منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   خواطر بقلم الاعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f725/)
-   -   لم يعد صغيرا (https://www.liilas.com/vb3/t67382.html)

ربيع عقب الباب 17-01-08 03:37 PM

لم يعد صغيرا
 
لم يعد صغيرا
كان البرد شديدا حين غادر محمد مدرسته ، فطوى ذراعيه على صدره ، ضغطهما ، وسرعان ما عاد يدس كفيه فى جيبه ، والكتب تتساقط منه ، فيضطر إلى لملمتها ، ثم يستأنف السير صوب المنزل 0
سهام البرد تخترق الملبس الرقيق ، وتدبدب فى بدنه ، فتلفه قشعريرة ، ويهتز جسده 00 يهتز بقوة ، وتصطك أسنانه 00 ترتعد ، وهو يسرع ، يحلق كطائر ، يتمنى من قلبه لو تحرك المسكن ، أو أصبح هو طائرا بالفعل 00 آه يا أمي من لسعة البرد 00 آه 0
لكنه حين كان يطالع المارة كبارا وصغارا ، ويشهد كم يتأففون ، ويرى على وجوههم انفعالات تشبه ما يحس به ، يشعر ببعض العزاء ، فيشتد عوده ، ويقوى ، يبتعد عنه هذا الشعور المرير بالتعاسة 0
وساعة كان محمد يعبر كتلة صخرية على جانب الطريق لمح ورقة غريبة الشكل 0 كانت مطوية 0 عبرها ، ثم توقف ، وعاد ليقف أمامها ، وبعد قليل حط عليها ، والتقطها 00 إنها ورقة نقدية 00 نعم نقدية 0
مسح المكان من حوله بشكل لا إرادي ، ربما ليتأكد أنه ليس ملعوبا قصد به السخرية ، أو ليتأكد أن أحدا من المارة تعنيه هذه الورقة 0
فك طية الورقة ، فوجدها ورقتين ماليتين من فئة العشرة دنانير 0 انطفأت أشعة الفرحة فى صدره ، وتو قف تماما ، فقد داخله إحساس أنها عملة لا قيمة لها ، ولذا بدا الأمر عاديا ، بل ومستفزا بعد أن كان منذ لحظة غير عادى ، بل ومبهجا !
ألقى محمد بالسلام على والده ، وقد نسى تماما أمر الورقتين ، أو تناساهما ، ولذا فأنه اتجه صوب حجرته ، وتخلص من ملبسه ، وارتدى ملبسا منزليا ثقيلا ، وهو ينفخ فى كفيه مستدفئا ، خطا صوب المطبخ ، وأشعلت له والدته البوتاجاز !
سرى الدفء فى بدنه ، فصاح :" أبى 00 أبى "0 وهو يغادر المطبخ متجها صوب مجلس والده :" أبى وجدت هاتين الورقتين فى الطريق "0 وقدمهما لوالده الذي تفحصهما بعناية ، ثم قال بثغر باسم :" أين وجدتهما ؟ "0
أجاب محمد وهو يتساند إلى الجدار :" أمام السنترال الجديد "0
انتظر الوالد أن يضيف محمد شيئا ، لكنه صمت ولم ينبس بشيء ، فعاود سؤاله :"هل فعلت ما يجب عليك فعله فى مثل هذه المواقف ؟"0
انتبه محمد وقال :ط هيه 00 نعم نعم 00 انتظرت 00 بل وتركت فى حانوت قريب عنوان مسكننا 00 ولكن ما قيمة ما فعلت 00 إنها لا تساوى شيئا 00 يبدو أن صاحبها تخلص من عبء حملها "0
ربت الوالد على كتف ولده ، وبش فى وجهه ، وهو يقول :"الورقة الواحدة تقدر بأكثر من مائة جنيه ، ألم تقرأ ما تحمل "0
فغر الولد فاه :" حقا "0 وبفرح حقيقي مد يده ، وسحب الورقة من يد والده ، وهو يردد :" تصورت أنهما ورقتان لا قيمة لهما "0
ضحك الوالد قائلا :ط فى الثانوية العامة ، وتقرأ الصحف اليومية ، ولا تعرف أسعار العملات ؟"0
خجل محمد من نفسه ، أحس بحرج شديد ، فهرب من كلمات والده اللاذعة 0
انتظر محمد يوما 00 يومين 00 ثلاثة ، وفى كل يوم كان يقف على باب الحانوت ، ويسأل من به :" هل سأل أحد عن نقود ضائعة ؟"0
ظل الرد واحدا :" لا 00 لم يسأل أحد ، حلال عليك لقيتك يا بنى !!"0
لأول مرة يصبح مسئولا عن هذا المبلغ الضخم ، نعم ورقتان 00 كل ورقة بمائة جنية وعشرة أخرى ، تزيد أو تقل قليلا 0كان المبلغ بالفعل كبيرا ، فجأة انتفض واقفا ، وغادر المسكن فى ظهر أحد الأيام ، وعاد بعد قليل يحمل شيئا داخل كيس من البلاستيك ، ووجهه أكثر إشراقا ونورا 0
قالت الأم :" هيه يا رجل البيت 00 ماذا أحضرت ؟ "0
ضحك محمد بصدر محلق ، وقال :" هذه حلوى لصاحبي سامح 00 إنه مريض ولابد أن أعوده !"0
أصابت الأم الدهشة ، وقالت :" من أين دفعت ثمنها ؟"0
قال محمد :" مصروفي اليومي 00 أنسيت ؟"0
استطالت دهشة الأم :" وماذا تفعل فى أيامك القادمة ؟"0
قهقه محمد ، وتمايل :" أنسيت يا أمى أنى أملك أكثر من مائتي جنيه "0
قالت الأم بتوسل :" هل تأكدت أنها أصبحت خالصة لك ؟ "0
رد محمد بفرح :" اليوم السابع والجميع يقولون حلال عليك كنزك "0
دخل محمد حجرته ، وأطلق لخياله العنان ، يسبح فى دنيا أخرى ، ملئي بألوان جديدة غاية فى الجمال 00 حذاء جميل ، جاكت جلدي يقيه البرد القاسي 0
فجأة اقتحم أخواه الصغيران عليه أفكاره المجنحة ، فتلقاهما بين ذراعيه 0 كان مفعما ، طائرا ، فنقم على نفسه ،ووبخها ، لأنها ما نظرت إلا لنفسها فقط ، وما فكرت فى هذين الصغيرين ، أو فى والديه 0
كاد يبكى ، بل أن دمعات راحت تسيل على وجهه ، وقد أقسمت الأم لزوجها ، أنها رأت دموعه بالفعل حين وقف أمامها وهو يردد :" أول شيء نشتريه حذاء رياضي لكل منهما "0 وقالت الأم أيضا ، أنه طول النهار غارق فى تفكير عميق ، لا يصحو منه إلا ، ويروح فى دوران مستمر ، إنه مريض !!
فى مساء هذا النهار كان محمد يسير وأخواه الصغيران ، يتقدمون الأم إلى السوق 0 نعم سوف يشترى حذاء لكل منهما ؛ فالعيد قادم 00 أما الأم فسوف يشترى لها حذاء غير الحذاء الذى دائما أبدا ما يراه في قدميها ، ما يبقى من النقود ، هذا إذا ما بقى شيء ، يشترى به أى شيء 00 أي شيء لنفسه ، ورغم إلحاح أمه بضرورة العدول عما انتواه ، وأن يبدأ بنفسه إلا أنه كان أكثر إصرار ا 0
كان لابد من تغيير الدنانير من المصرف بالعملة المحلية ، فتوجها صوب أحد المصارف ، وحين امتدت يد الموظف ، وراحت عيناه تتفحصان ورقتي العملة ، كان قلب محمد يخفق بشدة 00يخفق 0
بنظرة فيها بعض التساؤل والسخرية ، سألها الموظف :" من أعطاك هذه العملة ؟ "0
قالت الأم :" هل هي مزيفة ؟ "0
تنحنح الموظف ، ابتسم :" لا 00 ليست مزيفة ، لكنها ألغيت منذ أعوام !!"0
انسحبت الأم ، وهى تحمل عبء المفاجأة ، وعبء سخرية الموظف ، لكنها سرعان ما تخففت مما تحمل ، وانتظرت أن يتكلم محمد ، لكنه أبدا ما تكلم 00 استرقت منه نظرة ، فوجدت انقلابا عجيبا ، تحول الوجه المشرق الممتلىء لمجرد وجه شاحب 0 كانت تشعر بما يتحرك داخله من إحساس بالانكسار ، ففتحت حافظة نقودها ، وقدمت له قيمة الورقتين ، وهى تقول :" هات ما كنت تريد !!"0
كان شيء جديد يتولد ، ويكبر فى هذا الطفل المشاكس ، لذا فإنه امتص صدمة المفاجأة ، ورد يد أمه الحانية :" هذا مصروف البيت 00 أكلنا ومشربنا طول الشهر 00 لن أشترى شيئا حتى يقرر أبى بنفسه "0
لم يعد طفلا 00 نعم كبر محمد كثيرا ، خلال هذا الأسبوع 00 أصبح رجلا !
هذا ما كان يدور فى رأس أمه ، وهذا ما دفعها إلى عدم التراجع ، وحسمت الموقف وهى تقول لابنها :" أبوك موافق 00 هيا يارجل 00 هذه النقود لك ، اشتر بها ماتشاء 0

سراب 17-01-08 06:23 PM

رائع ياربيع تمتعت جدا" بما قرأت هنا

اصبح محمد رجلا دون حتى ان تنبت له شوراب او يتغير من اي ناحيه

فهاتان الورقتان استطاعت ان تغير طريقه تفكيره

اعجبني جدا" عدم انانيه محمد

واحزنني انكساره عندما اصتدم بالواقع وعرف انه لن يحقق مايحلم به

جميل هذا الكم من التهذيب الذى تعلمه لابنائنا ربيع

يعطيك العافيه وتقبل مروري

أم عروة 18-01-08 12:19 AM

رائعة بحق أعجبتني القصة ..
سلمت يمينك ..
جميل ماتبثه كلماتك التربوية في النفوس لتهذبها ..
إسمح لي بأن أقول لك بأنك مبدع عربي أفتخر بمتابعة نبض قلمه..
تقبل مروري أم عروة..

ربيع عقب الباب 18-01-08 03:05 PM

العزيزتان ( سراب - أم عروة )
شكرا لكم مروركما من هنا ، و قراءة هذا العمل
سعدت بقراءتكما لهذا العمل

ربيع عقب الباب


الساعة الآن 08:53 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية