو الممرضة التي دخلت لتأخذ ملفات المرضى عن طاولة جيسيكا:
- هل اتصل أحد ياآنسة هانسن؟
- كلا. بامكانك الذهاب الى المنزل والتمتع بوجبة طعام هانئة.
صفق دان هاتفاً بفرح:
- لم اسمع نبأ ساراً كهذا منذ شهور(والتفت الى جيسيكا متسائلاً)هل ترافقينني؟
حافظت جيسيكا قدر الامكان على هدوئها وأجابت متصنعة البراءة:
- اتعني الى الغداء؟
رد بلهجة هازئة:
- طبعاً الى الغداء دكتورة.
اعتذرت بتهذيب لكن بحزم:
- اعمال كثيرة علي القيام بها قبل ان يصبح بامكاني القول اني انهيت ترتيب المنزل.شكراً على الدعوة.
اجاب دان بلهجة تعكس عدم اكتراثه:
- ياللأسف .القاكم بعد الظهر.
خيم صمت طويل على القاعة بعد رحيل دان قطعته الممرضة هانسن معلقة:
- اعرف شيئا واحداً عن الدكتور ترافورد وهو عدم تخليه عن المحاولة مهما حصل ربما هذا سبب نجاحه كطبيب.
ضاعت تعابير وجه الدكتور اوبريان بين العبوس والابتسام:
- كلامك ياآنسة هانسن وكلام زوجتي سيجعلان جيسيكا تظن اننا نؤوي رجلا خطيراً في عيادتنا.
صاحت الممرضة مدافعة عن دان:
- لا،ليس هذا ما قصدته ليس الدكتور ترافورد من هذا النوع ابداً،انما يملك قوة غريبة تجعل منه شخصاً لاتصده امرأة.
ابتسم بيتر بمكر معلقاً:
- اتعنين انه جذاب للغايه ياآنسة هانسن؟
توردت وجنتا الممرضة خجلا واحتارت كيف تخفي ارتباكها،فصاحت:
- اذهبا لتناول الغداء واتركاني وشأني.
ماكادت جيسيكا تنهي غداءها حتى سمعت رنين الهاتف في غرفة الجلوس .
- اعتذر لازعاجك في وقت الغداء فالدكتور ترافورد غادر العيادة لتوه الى المستشفى والدكتور اوبريان في اجتماع هام للغاية.
التقطت جيسيكا القلم وسألت بقلق:
- ماالأمر ياآنسة هانسن؟
ردت الممرضة موضحة:
- لقد تلقيت مكالمة من اوم هاني دلبورت وهو تاجر مشهور في البلدة يقول ان زوجته سقطت وتشكو من ألم رهيب.
- ارشديني الى المنزل لأمضي حالاً.
- يملكان محلاً ملاصقاً لمكتبة لوغان ومنزلهما يقع خلفه مباشرة.
اعادت جيسيكا سماعة الهاتف الى مكانها ومضت بعد ان تناولت حقيبتها الى منزل آل دلبورت.
لم تجد صعوبة في اتباع تعليمات الممرضة وفي دقائق كانت تقرع باب المنزل فاستقبلها رجل مرتبك قدمت له جيسيكا نفسها:
- سيد دلبورت،انا الدكتورة نيل.
تنحى اوم دلبورت جانباً مفسحاً لها المجال لتمر:
- اهلا يادكتورة ارجوك اتبعيني.
لحقت جيسيكا بسيد المنزل بقامته النحيلة وعظامه النافرة الى غرفة النوم.
- جعلتها تستلقي بعد ان غسلت قدميها بالماء الساخن ولكنه لم يجد في تخفيف المها.
وفي الغرفة المظلمة تمددت امرأة ضخمة الجثة رمادية الشعر على سرير خشبي قديم تئن بصوت خافت وكأنها تحتضر .وضعت جيسيكا حقيبتها على كرسي قريب وتقدمت من المريضة مبتسمة:
- مرحباً ياسيدة دلبورت.انا الدكتورة نيل.
نظرت السيدة بطرف عينيها الى جيسيكا وتمتمت بالرغم من المها:
- لايبدو عليك ذلك مازلت يافعة ياصغيرتي.
تقبلت جيسيكا كلام العجوز مبتسمة بالرغم من كرهها الشديد لتشبيهها بالطفلة.
- ستسمحين لي ان اكشف عليك.أليس كذلك؟
- افعلي ماتشائين لكن ازيلي عني هذا الألم المبرح.
هم الرجل بمغادرة الغرفة لكن جيسيكا استوقفته وهي تباشر الكشف على العجوز:
- بامكانك البقاء هنا ياسيد دلبورت.
راحت يداها الصغيرتان تتلمسان بلطف وحذر معدة العجوز تحاول تحديد موضع الألم.
- منذ متى تعانين هذه الآلام ياسيدة دلبورت؟
قاطعتها العجوز بلهجة محببة وهي تعيد اتداء ملابسها بمعاونة زوجها:
- ارجوك ناديني العمة ماريا فالكل يناديني بذلك.
وأشارت بسبابتها الى العجوز الجالس على حافة السرير:
- وزوجي يدعى اوم هايني.
- انكما ثنائي لطيف اخبريني الآن عن آلامك.
- تنتابني هذه الآلام باستمرار منذ عدة اسابيع تقوى تارة وتخف تارة اخرى لكن هذه هي الأسوأ.
وزفرت زفرة طويلة مخفقة في اخفاء المها عن الطبيبة الشابة.
- لماذا لم تعرضي نفسك على طبيب؟
- ظننت ان الأمر لايتعدى عسر هضم بسيط.
ساد صمت ثقيل التقت خلاله عيناها عيني جيسيكا:
- ماالأمر ياصغيرتي؟صارحيني ارجوك.
- لايمكنني الجزم في الوقت الحاضر،ياعمتي لكني اعتقد ان الآمك ناتجة عن حصاة في الكلية.
صاحت العجوز باشمئزاز اضحك جيسيكا:
- حصاة؟ومن اين جاءت هذه الحصاة؟
فتحت جيسيكا حقيبتها وشرعت في تحضير حقنة:
- انها تتكون في المثانة ياعمتي لكني لن اسهب الآن في تفسير ذلك سأعطيك مايخفف المك واطلب منك ان تمضي عدة أيام في المستشفى.
رددت العجوز بذهول عبارة الدكتورة وما ان همت بالاعتراض حتى قلبتها جيسيكا على بطنها
لتغرز رأس الابرة في جلدها.
- اريد ان اصورك بالأشعة فبهذه الطريقة نتأكد من صحة تشخيصي للداء وبعدها نقرر مايجب عمله.
- لايمكنني دخول المستشفى ماذا سيحدث لهايني خلال مكوثي هناك؟
علا صوت السيد دلبورت للمرة الأولى منذ وصول جيسيكا ورد بلهجة مطمئنة حازمة:
- لاتقلقي علي ماريا سأتدبر اموري لابأس يادكتورة سأدخلها المستشفى في الحال.
- حسناً ياسيد دلبورت سأقوم بالاجراءات اللازمة.
بعد لحظات قليلة كانت جيسيكا وراء مقود سيارتها البيضاء تواجه مشكلة مضحكة ومزعجة في آن معاً لقد اخبرتها الآنسة هانسن عن وجود ثلاث ابنية عالية في لويزفيل .الأولى الهيكل الحجري والذي تعرفه جيسيكا جيداً لوقوعه في الطريق المؤدي الى العيادة والباقيتان المدرسة الرسمية والمستشفى وكلاهما بان لجيسيكا بوضوح وهي تقود سيارتها في الطريق العام ولكن الصعوبة تكمن في معرفة اي منهما هي المستشفى.
لم يكن امامها وهي الغريبة عن البلدة سوى اتباع السهام المغروزة الى جانب الطريق حيناً وسؤال المارة حيناً آخر الى ان وصلت في النهاية الى الباحة الواسعة المحيطة بالمستشفى ودخلت المبنى المجدد والمحاط بأشجار الصنوبر وتغطي جدرانه نباتات خضراء نضرة كانت تفكر في حالة السيدة العجوز وصحة تشخيصها للمرض الذي تعاني منه عندما سمعت صوت دان ترافورد خلفها مباشرة:
- ياللصدفة الرائعة!
أهو حظها العاثريفرض نفسه اليوم حتى تلتقي الرجل الذي منذ لقائها الأول يتعمد بجسارة القضاء على رصانتها والتأثير على ثقتها بنفسها؟
.اقترب منها مبتسماً بسخرية:
- تبدين وكأنك تائهة هل تبحثين عن أحد؟
- كنت...اريد ان اقوم بالأجراءات اللازمة لادخال احد المرضى قبل المساء فعليها ان تخضع لصور الأشعة في اسرع وقت ممكن.
- اتبعيني يادكتورة نيل.
سارت جيسيكا خلفه في الرواق المؤدي الى الادارة.
- مااسم المريضة؟
- السيدة دلبورت.
استدار دان ناحيتها وقد ارتفع حاجباه دهشة:
- العمة ماريا صاحبة البنية الضخمة؟مابالها هذه المرة؟
- اعتقد انها البحصة.
تمتم دان وهو يهم بدفع الباب المؤدي الى مكتب استقبال المرضى:
- هل انت متأكدة من انها البحصة؟
- كل التأكيد(وأضافت بشئ من التهكم)هل تشك في صحة تشخيصي يادكتور ترافورد؟
- لم أشك لحظة في صحة تشخيصك يادكتورة نيل لكن قد يكون الأمر مجرد سوء هضم بسيط.
- اني متأكدة من ان الأمر ليس كذلك .الى اللقاء.
دخلت المكتب مقفلة الباب خلفها.لم تلتقي قبلاً رجلاً بمثل سماجة دان ترافورد وتأثيرة على مزاجها فقد كانت فيفيان على حق في وصفها له لكن الوقت الآن لايسمح باثارة مثل هذه الأمور خاصة وان السيدة دلبورت مرهونة بسرعة ادخالها المستشفى.
اتمت جيسيكا الاجراءات اللازمة وقبل ان تعود ادراجها الى السيارة استرعى انتباها صوت خطوات سريعة تتبعها وأحست بقشعريرة باردة تسري في انحاء جسمها.
- دكتورة نيل.
انه صوته يضج في انحاء الرواق بنبرة التهكم التي لاتفارق عباراته.
جمدت في مكانها واستدارت لتجد دان يسد عليها الطريق بطلته المؤثرة وقامته الممشوقة.
- هل لديك مانع في حمل مجموعة من صور الأشعة وتسليمها لبيتر فهو يود الاطلاع عليها؟
- بكل تأكيد يادكتور ترافورد.
ناولها دان ظرفاً مختوماً معاوداً الكلام:
- بالمناسبة يادكتورة نيل ان احتجت الى استشارة ثانية بشأن العمة ماريا فأنا في خدمتك.
كتمت جيسيكا غيظها ونظرت الى محدثها مبتسمة بهدوء مصطنع:
- شكراً على عرضك اللطيف يادكتور ترافورد لكني لاأشك لحظة في تشخيصي.
لم يقدر دان على كتم ضحكة اطلقتها شفتاه وقال هازئاً:
- آه كم تعجبني هذه الثقة بالنفس!
- كيف اتوقع من مرضاي ان يمنحوني ثقتهم اذا لم اكن املك الثقة الكافية بنفسي؟
اجاب محافظاً على نغمة الهزء نفسها التي غشت عباراته حتى الآن:
- صحيح...صحيح.
احست نفسها كبركان على وشك قذف حممه وسألته بجفاء:
- اهناك خدمة اخرى يادكتور ترافورد؟
- بقي ان تقبلي دعوتي الى العشاء الليلة.
بدا التحدي واضحاً في كلامه جلياً في نظراته فاحجمت عن الكلام لثوان طويلة وكأن شللاً اصاب دماغها لكنها تمالكت نفسها مجيبة بهدوء:
- اني واثقة من انك ستجد شخصاً مسلياً اكثر مني تمضي معه وقت فراغك يادكتور ترافورد.
هز رأسه موافقاً وقد اغاظه رفضها المتكرر لدعوته:
- لاشك في ذلك يادكتورة نيل.
غاب دان في نهاية الرواق تاركاً اياها فريسة زوبعة هائلة من القلق والحنق مرة اخرى تتجنب تحديه وتظهر جبناً متهربة من دعوته لها فحملت افكارها المتعبة الى سيارتها واتجهت الى العيادة لتستقبل من جديد سيلاً من المرضى .
فور دخولها عيادتها القت نظرة سريعة على ملفات المرضى الموضوعة على مكتبها وراحت تدقق فيها قبل المضي في الكشف على اصحابها استوقفها ملف امرأة في المراحل الأخيرة من حملها تدعى اوليفيا كينغ لها من العمر تسع وعشرون سنة حازت على اعجاب جيسيكا فور ولوجها الغرفة بقامتها القصيرة وشعرها الحريري الراقص على كتفيها تبادلت الاثنتان ابتسامة رقيقة ونهضت جيسيكا عن كرسيها مرحبة:
- مساء الخير ياسيدة كينغ تفضلي بالجلوس.
تهادت السيدة الحامل على المقعد:
- شكراً يادكتورة.
- الملف يدل على انك احدى مريضات الدكتور اوبريان.
- هذا صحيح وفور علمي بأن الطبيب الجديد امرأة اخبرته بأني افضل عرض نفسي عليك من الآن وصاعداً.
ابتسمت جيسيكا بلباقة:
- لم اظن اني سأسمع هذا الكلام من احد مرضاي اليوم.
هتفت السيدة بتعجب:
- لماذا؟
- معظم مرضاي ياسيدة كينغ اصيبوا بصدمة عندما علموا بأن امرأة ستقوم بالكشف عليهم وللمرة الأولى منذ وصولي الى هنا اجد من يقصد عيادتي لأنني امرأة.
- في الحقيقة كنت اخشى ان يسبب توجهي الى طبيب آخر اساءة الى بيتر لكن لكونك امرأة اعطاني العذر المناسب.
- عفواً ياسيدة كينغ لكني لم افهم ماتعنين لماذا تحتاجين العذر لتبدلي طبيبك؟
ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتي المريضة واردفت شارحة:
- فيفيان زوجة بيتر هي اخت زوجي ومن غير اللائق التخلي عن طبيب تربطني به صلة قرابة.
- حسناً هلا خلعت ثيابك ياسيدة كينغ وارتديت هذا القميص الأبيض سأعود بعد دقائق لأكشف عليك.
اتجهت جيسيكا الى غرفة الطوارئ لاسعاف ولد اصيب بجرح عميق في احد اصابعه وعادت مباشرة الى عيادتها حيث استلقت السيدة كينغ على السرير الجلدي لم يستغرق الكشف سوى دقائق قالت جيسيكا بعده معلقة:
- لم يبق امامك مدة طويلة ياسيدة كينغ.
ابتسمت المريضة تاركة جيسيكا تساعدها في النهوض:
- انه طفلك الأول أانت متحمسة للفكرة؟
- جداً حتى انها باتت تؤثر على اعصابي.
- لاحاجة للقلق ياسيدة كينغ.
ضحكت اوليفيا ضحكة رنانة:
- هذا ماقاله لي بيتر ومع ذلك لم اتخلص من القلق تماماً ناهزت الثلاثين وسمعت قصصاً كثيرة عما تعانيه المرأة في هذه السن اثناء الولادة الأولى.
جلست جيسيكا الى مكتبها تدون بعض الملاحظات ثم التفتت الى مريضتها:
- لاادري سبباً لشغف بعض الناس في اثارة هلع الآخرين.
- السبب هو وجود اشخاص اغبياء مثلي يصدقون مثل هذه الأخبار اريد الطفل مهما كلف الأمر.
- وستحصلين عليه ياسيدة كينغ.
اغمضت اوليفيا عينيها وأسندت رأسها الى حافة المكتب:
- سيضفي على المنزل جواًمن المحبة والألفة وبه ستتوطد علاقتي بزوجي اكثر فأكثر لزوجي ابنة صغيرة من زوجته الأولى رحمها الله،ولكن هذا لم يؤثر على علاقتنا فهي اكثر من متينة وهذا الطفل يادكتورة نيل سيزيدها روعة ومتانة.
- ماأسم ابنة زوجك؟
- فرانسين.
ارتسمت مسحة من القلق على وجه اوليفيا:
- حماسها غير معقول وهذا احد الأسباب التي تقلقني.
- قلقك في غير محله ياسيدة كينغ كل شئ سيسير على مايرام فأنت شابة وأنا واثقة من انك تفوقينني قوة وعزماً.
- اشعر بارتياح وأن اتحدث اليك وأرجو ان تقومي بزيارتي في المزرعة قريباً شرط عدم الكلام في شؤون العمل.
- اشكرك على هذه الدعوة اللطيفة ياسيدة كينغ.
- لنتخل عن الشكليات ادعى اوليفيا وكما قالت فيفيان عند قدومي الى لويزفيل كلنا عائلة واحدة هنا وهي على حق في ذلك.
- حسناً اتفقنا.
- ارجو ان تستمتعي بالعيش بيننا فالناس هنا لطفاء جداً.
ونهضت عن مقعدها متابعة:
- والآن علي ان اذهب.
نهضت جيسيكا بدورها مذكرة:
- يجب ان اكشف عليك من جديد بعد اسبوع.
- بكل تأكيد شكرا على هذه الجلسة الرائعة.
- الاستماع الى مرضاي جزء من مهنتي.
- انت لطيفة للغاية الى اللقاء في الاسبوع المقبل وربما قبل ذلك.
حدقت جيسيكا طويلاً في الباب بعد ان اغلقته اوليفيا وراءها تفكر في هذه السيدة الفتية صاحبة الوجه الناعم والسحر الذي لايخفى على احد اعجبت ببراءتها وحماسها لأن تكون اماً انها النوع الذي يؤثر في الآخرين منذ الوهلة الأولى ويترك حضوره عطراً فواحاً لمدة طويلة.

الفصل الثالث

3- لا تعرف خطوتها التالية و كأنها تسير في المجهول. تعرف أن الخطر يحدق بها و هي تشهد الوهن يدّب في قدرتها على مواجهة هذا الرجل الغريب...

في نفس الليلة، توجهت جيسيكا بعد العشاء لتعود العمة ماريا في المستشفى.
كانت العجوز ممددة في الفراش مسندة رأسها إلى عدد من الوسادات الصغيرة، تنتظر السماح لزوجها بزيارتها.
رفعت رأسها مبتسمة لجيسيكا و هي تدخل الغرفة:
- أهلاً بحلوتي الصغيرة. ما اسمك الأول يا دكتورة نيل؟
- جيسيكا.
- حسنا، اسمعيني يا جيسيكا. زال الألم الآن، و أشعر بتحسن ملموس، فهل بإمكاني العودة إلى المنزل لأبقى مع أوم هايني؟
- لن نبحث هذا الموضوع في الوقت الحاضر، فزوال الألم مرده إلى الدواء الذي وصفته لك. غداً سنقوم بتصويرك على الأشعة.
همهمت العمة العجوز بسخط:
- أعلم ألاعيبكم أيها الأطباء، ما ان تضعوا أيديكم على مريض مسكين مثلي حتى تدخلوه المستشفى، فلا يخرج إلا و قد عملت مباضعكم في في جسمه.
وضعت جيسيكا أصبعها على معصم المريضة تتفحص نبضها مبتسمة:
- لن نجري أية عملية جراحية ما لم تكن لصالحك.
- أعلم ذلك يا صغيرتي، و ان كنت دائمة التذمر فلأني قلقة على زوجي العجوز. لقد اشتقت إليه.
- و أنا متأكدة من شوقه إليك أيضاً... أعدك بأن الأمر لن يطول.
فتح الباب فجأة و أطل دان ترافورد بطلته البهية، فهتفت العجوز بحبور:
- ها هو الدكتور ترافورد الطيب (و نظرت إلى جيسيكا مضيفة) أليس جذاباً؟
أجابت جيسيكا متلعثمة:
- لا... لا أدري.
علا صوت الدكتور ترافورد بنبرته التهكمية المعهودة و هو يتجه إلى حافة السرير المواجهة لجيسيكا.
- ما الذي لا تدرينه يا دكتورة نيل؟
سبقت جيسيكا العجوز إلى الاجابة:
- كنا نناقش أموراً خاصة يا دكتور ترافورد.
هتف دان موزعاً نظراته الساخرة بين جيسيكا و العجوز.

nightmare 03-10-08 06:54 AM

- آه، بات لديكما ما تخفيانه عن الآخرين و لم يمض على تعارفكما يوم واحد. ستخبرينني كل شيء عندما تغادر الدكتورة نيل الغرفة، أليس كذلك يا سيدة دلبورت؟
ردت العجوز بلهجة حازمة خفف من حدتها بريق ضاحك في عينيها:
- لن أخبرك شيئاً أيها الداهية.
تصنع دان الكآبة و أمسك بيد العمة ماريا معاتباً:
- أبهذه اللهجة تلكمني فتاتي المفضلة؟
ضحكت العمة بمكر:
- من حظك أني لا أصفعك أحياناً.
- إنك تهينني يا عمتي العزيزة.
- لم أعهدك حساساً إلى هذا الحد يا دان ترافورد. حان لك أن تقلع عن طيشك و تجد لنفسك فتاة طيبة تشاركك مستقبلك.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة.
- جدي لي فتاة طيبة مثلك يا عمة ماريا و سأتزوجها في الحال.
- لست بحاجة لمساعدة أحد، استعمل عينيك و عقلك إيجاد الفتاة المناسبة. و لكنك لن تفلح في ذلك ما دمت دائماً هائماً على وجهك في الاتجاه الخاطئ.
أدركت جيسيكا ما تعنيه العجوز بكلامها و تذكرت ما قالته فيفيان عن علاقة دان.
أطلق الدكتور ترافورد ضحكة قصيرة و أجاب:
- لعلني راض بالطريق الذي اخترته.
لم تجد العجوز فائدة من متابعة الكلام، فقالت مشفقة:
- أذن، إني أرثي لحالك يا عزيزي.
هز دان رأسه بتململ و تطلع في عيني العجوز قائلاً:
- لا أدري لماذا أسمح لك بالتحدث إلي بهذه الطريقة.
- لأني عجوز كفاية لتعتبرني كوالدتك، عدا عن أني معجبة بك بالرغم من سوء أخلاقك.
قاطعتهما جيسيكا مودعة من غير أن تلتفت إلى دان:
- سأراك غداً يا سيدة دلبورت.
رفع دان ذراعه قاطعاً عليها طريق الخروج.
- دقيقة واحدة يا دكتورة نيل
ترافق دان و جيسيكا في الرواق الطويل الفاصل بين الغرف. و قبل وصولهما إلى المصعد، التفت إليها قائلاً:
- يقدمون قهوة لذيذة في هذا المطعم.
- فكرة جيدة، لكن الوقت متأخر و أفضل العودة إلى المنزل.
لمعت عينا دان ببريق شيطاني غريب بعث الرعب في قلبها.
- فكرة أخرى جيدة، فأنا واثق من أن قهوتك أفضل من هنا.
ردت جيسيكا بحدة:
- لا تفسر كلامي على أنه دعوة.
- لا بل إنها ألطف دعوة (و أفسح لها المجال للخروج من المصعد متابعاً) لقد دعوت نفسي.
توقفت جيسيكا عن السير و التفتت إليه بانفعال:
- إن كنت تظن أني...
قاطعها دان بهدوء:
- سأتبعك بسيارتي و لا تسرعي، فالقانون صارم في لويزفيل.
لم يكن بوسعها أن ترفض عرضه هذه المرة، فقد آن الأوان لترد له التحدي، و تشعره بقدرتها على مقاومة هزئه و سخريته. ستثبت له أنها لا تهابه و تريه مدى ثقتها بنفسها. جلست خلف مقود سيارتها تراقبه يستقل سيارته الحمراء... ثم أدارت المحرك تتساءل إلى أين سيؤدي بها الأمرهذه المرة، إن حاول هذا الطبيب الوقح تمضية بعض الوقت معها للتسلية مستغلاً سفر صديقته إلى بريتوريا، فسيلقى من الرفض و الصد ما يلقنه درساً لن يغرب عن باله أبداً. لن تدع علاقتها به تتعدى حدود المشاركة المهنية. لحق بها في الطريق المؤدي إلى منزلها، و بقي خلفها إلى أن فتحت الباب و أضاءت غرفة الاستقبال.
منتديات ليلاس
- أصبح المكان جميلا للغاية (و تبعها إلى المطبخ مضيفاً) هل تعلمين أن بيتر استعمله كعيادة في بداية عمله في لويزفيل؟
وضعت جيسيكا غلاية القهوة على النار بيدين مرتجفتين:
- أخبرتني فيفيان ذلك.
علق دان بلهجة تقارب السخرية:
- فيفيان. إنها غير راضية عني أبداً.
- لا شك أنك تعرف السبب.
- و أنت، هل تعرفينه؟
فوجئت بسؤاله و احتارت بماذا تجيب. لقد أوقعت نفسها في مأزق حرج بسبب صراحتها، فتعمدت تغيير الحديث لإنقاذ نفسها:
- كيف تحب القهوة؟
- من غير سكر... (و اقترب منها و هي تسكب الماء في الفنجان حتى كاد يلامسها) لم تجيبي على سؤالي.
- حياتك الشخصية لا تهمني يا دكتور ترافورد.
ارتاحت أنامله على كتفيها تزحف ببطء إلى رقبتها مثيرة في جسمها شحنات كهربائية جعلتها ترتعش كعصفور في خضم العاصفة.
- و لم لا يا جيسيكا؟
تلفظ باسمها لسهولة و من غير تكلف هذه المرة، و احست بنبرته تحضنها بدفء و نعومة، لكنها ليست على استعداد للاستسلام أو للانجراف مع تيار جاذبيته أبداً. فاستدرات تقدم له فنجان القهوة و التقت عيناها الضائعتان بعينيه تسألانه الرحيل:
- أرجوك يا دكتور ترافورد، اشرب قهوتك و ارحل.
بغطرسة مزعجة كانت تتوقعها منه، سألها:
- لماذا؟
- لأني تعبة و أريد أن آوي إلى الفراش.
جلس إلى الطاولة يرشف قهوته ببرود قاتلة و كأنه قرر تمضية ليلته هنا.
- هذا ما سأفعله أيضاً، هل لديك جواب حاذق هذه المرة؟
- تعليقك لا يستحق جواباً.
و ما كادت تجلس إلى الطاولة قبالته حتى علا رنين الهاتف ينقذها من ارتباكها، فهرعت إلى غرفة الجلوس لتعود بعد ثوان معلنة:
- المكالمة لك.
و وقفت قرب باب المطبخ غير قادرة على لجم فضولها، تسترق السمع إلى ما يقوله.
- أجل... أجل... ادخلوه غرفة العمليات حالاً و سأوافيكم بأسرع ما يمكن.
أعاد دان السماعة إلى مكانها و رجع إلى المطبخ:
- لقد بلع أحدهم غظمة دجاجة فعلقت في وسط القصبة الهوائية. هل تودين مرافقتي؟ انها فرصة لتطلعي على اجراءات الطوارئ في المستشفى.
في دقائق زالت الصورة التي كونتها جيسيكا في مخيلتها، حتى الآن، عنه لتحل محلها صورة الطبيب الجاد و المخلص لمهنته، و احتارت كيف تفسر هذه الازدواجية في الشخصية و سرعته في التكيف مع الطروف، فأومأت برأسها موافقة و تناولت مفاتيح سيارتها و تبعته بهدوء إلى الخارج.
بعد قليل كانت جيسيكا تقف في غرفة العمليات تراقبه باعجاب يعمل بتأن و مهارة على سحب العظمة الصغيرة. نجاحه كطبيب جراح استحوذ على احترام معارفه و اعجباهم، فتغاضى معظمهم عن عيوبه الأخلاقية.
بقي دان في المستشفى تحسباً لما قد يطرأ على صحة مريضه، بينما طلب من جيسيكا العودة إلى المنزل، فأطاعته من غير اعتراض، تريد وضع حد لهذا اليوم الطويل و المليء بالمشاكل و المفاجآت.
علقت جيسيكا صورة الأشعة أمام الشاشة المضاءة أمامها، و تراجعت قليلاً تتفحصها بهدوء. بدا واضحا أن شيئاً ما يسد القناة الصفراوية و يوشك أن يهدد المثانة نفسها. وضعت يديها في جيبي سترتها البيضاء تحدق في الصور مستعيدة قول العمة ماريا لها.
(ما ان تضعوا أيديكم على مريض مسكين مثلي حتى تدخلوه المستشفى فلا يخرج إلا وقد عملت مباضعكم في جسمه)
ارتسمت على محياها امارات الغم، فالحالة تتطلب عملية سريعة و العجوز الطيبة كانت مصيبة في حدسها.
أفاقت جيسيكا من شرودها شبه مذعورة على صوت دان ترافورد هاتفاً خلفها مباشرة:
- مساء الخير.
ليست المرة الأولى التي يتسلل فيها إلى مكان تواجدها و يفاجئها بهذه الطريقة.
كادت تصرخ بوجهه عله يقلع عن هذه العادة الوقحة، لكنه كان مشغولاً بالنظر إلى صورة الأشعة فلم يول انفعالها أي اهتمام.
- هل هذه صور العمة ماريا؟
أومأت برأسها متمتمة:
- أجل.
- أريد أن أهنئك على دقتك في التشخيص.
لم تحمل عباراته أية تهنئة بل نغمة من هزئه البغيض، لكنها تغاضت عن قصده و قالت ببرودة:
- شكراً يا دكتور ترافورد.
- هل تريدينني ان أجري العملية؟
- إني واثقة من قدرتي على اجرائها. و إن كنت تشك في قدرتي فلا أمانع في أن تعاونني.
- و لا مانع عندي أيضاً. متى ستطلعينها على الأمر؟
أطفأت جيسيكا ضوء الشاشة و أعادت الصور إلى مكانها.
- سأعود الآن و أخبرها عن موعد العملية مع علمي أن الأمر لن يروقها.
- إنها تثرثر كثيراً، لكنها امرأة حساسة جدا و عاطفية أكثر من اللازم.
- لاحظت ذلك، لكن لا مناص من إجراء العملية بسبب خطورة انسداد المثانة. أليس كذلك؟
- بكل تأكيد. لا تنسي أن تطلعيني على المستجدات.
- سأفعل ذلك.
بعد دقائق كانت جيسيكا تقف قرب العمة ماريا تطلعها على قرارها بإجراء العملية و موضحة لها أهميتها و مخاطر تأجيلها، فلم تبد العجوز تأييداً للفكرة لكنها، و كما توقع دان علقت مجبرة على أمرها:
- إن كان لابد من اجراء العملية يا صغيرتي، فمن البلاهة أن اعترض. و لكن أريد أن أعرف... موعد اجرائها.
- في أسرع وقت ممكن. ربما غداً إذا أفلحت في حجز غرفة العمليات.
- موافقة، فأسراعنا في اجرائها يعني الاسراع في عودتي إلى المنزل. أليس كذلك يا صغيرتي؟
لم تجب جيسيكا مستلمة لسكوت ثقيل ترك بصماته في أنحاء الغرفة، و محدقة في باقة الزهر قرب سرير العجوز.
أوضحت العمة مبتسمة:
- جلبتها أوليفيا هذا الصباح.
- أوليفيا كينغ؟
أومأت العجوز إيجاباً و أغمضت عينيها تستعيد صفحة من الماضي القريب.
- إنها امرأة رائعة. لم تشهد هذه المدينة يوماً زاهياً كيوم زفاف أوليفيا و برنارد كينغ.
- أكان احتفالاً كبيراً؟
شبكت العجوز يديها فوق صدرها هاتفة:
- يا صغيرتي. في ذلك اليوم بلغ عدد المدعوين المئات حتى ضافت بهم قاعة البلدية. و ساعة الزفاف فاق عدد الذين في الخارج الموجودين في القاعة. دمعت عيون الجميع حين دخلت أوليفيا القاعة متأبطة ذراع بيتر أوبريان.
أرادت جيسيكا أن تصرف العمة ماريا عن التفكير بالعملية الجراحية،فسألتها متعمدة الاهتمام:
- يبدو أنك تكنين محبة خاصة لأوليفيا.
- علاقتي بها تعود إلى ما قبل زواجها من برنارد. كانت تملك مكتبة و تقطن في شقة فوقها. لكن الأمور تبدلت اليوم و أصبحت الشقة جزء من المكتبة. مضى على معرفتي بها ثلاث سنوات و كأنها البارحة، فأنا ما زلت أذكر اليوم الذي وصلت فيه أوليفيا إلى لويزفيل، بقامتها النحيلة و نظرتها الضائعة.
- لقد طلبت مني الاشراف على ولادتها.
- أخبرتني بذلك، عندما رأيتك للمرة الأولى ذكرتني بها. فأنتما تتشابهان قامة و نحافة.
- و هل هناك أفضل من الجسم النحيف يا عمتي؟
غشت مسحة من القلق وجه العجوز و تمتمت بتأفف:
- حتى الأطباء أحياناً يهملون الاهتمام بصحتهم. لماذا لم تتزوجي حتى الآن يا جيسيكا؟
- لم أجد الوقت الكافي للتفكير بالزواج.
- عذر أقبح من ذنب. الوقت متوافر دائماً للتفكير بالزواج.
- هذا صحيح، شرط وجود الشخص المناسب.
- و ما أدراك أنك لم تجديه؟
- أعتقد أني سأعلم بذلك فور حصوله.
- هنا يكمن خطؤك يا حلوتي. أحيانا تلتقين رجلاً ما و تعتقدين أنه لا يناسبك أبداً، لكن عندما تزداد معرفتك به تكتشفين أنه في النهاية رجل أحلامك.
بدأ النقاش يغوص في أمور شخصية لا تحبذ جيسيكا الخوض فيها الآن، و ذكرها كلام العجوز بوالدتها يوم كانت تكلمها عن الزواج و الرجال، فقالت بتململ:
- سأختار الزوج الذي يشاركني الميول و الاهواء نفسها.
- أتعنين شخصاً مثل دان ترافورد؟
انتفضت جيسيكا كمن لسعته أفعى:
- أرجو أن لا يكون مثله أبداً.
دافعت العجوز عن دان قائلة:
- سيكون زوجاً صالحاً ان صادف الفتاة المناسبة.
- لا أظن أنني هذه الفتاة المناسبة. و الآن اقترح أن تخلدي للراحة قبقل أن يحين موعد زيارة أوم هايني.
للمرة الأولى منذ سنوات أحست جيسيكا بتورد وجنتيها و هي في طريقها إلى الخارج. فنظرات رفاق العمة ماريا من المرضى تابعتها حتى الباب و كأنهم سمعوا كل ما دار بينها و بين مريضتها العجوز. أيعقل أن يصبح دان ترافورد زوجاً مثالياً؟ أبداً. و ضحكت في سرها مستعيدة عبارات العمة عنه.
كيف يكون رجل بمثل سمعته زوجاً صالحاً و هل يتخلى عن مطاردة النساء و هو الذي يعتبر العلاقة بين الرجل و المرأة مقصورة على الهوى العابر؟ انها متأكدة من أنها ستتفق مع سمكري أكثر من اتفاقها مع هذا الطبيب المهاتر.
لم تسنح الفرصة لجيسيكا في فترة ما بعد الظهر للتفكير أكثر بحديثها مع العمة ماريا. لكنها ما ان عادت إلى منزلها تلك الليلة، حتى عادت كلمات العجوز عن دان ترافورد تضج في رأسها بالرغم من أن العملية الجراحية التي ستجريها للعمة في الصباح الباكر تشغل حيزاً كبيراً من بالها. سيعاونها دان غداً و هي على يقين من أنه لن يتوانى عن انتقادها كلما سنحت له الفرصة لذلك.

nightmare 03-10-08 06:56 AM

كانت جيسيكا صائبة في مخاوفها من معاونة دان لها، فما ان التقت عيونهما في غرفة العمليات حتى أحست بالارتباك. نظراته الباردة تحمل السخرية و الاستخفاف. وقف قبالتها حول جسم العمة ماريا، بقناعه الأبيض،فحاولت جيسيكا قدر المستطاع تجاهل وجوده معها، لكنه ليس من الذين يسهل تجنبهم. شعرت و كأنها ما زالت طالبة في معهد الطب، و تقوم باجراء العملية الأولى تحت مراقبة استاذها، فزال الشعور بالثقة الذي خالجها قبلاً و اغمضت عينيها علها تستعيد ثباتها و لم تتحرك إلا لدى سماعها صوت المضابع و عربة آلة ضغط الدم.
استعادت بعضاً من الراحة فور تناولها المبضع من يد الممرضة و بدئها العملية. لم تعد تهتم لوجوده معها، و لا تبالي بنظراته المسلطة على يدها. همها أن تتم العملية بنجاح، و تثبت له أنها لا تقل كفاءة عنه كطبيبة.
منتديات ليلاس
خرج الاثنان من غرفة العمليات و توجها معاً إلى الكافتيريا لتناول فنجان من الشاي.
- كانت عملية ناجحة جداً يا دكتورة نيل.
نظرت إليه تدقق في بريق عينيه. لم يهزأ منها هذه المرة بل بدا جاداً و عفوياً، لكن رصانته لم تدم طويلاً بل أردف بشيء من التهكم القاتل:
- و لا يسعني سوى أن أنوه بتفوق الطبيبات على الأطباء في عملية التقطيب. فالعملية لا تتعدى الخياطة العادية بالنسبة اليهن.
لم تستسلم لهزئه البارد و قررت المجابهة:
- أهذه طريقتك للتعبير عن عدم رضاك؟
رفع دان حاجبيه يخفي ابتسامة أوشكت أن تفضح حقيقة قصده:
- لا يمكننا تجاهل بعض النقاط الجيدة، أليس كذلك؟
ابتسمت جيسيكا بلؤم:
- شكراً يا دكتور ترافورد على هذا التشجيع اللطيف.
- ما أريد قوله يا دكتوره نيل أن هناك فارقاً بين الطبيب و الطبيبة في اجراء العملية فالطبيب يتجاهل من يكون المريض الممد في غرفة العمليات أما بالنسبة للطبيبة فالحالة تختلف تماماً. هذا لا يعني أن المرأة فشلت في أن تكون طبيبة أو جراحة ناجحة، لكنها من غير أن تشعر تقحم عاطفتها في عملها مما يؤثر على تشخيصها و أحياناً كثيرة على نتيجة الجراحة.
- أتعتقد ذلك؟
- بل أعرفه تمام المعرفة. كنت تتألمين و أنت تعملين مبضعك في جسم العمة ماريا.
- كلامك عن المرأة في حقل الطب غير صحيح، لكني أعترف بكراهيتي للجوء إلى المبضع عند انتفاء الضرورة الملحة. عرفت حالات كثيرة فقد أصحابها أجزاء من أجسامهم إرضاء لنزوات مبضع الجراح.
- لن أخوض في هذا الموضوع الآن، ما يهمني هو قدراتك كطبيبة جراحة فقط.
- اعتقد أنك ستلقي علي محاضرة حول كيفية اجراء عملية جراحية، أليس كذلك؟
- كلا فلا مأخذ على مهارتك الفنية في اجرائها.
ابتسمت ببرودة تحاول اخفاء نبرة الحنق في صوتها:
- حقاً؟
- حالتك العاطفية اثناء اجراء العملية هي التي تقلقني.
- أظن اننا ندور في حلقة مفرغة تصرفاتي خلال العملية عاطفية جداً أهذا ماتود قوله؟
- تماماً.
وقفت جيسيكا معلنة انتهاء المحادثة ورمقته بنظرة ثاقبة:
- لاأوافقك الرأي يادكتور ترافورد فأنا في النهاية امرأة ولا اعتقد انه بمقدوري تغيير ذلك.
- هذا مالن أسألك فعله أبداً فأنا معجب بانوثتك يادكتورة نيل.
فعلت فيها نعومة عبارته فعلها السحري وأحست بقشعريرة لذيذة تسري في جسمها فتبعث فيه الفرح وتزرع في انحائه شعوراً اخاذاً لم تحسه منذ زمن. التفتت اليه بعد تردد وليتها لم تفعل فالبريق الغريب لم يهجرعينيه الرماديتين ابداً انهما عينا دان ترافورد الرجل الخبير بالنساء وكيفية اشعال النار في اجسامهن ولابد انه يدرك كل الادراك ماتفعله الآن كلماته فيها.
قالت بصوت خافت يزرح تحت ثقل انفعالها:
- سألقي نظرة أخيرة على العمة ماريا قبل ان اطمئن أوم هايني.
- أتضايقك نظرتي اليك كامرأة بدلاً من طبيبة ياجيسيكا؟
أذكت نبرته النار في وجنتيها من جديد.
- لاابداً يادكتور ترافورد فهذا من شأنه ان يسعد والدتي عندما تعلم ان ابنتها لم تفقد كل انوثتها بالرغم من اختيارها الطب مهنة لها.
مد يده بخفة تاركاً انامله تطوق معصمها قبل ان تتمكن من التحرك:
- امنحيني فرصة لأثبت لك بأي قدر من الأنوثة تتمتعين.
تخلصت جيسيكا من قبضته وتراجعت بضع خطوات محاولة اخفاء اضطرابها المتزايد واجابت بهدوء شبه مصطنع:
- لاأشك في لحظة في قدراتك لكني لست راغبة في اكتشاف ذلك.
توجهت الى جناح العمة بوجه عابس يزرح تحت تأثير جلستها مع دان لن تكون ابداً المرأة التي ستلعب ذلك الدور في حياة هذا الطبيب المخادع.
كانت واثقة من قدرتها التامة على كبت مشاعرها والتحكم بعواطفها لكن هذه المرة وبطريقة لم تعهدها من قبل تمكن دان من اضعاف هذه القدرة لديها ستلزم جانب الحذر منه في المستقبل وتتجنب قدر استطاعتها الاختلاط به بالرغم من استحالة هذا الأمرلاضطرارها للعمل الى جانبه.
في بداية اسبوعها الثاني في لويزفيل جلست جيسيكا في عيادتها تتأهب لاستقبال مرضاها حين دخل عليها جايمس بوشوف حاملاً قبعته المعهودة بيديه الخشنتين.نجحت جيسيكا في منع نفسها من الابتسام وقالت مرحبة:
- أهلاً ياسيد بوشوف أظنك تود رؤية الدكتور اوبريان او ترافورد.
أجاب المزارع بصوت خافت:
- آه...جئت لأخبرك ان الدواء الذي وصفته لي كان ناجعاً جداً ولم أعد أكثر من التدخين كالسابق.
- يسرني سماع هذا ياسيد بوشوف.
سكت المزارع للحظات ثم قال:
- السيدة دلبورت تتحدث عنك باستمرار وعن معاملتك الرائعة لها.لقد طرأ تحسن كبير على صحتها.
ادركت جيسيكا ان العجوز تقوم بحملة دعائية لها في لويزفيل.
- انها سيدة ممتازة.
- هل تريدين معاينتي الآن؟
ضحكت جيسيكا في سرها لما لاحظته من تبدل في تصرفات هذا المزارع الفظ.
لم تدم المعاينة طويلاً نزعت جيسيكا السماعة الطبية ووضعتها على الطاولة.
فسألها جايمس بوشوف مستوضحاً:
- ألست أفضل حالاً من المرة السابقة؟
- نعم هناك تحسن في صحتك لكن عليك ان تثابر على الدواء بصورة منتظمة ولاتنس ان تقلل من التدخين الى ادنى حد.
- شكرا يادكتورة هل اعود للمعاينة مرة اخرى؟
- اذا لم يطرأ تحسن على حالتك والا فلاحاجة لذلك.
- حسناً الى اللقاء.
اغلقت جيسيكا الباب خلفه وعادت الى مكتبها تعيد توضيب الملفات المتناثرة هنا وهناك.
- يبدو ان المزارع المعتوة لقي صعوبة في الابتعاد عن لمساتك الحنونة.
التفتت جيسيكا ناحية مصدر الصوت لتفاجأ بدان وقد اصبح في وسط الغرفة يتقدم منها بعضلاته المفتولة وقامته التي تطفح رجولة وجاذبية من تحت ردائه الأبيض . وجوده في مكتبها يربكها فنظرتها اليه تتغير يوماً بعد يوم...لم تعد نظرة تحد بل نظرة ضعف واضطراب امام هاتين العينين المسلطتين عليها ببريقهما التهكمي الوقح.
- اظن ان السيد بوشوف اكتشف في النهاية اني لست طبيبة فاشلة.
- لوكنت جايمس لما كانت مهارتك الطبية السبب الوحيد لعودتي.
نهضت جيسيكا عن مقعدها مجيبة بنبرة حادة:
- لقد حان موعد عودتي الى المنزل.
تراجع دان نحو الباب معترضاً طريقها:
- ليس بهذه السرعة فقد تلقينا مخابرة عن اصابة احد العمال في مزرعة مجاورة وارتأى بيتر ان ننتقل معاً الى هناك لتعذر نقل المريض المصاب في عموده الفقري انها فرصة لك لتتعرفي على المزارع.
تبخر حلمها بقضاء ليلة هانئة في منزلها فخلعت ثوبها الأبيض وتناولت الحقيبة الطبية:
- حسناًهلا ذهبنا يادكتور ترافورد؟
- سنذهب في سيارتي.
بعد فترة قصيرة كانت سيارة دان تشق طريقها بين غابات كثيفة من القصب تلقي بظلالها على الممر الرملي الضيق جلست صامتة ترقب غروب الشمس وتنصت الى شرح دان عن المزارع وحالة مالكيها والعمال فيها.
- يعتبر برنارد كينغ شقيق فيفيان من أغنى المزارعين في هذه المنطقة وتقع مزرعته الى الشمال من لويزفيل غناه يفوق كل تصور حتى الناس يلقبونه هنا بملك القطعان.
لم تنبس جيسيكا ببنت شفة كانت تفكر في فيفيان وأوليفيا وكم هما محظوظتان في وقوعهما على شخصين مثل برنارد وبيتر .سلكت السيارة طريقاً جانبية وعرة انتهت الى فسحة رملية امام مزرعة صغيرة تجمهر في ساحتها جمع من العمال تقدم أحدهم من السيارة فور توقفها وأخبرهما ان احد العمال سقط عن سطح الاسطبل اثناء نقلة أكياس العلف.
سارع دان الى اجراء الاسعافات الاولية قبل حلول الظلام تعاونه جيسيكا والتفت اليها قائلاً:
- انا بحاجة الى الاسعاف اتصلي بالمستشفى وأعلميهم بحالة المصاب.
اجرت جيسيكا المكالمة من منزل صاحب المزرعة...اصابة العامل بالغة لكنها تعرف مدى خطورتها الا بعد اخذ صور الأشعة له.
تشخيصها الفوري اظهر ان الصدمة أثرت على عاموده الفقري وربما أتلفت احد الاعصاب الاساسية فيه.
عندما عادت الى قرب دان ادركت من نظرته الى العامل انه يشاطرها رأيها في حالته الصحية فجلست قربه تهدئ من روع الرجل الطريح ريثما تصل النجدة.
بدأ الظلام يرخي ستاره على المكان عندما وصلت سيارة الاسعاف خارقة السكون المخيم على المزرعة بدوي منبهها مطلقة اشارات ضوئية متلاحقة فتفرق العمال مفسحين في المجال للمسعفين لنقل المصاب الى داخل السيارة بينما أعاد دان الآلات الطبية الى حقيبته.
- هل بامكانك قيادة السيارة فسأضطر لمرافقة العامل في سيارة الاسعاف؟
- أظن ذلك.
ناولها دان علاّقة مفاتيحه:
- سألقاك في المستشفى اذن.
صعد الى داخل سيارة الاسعاف ووقفت جيسيكا برهة ترقب غياب اضواء السيارة المسرعة عن ناظريها ثم استقلت سيارة دان متوجهة الى المستشفى.
اوقفت السيارة في الموقف المخصص للأطباء واتجهت بسرعة الى غرفة الطوارئ حيث التقت دان فبادرته مستفهمة:
- كيف حاله؟
مرر دان يده على شعره الداكن مطلقاً زفرة طويلة.
- إنه في غرفة الأشعة.
- ما رأيك في الاصابة؟
- لا أريد أن أتسرع في إعطاء الرأي لكني اعتقد أنه مع قليل من الحظ و الرعاية سيستعيد عافيته في وقت قريب.
- من حظه أنهم لم يعملوا على نقله قبل وصولنا.
- ستتأخر نتيجة الأشعة بعض الوقت، هل تشاركينني فنجاناً من القهوة؟
- سأقبل دعوتك هذه المرة.
أمسك دان بيدها معلقاً بسخرية:
- كنت متأكداً من موافقتك.
سارت إلى جانبه غير واثقة من صواب عملها، فهي لا تعلم شيئاً عن خطوتها التالية و كأنها تسير في المجهول. جل ما تدركه هو الخطر المحدق بها و هي تشهد الوهن يدب في قدرتها على التحكم بعواطفها و شعورها نحو هذا الرجل الغريب السائر بقربها.

الفصل الرابع

4- لا شك انه لاحظ انهيار مقاومتها لنظراته الوقحة.كيف يقدر على اثارة اعصابها واللعب بأحاسيسها ! عليها ان تسرع في التصرف قبل ان يفوت الآوان...
جلست جيسيكا في مقهى المستشفى ترشف على مهل فنجان القهوة مستمعة الى عبارات دان المجبولة بنبرة الهزء المعتادة:
- ان لم تخني الذاكرة فنحن لم نستطع اكمال قهوتنا في جلستنا الأخيرة هنا.
لاشعورياً ضحكت جيسيكا معلقة:
- قد يتكرر الأمر الآن فلنتمنّ ان ننهي قهوتنا قبل حدوث أي طارئ.
- اني اشاركك هذه الأمنية.
فوجئت جيسيكا بمسحة القلق التي غشت عينيه وهو يحتسي قهوته ولكنها احجمت عن الخوض في موضوع قد لاتكون لها علاقة به.
- ماالذي دفعك الى اختيار الطب مهنة لك ياجيسيكا؟
- أظنه نفس السبب الذي يدفع أي شخص الى ذلك.
- من جهتي لدي أسباب كثيرة قد لاتكون كلها وجيهة (وعلا وجهه تجهم مفاجئ) قررت ان اكون طبيباً بعد ان قتل والداي على يد ارهابيين في احدى مزارع زيمبابوي لوكنت ملماً حينها بالأمور الطبية كما انا اليوم لربما تمكنت من انقاذ حياتهما (قدم لها سيكارة ولما اعتذرت شاكرة اشعل واحدة مردفاً) كنت قد اخترت الصيدلة لكن تلك الحادثة حولتني الى الطب.
أحست جيسيكا برغبة جامحة لمشاركتة هذه الذكرى الحزينة لكنها لم تكن واثقة من ان مواساتها ستلقى قبولاً منه في هذه اللحظة.
- لاشك ان تلك الحادثة وقعت أبان الحرب الأهلية في زيمبابوي .
ابتسم دان فجأة وقال بدهاء:
- ان كنت تحاولين معرفة عمري فسأوفر عليك مشقة ذلك أنا في الخامسة والثلاثين.
- لم أقصد...
لم يدعها تكمل عبارتها وحملق في عينيها بجسارة توردت بفعلها وجنتاها:
- لا بل قصدت والآن بعد ان عرفت سبب اختياري الطب اخبريني عن أسبابك.
احست جيسيكا بجفاف في حلقها فرشفت قهوتها قبل ان تجيب:
- لااذكر ابدا ًاني تمنيت مهنة أخرى.
- أتعنين انك لم تفكري في مهنة اخرى قد تناسبك اكثر؟
امتنعت عن اطلاعه على دور والدها وتأثيره عليها في اختيار مهنة الطب فأطبقت عينيها مجيبة:
- لاأظن ان هناك مهنة اخرى تناسبي اكثر من الطب.
عندما نظرت اليه من جديد فوجئت ببريق ينبعث من عينيه لم تستطع تحديد معناه.
- هناك مهنة اخرى كانت لتناسبك اكثر في هذه الفترة من حياتك ولا تحتاجين فيها الى شهادة جامعية.
راقبته وهو يطفئ سيكارته وعلقت بجفاء:
- أخالك ستمضي قدماً في ملاحظاتك حتى ولو اظهرت لك عدم اهتمامي.
التقت عيونهما للحظات وأحست بنظراته تخترق جلدها الرقيق لتغوص في داخلها وتتسّمر في صدرها الصغير.
ابتسم لها من غير ان يرفع نظره عن صدرها معلقاً:
- مايناسبك الآن هو علاقة حميمة.
اجابت جيسيكا بنبرة ساخرة:
- علاقة حميمة معك على ما اعتقد أليس كذلك؟
- يسعدني كثيراً ان تمنحيني هذه الفرصة الرائعة.
- أتقصد اني مجبرة على ذلك؟
- يؤسفني ان تسيئي الحكم عليّ ياجيسيكا.
- ويؤسفني اني هدرت وقتي في الاستماع اليك.
علا صوت المذياع في احدى زوايا القاعة مطالباً الدكتور ترافورد بالتوجه حالاً الى غرفة الأشعة.
هرول الاثنان في الممر الفسيح المؤدي الى الغرفة ولدى وصولهما الى الباب امسك دان بيدها قائلاً:
- خسارة ان لانتمكن من انهاء هذه المحادثة المثيرة.
لم تجب مكتفية بسحب يدها بعنف من بين انامله ودخلت الغرفة على عجل.
أكدت الصور ظنونها بحالة العامل المصاب فبادر
دان الى اعطاء التعليمات للممرضات ثم اختلى بجيسيكا لثوان يتناقشان الأمر:
- أعرف طبيباً مختصاً بجراحة الاعصاب في لويس تريشارد وسأستشيره في الصباح.
اوقف دان سيارته قي ساعه متأخرة من الليل قرب جيسيكا واستدار ناحيتها بعينيه اللامعتين:
- تصبحين على خير ياجيسيكا هل لي ان أتمنى لك ليلة هانئة في سريرك الموحش؟
أجابت جيسيكا موضحة بلهجة صارمة:
- لاأجد سريري موحشاً ابداً يادكتور ترافورد وأنا بكل صراحة من الذين يفضلون النوم وحدهم.
- لكنك بعملك هذا تضيعين فرصة مثيرة للغاية يادكتورة نيل.
ترجلت جيسيكا من السيارة حاملة حقيبتها:
- هذه وجهة نظرك ولكن الأمر لايضايقني ابداً.
- ستغيرين رأيك في المستقبل القريب.
- لاأعتقد ذلك على كل حال طبت مساءً وشكراً على ايصالي الى هنا.
لم تكن واثقة من جوابها وتراءى لها دان وهي تدير سيارتها ضاحكاً يسخر من عبارتها ويمني نفسه بنيل مأربه منها واضافة اسمها الى لائحة ضحاياه من النساء لاشك في انه لاحظ ضعفها وسرعة انهيار مقاومتها لنظراته الوقحة لم تصدف شخصاً مثله في حياتها قادراً على اثارة اعصابها واللعب بأحاسيسها انه في نظرها طبيب ماهر لكنه يجمع الى جانب مهارته في الطب اجادته فنون اغواء النساء وزاد من غطرسته انه يعرف تمام المعرفة مدى تأثيره عليها وجعلها تعجب به كرجل أكثر منه كطبيب اقلقها استنتاجها هذا وبعث اكتشافها حقيقة أحاسيسها في نفسها خوفاً وتصميماً على الاسراع في التصرف قبل فوات الأوان.
ثلاثة اسابيع مضت تمكنت جيسيكا خلالها من زيادة معرفتها للويزفيل وتوثيق علاقتها بسكانها وبدأت تعتاد نمط عملها والتغلب على الحالات الطارئة التي مابرحت تصادفها منذ وصولها والتي ساهمت في محو الرتابة التي رافقت عملها في جوهانسبرغ.
مشكلة وحيدة لم تقو على ايجاد حل لها: دان ترافورد فهو لم ييأس ابداً من محاولة اغرائها وايقاعها في شباكه.
حتى الآن لم يقم بخطوة خاطئة تجاهها لكنها كانت متأكدة من انه سيفعل عاجلاً ام اجلاً.
غادرت جيسيكا عيادتها متوجهة الى المرآب بعد نهار حافل بالمرضى وبالمعاينات واستقلت سيارتها تمني نفسها بقضاء ليلة هانئة تلجأ فيها الى كتاب جيد تدفن تعبها وارهاقها بين صفحاته.
لكنها ما ان أوقفت سيارتها أمام مسكنها حتى شاهدت فيفيان تهرول في اتجاهها وعلامات القلق والغم على وجهها.
لم تعط جيسيكا فرصة للسؤال بل جلست في السيارة قائلة بارتباك:
- الامر يتعلق باوليفيا سأرشدك الى منزلها في ماونتين فيو وأشرح لك الأمر في الطريق.
سارعت جيسيكا الى ادارة محرك سيارتها من جديد وأقلعت بها بسرعة.
لقد تأخرت اوليفيا عن موعد ولادتها عشرين يوماً ولابد وان الانتظار قد أثر على اعصابها.
بادرت فيفيان الى شرح ماحصل لاوليفيا وهما يسلكان الطريق المؤدي الى المزرعة:
- طلبت اوليفيا من فرانسين ان تتصل بك لكن الفتاة المسكينة اصيبت بالذعر عندما اخبروها انك غادرت عيادتك فاتصلت بي ولسوء حظها لم يكن برنارد في المنزل فقد خرج للصيد ولاتعتقد اوليفيا انه سيعود باكراً هذا كل مااستطاعت الصغيرة اخباري به اضافة الى ان اوليفيا ارسلت في طلبك على جناح السرعة الى المزرعة.
التفتت جيسيكا الى مرافقتها المضطربة تسألها:
- امازال المكان بعيداً؟
- مسافة خمسة كيلومترات تقريباً.
في نهاية الطريق الترابية الوعرة بدا منزل اوليفيا في الجهة الاخرى قابعاً بين اشجار السرو وقد بانت شرفاته ذات اللون الابيض تطل على السهل الاصفر الفسيح كحبة لؤلؤ تزين جيد حسناء سمراء.
ماان اوقفت جيسيكا السيارة في ظل احدى الاشجار حتى فتح الباب الرئيسي وخرجت فتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها مهرولة ناحية فيفيان وشعرها الكستنائي يطير على كتفيها.

nightmare 03-10-08 06:57 AM

وارتمت في احضانها هاتفة بتأثر:
- عمتي فيفيان كم انا سعيدة لقدومك.
- لاتقلقي ياعزيزتي هذه الدكتورة نيل وكل شئ سيكون على مايرام اخرجي ياحبيبتي الى الشرفة وانتظري والدك.
قطبت فرانسين حاجبيها معترضة:
- لكني اريد مساعدة أمي.
تقدمت جيسيكا من الصغيرة وغمرتها بحنان:
- أعدك يافرانسين بأن اناديك اذا احتجت لأية مساعدة.
ابتسمت الصغيرة بحياء وأجابت راضخة:
- حسناً كما تشائين يادكتورة نيل.
في غرفة النوم الكبيرة بدت اوليفيا شاحبة الوجه وقد تمددت على السرير من غير حراك لكنها ماان سمعت الباب يفتح حتى فتحت عينيها وارتسمت على شفتيها ابتسامة ارتياح ورضى وتمتمت بصوت منخفض ترحب بالقادمتين:
- تسرني رؤيتكما الى جانبي لم أقو على التحرك من مكاني والا لكنت وفرت عليكما مشقة القدوم الى هنا.
صاحت فيفيان بهلع:
- اياك والتحرك قد تعرضين نفسك والجنين لخطر محتم.
وضعت جيسيكا حقيبتها على الأرض وجلست بالقرب من اوليفيا مستوضحة:
- متى أحسست بالألم؟
- سأكون صريحة معك شعرت بألم في الصباح لكني حسبته تشنجا ًفي المعدة كالعادة وعندما زال أيقنت من أني مصيبة في ظني ولاشئ يدعو للقلق لكن الألم عاودني منذ اكثر من نصف ساعة و...
عاودتها نوبة الألم مجدداً فلم تكمل عبارتها فوضعت جيسيكا يدها على جبينها تهدئ من روعها:
- استرخي ولاتقلقي وتنفسي بهدوء وعمق.
انتظرت جيسيكا زوال الألم وباشرت في معاينة مريضتها لكنها ماان انتهت من ذلك حتى عاد الوجع أشد وأقوى.
هتفت فيفيان باضطراب:
- ياالهي.ماذا سنفعل يا جيسيكا؟
فتحت الدكتورة نيل حقيبتها تتفحص محتوياتها وأجابت بهدوء كلي:
- اعتقد ان الولادة ستتم في هذه الغرفة.
جحظت عينا فيفيان وصاحت برعب:
- تقولين ذلك وكأن الأمر سيحصل بعد لحظات.
- ستحصل الولادة قريباً لكن أمامنا متسعاً من الوقت لاجراء الترتيبات الضرورية.
اصدرت جيسيكا تعليماتها بهدوء وثقة مما بعث الطمأنينة في نفس فيفيان:
- اليّ بوعاء من الماء الساخن وبعض المناديل النظيفة وأعملي على ابقاء الصغيرة خارجاً لن يستغرق الأمر اكثر من نصف ساعة.
جلست جيسيكا الى جانب اوليفيا تمسح جبينها المتصبب عرقاً:
- لاتخافي ياعزيزتي كل شئ يسير بصورة طبيعية.

أغمضت الحامل عينيها متأوهة وقد ازداد شحوب وجهها.
- ياالهي ليت برنارد هنا.
اجابت فيفيان وهي تضع وعاء الماء الساخن قرب السرير:
- لوعرف ماذا يحدث لطار الى هنا ليكون بقربك في هذه اللحظة فانت تعلمين مقدار حبه لك.
عاودتها نوبة الألم مرة أخرى فأمسكت بغطاء السرير تشده بين يديها:
- أجل...أجل أعلم ذلك وجوده الى جانبي يريحني ويجعلني أشعر بالأمان.
جثت فيفيان على ركبتيها عند حافة السرير ومدت يديها الى اوليفيا:
- امسكي بيدي ياعزيزتي واتركي الباقي لجيسيكا.
وضعت اوليفيا مولوداً صبياً كامل النمو عملت جيسيكا على لفه ووضعه قرب اوليفيا بينما اهتمت فيفيان بتنظيف المكان بعد قليل وصلت فرانسين ووقفت عند الباب تسأل بارتباك:
- لقد سمعت صراخ الطفل هل بامكاني رؤيته والاطمئنان على أمي؟
ضمتها فيفيان الى صدرها هاتفة:
- بكل تأكيد ياحبيبتي.
هرعت الطفلة الى أمها تقبل وجنتيها ثم حدقت بالمولود الجديد طويلاً وقالت:
- انه صغيراً جداً هل سينمو يااماه؟
أشرق وجه اوليفيا بعد شحوب وهي تغمر ابنتها:
- سينمو ياعزيزتي حتى يصبح في مثل قامتك يوما ًما.
ضربت الطفلة كفاً بكف وكأنها تذكرت شيئاً والتفتت ناحية جيسيكا وفيفيان هاتفة:
- حضرت ايفيلنا القهوة ووضعتها في غرفة الجلوس سأبقى مع أمي الى حين عودتكما.
ترددت فيفيان في الذهاب لكن جيسيكا ربتت على كتفها موافقة:
- فنجان كبير من القهوة هوأفضل مانحتاجه الآن.
جلست الاثنتان في غلرفة الجلوس ترشفان القهوة بهدوء وارتياح فالعشرون دقيقة التي استغرقتها عملية الولادة كانت صعبة على الجميع رفعت فيفيان رأسها تجيل النظر في ارجاء القاعة وقالت بتأثر:
- لقد ترعرعت في هذه المزرعة وفي هذا المنزل بالذات وشهدت حيوانات كثيرة تلد وفي كل مرة كنت اخرج مندهشة اليوم عندما شاهدت ولادة الطفل شعرت بفراغ في حياتي واكتشفت ان أحلى مرحلة من مراحل الزواج قد فاتتني.
بدا التأثر على وجه جيسيكا واحتارت بما تجيب فالألم الساكن في عيني محدثتها أكبر من ان يزيله سؤال او تخفف منه مواساة.
بدأ الظلام يدب في انحاء المزرعة مبشراً بهبوط الليل وخيم سكون ثقيل على غرفة اوليفيا حيث جلست جيسيكا وحيدة تراقب الأم وطفلها.
فجأة علا هدير شاحنة في الخارج وسرعان ماتهادى الى مسامع جيسيكا وقع خطوات سريعة في الرواق المؤدي الى الغرفة وصوت رجل يسأل باضطراب:
- أين هي؟اين اوليفيا؟
طمأنته فيفيان بنبرة هادئة:
- انها في غرفتها يابرنارد ولاشئ يدعو للقلق.
صعد برنارد كينغ السلالم المؤدية الى غرفة النوم وهو يلعن الصيد والصيادين بصوت عال مما حمل جيسيكا واليفيا على تبادل نظرات ضاحكة قبل ان يفتح الباب بقوة وقف برنارد عند الباب بقامتة الطويلة وشعره الأسود وقد خططه الشيب متجهم الوجه يوزع نظراته النارية المضطربة بين زوجته وجيسيكا فجأة علا صراخ الطفل فتبدلت سحنة الأب وغاب الحنق والقلق من عينيه فمسح وجهه بيده وكأنه لايصدق ماتراه عيناه.
وتقدم من زوجته وجثا قرب السرير يغمرها والطفل بحنان هامساً بتأثر:
- أوليفيا؟
التفتت جيسيكا الى فيفيان فرأتها مأخوذه بذلك اللقاء المؤثر تحدق في العائلة الصغيرة بعينين دامعتين وابتسامة حزينة وتشاركهم احساساً لم يراود قلبها من قبل.
نظرت اوليفيا الى جيسيكا وقد امسكت بيد زوجها:
- أرجو المعذرة ياجيسيكا اقدم زوجي برنارد(وتطلعت الى برنارد مردفة)انها الدكتورة نيل.
هب الزوج السعيد واقفاً ومد يده مصافحاً جيسيكا بحرارة وقوة.
- معرفتك تشرفني يادكتورة وشكراً على مساعدتك لاوليفيا.
- لاشكر على الواجب.
تطلعت اوليفيا الى زوجها سائلة:
- ألن تحمل الطفل يابرنارد؟
ثلاثة أزواج من العيون راقبت برنارد وهو يقترب من السرير الصغير وينحني ليحمل الطفل الغارق في لفته القطنية يغط في نوم عميق.
هتف الأب مازحاً:
- ياله من طفل بشع.
جارته اوليفيا في مزاحه:
- هذا شئ طبيعي فهو يشبه والده تماماً.
علت ضحكة برنارد مدوية وجلس من جديد قرب زوجته:
- اني استحق جواباً كهذا أليس كذلك؟
أجابت فيفيان مبتسمة:
- بكل تأكيد (ونظرت الى جيسيكا توضب اغراضها في الحقيبة تتهيأ للرحيل واردفت) لقد اتصل بيتر وسيوافينا بعد قليل وطلب مني ان امنعك من مغادرة المزرعة قبل تناول العشاء.
همّت جيسيكا بالاعتذار:
- اني مضطرة...
لكن اوليفيا قاطعتها بلطف:
- ارجوك البقاء ياجيسيكا.
لم تقو على مقاومة نبرة التحبب في عبارة اوليفيا فأومأت برأسها موافقة.
جلس الجميع ماعدا اوليفيا الى طاولة العشاء في جو من المودة افتقدته جيسيكا منذ مغادرتها جوهانسبرغ يستمعون الى فرانسين تعيد عليهم ماحدث خلال غياب والدها عن المنزل وحدها جيسيكا لاحظت مدى تأثر فيفيان وهي تصغي بشغف الى الطفلة وتمسح بين الحين والآخر دموعها.
احتارت كيف تفسر احجام هذه المرأة عن الانجاب بالرغم من ولعها الشديد بالاطفال لابد من وجود سبب وستسعى الى اكتشافه بطريقة او بأخرى.
منتديات ليلاس
اشارت عقارب الساعة الى الثامنة فنهضت جيسيكا عن كرسيها معتذرة وتوجهت الى غرفة اوليفيا لتودعها فوجدتها مازالت مستلقية في فراشها والابتسامة لم تفارق شفتيها.
- كيف حال الأم الصغيرة؟
- جيسيكا... لم تسنح لي الفرصة لاشكرك.
همست الدكتورة بنبرة حنونة ممررة يدها على رأس مريضتها:
- لم أقم سوى بواجب الصداقة ياعزيزتي.
- بل اكثرمن ذلك بكثير لاادري ماكنت سأفعل لولاك.
- عليك بالراحه عدة أيام حتى تستعيدي نشاطك فكما اعتقد لست بحاجة لمستشفى.سأزورك يومياً للاطمئنان عنك وعن الطفل ماذا ستسمينه يااوليفيا؟
- لم نقرر بعد.
علا صوت برنارد قرب الباب:
- لدي الاسم الناسب له.
- يالك من جاسوس ياحبيبي.ماهو الأسم المناسب له.
- لم أجد أفضل من لوغان اسماً له.
علت الدهشة وجه الزوجه بينما التفت برنارد الى جيسيكا موضحاً:
- انه اسم عائلة اوليفيا قبل الزواج.
- انه اسم جميل ويليق بهذا ((السيد))النائم هنا.حسناً يالوغان سأراك غداً.
التقت جيسيكا اثناء خروجها بيتر اوبريان في غرفة الجلوس فنهض مودعاً:
- سأرافقك الى السيارة يلجيسيكا.
وما ان صارا في الخارج حتى سألها باهتمام:
- هل تمت الولادة على مايرام؟هل من مضاعفات؟
- لا ابداً.
بدا الارتياح على وجه الطبيب فهتف:
- عظيم انت تعلمين ان اوليفيا مازالت فتية واعترف اني لم أتوقع لها ولادة طبيعية ولكن...عندما يتعلق الأمر باحد الأقارب اجد نفسي في حالة يرثى لها من القلق والاضطراب انها احدى نقاط ضعفي على ما اعتقد.
- هذا شئ طبيعي يادكتور ارجو ان تكرر شكري لفيفيان وفرانسين فقد ساعدتاني كثيراً.
وصلت جيسيكا الى منزلها بعد التاسعة بقليل وما ان همت بالاستحمام حتى رن الهاتف وتهادى صوت دان ترافورد بوضوح معاتباً:
- حاولت الاتصال بك طوال السهرة.أين كنت؟
احست بخفقات قلبها تتسارع وأجابت بطريقة عفوية:
- كنت في مزرعة آل كينغ فالسيدة كينغ وضعت مولوداً بعد الظهر.
- أتعنين ان الطفل ولد في المزرعة؟
- أجل.
لم يتمالك دان نفسه عن الصراخ:
- ولماذا لم تنتقل الى المستشفى؟
- لم يكن هذا ممكناً فزوجها خرج للصيد منذ الصباح.
- كان بامكانك تدبير سيارة اسعاف لنقلها الى المستشفى.
- لم يكن لدي الوقت الكافي.
سألها بنبرة حانقة:
- ماذا تعنين بالوقت الكافي؟
ردت جيسيكا ببرودة مقصودة:
- كانت اوليفيا على وشك الوضع حين وصلت الى المزرعة.
- ليس هذا سبباً مقنعاً يادكتورة نيل.أتعلمين نوع المضاعفات التي قد تحصل في حالات مماثلة؟
- أعلم لكن...
- اذن لماذا لم تعمدي الى ادخالها الى المستشفى؟
جاهدت جيسيكا في السيطرة على نفسها:
- لأني اخذت بعين الاعتبار يادكتور ترافورد ان مريضتي ستفضل الاستلقاء في سريرها على التمدد في صندوق سيارة الاسعاف وهي تلد طفلها.
علق بلهجة ساخرة:
- كلام مقنع يبدو انك تحملين في حقيبتك غرفة للطوارئ تدخلين اليها المريض عند الضرورة.
- لاحاجة للهزء الآن.
- ياالهي.أنا لا اهزأ منك.
- ماذا تفعل اذن؟أتقصد اني عاجزة عن معالجة الحالات الطارئة؟
- وكيف أعلم ان كنت قادرة أم لا؟
- حسناً اقترح ان تحتفظ بآرائك لنفسك يادكتور ترافورد الى ان تتأكد من مقدرتي.
- لاتسيئي فهمي ياجيسيكا اردت ان أبين لك استحالة التغلب على أية مضاعفات عند عدم وجود الآلات المناسبة.
اعترفت في قرارة نفسها بصواب كلامه لكنه لوكان محلها وعاين اوليفيا لوافقها على ان طلب سيلرة الاسعاف لم يكن ضرورياً.
- فعلت ماظننته الأفضل لأوليفيا.
- كنت أتوقع تعليلاً كهذا من امرأة.
- ماذا تعني يادكتور ترافورد؟
- من المعلوم ان النساء ينجرفن وراء العاطفة عند اتخاذ قراراتهن وانت خير اثبات على ذلك.
- لاعلاقة للعاطفة بقراري يادكتور ترافورد(وأحست انها تكاد تفقد السيطرة على نفسها)هل هناك ماتضيفه يادكتورد ترافورد؟
- أجل لكني سأحتفظ به.
اقفلت الخط بيدين ترتجفان سخطاً واضطراباً وهتفت بأعلى صوتها:
- لعنة الله على الرجال.
احست باحتقان مؤلم في عينيها وبرغبة جامحة في البكاء.
لم تهنأ جيسيكا بالراحة طوال الليل تلقت بعد منتصف الليل مخابرة من المستشفى تدعوها بسرعة الى غرفة الطوارئ ولم تعد الى منزلها الا عند الفجر فاستحمت وبدلت ثيابها ثم جلست على الشرفة ترقب شروق الشمس وتتناول فطوراً خفيفا.
حاولت قبل توجهها الى العيادة اخفاء علامات الاعياء على وجهها بالتبرج والاكثار من المساحيق لكن ما ان صادفت الممرضة هانسن حتى بادرتها الاخيرة مستوضحة:
- يبدو انك قضيت ليلة رهيبة ويؤسفني ان اخبرك ان الصباح لن يكون أفضل حالاً الدكتور اوبريان توجه الى المستشفى والدكتور ترافورد منهمك في معاينات خارجية مما يعني انك مسؤولة عن المكان بأكمله الآن خاصة ان غرفة الانتظار تعج بالمرضى.
ارتدت جيسيكا سترتها البيضاء متصنعة الابتسام:
- اذن هلا ارسلتي المريض الأول ياآنسة هانسن؟
كانت بداية النهار متعبة للغاية وبدا وكأن عدد المرضى لن ينتهي ابداً.
لم تصادفها حالات مرضية كالتي تراها ولاسبق لها ان كشفت على مثل هذا العدد من المرضى اثناء عملها مع والدها ولسوء حظها ما ان كادت تنتهي من معاينة الدفعة الأخيرة حتى وصلت حافلة كبيرة مزدحمة بمرضى من منطقة فندا المجاورة.
نزلت جيسيكا لاستقبالهم محدقة في تلك الوجوه السوداء المحيطة بها تتهامس فيما بينها وتذكرت قول أحد المحاضرين في كلية الطب عن ان الطبيب قد يصادف أياماً يتمنى فيها لو يملك أكثر من يدين اثنين.
والآن هي في أمس الحاجة الى تحقيق هذه الأمنية فعادت الى عيادتها تحمل اللائحة الجديدة وتتهيأ مرة أخرى لمعاودة العمل بينما تولت الآنسة هانسن أمر تنظيم دخول المرضى الجدد ودعت الممرضة المريض الأخير ودخلت غرفة جيسيكا لتجدها وقد أسندت رأسها الى حافة مكتبها تأخذ قسطاً من الراحة.
- مر عليك صباح رهيب يادكتورة نيل هل تتصورين كيف كانت الحالة قبل قدومك؟
رفعت جيسيكا رأسها ونظرت الى الممرضة مبتسمة:
- أقر بأني تعبة لكني راضية عن ذلك هذا هو نوع العمل الذي طالما نشدته النوع الذي يتعبك ويريحك في آن معاً لورآني والدي في تلك الحالة لطار صوابه.
- ألم يحبذ والدك اختيارك مهنة الطب؟
- بلى لكنه لايوافقني على طريقة ممارستها.
لم يبد على الممرضة انها فهمت ولم تتكبد جيسيكا عناء التفسير بل خلعت سترتها وصففت شعرها بيديها قائلة:
- اعتقد اني سأستغل فترة الغداء لأعود أوليفيا كينغ وطفلها في المزرعة بعدها سأكون في المستشفى ان احتجت اليّ.
تطلعت الآنسة هانسن بشفقة الى وجه جيسيكا الشاحب وهزت رأسها معاتبة:
- الاطباء ينصحون مرضاهم بعدم اهمال صحتهم والاهتمام بطعامهم ولكن نادراً مايعملون بهذه النصيحة.
هزت جيسيكا كتفيها وغادرت عيادتها تقود السيارة على مهل الى مزرعة آل كينغ فامامها متسع من الوقت قبل ان يحين موعد رجوعها الى المستشفى فكرت بفيفيان فأمرها مابرح يشغل بالها منذ ان أفضت لها بمكنونات صدرها وخطرت لها فكرة قد تنجح في التخفيف من مشاكل هذه المرأة الطيبة لكنها قبل ان تمضي قدماً في تنفيذها ستحاول التقرب منها قدر الامكان واوليفيا كينغ هي الشخص الوحيد القادر على ذلك.
الفصل الخامس

5- تعلم انها ستندم غداً على ماتفعله الآن وستكره نفسها كلما فكرت به. لكنها في هذه اللحظة ملكه وملك هذا الاحساس الرائع والكلمات الدافئة التي يهمس بها...

لم يكن في المزرعة عند وصول جيسيكا سوى ربة المنزل والخادمة فتوجهت مباشرة الى الطابق العلوي حيث كانت اوليفيا ترضع طفلها في غرفة النوم.
- كيف حال الأم وطفلها اليوم؟ دعيني القي نظرة على الصغير ثم انتظرك في غرفة الجلوس.
استغرقت المعاينة دقائق معدودة طمأنت بعدها الأم وخرجت تنادي الخادمة كي تحضر القهوة لقد اعجبت بأوليفيا منذ زيارتها الأولى للعيادة.
وجدت فيها الوجه الآخر لشخصيتها الوجه الذي اضطرتها الظروف لبتره من حياتها والظهور دائماً بمظهر الطبيبة الجادة والرصينة تود لو تسترجع بعضاً منه قبل ان يفوت الأوان.
اكثر ماشدها الى اوليفيا ذكاؤها وسعة اطلاعها اضافة الى حبها للحياة والمرح انها مثال المرأة التي لاتترك فرصة الاوتغتنمها لتضيف الى حياتها مزيداً من الهناء والسعادة.
وافت اوليفيا ضيفتها الى غرفة الجلوس مرحبة وسكبت لنفسها فنجاناً من القهوة.
- عادتني فيفيان هذا الصباح واقترحت ان تحمم لوغان وما ان انهت تحضير مايلزمها حتى فوجئت بالخادمة وقد سبقتها الى ذلك.
وجدت جيسيكا الفرصة سانحة لتعرف المزيد عن فيفيان فقالت متعمدة البساطة:
- يبدو انها مولعة بالأطفال الى حد بعيد.
- انها تعشق فرانسين ومن الواضح ان لوغان بدأ يحظى بحبها ايضاً.
لم يسبق ان اتت على ذكر هذا الموضوع لكن برنارد اخبرني انها عرضت نفسها على اكثر من اخصائي مشهور قبل ان تقتنع بأنها عاقر.
- وهل فكرت بالتبني؟
- لايمكنني الاجابة على هذا السؤال،لكن فيفيان من الذين يسلمون بالأمر الواقع.
- لايبدو انك مقتنعة بما تقولين.
- هذا صحيح فأنا اعتقد انها تخفي في داخلها رغبة جامحة للحصول على طفل لكن برنارد ينتمي الى عائلة عريقة ومحافظة سترفض فكرة التبني وهذا ماجعل فيفيان تصرف النظر عنها متظاهرة بعدم الاكتراث.
سكتت جيسيكا لثوان ثم تمتمت:
- هكذا اذن.
- ماذا يدور في خلدك ياجيسيكا؟
تطلعت الى عيني محدثتها الهادئتين مبتسمة:
- عندي فكرة جيدة اذا نجحت...
- من الأفضل ان تخبريني عنها.
وضعت الدكتورة نيل فنجان القهوة الفارغ على الطاولة على مهل وكأنها تختار عبارتها:
- في دار الايتام في جوهانسبرغ فتاة تعيسة تناهز العاشرة من عمرها نجت في حادث سيارة قضى فيه والداها.تعرفت اليها حين كانت في المستشفى قيد المعالجة توطدت علاقتنا بعد ان عرفت ان لاأقارب لها ووعدتها منذ ايام بأن اجلبها الى هنا لتمضية عطلتها المدرسية معي.
- اظن اني بدأت اعيّ ماترمين اليه ياجيسيكا.ان احبت فيفيان الفتاة فقد تبقيها معها.
- ميجان لاي طفلة رائعة وكل من صادفها احبها انها تتعلق بالناس بسهولة وتحتاج الى من يهبها حبه وحنانه.
- صدقيني ياجيسيكا اتمنى لك النجاح في مسعاك.
- هل امضي قدماً في خطتي وأجلب ميجان الى هنا لقضاء العطلة؟
فاق حماس اوليفيا حماس محدثتها فهتفت:
- بكل تأكيد فكلما اسرعنا في المحاولة كلما اسرعنا في معرفة النتيجة.
- يسرني ان اناقش هذه القضية معك يااوليفيا.
- هذا يسعدني كثيراً ولن اطلع احد على الأمر وخاصة فيفيان لأنها ان اشتبهت بشئ ستكون عواقب محاولتنا وخيمة على الجميع.
وقفت جيسيكا مودعة:
- حسناً سنبقي الأمر سراً بيننا الى اللقاء ياعزيزتي.
بعد يومين تمكنت جيسيكا من الاتصال بالمسؤولة عن دار الايتام والحصول على اذن لميجان لتمضية عطلتها المدرسية بمعيتها في لويزفيل ولم يبق الا ان تتصل بوالدها ليتدبر امر انتقال الطفلة بالقطار من جوهانسبرغ.
سيسير كل شئ على مايرام وستدخل الفرحة الى قلب هذه الفتاة التعيسة وتزرع الأمل من جديد في دار آل اوبريان.
كانت في عيادتها عندما دخل عليها دان ترافورد ليفاجأ بامارات الفرح تعلو وجهها.
- ماهذه البسمة الحلوة التي تزين وجهك؟هل ستطلعينني على السبب ام هي احد اسرارك الدفينة؟
ظلت على كرسيها خلف مكتبها تحدق به مذهولة كعادتها في كل مرة يفاجئها بزيارته.
- نجحت في محاولتي لجلب فتاة يتيمة لتمضية العطلة معي.
- هل كانت احدى مرضاك؟
- تقريباً.
- هذا يثبت صحة كلامي عن تورط الطبيبات عاطفياً مع مرضاهن.
دفعت كرسيها الى الوراء ونهضت محافظة على مسافة كافية بينها وبينه بعد ان تقدم وجلس الى حافة مكتبها:
- انا لااهتم بحالة مرضاي الجسمية فحسب بل بحالتهم النفسية ايضاً ولايسبب لي اعترافي بهذا الاهتمام أي خجل.
- من الطبيعي ان يصدر هذا الكلام عن امرأة.
- لاعجب في ذلك.فأنا امرأة.
اكتشفت انها تسرعت في جوابها فعيناه الشرهتان بدأتا تتفحصانها بوقاحة نجحت مراراً في بعث الاضطراب بجسمها.
- بدأت الاحظ ذلك منذ مدة.
تفوه بعبارته ومضى قبل ان تتمكن من الرد.تركها فريسة احاسيس غريبة مزعجة فراحت توضب اغراضها في الحقيبة بيدين مرتجفتين قبل ان تودع الممرضة هانسن وتعود الى المنزل.
لم تشعر بالارتياح الا بعد ان اتصلت بوالدها في المساء وحصلت منه على وعد بالاهتمام بميجان لاي وحجز مقعد لها في اول قطار قادم الى لويزفيل.
- سنزورك في عطلة الاسبوع ونناقش الأمر معاً بكل تفاصيله سنصل ليل الجمعة ونعود صباح الاثنين.
هتفت جيسيكا فرحة:
- ياله من نبأ رائع يا ابي!
- هل يتسع منزلك لنا؟
- اجل ففي المنزل غرفة للضيوف.
- حسناً هذا سيريح بال والدتك فأنت تعلمين كراهيتها للفنادق.
وسكت الوالد وكأنه ينتظر منها ان تقول شيئاً ولما طال صمتها اردف:
- على كل حال سيكون لنا حديث طويل معك الى اللقاء.
اعادت جيسيكا السماعة الى مكانها ولازمت مقعدها من غير حراك.
كلمات ابيها بعثت في نفسها قلقاً واكتئاباً وستجد صعوبة بالغة في اقناع والديها بانها مرتاحة في عملها هنا ولكنها لن تعدم وسيلة لتحقيق ذلك.
ستمضي بقية النهار هنا للمرة الأولى منذ وقت طويل فتحضّر غداءها ثم تصعد الى غرفتها لتستلقي وتطلع على المجلات المكدسة قرب سريرها.
لكن ما ان اخرجت قطعة اللحم من الثلاجة حتى دخل دان ترافورد غرفة الجلوس من غير استئذان وتوجه مباشرة الى المطبخ قائلاً بجدية:
- اتركي كل شئ واتبعيني انها حالة طارئة.
اعادت اللحم الى مكانه من غير تردد:
- سأجلب حقيبتي.
هتف محافظاً على لهجة الآمر:
- دعيها فلدي كل ماقد نحتاجه.
اطاعته من غير سؤال وأغلقت باب المنزل خلفها لكنها لم تتمكن من لجم فضولها وقتاً اطول فما ان جلست قربه في السيارة حتى سألته بقلق:
- ما الأمر؟ماذاحصل؟
- ليس مهماً ماحدث بل ماذا سيحدث.
اخافتها عبارته فاستوضحت مجدداً بنبرة متقطعة:
- ماذا تقصد بما سيحدث؟
- هلا سكت لأتمكن من الاهتداء الى الطريق الصحيح؟
قاد دان السيارة بأقصى سرعة ممكنة وما ان شارف حدود المدينة حتى انعطف يميناً وسلك طريقاً فرعية تفضي الى منزل قديم قابع على هضبة صغيرة تحيط به مساحات شاسعة من الغابات.
لقيت جيسيكا صعوبة في تحديد موقع المكان بسبب الظلمة وكل ما تمكنت من ملاحظته كان ملعباً لكرة المضرب وحوضاً للسباحة بدا واضحاً ان المنزل قد اعيد ترميمه حديثاً والأنوار المتلألئة في الممر المؤدي الى مدخله لاتوحي بقرب وقوع كارثة.
فتح دان الباب الخشبي الكبير من غير ان يقرع الجرس ووجدت نفسها بعد لحظات في قاعة واسعة تدلت في وسطها ثريا هائلة الحجم انعكست انوارها على البلاط الرخامي.
- اهلاً بك في منزلي ياجيسيكا.
التفتت اليه بعينين جاحظتين وبقيت صامتة لثوان غير قادرة على تقبل الواقع الجديد.ثم سألته ببرودة لتتأكد من صحة ماسمعته:
- اهذا منزلك؟
- اجل.
- هل بامكاني السؤال عن الحالة الطارئة؟
- انك تنظرين اليها فأنا لم اتمكن من تناول العشاء وحيداً الليلة.
اشتعلت عيناها ببريق غاضب وهتفت بمرارة:
- قد خدعتني اذن.
- وهل كنت ستلبين الدعوة من تلقاء نفسك؟
- كلا بكل تأكيد.
- على كل حال انت هنا الآن.
تمنت لو تصفعه لكن يديها المرتجفتين لم تساعداها:
- انت مجنون.
اطلق ضحكة قصيرة معلقاً:
- اعتقد ذلك.
- ارجعني الى منزلي في الحال.
- سأعيدك الى المنزل بعد تناول العشاء.
- اذن سأعود سيراً على الأقدام.
اسرع دان الى الباب يمنعها من الوصول الى المفتاح:
- المسافة طويلة الى منزلك عدا عن ان الطريق محفوفة بالخطر بالنسبة الى فتاة وحيدة.
جاهدت في مقاومة نظراته الوقحة المسلطة عليها بجسارة لم تعهدها من قبل:
- لااحفل بذلك لايحق لك جلبي الى هنا بهذه الوسيلة الخادعة وان كنت ترفض ايصالي الى المنزل فسأقدم...
قاطعها بحدة:
- جيسيكا هل انت خائفة مني؟
اشاحت بوجهها بعيداً عن نظراته الثاقبة.
- لاتكن سخيفاً.
- اذن تناولي العشاء معي.
كادت عزيمتها تخور امام جاذبيته الساحرة لكنها اهملت نداء شعورها رافضة الاستسلام لعاطفتها:
- من حقي ان اختار الشخص الذي امضي معه اوقات فراغي ولم اخترك انت.
- لم اتوقع سماع هذا الكلام منك ياجيسيكا.
- لست بحالة تسمح لي بقول شئ آخر.
رفع وجهها بأحد انامله فارضاً عليها مواجهة عينيه الساخرتين:
- لااطلب منك سوى مشاركتي العشاء وبعدها سأكون رهن اشارتك لأوصلك الى منزلك ساعة تشائين.
لم يسبق ان اقترب منها الى هذا الحد فتسارعت خفقات قلبها وشعرت وكأن الأرض تميد تحتها لكنها تفضل الموت على ان تدعه يدرك حقيقة مشاعرها.
- رفضك مرافقتي الى المنزل لايترك لي الخيار.اليس كذلك؟
سحب يده بلطف عن وجهها مفسحاً لها المجال لالتقاط انفاسها وسار امامها نحو غرفة الجلوس:
- هل تعجبك؟
تفحصت الغرفة بنظرة سريعة غير مكترثة بأثاثها النفيس ثم اجابت:
- ربما.
امسك بيدها يقودها الى وسط الغرفة وعلق مبتسماً:
- سألتك رأيك في الغرفة لأني اسعى لمعرفة الحقيقة ما الذي لايعجبك فيها؟
عاودت النظر الى محتويات الغرفة وأجابت متعمدة السخرية:
- الغرفة بأكملها لاتعجبني فهي تصلح لتصوير مشهد في احد الأفلام الرخيصة.
- وماذا تدري فتاة رصينة مثلك عن امور كهذه؟
- لست طفلة.
- لا،لست طفلة.من المؤسف ان لاتعجبك الغرفة فأنا اجدها مريحة للغاية.اضواؤها خافتة وموسيقاها ناعمة ( وضغط على احد الأزرار فتهادى الى مسمعيها نغم ناعم ) اكثر مايعجبني فيها مقاعدها المريحة جداً.
- مقاعد؟ اية مقاعد؟ اني لاارى سوى اريكتين،وهما بنظري تصلحان لكل شئ الا للجلوس.
- انك تنبهينني الى امور كانت خافية عليّ.
- لست بحاجة الى تنبيه احد فهذه الأمور تدور في خلدك منذ البداية.
التقت عيونهما لثوان احست جيسيكا خلالها بارتعاش لذيذ بالرغم من محاولاتها المستمرة لمقاومة جاذبيته فأردفت بصوت خافت:
- هل دعوتني الى هنا لتغريني؟
- هل تصدقينني ان نفيت ذلك؟
- كلا.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه:
- اذن انت فتاة حكيمة.وهذا احد اسباب اعجابي بك.
- اراك تعترف بذلك.
- لنقل اني احاول ان اكون لائقاً معك وماتبقى عائد اليك وحدك.
- اتعني ان لي ملء الخيار في رفض اقتراحك؟
سكب دان كوبين من العصير ثم تقدم منها قائلاًً:
- قد يصعب عليك تصديق ماسأقوله لكني اؤكد لك انه لم يسبق أن فرضت نفسي على امرأة بالقوة.
- هل تقول هذا لتشعرني بالأمان؟
- قصدت بعبارتي ان اخفف من تشنجك.
قدم لها كوباً من العصير تناولته منه وجلست على الأريكة مسندة ظهرها الى الوسادات الصغيرة المحيطة بها من كل جانب.
جلس دان قربها من غير ان يرفع نظره عنها لحظة واحدة. لاحظت محاولته اغرائها في كل نظرة رمقها بها وفي كل كلمة قالها.لكن مايثير هلعها هو احساسها بأنها بدأت تستجيب رويدأً رويداً لمحاولاته مأخوذة بسحره وجاذبيته.عليها ان تضع حداً لما يحدث قبل فوات الأوان.
نهضت من مقعدها ووضعت كوب العصير على الطاولة هاتفة:
- هذا مستحيل!لااستطيع البقاء هنا.
- ولم لا؟بيتر في المستشفى وهذا يعني ان الليل بأكمله لنا.
- لايسعني قضاء الليل هنا.
- هل تخشين كلام الناس؟
- لاتدع جهلك لمايقوله الناس عنك في هذه البلدة.
- انالاادعي شيئاً لكن اود ان اذكرك انك جئت الى هنا في سيارتي فلم يرنا احد نصل ولن يرانا احد نرحل.عدا عن ان سيارتك امام منزلك وسيظن من يراها انك نائمة.
بقيت على عنادها بالرغم من علمها انه لايجدي مع رجل مثل دان:
- مازلت افضل العودة الى منزلي.
مد ذراعيه يطوق خصرها فأحست بلهيب يسري في انحاء جسمها.ثم دفعها بنعومة الى الوراء فسقطت على الأريكة وجلس قربها يقدم لها كوب العصير مجدداً:
- اشربي العصير ولاتجزعي.مازالت السهرة في بدايتها.
تناولت الكوب بيد مرتعشة محاولة الكلام:
- دكتور ترافورد...
وضع ذراعه على حافة الأريكة خلفها:
- ناديني دان هذه الليلة.
- انك لاتستسلم بسهولة يادان.
- فقط عندما اقع على شئ يستحق العناء.
- اتعني وقوعك عليّ ؟
- اجل.
رشفت بعض العصير لتحرر عينيها من اسر نظراته:
- طلبك غير متوافر عندي.
- وما ادراك ماهو طلبي؟
- مضى على وصولي الى لويزفيل اكثر من شهر وماسمعته وشاهدته يكفي لأعرف مبتغاك.
- انك ولاشك تعنين سيلفيا سامرز.
- اصبت في ظنك ولكن...حياتك الشخصية لاتهمني مادمت مصراً على توريطي فيها.
بحركة مفاجئة انحنى فوقها مطوقاً خصرها بذراعيه يمنعها من الحراك او المقاومة فأحست بلهاثه الدافئ يغمرها بنعومة ويبعث فيها احاسيس لذيذة وغريبة في آن معاً.لكنه اكتفى بالكلام:
- اهذا رأيك بي؟
ارجعت رأسها الى الخلف تحاول التملص من اناملة:
- لم اعتد الاهتمام بالرجل الذي يستغل المرأة من اجل نزوة فحسب.
ابتسم بمكر معلقاً:
- امرأة مثل سيلفيا لاتطالب الرجل بأكثر من ذلك.
- اوافقك الرأي لكن حتى امثال سيلفيا بحاجة للاستقرار والزواج في حياتهن.
- الزواج! وهل سيوفر لي ما لا املكه الآن؟
- اجل سيوفر لك عائلة.الا تريد اطفالاً يادان؟
- عليّ ان اجد الزوجة قبل ان افكر بالأطفال. على كل حال لست مستعداً لأرتبط مع امرأة واحدة طيلة حياتي.
احست بالمرارة من غير ان تدرك السبب فتناولت كوب العصير تطفئ بمحتواه نار الحسرة المتأججة في داخلها.
نظر اليها قائلاً بتململ:
- كيف انجرفنا الى هذا الحديث الآن؟
- لا ادري ولكن من الأفضل ان ننهي المناقشة.
اقترب منها مرة اخرى لكن قرعاً خفيفاً على باب الغرفة منعه من تحقيق مأربه.التفتا ليجدا الخادم الأسود بسترته البيضاء واقفاً عند الباب.
- العشاء جاهز ياسيد دان.
- شكراً ياجوناس.
انتقلا الى غرفة الطعام حيث اعد الخادم المائدة بطريقة مثيرة للاعجاب وقام بخدمتهما خلال العشاء.بدا وكأنه اعتاد يومياً القيام باعداد المائدة وخدمة زوار سيده فأحست جيسيكا بشئ من الغيرة وهي تتساءل عن عدد اللواتي جلسن الى هذه المائدة وربما على كرسيها.
قررت ان تصرف نفسها عن التفكير بما يزعجها فأكملت التهام قطعة اللحم في طبقها بينما بدأ جوناس بتقديم القهوة.نظرت الى دان آخذة المبادرة بالحديث:
- انت جراح ممتاز يادان، فهل فكرت يوماً بالتخصص في جراحة معينة؟
- جراحة الأعصاب تثير اهتمامي وحالما اشعر بالملل في عملي هنا فستكون خطوتي التالية.
- في هذه الحالة عليك بالتحدث الى والدي.
رفع حاجبيه باندهاش وسألها:
- والدك؟
- والدي مختص بجراحة الأعصاب لكنه تقاعد السنة الماضية.
- لماذا لم تخبريني بذلك من قبل؟
- لم ادر ان الموضوع ذو اهمية.
- هل ستسنح لي الفرصة لمقابلة والدك؟
نظرت اليه خلسة لتفاجأ به جاداً للمرة الأولى، فأجابت:
- اجل هذا ممكن.
- حسناً سأعتبر كلامك بمثابة وعد.
عند عودتهما الى غرفة الجلوس اختار دان احد اشرطة التسجيل من مجموعته الهائلة وأدار الآله فانبعث نغم هادئ اضاف الى الغرفة جواً من الشاعرية. ثم استدار نحوها مسلطاً عليها نظراته الساحرة:
- تعالي نرقص ياجيسيكا.
لم تقو على الرفض واستسلمت ليديه تنتشلانها عن الأريكة وتضمانها اليه بخفة ورشاقة. لقد رقصت مع العديد من الشبان لكن الرقص مع دان شئ مميز. امتدت ذراعه تطوق ظهرها باعثة فيها شتى انواع الأحاسيس وبحركة لاشعورية مدت يدها لتستلقي بارتياح على صدره الدافئ شعرت انها تسبح في الفضاء الواسع بعيداً عن كل ماحولها وتمنت لوتبقى هناك الى مالانهاية.
لم تدرك كم من الوقت بقيت بين ذراعيه فالزمن توقف حينما ضمها اليه ولم تعد تكترث بالموسيقى ولا حتى بخطواتها ترغب فقط بالبقاء اسيرة هذا الطوق من العضلات الى الأبد لكن انامله عاودت التحرك من جديد حول عنقها بحركات تبعث على الارتياب فابتعدت عنه غير آبهه بنداء اعماقها.
ابتسم بحنان قائلاً بنبرة عاطفية:
- اني اجد صعوبة بالغة في لجم تصرفاتي معك.
- الاتظن ان الوقت حان لتعيدني الى المنزل؟
- لست جادة فيما تقولين.
لقد فقدت ثقتها بتلك الارادة التي طالما صدته بها فتمتمت:
- بل انا مصرة.
استعادت عيناه بريق السخرية وقال راضخاً:
- حسناً لقد وعدتك بأن اعيدك الى المنزل ساعة تشائين اليس كذلك؟
لم يخرج دان عن صمته خلال عودتهما الى منزل جيسيكا فاحتارت كيف تعلل سكوته. اهو غاضب؟ ام انه لم يعد يكترث بها بعد ان يئس من نيل مأربه؟ نساء عديدات ينتظرن منه اشارة منه ليهبنه مارفضت هي تقديمه.
ما ان توقفت السيارة امام مسكنها حتى همت بالترجل قائلة:
- لن ادعوك للدخول يادان.
لكنه امسكها بكتفيها قبل ان تخرج:
- سأدخل على كل حال.
وتبعها الى داخل المنزل وأغلق الباب خلفهما.
صاحت بحنق وهي تضئ غرفة الجلوس:
- لقد تماديت بما فيه الكفاية.
رمى المفاتيح على الطاولة مومئاً برأسه:
- بربك ياجيسيكا لماذا تتصرفين هكذا؟
لم تكترث لنظرة التهديد في عينيه وابتعدت عنه متجهه الى المطبخ:
- سأحضر لك فنجاناً من القهوة ومن ثم تعود الى منزلك.
اشعلت النار تحت غلاية القهوة لكنه اسرع الى اطفائها حابساً اياها بين جسمه والفرن الحديدي.
فاستدارت تحاول الافلات لكنها لم تفلح وماتت الكلمات عند شفتيها.بدا الفارق بين القامتين كبيراً وأحست بانها امام مارد بمنكبيه العريضين يحجبان الضوء عنها. دب الهلع في نفسها واحتارت كيف تتخلص من مأزق خطير سعت اليه بملء ارادتها. وقبل ان تكتشف مايدور في خلده رفعها عن الأرض حتى التقت عيناها الجاحظتان بريق عينيه فراحت تنتفض كالعصفور بين يديه ويداها هائمتان في الهواء في حركات هستيرية من غير ان تصيب هدفها:
- انزلني على الفور.
- طوقي عنقي بذراعيك.
كانت تعلم انه لن يفعل ماتطلبه منه أو يأبه باعتراضها وعيناه المسلطتان عليها خير دليل على ذلك.تمنت ان تصفعه لكنها خشيت العاقبة فصاحت بصوت مضطرب:
- لن افعل ذلك ابداً.
اضحكه اضطرابها فرد بسخرية:
- وزنك خفيف للغاية ياجيسيكا وأنا على استعداد للبقاء بهذا الوضع حتى تنفذي ما اطلبه منك.
- انت رجل بغيض يادان ترافورد.
- وأنت امرأة رائعة عندما تغضبين.
لم يترك لها الخيارفاضطرت مكرهة لأن تنفذ طلبه.
قالت وقد علا الاحمراروجهها:
- والآن افلتني حالاً.
هز دان رأسه وقال بنبرة حازمة:
- يجب ان تعانقيني بطريقة صحيحة اولاً.
كادت ان تيأس من ريائه وقررت مجاراته في جنونه الى النهاية مادامت هذه الطريقة الوحيدة للتخلص منه.اغمضت عينيها الثائرتين فانتهز الفرصة وعانقها بطريقة ناعمة اثارت اعصابها مشعلة فيها ناراً مستعرة.كان بامكانها ابعاده لكنها لم تفعل فقد شل فيها كل اثر للمقاومة فاستسلمت بعد طول عناد.
تراجع دان متمتماً بتهكم:
- كانت تجربة ناجحة اليس كذلك؟
توقع ان تثير نبرته الساخرة غضبها من جديد لكنها بدلاً من ان تثور مدت يدها الى رأسه تداعب شعره الداكن بأناملها مما شجعه اثار فيها زوبعة من الأحاسيس الممتعة لم تفطن اليها في السابق افلتها من غير ان يطلق سراحها من براثن نظراته اللامعه والغريبة وقبل ان تلتقط انفاسها وجدت نفسها مرة اخرى اسيرة ذراعه الفولاذية واستسلمت لتلك العاصفة القادمة غير مكترثة. تغلب نداء الشوق على تحذير العقل لها بالتوقف والمقاومة فلمسات انامله شلت فيها كل قوة تعلم انها ستندم غداً على ماتفعله الآن وستكره نفسها كلما فكرت به لكنها في هذه اللحظة ملكه وملك هذا الاحساس الرائع والكلمات الدافئة التي يهمسها في اذنها:
- اريدك لي ...اريدك الآن،الآن.

nightmare 03-10-08 06:58 AM

اثارت عبارته ريبتها وكأنه سكب ماء بارداً فوق عواطفها الملتهبة فانتفضت مفلتة نفسها من ذراعه واغمضت عينيها تخفي حياء وألماً لاحا فيهما:
- ابهذه البساطة؟
صدته بيديها وأدارت له ظهرها.
- انا آسفة يادان لست مستعدة لهذا النوع من العلاقة.
وأردفت بعدما استرجعت بعضاً من ثقتها بنفسها.
- لن يكون للحب مكان في علاقات كهذه وستكون النتيجة وخيمة عليّ.
- هل انت متأكدة من النتيجة؟
- اني اعرف نفسي يادان.
تقدم منها فتوردت وجنتاها وحاولت الابتعاد لكنه امسك بخصلات من شعرها وأجبرها على الاستدارة لتواجه عينيه:
- لا ادري ما افعل بك ياجيسيكا.
- الغ اسمي عن لائحة فتوحاتك وأبحث لنفسك عن امرأة اخرى مثل سيلفيا سامرز.
انقلبت نظراته الساخرة الى اخرى تقدح شرراً تركت آثارها على وجهها شحوباً وارتجافاً.
- عمت مساءً ياجيسيكا.
الفصل السادس

6- حبها له ضرب من المستحيل . فهو ليس الرجل الذي تنشده . لكن لماذا يؤلمها التفكير بأنه مع امرأة أخرى ... الى هذا الحد ؟

وصل جوناثان واميليا نيل الى لويزفيل بعد ظهر نهار الجمعة وانتقلا على الفور الى دار آل اوبريان ملبين دعوة للعشاء بعدما اتفقا مع جيسيكا على موافاتهما بعد انتهائها من عملها.
فوجئت الأبنة عند دخولها منزل فيفيان بجو المودة والألفة المخيم على المجتمعين وكأنهم على معرفة سابقة.
بدا والداها مسرورين جداً في التحدث الى مضيفتهما مأخوذين بسحرها وحسن ضيافتها ولم يطل الأمر حتى انضم اليهم بيتر فجلسوا الى مائدة حفلت بكل ماتعلمت فيفيان تحضيره من مأكولات يتبادلون الأحاديث ويتناقشون في أمور الطب.
ادركت جيسيكا خلال السهرة ان والديها باتا مقتنعين تماماً بصواب انتقالها الى لويزفيل فلم يتطرقا الى الموضوع أبداً.
وعند عودتهم الى المنزل اعترف الوالدان لجيسيكا بأنهما اساءا الظن بلويزفيل بعد ماسمعاه من الدكتور اوبريان وماشاهداه خلال مرورهما فيها.
في الصباح التالي اصطحب بيتر ضيفه في جولة الى المستشفى تاركين اميليا تستمع الى ابنتها تحدثها عن عملها وطريقة عيشها في لويزفيل.
- اني بخير يا أماه فلاتقلقي عليّ.
- هل تهتمين بأكلك؟
ضحكت الأبنة وقالت مطمئنة:
- بدأت اتعلم الطهي عدا عن ان فيفيان تحيطني برعايتها كم من مرة عدت فيها متأخرة لأجدها قد حضرت لي العشاء.
- انها سيدة رائعة.
- الجميع هنا لطفاء معي وأنا مسرورة بالعمل.
لم تسنح الفرصة لجيسيكا للتحدث الى والدها على انفراد حتى بعد ظهر اليوم التالي.
جلسا في غرفة الجلوس بينما تمددت اميليا في غرفتها يحدثها باعجاب عن المستشفى وعن جولته في ارجائها:
- اعترف ياجيسيكا بأني اعجبت كثيراً بالدكتور اوبريان.لم اعرف شيئاً بعد عن شريكه.
فوجئت جيسيكا بعبارة ابيها واحتارت كيف تخفي انفعالها مجيبة بتلعثم:
- دان ترافورد؟ آه، انه ... انه طبيب لامع وجراح ماهر ويبدي اهتماماً بجراحة الأعصاب.
توقف جوناثان عن مراقبة الدخان المتصاعد من غليونه والتفت اليها سائلاً باهتمام:
- أصحيح؟ هل ستتسنى لي مقابلته؟
- استبعد ذلك فهو ... ( لاحظت علامات الخيبة على وجه والدها فاستدركت) هل اتصل به وادعوه لتناول فنجان من الشاي؟
رحب جوناثان باقتراح ابنته هاتفاً:
- ولم لا؟
من حسن حظها انها نقلت الهاتف من غرفة الجلوس فلم ير والدها ارتجاف يدها وهي تدير قرص الهاتف في غرفة نومها. تهادى الى مسمعها صوت انثوي هادئ النبرات فأحست بقشعريرة تسري في جسمها وسألت:
- أهذا منزل الدكتور ترافورد؟
- أجل لكنه في اجازة عطلة الأسبوع بامكانك الاتصال بشريكه الدكتور اوبريان.
قطع الخط قبل ان تسنح الفرصة لجيسيكا للاستيضاح فاعادت السماعة الى مكانها وعادت ادراجها الى غرفة الجلوس بعينين تائهتين يعتصرهما الألم.بادر جوناثان بالسؤال:
- هل سيأتي؟
تهادت على مقعدها شاردة الذهن وتمتمت:
- لا اعتقد ذلك فهو ... مرتبط بموعد آخر.
علق الأب بخيبة:
- أمر مؤسف ( وحدج ابنته بنظرة ثاقبة متابعاً ) أراك شاحبة الوجه ياجيسيكا هل تشعرين بشئ؟
تعمدت الابتسام قائلة:
- مجرد ألم خفيف في المعدة. سأهيئ الشاي قبل ان تستيقظ أمي.
ما ان انفردت بنفسها في المطبخ حتى راحت تؤنب ذاتها على بلاهتها وتهورها في علاقتها مع دان.كيف تركت نفسها تتورط مع شخص عرفت غايته منها منذ البداية؟ لم تعد تدرك حقيقة شعورها نحوه. هل تحبه ام لا؟ واقتنعت في نهاية الأمر بأن حبها له ضرب من المستحيل فهو ليس الرجل الذي تنشده ... لكن لماذا التفكير بأنه مع امرأة أخرى يؤلمها الى هذا الحد؟ أهي الغيرة التي تحز في نفسها أم اشمئزازها من تصرفاته؟
انقضت عطلة الأسبوع بسرعة ولم تلتق جيسيكا الدكتور ترافورد الا مساء الاثنين في العيادة حيث اضطرت لانتظار بيتر الى حين عودته من المستشفى للتباحث في حالة أحد المرضى.كانا يتكلمان عن والديها حين دخل عليهما دان باناقته المعهودة.
بادره بيتر وهو يهم بالخروج:
- من المؤسف انك لم تقابل والدي جيسيكا في عطلة الأسبوع فجوناثان نيل واحد من أشهر الاطباء الذين صادفتهم.كنت ولاشك ستسر بمعلوماته عن جراحة الاعصاب التي تعطيها الكثير من اهتمامك.
بقي دان صامتاً الى ان أغلق بيتر الباب خلفه،فسأل ببرودة:
- لماذا لم تعلميني بقدوم والديك؟
نهضت جيسيكا عن مقعدها واضعة يديها في جيبتي سترتها مخافة ان يلاحظ ارتجافهما وسارت الى النافذة تنظر الى الخارج:
- اتصلت بك بعد ظهر السبت لادعوك لتناول الشاي لكني اكتشفت انك كنت مشغولاً جداً.
تقدم منها مجيباً بنبرة هادئة لا أثر فيها للاعتذار أو للأسف:
- آه، سيلفيا. أهي التي تلقت المخابرة؟
- اعتقد ذلك، مالم تكن قد امضيت عطلتك مع أكثر من امرأة.
- كلمة منك ياجيسيكا وتصبح سيلفيا سامرز صفحة من الماضي.
استدارت تواجهه قائلة بسخرية:
- اتساءل متى ستعاود قول هذه العبارة الى فتاة أخرى؟
- جيسيكا! لم أتمن امرأة قبلك كم أتمناك انت.
- يفترض ان اشعر بالاطراء لكني أحس العكس تماماً. وان اردت معرفة حقيقة شعوري الآن فيمكنني اختصارها بكلمة حقارة.
شحب وجهه فجأة وامسك بمرفقيها يهزها بعنف:
- يا الهي. اراهنك على انك كاذبة في حقيقة شعورك، فانت لم تشعري بالحقارة تلك الليلة.ماأحسست به ساعتها كان عاطفة جامحة لاتخفى على احد. لاتحاولي التلاعب معي ياجيسيكا نيل والا اثبت لك الآن وفي عيادتك كم انت كاذبة.
- انك ... انك تؤلمني.
- احمدي ربك على ان يدي ليستا حول عنقك لأني مافكرت يوماً بازهاق روح انسان كما افكر الآن.
افلتها فتراجعت الى النافذة تدفن وجهها في راحتيها بينما غادر الغرفة مغلقاً الباب خلفه بقوة جعلتها تهتز في مكانها لقد خرج من حياتها مخلفاً فيها جرحاً يصعب على الأيام مداواته.
كان شعورها في محله،فخلال الأسابيع التي تلت عاملها دان كأي شخص غريب.افتقدت ملاحظاته الجارحة لها افتقدت هزءه المعتاد لم تعد تلاحظ ابتسامته الساخرة بل وجه عابس يلعب دور رب العمل انها تحبه كما لم تحب انساناً في حياتها.وتشعر بهذا الحب يضج في اعماقها ويهدر في عروقها.لكنها تأخرت في الاعتراف بهذا المارد السجين في فؤادها ولم يعد بامكانها الافصاح عن حبها لانسان لاقيمة للحب عنده.
منتديات ليلاس
كانت جيسيكا عائدة من زيارة احد مرضاها في احدى المزارع المجاورة فعرجت على منزل اوليفيا للاطمئنان عليها وعلى الطفل فقد شعرت اليوم بحاجة الى محادثة شخص يفهمها ويساعدها فلم تجد أفضل من هذه الصديقة الوفية التي طالما اعجبت بآرائها وعملت بنصائحها.
جلستا على الشرفة تتناولان الشاي بينما غط لوغان في نوم عميق في سريره الصغير بالقرب من والدته.لم تخل لقاءاتهما في المدة الأخيرة من الحديث عن الطفلة القادمة الى لويزفيل فسألت اوليفيا ضيفتها بحماس:
- متى تتوقعين وصول ميجان؟
- ستصل غداً صباحاً في أول قطار قادم من جوهانسبرغ.
- هل اخبرت فيفيان بذلك؟
- اكتفيت باعلامها بقدوم الطفلة لتمضية بعض الوقت معي وسألتها السماح لها باللعب في الحديقة خلال عملي في العيادة.
- ماذا كان جوابها؟
- تعرفين فيفيان لم تبد أي اعتراض بل رحبت بالفكرة واعدة باحاطة الطفلة بعنايتها طوال النهار اذا اضطررت للتغيب عن الغداء.
- ارجو ان تنجح الخطة.
- هذا ما اتمناه أيضاً.
كانت تعلم انها عملية رهان لا اكثر من غير ضمانات اكيدة لنجاحها.
أمضت جيسيكا ليلتها تصارع الارق تتساءل ان كان تصرفها صائباً في تدبر اللقاء بين فيفيان وميجان؟فقد لاتتفقان معاً وتضيع فيفيان على نفسها وعلى الطفلة فرصة نادرة.
أو قد تسير الأمور على مايرام وتتحابان ولكن هل يبقى دورها خافياً على الاثنين فتتفادى احراجاً هي بغنى عنه؟
اقتنعت بعد ان غلب الكرى اجفانها بالكف عن تساؤلاتها فالعملية كلها مجرد تجربة وان فشلت فلن تلحق الاذى بأحد.
استيقظت قبيل الفجر على غير عادة فارتدت ثيابها على عجل وتوجهت الى محطة القطار تنتظر وصول ميجان.
اجاب موظف المحطة على تساؤلاتها القلقة وهي تذرع الرصيف بخطى سريعة:
- سيصل القطار بين دقيقة وأخرى يادكتورة نيل.
ولم تمض دقائق حتى شاهدت دخان القطار وهو يقترب من المحطة.
وقبل ان يشارف على التوقف أطلت الطفلة برأسها من احدى النوافذ تلوح بيدها لجيسيكا هاتفة:
- دكتورة جيسيكا ، دكتورة جيسيكا.
وماهي الالحظات حتى كانت ميجان ترتمي في حضن جيسيكا بقوة كادت ان توقعها لكنها نجحت في استعادة توازنها وطوقت ميجان بذراعيها.
- يسرني ان اراك ثانية ياميجان.كيف حالك ياصغيرتي؟
- اشتقت اليك يادكتورة.
- وأنا أيضاً ( وحملت الحقيبة الصغيرة متابعة ) لنذهب الآن سنتكلم في الطريق فأنا متشوقة لأريك منزلي.
لم تكف ميجان عن الكلام طوال الطريق فاخبرت جيسيكا كيف رافقها جوناثان نيل من الميتم في سيارته الفخمة محملة بقطع الحلوى التي ارسلتها اميليا لها وحكت لها عن الرحلة الممتعة في القطار من جوهانسبرغ الى هنا اصغت اليها جيسيكا بحنان من غير ان تقاطعها لم تعهدها بهذا الحماس الى الكلام والضحك فقد عرفتها كئيبة لايعرف وجهها الابتسامة.
انهمكت جيسيكا فور وصولهما الى المنزل بتحضير الفطور بينما راحت ميجان تتحرى المنزل غرفة بعد الاخرى.
لاحظت جيسيكا عند جلوسهما الى المائدة شهية الطفلة الهائلة الى الأكل فسألتها بتودد:
- ألم تأكلي شيئاً في القطار؟
- بلى لكني لم أذق البيض منذ فترة طويلة فالمسؤولون عن الميتم لايقدمونه الا في المناسبات الخاصة.
دفعت بطبق البيض أمام الطفلة من غير ان تسألها عن ماهية المناسبات الخاصة وراحت تراقبها تلتهم البيضة تلو الاخرى بشهية غير معقولة.
ما ان انهت جيسيكا غسل الصحون حتى سمعت طرقاً على باب المنزل وصوت فيفيان سائلة:
- هل بامكاني الدخول؟
- بالطبع فيفيان نحن في المطبخ.
وضعت الزائرة طبقاً من الحاوى على الطاولة قائلة:
- حضرت بعض الحلوى مساء البارحة ( واردفت الى ميجان ) فقد تودين تناولها مع الشاي.
- شكراً يافيفيان ( وربتت على كتف الطفلة متابعة) ميجان انها السيدة اوبريان وزوجها طبيب ايضاً.
مدت الصغيرة يدها مصافحة:
- مرحباً ياسيدة اوبريان.
امسكت فيفيان بيد ميجان بحرارة وقالت مبتسمة:
- يسرني التعرف عليك ياميجان وارجوك ناديني العمة فيفيان ( والتفتت نحو جيسيكا تسألها ) هل لديك عمل بعد ظهر اليوم؟
تنهدت جيسيكا مجيبة:
- أجل يافيفيان.
- سأزور اوليفيا اليوم وبامكاني اخذ ميجان معي لتتعرف على فرانسين.لاشك في انها ستجد سلوى في المزرعة.
سألت الطفلة بحماس:
- هل تملكين مزرعة ياعمة فيفيان؟
- انها مزرعة أخي ولديه ابنة تدعى فرانسين تكبرك بثلاث سنوات لكني متأكدة من انها ستسر بلقائك ستتجولان في المزرعة وتمضيان وقتاً ممتعاً هل تودين مرافقتي؟
رفعت ميجان عينيها الزرقاوين نحو جيسيكا تسألها بتهذيب:
- هل استطيع الذهاب يادكتورة جيسيكا؟
- طبعاً ياحلوتي.
- حسناً سأمر لاصطحبك بعد الغداء مباشرة.
تنفست جيسيكا الصعداء بعد خروج فيفيان كانت قلقة للغاية من نتيجة محادثة ميجان مع جارتها فالمرحلة الأكثر صعوبة تكمن عند التعارف.
راقبت الطفلة فيفيان تعود ادراجها في الممر الحجري وسط الحديقة وقالت:
- انها سيدة لطيفة.
- اجل انها لطيفة للغاية.تعالي نرتب اغراضك.
افرغت جيسيكا حقيبة ميجان الصغيرة من محتوياتها البسيطة وراحت تستعرض الملابس القليلة الموضوعة فيها بغير ترتيب انها كل ماتملكه ميجان في هذه الدنيا اضافة الى فرشاة اسنان واخرى للشعر ومنشفة.
- أظن اننا بحاجة لساعتين من التسوق.انت بحاجة لفساتين جديدة وبعض القمصان والسراويل لترتدينها اثناء اللعب.
- هل ستبتاعين لي ثياباً جديدة؟
- أجل فلنقفل باب المنزل ونبدأ جولتنا بين أسواق لويزفيل.
ولم تتركا محلاً الا ودخلتاه أو توقفتا امام واجهاته تستعرضان الثياب وتتفرجان على آخر ما ابتكرته مقصات الخياطين وأذواق المصممين.
عثرتا في نهاية المطاف على محل لألبسة الاطفال لتخرجا بعد قليل محملتين بالاكياس والعلب حملت ميجان قسماً منها هاتفة:
- قضينا وقتاً ممتعاً أليس كذلك؟
- لديك الآن مايكفيك هل نسينا شيئاً آخر؟
- ابداً لم احصل على هذه الكمية من الهدايا منذ وقت طويل شكراً يادكتورة جيسيكا.
علت قحة مصطنعة خلفهما مباشرةً فاستدارت جيسيكا لتجد نفسها وجهاً لوجه مع دان ترافورد يلقي التحية:
- صباح الخير.
لو لم تكن تعلم انه مستحيل طبياً لأقسمت على ان قلبها قد انتقل من مكانه من شدة خفقاته.
- صباح الخير يادكتور.
قدم نفسه الى ميجان مبتسماً:
- أنا دان ترافورد.ما اسمك؟
حدجته الصغيرة بنظرة خجولة واجابت:
- ميجان لاي. هل انت طبيب أيضاً؟
- نعم هل يزعجك ذلك؟
- طبعاً لا( والتفتت نحو جيسيكا قبل ان تعاود السؤال ) هل انت صديق الدكتورة جيسيكا؟
لاحظ دان ارتباك جيسيكا وتورد وجنتيها فاجاب غامزاً بعينيه لميجان:
- لا تهتمي لتعابير وجه جيسيكا انها تحبني لكنها تريد ابقاء الأمر سراً ( وتعمد تغيير الموضوع مثيراً دهشة جيسيكا) هل ترغبين بتناول البوظة؟
وافقت ميجان بسرور:
- اجل.
ساعدهما في حمل الاغراض وساروا معاً نحو كافتيريا قريبة.
- يبدو انكما اشتريتما اغراضاً كثيرة اليوم.
اجابت ميجان باعتزاز:
- اشترت لي الدكتورة جيسيكا مجموعة كبيرة من الثياب.
رمق جيسيكا الصامتة بنظرة سافرة وهم يدخلون القاعة المبردة:
- لاعجب في ذلك فهي صاحبة ذوق رفيع.
هتفت الصغيرة مشيرة باصبعها الى احدى الزوايا:
- هناك طاولة شاغرة.
- اسرعي اليها ياميجان ( وتطلع الى جيسيكا مردفاً ) تفضلي يادكتورة نيل.
تقدمت جيسيكا بصمت وما ان جلسوا الى الطاولة حتى سألها دان بتهكم:
- ماذا تطلبين ياجيسيكا بوظة مثل ميجان؟
تعلم انه يسعى لاثارة غيظها فحافظت على هدوئها واجابت:
- سأتناول فنجاناً من الشاي شكراً.
نادى دان الخادم باشارة من يده وطلب:
- نريد صحناً كبيراً من البوظة للسيدة الصغيرة وفنجانين من الشاي شكراً.
ولما ابتعد الخادم نظر الى ميجان مردفاً:
- هل ستمضين اجازتك مع الدكتورة جيسيكا؟
- أجل فقد سبق للدكتورة ان وعدتني باحضاري الى هنا لتمضية العطلة وكعادتها فقد وفت بوعدها لي.
- عظيم! انه وعد يستحق الوفاء حقاً.
- هل انت طبيب ناجح مثل الدكتورة جيسيكا؟
توردت وجنتا جيسيكا من جديد وهي تستمع بانزعاج الى الحوار الدائر امامها.
- اتمنى ذلك.مارأيك ياجيسيكا؟
ابتسمت مجيبة بدهاء:
- وهل لاحد ان يتناقش في مقدرة جهاز كومبيوتر على تقديم معلومات صحيحة؟
جهلها خلفيات الحديث لم يسمح لميجان بان تدرك حقيقة ماقصدته جيسيكا في كلامها لكنها لاحظت نبرة العداء الواضحة في كلماتها فنظرت بذهول الى الاثنين تحاول اكتشاف حقيقة مايجري.
لم تغب حركتها عن انتباه دان فبادر الى ايضاح الأمر لها:
- ماعنته الدكتورة جيسيكا هو اني طبيب لامع ان لم أقل أفضل منها.
ونظر الى غريمته بتحد مردفاً:
- هذا ماعنيتيه في كلامك أليس كذلك؟
ترددت جيسيكا في الاجابة لكنها ما ان لاحظت نظرات ميجان الحائرة وانتظارها للرد حتى تنهدت مبتسمة رغماً عنها:
- وهل يمكن ان أعني غير ذلك؟
لم يشكرها على جوابها بل اكتفى بالابتسام وهو يتناول اقداح الشاي من الخادم فوجئت جيسيكا خلال جلستهم بتعلق دان بالاطفال حتى ميجان ارتاحت له وتخلصت من الحياء الذي قيد حركتها في لقائها الآخرين.بامكانه ان يكون لطيفاً حينما يشاء لكن لطافته مع ميجان تختلف تماماً عن اللطافة التي أبداها نحوها في الماضي لم تتصور ابداً ان شخصاً كدان ترافورد يبدي اهتماماً بالاطفال الا في مايتعلق بمهنته وتساءلت ان كانت قد تسرعت في الحكم عليه من خلال ماسمعته من أقاويل واخبار؟لكن الوقائع كلها ضده وعلاقته بسيلفيا سامرز تمنعها من مراجعة حساباتها وطرد الاوهام من مخيلتها.
رافقهما دان الى حيث اوقفت جيسيكا السيارة وتقدم من الصغيرة قائلاً بحنان صادق:
- سررت بمعرفتك ياميجان.
- شكراً يادكتور دان على البوظة.
وضعت جيسيكا الاغراض في السيارة واجلست ميجان في المقعد الامامي ثم تقدمت من دان مخاطبة:
- اشكرك على تصرفك اللطيف مع ميجان.
- بامكاني ان أكون أكثر لطافة لوحاولت ان تكتشفي ذلك.
احتارت كيف تفسر شعورها نحوه في هذه اللحظة ونظرت اليه قائلة بصوت عال:
- لن نشغلك اكثر شكراً على الدعوة.
انحنى امامها قائلاً بسخريته المعهودة:
- هذا من دواعي سروري.
ما ان ابتعدت بسيارتها مسافة قصيرة حتى نظرت بالمرآة لتجده واقفاً حيث تركاه ومالبث ان لوح بيده مودعاً وكأنه أحس بنظراتها فتوردت وجنتاها وضاعفت من سرعة السيارة كي تتخلص من تأثيره عليها.
قالت ميجان وهما تهمان بدخول المنزل حاملتين العلب والاكياس:
- ألم يعجبك الدكتور ترافورد كما اعجبني؟
- بلى أظن ذلك.
سألتها الطفلة بفضول:
- اذن لماذا بدوت غاضبة عند بداية حديثنا معه؟
- لم أكن غاضبة بل فوجئت بقدومه.
لم تشأ جيسيكا الاسترسال في هذا الاستجواب المحرج فطلبت من الصغيرة ان تبادر الى ترتيب حاجياتها الجديدة في الخزانة الخشبية الصغيرة في غرفتها.
وقفت جيسيكا تراقب فيفيان والصغيرة تبتعدان في السيارة في طريقهما الى مزرعة آل كينغ كل شئ يسيرعلى مايرام حتى الآن ومن المؤكد ان خطتها ستنجح كما توقعت لها.
مضى الوقت بطيئاً بعد الظهر واضطرت جيسيكا لمغادرة المنزل مرة واحدة حينما استدعيت على عجل للكشف على احد مرضاها في الجوار.
قضيت معظم وقتها في التفكير بما يجري الآن في المزرعة تنتظر بقلق عودة ميجان.
رن الهاتف في غرفة الجلوس فرفعت السماعة لتسمع صوت اوليفيا بوضوح:
- جيسيكا؟ لقد غادرتا المزرعة الآن وأظنك ترغبين بمعرفة كيف تصرفت فيفيان. اطمئني ياعزيزتي بدت أماً حقيقية. وفرانسين أيضاً أحبت الصغيرة. اعتقد ان خطتك قد نجحت.
- هذا ماتمنيته منذ البداية فميجان طفلة لطيفة.
- انها اكثر من لطيفة واذا لم تقرر فيفيان شيئاً حيالها فأنا على استعداد لتبنيها.
- انت رقيقة القلب يااوليفيا.
- انت تفوقين الجميع رقة ولطافة.سأراك لاحقاً.
انهمكت جيسيكا بالعمل في الأيام التالية فبقيت ميجان بمعية السيدة اوبريان طوال فترة غيابها عن المنزل. حتى ان فيفيان أصرت على ان تنام الصغيرة معها عندما تضطر جيسيكا للعمل ليلاً. فمانعت جيسيكا في بادئ الامر حتى لاتثير شكوك فيفيان لكنها وافقت في النهاية امام حماس ميجان وتعلقها الشديد بالدكتور اوبريان وزوجته.
بعد مرور أسبوع على وجود ميجان في لويزفيل توجهت جيسيكا برفقة دان الى مستوصف خارج المدينة دأب على زيارته شهرياً. وفي الطريق خارج لويزفيل اخبرها دان باقتضاب عن المستوصف وعن أهل القرية المحيطة به.
- الحالات المرضية كثيرة هناك بالرغم من الطقس الجميل والهواء المنعش النقي.
كان المستوصف يعج بالمرضى فباشر دان عمله بالاهتمام بالرجال منهم بينما تولت جيسيكا الكشف على النساء والاطفال. بدت في قمة السعادة وهي تزور للمرة الاولى مستوصفاً وبقيت في عملها حتى مابعد الظهر عندما غادرا القرية عائدين الى لويزفيل سالكين هذه المرة الطريق الزراعية بين اشجار الصنوبر وغابات القصب. تمددت جيسيكا منهوكة في مقعدها لكن فرحة لخوضها تجربة جديدة في عملها. بعد دقائق وصلا الى الطريق الرئيسية المارة في سفح الجبل فسلكا درباً شديد الانحدار تتخلله منعطفات قاسية.
وعند احد المنعطفات فوجئ دان بجمهرة من الناس متحلقين حول شاحنة لنقل الماشية يتراكضون في ذعر وفوضى.
فاضطر الى الضغط على مكابحه بكل ماأوتي من قوة وأوقف السيارة الى جانب الطريق وترجل من السيارة هاتفاً:
- جيسيكا استيقظي. اظنه حادث اصطدام.
استقرت الشاحنة عند حافة المنحدر بعدما حطمت أوتاد الأمان المنصوبة على جانبي الطريق مقدمتها تتأرجح في ذلك الفراغ الرهيب بينما الدواليب الخلفية مازالت عالقة بأعجوبة بعدد من الاوتاد وبعض الحجارة.
صاح رجل من بين الفضوليين:
- أنا سعيد برؤيتك يادكتور ترافورد هذا الرجل بحاجة لمساعدة ( وأشار بيده الى رجل جالس في الجانب الآخر للطريق واضعاً يديه فوق رأسه ثم اردف ) لقد استطاع ان يقفز من الشاحنة قبل ارتطامها اما السائق فمازال في مقصورة القيادة ولاندري أحي ام لا.
اصدر دان اوامره بسرعة:
- اتجه فوراً الى المستوصف القريب واخبرهم بما حدث واطلب منهم ان يجلبوا رافعة أو أي شئ آخر لسحب هذه الشاحنة بعدها اتصل بالمستشفى في لويزفيل ليرسلوا لنا سيارة اسعاف حالاً.
- سأذهب بأقصى سرعة.
توجهت جيسيكا الى حيث جلس المصاب حاملة حقيبتها الطبية وباشرت بالاسعافات الأولية.
ثم استدارت نحو دان وهو يراقب عملها قائلة:
- لقد اصيب برضوض مختلفة وبتمزق في عضل يده وحالته لاتدعو للقلق. ماذا بشأن الرجل في الشاحنة؟
- ليتني أعلم مدى اصابته. فنحن عاجزان عن القيام بشئ قبل سحب الشاحنة.
فكت جيسيكا المنديل من حول عنقها وتناولت من حقيبتها قطعاً من القطن لفتها ثم احكمت ربطه وقالت بهدوء:
- لاأظن ان الوضع يتحمل الانتظار.
صاح دان بحدة وهو يراقبها تربط المنديل حول خصرها:
- ماذا ستفعلين؟
- سأتسلق سطح الشاحنه في محاولة للوصول الى مقصورة القيادة ( وأردفت بجدية بالغة ) دان يجب ان أصل الى السائق قبل فوات الأوان.
- هل جننت؟ قد تنزلق هذه الشاحنة في أية لحظة.
- على احدنا ان يصل اليه يادان. سأحاول أنا أولاً.
صاح مزمجراً من شدة غضبه:
- عليّ اللعنة ان تركتك تقومين بهذا العمل المجنون.
لم يؤثر صياحه فيها وبقيت على عنادها:
- بحق السماء يادان لاتؤخرني. ان لم يكن قد مات هذا المسكين فانه ولاشك يحتضر.
- لن تخاطري بحياتك ياجيسيكا.
- أفضل ان اخاطر بها لانقاذ حياة انسان بدلاً من أن اقف مكتوفة اليدين.
تدخل أحد الرجال كان يسترق السمع اليهما مقاطعاً:
- لدي حبل في السيارة نستطيع ان نربط به مؤخرة الشاحنة بجذع احدى الاشجار في الجانب الآخر من الطريق.بعضنا يتوزع على الطريق لتحذير السيارات القادمة والبعض الآخر يقوم بملء صندوق الشاحنة بعدد من الاحجار لتتوازن مع ثقل السيدة.
نظر دان الى الرجل شزراً وهتف:
- اسمع ياهذا...
قاطعته جيسيكا بسرعة:
- اعجبني اقتراحك ولكن اسرع بالتنفيذ.
بادر الرجل فوراً الى توزيع المهام على بقية الرجال. ثم اومأ الى جيسيكا للصعود الى الشاحنة وما ان همت بذلك حتى استوقفها دان قائلاً:
- أتدركين خطورة ماتفعلين؟
- أجل أدرك ذلك.
- انت تخاطرين بحياتك لأجل شخص قد يكون ميتاً.
- أعلم هذا لكن علي ان اتأكد. هذه الشاحنة تتأرجح بين الموت والحياة ولن تتحمل ثقل وزنك.
- هذا صحيح انما...
- هلا ساعدتني فالوقت ليس في صالحنا.
- أرجوك، احترسي!

nightmare 03-10-08 07:00 AM

دفعها من الوراء برفق حتى طالت يدها الزاوية الحديدية للصندوق، فتأرجحت الشاحنة تحت ثقلها محدثة صوتاً مخيفاً دفع دان إلى الصراخ لجلب المزيد من الأحجار لاعادة التوازن.
مرت الثواني ثقيلة احسها دان دهوراً، راحت جيسيكا خلالها تسير على مهل و بحذر في الصندوق الضخم باتجاه مقصورة القيادة. العرق يتصبب منها غزيراً، و شعرت بخوف لم تحسه من قبل. لكنها لن تتراجع أبداً عن محاولة الوصول إلى السائق، و لو سيكلفها ذلك حياتها. لم تأبه برائحة رذاذ الماشية المنبعثة من زوايا الشاحنة فقد كانت مشغولة بقطع تلك المسافة القصيرة و الخطيرة في آن معاً. أمتار قليلة تفصلها عن السقوط إلى قعر الوادي السحيق.
وصلت بعد جهد إلى مكان السائق حيث المرحلة الاصعب في محاولتها الخطيرة. فتسلقت سور الصندوق ووقفت على حافته لتجد نفسها في الهواء تنظر إلى الهاوية، و دواليب الشاحنة الأمامية ما زالت في دورانها محدثة صوتاً رهيباً.
منتديات ليلاس
احست بدوار مفاجئ و بجفاف شديد في حلقها، فالمناطق المرتفعة تشكل احدى نقاط ضعفها.
أما الآن فلا مجال للتراجع فالأمر يتعلق بحياة انسان، فاحكمت قبضتها على حديدة ناتئة في مقدمة صندوق الشاحنة واضعة رجليها باضطراب عند النافذة و متجنبة النظر إلى الأسفل. ثم دفعت نفسها ببطء إلى الأمام تحاول قدر الامكان الاحتفاظ بتوازنها و ضغطت على حلقة الباب حتى فتحته، فدخلت مقصورة السائق و اتكأت بهدوء قرب الرجل المغمى عليه خلف المقود.
أغلقت جيسيكا باب الشاحنة علّ ذلك يزيدها شعوراً بالأمان، و استدارت ناحية الرجل تتحقق من اصابته. لاحظت جرحاً بالغاً في صدغه ينزف بغزارة، فمدت يديها تتفحصه برفق بحثاً عن جروح اخرى.
سمعت دان يناديها باعلى صوته:
- جيسيكا.... جيسيكا؟
صاحت من الداخل مجيبة:
- إني بقرب السائق و هو ما يزال حياً، حتى الآن على الأقل.
خلعت منديلها الحريري الملفوف حول عنقها و ربطت به رأس المصاب لتمنع سيلان الدم.
مرت الدقائق بطيئة، لكنها لم تعد تكترث للوقت أو تهتم للخطر المحدق بها. انصب اهتمامها على اسعاف المصاب شاكرة ربها على أنه فقد وعيه كي لا يشعر بالآم الجرح. علا صوت دان من جديد:
- ابقي مكانك، فسيارة المستوصف في طريقها إلى هنا.
و لم تمض دقائق حتى سمعت جيسيكا منبه السيارة مدوياً بالقرب من الشاحنة و صراخ دان:
- اسرعوا بربكم، فالشاحنة تكاد تهوي.
تنفست جيسيكا الصعداء، فالنجدة وصلت و عما قليل ستخرج المصاب من هنا و يتم نقله إلى المستشفى.
- الزمي مكانك يا جيسيكا، سيقومون بسحب الشاحنة نحو الطريق و لن يكون الأمر سهلاً.
أمسكت بطرف المقعد، و ثبتت رجليها في أرض الشاحنة ملقية بثقلها فوق جسم المريض و هتفت بنبرة وجلة:
- إني مستعدة.
اهتزت الشاحنة لثوان بدأت بعدها في التراجع نحو الطريق، و عاد الخوف يدب في أوصالها، فاغمضت عينيها حتى لا ترى ما يحدث. أقل خطأ و تنتهي الشاحنة في قعر الوادي.
فجأة توقفت الحركة و خيم هدوء غامض على المكان، فتحت جيسيكا عينيها لتجد نفسها محاطة برجال الانقاذ و قد أصبحت الشاحنة في وسط الطريق. سارع دان إلى فتح الباب ليطمئن عليها:
- جيسيكا؟
في صوته حنان لم تعهده من قبل، و وجهه الشاحب يعكس اضطرابه و قلقه. قميصه الأبيض تلطخ بالبقع السوداء، و سرواله الرمادي يعلوه الغبار. مرر أنامله المرتجفة على شعره بانفعال، و أوشكت أن تمسك بتلك الأنامل الواجفة و تحضنها براحتيها لتطمئنها، لكن الوقت لا يسمح بذلك.
- عليك أن تساعدني يا دان، نجحت في وقف النزيف لكنه أصيب بالاغماء و نبضه ضعيف.
أحاطت ذراعاه بخاصرتها يساعدها على الترجل من الشاحنة، و أصدر تعليماته إلى رجال الاسعاف بنقل المريض فوراً إلى المستشفى.
تناولت حقيبتها تلحق بالمسعفين:
- سأرافق المصاب إلى السيارة.
- سألحق بك إلى المستشفى.
صعدت إلى جانب المصاب و قبل أن يقفل رجل الاسعاف الباب، نظرت إلى دان الواقف إلى جانب سيارته مبتسماً، و لوحت له بيدها.
الفصل السابع

7- لم تشعر بهذا القدر من الفرح و الارتياح منذ أمد بعيد. إنه تحديها الثاني لدان ترافورد و لكنه ما زال متفوقاً عليها بنقاط كثيرة...


لم يكن الوقت في صالح جيسيكا، فالرجل الممدد في غرفة العمليات مصاب بنزيف داخلي، و الممرضة المساعدة تشير إلى أن نبضه يضعف بصورة مطردة. ما تحتاجه هو خمس دقائق أخرى قد تنقذ حياة إنسان و تنشله من براثن الموت.
حتى دان الواقف قربها لم يستطع أن يفعل شيئاً، فتفادى الاثنان النظر إلى بعضهما البعض و حتى التكلم منهمكين في محاولة يائسة لانقاذ المصاب. و دأبت على الالتفات بين الحين و الآخر إلى جهاز التنفس يخف تدريجياً منذراً بوقوع الكارثة. يداها المغطتان بقفازين ملوثين بالدماء، لم تتوقفا عن العمل لثانية واحدة تحاول في احداهما إبقاء مجرى الدم مفتوحاً بين العمل لثانية واحدة تحاول في احداهما ابقاء مجرى الدم مفتوحاً تحطم الاعصاب و القلب، و في الاخرى معالجة التمزق الذي احدثه تحطم الاضلاع من جراء السقطة. لكن الوقت لا يرحم تمضي ثوانيه بسرعة مقربة المصاب من حتفه.
رفعت الممرضة كمامتها الملطخة بالدماء و همست بيأس و خيبة:
- لقد مات يا دكتورة نيل.
التفتت جيسيكا بهلع إلى الشاشة السوداء المعلقة قربها، تطلق صوتاً رتيباً متواصلاً معلنة توقف قلب المريض عن الخفقان. لقد خذلها الوقت فلم يمهلها دقائق خمساً لينتصر في النهاية، فتراجعت مهزومة تغسل يديها. بينما أعطى دان تعليماته إلى الممرضة المساعدة:
- لقد انتهى الأمر، فاجري اللازم يا آنسة، و اعملي على ابلاغ ذويه.
لحق دان بجيسيكا إلى غرفة الملابس منادياً باسمها، لكنها لم تشعر برغبة في التكلم معه، و ضاعفت خطواتها تهرباً من مواجهته. تريد أن تختلي بنفسها و لو لدقائق معدودة تلتقط فيها انفاسها، فما ان وصلت إلى الحمام حتى قفلت الباب خلفها بقوة حابسة نفسها مع الحزن و الخيبة.
استعادت هدوءها رويداً رويداً من غير أن تتمكن من مسامحة نفسها على ما فعلته في غرفة العمليات. لابد من أنها أخطأت. لكن كيف؟ حدقت في يديها تستعيد مراحل العملية علها تكتشف شيئاً، لكن ذاكرتها أبت التعاون تاركة اياها فريسة الندم و الشرود. فجأة و هي تخلع ثوب الجراحة، تذكرت حادثة بسيطة سبقت صدور ذلك الصوت عن آلة التنفس، و لاحت صورة المصاب امامها من جديد تعيدها إلى واقعها الحزين. لقد غاب عن بالها ما رأته قبل أن تعلن تلك الآلة اللعينة الخبر المشؤوم. لقد تلوث قميصها و قفازاها ببقع الدم المجمد في الوقت الذي بدأ المضبع يشق طريقه في صدر المصاب. مما يعني أن عنصر الوقت هو الذي قضى على المريض و ليس مضبعها. لو كان بامكانها إيقاف الزمن أو اختلاس بضع دقائق أخرى فربما كانت كافية لمنع قلب ذلك المسكين عن التوقف.
عند خروجها وجدت دان واقفاً في وسط الرواق قاطعاً عليها المرور. ما يزال مرتدياً ثوب الجراحة الملوثة و على وجهه أكثر من سؤال:
- هل أنت بخير؟
- إني... إني على ما يرام.
- هذه الأمور تحدث دائماً يا جيسيكا.
- أعلم ذلك.
- لقد فعلت ما بوسعك.
أدارت وجهها ناحية النافذة و عيناها تكادان تدمعان:
- لكن... آه، علي أن أملأ بعض المستندات و أتهيأ لمقابلة ذوي المريض.
حط يده على كتفها تمنعها من التحرك:
- جيسيكا... إياك أن تخاطري بحياتك مرة أخرى.
التقت نظراتهما لثوان اعادت إليهما تلك الدقائق الرهيبة التي قضتها في الشاحنة المتأرجحة على حافة الوادي.
احست أنه يقاسمها خوفها على نفسها، فالقلق البادي في عينيه ربما كان صادقاً و ارتعاش أنامله فوق كتفها يؤكد ظنها.
- طبت مساء يا دان.
شعرت بنظراته تتبعها حتى نهاية الرواق لكنها لم تجرؤ على الاستدارة، مخافة أن يلاحظ الدمع و قد خطط أهدابها بعد أن لبت عيناها نداء قلبها الموجوع.
في صباح اليوم التالي، جلست جيسيكا على شرفتها ترشف قهوتها و تنظر إلى الصحيفة الموضوعة أمامها مبرزة في صفحتها الأولى خبر قيامها بذلك العمل البطولي لانقاذ سائق الشاحنة.
لم تحتمل قراءة تفاصيل النبأ، فهي لا تعتبر ما قامت به عملاً خارقاً يستحق كل هذه الضجة، لقد أدت واجبها تجاه انسان بحاجة للمساعدة، لكنها فشلت في انقاذ حياته. فأين البطولة في ذلك؟
لم ينقطع هاتفها عن الرنين طوال النهار، فالناس تريد معرفة تفاصيل الحادث منها شخصياً. فانهمرت عليها اسئلتهم بالحاح مستفسرين حيناً و مهنئين حيناً آخر. لكنها في نهاية المطاف اضطرت إلى نزع شريط الهاتف لتهنأ بقسط ضئيل من الراحة.
عند المساء سمعت جيسيكا طرقاً خفيفاً على باب منزلها، و لما فتحته وجدت دان ترافورد متكئاً على حافة الباب. ابتسم ملقياً التحية:
- مرحباً يا جيسيكا. كنت...
قاطعته قبل أن ينهي عبارته:
- دعني اتكهن بما ستقول. لقد كنت ماراً فرأيت أنوار المنزل مضاءة و فكرت بأن تعرج لتناول القهوة. أليس كذلك؟
لم ينتظر دعوتها له و دخل الغرفة و الابتسامة لا تفارق وجهه:
- أنت تقرأين أفكاري يا جيسيكا.
سارت أمامه نحو المطبخ هاتفة:
- هذا ما لن أفعله أبداً.
وقفت بالقرب منها يراقبها تحضر القهوة ثم سأل بمكر:
- هل نامت ميجان؟
- أجل لكن ليس هنا. قد يستدعونني إلى المستشفى في أية لحظة،فارتأيت أن تقضي ليلتها عند بيتر و فيفيان.
جلس على كرسي قريب من الطاولة فوضعت فنجان القهوة أمامه و جلست في مواجهته.
- يبدو أن ميجان تمضي معظم عطلتها مع فيفيان بدلاً من ان تمضيها معك.
- هذا لأني منهمكة بالعمل هذه الايام وفيفيان مولعة بالاطفال عدا ان بقاءها مع فيفيان كان الحل المناسب في الوقت الذي اضطر فيه للبقاء في العيادة.
- لاشك في ذلك.
لم تعجبها لهجته الساخرة فانتفضت بانفعال سائلة:
- الى ماذا ترمي يادان؟
- اعتقد ان جلب ميجان الى هنا كان خطة مدروسة.
- حقاً؟
- اجل ففيفيان وبيتر لم يرزقا اولاداً وميجان فتاة يتيمة وان نحن جمعنا الحالتين معاً نكوّن عائلة مثالية.
- لكني يادان...
قاطعها وكأنه يدرك مايجول في خاطرها:
- لن أضيف كلمة أخرى ان كان هذا ماتخشينه.كل ما أريده هو التأكد من صحة ظني.
تململت جيسيكا في مقعدها:
- كيف عرفت؟
- الأمر في منتهى البساطة فبيتر لم يترك مناسبة الا وتحدث فيها عن ميجان وعن الاوقات الممتعة التي يقضيانها معاً وهذا مادفعني الى التساؤل عن حقيقة المدة التي أمضتها معك انها أدلة كافية على ماحاكت يداك.
- حل رائع لكلا الطرفين. ألا توافقني الرأي؟
- بكل تأكيد انما لايغربن عن بالك استحالة التلاعب بمشاعر العالم كما يحلو لك.
تعلم انه على حق في مايقول لكنها لم ترد الاعتراف بذلك واحست بكرهها له فأجابت بعناد:
- انه الحل الافضل.
افرغ فنجانه دفعة واحدة ودفعه بعيداً عنه ثم تطلع اليها ساخراً:
- وماذا سيحصل في حال فشلت خطتك الذكية؟
- سيخيب ظني طبعاً.
- والصغيرة المسكينة سترسل في أول قطار الى الميتم الذي جائت منه كطرد بريدي غير مرغوب فيه.
- لاتتكلم عنها بهذه الطريقة.
- واجهي الحقيقة ياجيسيكا جعلت الصغيرة تدرك معنى الحرية وترى مايوجد خارج جدران سجنها أعدتها الى اجواء العائلة التي عرفتها مرة واحدة منذ زمن بعيد ومن الاجحاف ان تعيديها من جديد الى واقعها المرير في الميتم.
استدارت لتواجهه لكنها فوجئت به وقد وقف خلفها مباشرة فاستندت الى الحائط تبرر موقفها:
- لقد حسبت حساب كل شئ ان اخفقت خطتي فأنا من ستتحمل تأنيب الضمير ولا احد غيري.
- يسعدني سماع ذلك لأني للمرة الاولى لن أشاركك هذا العبء.
أجابت بحدة من غير ان تتمكن من السيطرة على ارتعاشها:
- لم أتوقع ان يشاركني احد ذلك.
- انت جميلة حين تغضبين!
- اصمت. ارحل من هنا وأتركني وشأني.
- هل يمكنني ان اخفف من تأنيب ضميرك؟
رفعت وجهها بثقة:
- ضميري مرتاح.
- حقاً؟ لن يظل طويلاً على هذه الحالة.
اجابت بسرعة تحاول مقاومة نظراته المزعجة:
- أرحل قبل ان ...
لم تقو على اكمال تهديدها فقد عانقها بحرارة طال لهيبها كل جسمها.
حاولت الافلات لكن يده انسلت الى عنقها تمنع عليها الحراك فوضعت راحتيها على صدره تجاهد في الامتناع عن التجاوب. لكن مقاومتها لم تدم طويلاً واختلطت دقات قلبيهما بعدما فقدت السيطرة على أحاسيسها لكنها ما ان افلتها من طوق ذراعيه حتى احست بجسامة ما ارتكبته.
- لم تكملي عبارتك ياجيسيكا.
احست بالاهانة التي حمّلها جملته فتراجعت خجلة تجاهد في السيطرة على اضطرابها:
- من الأفضل ان ... ان تذهب.
تقدم منها وكأنه لم يسمع ماقالت هامساً في اذنها:
- أهذا أمر؟
أحست بشحنات كهربائية تسري في عروقها دفعتها الى دفن وجهها في صدره. انه سيد الموقف ويدرك تماماً مايفعله فهتفت بصوت متهدج:
- أرجوك يادان... أرجوك توقف.
سلط عليها نظرات سافرة وقال وهو يترك يديها المرتجفتين:
- حسناً، كان الامر يستحق المحاولة.
خرج من غير ان يزيد كلمة أخرى وبقيت جيسيكا مسمرة حيث تركها تلعن نفسها على الضعف الذي اظهرته مع هذا الطبيب المراوغ انها تشعر بميل هائل اليه وقد يكون حباً لكنه لايشكل مبرراً لاستسلامها له بهذه الطريقة السهلة. اتكأت على الكرسي الخشبي خلفها تتكهن برأيه فيها بعد الذي حصل منذ دقائق. لم تفكر يوماً ان تنافس فتاة أخرى على قلب رجل وخاصة سيلفيا سامرز. وان لم تتحكم أكثر بعواطفها في المستقبل فان دان سيظن انها تسعى لانتزاعه من حياة سيلفيا.
في الأيام التي تلت انهمكت جيسيكا بالعمل فلم تسنح لها الفرصة لتهتم بمشاكلها العاطفية لكن الشئ الوحيد الذي لم تستطع التخلي عن التفكير به كان قضية ميجان وكلام دان عن امكانية فشل خطتها فعطلة الصغيرة شارفت على الانتهاء من غير ان تفاتحها فيفيان برأيها فيها.
ارتأت التحقق من حقيقة الأمر بنفسها فدعت ميجان الى منزلها لتمضية السهرة وبعد العشاء انتقلتا الى غرفة الجلوس حيث تمددت جيسيكا على الاريكة الطويلة وطوقت الصغيرة بذراعيها مستفهمة بحنان:
- كنت عابسة الوجه طوال الوقت هل هناك مايزعجك؟
أجابت ميجان من غير تردد وقد ازداد تجهم وجهها:
- سأغادر هذا المكان غداً.
- هل استمتعت بعطلتك؟
اغرورقت عينا الصغيرة بالدموع:
- آه كثيراً لكن ... كم اتمنى ان أبقى الى الأبد.
رفعتها جيسيكا بذراعيها تضمها الى صدرها برفق وتمسح دموعها:
- ما الذي اعجبك اكثر في هذه العطلة؟
- كل شئ لكن صداقة فرانسين تبقى الأفضل فهي حقاً نعم الصديقة واتفقت معها على تبادل الرسائل و ... آه لقد نسيت العمة فيفيان والعم بيتر لقد احببتهما كثيراً وكأنهما والداي.
- هل انت متأكدة من أحساسك هذا؟
اسندت الطفلة رأسها إلى كتف جيسيكا و طوقت عنقها بذراعيها:
- ليتني أبقى هنا و لا أعود إلى ذلك الميتم الكريه. سأشتاق إليهم و إليك أنت أيضاً.
ضمتها جيسيكا إلى صدرها تاركة شعر الصغيرة الناعم يخفي دموعاً ترقرقت على وجنتيها.
- و أنا أيضاً سأشتاق إليك، سآخذك إلى سريرك.
أدخلت جيسيكا الصغيرة إلى غرفتها، و بعد أن تأكدت من أنها غفت نزلت إلى الطابق السفلي و تسللت من باب المطبخ إلى الحديقة متجهة إلى منزل آل اوبريان. لم تقرر بعد كيف ستفاتح بيتر بالأمر و لكنها لن تلغي خطتها و تترك الأمور كما هي عليه.
ما زالت مكتبة بيتر مضاءة، فأتجهت على مهل إلى نافذة المكتبة ووقفت تسترق النظر الى الداخل. فيفيان بين ذراعي زوجها تشهق بالبكاء كمن حلت به مصيبة. لم يسبق أن رأتها بهذه الحالة فالصقت أذنها بالنافذة تحاول التنصت إلى ما يدور بين الزوجين.
- لا يمكنني أن ادعها تعود يا بيتر.
اكتفت جيسيكا بهذا القدر من التجسس خشية أن ينتبه أحدهما لوجودها، و قفلت راجعة إلى مسكنها. لا بد و أن فيفيان تعني الطفلة بكلامها، فأغلقت الباب خلفها بهدوء و جلست في غرفة الجلوس تتوقع أن يقرع بابها بين اللحظة و الأخرى.
و حدث ما توقعته، فبعد نصف ساعة سمعت قرعاً خفيفاً على باب المطبخ فسارعت إلى اشعال النار تحت غلاية الماء قبل أن تفتح الباب.
ابتسمت للزائرين مرحبة:
- تفضلا، كنت أحضر فنجاناً من الشاي و يسعدني أن تشاركاني.
- سنشربه معك هنا، في المطبخ.
حضرت الأكواب بينما جلس بيتر و فيفيان إلى الطاولة ساكتين.
نجحت فيفيان في إزالة آثار الدموع عن عينيها، من غير أن تفلح في اخفاء اضطرابها عن جيسيكا و هي تقدم لها كوب الشاي.
- جيسيكا... في ما يختص بميجان...
كتمت جيسيكا انفعالها و سألت متصنعة جهلها سببب زيارتهما:
- ما بها ميجان؟
سارع بيتر إلى الاجابة بلهجة حازمة:
- نرغب بتبنّيها.
انفرجت أسارير جيسيكا فجأة و هتفت بسرور:
- يا له من قرار!
لم يلحظ أي من الزوجين وقع الخبر على جيسيكا، و أردفت فيفيان مستوضحة:
- هل هناك من قد يعترض على ذلك؟ أعني... أحد أقربائها أو أي وصي عليها؟
- لن يعترض أحد يا فيفيان.
التفت بيتر إلى زوجته مبتسماً:
- في هذه الحالة لا اعتقد أننا سنواجه أية مشكلة.
أرادت فيفيان أن تتأكد من أن كل شيء سيكون على ما يرام فقالت مقترحة:
- علينا بالتحدث إلى ميجان أولاً، فقد لا تروق لها الفكرة.
- سأناديها حالاً، فأنا أعرف ميجان و هي و لا شك ما زالت مستيقظة.
أوقفها بيتر قبل أن تتخطى باب الغرفة:
- قبل أن تفعلي ذلك جيسيكا، نود أن نخبرك بما قررنا أن نفعله. لا نريدها أن تعود إلى جوهانسبرغ غداً فبامكانها اكمال سنتها الدراسية هنا في لويزفيل.
علت شفتي جيسيكا ابتسامة عريضة و أجابت موافقة:
- إني واثقة من إمكانية تدبير ذلك. فلوالدي صلات وثيقة مع أحد النافذين هناك، و بامكانه مساعدتنا.
تبادل الزوجان نظرات الرضى قبل أن تلتفت فيفيان إلى جيسيكا:
- هل يمكننا التحدث إلى ميجان الآن؟
- سآتي بها في الحال.
انحنت جيسيكا فوق سرير الطفلة هامسة برفق:
- ميجان حبيبتي، يسعدني أنك لم تنامي بعد. بيتر و فيفيان يودان التحدث إليك.
لم تجب جيسيكا على اسئلة الصغيرة و هي ترتدي خفيها بسرعة واعدة اياها بأنها ستعرف كل شيء عما قريب. و أمسكتها بيدها و نزلتا معاً إلى المطبخ، حيث تبادلت الصغيرة مع الزائرين نظرة سريعة، التفتت بعدها فيفيان نحو زوجها سائلة:
- هلا أوضحت الامر لميجان يا بيتر؟
رد الدكتور أوبريان بحنان:
- سأترك الامر لك يا عزيزتي.
فتحت فيفيان ذراعيها و نادت ميجان بتودد:
- تعالي يا حبيبتي.
هرولت الطفلة تطوق عنق عمتها بذراعيها الصغيرتين بينما اردفت فيفيان بتأثر:
- ما رأيك بالبقاء هنا معنا؟
- تعنين معك و مع عمي بيتر؟
- أجل يا حبيبتي.
لمعت عينا ميجان فرحاً مستفهمة:
- بصورة دائمة؟
- أجل، فنحن نرغب بأن تكوني ابنتنا.
لم تصدق الطفلة أذنيها فهتفت:
- أتريدان أن تتبنياني؟
- أجل... (و لاح طيف الشك في عيني فيفيان للحظات ثم أكملت) شرط أن تكوني راغبة في ذلك أيضاً.
دمعت عينا الطفلة و غمرت فيفيان متمتمة:
- أجل، أجل أرجوك!
اختلطت دموع السيدة اوبريان بدموع الصغيرة و ضمت الطفلة بقوة إلى صدرها تدفن وجهها في الضفائر الناعمة:
- ميجان، حبيبتي لقد أدخلت السعادة إلى قلبينا بعد سنين طويلة من الغم و التعاسة.
وقفت جيسيكا تنظر إلى المشهد المؤثر بعينين تشعان فرحاً. فخطتها لقيت النجاح الذي توقعته لها و أفلحت في تكوين اسرة سعيدة.
رفعت الطفلة رأسها تسأل فيفيان:
- أهذا يعني أني لن أعود إلى جوهانسبرغ غداً؟
رد بيتر بحزم:
- من الآن و صاعداً ستبقين معنا في لويزفيل.
قفزت الطفلة هاتفة بفرح:
- آه، كم أحبك يا عمتي فيفيان، و أنت أيضاً يا عمي بيتر!
- و الآن يجب أن تخلدي للنوم يا ميجان و في الصباح الباكر سآتي لأصحبك إلى منزلنا.
أجابت الطفلة مطيعة:
- حسناً،تصبحون على خير... و أشكركما على تبنيكما لي.
لم تعد جيسيكا قادرة على كبت دموعها، فأشاحت بوجهها ناحية النافذة تاركة لعينيها حرية التعبير عن فرحها و تأثرها. و ما ان غابت الطفلة عن ناظري فيفيان حتى اتكأت على ذراع زوجها متمتمة:
- و الآن يمكنني أن أسترسل في البكاء.
اعترض بيتر محذراً:
- لا لن تفعلي، فقد بكيت كفاية هذه الليلة.
مسحت عينيها باناملها موافقة:
- أظنك على حق يا بيتر، أنا آسفة يا عزيزي.
انحنى الدكتوراوبريان أمام زوجته و احتواها بذراعين، و مرة أخرى أشاحت جيسيكا بوجهها عن مشهد عاطفي، انما من نوع آخر.
- سأتكلم الليل مع والدي و سيطلعني على نتيجة اتصالاته في الصباح.
أمسك بيتر بيد زوجته و توجها نحو الباب:
- حسناً، الأمر بين يديك الآن يا دكتورة نيل.
أغلقت جيسيكا الباب خلفهما، و ما أن خلت بنفسها حتى راحت تقفز فرحاً و زهواً، و هرعت إلى غرفة الجلوس لتتصل بوالدها.
وفت فيفيان بوعدها في اليوم التالي، و جاءت في ساعة مبكرة لاصطحاب ميجان و مساعدتها في نقل حوائجها إلى منزلها الجديد. و ما ان اقفلت جيسيكا الباب خلفهما حتى رن الهاتف في غرفة الجلوس و كان المتحدث والدها.
- أنباء سارة يا جيسيكا، أوراق التبني ستكون جاهزة غداً و سترسل في أسرع وقت ممكن إلى المحكمة في لويزفيل.
احتارت جيسيكا لشدة فرحها كيف تشكر والدها، و أقفلت السماعة بسرعة و توجهت مباشرة إلى العيادة حيث دخلت على الفور غرفة بيتر لتعلمه بالأمر.
تراخى الدكتور أوبريان على كرسيه مبتسماً:
- شكراً يا جيسيكا ( و لمعت عيناه ببريق غريب مردفاً) لم تبد عليك علامات الاستغراب ليلة البارحة حين أنبأناك بعزمنا على تبني ميجان و كأنك على علم بقرارنا.
أدركت جيسيكا القصد من عبارته، فأجابت بصدق متجنبة النظر في عينيه:
- بعد أن وضعت أوليفيا طفلها، و خلال تبادل الحديث مع فيفيان اكتشفت لديها توقاً إلى أن يكون لها طفل.
- لذلك تعمدت جلب ميجان إلى هنا، و كل ما يحدث الآن هو نتيجة خظة رسمتها بنفسك!
- لقد راهنت بالرغم من فداحة الخسارة، و لكني في المقابل كنت أعلم أني لو نجحت سأدخل السعادة إلى قلوب ثلاثة.
- أنت انسانة مميزة يا دكتورة جيسيكا.
و نهض عن كرسيه ليقف في مواجهة النافذة، من غير أن ينجح في إخفاء دموعه عنها. و سادت الغرفة دقائق صمت طويلة احتارت جيسيكا خلالها ماذا تفعل، أتبقى أم تخرج؟ لكن صوته علا من جديد بنبرة حزينة:
- طوال السنين المنصرمة حاولت و فيفيان أن نتظاهر أمام بعضنا و أمام الناس بعدم اكتراثنا بانجاب الأولاد، و أظن أننا نجحنا في ذلك، إلى أن دخلت ميجان حياتنا. ابتسامة واحدة منها كانت كافية لتصب الزيت على النار كنت أخال سعيرها قد همد في قلبينا. ابتسامة واحدة كشفت لنا الفراغ الهائل الذي تعاني منه حياتنا. كلنا وقعنا في حب ميجان منذ النظرة الأولى وهي بادلتنا الشعور ذاته في وقت قصير وكأنها فرد من العائلة لاأدري كيف أشكرك على صنيعك هذا ياجيسيكا.
- لالزوم للشكر يادكتور اوبريان لأنه سيزيد من احراجي.
ولم تعطه الفرصة ليتفوه بكلمة أخرى وخرجت عائدة الى عيادتها. لم تشعر بهذا القدر من الفرح والارتياح منذ أمد بعيد. لقد كسبت الرهان واعادت الحياة الى منزل بيتر وفيفيان وخلصت تلك الطفلة من براثن ذلك الميتم الكريه انه تحديها الثاني لدان ترافورد ولكنه مازال متفوقاً عليها بنقاط كثيرة...
ما ان مضى على دخولها عيادتها دقائق حتى فوجئت بدان واقفاً كعادته قرب الباب:
- آه ، الدكتورة نيل صانعة الأعاجيب. ضربة من عصاك السحرية قلبت عائلة اوبريان رأساً على عقب.
- الا تشاركهما سعادتهما يادان؟
افتر فمه عن ابتسامة هازئة هاتفاً:
- وكيف لا؟ لكن يجب ان تشكري حسن طالعك على ان الامر انتهى الى هذه النتيجة والا لكانت الطفلة الآن في طريقها الى حياة تكره كل لحظة فيها وتلاحقك لعنتها الى الأبد.
اجابت بهدوء وعيناها لاتفارقان عينيه:
- لقد شكرت حسن طالعي على شئ آخر أيضاً وهو انه لن تسنح لك الفرصة لتردد على مسمعي ذلك التحذير الذي مابرحت تردده.
- انك تسيئين فهمي ياجيسيكا فأنا لاأقلل من أهمية ماقمت به لكن رهانك كان خطيراً.
- اتظن اني اغفلت خطورته؟ لقد امضيت ليال طويلة اصارع الخوف والهواجس ناهيك عن القلق من امكانية فشل خطتي. لكنها في النهاية نجحت. فارجوك احتفظ من الآن وصاعداً بملاحظاتك الساخرة لنفسك.
- مهنتك كطبيبة تفرض عليك الاعتناء بحالة مرضاك الجسمية وليس حالتهم النفسية وان كنت ستنجرفين في المستقبل وراء عاطفتك في تعاملك معهم فأنا اقترح ان تقلعي عن مزاولتك الطب وتبحثي لنفسك عن مكتب تعالجين فيه المشاكل الاجتماعية والنفسية لدى الناس.
انتفضت جيسيكا بحنق ظاهر و هتفت بملء صوتها:
- أنك على حق، فقد أقوم بذلك قريباً.
التقت نظراتهما للحظات، ثم طوق خصرها بذراعيه مقرباً إياها منه بقوة كادت تمنع عليها التنفس، و قال بابتسامته المعتادة:
- أتعلمين يا جيسيكا؟ تبدين أكثر إغراء عندما تغضبين.
همت بالكلام لكنه أحنى رأسه و عانقها، فحاولت التملص من ذراعيه لكنه أمسك بيديها وراء ظهرها ثم راح بحنكة الخبير يهمس باسمها قرب اذنيها. و لم تعد قادرة على المقاومة فاستسلمت راضخة إلى تلك الكتلة من اللهب.
سمعا طرقاً على الباب فافلتها دان بسرعة و استدارت ناحية مكتبها تحاول إخفاء احمرار وجنتيها عن عيني الممرضة هانسن و هي تدخل الغرفة لتجمع ملفات المرضى:
- آه، مازلتما هنا؟
أجاب دان بهدوء حسدته عليه جيسيكا المضطربة:
- كنا على وشك الرحيل.
- لقد اتصلوا بك من المستشفى يا دكتور ترافورد، فالسيدة روكس تعاني من ألم حاد في الصدر و صعوبة في التنفس.
- سأذهب في الحال (و توقف عند الباب ملقياً نظرة أخيرة على جيسيكا) سأراك لاحقاً.
وقفت الممرضة عند الباب ترقب دان يبتعد في آخر الرواق، و قالت:
- بالرغم من صغر سنك كطبيبة، فقد فرضت نفسك في هذا المكان و لمّا يمض على وصولك أكثر من ثلاثة شهور. لقد حظيت باعجاب الجميع و تقديرهم، مما سيسبب كدراً للبعض في هذه المدينة الصغيرة.
أجابت جيسيكا و هي تدقق في محتويات حقيبتها الجلدية:
- لقد بذلت ما في وسعي لأقوم بواجبي كاملاً.
- أنت تقومين بأكثر من ذلك. تعاملين الناس بطريقة مختلفة. أي أنك تنظرين إليهم كبشر و ليس كسلعة. لنأخذ الدكتور اوبريان مثلاً...
قاطعتها جيسيكا تدافع عن رجل بدأت تعجب به و بعمله:
- بيتر اوبريان طبيب رائع.
ردت الممرضة مبتسمة:
- لا مجال للمجادلة حول هذه النقطة. لكن أنظري ما صنعت به. لم أره في حياتي فرحاً كما كان اليوم. كلنا يعرف حالة زوجته و قصة اصابتها بالعقم، لكن لم يأت أحد على ذكر ذلك لأننا لاحظنا أن حرمانهما من الأولاد لا يسبب لهما أية مشكلة. إلى أن جئت و اكتشفت حاجتهما فلم تقفي مكتوفة الأيدي مثلنا، بل حاولت المساعدة و أفلحت.
- آنسة هانسن أنك تخجلينني. لقد ساعدتني الظروف و الا لما نجحت في مسعاي. فلا يمكنني ان أطالب الآخرين بتبني طفل، فمن المرجح أنهم سيرفضون طالبين مني عدم التدخل بأمور لا تعنيني، لكن صدف أني أعرف طفلة تدعى ميجان تشاركهما الحاجة نفسها. أما الباقي فقد تحكمت به العاطفة وحدها.
- ما زلت اعتبر عملك رائعاً و لن أغير رأيي.
و خرجت من الغرفة بينما أمضت جيسيكا بضع دقائق في ترتيب مكتبها قبل أن تعود إلى منزلها. أخجلها كلام الممرضة هانسن عن عملها و احست بالحرج و تمنت في قرارة نفسها لو يحذو دان حذو الآخرين و يتخلى عن ملاحظاته الجارحة.

nightmare 03-10-08 07:05 AM

الفصل الثامن

8- نسيت كل ما حولها و لم تعد تكترث بماضيه أو بسمعته. انها تريده بالرغم من مساوئه و عيوبه. تريده لها في هذه اللحظة و في كل لحظة...
منتديات ليلاس

كانت جيسيكا تقوم بجولتها الأسبوعية في المستشفى، عندما طلب منها عبر المذياع التوجه فوراً لمقابلة الدكتور اوبريان في العيادة. أدركت على الفور أن هناك طارئاً، فابدلت ملابسها و قادت سيارتها بسرعة جنونية غير مبالية بقوانين السير. و خلال دقائق وصلت أمام العيادة و توجهت مباشرة إلى مكتب بيتر لتجده مجتمعاً إلى دان. ما أن أغلقت الباب خلفها حتى بادرهما الدكتور اوبريان موضحاً:
- تلقيت مكالمة هاتفية من ممرضة خاصة تعمل في مقاطعة فندا، أخبرتني أن سيدريك كابوفو زعيم المقاطعة مريض و يحتاج لرعاية طبية عاجلة، و نظراً لسنه ارتأت الممرضة عدم نقله من منزله إلى المستوصف الذي يبعد عنهم حوالي العشر كيلو مترات.
سأله دان باهتمام:
- مما يشكو يا دكتور؟
- تظن الممرضة أنها الزائدة الدودية. الوقت يمر بسرعة و اقترح أن ترافقك جيسيكا.
- يلزمنا ساعتان أو ثلاث لنصل إلى هناك في السيارة، فأنت تعلم حالة الطرقات في تلك المنطقة.
- قد أطلب من برنارد إيصالكما بطائرته، لكنها لا تتسع لأكثر من راكبين.
تدخلت جيسيكا للمرة الأولى منذ وصولها مقترحة:
- بامكاني قبادة الطائرة ان وافق برنارد على اعارتي اياها.
التفتا إليها باندهاش و ذهول، و تقدم دان منها سائلاًً بسخرية:
- هل تجيدين قيادة الطائرة؟
ردت جيسيكا بالنبرة نفسها:
- أجل و أحمل أجازة في الطيران. هل تود رؤيتها؟
قاطعهما بيتر قائلاً:
- سأتصل بالمزرعة و ان لم أحظ ببرنارد سأدع أوليفيا تبلغه الرسالة.
تناول بيتر سماعة الهاتف على الفور، و ماهي إلا دقائق قليلة حتى استدار ناحيتهما مبتسماً بارتياح:
- سيهيىءبرنارد الطائرة لتكون مستعدة للاقلاع فور وصولكما. و في هذا الوقت سأتصل بالممرضة في فندا لاتخاذ التدابير اللازمة لاستقبالكما.
هتف دان بحزم متجهاً نحو الباب تتبعه جيسيكا:
- حسناً، فلنتحرك بسرعة قبل فوات الأوان.
وصلت سيارتا الطبيبين معاً إلى المزرعة، حيث كان برنارد في انتظارهما على المدرج الضيق بقرب طائرة صغيرة مخططة باللونين الأحمر و الأبيض. لم يحاول برنارد الاستفسار عن تفاصيل المهمة، مكتفياً بارشاد جيسيكا إلى الخط الواجب اتباعه أثناء تحليقها. ثم تقدم من دان الواقف بعيداً و ربت على كتفه ممازحاً:
- تشجع يا دان فان كانت جيسيكا تجيد التحليق كاجادتها الطب، فستكون في أيد أمينة.
- بأمكاني التفكير بأماكن أخرى أكثر أماناً.
سخرت جيسيكا منه معلقة:
- يا لك من جبان.
- و كيف لا أخاف و مصيري بين يدي امرأة؟
تجاهلت عبارته و التفتت نحو برنارد مصافحة:
- شكراً جزيلاً على مساعدتك يا برنارد.
و توجهت بخطى ثابتة نحو الطائرة و جلست خلف المقود، بينما تهادى دان على المقعد المخصص للركاب إلى جانبها. أشارت إليه بربط حزام النجاة قبل أن تضع جهاز الاتصال على أذنيها، فانصاع سائلاً بقلق:
- هل أنت متأكدة مما تفعلين؟
أدارت المحرك ضاحكة:
- لا تخش شيئاً فستصل إلى هناك كتلة واحدة.
- حياً أو ميتاً؟
- حيا كما أتمنى، و الآن هلا اقلعت عن المزاح؟
علا صوت المحرك مدوياً و بدأت الطائرة تهتز بهما، بينما أجرت جيسيكا اتصالاً تجريبياً مع أقرب قاعدة إلى المزرعة، ثم زادت من طاقة المحرك لتنطلق الطائرة بهما في سرعة هائلة على المدرج المعبّد. و ما أن أشار عقرب ساعة السرعة إلى الحد الاقصى، حتى ارجعت جيسيكا المقود إلى الوراء و ارتفعت الطائرة الصغيرة عن الأرض منطلقة كالسهم نحو السماء الزرقاء الصافية.
تمتم دان و قد اسند رأسه إلى حافة المقعد:
- لا بأس يا جيسيكا.
شغلها الفرح بالتحليق من جديد عن الانتباه إلى تعليقاته، فبالرغم من كرهها للأماكن العالية لم يزعجها الطيران أبداً، بل اتمت قبل قدومها إلى لويزفيل ما يقارب المئتي ساعة من التحليق بطائرات مختلفة الاحجام و الأنواع.
الجو صحو و مناسب لرحلة كهذه، لا غيوم و لا رياح بل امتدادأزرق نقي تموج في وسطه أشعة شمس ساطعة. اتجهت إلى الشمال – الشرقي و تستدل على خط تحليقها بواسطة خارطة صغيرة معلقة في سقف الطائرة. و ان سارت الأمور طبيعية فستحط في أرض فندا بعد ثلاثين دقيقة من الآن.
خرقت جو الصمت المخيم عليهما منذ الاقلاع سائلة:
- هل لديهم غرفة للجراحة في المستوصف؟
- لا أعتقد ذلك، بل لديهم ما يكفي للحالات الطارئة.
- ماذا سنفعل إذا تعذر علينا نقل المريض؟
- عندها سنجري العملية في المنزل.
ابتسمت بسخرية معلقة:
- يبدو أنك تحمل غرفة الجراحة في حقيبتك!
- ماذا تعنين بكلامك هذا؟ تعلمين جيداً أننا قد نضطر إلى اجراءالعملية بما قد نملك من تجهيزات بدائية.
تخلت عن مراقبة اتجاهها لتواجه عينيه الغاضبتين:
- أعلم ذلك. لكني أردد ما قلته لي مرة، أتذكر؟
- آه فهمت. تقصدين ملاحظتي لك لعدم نقلك أوليفيا إلى المستشفى أثناء ولادتها. أليس كذلك؟
- أجل.
- لكن الظروف مختلفة الآن.
- لا أرى أي أختلاف بين ما قد نضطر للقيام به و ما قمت به مع أوليفيا. لا بل المخاطرة أكبر بكثير هذه المرة.
أجاب بتململ ظاهر:
- دعينا من المناقشة الآن.
- حسناً، لن أتكلم من الآن و صاعداً.
- هل أنت غاضبة؟
- لست غاضبة يا دان. لكني لا أفهم تحديدك للحالة الطارئة.
- الأمر في غاية البساطة. عندما تصادفك حالة كالتي ستواجهنا بعد قليل فتسمى حالة طارئة. أي بامكانك التصرف بما هو متوافر لديك.
- حالة أوليفيا كانت من الحالات الطارئة التي تتكلم عنها، فتصرفت بما توافر عندي من أمكانات طبية، و لا أفهم لماذا انفعلت يومها.
- لأنه في مثل هذه الحالات،يحتفظ الرجال ببصيرتهم أما النساء...
قاطعته ضاحكة بالرغم من حنقها:
- لا تكرر علي هذا القول ثانية. أنت تخيب ظني يا دان، فأنا لم أتوقع أن تكون من الذين يميزون بين الجنسين.
- كل رجل يخفي في داخله نزعة للتمييز. إنما ليس هذا ما قصدته. النساء ينظرن إلى الأمور بمنظار العاطفة و أنت أصدق مثال على ذلك.
ثوان من الصمت نظرت خلالها إلى لوحة القيادة، ثم علقت ببرودة:
- لو كانت يداي حرتين في هذه اللحظة، لما توانيت عن صفعك.
قهقه دان معلقاً:
- لديك يدان ناعمتان يا جيسيكا و تسرني ملامستهما، غاضبة كنت أم لطيفة.
أيقنت أنها عاجزة عن مجاراته في الكلام و نظرت إليه بغضب:
- من الأفضل أن تساعدني في العثور على مدرج الهبوط قرب المستوصف، فلا شك في أنه يقع في مكان ما هنا.
حطت الطائرة الصغيرة بنجاح في المدرج الوحيد في فندا، و ما أن ترجلا منها حاملين حقيبتيهما الطبيتين، حتى هرول في اتجاههما رجل أسود قدم نفسه على أن باتريك كابوفو شقيق الزعيم المريض، فقادهما على جناح السرعة إلى سيارته السوداء الفخمة لتنطلق بهم إلى منزل آل كابوفو.
فوجئت جيسيكا لدى وصولهم بالبساطة الغالبة على منزل الزعيم و هو منزل خشبي أشبه بالكوخ، و مقسم إلى مطبخ و غرفة جلوس و غرفتي نوم، و مبني على الطريقة القديمة و أثاثه شبه بدائي، لكنه نظيف و مرتب و سقفه المكون من القش و أغصان الشجر، يبعث برودة منعشة بالرغم من الحر الشديد في الخارج.
بدا الزعيم بقامته المديدة و جسمه الضخم ككتلة من الشحم معدة للشواء، راح يتلوى من اللم و قد غطى الزبد فمه و جحظت عيناه، يضغط بيديه على حافتي السرير مطلقاً أنيناً خافتاً. بدا واضحاً أنه من الذين يولون بطونهم أهمية بالغة حتى أوشك السرير أن يتحطم تحت ثقله.
اقتربت منهما امرأة سوداء و قدمت نفسها على أنهاالآنسة رافيل ممرضة الزعيم الخاصة. و همست في أذن دان عدة كلمات توجه على أثرها نحو السرير و جثا بالقرب منه واضعاً يده على جبين الزعيم الملتهب.
- الألم يا دكتور، أنه يكاد يقتلني.
- أعلم أنه ألم رهيب أيها الزعيم لكنه سيزول بعد قليل.
مد الزعيم يداً مرتعشة ناحية جيسيكا سائلاً:
- من هذه السيدة؟ زوجتك يا دكتور؟
رمق دان جيسيكا بنظرة ساخرة مجيباً:
- كلا أيها الزعيم، فأنا لست متزوجاً. أنها الدكتورة جيسيكا و قد جاءت لتعاونني.
- على كل رجل أن يتزوج.
لم يعلق دان على كلام الزعيم، بل أمسك بيد جيسيكا و أومأ للمرضة بأن تتبعهما إلى خارج الغرفة.
تطلعت جيسيكا إلى وجهه العابس مستوضحة:
- ماذا سنفعل يا دان؟
- لا نستطيع نقله من هنا فالوقت يمر بسرعة عدا عن أن حياته ستكون بخطر ان نحن حركناه قيد أنملة.
التفتت إلى غرفة المريض ثم استدارت نحوه بذعر:
- هل ستجري العملية في تلك الغرفة؟
- ليس لدي خيار آخر (و التفت إلى الممرضة رافيل يعطيها تعليمات سريعة) سنحتاج إلى طاولة لوضع الزعيم عليها، ضوء قوي، ماء ساخن، و الكثير من الخرق المعقمة. بادرت الممرضة إلى تنفيذ التعليمات بسرعة مدهشة، بينما تدبر شقيق الزعيم أمر المصباح و أوصله إلى طاولة مستطيلة فتولت الممرضة التحضير للعملية.
نظر الزعيم بقلق إلى الطبيبين يتفحصان آلات الجراحة و قال مخاطباً دان:
- أشفني و سأعطيك عشر بقرات مهراً لعروسك.
ضحكت جيسيكا في سرها لالحاح الزعيم على فكرة الزواج، لكن دان بقي على عبوسه و أجاب و هو يتفحص قوة الضوء:
- لا تنسَ أن تقاليدنا تختلف أيها الزعيم.
- هناك أمور لا يختلف رأيان حولها. يجب أن يكون لكل رجل زوجة (و التفت نحو جيسيكا مستطرداً) و لكل امرأة رجل. إنها سنة الحياة.
- عليك بالاقلاع عن الكلام الآن أيها الزعيم. ستخلد إلى النوم لفترة، و عندما تستيقظ ستكون أفضل حالاً.
تمتم الزعيم باللغة المحلية كلمات لم يفهمها غير الممرضة رافيل و لم يكترث بها دان، بل أشار إلى جيسيكا.
غرزت جيسيكا رأس الحقنة في أحد عروق ساعد الزعيم و انتظرت لحظات قبل أن ترفع رأسها مخاطبة دان:
- بإمكانك البدء بالعمل يا دان.
- أأنت مستعدة آنسة رافيل؟
- رهن إشارتك يا دكتور ترافورد.
- حسنا فلنبدأ الجراحة.
لم يسبق لجيسيكا أن أجرت جراحة في ظروف بدائية مماثلة، فأحست بشيء من الاضطراب بخلاف دان، الذي بدا هادئاً و هو يعمل مبضعه في جسم الزعيم حتى بانت الزائدة الدودية الملتهبة فتطلع إلى جيسيكا و العرق يتصبب من جبينه:
- الأمر أخطر مما كنت أعتقد، فالزائدة قد انفجرت. علينا أن نمنع استفحال الالتهاب.
بعد حوالي الساعة، خلع دان قفازيه الملطخين بالدم و ساعد جيسيكا على نقل الزعيم إلى غرفة مجاورة، حيث أعدت له الممرضة سريراً مريحاً فغطياه جيداً و تناولا حقيبتيهما بعدما عهدا إلى الآنسة رافيل بالعناية به.
خرجا إلى الساحة الصغيرة أمام المنزل حيث التقيا بباتريك كابوفو، فطمأناه إلى صحة أخيه.
- هل ستغادراننا على الفور يا دكتور ترافورد؟
- لن نرحل قبل التأكد من زوال الالتهاب تماماً، و قد يستغرق ذلك يوماً كاملاً.
فوجئت جيسيكا بجواب دان لا سيما و أن أياً منهما لم يجلب معه ثياباً أضافية. فقد توقعا عملية جراحية بسيطة و لم يحسبا حساباً للالتهاب. هتف شقيق الزعيم بارتياح:
- عظيم، فالليلة نقيم احتفالاً هاماً و يشرفنا حضوركما. ستشاهدان رقصة الدومبا تؤديها الفتيات اللواتي تحضرن للزواج و المعروفة برقصة الأفعى لدى البيض.
انفرجت أسارير دان شاكراً مضيفه:
- شرف لنا أن نكون ضيفيك.
- تعالا إذن، سأرشدكما إلى كوخيكما.
لم تعلم جيسيكا ما يجول في خلد دان. ففكرة النوم في كوخ بدائي أثارت في نفسها قلقاً و هلعاً، لكن ما ان وقع نظرها على المكان الذي ستمضي فيه ليلتها، حتى علت الدهشة وجهها.
كوخ حديث الشكل، سقفه متقن الصنع و أثاثه من خشب الصنوبر، و يحتوي على حمام مجهز بأحدث أساليب الراحة.
لاحظ باتريك اندهاشها فقال موضحاً:
- ما زال سيدريك يفضل العيش في السابق، أما هذه الأكواخ فقد صممت و أثثت خصيصاً لراحة ضيوفه.
توردت وجنتاها خجلاً و قالت:
- لا شك في أننا سننعم بالراحة فيها. شكراً جزيلاً.
التفت نحو دان سائلاً:
- هل اتصل بالدكتور اوبريان لأخبره ببقائكما هنا الليلة؟
- سنكون لك من الشاكرين.
- أمرت إحدى زوجات أخي بالسهر على راحتكما و تأمين كل احتياجاتكما. سأناديكما حالما يظهر القمر، لأن الاحتفال يبدأ فقط عند حلول الظلام.
انحنى امامهما باحترام و انصرف تاركاً جيسيكا مع دان أمام باب كوخها.
- يبدو أننا مقبلان على سهرة مسلية.
- هل شاهدت رقصة الأفعى من قبل؟
- أجل انما في أحد الأفلام السينمائية، و أنت؟
- سنحت لي فرصة مشاهدتها بعد وصولي إلى لويزفيل بأيام، و هي تستحق المشاهدة مرة أخرى.
- إني أتحرق شوقاً لرؤيتها!
لم يلحظ ابتسامتها، فقد استدار من غير أن يلتفت إليها متوجهاً إلى كوخه. فدخلت الكوخ المخصص لها و أقفلت الباب خلفها، فالحر الشديد يسبب لها دواراً، و التعب بدأ ينهش أوصالها. ما أن تمددت على السرير حتى سمعت طرقاً على الباب ففتحته لتجد نفسها أمام عربة صغيرة صفت عليها أطباق الطعام و أبريق كبير من عصير البرتقال المثلج. شكرت جيسيكا الفتاة التي جلبت العربة و أقفلت الباب من جديد، لتملأ معدتها الخاوية بهذه الوجبة اللذيذة. بعدما أخذت حماماً بارداً و اخلدت للنوم بعد نهارها المضني.
لم تدر كم من الوقت غفت، لكنها استيقظت لتجد دان منحنياً فوقها... للمرة الأولى يراها من غير تبرج.
همس دان بسخرية بعد أن لاحظ ارتباكها و تورد وجنتيها:
- العشاء جاهز.
و كأنه قرأ ما يجول في خاطرها، توجه نحو الباب مردفاً:
- طلبت من زوجة الزعيم أن لا تزعجك، فقامت بتحضير مائدة لشخصين في كوخي.
تنفست جيسيكا الصعداء و هي تراقبه يهم بالحروج و قالت:
- سأكون جاهزة بعد عشر دقائق.
فتح الباب و قبل أن يخرج استدار نحوها يتأمل مرة أخرى كل جزء من جسمها:
- فلتكن خمس دقائق، فأنا لا أحب اللحم بارداً.
استعادت هدوءها بعد أن أغلق الباب خلفه، فارتدت ثيابها بسرعة.
كان الظلام قد بدأ يرخي ستاره الداكن عندما انتهيا من تناول العشاء، فخرجا إلى الفسحة الصغيرة أمام الكوخ يتنزهان على الحشيش الأخضر و يرقبان بصمت ظهور القرص الفضي في قبة السماء.
بعد قليل، انضم إليهما باتريك و توجهزا جميعاً عبر الممر الصخري إلى ضفة النهر، حيث اشتعلت النيران استعداداً لبدء الاحتفال.
أمام الساحة المخصصة للرقص وقف باتريك يشرح لهما:
- في كل عام، تأتي الفتيات من المناطق المجاورة و البعيدة للمشاركة بالاحتفال الذي يرعاه الزعيم سدريك. و الليلة لدينا ما يقارب المئة و الخمسين مشتركة، و هي أكبر نسبة منذ البدء باقامة الاحتفال.
لم يقتصر الحضور على جيسيكا ودان بل غصت الساحة بالمشاهدين وقد تحلقوا حول النار يترقبون بدء الاحتفال.
فجأة اخترق المتجمهرين رجل طويل القامة زين رأسه بريش الطيور، و يرتدي ثوباً غريباً صمم خصيصاً للاحتفال، فخيم صمت كلي على الحاضرين عند رؤيتهم الرجل و قد وقف في وسط الحلقة، و همس دان في أذن جيسيكا:
- إنه قائد الدومبا، و الدومبا تعني الحياة الضخمة.
لحقت الفتيات بقائدهن و قد ارتدين ملابس شفافة و علقن في أعناقهن عقوداً من الزهر الأحمر و الأبيض. تحلقن حوله بطريقة منظمة و بإشارة من يده رحن يقمن بحركات، استعانت جيسيكا بباتريك لتدرك معناها:
- قبل الزواج تتابع الفتيات دروساً في الزواج، يتعلمن خلالها أصول الحياة الزوجية، و هن يحاولن الآن إظهار ما تعلمنه.
ثابرت الفتيات على القيام بتلك الحركات الغريبة لفترة قصيرة، ثم بدأ قرع الطبول بوتيرة متناسقة و راحت تعلو رويداً رويداً، و دب الحماس بالمتفرجين عند رؤيتهم قائد الدومبا يرفع يديه بحركة شبه هستيرية هاتفاً بكلمات مبهمة، اضطر باتريك لتوضيح معناها لجيسيكا:
- خرجت الحية من جحرها.
اصطفت الفتيات الواحدة تلو الأخرى متخذات شكل الأفعى و بدأن بالرقص أمام ناظري جيسيكا المشدوهة. ثم رحن يتلوّين أمام ألسنة النار المشرئبة نحوهن، و يترنحن بحركات منظمة على وقع الطبول و كأنهن شخص واحد.
مأخوذة بسحر الاحتفال، اتكأت جيسيكا إلى كتف دان و أحست بذراعه تطوق خصرها. لم تبال بتصرفاته و بقيت مشدودة إلى منظر الأفعى تلهب الأرض بحركاتها المجنونة، و كأنها في عالم آخر. إنها ليلة غير اعتيادية و كل ما فيها لا ينتمي إلى المعقول.
خمدت النيران بعد ساعتين من الجنون الفاتن و استسلمت الساحة إلى هدوء ثقيل مرتمية في أحضان الظلام، فانسحبت فتيات الدومبا إلى أكواخهن طلباً للراحة، و سكتت أصوات الطبول. و بعدها رافق باتريك ضيفي الأمسية إلى مسكنيهما متمنياً لهما ليلة هانئة، و عاد ادراجه إلى منزل الزعيم سدريك.
ما زال صدى نغمة الطبول يضج في رأسها فتحسها شلالاً هادراً في دمائها. ما برحت نشوة الرقص تخدر أحاسيسها و تأسر خيالها، فلم تقاوم محاولة دان لعناقها فاحتمت به بقوة و هو يرفعها بذراعيه و يتوجه بها إلى كوخه.
لم تشعر يوماً بحاجتها كما تحتاج دان الآن.
نسيت كل ما حولها و لم تعد تكترث بماضيه أو بسمعته، إنها تريده بالرغم من كل مساوئه و عيوبه، تريده لها في هذه اللحظة و في كل اللحظات...
فجأة طرق باب الكوخ بقوة، فانتفضت جيسيكا مذعورة. لكن دان سارع إلى وضع يده على فمها مانعاً إياها من الانفعال أو الصياح، فوجودهما معاً يعد أمراً منافياً لتقاليد المقاطعة، عدا عن أن كونهما معاً سيسبب حرجاً لمضيفهما الزعيم، خاصة و أن دان قد أبدى اعتراضاً على الزواج و قبول الهدية. رفعت يدها تحرر فمها من قبضته و هزت رأسها هامسة:
- لن أصيح، فأنا أدرك مغبة وجودنا معاً.
ربت دان على كتفها مبتسماً و صاح سائلاً:
- من هناك؟
أجابت الممرضة رافيل بنبرة مضطربة:
- أصيب الزعيم بحمى قوية، هلا أتيت في الحال يا دكتور ترافورد؟
- سألحق بك فوراً.
توردت وجنتا جيسيكا حياء و هي تسمع خطوات الممرضة تعود أدراجها إلى منزل الزعيم.
- إني آسف يا جيسيكا!
احتارت بما تفسر أسفه. فأجاب بنبرة يغلب عليها الحياء:
- الأفضل أن تذهب، و سألحق بك بعد دقائق.
غادر الكوخ على عجل، تاركاًجيسيكا ترتعش بالرغم من دفء المكان. و لما أيقنت أنه أغلق الباب، نهضت واقفة تفكر بما تفعله هنا.
ماذا كان مصيرها لو لم تأت الممرضة في تلك اللحظة؟ كانت ستصبح بكل بساطة ذكرى عابرة في إحدى صفحات مغامراته، أو فتاة مسكينة تجرر أذيال خطئها تائهة في هذا العالم. خرجت من كوخه كاللص تحاول الاختباء كلما سمعت صوتاً أو لمحت خيالاً، و توجهت مباشرة إلى منزل الزعيم.
منتديات ليلاس
رائحة الأدوية تملأ الغرفة، و النور الشاحب المنبعث من القنديل القديم يضفي على المكان جواً من الرهبة، فدخلت متفادية النظر إلى دان الذي بدوره لم يول وصولها أي اهتمام. بدا مختلفاً عما كان عليه منذ دقائق يضمها إليه و يهمس لها بكلمات عذبة، فقد عاد إلى رزانته يعاملها كطبيبة مساعدة لا أكثر، فنفذ أوامره و تعليماته. لن تعترض على تحوله المفاجئ، فهي بحاجة ماسة إلى ما يصرفها عن التفكير بما حصل في الكوخ. فتناولت الحقنة من يد دان و غرزتها في ذراع الزعيم يرقبان بقلق ردة فعله للدواء. بقيا قرب المريض حتى منتصف الليل حينما نهض دان عن مقعده و أمسك بيده يتفحص نبضه ثم علق بارتياح:
- بإمكاننا أن نرتاح الآن، فقد زال الخطر.
همست الممرضة مقترحة:
- سأبقى إلى جانبه لفترة ثم استدعي من يحل مكاني.
أومأ دان برأسه موافقاً و حمل حقيبته يحاول اللحاق بجيسيكا قبل أن تغيب عن ناظريه، و سار إلى جانبها صامتاً و كأنه فقد القدرة على النطق. تمنت لو يقول لها شيئاً، أي شيء يساعدها على التخلص من قلقها و خوفها، أن يتفوه بكلمة تطمئنها و تزيل الفتور القائم بينهما. لكنها لم تسمع سوى تحطم الاغصان اليابسة تحت أقدامهما تجرّح السكون المخيم على القرية باسرها.
وصلا إلى أمام كوخها فوقفت عند الباب و تمنت له ليلة هانئة. لكنه طوقها بذراعيه يحاول ضمها إليه، فدفعته عنها بهلع قائلة بنبرة حازمة:
- لا يا دان. ما حصل منذ ساعات كان غلطة لا أريدها أن تتكرر.
أمسك بكتفيها ضاغطاً بأنامله على جلدها الطري حتى كادت تصرخ من الألم:
- لم تكن غلطة يا جيسيكا. كنت تريدينني بقدر ما كنت أريدك.
- لا أنكر ذلك. كانت نزوة و لا أكثر و أنا نادمة على ذلك.
رفع يديه عنها بقوة فأوشكت أن تقع و سألها بحنق:
- هل أنت جادة في ما تقولين؟
في كلماته شيء من القلق المجبول بالصدق، لكنها لم تشأ المجازفة و اتكأت إلى الباب ترفع خصلات شعرها عن وجهها مجيبة بصوت متهدج:
- أجل... إني أعني ما أقول.
بقي صامتاً للحظات كبركان يستعد للانفجار، ثم علا صوته متوعدا:
- في هذه الحالة، لا أرى داعياً لخوفك مني بعد الآن فأنا لن ألمسك ثانية.
أثارت كلماته القشعريرة في جسمها و كأنها كتل من الجليد اخترقت أعماقها، و راقبته يبتعد عنها بخطوات ثابتة و الألم يحز في نفسها.
هجر الكرى عينيها تلك الليلة فراحت تتقلب في فراشها مستسلمة لدوامة من الأفكار، تراجع ما مر عليها طوال اليوم. منذ بدء رقصة الدومبا و اللحن المثير الذي سرى في عروقها، لا تعي سوى حاجتها إلى حب رجل تدرك كل الادراك أنه سيتخلى عنها فور نيل مأربه منها. حاولت منذ البداية أن تنظر إليه كطبيب فقط و ليس كرجل قادر على إغواء أية امرأة، لكنها اكتشفت استحالة تجاهل تأثيره إلى الأبد، فهو رجل يصعب تجنبه لما يتمتع به من رجولة و قوة. انه يتمتع بمقدرة هائلة على تحريك مشاعرها و أثارتها، و قد أثبت هذا منذ لقائهما الأول، فوجدت نفسها في وسط التيار الجارف تقاوم شيئاً أقوى منها بكثير. أحبته بسرعة و بسهولة و تركته يقلب حياتها رأساً على عقب.
أمر واحد يغيظها و يقلقها في آن، و هو حياؤها الشديد منه. أحست بجدار خفي يفصلها عنه و يبقيه لغزاً غامضاً. لا تنكر أنه كان لطيفاً معها، لكن لطافته ليست سوى وسيلة للوصول إلى مبتغاه فهو ليس من الذين يتوسلون القوة و العنف لنيل مآربهم.
أحست بضياع رهيب عاجزة عن تفسير أحاسيسها، فلجأت إلى البكاء تدفن بدموعها سخطاً هائلاً على نفسها و ألماً مبرحاً يفجر أعماقها. و للمرة الأولى منذ سنوات تبكي لتنام، و لكن حتى النوم لم يخفف من وجعها. فصورة دان غزت أحلامها و رأت نفسها جاثية أمامه متوسلة حنانه و حبه و هو يضحك ساخراً منها يرفسها برجله بتعجرف و سطوة.
استيقظت في الصباح الباكر على تغريد الطيور و الدموع تبلل وجنتيها، ففتحت نافذة الكوخ ترحب بدفء الشمس يلفح وجهها بعد ليلة من العذاب و القهر.
ارتدت ثيابها بسرعة و وقفت أمام المرآة تتأمل وجهها الشاحب و عينيها اللتين اذبلهما الحزن. ثم تناولت حقيبتها الطبية و اتجهت إلى منزل الزعيم سدريك.
الفصل التاسع

9- ما قامت به لا يغتفر أبداً. و هي في قرارة نفسها لم تقصد أن تؤذيه. لكن خوفها منه أعمى بصيرتها. هل يكتفي بالاعتذار؟


شقت جيسيكا طريقها وسط الحشد الهائل من القرويين الذين تجمهروا أمام منزل زعيمهم يتسقطون الأخبار عن صحته بقلق ووجوم. و اضطرت للتوقف مراراً لتجيب على أسئلتهم من غير أن تسدي إليهم خدمة تذكر، فهي لا تفهم حرفاً مما يقولون. وصلت إلى المنزل شبه منهارة و سارعت إلى إغلاق الباب خلفها، تجاهد في منع الفضوليين من اقتحام الغرفة.
كان دان جالساً إلى جانب الزعيم و قد انتهى للتو من معاينته، فلم يلتفت إليها حينما دخلت، و لم يعرها أدنى اهتماما و هي تستوضح حالة المريض. اكتفى بأجوبة مقتضبة فظة متفادياً الخوض في التفاصيل، فلزمت الصمت و جلست قرب الممرضة تترقب بشوق ساعة العودة لمنزلها في لويزفيل. لا حاجة لبقائها هنا بعد اليوم، فصحة الزعيم في تحسن و يمكن أن يعهد الاعتناء به إلى الآنسة رافيل.
وقف دان و كأنه أدرك ما يجول في خلدها و خاطب الممرضة:
- زال الخطر كلياً و من الآن سيكون في عهدتك. سأطمئن الأهالي.
واجه في الخارج عشرات العيون الحائرة تمطره بنظرات قلقة، فطلب من باتريك أن يطمئنهم على صحة زعيمهم و زوال الخطر عنه. و بعد لحظات علت صيحات المتجمهرين و تقدم منه شيخ جليل متكلماً باسم الباقين و طلب منه و من جيسيكا مشاركة أهل القرية الافطار، فقبل دان الدعوة شاكراً.
بعد الفطور حزم الطبيبان حقيبتيهما و عرجا على خيمة الزعيم مرة أخرى لتوديعه قبل عودتهما إلى لويزفيل.
لفت انتباههما و هما يقتربان من الخيمة، صخب شديد في الاسطبل المجاور و صيحات الرعاة تدوي في كل مكان. و على بعد عدة أمتار من الاسطبل وقف باتريك يراقب ما يحدث مصدراً بين الحين و الآخر أوامره.
كل ما يحدث كان لغزاً بالنسبة إلى جيسيكا و لكن ما ان دخلا الخيمة حتى أدركت سبب الضجة بعد أن بادرهما الزعيم العليل قائلاً:
- لقد اختار أخي نخبة قطعاننا، أريدك أن تختار منها عشرة رؤوس مقابل ما بذلته من جهد لانقاذي. و لا تنسَ يا دكتور أن تجد لنفسك عروساً.
اختلفت وقع عبارته هذه المرة على جيسيكا، فالغبطة التي أحستها المرة الأولى حلت مكانها غصة خانقة بعد تصرف دان معها ليلة البارحة. حتى دان بدا منزعجاً من ملاحظة الزعيم عاتذر بنبرة مهذبة:
- أقدر لك اهتمامك بموضوع زواجي أيها الزعيم، أما الماشية فاعذرني عن عدم قبولها لجهلي أمور تربيتها و الاعتناء بها. و عن بدل الأتعاب فأنا أترك مناقشة ذلك لشريكتي.
لم يعلق الزعيم على رد دان مكتفياً بالابتسام، و صفق مرتين هرولت على الأثر زوجته و كأنها كانت تنتظر اشارته، حاملة علبة كبيرة وضعتها أمام زوجها و جثت على الأرض قرب فراشه.
راقبته جيسيكا بفضول و هو يحل رباط العلبة و يخرج منها جلد أفعى، و ازدادت عيناها اتساعاً حين مد يديه المرتجفتين إليها قائلاً:
- أفعى الدومبا تجلب الخير و الحظ. انها تساعد على انجاب ذرية جيدة.
توردت وجنتاها و ازداد ارتعاشها عندما لاحظت نظرات دان المسلطة عليها، فأجابت بصوت متهدج:
- لست متزوجة أيها الزعيم.
عاود الرجل المريض الابتسام و هتف:
- لا أهمية لذلك، فالرجل أيها الطبيبة يشبه أفعى الدومبا عندما يتهيأ للبحث عن عروس. و يزداد شراسة و نهماً كلما تمعن في البحث، و لا يترك لفريسته أية فرصة للهرب حينما يضرب ضربته.
لم يبد على جيسيكا أنها فهمت ما يقوله فرفع يده مودعاً:
- بأمان الله يا دكتور ترافورد و دكتورة نيل، سيرافقكما أخي إلى المطار.
جلسا في المقعد الخلفي لسيارة باتريك السوداء الكبيرة و نظر دان إلى الهدية في حضنها معلقاً:
- لقد أحسنوا اكرامك، فجلد الأفعى هذا لا يقدمونه سوى في المناسبات النادرة، و للأشخاص المميزين.
شعت عيناه القاتمتان ببريق اعتادت ملاحظته كلما حاول أن يسخر منها، فحولت نظرها عنه بانزعاج و قد عاودتها فجأة ذكرى الليلة الماضية، و تأججت نارها في فكرها من جديد تلسعها و تؤلمها. ستحتاج إلى بعض الوقت لتنسى خجلها بعد السماح له بالتمادي في تصرفاته معها.
لم تكن رحلتهما في الطائرة إلى لويزفيل مريحة كما تمنت جيسيكا أن تكون. فالطقس الغائم جعل الرؤية شبه معدومة، و تسبب في مطبات هوائية بذلت جيسيكا جهداً كبيراً لتفاديها.
- ما الذي دفعك لتعلم الطيران؟
- رافقت أخي مرة في تمارينه و أعجبتني الفكرة.
- هل تحتفظين بمفاجآت أخرى غير إجادتك الطيران؟
أقلعت جيسيكا عن التحديق في ساعات القيادة مبتسمة:
- لا أعتقد.
حطت الطائرة في المدرج المخصص لها في جو ممطر و عاصف اكتنزت فيه السماء بغيوم سوداء ثقيلة، يشق احشاءها بين الحين و الآخر لمعان برق كألسنة اللهب يصحبه رعد مخيف.
وصلت جيسيكا إلى سيارتها و قد بللها المطر من رأسها حتى أخمص قدميها، فجلست خلف المقود تنشف شعرها و يديها. و بعد لحظات وصل برنارد بشاحنة صغيرة و ترجل منها متوجها نحو سيارة دان ثم عاد أدراجه إلى الشاحنة مشيراً لهما، فقيادة السيارة في جو عاصف كهذا و في شوارع تملؤها السيول و الوحول، يعد ضرباً من الجنون. سار الثلاثة على مهل في شوارع المدينة العابقة بالضباب و قد تحولت الى بحيرات من شدة غزارة المطر المنهمر، و رافقهما برنارد حتى مشارف لويزفيل حيث أطلق منبه شاحنته عدة مرات مودعاً و قفل راجعاً من حيث أتى. فأكملا طريقهما كل في سيارته إلى أن وصلت إلى منزلها فاستسلمت لحمام ساخن كان أفضل ما حصلت عليه هذا الصباح.
و انتظرت حتى هدأت العاصفة ثم توجهت إلى العيادة حيث كان الدكتور اوبريان في انتظار سماع أخبار الزعيم سدريك.
تنبهت جيسيكا خلال رحلتها إلى مقاطعة فندا إلى وجوب تجديد رخصة الطيران، فعملت، في الأسبوع الذي تلا عودتها إلى لويزفيل، على تحضير ملفها الطبي و ضمنته كل ما تحتاجه من مستندات و أوراق و قدمته إلى بيتر أثناء تناولهما الغداء في العيادة.
- لا ينقصه سوى توقيعك يا دكتور اوبريان قبل أن أقدمه للدوائر المختصة.
ابتسم بيتر و هو يقطع شريحة اللحم في طبقه:
- لن يستغرق الأمر طويلاً.
- عظيم، فبودي أن أعاود ممارسة هوايتي المفضلة.
قطع عليهما حديثهما هدير شاحنة و جلبة قوية في الشارع أمام المبنى، فنهض بيتر عن مقعده هاتفاً بحدة:
- ما هذه الضوضاء المزعجة؟
و هرول الاثنان إلى النافذة المطلة على الطريق ليقع نظرهما على شاحنة ضخمة متوقفة أمام مدخل المبنى، محملة بعدة رؤوس من الماشية تتناحر و تتدافع في الصندوق الحديدي.
- ماذا تفعل شاحنة كهذه في وسط المدينة؟
بدأ الشك يساور جيسيكا، لكنها أحجمت عن ذكر شيء أمام بيتر و هو يحاول بانفعال ظاهر فتح النافذة.
- أنا متأكدة من أن الممرضة هانسن ستتدبر الأمر بسرعة.
- لا يبدو أنها تلقى نجاحاً في مسعاها، فالسائق مصرّ على البقاء في مكانه.
- من الأفضل أن نذهب و نتحرى الأمر.
انضما خلال ثوان إلى الممرضة الحانقة و بادرها بيتر سائلاً:
- هل تواجهين متاعب يا آنسة هانسن؟
- أعتقد أن الدكتور ترافورد يواجه مشكلة، فهذا الرجل يدّعي بأنه من قبل الزعيم سيدريك الذي أوكل إليه مهمة تسليم هذه الماشية إلى الدكتور ترافورد مقابل انقاذ حياته.
تمتم الدكتور اوبريان محاولاً كبت انفعاله:
- حسناً، من الأفضل أن نطلب من دان الحضور إلى هنا.
ابتسمت الممرضة بمكر:
- سأقوم بذلك في الحال يا دكتور اوبريان.
نظر بيتر إلى حمولة الشاحنة ثم التفت إلى جيسيكا سائلاً:
- أتعرفين شيئاً عن هذا الأمر؟
لم تقو على تمالك نفسها فانفجرت ضاحكة:
- طلب الزعيم من دان أن يختار بنفسه هديته من الماشية، لكن دان حاول التهرب من ذلك. كما أصر الزعيم سدريك على أن يبتاع دان لنفسه عروساً بهذا القطيع.
شاركها بيتر الضحك لكنه أقلع فجأة عندما لمح دان قادماً:
- يا له من طلب غريب! ها قد أتى دان.
ألقى الدكتور ترافورد نظرة سريعة على الشاحنة مستوضحاً:
- ما المشكلة دكتور اوبريان؟
- لا مشكلة البتة يا دان، كل ما في الأمر أن ملكية هذه الحيوانات الثائرة تعود إليك.
جاهدت جيسيكا في كبت ضحكتها و هي تشهد تبدل ملامح دان هاتفاً:
- ماذا؟
- من الواضح أن الزعيم سدريك يعتبر أن الوقت حان لتجد لنفسك عروساً.
للمرة الأولى تشهد جيسيكا دان في هذه الحالة من الارتباك و الاحراج، فلزم الصمت و قد خانته الكلمات و عقدت المفاجأة لسانه. ثم التفت نحوها و كأنه أدرك المصدر الذي استقى منه الدكتور اوبريان معلوماته عن العروس و القطيع، فأشاحت بوجهها تتظاهر بالنظر إلى سائق الشاحنة و قد اشعل سيكارة غير مكترث بما يدور بينهم من نقاش، فكل ما يهمه هو تنفيذ أوامر زعيمه و السهر على اتمام مشيئته.
سأل بيتر بهدوء و جدية:
- هل أطلب من السائق إيصال الماشية إلى منزلك؟
انتفض دان بغضب كمن مسه تيار كهربائي:
- تعلم كل العلم أنه من المستحيل أن احتمل هذه الماشية و هي تتجول في حديقتي.
تدخلت جيسيكا مقترحة بنبرة ساخرة:
- بامكانك ارسالها إلى أهل صديقتك في جنوب أفريقيا.
صاح دان و الشرر يتطاير من عينيه:
- ياللعنة! لا أريد زوجة و عندما أقرر الزواج فلن أبتاعها بقطيع من البقر.
استعاد بيتر رصانته موجهاً كلامه إلى دان:
- يجب أن تقرر ما ستفعله بها يا دان، فلا أظن أن الأبقار المسكينة ستقوى على تحمل تلك الحالة المزرية وقتا أطول.
- بصراحة لا أحفل البتة بما قد يصيبها في هذه الشاحنة اللعينة.
أيقنت جيسيكا أن فرصة الثأر من دان و نظراته الساخرة قد حانت، فعلقت بنبرة هازئة متعمدة التحديق في عينيه الثائرتين:
- تصرفك لا يليق بهذه الهدية الجميلة يا دان، عدا عن أن رفضك يعتبراهانة للزعيم سدريك.
- ان كنت معجبة بها يا دكتورة، فلماذا لا تهتمين بها بنفسك؟
لم تقدر جيسيكا على كبت ضحكة قصيرة زادت من جنون دان:
- الرجل هو الذي يقدم المهر إلى المرأة التي يختارها و ليس العكس. أنسيت قانون القبيلة يا دكتور ترافورد؟
شعر بيتر بأن النقاش سيتحول إلى مشادة حقيقية فتدخل محاولاً تهدئة شريكه:
- لدي اقتراح يا دان، دع السائق يفرغ حمولته في السهل لترعى و ترتاح، و سأطلب من برنارد أن يأخذها في ما بعد إلى مزرعته و يبقيها هناك إلى أن تقرر ما ستفعله بها.
هتفت جيسيكا موافقة:
- فكرة ممتازة، لكن هل ستلقى معاملة جيدة مع وجود قطيع برنارد في الجوار؟
التفت بيتر إلى دان يطمئنه و يحول دونه و الاجابة:
- سأطلب من برنارد الاهتمام بها كاهتمامه بقطيعه.
- شكراً دكتور اوبريان.

nightmare 03-10-08 07:07 AM

تطلع بيتر إلى الممرضة قائلاً بلهجة آمرة:
- آنسة هانسن، أرشدي هذا الرجل إلى السهل بينما اتصل أنا ببرنارد.
أطاعت الممرضة الأمر فورا وتوجهت إلى حيث يجلس السائق و راحت تشرح له بلغته الخاصة ما سيفعله بالماشية.
أمسك بيتر بذراع جيسيكا متوجهين نحو العيادة:
- تعالي يا جيسيكا، سأخابر برنارد و بعدها ننتهي من ملفك.
توجه الدكتور اوبريان إلى مكتب الآنسة هانسن لاجراء المخابرة بينما جلست جيسيكا في عيادته تعيد تصفح ملفها.
فجأة سمعت باب الغرفة خلفها يفتح فالتفتت ظانة أن الداخل هو بيتر نفسه، لكن الابتسامة الناعمة المرتسمة على ثغرها تلاشت عندما وجدت نفسها تواجه دان. عقدت الدهشة لسانها فلم تقو على الكلام و هي تراقبه يغلق الباب خلفه و يدس المفتاح في جيبه. ظنت أنها تتخيل فصاحت بصوت يشبه الحشرجة:
- ماذا تفعل هنا؟
سار دان بخطى بطيئة ناحية المكتب و راح يتفحص الأوراق المكدسة، ثم قال:
- تلقى بيتر مكالمة طارئة من المستشفى و طلب مني اتمام ملف اجازة الطيران بنفسي.
- ماذا؟
- عندما أريد أن أعيان أحداً فأفضل أن يكون عملي كاملاً.
شبكت يديها خلف ظهرها و قالت بحزم:
- لن يحدث هذا أبداً.
تلاقت نظراتهما لثوان و أحست بعينيه الرماديتين توشكان على الانقضاض عليها، و هو يتقدم منها مبتسماً ابتسامة غريبة لم تلحظها من قبل.
نهضت عن مقعدها مذعورة، و تراجعت نحو الباب بخطى متعثرة و يداها على وجنتيها الملتهبتين:
- إذا تجرأت على لمسي فسأملأ المكان صياحاً.
ابتسم مجدداً و ازدادت عيناه لمعاناً:
- أصرخي ما استطعت، فالآنسة هانسن ذهبت لتناول الغداء (و أشار باصبعه إلى باب الغرفة خلفها مردفاً) عدا عن أني أقفلت ذلك الباب و المفتاح في جيبي.
تراخت يداها و تحول لون وجنتيها القرمزي إلى أصفر شاحب:
- يا لك من ماكر نذل.
هتف بتململ:
- إنك تسببين لي الضجر يا جيسيكا. هيا.
لم تخشه كما الآن. و قد تحولت إلى هدف سهل لعينيه تجوبانها من رأسها إلى أخمص قدميها بنهم و وقاحة. شعرت بجفاف هائل في حلقها، و عاد الدم يلهب وجنتيها فالتصقت بالباب صائحة:
- حسناً يا دان، لقد ثأرت لنفسك. أعترف أني أخطأت بالهزء منك و انت تتلقى هدية الزعيم. و أعترف أني أخبرت بيتر عن مغزى الهدية. لقد أخطأت و انت الآن تحاسبني على خطئي، و أظن أننا تعادلنا. أليس كذلك؟
بدا و كأنه لم يسمع حرفاً مما قالت و خطا نحوها مردداً بنبرة باردة:
- يبدو أنك حقاً تريدينني أن أعاينك بطريقتي.
ما ان أصبح قربها و هم بمد يده إليها، حتى رفعت ذراعها و صفعته على وجهه صفعة تردد صداها في انحاء الغرفة. تسمرت في مكانها تحدق به بعينين ضائعتين، و حاولت الكلام لكنها بدت عاجزة عن فعل أي شيء. ما قامت به لا يغتفر أبداً، و هي في قرارة نفسها لم تقصد صفعه. لكن خوفها منه دفعها إلى ذلك بعد أن أعمى بصيرتها.
اشتعلت عيناه و قد هاله ما فعلت، فأمسك بها ضاغطاً بأنامله على كتفيها و صائحاً كبركان ثائر يقذف حممه في كل اتجاه:
- أقسم ألا ألمسك بعد الآن، لكن عليّ اللعنة إن لم أجعلك تدفعين ثمن ما فعلته.
فجأة، دفعها بقسوة بعيداُ عنه، فاستندت إلى أحد المقاعد مغمضة العينين فريسة الدوار و الارتعاش، و سار إلى الباب يفتحه على مصراعيه قائلاً بنبرة متوعدة:
- بإمكانك الذهاب يا دكتورة، لقد تعادلنا الآن.
لم تصدق للوهلة الأولى أنه جاد في كلامه، فبقيت للحظات ثم هرعت نحو الباب تتحقق من فتحه و خرجت لا تلوى على شيء، تحمل إلى منزلها زوبعة من القلق و الاضطراب و دموعاً سخية تبلل وجنتيها.
من الواضح أنه لم يستسغ سخريتها منه أمام بيتر و الممرضة، فثأر منها في العيادة و لابد أنها تمادت في هزئها حتى استحقت هذا العقاب. ربما لو تقبلت ردة فعله ببرودة لما كان حصل كل هذا، لكن الهلع تملكها و شبح ليلة الكوخ غشى عينيها ففقدت صوابها. تعلم جيداً أنه لن يسكت عن فعلتها و لو كانت ناجمة عن خوف. إنها تدين له بالاعتذار، و لكن هل يكتفي بالاعتذار و ينسى ما حدث، هل يمحو أسفها آثار أناملها عن وجهه؟
في مساء اليوم التالي كانت جيسيكا تستريح في عيادتها، بعد نهار حافل بالمعاينات و المرضى، عندما دخل بيتر حاملاً ملفها الطبي.
- جيسيكا بخصوص ملفك الطبي، هل...
قاطعته جيسيكا معاتبة:
- لماذا طلبت من دان الاهتمام به يا بيتر؟
- لم أطلب شيئاً من أحد. سألته أن يخبرك عن اضطراري للذهاب إلى المستشفى و أني سأنهي الملف اليوم بعد الظهر.
- هكذا إذن.
لمعت عيناه ببريق ماكر يسألها:
- هل احتال عليك؟
- يبدو أنه لم يحتمل سخريتي فأراد أن يثأر مني...
- و هل أفلح في ذلك؟
- لا وجود للفشل في قاموس هذا الرجل.
غادر بيتر بعد أن وضع الملف على الطاولة، بينما خلعت جيسيكا سترتها البيضاء و تناولت حقيبتها متجهة إلى عيادة دان، حيث وقفت برهة تستجمع قواها قبل أن تقرع الباب و تدخل.
كان دان يرتدي سترته و يتهيأ للرحيل حين ظهرت أمام الباب:
- هل من خدمة أؤديها لك؟
أجابت بكلمات سريعة قبل أن تفقد هدوءها:
- تعلم كل العلم أني هنا لأعتذر عن الصفعة.
- لا تكوني سخيفة يا جيسيكا. فأنا أعلم انك استمتعت بها.
- و أنت هل وجدت متعة في العقاب؟
- أجل في حينه (و أردف مبتسماً) لقد استحقيت عقابك أما الآن فأنت تستحقين شيئاً أفضل.
قبل أن تدرك نواياه سارع إلى إغلاق الباب و وجدت تفسها أسيرة عناقه. المقاومة كانت آخر ما فكرت فيه بعد أن واجهها بطريقة تختلف عن المرة السابقة. لكن ما أن مضت لحظة، حتى انتفضت بين ذراعيه و تراجعت متمتمة بعبارات متقطعة:
- لا... لا تفعل...
لم يعترض دان على تراجعها بل لزم مكانه مستوضحاً بوجه عابس:
- مما تخافين هذه المرة يا جيسيكا؟ من نفسك؟
و حمل حقيبته و مضى من غير أن يفسح لها المجال للاجابة. لقد ذكر الخوف قبل أن يرحل و ما أدراه عن مقداره في نفسها؟ انه يعلم فقط حقيقة الهلع الذي سببه لها البارحة، لكنه يجهل حجم الخوف الذي تثيره أحاسيسها في نفسها.
بعد اسبوعين، وصل والدا جيسيكا لتمضية عطلة الاسبوع معها، حاملين أوراق التبني اللازمة التي على بيتر و فيفيان توقيعها لدى المحكمة في لويزفيل.
و في نفس الليلة، أقيمت حفلة خاصة في منزل آل اوبريان، احتفاء بقدوم جوناثان و زوجته، ضمت عشرات المدعوين تحلقوا حول حوض السباحة في الحديقة، و من بينهم أوم هايني، و العمة ماريا دلبورت و برنارد و أوليفيا كينغ...
جلست جيسيكا إلى جانب أوليفيا تحدثها و تداعب الطفل الجالس في حضنها، عندما رأت دان يدخل الحديقة و يتوجه مباشرة إلى حيث يجلس بيتر.
تمنت لو لم يأت الليلة، فهي على يقين أنه سيفسد عليها الحفلة و يحرجها أمام أهلها و المدعوين، فلزمت مكانها تراقبه من بعيد ينضم إلى والديها بعد أن قدمه بيتر إليهما.
لم يستغرق دان وقتاً طويلاً حتى يحوز على اعجاب السيدة نيل و زوجها، بأناقته المعهودة و سحره المتألق. فزالت الكلفة بسرعة بين الثلاثة يتسامرون و يضحكون. ثم انسحب بيتر متوجهاً إلى وسط الحديقة ممسكاً بيد ميجان و هتف بالحاضرين قائلاً:
- أسألكم جميعاً الترحيب بابنتنا ميجان اوبريان، التي يسعدنا كثيراً أن تنضم إلى عائلتنا. أشكركم جميعاً على مشاركتنا فرحتنا.
علت عبارات الترحيب من كل صوب و دارت ميجان مع والديها بين الحاضرين للتعارف، و عند وصولهم إلى حيث تجلس جيسيكا رفع بيتر يده طالباً من الحاضرين الاصغاء:
- كلمة أخرى أود إضافتها. شكر خاص للدكتورة نيل التي ندين لها بكل ما نتمتع به من سعادة.
وقفت جيسيكا و قد تورد وجنتاها خجلاً و هي تسمع صيحات الموجودين تعلو من جديد مرحبة بها و أنظارهم مسلطة عليها. تلاقت عيناها و عينا دان الواقف في الطرف الآخر للحديقة يراقب المشهد، فلوح لها بيده و الابتسامة تعلو وجهه. لم تتمكن من ملاحظة تعابير وجهه، لكنها على ثقة بأنها تعابير هزء و سخرية كالعادة، فعادت إلى مقعدها بقرب أوليفيا تلاعب الطفل في محاولة لخنق شعور بالاضطراب ساورها فجأة.
- أشكرك بدوري يا جيسيكا على ما قمت به لسكان هذه المدينة.
- لا اظن أني فعلت ما يستحق كل هذا يا أوليفيا.
همست العمة ماريا مقاطعة:
- حان الوقت لتجدي لنفسك عريساً يا حلوتي. ستبدوان رائعين أنت و طفلك.
أيدت اوليفيا قول العجوز هاتفة:
- العمة على حق يا جيسيكا. أنت تعشقين الأطفال فلا تضيعي وقتك، و ابدئي بالاهتمام جدياً بفكرة الزواج.
- عليّ أن أجد الزوج المناسب أولاً.
أنفرجت أسارير العمة ماريا و قالت بلهجة ماكرة:
- ما رأيك بدان؟ سبق و قلت لك أنه زوج مثالي.
تنبهت أوليفيا إلى أن المحادثة بدأت تتطرق إلى أمور شخصية بحتة، فالتفتت إلى العجوز مقترحة:
- علينا ألا نستعجل الأمور يا عمة، فجيسيكا ستجد الرجل المناسب في الوقت المناسب.
نظرت جيسيكا إليها شاكرة و ناولتها الطفل قائلة:
- من الأفضل أن تأخذي لوغان. أريد أن أتحدث قليلاً إلى ميجان.
توجهت إلى مكان ميجان و فرانسين، و اضطرت في طريقها للمرور بقرب دان الواقف مع مجموعة من الرجال مديراً لها ظهره يستمع إلى برنارد يتحدث عن الصيد. و ما أن باتت خلفه مباشرة حتى استدار ناحيتها يبتسم لها، و تلاقت نظراتهما للحظات طويلة قبل أن تتمكن بعد جهد من الافلات من سطوتها و متابعة طريقها.
- مرحباً أيتها الجميلتان. كيف حال ميجان اوبريان؟
لمعت عينا ميجان مجيبة بزهو كبير:
- إني سعيدة جدا يا دكتورة نيل وبت واثقة الآن من أني لن أغادر هذا المكان أبداً.
التفتت جيسيكا إلى ابنة برنارد سائلة:
- ما رأيك يا فرانسين؟
ابتسمت الصغيرة ابتسامة عريضة كشفت عن أسنان ناصعة:
- رائع أن يكون لي ابنة خال. و خلال العطلة القادمة سأعلمها ركوب الخيل.
- لا شك في أنكما ستمضيان وقتاً ممتعاً.
قفزت ميجان إلى حضن جيسيكا هاتفة:
- سيكون نهاراً عظيماً.
علا صوت دان خلف جيسيكا سائلاً:
- أي نهار هذا يا ميجان؟
جاهدت جيسيكا في الحفاظ على هدوئها و هي تلتفت لمواجهة الزائر الجديد، بينما أجابت ميجان و الابتسامة لم تفارق شفتيها:
- اليوم الذي ستعلمني فيه فرانسين ركوب الخيل.
جثا دان أمام فرانسين يستوضح باهتمام:
- هل تجيدين ركوب الخيل يا فرانسين؟
- أجل دكتور، لقد دربني والدي و هو فارس ماهر.
طوقت ميجان عنق جيسيكا بيديها تسألها بدلال:
- هل تركبين الخيل يا دكتورة جيسيكا؟
- لا يا عزيزتي.
تدخلت فرانسين قائلة:
- و أوليفيا لا تركب الخيل أيضاً، فقد سقطت يوما عن صهوة جواد. يقول والدي أن على من لا يحبذ ركوب الخيل أن يبقى بعيدا عنها، فهي حساسة جداً.
نظر دان إلى جيسيكا معلقاً بسخرية:
- و هناك أيضاً أشخاص حساسون للغاية، و في الواقع أنا أعرف واحداً منهم يخجل من الحقيقة إلى درجة كبيرة.
و مدّ ذراعه تستلقي حول خصرها فانتفضت مبتعدة عنه.
- أرجو المعذرة، أظن فيفيان تود التحدث إلي.
أفلحت في التخلص من ذراعه لكنها بقيت هدفاً لنظراته الساخرة و هي تجتاز الحديقة.
بادرتها السيدة اوبريان قائلة:
- أريد التحدث إليك على انفراد منذ وصول والدك البارحة مع أوراق التبني. نود أن نشكرك على ما فعلته لأجلنا و في الحقيقة لا أدري من أين أبدأ.
- لا تقولي شيئاً يا فيفيان. يهمني أن أراك سعيدة.
- آه، إننا سعداء، سعداء جدا.
- إذن هذا يكفيني.
جففت السيدة اوبريان دموعها مبتسمة بحنان:
- بما أننا نتكلم عن السعادة، فقد لاحظت أن دان يبدو مكتئباً هذه الأيام. هل تعتقدين أنه يواجه مشاكل مع تلك السيدة من بريتوريا؟
تصنعت جيسيكا اللامبالاة مشيحة بوجهها إلى البعيد:
- لا أدري يا عزيزتي.
- ليست مفاجأة أن يقع أخيراً في غرامها، و ستؤدي له خدمة كبيرة إن تخلفت عنه بعد ذلك.
شعرت جيسيكا بالغيرة تمزقها، انه ما زال يقابل سيلفيا سامرز. و حاولت اقناع نفسها بنسيان الأمر، لكن السؤال راح يكبر في رأسها حتى كاد يتحول إلى صراخ.
طوال السهرة، تجنبت جيسيكا قدر المستطاع التحدث إلى دان مكتفية بالنظر إليه بين الحين و الآخر يتحدث إلى والديها. واضح أنه حظي باعجابهما فقد امضيا السهرة بأكملها يستمعان إليه. و تجاهلت عدة مرات اشارة والدتها لها بالانضمام إليهم مفضلة البقاء بعيدة وحيدة مع هواجسها و تساؤلاتها...
الفصل العاشر

10-" قد تدوم علاقتكما سنة أو سنتين و بعدها تتحولين إلى صفحة بالية في دفتر ذكرياته. و تقييده بسلاسل الزواج يحتاج إلى امرأة خارقة تعرفه حق المعرفة."
منتديات ليلاس

فاجأ جوناثان نيل ابنته بالسؤال و هي تهم باشعال النور في غرفة الجلوس:
- ألا توافقينني الرأي بأن دان ترافورد شاب لطيف و ذكي؟
قاطعتهما إيميليا بحماس ممعنة النظر في جيسيكا:
- إني أراه جذاباً أيضاً، و قد دعوته لتناول العشاء غداً مساءً.
هتفت جيسيكا باستياء واضح:
- أماه! لماذا؟
فوجئت الوالدة بردة فعل ابنتها:
- لا أرى مبرراً لاستيائك يا جيسيكا.
- هل قبل الدعوة؟
- بكل سرور. في الحقيقة يا جيسيكا لا أدري كيف أفسر موقفك منه. فهو بهي الطلعة، جذاب و يملك من الرجولة قدراً يستحيل عليك تجاهله أو معاملته كواحد من مرضاك. لا امرأة، و حتى أنت تستطيع النظر إليه من غير أن تشعر بشيء غريب في داخلها.
كانت لتجد تعزية و راحة في قول أمها، لو أنها لم تلق من دان تلك الصدمات المتتالية فأجابت بعصبية:
- أنت محقة في ما ذكرت. لكن...
- لكن ماذا؟
تنهدت جيسيكا و الغصة تكاد تخنقها:
- كل ما في الأمر، أننا لا نتفق في أمور كثيرة.
- و لم لا يا ابنتي؟
انضم الوالد إلى النقاش قائلاً:
- ربما هناك تفسير كيميائي، فكل مركبين عند وضعهما معاً يتجاوبان أو يتباعدان.
حدجت إيميليا زوجها بنظرة ثاقبة معلقة:
- كنت دائماً امقت نظرياتك العلمية، أما الآن فأجدها مناسبة و منطقية.
لاحظ الأب صمت ابنته و ارتباكها فتقدم من زوجته مقترحاً:
- لنوقف هذا التحقيق الآن، فالوقت متأخر و جميعنا متعبون.
همت إميليا بالاعتراض، لكن جيسيكا تمنت لهما ليلة هادئة و توجهت إلى غرفة نومها.
أبت عيناها الاستسلام للرقاد طوال الليل فبقيت تصارع الأرق من غير حدوى. دعوة دان إلى العشاء تشغل فكرها و تقلقها. قد يخطئ بكلمة أو بحركة أمام والديها و تقع الطامة الكبرى.
في الصباح، لزمت فراشها إلى أن سمعت جلبة في الطابق الأسفل، فأيقنت أن والديها استيقظا، فتحاملت على نفسها بالرغم من تعبها و انضمت إليهما لتناول الافطار.
وقفت جيسيكا و والدتها في المطبخ تضعان اللمسات الأخيرة على اطباق الطعام قبل نقلها إلى الطاولة، عندما طرق الباب الخارجي، فوضعت إميليا ما في يديها و هتفت بحماس كلي:
- لا شك في أنه دان.
تمتمت الابنة متصنعة اللامبالاة:
- أظن ذلك.
- حسناً ألن تبادري إلى استقباله؟
- والدي في غرفة الجلوس و سيفتح له الباب.
ضاقت إيمليا ذرعاً بعناد ابنتها فصاحت بسخط:
- يمكنك على الأقل إلقاء التحية.
تهادى صوت جوناثان مرحباً:
- أهلاً دان، تفضل بالدخول.
- أرجو أن لا أكون قد بكرت في الحضور.
- أبداً، النساء في المطبخ و أنا أكره الجلوس بمفردي.
توجها إلى غرفة الجلوس، في حين أصلحت إيميليا هندامها و قالت قبل أن تغادر المطبخ:
- إذا كنت قد نسيت اللياقة و حسن الضيافة، فأنا لم أنسها.
بقيت جيسيكا وحيدة تحاول تهدئة نفسها قبل مواجهتها دان أمام والديها. حاولت التنصت إلى ما يدور بينهم في الغرفة الأخرى، فلم تسمع سوى قهقهات و همسات غير واضحة ضاعفت من ارتباكها، فتمنت فجأة لو أن السهرة في نهايتها فيضطر دان إلى الرحيل قبل أن تقابله.
عادت إلى العمل علها تنسى الضيف الذي جاء يقلق راحتها، و لكنها فوجئت بدان يدخل المطبخ بهدوء و يقف قبالتها قائلاً:
- لا أظنك تمانعين بالانضمام إلينا.
كادت تطيح بالأطباق من شدة اضطرابها فاستندت إلى حافة الطاولة متمتمة:
- لا أبداً، لكني منهمكة ببعض الأعمال هنا.
- أظن أن دعوتي إلى العشاء لم ترق لك.
أدركت أنه لاحظ اضطرابها، و بات من المستحيل اخفاء حقيقة شعورها:
- أصبت في ظنك.
- لماذا يا جيسيكا؟
- صحيح أننا نعمل معاً و لكن هذا لا يجبرنا على المشاركة في الحياة الاجتماعية.
تقطب وجهه فجأة و رمقها بنظرة تحد قائلاً:
- يبدو أنك لا تحبين كشف أوراقك كاملة.
- هذا ينطبق عليك أيضاً.
- هذا صحيح، فأنا أحب الاحتفاظ ببعض السرية و خاصة الممتع منها، كالليلة الرائعة التي قضيناها في أحد أكواخ الزعيم سدريك مثلاً.
أغاظتها طريقته في الكلام عن تلك الامسية المشؤومة، فعلا الاحمرار وجهها من شدة الغضب و مدت يديها تمسك بطبق أمامها متمنية لو تضربه به. لكنه ابتسم وكأنه أدرك ما يجول في رأسها و قال:
- هل ستتلفين طبقاً جيداً كهذا يا جيسيكا؟
استدارت نحو النافذة تذرف دمعاً لم تقو على حبسه في مقلتيها، و قالت بصوت يخنقه الغضب و الحسرة:
- من الخساسة أن تأتي على ذكر تلك الليلة.
- لا أنكر أني أبدو في بعض الأحيان فظاً و حقيراً، و هذا يعود لصراحتي المفرطة. هل سبق و أخفيت عنك ما يدور في خلدي تجاهك؟
لم يعطها فرصة لتجيب على سؤاله، بل تقدم منها بسرعة و أمسك بكتفيها برفق، فشعرت بالارتياح و تمنت لو تستسلم مرة أخرى لتلك الأحاسيس الرائعة التي ترافق ملامسته لها. لكنها و بعد كل ما حدث لم تعد تجرؤ على ذلك.
- أرجوك يا دان، أنا...
لم يدعها تكمل عبارتها و أدارها نحوه باسطاً لها يده:
- هدنة؟ سنعلن هدنة هذه الليلة إذا أردت، و غداً بامكانك أن تنعتيني بما يحلو لك من صفات.
ترددت لبرهة في الاجابة قبل أن تضع يدها في يده موافقة:
- حسناً، لكن أن تفهم أني قبلت اقتراحك حتى لا أزيد من هموم والديّ.
- إني أتفهم موقفك... يا لنعومة هاتين اليدين الجميلتين!
أدركت أنها ارتكبت خطأ فادحاً في تسليمه يدها و حاولت سحبها من براثن قبضته. لكنه شد على معصمها و مرر اصبعه بحركات ناعمة على راحة يدها، فتلاشت مقاومتها بسرعة و كادت ترتمي مجددا بين ذراعيه لكنها استطاعت في اللحظة الأخيرة أن تفلت يدها، و تبتعد عنه هامسة بصوت يقارب الحشرجة:
- لا تفعل هذا!
انحنى أمامها بحركة هازئة:
- أرجو أن تقبلي اعتذاري. ألن تتركي العمل و توافينا إلى غرفة الجلوس؟
أومأت برأسها إيجاباً بعد أن استعادت بعضاً من هدوئها:
- لبضع دقائق فقط، فالعشاء سيفسد ان ترك مدة أطول هنا.
مرت بقية السهرة بسلام، وزع دان اثناءها اهتمامه بين جوناثان و إيميليا بطريقة زادت من اعجابهما به. فبالرغم من شغف الدكتور نيل بالكلام عن جراحة الأعصاب، تمكن دان من اختصار الحديث متجنباً ازعاج إيميليا، و خاض معها في مواضيع تروقها و تثير اهتمامها. بقي في كامل تهذيبه و لياقته حتى اللحظة الأخيرة، و ما ان دقت الساعة العاشرة حتى نهض مستأذناً للانصراف. حاولت إيميليا ثنيه عن قراره لكنه اعتذر بلطافة:
- أعلم أن الوقت ما زال باكراً، لكن امامكما رحلة طويلة في الغد.
رافقته جيسيكا إلى الخارج، متعجبة من صمته المفاجئ. لقد تصرفا بتودد أمام والديها و تبادلا أطراف الحديث معهما، و فجأة لم يعد هناك ما يقولانه لبعضهما. وصلا إلى السيارة الغارقة في الظلام، فأمسك بيديها هامساً:
- تصبحين على خير.
أدركت أنه يعلن نهاية الهدنة، فسحبت يديها من يديه و تراجعت عدة خطوات تبحث عن الأمان:
- طبت مساء يا دان.
أطلق احدى ضحكاته الساخرة فتردد صداها في أرجاء الحديقة، و مضى يشق طريقه بسرعة هائلة.
ما ان انضمت إلى والديها في غرفة الجلوس حتى بادرتها إيميليا قائلة:
- تصرفك الليلة يخالف ما قلته عن علاقتك بدان يا جيسيكا.
أجابت الابنة بحذر:
- اننا نتفق أحياناً و ليس دائماً.
- أظنه شاباً لطيفاً للغاية. أليس كذلك يا جوناثان؟
أجاب الوالد و هو يملأ غليونه:
- كلمة لطيف ليست الصفة المناسبة لشخص مثل دان يا ايميليا.
- كيف تصفه إذن؟
- لا أعلم، فأنا كما تعلمين لا أجيد اختيار الكلمات المناسبة.
قاطعتهما جيسيكا مقترحة:
- لنقل أنه يجمع بين الذكاء الخارق و التعجرف ليحصل على ما يريده في الحياة.
- أرى أنك تظهرين بعض الكره بالرغم من دقة وصفك له. انه و لا شك حاد الذكاء، لكن من الطبيعي أن يحتاج المرء بعضاً من الكبرياء في هذه الدنيا.
تنهدت جيسيكا بمرارة:
- قد تكون على حق يا والدي.
التفتت إليها إيميليا قائلة:
- آمل أن تدعيه إلى هنا عندما نأتي مرة أخرى.
- ان كنت معجبة به إلى هذا الحد فسأفعل ما تطلبينه يا أمي.
- انك تحيرينني يا جيسيكا. دان ترافورد هو أروع رجل رأيته منذ زمن طويل.
- إني أوافقك الرأي.
- الرجل لا يعير الزواج اهتماماً إلا عندما تدفعه المرأة المناسبة إلى ذلك.
هتفت جيسيكا بيأس:
- من قال إني هذه المرأة المناسبة التي ستجعل دان يفكر بالزواج؟ عدا عن أني لست مهتمة بالمحاولة.
نهض جوناثان عن كرسيه مقاطعاً:
- إنه جواب كاف لانهاء النقاش. سآوي إلى الفراش.
قامت إيمليا بدورها قائلة:
- انتظرني يا جوناثان (و تطلعت إلى ابنتها بشفقة مردفة) أتمنى لو أستطيع فهمك يا جيسيكا.
في الاسبوع التالي، شغل العمل جيسيكا عن مكالمة دان، فأمضت معظم أمسياتها في المستشفى، و لم ترتد منزلها الا نادراً لنيل بضع ساعات من النوم و الراحة.
وصلت إلى مسكنها مساء الجمعة آملة بقسط من الراحة بعد نهار طويل قضته في المعاينات و استقبال المرضى. لكنه آمالها تبخرت عندما رأت سيارة غريبة متوقفة أمام المنزل، ترجلت منها سيدة غريبة، طويلة القامة تتمتع بجمال و سحر خارقين، و تقدمت من جيسيكا سائلة بصوت ناعم:
- دكتورة نيل؟
رمقتها جيسيكا بنظرة شاملة قبل أن تجيب:
- نعم.
سلطت الزائرة الغريبة عينيها الخضراوين على جيسيكا بطريقة وقحة قائلة:
- كنت آمل أن أراك. أنا سيلفيا سامرز.
عقدت المفاجأة لسان جيسيكا:
- آه!
- أخالك قد سمعت باسمي من قبل.
نجحت جيسيكا في اخفاء اضطرابها و أجابت بهدوء مصطنع:
- اعتقد أن الدكتور ترافورد أتى على ذكرك. تفضلي بالدخول.
راحت جيسيكا تتأمل ضيفتها الفاتنة الجالسة على الأريكة في مواجهتها.
جمالها لا يخفى على أحد و أنوثتها البالغة تسلب العقول و الألباب، و لا عجب من أن تتفق رجولة دان الجذابة مع هذه التحفة البديعة. و بعد سكوت سألتها بتهذيب:
- هل من خدمة أؤديها لك يا آنسة سامرز؟
وضعت الزائرة رجلاًً فوق الأخرى و أجابت:
- ليس أنت من سيؤدي الخدمة بل أنا يا دكتورة. اعتبري ما سأقوله الآن نوعاً من التحذير.
همت جيسيكا بالاعتراض:
- آنسة سامرز، أظنك...
قاطعتها سيلفيا بهدوء:
- لا تسيئي فهمي. لست هنا لألعب دور عاشقة تلتهمها الغيرة أو لأخدش عينيك لمحاولتك سلبي ما اعتبره خاصاً بي. جئت لأحذرك من أن زواجك من دان حلم لن يتحقق أبداً، فهو لا يصلح لذلك. و إن كنت تظنين أن تحولك إلى صديقة له سيمهد لك الطريق للنفاذ إلى قلبه فأنت مخطئة. قد تدوم علاقتكما سنة أو سنتين و بعدها تتحولين إلى صفحة بالية من دفتر ذكرياته. هذا هو دان ترافورد، و تقييده بسلاسل الزواج يحتاج إلى امرأة خارقة تعرفه حق المعرفة.
أدركت جيسيكا أن محدثتها لم تعنها في بعبارتها الأخيرة، فهي منذ لقائها دان تستعد لهذه الصدمة لكنها لم تتوقع أن تكون بهذه القوة.
- ما الذي دفعك للاعتقاد بوجود علاقة بيني و بين دان؟
- دان أخبرني بذلك، و لا شك في أنك بت تعلمين أنه ليس من الذين يلتهون بالكلام، و عندما ينوي انهاء علاقة ما، فهو يعلن ذلك بكل بساطة و من ثم يذكر الأسباب.
- دان أخبرك بوجود علاقة بيني و بينه؟
ابتسمت سيلفيا ببرودة:
- كلا، لكنه قال ما يعني:"أريدها و سأحصل عليها"، فكوني على حذر يا صغيرتي. أنت هدفه الآن و ان لم تتصرفي بذكاء فستتلقين ضربة موجعة للغاية.
- تتكلمين و كأنني طريدة سهلة المنال!
- بل هو الصياد البارع (و نهضت عن مقعدها ترمق جيسيكا بنظرة ساخرة و أردفت) أمر مضحك... لم أخله سيء الاختيار إلى هذه الدرجة.
قطع الصمت الذي خيم بينهما هدير سيارة توقفت أمام الباب، و وقع خطوات سريعة تقترب من المدخل.
- جيسيكا... هل أنت في الداخل؟
جمدت جيسيكا في مكانها و قد عرفت صوت القادم فالتفتت إلى ضيفتها لتلقاها متجهمة الوجه عرضة للارتباك.
التقت عينا دان بعيني جيسيكا للحظات طويلة قبل أن يلتفت إلى سيلفيا قائلاً بنبرة باردة:
- ظننتك عائدة إلى بريتوريا.
- هذا صحيح، فأنا على وشك الرحيل (و لوحت بيدها ضاحكة) استمتعا بوقتكما.
مرت بمحاذاتهما متجهة نحو الباب، مخلفة وراءها رائحة عطرها الذكية كحاجز بينهما.
ران الصمت على الغرفة لفترة قبل أن يقطعه دان قائلاً:
- لم أتوقع أبداً أن تأتي إلى هنا. ماذا أخبرتك؟
لم تكن في حالة تسمح لها باعادة ما دار من حديث بينهما، فاكتفت بالاجابة بعصبية:
- لم تحمل أخباراً جديدة.
أصر دان على سؤاله:
- هذا يترك مجالاً واسعاً للخيال، و من الأفضل أن تخبريني.
- لا أخالك بحاجة للايضاح فيما يتعلق بشخصيتك، لكني سأطلعك على رأيي فيك (و استدارت ناحيته بعينين تقدحان شرراً و أردفت) أنت سافل و متوحش، و كل ما أحسه تجاهك الآن هو الازدراء و الكره.
- اذن أنت الآن تكرهينني، أليس كذلك؟
بدا كفهد شرس يستعد للانقضاض على فريسته، فانكمشت على نفسها تترقب هجومه. لكن شيئاً لم يحصل، بل جمد كل منهما في مكانه اثر سمعها رنين الهاتف في زاوية الغرفة.
تنفست الصعداء و تراجعت عدة خطوات من غير أن ترفع نظرها عنه و رفعت السماعة مجيبة:
- الدكتورة نيل تتكلم. ما الأمر يا سوزان؟
أصغت جيسيكا بانتباه إلى محدثها ثم أعادت سماعة الهاتف إلى مكانها بعجلة، و استدارت ناحية دان فلم تجده. فاستقلت سيارتها و اتجهت مباشرة إلى المستشفى. لم تر دان بمثل هذا الغضب من قبل، و ارتجفت يداها على المقود لحظة تفكيرها بما كان سيحصل لو لم ينجدها رنين الهاتف في الوقت المناسب. قادت السيارة كالمجنونة دامعة العينين، دامية القلب، تفكر بكلام سيلفيا عن الرجل الذي بالرغم من كل ما سمعته عنه و ذاقته منه، بقيت حتى اليوم تحتفظ بنذر قليل من الأمل في صدق شعوره نحوها. لكن الأمل تبخر الآن، و زالت معه صور مشرقة لمستقبل كانت معالمه قد بدأت ترتسم أمام عينيها.
قضت جيسيكا عدة ساعات في غرفة العمليات، تجري عملية ولادة قيصرية لاحدى السيدات. و توجهت بعدها مباشرة إلى مكتبها بعد أن أعطت تعليماتها إلى الممرضات للاهتمام بالطفل و أمه خلال الليل.
لاحظت أحدى الممرضات علامات الارهاق على وجهها فتقدمت منها سائلة:
- تبدين هزيلة هذه الليلة يا دكتورة، هل أكلت شيئاً هذا المساء؟
- لم تسنح لي الفرصة بعد.
- هذا ما ظننته. سآتيك بالعشاء إلى هنا.
عادت الممرضة بعد قليل تحمل فنجاناً من الشاي و بعض السندويشات، وضعتها على المكتب و غادرت الغرفة تاركة جيسيكا غارقة في مقعدها مغمضة العينين، شاردة الذهن. نظرت إلى نفسها في المرآة فبدت نحيلة متعبة بعكس سيلفيا ذات الجمال الباهر و الاطلالة الساحرة. لن تفوز أبداً بقلب دان و حبه، و لن تكون أبداً تلك المرأة الخارقة التي تكلمت عنها سيلفيا سامرز... اكتفت بتناول قطعة صغيرة من الجبن، ثم حملت حقيبتها و غادرت مكتبها بخطى متثاقلة بطيئة باتجاه مرآب السيارات. كل ما تحتاجه الآن هو أن ترتمي في سريرها لتنعم بقليل من الراحة بعد هذه الليلة المضنية...
وصلت إلى منزلها بعيد منتصف الليل، فترجلت من السيارة بسرعة مهرولة نحو الباب. و ما أن همت بالدخول حتى فوجئت بصوت دان هامساً خلفها:
- جيسيكا؟
لم تحرك ساكناً، تراقبه قادماً من الظلمة بقامته الطويلة و منكبيه العريضين. و تملكها الخوف عندما لاح لها وجهه الباسم فوضعت يدها على فمها تخنق صيحة كادت تفضح أمرها.
- اعتذر عما سببته لك من خوف.
حدقت في عينيها الرماديتين تعكسان النور القادم من الداخل و سألته بحيرة:
- ماذا تفعل هنا و في مثل هذا الوقت؟
- يجب أن أكلمك.
- ألا يمكن ارجاء ذلك إلى الغد؟
- ما أريد قوله لا يحتمل التأجيل.
أغلقت الباب خلفه و تبعته إلى غرفة الجلوس حيث رمت حقيبتها على أحد المقاعد و وقفت تعبث بشعرها متثائبة:
- قهوة؟
- ليس الآن. جيسيكا، جئت لأوضح لك...
التقطت أنفاسها تتحضر للمناقشة و علقت ضاحكة:
- توضح لي؟ لا أعتقد ان هناك شيئاً يستحق التوضيح.
- يراودني شعور بأن سيلفيا لم تخبرك بالحقيقة كاملة.
- يكفيني ما سمعته يا دان، سبق و قلت لي مراراً أنك تريدني و سيلفيا كشفت لي عن عزمك لاستدراجي إلى علاقة معك تسهل عليك الحصول على مرامك.
علت ضحكة مدوية لتزيد من غيظها:
- هل هذا ما قالته لك؟
- بربك يا دان، هل تريدني أن أعيد حرفياً ما قالت؟
- لابد من أن أعرف تماماً ما نسبته من أقوال إلي.
- حسناً، فيما يتعلق بي. قلت لها أنك تريدني و ستحصل علي مهما كلف الأمر (و رمقته بنظرة تحد متابعة) و بالمناسبة أود أن ألفت انتباهك إلى أنك لن تنجح أبداً في مسعاك يا دان. تظن نفسك قادراً على اختيار اية امرأة تريد و بالسهولة نفسها التي تختار ثيابك. فاعلم ايها المتعجرف أني سأخيب املك...
- جيسيكا...
- اياك أن تلمسني. حظي السيء هو الذي جمعني برجل مهاتر و عديم الاحساس مثلك. و الآن اطلب منك الانصراف حالاً.
تبدلت ملامح وجهه فجأة و تطاير الشرر من عينيه:
- لن أرحل من هنا قبل أن أقول ما جئت لأجله.
- لا أحفل اطلاقاً بما ستقول...
لم يمهلها فرصة أخرى بل انقض عليها ممسكاً بذراعيها و ضمها إليه بقوة خارت معها قواها فأحست بحاجة إلى البكاء. و هي تحدق بعينيه المتأججتين بنيران الغضب.
- إن كانت كلماتي لا تفي بالغرض يا جيسيكا فسأجرب وسيلة أخرى.
فانتفضت كالمجنونة تحاول التخلص من قبضتيه من غير فائدة. لم يحفل بالدموع الساخنة التي بللت وجنتيها. و لم يدعها إلا بعد أن شل كل مقاومة فيها فأبعدها عنه قائلاً:
- و الآن، هل ستستمعين إلى ما سأقوله؟
وقفت قبالته ترتجف كورقة يابسة، تكفكف دموعها بعصبية.
- أكرهك يا دان ترافورد! اكرهك. هل تسمعني!
- هل توافقين على الزواج مني يا جيسيكا؟
سرت نفحة من الغضب في أنحاء جسمها و صاحت بيأس:
- هل جننت؟ تعرض على الزواج الآن لأنك عجزت عن نيل مأربك مني بالطرق الأخرى؟
- لم أفكر بطرق اخرى يا جيسيكا.
رفعت يداً مرتعشة تمسح دموعها و نظرت إليه تتمنى ان تصدقه. لكن وجهه القاسي خلا من أية مسحة حنان أو عطف.
- إنك لا تعي ما تقول يا دان، و تظن أنه بامكانك اقناعي بمثل هذه الكلمات. اقر بأنك واسع الحيلة. تعرف متى ترمي شباكك لكني للأسف لن أقع فيها.
أفقده كلامها صوابه فرفع قبضته فجأة و هوى بها على حافة الأريكة القريبة:
- ويحك يا جيسيكا! لماذا لا تصدقينني؟
- هل تذكر محادثتنا يوم استدرجتني إلى منزلك لتناول العشاء؟ سخرت ليلتها من فكرة الزواج و أوضحت لي أنك تريدني... كصديقة لك. رفضت عرضك ساعتها، فأمضيت عطلة الأسبوع التالية مع سيلفيا سامرز.
- أؤكد لك...
تابعت كلامها و كأنها لم تسمعه:
- بعدها سألتني بك وقاحة أن أقول نعم حتى تلغي سيلفيا سامرز من حياتك. و لا تسألني عن رأيي في رجل يتصرف بهذه الخساسة مع امرأة تقاسمه شقته و تمضي برفقته أيامأ حميمة؟
- لم ألمسها قط.
ارتسمت ابتسامة هازئة على شفتيها:
- أهذا صحيح؟ أتتوقع مني تصديق ذلك؟
- حاولت تجاهل ما أحسه نحوك، لكني لم أقدر. كنت بيني و بينها طوال الوقت و صورتك في عيني كيفما تحركت. صدقيني يا جيسيكا لم أقو حتى على لمسها.
تغيرت ملامحه فجأة و غشت عينيه مسحة من البراءة و الصدق، جعلتها فريسة الاضطراب من جديد، فأغمضت عينيها تنصت إليه متابعاً كلامه:
- أخبرتها بعزمي على انهاء علاقتي بها لكنها لم تصدقني. و جاءت إلى منزلي بعد ظهر اليوم من غير أن ادعوها، فاطلعتها على الحقيقة كاملة بطريقة اعترف أنها كانت قاسية و فظة بعض الشيء.
سألته بنبرة تقارب الحشرجة:
- هل قلت لها أنك تريدني؟
- قلت لها أني أريد الزواج منك (لاحظ دهشتها فابتسم مردفاً) أردت أن أكون صريحاً و عادلاً معها و لكنها لم تبادلني حسن الصنيع. فسعت جاهدة لاظهاري بمظهر الكاذب أمامك.
- لماذا تريد الزواج مني؟
- لأنك امرأة متفوقة و مختلفة يا جيسيكا و منذ البداية كنت بمثابة تحد بالنسبة الي. لست خارقة في الطب و حسب بل أيضاً في قيادة الطائرات، و كان علي أن اكتشف الناحية الانسانية فيك. سخرت منك لأنك تقحمين عاطفتك في معالجتك للمرضى لكنك علمتني ما كنت أجهله، و أدركت أن في الطب ما هو أبعد من الدواء و الجسم العليل. بسببك صرت أعيّ أهمية الناحية النفسية لدى المريض، و أكثر ما أعجبني فيك شجاعتك و... (تقلصت عضلات وجهه فجأة و بان الخوف في عينيه و كأنه تذكر شيئاً فتابع بارتباك) يا الهي، لم أخف في حياتي كلها كما في ذلك اليوم الذي تسلقت فيه تلك الشاحنة لمساعدة السائق المحجوز في مقصورته. أصبت بالهلع يومها بمجرد تفكيري باحتمال انزلاق الشاحنة و أنت بداخلها، ففقدانك يحول حياتي قفراً مقيتاً يا جيسيكا، صدقيني.
تركت أنامله تعبث بخصرها، تشعر بفيض من الفرح يغمرها و أدنت جسمها منه مطلقة تنهيدة طويلة:
- دان...
تقرب منها هامساً بصوت عذب صادق:
- أحبك يا جيسيكا.
كانت تظن أنها لن تسمع هذه الكلمة منه، و هاهو الآن يقولها بحنان كما تمنتها و حلمت بها.
- أحب كل شيء فيك، مشيتك و البحة التي تنتابك حين تضطربين. أحب هاتين العينين الرائعتين تنشران السعادة حين تضحكين و أحبهما تقدحان شرراً عندما تغضبين (و رفع رأسه فجأة و تسمرت عيناه في عينيها و كأنه يحاول النفاذ إلى مكنونات صدرها و تابع بالنبرة الحنونة نفسها) اشفقي علي يا جيسيكا، فأنا لم أحس بحاجتي إلى حب امرأة كحاجتي الآن، و لا سبق أن ربطت مصيري بحب كما أفعل الآن.
ادهشها ما تسمعه منه فلم تقو على الكلام، و لكن الشك في قلبها بان بجلاء في عينيها، فزمجر خائفاً مما يراه:
- أرجوك يا جيسيكا لا تعذبينني هكذا.
- أحبك. ألم تلاحظ ذلك في مناسبات عديدة؟
لمعت عيناه فرحاً و انفرجت أساريره:
- كيف لي أن اتأكد و أنت لم تقولي كلمة واحدة؟
- و أنت ايضاً لم تقل شيئاً.
- أخبرتك بأني أريدك.
- لم يكن كلامك مشجعاً و خاصة بالنسبة إلى فتاة مثلي. تحترم مبادىء معينة في الحياة. لكني لا اخفي عنك أني أصبحت جشعة فيما بعد و أردت الحصول على اضعاف ما تعرضه علي.
- أظن أنك ستحصلين على أكثر مما كنت تتوقعين يا حبيبتي.
و ضمها إليه بحنان فاسندت رأسها بارتياح إلى صدره الدافئ و أحست بلهاثه يتسارع حول أذنيها، لكنه لم يحاول التمادي محجماً عن احراجها كما في السابق، فارتمى على الأريكة و جذبها إلى جانبه قائلاً:
- تلك الليلة في فندا، و بعد رقصة الأفعى لم أنو احراجك، لكن...
- أعلم ذلك. لقد كانت ليلة ساحرة مجنونة، و ما كنت لأشعر بالخجل مما أقدمت عليه لو كنت أعلم ان حبك لي يوازي حبي لك. لكني ظننت..
أكمل العبارة عنها مبتسماً بسخرية:
- لو لم تأت الممرضة رافيل لكنت علمت ليلتها كم أحبك يا جيسيكا.
- انقذتني بمجيئها من موقف حرج للغاية.
- أتظنين أن والديك سيعترضان على زواجنا ان قررناه يوم السبت المقبل؟
- لا اعتقد ذلك و لكن ماذا عن عملي مع بيتر؟
- لا مانع لدي في أن تتابعي عملك حتى نهاية العقد.
شبكت يديها حول ساعده تسأله برقة:
- و بعد ذلك؟
- سندع للوقت الاجابة على ذلك.
و رفع رأسه ينظر إليها بعينان تشعان حناناً حتى أحست بعظامها تذوب تحت تأثيرهما و تابع قائلاً:
- أتظنين أن والدك سيكتفي بالقطيع الذي اهداني اياه الزعيم سدريك ليكون بمثابة مهر لعروسي
عقدت حاجبيها بدلال مجيبة:
- لا تكن سخيفاً يا دان، فهو لا يولي هذه الأمور أية أهمية. بالمناسبة. ماذا فعلت بذلك القطيع؟
- اعطيته جوناس الخادم الذي يعمل في منزلي منذ سنوات و اقترحت عليه أن يبادر إلى الزواج من امرأة تجيد الاهتمام بالمنزل و الاعتناء بالأطفال في حال أردت ممارسة الطب بعد زواجنا.
دفنت وجهها في صدره متمتمة بتأثر:
- آه يا دان، كم أحبك!
رفع وجهها بيده يتأملها:
- لم أعد احتمل غياب وجهك عني. لقد توردت وجنتاك...
- أعلم ذلك، فأنا لم أعتد بعد التغلب على تأثير كلماتك فيّ.
تذكرت كلام الزعيم سدريك عن الدوما و تشبيهه الرجل عند البحث عن عروسه ... "انه يزداد شراسة و نهماً كلما تمعن في بحثه و لا يترك لفريسته فرصة للهرب حينما يوجه ضربته".
- دان، حبيبي أرجوك..
اتكأ على مرفقه مسلطاً عليها نظرات جامحة:
- أتطلبين مني التوقف؟
- أكثر ما يسعد الفتاة العاشقة هو أن تكون بين ذراعي حبيبها، تسند رأسها إلى صدره و تستمع إلى كلمات قلبه. أنا لا أبحث عن المتعة بقدر ما أبحث عن سعادة الروح، و يكفيني ان تضمني إلى صدري و تهمس لي بكلمات عذبة حتى أنسى كل ما حولي.
- أحبك...
- قل لي يا دان، هل أزعجك طلبي منك بالتوقف؟
حدجها بنظرة ملؤها الحب و الحنان:
- بل على العكس، أنت على حق في كل ما قلته. حان موعد النوم، و لست على استعداد لأن أبدأ حياتنا باستغلال فتاة تكاد تنهار من شدة النعاس.
مرر أنامله بنعومة على خديها و همس مودعاً:
- سأراك غدا يا ملاكي.
و تناول سترته و خرج مغلقاً الباب خلفه بهدوء.
أوت إلى سريرها تحضن صدى كلمات دان العذبة الرقيقة، تحلم بالمستقبل و ما يحمله من أحلام و آمال. غداً ستشرق شمس جديدة حاملة معها حرارة الحنان و دفء السعادة، و ستفتح لها ذراعيها مرحبة و تدفن في لهيبها مرارة الماضي و دموعه، و تضيء بنورها شموع الأمل و الحب...

nightmare 03-10-08 07:08 AM

:cool:
إن شالله تعجبكم الرواية
:rolleyes:

redroses309 03-10-08 07:09 AM

الرواية شكلها حلوة
تسلم أناملك يا عسل

majedana 03-10-08 08:34 PM

تسلم ايدك

هابقي اقراها واقولك رايي

يعطيكي العافية


بنت الاسلام 05-10-08 09:59 PM

سلمت انا ملك اختي على هذي الروايه الرائعه000

nawalbnz 06-10-08 12:37 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .
http://www.al-wed.com/pic-vb/134.gif

قصائد 09-10-08 05:26 AM

يسلمو الرواية مرة حلوة

nightmare 09-10-08 05:28 PM

شـكــ وبارك الله فيكم ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .:p

niso 10-10-08 11:28 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية يعطيك الف عافيه

وردة الياسمين 19-10-08 08:49 PM

يسلمووووووووووووووووووووو حبيبت الروايه حلوه كتيييييييييييييييييييييييييير واول مره بقرا روايه تكون البطله شخصيتها قويه هيك عن جد حلو وشكرا يا عسل

غامض 24-10-08 01:41 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

6soso 24-10-08 11:33 PM

تسلم ايديكى قصة حلوة

العاشقة البريئة 31-10-08 01:17 PM

شكرا على هذة الرواية الروعة

رومنسية زمانها 17-12-08 02:25 AM

يسلمو خيو روعه لاهنت

hamesha 20-12-08 04:15 AM

rewaya raw3aaaaaaaaa
chokran laki o5tii
aregato ^^

AMUUL 01-01-09 01:40 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . جزاك الله الف خير بارك الله فيك ورحم الله والديك, يعطيك الف عافيه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فراشة * 02-01-09 10:48 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية على القصه الجميله

برنسيسة ليلاس 02-02-09 08:07 PM

تسلمِ يا عسوله ع الروايه الحلووه

الجبل الاخضر 02-08-09 02:45 AM

رائعه جداجدا وتسسسسسسسلمين

rana_rana 04-08-09 05:05 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

زهرة الماس 08-12-09 11:46 PM

يسلمووووووووووووووووووووو00000ني00000000تحياتي لكي

وفاء حسين سلطان 10-12-09 12:19 AM

الراوية رائعة مشكوووووووووووووووووورة

قماري طيبة 01-01-10 08:36 AM

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

moura_baby 28-06-10 01:47 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

moura_baby 28-06-10 02:02 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

بنوتهـ عسل 22-10-10 10:05 PM

مشكووووور ع الرواية الحلوة ،،

يعطيك العافية ،،

طيف السما 22-01-11 06:35 AM

شكراااااااااااااااااااااا روايه رائعه تسلم الايادى:8_4_134:

دآرين 23-01-11 03:25 AM

سبحان اللة وبحمدة

زهرة منسية 05-03-11 05:59 PM

يسلم ايديكى الروايه حلوه كتيييييييييييييييييييييييير:8_4_134::8_4_134::liilas::liilas e:

حنان محمد ابراهيم 19-04-11 10:26 PM

تسلم ايدك على الرواية الرائعة

ندى ندى 22-11-11 07:09 PM

جميله جدا جدا جدا

فجر الكون 26-11-11 11:32 PM

رواية رائعة بلتوفيق ... :55:

مَلوكههْ 29-08-14 08:58 AM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
رواية رابعه ...أتمنى لو تنزل رواية عبير لم يفوت الاوان ..ولكم الشكر

angel-555 29-08-14 09:30 AM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
شكراااااااااااااا

قماري طيبة 27-02-15 02:27 PM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
Thaaaaaaaanks

الخنساء الشاعره 29-06-15 02:50 PM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
شكرا جميله جدا😍😍

زهرة الخليج العربي 30-10-16 03:31 PM

♥♡♥مساء الخير
♡♥♥مرحبا بكم
انا عضوة جديدة في المنتدى
♡♥♡هل من ترحيب

زهرة الخليج العربي 30-10-16 03:33 PM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
الروايه من الملخص باين عليها حلوة نتمنى قرأتها كاملة تحياتي♡♥♡تقبلوا مروري

فرحــــــــــة 03-11-16 11:12 AM

رد: 22 - المجهول - ايفون وينال - عبير القديمة ( كاملة )
 
غاليتى
nightmare
سلمت يداكى على القصة الرائعة
لك منى كل الشكر والتقدير
على هذه التحفة الرائعة
دمتى بكل الخير
فيض ودى


الساعة الآن 02:35 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية