منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f484/)
-   -   محاولة غير يائسة (https://www.liilas.com/vb3/t51748.html)

ربيع عقب الباب 16-09-07 07:03 AM

محاولة غير يائسة
 
محاولة غير يائسة
من حارة لحارة ....كان وقع خطانا يدب فى رخام الصمت ، فتذوب الكائنات هربا ، وينهض البازلت متخما ، بجفون أثقلتها وطأة الركود . المخبرون خلفنا يبذلون أقصى ما تستطيع سيقانهم .. يتقطر على أبدانهم الغليظة عرق غزير ، بينما صدورهم كبطون البغال المجهدة ، تزفر الأنفاس في خوار مريع ، وتمخر فى ظلال الدوائر النائمة بين البيوت و أضرحة البلدة المتناسلة .[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URL
أنفلت من خط المطاردة ؛ فأنا الوحيد في مجموعتي المختص بالمنشورات المطبوعة ، اتخذت طريقا تصاعديا ، أرقبهم منه ، وأوصل الحبل المقطوع للمحاولة ، أكمن بزوايا العطف ، بحرص وحذق انقض شاعرا بوطأة الملقى على عاتقي . شعور حاد بالوحدة ينتابني للحظة ، ويكاد يدهم روحي المحلقة ، فتهرع ذاكرتي خلف وميض خلته يخبو ، ويتهالك على أحجار مدينتنا القديمة .
إنها الفرصة الأخيرة ، والثالثة خلال شهر واحد ، بعد أن حوصرنا ؛ فالأمور تتأزم ، وقبضة البوليس تزداد ضراوة ، والرجال في المعتقل يعانون الأمرين ، دونما تحقيق . كنا على وشك الانتهاء ، ملأنا المحطة ، والمنافذ الرئيسية ، والإسفلت أيضا . أصبح للإسفلت شكل بهيج ، لأول مرة ينطق ، ويبتسم لنا ، ويصبح لوجوده معنى ..كلمات محمود المثيرة تنط من جوفه الأسود .. فجأة أحاط بنا رجال المباحث ، في الوقت الذي كانت فيه صفارة المصنع على وشك إصدار نفيرها المعهود ، آذنة لبوابتها القوية ، بضرورة إخراج ما فى جوف هذا المارد ، وتغيير نوع طعامه وشرابه ، بآخر طازج حار الدماء .. أروح مجدفا فى الظلام ، دانيا من نقطة المطاردة ، أتخير مكانا أرى من خلاله ما يحدث دون أن ترصدني العيون .
كان جمع بجرادل البوية ، وأدوات الكشط ، يحاولون محو كتابات محمود المضيئة على الإسفلت ، والجدران ، والمدخل القريب للمؤسسة ، تدفعهم همة عجيبة – ليس مبعثها سوى صوت المأمور والكرباج الذي يتنفس الصعداء لاطما الهواء من حولهم – استرعت انتباه العابرين ، فراحوا يتوقفون أمام ما بقى من نداءات وأقوال ، موزعة نظراتهم على الجميع ، ثم تتحول هياكلهم فى استفزاز مشوحين بقبضاتهم نحو الطريق ، قبل أن يسوقهم الجنود المصطفون بشكل مكثف .فجأة رأيت محمود يتدحرج على الإسفلت صارخا ، يتدحرج في قوة ، والجنود يطاردونه فى قسوة مرعبة .. ومحمود يضحك منهم منفلتا من عصيهم الباطشة ، يحاصرونه ، يضحك بملء فيه . أطبقوا عليه .. وحين أيقنت من هلاكه ، إذا به طائرا يخوض فى برك الهواء مدردبا أوراقه وكلماته حرفا .. حرفا ، وكلمة كلمة ، وعندما كان طائره يختفي ، خيم على المكان ضباب كثيف ، فتذكرت أن محمود هناك فى انتظار فتح البوابات ، وعلى اللحاق به على جناح السرعة .
ما أتوا على آخر منشور ، حتى سمعت صفارتي القطارين – المعهودين – كل من جهة ، وبمجرد أن هدءا من سرعتيهما ، تدفقت جموع العمال قافزة ، جارية متجهة فى حمية نحو الطريق المؤدية إلى المصنع .
كأم تهدهد أطفالها قبل النوم ، دقت ساعة المؤسسة .. أعقبتها صرخة الناعورة في السور ، فتدافعت جموع الموتى من الأجداث سراعا ، وبطوع أمرهم ، كانت الماكينات تعانق هياكل جديدة فى خلاياها ، انبثقت فى كياني رجفة احتوتني ، وزلزلت فرائصى ، تماسكت متئدا . راح صفير يئز فى أذني ، توجست خيفة ، متذكرا زملائى المطاردين فى أطراف البلدة ..والآخرين العاملين عبر المنافذ الأخرى ، ومحمود الذي ملأ قلبي و عقلي وسمعي بحكاياته ، وضحكاته المدوية ، وهو يتراقص أمام ماكينته كأنما يأخذ محبوبته فى صدره ، يدور بها ساقيا إياها شهد ما ينضح فيه كيانه ، يطير هائما محلقا ، فيترنح العنبر بكامله مدمدما بأغنيته الأثيرة عن بكره ، الذى سوف يأتى ، ويجتلبونه بسواعدهم كعصارة الشهد ، يستخلصونه من معاناتهم ، ثم يساقط محمود من عال صارخا بالمرض الجبان ، يتحشرج صوته ، ويغيب فى نهجان عنيف ، لكنه سرعان ما يعود واقفا ، زاعقا في رفقائه من حوله :" و لا الموت يقدر علينا .. احنا أقوى ".
رحت أختلس النظرات ، أتحين الفرصة . جنود الأمن رابضون على المنافذ الجانبية فى إهمال مصطنع . عندما اختلطت الأصوات فى أذني تحفزت ، وأخرجت كتلة الأوراق من بين ثيابي ، وعند مرور غيمة من الأنفاس و الظلال ، اندفعت بسرعة عالية فى حماية البلكونات ، والعربات النائمة فى حضن الإفريز ، اندسست بين الجموع التى ظهرت وقت اندفاعي فى الطريق العام .
تعقبني رجال الأمن بينما همهمة تعلو ، وذراعي القصيرة تلوح بالأوراق ، تلقى بها على رؤوس الأشهاد، منطلقا فى خطوط متعرجة ، محاولا قدر إمكانى التخفي ، وهم يجدون خلفى آخذين فى طريقهم الأبدان الهزيلة المنكبة على الإسفلت ، راكضين غير آبهين لشيء ، محاذرين الوقوع فى براثن العنكبوت .
طائر أنا ، محلق فى زحفي البهيج ، أسعى ما استطعت ، تتخاطفنى الأيدي ـ وأوراقي كفراشات تهوم بأجنحة مشرعة ، سكرى بدفء الكلمات ، وصوت محمود العميق يدوى فى أذنى :" يللا .. اوعى تقف .. مش هانخسر إلا الحبال اللى بتقيدنا .. يللا ".[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URL
حطت على معصمي قبضة قاسية ، ووجدتني بين أحضان هيكل ضخم ، أحاول الفكاك مستجمعا قوتي ، أحس بضلوعي تتهشم ، تطقطق في عنف ، أزعق .. أزعق .
:" استنه .. ايه الى بترميه ده يا محمد ؟".
لم أكن ............التف العمال حولنا ، أناضل لتخليص نفسي ، وهم يتسرب داخلي ، وما زحزحت هذا الهيكل قيد أنملة ، ألتجىء بالمحيطين الذين تهامسوا متوجسين ، عندما طالعتهم ملامح هذا الكائن ، وبرغم ترددهم ارتفع صوت من بينهم :" خلاص يا إبراهيم حبك الشغل .. ما كفاية جوه ؟ ".
إبراهيم ككلب أمسك عظمة ، أحنق صدورهم ، التموا حولنا لاكمين في غيظ . دون توقف استمر الضرب من جميع الجهات ، وحين واتتني الفرصة انفلت مدركا الوردية قبل إغلاق البوابة الكبيرة .
بين العنابر ، وعبر مساحاتها العالية الصخب : طنين الماكينات .. دوى الورش . كان محمود كالعهد به ، يأخذ معشوقته العنيفة الدوران ، التى تبرك أمامه مسلمة له نفسها ، ممتدة بعشرة أرواح ، وعشر مواكيك ، كان يدور حولها معدلا سير الخيوط ، يلقمها مكوكا آخر ، ينزل الطبة ، وتعابير وجهه تنقبض ، وتنبسط ، وأنا منزو ، أتفرج ، محاولا قراءة هذه الحركات ، وهو يتقدم من الرجال بين الفينة و الفينة ، يشد على سواعدهم ، يثير فى صدورهم حمى المشاعر ، راشقا حبتى عينيه بين تلافيف الآلات و الأعمدة الخرسانية ، دائرا فى مساحته المحدودة ، يملأه شعور بالانتشاء والصرامة فى آن واحد ، وعيناى تدوران حوله ، ترصدان العيون التى شممت لنظراتها رائحة خبيثة . كان العنبر يشغى حول طائر اللقلاق ، الذي ما نفعت معه جزاءات أو استدعاءات أو ترويض .
أومأ إلى ، أدركت على الفور ما يعنى ، ترددت ، لف حول نفسه دافعا إلى إشارات ، كانت تعنى ساعة التوقف ، خرجت ، انزويت بعيدا ، أقبل بتراخ وكياسة ، وعندما أصبح فى منتصف الطريق ، اندفعت عربة محملة بكتل وسيقان من حديد التسليح بمؤخرتها ، وظلت تطارده ، ، وهو يحاورها ، تطارده ، وحين أيقنت أنها تطبق عليه ،وتدمغه بالجدار ، كان ينفلت كعصفور ، ويحلق بين الجموع التي تراصت أمام العنابر ، بينما كنت أعدو خلف العربة ، وأشتبك مع السائق ، الذي نالت منه الدهشة تماما ، حين واجهته بما كان يحاوله :" اعذرنى يابنى .. العربة مش عارف إيه جرى لها .. معاكسانى م الصبح ".


الساعة الآن 06:36 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية