منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الارشيف (https://www.liilas.com/vb3/f183/)
-   -   أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام .. (https://www.liilas.com/vb3/t40092.html)

عاشقة الكتب 24-05-07 06:46 PM


(21)



وانتفضت في مكانها وهي تحاول أن تبعد الأيدي التي تريد الإمساك بها...


- كلاااااااااااااااااااااا، ابعدوه، أنا لا أريده، لا أريده. صرخت بهستيرية.


- اهدئي يا ابنتي، "عمر" ليس هنا.


- أبي لم يكن هنا، أنا لا أحب اللعب، لا أحبه..


- اذهبي ونادي الممرضة، بسرعة.. صاح بابنته بجزع.






وأحمل معولي لأحرث في ثرى الأيام...


لأنبش الماضي وأبحث عن حاضري..


أين الزهور، أين الجذور، أين البذور؟!


أين أنا وأين التراب!!


سأبني محرابي بنفسي وأهيل التراب على لحدي...


وألقي بنفسي هناك في الحفرة، في القاع حيث لا أحد، لا أحد على الإطلاق...


دعوني..


أتركوني..


أو..


دثروني!!


ها هو السراب قادمٌ إلي


يريد أن يحتويني

يمتصني


فأظل أنا دون بذور دون جذور بلا أزهار...




وانسابت دمعة حارة من عينيها المغمضتين بقوة والممرضة تسحب الإبرة المغروزة من ذراعها...


وقبل أن تستدر خاطبت الشخصان الموجودان بالغرفة:


- المريضة بحاجة للراحة أرجوكم، الإنفعال ليس جيداً لها فالزموا الهدوء..


وابتعدت بخطواتها الجامدة وهي تُغلق الباب خلفها بخفوت...


دفنت "ندى" رأسها في حُجرها وهي تشدُّ على الغطاء...


خاطبتها بصوتٍ هامس:


- سامحيني، سامحيني يا "غدير"..


وأشاحت تلك الأخيرة بوجهها للجانب الآخر بصمت وعيناها لا تتوقفان عن الذرف...


وتقدم الأب قليلاً فكفت "ندى" عن الكلام، قال بصوتٍ خافت كأنهُ يخاطب نفسه:


- لا حول ولا قوة إلا بالله، لو أعلم فقط ماذا حدث!!


ثم أردف لابنته:


- هيا معي، دعيها ترتاح.


- كلا، سأبقى ربما تحتاج لشيء. ردت بتهدج.


- أنتِ لن تبقي صامتة و لن تلبث أن تنفعل كما حدث منذُ ساعات.


- أعدك سأبقى ساكنة...


تنهد الأب بأسى وهو يُلقي عليها نظرة أخيرة..


لازال وجهها شاحباً وآثار الدموع تلمعُ في أطراف أهدابها المسبلة و قد اتخذت لها مجراً متعرجاً على خديها، وشفتاها لا تكفان عن التحرك لكأنها تود أن تقول شيئاً لأحد لكنها لا تلبث أن تصمت...


وشيعها وابنته وهو يوصيها فهزت الأخيرة رأسها أن اطمأن...


يطمأن!!!


==========



اخرسوا لا أريد أن أسمع كلمة، أي كلمة!!



تلك ال****ة، تلك الساقطة، تلك كانت زوجتي!!


زوجتي أنا!!!


قسماً لن أبقيها حية، سأقتلها، فنائها بيدي هاتين...



و غرز أصابعه في شعره وهو منكسٌ رأسه للأرض...



بدت الأرضية البيضاء مظلمة في عينيه..




كم توسلتني، كم تشبثت بقدمي وهي تنتحب و تقسم لي بأغلظ الأيمان بأن أتركها وستخبرني بكل شيء....


و كدتُ أنا المغفل أن أرضخ لها وأستمر في العيش في الظلمة، في الضلال!!


لكنني لم أقبل، لم أزد إلا إمعاناً في إذلالها، الغضب كان يعميني، يُعمي بصيرتي و يصمُّ أذناي، كلا، لم يكن الغضب فقط بل كان الخوف!!



أجل خفت أن تصدمني، أن تقول لي من جديد أنها تحب رجلاً كما فعلت أول مرة، أن تؤكد لي ذلك بعد أن حاولت تناسيه، وأنا لا أتحمل جرحاً آخر، لا أتحمل طعنةً أخرى في القلب!!



و ليتني عشتُ في الوهم الأول، ليتني لم أعرف، وليت الطنعة رضت بأن تستقر في القلب وحده، كانت في شرفي، كرامتي أنا!!

وانهارت...



انهارت كالمجنونة....


لكن لا شيء يشفع لها عندي، أين ستفلت مني، أنا قاتلها لا محالة!!



ولاحت له قدمان تنتصبان أمامه، ولأنه يعرفهما جيداً فلم يرفع رأسه..


وخيم الصمت بينهما لكن "عمر" قطعه وهو يتساءل بسخرية قاسية:


- كيف حالها؟!


"أما زالت حية؟!"


- بخير. ردّ بإقتضاب.



ثم زفر وهو يخاطبه بغضبٍ كامن احتدّ في صدره:


- تركتها أمانة لديك ووعدتني بأن تضعها في عينيك وهذا مآلها!!


- ......................


- لا أدري كيف انقلب حالكما فجأة!!


- ......................


- هي لا تتكلم وأنت لا تتكلم، بالله عليك كيف ستُحل مشكلتكما!!


- ....................


وتطلع له الأب بنفاذ صبر وهو يردف:




- اسمع هي مصرة على الطلاق الآن، ليس على فمها إلا هذه الكلمة، الفتاة ترتعد من مجرد ذكر اسمك، وإن استمرت في ذلك فسأضطر إلى الوقوف بجانبها..


- ......................



- أجل، صحتها أهم شيء بالنسبة لي، لن أعذب هذه اليتيمة بسببك حتى وإن كنت ابني.


نهض "عمر" من مقعده بتثاقل وهو يرد ببرود:


- اعذرني يا أبي أطيعك في كل شيء إلا هذا، طلاق ولن أطلقها، و قل لها ذلك..


"ليس الآن يا غدير، ليس الآن!!"


و أكمل طريقه منصرفاً وما أن وصل خارج المستشفى حتى استند على سيارته بتعب!!



=============



- كيف أصبحت الآن؟!


- ...................


- الحمد لله، اتصلي بي بين الفينة والأخرى لتطمأنينا..


وأغلق "ناصر" هاتفه وهو يلتفت لزوجته الراقدة في فراشها...


تنهد وهو يخاطبها بوجوم:


- مسكينة هذه الفتاة، المصائب تلاحقها أينما كانت..



وأتاه صوت "شيماء" ضعيفاً لا يكاد يُسمع:


- ماذا بها؟! متعبة في حملها!!


- إنها ليست حاملاً البتة، لقد أكدت لي "ندى" ذلك...


- ليست حاملاً؟!


ولم تسمع بقية ما قاله، أغمضت عينيها بألم وهي تحاول أن تشد الدثار علّها تصمُّ آذانها، أو ربما لتحجب صوراً لا تفتأ أن تطفو أمام عينيها اللتان لم تذوقا النوم أبداً، أبداً!!


و انتابتها رجفة فلم تستطع أن تُكمل الشد...


اقترب منها "ناصر" وهو يُدني لها الدثار:


- ماذا بكِ؟! أأنتِ مريضة؟!


وخفت الصوت أكثر من ذي قبل:


- أنا لستُ مريضة، ليس بي شيء..


ووضع يده على جبينها وهو يقول بخوف:


- أنتِ في طور حمى!!


وسرعان ما أبعدت يده بنفور:


- قلتُ لك ليس بي شيء..



ودفنت وجهها في الوسادة لتخبئ نفسها..


لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئه البتة!!


"كان كابوساً، أنا متأكدة".. رددت في نفسها بأنفاسٍ محمومة.


- تريدين أن أذهب بكِ إلى الطبيب؟! عاد ليسألها بقلق.


- لا أريد أن أرى طبيباً، أنا أكرههم، أكرههم كلهم، اتركني لوحدي الآن أرجوك..


و أنّت بصمت وهو يطالعها بوجل..


مسح على شعرها برفق فحركت رأسها بضيق:


- كيف أتركك وأنتِ بهذه الحالة؟!


- سأنام وأكون بخير...


و غطاها جيداً وهو يتنهد، وقبل أن ينصرف أطفأ المصابيح....



"البارحة لم يحدث شيء، لم يحدث شيء، أليس كذلك؟!


لم يحدث شيء"...


وانتابتها الغصة فرفعت أناملها المرتجفة إلى شفتيها لتمنع شهقتها المكتومة...



==========


- يمكنك أن تنصرفي الآن إذا شئتِ، لم يتبق على انتهاء الدوام إلا ربع ساعة..


- كلا، شكراً، سأُكمل هذا أولاً.. ردت "ندى" بخفوت.



و تطلع لها بتمعن و هي منهمكة في الكتابة...


لقد تغيرت كثيراً، باتت أكثر هدوءاً و أكثر شروداً!!!


لم تعد تعانده كالسابق، بل أصبحت تبادر للعمل قبل أن يطلب منها ذلك..


وهذه النظرة الحزينة التي تعلو عينيها بين الفين والآخرة، ما سببها يا تُرى!!


كيف تغيرت هكذا؟!!


وعاد لعمله هو الآخر، لكن رنين الجوال المتصل قطعه..


والتفت إليها بتساؤل..


كان القلم يهتزُّ بين يديها و موسيقى هاتفها لا تتوقف، لكأنها مصرة على أن يسكتها أحدهم، لكن يبدو أن صاحبته لا ترضى بذلك!!


وتوقف الهاتف عن رنينه بعد إلحاح فأفلتت القلم و كأنها أزاحت حِملاً كان ينوء على صدرها..


ورفعت بصرها بلا شعور فالتقت بعيناه...


كان ينظر لها بحيرة...


- عودي إلى منزلك إن كنتِ متعبة..


وهزت رأسها نافية ببطء..


- الساعة الآن التاسعة تماماً!!


- لم أنهي ما بيدي بعد.. عللت بتباكِ.


- أنهيه في الغد، لا مشكلة.


- لا أريـد أن أعود الآن أرجوك.. توسلته بغصة.


وعادت لتهز رأسها وهي تُردف بإختناق:


- إنها لا تتوقف عن البكاء أبداً، تتظاهر بالنوم لكني أسمعها..


- ..................


- أنا لم أكن أقصد، صدقني، لم أكن أقصد أن أفسد حياتهما..


- .............


- والآن سيتطلقان بسببي، بسببي أنا..


وأجهشت بالبكاء و هي تضع رأسها على الطاولة....


و بقي في حيرته لدقائق عديدة دون أن يعي شيئاً مما تقول..


و نهض أخيراً من مقعده بعد أن أخرج شيئاً من درج المكتب..


تقدم منها ووضعه على الطاولة:


- خذي هذا مفتاح احتياطي للباب الخارجي للقسم، ابقي هنا متى انتهيتِ و إن كنتُ أفضل أن ترجعي لمنزلك فالوقت متأخر بعض الشيء...



رفعت رأسها فرأته يبتسم له ابتسامةً صغيرة مطمئنة فنظرت له بإمتنان، و لكن سرعان ما كسا وجهه بتعابير جامدة قبل أن يقول مودعاً:


- مع السلامة، وانتبهي لنفسك..



==========



- ماذا تفعل؟!


- كما ترى، أجمعُ أغراضي.. ردّ "وليد" بهدوء.


- ستسافر؟!


- أجل، قريباً، لا بد أن أستعد للعام الجديد، تعلم لم يبقى شيء على التخرج.


وابتسم في وجهه ثم عاد ليغلق إحدى العلب باللاصق...


- "وليد" أريد أن أستشيرك بشأن زوجتي..


وتوقف حينها عن الحركة وانمحت ابتسامته عن شفتيه:


- ماذا بها؟! سأل بقلق.


- موضوع الحمل قد أثر عليها بشكلٍ كبير، حالتها النفسية تتردى في إزدياد.


- وماذا تريد مني بالضبط؟! سأله و هو يُكمل اللصق.


- أريدُ منك النصيحة..


- انتظرا، فليس بكما شيء كما ذكرت لي من قبل..


- أنا لستُ مستعجلاً البتة، لكنها هي، وأنا أخافُ عليها من كثرة التفكير..


- قل لها في العجلة الندامة!! وابتسم بتهكم.


- والحل؟!


- بإمكاني أن أُعطيك أسماء بعض الأطباء الجيدين!!


ثم تابع بلا مبالاة:


- و إذا أردتما أن تخضعا لفحوصاتي من جديد، فليس لديّ مانع!!


ومرر "ناصر" يده على جبهته بتعب وهو يعلق بشرود:


- أجل، من أجلها...



==========



كانت جالسة على الأرض...


عيناها تطالعان السقف بإنكسار و هي تتمتم بصوتٍ خافت كأنها تخاطب نفسها...


و صدت لتنظر للأرضية و هي تحرك أصبعها على شكل دائرة استماتت في إغلاقها لكن دون جدوى!!


وولجت "ندى" إلى الداخل بعد أن طرقت الباب عدة مرات كي لا تجفل....


جلست إلى جانبها كعادتها و هي تبعد خصلات شعرها المتناثرة بإهمال عن وجهها..


كفت "غدير" عن الرسم و عادت لتطالعها بتلك العينين...


فيهما ذاك التساؤل القديم، ذاك السؤال الذي لم تجد له إجابة حتى الآن...


أشاحت "ندى" وجهها بضيق دون أن تحر جواباً...


وتحركت شفتيها بإرتعاش وهي تسألها:


- ألم يقل له خالي؟!


- بلى قال له... أجابت بعد طول صمت.


- وماذا أجاب؟!


- ........................


و وضعت يدها على كتفها وهي تهزها بضعف:


- لن يطلقني؟! سألتها بإرتجاف.

- اهدئي يا "غدير" كل شيء سيحل بإذن الله.. ردت بتباكٍ.


- أنتِ لا تفهمين، "عمر" سيقتلني، سيقتلني..كررت بإنفعال.


- "عمر" يحبك و...


قاطعتها وهي تهزُّ رأسها ببطء:


- لكن لا، سيطلقني، المحكمة الجعفرية ستطلقني رغماً عنه، أليس كذلك؟!



- زواجنا تم في المحكمة السنية!! و إن كنتِ لا تعرفين، لا بد أن تقدمي طلبكِ هناك وأنتِ شيعية المذهب لن يطلقوك ولا حتى في أحلامك!!


و تدفق الصوت بارداً، قاسياً، قد تطاير منهُ الشرر...


التفتت "ندى" لأخيها بوجل...



كان واقفاً عند الباب وهو عاقدٌ ذراعيه وفي عينيه نظرة غامضة، سحيقة، لا قرار لها...


أنهضت نفسها من على الأرض و هي تخاطبه بتوسل:


- "عمر" أرجوك...


- أريد أن أتحدث معها لوحدنا لو سمحتِ..


- لا تعاتبها، إنها لازالت مريضة..


- اخرجي من الغرفة الآن..


- أنا السبب، أنا من أخطأ و ليس هي.


- قلتُ لكِ اخرجي وأغلقي الباب خلفك.. صرخ بغضب.



و تطلعت إليها بغصة...


كانت تنظر للحائط بإستسلام، بهدوء وكأنها فقدت الأمل في أن تعيش...


كل شيء تعطل فيها عدا صدرها الذي كان يعلو و يهبط بسرعة...


هرعت "ندى" من الغرفة ودموعها تسبقها..


"كيف أصبحت قاسياً هكذا يا "عمر"، كيف؟!!"


وأُغلق الباب...


سمعت خطواته تقترب منها فأغمضت عينيها بقوة وهي تعصرهما عصراً..



وأحست بظله يسقط عليها من علو و يقف ساكناً فيوقف بقايا أنفاسها المتلاشية عن الوجود...


و ما هي إلا برهة حتى شعرت بأصابعه تلامس كتفها فاهتزّ جسدها بعنف..


علّق بصوتٍ ساخر:


- لا تخافي، لن أوسخ يدي بقذرة مثلك..


- ..................


و استمر في سخريته:


- كيف حالكِ الآن؟! يقولون أنكِ مريضة؟!


- ....................


- ممَ يا ترى؟! لا تقولي لي أنكِ صُدمتِ مثلي بالإكتشاف العظيم!!


وانقلبت سحنته فجأة و تقلص فمه في غضبٍ هادر و أردف بصوتٍ مكبوت:


- بودي أن أعرف و أتمنى لو تتكرمي علي بالإجابة علّكِ تشفين غليلي ولو قليلاً..


- ......................


- أكان ذلك قبل أن آخذك أم بعده؟!


و أخذت تأن بصوتٍ خافت وهي تحاول أن تبتعد عنه لكن هيهات..


- وسؤال آخر لكِ يا سيدتي، وأريد الإجابة على كليهما مرةً واحدة لو تفضلتِ، كي تكون الضربة واحدة هنا ...


و ضرب على قلبه بقوة وهو يردف:


- قاضية، لا أريدها على جرعاتٍ أبداً...


نظرت إليه بألم و هي تنشج بالبكاء...


- أكان ذلك من تحبينه؟!


أسندت رأسها على حافة السرير و روحها تكاد تزهق..


ولم يمهلها لتلتقط أنفاسها، لتستوعب وطأ أسئلته، ما خلفته من دمار...



أمسكها من كتفيها وهو يجبرها على النظر في وجهه..


- أجيبيني يا ابنة عمتي، أيتها الزوجة المصون!! صاح بمرارة.


و تحركت شفتيها بإرتعاش وهي تهمس بصوتٍ مبحوح، بصوتٍ متقطع، لا يكاد يُسمع:


- لا تعذب نفسك و تعذبني أرجوك..


وغاب صوتها، انقطع وهو يُفلتها بإزدراء..



- ومن قال لكِ أنّي أتعذب، أنتِ لا شيء بالنسبة لي، أنتِ مجرد ساقطة، قذرة، ****ة.. صاح بغضب.


وانسابت دموعها بحرارة و ظهرها يكاد ينفصم من شدة انحناءها...


الطعنات تتوالى، تتغلغل إلى الروح، وتصرعه أرضاً بلا هوادة...


- ألن تجيبي؟!


- ..................


- أنتِ لا تريدين أن أفعل شيئاً يؤذيكِ أليس كذلك؟!


واهتزّ كتفاها بشدة وهي تبكي بصوتٍ مخنوق...


- ألن تجيبي؟! صرخ بصوتٍ عال و هو يشدها من شعرها...


رفعت رأسها إليه وهي تشهق:


- اقتلني إن كان يريحك هذا، لكن لا تعذبني أرجوك..


- أتصدقين كنتُ سأرتكب فيكِ جريمة لكني اكتشفت أنكِ لا تستحقين..


- ....................


- و كان بإمكاني أن أفضحك لكني لم أفعل، اسأليني لم؟!


- ......................


- اسأليني لمَ؟! صاح في وجهها.


- لمَ، لم، لم؟! كررت خلفه بهستيرية.


- ليس من أجلك البتة، فأنتِ أحقر من أن أتستر عليها، بل من أجل والدي، من أجل اسمه الذي طالما كان نظيفاً يا نظيفة!!


الروح تُستنزف، لم يبقى على خروجها شيء، الكلمات كنصل السكين بل أحدُّ سناً، والجرح، الجرح أعمق من أن يتصدع...



أردف ببطء وهو ينظر لها بثبات:



- أتعرفين ماذا نفعل بالزوجات الخائنات؟!



ورفعت يدها المرتجفة بجانب فمها و هي تهز رأسها بذعر، لكنه سرعان ما أمسكها من معصمها بعنف....



- قلتُ لكِ أنتِ أقذر من أن أمسّك. علق بإزدراء.


وأخذ يعبث بأصبعها البنصر حيثُ استقرّ خاتم الزواج!!


طالعته بهلع وهو يحرك الخاتم إلى أعلى ببطء ثم يُعيده إلى مكانه...



- أتعلمين لقد فكرتُ جيداً، وقلت لن أستفيد شيئاً بإبقاءك على ذمتي، لن أجني إلا تلويث سمعتي، و ما دام الكل ينالك فما المشكلة!!



- ......................


وشدها نحوه و هو يهمس في أذنيها:



- عزيزتي، أنتِ طالــــــــــــــــــق..

(22)



لا بأس، لا بأس!!!


رددت بهمس و هي تضع يدها على عمود السرير و تُنهض نفسها التي ترنو للأرض كل حين...

كل شيء انتهى الآن، لم يعد هنالك مزيد من الخوف، من الألم، من الضياع...


و جلست على فراشها و هي تمسح أنفها و تزيح شعرها المبلل عن وجهها بأناملها المرتجفة...



لقد كان لكِ ما شئته أخيراً...


ها أنتِ حرة، طليقة، مُطلقة!!!




ليذهب، كان سيذهب في كل الأحوال، كنتُ أعرف ذلك..


ولقد حاولت بشتى الطرق أن أعجل ذهابه، لكنهُ لم يستمع لي لا قبلاً و لا الآن...


لا بأس قلتُ لكم لا بأس...


ما عاد ينفع الكلام الآن، هذا أفضل له، أنا لا فائدة مني، لا فائدة أبداً!!


لقد نفذ الغدير، ماج وارتحل في القاع، لم يبقى منه إلا بقعةً ضحلة كسراب الظمآن...


غداً سينسى كل شيء و ينساني..


من أجله، لا بد أن ينساني، لا بد...


أما أنا فسأُخفي ذكراه في قلبي، سأدسه بين وجيبي، لن أريه أحداً أبداً...


لا ضرر من ألا أنساه، أليس كذلك؟!


لم يقولوا هذا حراماً، ليس مثل اللعب البتة صدقوني!!



أنا لم أشأ أن أجرحك، جرحك يعذبني، يُلقيني في جهنم!!


تخالني لا أفهمك، لا أفهم عيناك، أنا أراك شخصك كله خلالهما..


عيناك التي لن تجيب عن سؤالي عنهما أبداً!!!


العذاب كل العذاب ينضح منهما، لكنني لم أشأ ذلك...


ليس بيدي يا "عمر"، ليس بيدي...


لكنك لم تفهمني يوماً ولم تسمعني...


اذهب و لا تعد هنا مجدداً...


أنساني وأكرهني بكل جوارحك، بلا حدود و سأظل أحبك أنا حتى النهاية يا "عمر"، حتى النهاية...



لا أريد العودة إليك أبداً، أريد أن أبقى لوحدي، لوحدي فقط...


تعبت من الشك، من الغيرة، من ذكريات الأمس..


في البعيد أحبك أفضل، دائماً أفضل بكثير..


و لا أجد في قربك إلا الخوف...


أخافك حين ترفع يدك و حين تمدها إلي لتضمني إلى صدرك!!!


أحبه و أخافه!!


أيُّ مفارقةٍ عجيبة تلك التي أعيشها!!


لا بأس قلتُ لكم لا بأس..


لا محلّ لي الآن هنا ما دام يحمل أثرك...


ما دمت يوماً كنت تقطن في الغرفة بجواري!!!


ألم أقل لك أنا "غدير" و أنت "عمر"...


وقد عجز التاريخ أن يقربهما، فكيف أنا و أنت بنو البشر؟!!


انساني يا "عمر" انساني...


حتى لو اضطررت أن أجعلك تكرهني كالموت، لا بد من ذلك، من أجلك وحدك...


كي تعيش أيها المُحب الأحمق!!


كل شيء انتهى، إذن كل شيء على ما يُرام، أليس كذلك؟!


و سمعت ضجة في الخارج فالتفتت نحو الباب...


كانت واقفة هناك و هي تمسح دموعها الحارة بإنسياب...


ابتسمت ابتسامةً صغيرة في وجهها و هي تقول:


- كل شيء حُلّ الآن!!

- إنه يتجادل في الخارج مع والدي الآن، يقول أنه سيسافر..


- لا بأس فليتزوج..


- سيسافر ولم يقل ستزوج!!


- سيان، كل شيء سيان.. ردت بصوتٍ لا روح فيه.



و تعالت الضجة، وسمعت صوت الأب يهدر بقوة:


- أجننت؟! يبدو أنك فقدت عقلك!!


- صدقني لم أكن عاقلاً كاليوم..


- لمَ الآن؟! ألم تكن رافضاً من قبل..


- كنتُ أنتظرها تتعافى، خفتُ أن تنتكس من جديد!! صاح بسخرية.


"أو ربما لأحفر صورتها في عيني قبل الرحيل، تلك الخائنة"..


- لمَ يا ابني فعلت ذلك، لمَ تعجلت، كنتُ أمني النفس بأن تتصالحا.. علق بحزنٍ مرير.


- هذا لصالحها، صدقني ستشكرني على ذلك..


"لأنها لو بقيت على ذمتي ما كانت لتعيش أكثر من دقائق!!"..


وقبل أن يستدر قال و كأنه تذكر شيئاً:


- وخذها مني نصيحة يا والدي، لا تدعها تخرج بمفردها أبداً، عيال الحرام كثيرون!!


وسمعت صوت شيء يتحطم على الأرض...


قالت بضعف و جسدها يهتز بصمت:


- أغلقي الباب أرجوكِ، أريدُ أن أنام، لم أنم منذُ سنين!!




=========



- ماذا تقول؟؟! صاحت فيه دون تصديق.


- أهذا ما كنتِ تريدينه؟! وأمسك يدها ليهدئها لكنها سرعان ما سحبتها و هي تصرخ فيه بعصبية.


- أنت جبان، نذل، ****!!


- أجننتي؟! صاح فيها وهو يهزها بقوة لتثيب إلى رشدها..



و هدأت قليلاً و هي تطالعه و كأنها انتبهت له و لنفسها للمرة الأولى..


رفعت يديها إلى صدغها و هي تنظر له بغصة وشفتاها ترتعشان:


- أنت السبب، أنت السبب..


- ماذا فعلتُ لكِ؟ سألها "ناصر" بيأس.


- تركتني لوحدي ولم تعد...


و أردفت "شيماء" بتقطع:


- لماذا فعلت بي ذلك؟!


واهتزّ جسدها و هي تنشج بخفوت...


تطلع لها بحيرة دون أن يفقه شيئاً...


ماذا جرى لها؟!


أكل هذا من أجل طفل؟!


ستفقد عقلها من أجل طفل!!


- قولي لي ماذا تريدين بالضبط، فقط لا تعذبيني و تعذبي نفسك أرجوكِ.. خاطبها بتوسل.


هزت رأسها و هي تتراجع للوراء:


- لا أريد شيئاً، لم أعد أريدُ شيئاً، لا شيء..


- أأنتِ متأكدة؟! ألا تريدين أن تراجعي الطبيب؟!



و تشنجت حواسها و هي تحرك أصبعها في الهواء نافيةً و تصرخ بهستيرية:



- لا تذكر لي اسمهم، كلهم شياطين، كل الأطباء شياطين، أنا أكرههم كلهم..



وغطت وجهها و هي تلقي بنفسها على أقرب مقعد و تبكي بصوتٍ مرتفع...


خرج "ناصر" من الغرفة من فوره..


شظاياها تنغرز في قلبه، تُحيله إلى رماد...


منظرها أفظع من أن يتحمله، و صوتها، صوتها في الليل حين تهذي يقطعه، يُحيل لياليه إلى كوابيس سرمدية..


أيُّ زوجةٍ تعسة صيرتها...


أكلُّ هذا من أجل طفل!!



========



- أنتِ تعلمين أن فترة تدريبك ستنقضي الأسبوع القادم...


صمتت دون أن تحر جواباً..


- أ..يمكنك أن تعودي منذُ الغد إلى مكتبك القديم مع زميلاتك.


رفعت رأسها بسرعة وهي تسأله بإندفاع:

- لماذا؟!

ردَّ ببطء:

- لم يعد هناك مبرر لبقائك فلقد أجدتِ العمل..


- لكنني أريد أن أبقى... معك!! ردت بهمس.


صمت و هو ينظر لها لمدة طويلة و هي منكسة رأسها، ثم قال بصوتٍ خالٍ من أي تعبير:


- الأفضل أن تعودي..


- هل أخطأتُ في شيء، هل ضايقتك!!


- ليس الموضوع هكذا يا آنسة...


- ماذا إذن؟!


- لم يتبقَ إلا أسبوع فقط!!


- وماذا يضيرك لو أتممت هذا الأسبوع معك!!


تنهد بضيق مغيراً وجهة الحديث:


- ألم تكوني تلحين علي بأن أُعيدك إلى مكانك..


- هذا كان قبلاً، قبل أن أعرفك، أما الآن فلا، أنا.....


- اسمعي، هذا الكلام السخيف لا أريد أن تكرريه، للأسف ظننتكِ كبرتِ و عقلتي لكنكِ لن تتغيري أبداً..


- إذا كان العقل سيبعدني عنك فأنا لا أريده!! صاحت.



- ألم تسمعي بمصطلح "الاستغناء عن الخدمات"، أنا أستغني عن خدماتك مشكوراً. أجاب بقسوة.


ثم أردف بصوتٍ أكثر حدة:


- لا فائدة من بقائك، أتفهمين!!



وعاد ليجلس على مكتبه بتثاقل دون أن ينظر ناحيتها...


نظرت إليه بعينيها الدامعتين خاطبته بعتاب دون أن يلتفت:


- جعلتني أعتادُ عليك ثم تريد أن تبعدني!!


- ..................



- أنا أكرهك، أكرهك، أتمنى ألا أراك أبداً...



وخرجت من المكتب و هي تمسح دموعها تاركةً حاجياتها تشهد على التذكار الأخير!!!



========



هبّت من نومها مذعورة و هي تتلفت يمنةً و يسرة بإرتياع...


مررت أناملها المرتجفة حول جبينها الذي يتصفد عرقاً وقد أخذ خافقها ينبض في عروقها بعنف..


تطلعت إلى "ناصر"، كان مغمضاً عينيه بقوة وقد تغضن جبينه..


مسّت كتفيه وهي تناديه بأنفاس متقطعة:


- نا..صر..نـ..اصر.


عاد جبينه ليتجعد أكثر و لم ينبس ببنت شفة..


- نا..صر إنه ينتظرني..


- عمن تتكلمين؟! سألها بتعاسة.


- الشيطان، ألا تعرفه!! صاحت بإستنكار و هي تقبض على عنقها بخوف.


- ......................


- إنهُ يقف خلف الباب. همست له بخفوت وشفتاها ترتجفان.


- لا يوجد أحد، كم مرة تأكدتُ لكِ من ذلك!! صاح بيأس.


- أصص اخرس كي لا يسمعك، أتريده أن يأتي إليك أنت الآخر!!



ولم يحتمل أكثر، فزَّ من مرقده و هو يضع يده على جبهتها..


- أنتي محمومة، حرارتك في ازدياد..


صاحت بلوعة وهي تهز رأسها:


- إإإياك، إإياك أن تشرب شيئاً، يجعلونك تنام!!


- انهضي لا بد أن أذهب بك إلى الطبيب.


وصرخت صرخةً عالية و هي تقاومه بهستيرية:


- لااااااا، طبيب لا.



و أفلت يدها و هو يمرر بصره بألم بين آثار خدوش أظافرها و بينها...


أخذت تطالعه هي الأخرى بعينين ذابلتين و هي تهزُّ رأسها...



- أنا لم أقصد..


- لا عليكِ. رد بلطف و هو يبتسم ابتسامةً باهتة.


غرزت أصابعها و هي تمسك حفنة من شعرها بقسوة...


- كل هذا منه، من الشيطان!!


- ..................


- لكنني لن أجعله ينتصر، عندما أراه سأقتله!! صاحت.



ثم أردفت و هي تضع أصابعها على فمها كأنها ستخبره بسر كي لا يسمعه أحد:


- لا تخبر أحداً، لا تخبرهم..


- ..................


- ما بالك تنظر إلي هكذا، أنت لا تصدقني!!


- ........................


- تخاله كابوساً، أتخالهُ هكذا؟! سألته بلهفة.



وشدت على قميصه وهي تصيح فيه بإصرار:


- أليس كذلك، قُل لي..


وغرقت في نوبة من البكاء الهستيري..


وضع يده على رأسها المدفون في الفراش بشرود..



سأجهز أوراقي لنسافر، لا يهم إن فصلوني، لا يُهم إن طُردت...


كل شيء لا يهم عداكِ أنتِ....


===========



وضعت يدها أمام وجهها لتحجب عنها نور الشمس الساطع في قلب السماء...


وجدت الباب مفتوحاً على غير العادة و ولجت إلى الداخل...


انتابتها رعدة، ليس من الجو، فهو أقيظ من أن يرسل رعدةً إلى جسدها النحيل، ولكن من تلك الرياح التي تصدرُ صوتاً كالعواء كل حين!!


أمسكت بالعلبة بتؤدة و هي تتفقد المكان بشجاعة..


ماذا سأخسر بعد؟!!


لاشيء!!


و تنهدت بعمق و هي تطرق الأماكن، كل الأماكن و كان آخرها غرفتها...



الغرفة خاوية، ليس منها فقط، بل خاوية من عروشها، من كل شيء!!!



أتراهم رحلوا!! تركوا المكان!!



كلا، كلا، مستحيل، كانت ستخبرني، أمي لن تتركني، لن تتركني هي الأخرى...



وأرادت أن تفتح فمها لتنادي عليها، لتزلزل أركان هذا البيت المتهدم، لكن صوتها اختنق، احتبس في حنجرتها، هي لم تعتد يوماً أن ترفع صوتها في هذا المكان...



و سقطت العلبة من يدها، تدحرجت على الأرض و تبعثر ما فيها و هي تسير كالخيال....


تراخت ركبتاها و استمرت في السير على الرمال حافية القدمين دون أن تشعر بلسعتها...


بدت غائبة عن الوجود و هي تتلفت حولها بضياع...


و تنفست الصعداء و هي تلمحها تنشر الغسيل على الحبل في الجانب الخلفي...


هناك حيثُ رأته يدخن سيجارته...


هناك حيثُ ابتدأت الشرارة الأولى و انقلبت حياتها!!


هرعت إليها و هي تطوقها من الخلف بلهفة، وأحست برعدتها تسري في جسدها كالتيار...


مدت الأم يدها ووضعتها على يدها الصغيرة دون أن تلتفت، لربما لتتأكد من هويتها، أو كي لا تفيق من حلم نسجهُ خيالها المتعب..


- أمي..نادتها بصوتٍ متهدج.


واستدارت لها دون أن تفلت يدها من قبضتها و هي تنظر لها دون تصديق..


مررت أنامل يدها الأخرى على وجهها النحيل لتتحسسه...


أهذه أنتِ فعلاً؟!!


و ضمتها إلى صدرها و قلبها يخفق بإضطراب، كأنفاسها اللامنتظمة، المنفلتة من حنجرة الزمن...



- سامحيني يا ابنتي، سامحيني.. قالت بغصة.


- لم يكن هذا ذنبك.


أبعدتها عنها و هي تقول بعزم الأمومة:


- سأذهب إليه وأخبره.


- لا فائدة يا أمي، إنهُ لن يسمع..


- سيسمعني أنا، رغماً عنه سيسمع، ما كان عليكِ أبداً أن تسكتي، كان عليكِ أن تخبريني و تخبريه..


- أقولُ لكِ لا فائدة، لقد سافر و لن يعود..


- لا يهم، سأنتظره ولو بعد مائة عام..


- لا جدوى يا أمي، لقد طلقني..


ودفنت رأسها في صدرها من جديد و هي تبكي بصمت...


- طلقكِ!! رددت بذهول.


- قلتُ له لم أفعل شيئاً لكنهُ لم يصدقني..


- طلقكِ!! كررت و هي تطالع وجه ابنتها بألم.


- أأنا قذرة يا أمي؟! سألتها بصوتٍ مبحوح.



صاحت بإرتياع و الغصات في جوفها تتلاحق:


- إياكِ أن تقولي هذا، أنتِ ابنتي، أنا من ربيتك بيدي هاتين، أنتِ أطهر مخلوقة على الأرض..


- إذن لم يعاقبني هكذا؟! أنا أحبه يا أمي..



و خنقتها الغصة و هي تعضُّ على شفتيها لتمنع شهقتها..


ثم أردفت بنشيج:


- أنا لا حظ لي، لا حظ لي..


ارتفع صدر الأم بإجهاد و هي تشعر بوخزات قوية في قلبها، في سويدائه...


ابعدتها عنها مرةً أخرى لعلها تلتقط أنفاسها..


صاحت بإختناق:


- أنا من أفسدتُ حياتك، أنا السبب...


- كلا، أنتِ لا ذنب لكِ.


- أنا أمك و كان علي أن أعرف..


ولطمت وجهها بعنف و هي تتراجع للوراء:


- أيُّ أمٍ أنا!! أنا لا أستحق..


- كلا أمي، لا تجعليني أندم بأني أخبرتك..



وأبعدت يديها عن وجهها و كادت تتهاوى لكنها أمسكتها في اللحظة الأخيرة..




- ادخلي لترتاحي، أنتِ متعبة..


- لا بد أن أنشر الثياب. ردت بأنفاس متهدجة.


- أنا سأنشرها بدلاً عنكِ..



ابتسمت في وجهها بوهن فأضاء، علقت بصوتٍ حالم:


- لا تتعبي نفسك، إنها ثياب لا يرتديها أحد..


رفعت "غدير" بصرها نحو قطع الملابس، كلها ملابسه!!


- "مجيد" أُلقي في السجن..


وعاد وجهها ليتقلص ببطء و هي تضع كفها ناحية قلبها بألم:


- لقد حطم زجاجة على أحدهم، و الصبي في حالة خطر..


و سمعتا صوت صفيرٍ عالٍ يقترب منهما قطع عليهما الحوار، التفتت "غدير" بسرعة ناحيته..


- أهلاً، أهلاً، كيف حالُ عروستنا الصغيرة!!


- ...................


- اممممم لا بأس بك وإن نحفتِ قليلاً!! ألا يطعمونكِ هناك؟!


- ..............


- إن شئتِ أن تعودي هنا فلا مانع، أمك الآن تشعر بالوحدة، كثيرٌ أن تفقد ابنها وابنتها في نفس الوقت، ألا ترين ذلك؟!


- ......................


ثم تقدم منها و هو يحني رأسه بخبث:


- وكيف حال زوجك؟!


رمقته بنظرة احتقار، كرهٍ عميق، بعمق جوف الأرض:


- لا تذكر زوجي على لسانك أيها القذر..


تقلص وجهه فجأة منصدماً من جرأتها، ثم ما لبث أن لانت ملامحه و هو ينطق بتشدقٍ ساخر:


- أين كان لسانُ القطةِ مختبأ طوال الوقت؟!


- لو تعلم كم تثير رؤيتك في نفسي الغثيان أيها ال****..شددت على الكلمة الأخيرة.


و رأته يهم برفع يده فابتعدت و هي تصيح بتهديد:


- إن مددت يدك ستندم، لا حق لك علي الآن فأنا...متزوجة!!


تطلع إليها بحقد و هو يردف بصوتٍ مصرور:


- أنتِ محقة، لكن ماذا عن هذه؟!


وصفع الأم الذاهلة عن الجميع صفعةً قوية أطاحتها على الأرض...


و دلف!!



تراخت ركبتاها فركعت على الأرض بجوارها...


- أمي، أمي.. هزتها من كتفيها وهي تناديها بصوتٍ مبحوح.


- ...............


- قومي معي، انهضي...


فتحت عينيها بضعف و هي تتمتم:


- لا... أقدر يا ابنتي..


- أتؤلمك كثيراً؟! سألتها بلهفة و هي تمرر أناملها على خدها المتغضن .


- كلا يا ابنتي. وابتسمت بوهن.


- سامحيني، سامحيني. خاطبتها بغصة.


و سكتت...


رفعت أصبعها إلى فمها و هي تخاطبها بعتابٍ قديم، بعمر السنواتِ الخوالي...


- أماه، لا يجدي السكوت، ألم تقولي ذلك؟!


اهتزّ جسدها بعنف و هي تردف بتقطع:


- أمي أتذكرين بدلة والدي، بدلته الرمادية، لا شك تذكرينها..


- ...................


- أراد "حميد" أن يرتديها، سمعته يسألكِ عنها..


ومسحت ما بين أنفها وهي تكمل:



- وسكتِ كعادتك، لكنني لم أرضى، لم أكن لأقبل بأن يرتدي ذاك ال**** شيئاً به رائحة والدي، مثله يلوثها أليس كذلك؟!


- ........................


- أنا من سرقتها، أنا من أخذتها من خزانة غرفتك..


- ....................


- لقد ضربك حينها، كنتِ تعلمين أني من أخذتها و سكتِ...


- ......................


- من منا من يسكت ها؟! صاحت فيها بعتاب.


وأجهشت بالبكاء وهي تنشيج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر...


وبقيت هكذا على صدرها وهي تغرقها بدموعها....


رفعت عينيها الذاويتين وهي تتطلع لها بألم، خاطبتها بهمس:


- لا تذهبي أرجوكِ، لا تتركني..


- .....................


- لا تذهبي قبل أن تسامحيني، لا تذهبي.


- ....................




وأفاقت من يأسها وصاحت وهي تهزها من جديد بقوة..


- من سيبقى لي من بعدك، أأتيتم مرة أخرى، ألا تخشين الله؟!!



ثم قالت فجأة وكأنها تذكرت شيئاً:


- لقد جلبتُ لكِ وشاحاً، لقد صنعتهُ بنفسي، تعرفيني لطالما تفوقت في حصة "الكروشيه"..


- .................


- أتريدين أن تريه؟! لحظة، لحظة انتظريني..



و هرعت من مكانها على عجل و هي تجري حيثُ ألقت العلبة، أخذت تفتش عنها بعينين لا تريان حتى وجدتها....



و تعثرت في جريها فسقطت على الأرض، لكنها تحاملت على نفسها حتى وصلت إليها:


- انظري إليه يا أماه، أليس جميلاً، لونه أخضر كلون عينيه!!


- .........................


- لا تنظري إلي هكذا بعينكِ المفتوحتين، أعلم بأني كاذبة، أنا لا أستطيع نسيانه، لا أحتمل البعد عنه...


- ........................


- اصبري سأضعهُ عليكِ، ستصغرين عشرة أعوام كما كان أبي يقول لكِ ذلك...



و رفعت رأسها و هي تحاول تثبيته بإصرار رغم اهتزاز يدها...


- أرأيتِ كم تبدين جميلة..


- ...................


ثم أحاطت وجهها بيديها المرتجفتين وهي تخاطبها بصوتٍ خافت:


- أقلتِ لكِ من قبل أني أحبك، أنا أحبك يا أمي، أحبكِ كثيراً...


- .........................


- أعلم بأنكِ غاضبة مني، أنا أعلم بأني ابنة عاقة، لكنني سأتغير أقسمُ لكِ بذلك...


- ........................


- سأعمل وأُعيلك بنفسي و سنعيش سوياً، قدر الابنة كقدر أمها، كلانا ليس له حظ في هذه الدنيا، لذا لا بد أن نكون معاً...


- ......................


- ألا يعجبك كلامي، ما بالكِ تسكتين؟!


وضمتها إلى صدرها بقوة وهي تنتحب بصمت...


- غداً ستستيقظين أليس كذلك؟!


- .....................


عادت لتهزها بقوة وهي تصيح فيها:


- لا تموتي الآن، امسحي على شعري أولاً...


- ...................


ثم اقتربت منها و صرخت بهستيرية:


- امسحي عليه، هكذا يفعلون باليتامى أولاً..


- .........................



- أمااااااااااااااااااااه..



وشهقت شهقةً قوية كادت أن تخرج معها روحها....





الرياح في الخارج لازالت تعوي ربما لتصمّ الآذان عن صرختها.....

عاشقة الكتب 24-05-07 06:49 PM

(23)

" ما قبل الأخيـــــر "




- "ندى" انظري، شهاب!!



ابتسمت تلك الأخيرة ابتسامةً باهتة و هي تتابع ذلك الامتداد الطويل الذي ينثر ذراته البيضاء في السماء...


- ماذا ستتمنين؟! سألتها بحماس.


- ما عادت تجدي الأماني. ردت بغصة و هي تضع رأسها على كتفها..


- كلا، لا تفقدي الأمل، أنتِ من قال لي ذلك..


- لقد مرّ شهران، شهران يا "غدير".. ردت بمرارة.


- أعرفُ ذلك. ردت بخفوت و قد فارقتها الابتسامة.


عادت "ندى" لترفع رأسها لأعلى و كأنها تخاطب السماء:



- لقد نلتُ تقديراً مرتفعاً لديه، تصوري كتب لي توصية!!



- أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟!


صاحت بألم:


- أنا لم أعد أبالي بذلك، أنا أريد...


و سكتت دون أن تنبس ببنت شفه...


احترمت "غدير" صمتها و شردت في خواطرها هي الأخرى...



و انتبهت لشيءٍ ما على الأرض فاحنت جذعها لتلتقطه و هي تقول لندى بخفة:



- ما رأيك أن نغير هذا الجو الكئيب، فالنتسوق اليوم أو نذهب للبحر أو...أو نزور متحف البحرين، أتصدقين لم أرى آثار بلادي قط!!


وضحكت بأريحية و هي تردف:


- أتعلمين سأتعلم السياقة، أجل لا بد لي من ذلك، وسأعود لمقاعد الدراسة، سأذهب للجامعة..


- ....................



ثم أردفت بغموض و كأنها تكلم نفسها:


- سأفعل كل شيء، كل شيء أريده، كل شيء حُرمت منه..


ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها و سحبت "ندى" من يدها و هي تخاطبها بمرح:



- حتى السينما إذا شئتِ سأذهبُ معكِ!!



- لقد تغيرتِ كثيراً يا "غدير".. طالعتها بإهتمام.


- أليس هذا أفضل؟!



و عبثت بشعرها الذي باتت أطرافه لا تتجاوز العُنق...



- لم أقصد شعرك القصير، لقد بتّ تشبهين الأولاد..


- و ماذا في ذلك، ليتني ولدتُ صبياً!


- لماذا؟!


- هكذا فقط!! ردت بفتور.


- ..................



- أتعلمين شيئاً سأصبغه أيضاً، أتخالين اللون النحاسي يناسبني؟!



- أجل لكن....



- لكن ماذا؟!


- ................


- لكن أمي لم تُكمل الأربعين، أهذا ما تودين قوله!!



- ......................




أشاحت بوجهها نحو قرص الشمس مُردفةً بخفوت:


- حين ذهبت ماتت "غدير" هي الأخرى، ، لم يعد لها وجود، وأنا لا أريد أن أذكرها، لا أريد...


- أنتِ تهربين من واقعك!!



- سمّه ما شئتِ، أنا لا أبالي.. ردت بإنفعال.



تأملتها "ندى"...


إنها لم ترتد حتى ثوب حداد على والدتها، فقط تكتفي بزيارتها في المقبرة بين الحين و الآخر....


لم تعد تسمع صوت بكاءها في الليل، بل تبقى معم الوقت صامتة، شاردة و قد تنتابها لحظات مرح مفاجأة كاليوم!!



إنها تبالي مهما أنكرت، مهما حاولت أن تصطنع الضحكة على شفتيها....


إنها تحاول أن تهرب فقط، و لكن إلى متى سيطولُ هروبها؟!!



سألتها "ندى" بلين مغيرةً وجهة الحديث:


- لم تقرري أين تريدين أن نذهب؟!


- نزور متحف البحرين. جارتها بإبتسامة صغيرة.


- و ماذا بعد؟!



غرزت أصبعها في خدها مفكرةً، ثم قالت بحماس:



- نذهب إلى الحديقة المائية...



- ثم ماذا؟!



- ثم، ثم نشتري اسكريماً كبيراً، بهذا الحجم، نلتهمه أنا و إياكِ و نحنُ نسير على البحر!!



- ثم ماذا؟! كررت بحماس هي الأخرى.



- بعد ذلك نعود للمنزل..



وضحكت الفتاتان معاً...




- صه، هذا صوتُ والدي يُنادي..


- حسناً سأذهب إليه.



- ناداني أنا و لم يقل "غدير"!! و مدت لها لسانها لتغيظها.



- أعرفك تغارين مني لأن خالي يحبني أكثر منكِ..



- هذا في أحلامك فقط..




و تسابقت الفتاتان و هما تنزلان من على السلم و كل واحدة تحاول شد الأخرى كي تمنعها من الوصل..



- لقد أفسدتِ تسريحة شعري. صاحت "ندى" بإستنكار و هي تُعيد تصفيف شعرها.


- انظري أيضاً ماذا حدث لقميصك!!


- ماذا حدث له؟! سألتها بخوف.



- لقد تمزق من الخلف!!



شهقت "ندى" وهي تستدير و تسحب ذيل القميص لترى..



فاغتنمت "غدير" الفرصة و تجاوزتها و هي تضحك بأنفاس متقطعة...


- أيتها الكاذبة، سأُريكِ...


قاطعتها و هي تستدير لها قليلاً:


- تعالي إن استطعتِ شيئاً...



و اصطدمت بشيء فكادت أن تسقط على الأرض بفعل القصور الذاتي لولا أن أمسكها ذاك الشيء...




أخذت تطالعه مصعوقة و كأن على رأسها....


انتبهت لنفسها فتراجعت للخلف بإرتياع ثم عادت لترتقي السلم من جديد بإضطراب ..



و التقت بندى في منتصف الطريق، خاطبتها بإستغراب:



- لماذا عدتِ؟!


هزّت رأسها ببطء:



- لا شيء، لا شيء...



و أوصدت خلفها الباب، لعل وجيبها يهدأ قليلاً أو يعود لغفوته من جديد!!!



==========





- مبروك يا سيدتي أنتِ حامل!!



و تهاوت على الكرسي بذهول..



ابتسمت لها الطبيبة في وجهها مُعلقةً:



- كم أنا سعيدة من أجلك، أو بالأحرى من أجلكما، سيسعد زوجك كثيراً....


- ........................



- اسمعي منذُ اليوم جميع الأدوية المهدئة التي وصفتها لكِ تمتنعين عنها كلياً، و لا تتناولي أي شيء إلا بعد استشارة الطبيب...


- ......................



- ما بالك صامتة، هل ألجمتك المفاجأة!!



رفعت "شيماء" رأسها بتعب و هي تسألها بصوتٍ منخفض:



- في أيّ شهر؟!


- في الشهر الثاني..



فتحت فمها المرتعش لتصرخ، لكنها أمسكت نفسها بشدة...



أطرقت للأرض و أنفاسها تضيق شيئاً فشيئاً، خاطبتها بإختناق:



- أأنتِ متأكدة؟!



- بالطبع!!



- ربما كنتُ في الشهر الثالث أو الرابع، أو أي شيء، أي شيء!!!




تطلعت لها الطبيبة بإستنكار و قد عقدت حاجبيها:



- يا عزيزتي أنتِ لازلتِ في البداية، أنا متأكدة، كنتِ ستلاحظين ذلك بنفسك...




"ألاحظ!! أنا لم ألاحظ شيئاً، و لم أشرب شيئاً، صدقوني!!"...



عاد صدرها لينقبض من جديد و هي تردف بتقطع:



- أنا لا..لا أريده.


- لا تريدين ماذا؟!


- لا أريد ط..فلاً، أنا لستُ حاملاً، لستُ حاملاً، لا أريد هذا الطفل..


- يبدو أنكِ متعبة، سأنادي "ناصر" من الخارج..


- انتظري!!



صاحت و كأن ذكر اسم زوجها كان كفيلاً بإعادتها إلى صوابها.....


وقفت على قدميها و هي تتلمس وجهها بإرهاق:


- أنا أعتذر، أنا بالفعل متعبة هذه الأيام، لا تخبريه أرجوكِ، سأقول له في البيت، أرجوكِ...



تطلعت لها الطبيبة بشك ثم ما لبثت أن تنهدت:




- لا بأس.


- ..................


- اسمعي يا "شيماء" أنتِ لستِ كأي مريضة تفد إلى هنا، فزوجك قريبٌ لي، لذا إن كان لديكِ أي شيء و تودين إخباري به فكلي آذانٌ صاغية.


- كــ..كلا، ليس لدي شيء أخفيه..



عادت الطبيبة لتتنهد ثم رسمت على وجهها ابتسامة:


- على العموم يمكنك أن تنصرفي الآن، و مبروك مرةً أخرى...



و خرجت من غرفة الكشف دون أن ترد و كأنها تفر من الجحيم....



التفتت على صوتٍ يناديها مقترباً....


- أنا هنا..


- ............


- ماذا قالت لكِ الطبيبة؟!


- لا شيء جديد!!! ردت بعصبية.


- قلتُ لكِ دعينا نسافر لكنكِ لم تقبلي..



- أرجوك أريد أن أعود للبيت، أنا مجهدة..


- حسناً حسناً، اهدأي...




==========




- إلى متى ستبقين هكذا، الشمس حارة جداً..


- ألازال هنا؟!


- إنه مع أبي في غرفة الجلوس..


- أينوي البقاء؟!


- لا أعتقد ذلك، أبي لن يسمح بذلك أبداً..



- أنا لا أريد أن أسبب مشاكل لأحد، و هذا بيته، أنا من ينبغي عليها أن ترحل..



- أجننتي!! ما هذا الكلام، ثم أين ستذهبين، لقد توفيت والدتك رحمها الله، ثم أنا لم أرى معه حقائب، لا بد أنه وضعها في الشقة..


- الشقة!!


و نهضت "غدير" من على الأرض و هي ترمق "ندى" بنظرة ساهمة...


- ماذا بك؟!


- لا شيء..


و سحبت وشاحها لتغطي به شعرها و هي تهم بالنزول...


- أين ستذهبين؟!


- إلى غرفتي!!



وأكملت طريقها بشرود...



==========





أحسبيها جيداً، أحسبيها يا شيماء..


وضغطت بيديها على رأسها بقوة..


شهران، قالت شهران!!!


لقد رحل منذُ شهران...


رحل الشيطان، أليس كذلك؟!!



لم تنظرون لي هكذا؟!



كلا، كلا، ليس كما تظنون!!



هذا طفلي و طفل "ناصر" أتسمعون!!


طفلي أنا!!



سأصبح أماً، سأسمع كلمة "ماما" أخيراً....




إذا كان صبياً سأسميه "خالد"، خالد ناصر!!


أليس جميلاً!!



لا بد أن يلاءم اسم الطفل اسمَ والده!!


و والده ناصر....



ما لكم تحدجوني بهذه النظرة!!



ابتعدوا عني، لا أريد أن أراكم، لا أريد أن أسمع ما تقولونه...


ما تقولونه كذب، زيف، خداع...



أنا لم أشرب شيئاً ولم أذهب لأحد...



وهذا الطفل طفلي، و طفل..ناصر!!!



دعوني أفكر جيداً، آه ماذا كنتُ أقول...


و مررت أناملها المرتجفة لتمسح دموعها الحارة التي بللت وجهها....



أجل، وإذا كانت فتاة سأسميها، سأسميها "نور"، نور ناصر!!


و شهقت و هي تصيح بمرارة:



أنا لا أريده، لا أريدُ أطفالاً...


هذا ليس ابني...


هذا ابن الشيطان!!



========



- لستُ جائعة..


- لم تتناولي الغذاء، و حتى العشاء ترفضينه، ستحبسين نفسك من أجله!!


- ليس بسببه، قلتُ لكِ لستُ جائعة.. صاحت بضيق.


- لا بد أن تتعودي على رؤيته، أنتما من دمٍ واحد و لن يفتأ أن يأتي إلى هنا..


- أنا لا يربطني به شيء، ما بينننا انتهى، أفهمتي!!



وأشاحت وجهها للجانب الآخر بغصة...


اقتربت منها "ندى" و هي تضع يدها على كتفها فالتفتت لها بحزن..



- لماذا عاد؟!


- كان لا بد أن يعود يوماً.


- لم يذكرني، صح؟!


- ..................


أطرقت و هي تسألها بألم:



- أهو بخير؟!


- أجل بخير...


- لقد تغير كثيراً..


- كما تغيرتِ أنتِ!!



أبعدت الوسادة عن حجرها و هي تنهض من على الفراش بإختناق...


- سأخرج قليلاً..


- لازال هنا..


- و منذُ متى غادر "هنا"!!



و خرجت من الغرفة...


قدماها تقوداها هناك، حيثُ ترن ضحكته عالية حول المكان...


تضحك!!


لطالما كنت قاسياً يا "عمر"، في كل شيء...


نساني، "عمر" نساني....


غبية!!!


و أنى له أن يذكر مثلك!! أنسيتِ ما أنتِ بالنسبة له!!


لا شيء، أقل من اللاشيء، هذا ما قاله لكِ!!!


ولكن أهذا ما كنتِ تصبين إليه؟!



أن ينساكِ...كي يعيش، لا تنكري ذلك؟!


أجل، لكن....



لكن ماذا؟!


لم أتخيل قط أن ينساني بهذه السرعة، أن يهمشني من عالمه...



وأرادت أن تعود إلى حيثُ كانت لكنها سمعت صوت خالها بالخارج فأجبرت قدميها على الدخول إلى أقرب مكان....


استندت خلف الباب و هي تغمضُ عينيها بقوة...



سيخرج الآن، سيذهب كما كان يذهب دوماً...


لماذا عدت؟!


لم جعلتني أراك...


كنتُ قد بدأت أتعايش مع طيفك، مع ذكراك...


و تنهدت بقوة و هي تسير بلا هدف في المطبخ..


أشعلت الموقد بشرود و وضعت إبريق الماء...


أخذ الماء يغلي بفوران و هي تتأمل فقاعاته التي تطفو على السطح كل حين..


وضعت ملعقتان من القهوة السوداء فهدأت ثائرة الماء و عاد لاستقراره!!


ليتني مثله!!


سكبت السائل الحار في الكوب و هي تديره بلا شعور...



ارتشفت منه قليلاً في سيرها علّ لذعتها تخفف من المرارة التي تلسع جوفها بلا هوادة...


و قبل أن تلج إلى الداخل، أعادت رسم الابتسامة المتقنة على شفتيها و هي تفتح الباب بيدها الأخرى بحذر...




و شمت رائحة عطرٍ مميزة فاهتزّ الكوب من يدها و سكنت دون أن ترفع رأسها...



ها هي قطرات من السائل تتخلل أصابعها، تلسع جلدها لكنها لا تتذمر، لا تشتكي....


أكان هنا منذُ هنيهة أم لازال!!!


أم أنّ حواسها من شُبه لها ذلك!!



رفعت بصرها ببطء....




ها هي صورته تنطبع في مقلتيها و تنعكس هناك، بين الضلوع...



كان واقفاً بجوار المنضدة بقامته الرفيعة و منكبيه العريضين يرمقها هو الآخر و لكن بثبات..




عاد الكوب ليهتز، ليرتجف بعنف كدقات قلبها المجنونة...


- خذيه من يدها!!


ما تراه إذن حقيقة، و صوته البارد يشهد على ذلك!!


تناولته "ندى" من يدها برفق، في عينيها هي الأخرى غموض، شيء لم تفهمه..


الصوت البارد ينطلق من جديد بصوتٍ آمر:


- "ندى" اتركينا قليلاً..


- لكن...


- بإمكانك أن تتركي الباب مفتوحاً.. علّق بتهكم.


- أنا لن أبقى.. صاحت بصوتٍ مبحوح.


و خيل لها أنه لم يسمع، فكررت و صدرها يعلو و يهبط بإضطراب:


- أنا لن أبقى..


واستدارت بسرعة و يدها تمسك إكرة الباب:


- انتظري!! صاح بغضب.


و تجمدت في مكانها دون أن تلتفت له..


سمعت خطواته الثقيلة تقترب منها فارتعدت في وقفتها...


وضع يده على الباب و هو يخاطبها بجفاء:


- تريدين أن يظل الباب مفتوحاً أم مقفلاً!!



ابتعدت عنه بتعثر و هي تصيح بتقطع:



- ماذا..ماذا تريد؟!


- لا أخالك تريدينهم أن يعرفوا!! أجاب بقسوة و هو يشير لشقيقته.


- ....................


ثم التفت لتلك الأخيرة و هو يومىء لها:


- أتسمحين؟!


تطلعت إلى "غدير" كأنها تنتظر منها الإجابة...



مست كتفها و هي تسألها:


- أتريدين شيئاً!!


هزت رأسها بلا شعور و كأنها لا تستمع لأحد...


و انصرفت تاركةً الباب مفتوحاً على مصراعيه...


خيم الصمت بينهما، كانت تفر بنظراتها الشاردة في كل مكان إلاه!!!


ماذا يريد ها؟!


أن يلقي علي كلمات أخرى نسيها المرة السابقة!!


كلا، لن أسمح له، لا أريدُ مزيداً من الكوابيس..


لا مجال للتراخي الآن، لا وقت للجبن، للخوف...


لقد بتِ سيدة نفسك يا "غدير"، أنتِ فقط لا الغير...


ميزة جديدة للمطلقة!!


أتاها صوته بعد طولِ صمت، ساخراً، فظاً:


- كيف حالك؟!


رفعت رأسها المُطرق بتحدي....



كان بصره مصوباً نحوها بتمعن، مُحيطاً بحنايا وجهها الشاحب...


- كما تراني...


وانقلبت سحنته فجأة، قال بصوتٍ كظيم:


- ماذا فعلتِ بنفسك، تبدين...!!


و صمت وكأنه يكابد شيئاً رابضاً على صدره...


تطلعت إلى عينيه بإستفهام علّها تستشف مغزى حديثه...


ماذا يقصد؟! أتراه يعني شعرها الذي رآه في الصباح دون وشاح!! أم ماذا؟!!!



ردت بصوتٍ جاهدت ليظلّ ثابتاً:


- أنا حرة و أفعل ما بدا لي!!


- حرّة!! منذُ متى هذا الكلام؟! علق بإزدراء..


قالت ببطء و هي تصرُّ على كلماتها متجاهلةً نبرته:


- منذ الأمس واليوم و غداً..


- يبدو أن غيابي أثر على عقلك!! و ابتسم بإستهزاء..


- إذا انهيت كلامك انصرف، لديّ كثير من الأمور لا بد أن أُنهيها..


أمسكها من ذراعها على حين غرة...


- يلزمني أكثر من وقحة مثلك كي تملي علي تصرفاتي..


صاحت بإنفعال:


- ابعد يدك عني، أجننت!!


- لماذا؟!


ردت بأنفاسٍ متهدجة:


- أنت... طلقتني!!


- آه نسيت، لكم أنسى أنا ذلك!! و قست ملامحه.


ثم أردف و هو يخاطبها بصوتٍ منخفض:



- شيء جيد فعلاً أن تعرفي الحلال من الحرام!!!!


- ........................


شدّ عليها بقوة و هو يصيح:



- ألم يكن ما فعلته حراماً يا زوجتي المصون!!



نزعت يدها منه بصعوبة و هي تطالعه بمرارة، بألمٍ ارتسم بحدة على محياها...


أمسكتها بيدها الأخرى و هي تطرق للأرض بشجن...


إنه لا يفتأ أن يُلقي عليها الكلمات...


ليست كأي كلمات، إنها رصاصات، رصاصات سرعان ما تنفذ إلى القلب و تدمي روحها...


لم لا تكف عن تعذيبي...


قال بعد برهة و هو ينظر لها بثبات:


- ثم يبدو أنكِ لا تعرفين!!

- ....................


- أنتِ لا زلتِ في فترة "العدة"..


شيء ما في نبرته جعلتها ترفع رأسها بسرعة، بخوف، بحذرٍ شديد...


- وماذا في ذلك؟! سألته بإضطراب.


- أستطيعُ إرجاعك متى شئت..



تراجعت إلى الوراء و هي تصيح بإرتياع:


- أنا لم أسمع بذلك من قبل، أنت تكذب..


- ما الكاذب إلا أنتِ أيتها الــ...


و سكت فجأة، لكنها لم تصمت بل استمرت في صياحها:



- أجل أنا ****ة، قذرة كما تريد أن تقول، لم تريد إرجاعي إذن؟!


أجاب بقسوةٍ لاذعة:


- و لازلتِ كذلك بالنسبة لي، و لكن من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، أليس كذلك!!!


طفرت الدموع من عينيها بحرارة و هي تهزُّ رأسها دون تصديق:


- لن أن أعود إليك..


- لم أطلب رأيك، أتفهمين!!


- سأقتل نفسي إن حاولت أن تردني، أتسمع سأقتل نفسي..



- كان من الواجب أن تقتلي نفسك منذُ زمن و ليس الآن يا عزيزتي!!


- أنا أكرهك، لا أريدك، لا أريدك، لا أحد سيجبرني على الرجوع إليك..



- ستعودين رغماً عنكِ و في الوقت الذي أريد..



لم يتبقى إلا ورقة واحدة، حوافها كنصل السكين، لا يهم إن كانت الورقة الرابحة أم الخاسرة، لا مجال الآن للاختيار و التفكير!!


أخذ صدرها يعلو و يهبط بتثاقل و هي تحاول جر الكلمات لتخرج من ضلوعها، من جوفها المحتقن....


قالت بصوتٍ يرتجف:


- لن أعود إليك، ذاك..ذاك كان يعاملني أفضل منك!!




واستقرت صفعة قوية على خدها كادت تطيحها أرضاً...


لكنها لم تصرخ ولم تبكي، بل وضعت يدها على خدها و هي تعضُّ على شفتيها المرتعشتين بقوة....



أمسكها من زندها بقسوة و هو يديرها لتواجه، لكنها تمتنع عن النظر إليه و جسدها لا يكف عن الاهتزاز...


صرخ في وجهها:


- إياكِ أن تعيدي لي مثل هذا الحديث، إياكِ..


- .......................


- أنا لا أعلم ماذا تنوين أن أفعل بك بكلامك هذا، أن أسحقك مثلاً، ألا أبقيك حيّة!!


- .........................


صاح و هي تزداد انكماشاً:


- ماذا أفعل بكُ كي أشفي غليلي، أجيبي!!!


- ...........................


و مدّ يده إلى وجهها فأشاحته بإرتياع، لكنه أجبرها على النظر نحوه....


نظر إلى خدها المعلّم بأصابعه و هو يخاطبها بصوتٍ غائب:


- لم تضطريني إلى فعل أشياء أمقتها و أكره نفسي بسببها..


ثم أردف صارخاً:


- لم كلما حاولتُ نسيانك تراءيتِ لي..


- ..................


- أنتِ.....


وأفلتها دون أن يُكمل!!


و لم تتوقف هي عن النحيب!!



==========



لا ، كلا، كلا...


و مدت يدها إلى صدغها و هي تلهث...


إنها تشعر بالإختناق، بالضيق، لم تعد تنام مطلقاً، مطلقاً...


الجو هنا حار جداً رغم أزيز المكيف المزعج...


مسحت وجهها المبلل بكم ثوبها...


إنها لا تعلم ما مصدره، كيف تتصببُ عرقاً هكذا....


أنهضت نفسها بصعوبة و هي تشعر بجفاف حاد في حلقها...


سارت حتى المنضدة و أمسكت بزجاجة المياه المعدنية....


رفعتها إلى أعلى و هي تراقب صورتها المنعكسة في المرآة المستديرة....



أسقطت الزجاجة من يدها فجأة و هي تستدير نحو الفراش بذعر...


أخذت تتطلع إلى الراقد بهلع و دقات قلبها في إزدياد...


و كأنه أحسّ بعينين ترصدانه، فتحرك بضيق و بان وجهه...


أسندت جسدها على حافة المنضدة و هي تتنهد بوهن...


يا إلهي ماذا جرى لي!!


مررت أناملها الواهنة على جبينها و هي تنظر لزوجها...


و تذكرت الزجاجة فأخذت تفتش عنها رغم بعينين غائمتين....



ووجدتها!!!



كان الماء قد سال من فوهة الزجاجة دفعةً واحدة...


ضغطت على بطنها بألم و هي تراقب آخر قطرة وجدت طريقها لتلامس سطح الأرض...


هزت رأسها ببطء و هي تخاطب نفسها بإختناق:


أنا لا أريد أن أشرب شيئاً، لا أريد...


لا أعلم ماذا وضع فيه الشيطان!!


قلتُ لكم ابتعدوا عني!!


لا أريدُ شيئاً منكم، لا أريد....



============



فتح الباب الذي أحدث صريراً مرتفعاً منذُ أن لامسه....


كان المكان غارقاً في لجةٍ لا متناهية من الظلمات...


فكّ ربطة عنقه بضيق دون أن يبحث عن زر الإنارة...


و ألقى بنفسه على أقرب أريكة مغمضاً عينيه بتعب...




لمَ ذهبت رغم علمك بوجودها هناك؟!


لتشقي نفسك، لتعذبها كما تعذّبت طوال الشهرين المنصرمين...


كيف لم تمسك نفسك أمامها، تناسيت كل شيء بمجرد رؤيتها فقط...



و ماذا كنت ستقولُ لها حين رأيتها للوهلة الأولى!!


تبدين فاتنة رغم نحولك، رغم قصة شعرك الصبيانية!!



و ماذا أيضاً، اعترف!!


كنتُ سأقول:


اشتقتُ لكِ كثيراً، كثيراً أيتها الحبيبة الخائنة!!!



ما كان عليّ أن أذهب البتة، لكن أنى لهذا القلب الأحمق أن يستجيب للعقل...


أنهُ لا ينصاع لما آمره به، يأبى إلا أن يسيرني و يراها....


ما أقسى مرآها، ما أقساه....



ما هذا!!


رفع يده بدهشة و هو يحدق في قطرةٍ غادرة فرّت رغماً عنه...


دموع!!


أأنا أبكي؟!


أنا "عمر" أبكي؟!


ومن أجل من؟!


من أجل خائنة، كاذبة، بلا أخلاق!!!


تلك التي أودّ خنقها و عناقها في وقتٍ واحد!!!


و نهض من مكانه بضيق علّ الأفكار تبتعد عنه، تهاجر بعيداً، بعيداً و تريحه....


دخل غرفته، كانت هي الأخرى غارقة في الظلام....


تلمس طريقه إلى خزانته، و أخذ يفتش عن ولاعته القديمة بعمر 10 سنين، منذُ أن قطع هذه العادة السيئة!!


لكن الأيام لا تبقي أحداً على حاله، و هو بأمس الحاجة لأن يدخن، علّ دخانها يهدأه أو يصمته!!


و وجدها، وجد ولاعته الذهبية لكن يا للسخرية!!



كانت علبة السجائر قد نفذت!!


جعد العلبة بيديه لكأنه يصبُّ جام غضبه عليها....


ثم عاد ليفتش من جديد، عمّاذا؟!


كان هو لا يدري!!


ربما يجد سجارة مخبئة بعمر ولاعته..


مستحيل؟!!


صدقوني لا يوجد شيء اسمه مستحيل...
و أمسك بشيءٍ ما، ناعم الملمس....




شمــــــعة!!!


و ابتسم بتهكم....


قالت لي: خذها و تمنى أي شيء و سيتحقق!!


و صدقتها، صدقتُ تلك الكاذبة، ولم يتحقق أي شيء....


أتريدين أن تعرفي ماذا تمنيت؟!


تمنيت أن تكوني لي....


أن تحبيني كما أهيمُ بكِ عشقاً...


ما كان علي أن أصدق مثلك!!!


أجيبيني هل أنارت قلبك، هل أشعلته، أم أن اللهيب لم يعرف طريقه إلا إلي؟!!


قولي لي أيتها الخائنة!!!


صه، صه، صه، أبتّ تخاطب الشموع أنت الآخر، أجننت؟!!


إنها لم توجد إلا لتحترق، لتضيء المكان ثم تُلقى في أسفل سافلين كصاحبتها الكاذبة!!!



و أخرج ولاعته....

أشعلها هي بدلاً من السجارة....



تراقص اللهب بإستحياء فوق تلك الذُبالة...


و قد بدد نورها الخافت شيئاً من ظلمة المكان...


اللهب يهتز مع حركة الجسد، يتناغم معه في رقصةٍ سرمدية....


خرج من حجرته و قبل أن يتجاوزها التفت نحو الجانب الآخر...


الصور لا تلبث أن تومض و تنطفئ كبروق سماوية....


في طياتها صور الأمس، كل الأمس...


دفع الباب ببطء لكأنه لا يريد أن يُجفل من بالداخل أو ربما كي يمني نفسه!!!


بأنها لازالت هنا، لازالت تختبأ عنه...


وانفتح الباب على مصراعيه...


لم تكن هناك!!!


لا وجود لها...


أنسيت، لم تعد تعيش معك، لن ترى وجهها من جديد، لن تسمع صوتها...


كنت تكذب عليها أنت الآخر...


أنت لن تعيدها إلى عصمتك أبداً!!


أتقوى على الموت في اليوم ألف مرّة!!!


كانت حُجة، مجرد حجة لتملأ عينيك بها، و ليُناغي صوتها أذناك للمرة الأخيرة فقط..


و جال ببصره المتعب حول المكان...


ثيابها متناثرة في كل زاوية بإهمال...


لم تأخذ شيئاً...


إنها تأبى إلا أن تذكره بها...


أنها تعذبه في وجودها و غيابها...


أجيبوني كيف أنساها بالله عليكم، كيف!!!


و اقترب نحو السرير الخالي و هو يضع الشمــــــعة بجوار "الأباجورة"....


و أحسّ بشيٍ صلب!!!

"الجــــــزء الأخيــــــــــــر"



وضعت يدها المرتعشة على خدها للمرة العاشرة على التوالي و هي تطالع الفراغ بعينين لا تريان...


كل ما تراهُ يبدو مظلماً، باهتاً، كأن غشاوةً سقطت عليه فجأة!!


ما حدث كان سراب، وهم، خدعة بصر ليس إلا!!

و تلكأ بصرها الذاهل على الباب حيثُ خرج الأخير...


بلى كان هنا، كان هنا و أصابعه تشهدُ على ذلك!!


و تسللت دمعة حارة انسابت بعمق على حنايا وجهها المبلل علها تلطفه، تطفىء شيئاً من لهيبه...


ماذا تريدُ مني!!

اجبني بالله عليك..


كفاك، كفاك...


ألم يكفك ما فعلته بي!!


ألم تكفك الاهانات، ألم يكفك كل العذاب الذي عيشتني إياه!!!


ماذا تريد مني؟!

أن أعود إليك من جديد!!


لن أعود إليك أتسمع، لن أعود ولو على جثتي!!


تريد أن تذلني، أن تُحيل أيامي الفانية إلى كوابيس...


لا لن أسمح لك، لن أسمح بأن تطعني، تجرحني ثم تتركني وحيدة بلا ضماد...


تخالني لا أعرفك أيها القاسي...


لن تفتأ أن تردد علي الكلمات، ستلقيها على مسمعي و سترحل بعدها كما ترحل دوماً و سأبقى أنا أتجرع مرارتها لوحدي ويظل الجرح مفتوحاً، معرضاً للصديد كل حين...


اخرج من حياتي، دعني أعش بسلام..


أنا لستُ بحاجة لأحد، أتخالني سأموتُ بدونك!!!


أنت واهم، إن لم أنسك اليوم سأقتلعك من قلبي غداً!!


إنها مسألة وقت يا "عمر" أتسمع، سأنساك...


سأعيش لنفسي فقط، لن أبالي بك أو بغيرك


لا أحد له حقّ علي الآن، أنا حرّة


ما فات مات و آن من هواك أن تحلّني!!


اتجهت بعزم لدرج خزانتها، تناولت مفتاحاً فضياً كانت قد خبأته للذكرى، للذكرى فقط!!


قبضت عليه بأناملها و عاد الضباب لينتشر حول المكان!!


==========



كانت ضامة يديها إلى حجرها و قد أمالت رأسها على الجدار....


- شيماء، شيماء!! هزها برفق.


- ....................


- ماذا تفعلين هنا؟! كيف تنامين على الأرض!!


فتحت عينيها الصغيرتين بإجهاد، أخذت تطالع الوجه القلق دون استيعاب...


همست:

- ناصر!!


- أجل ناصر..

وابتسمت حينها في وجهه ابتسامةً صغيرة واهنة...


عقد حاجبيه و هو يسألها بعبوس:


- كيف وصلتي إلى هنا؟!


- كنتُ عطشى و بحثت عن ماء..


وغابت ابتسامتها ليحل محله ألم قبض على أحشاءها..


أردفت بصوتٍ شارد:


- يبدو أني نسيتُ نفسي و نمتُ دون أدري..


صمت برهة مفكراً ثم قال:


- تبدين مجهدة هيا لترتاحي على فراشك.


- أنا مرتاحة هكذا..


- لم يكن النوم على الأرض مريحاً قط!!



و ساعدها عى النهوض مُسنداً إياها بين ذراعيه....


علّق مازحاً و هو يدثرها:


- لقد أصبحتِ ثقيلة.


شحب وجهها فجأة و تقلص محياها و هي تنظر له بخوف...


هزت رأسها ببطء و هي ترد بتقطع:


- ليس بي شيء، هذا...هذا من تأثير الأكل..


- أنتِ بالكاد تأكلين!!


- قلتُ ليس بي شيء. صاحت و هي تتلفت حولها بجزع.


نظر إليها دهشاً، ردّ بخفوت:


- ماذا بك كنتُ أمزح ليس إلا..


عادت لتتأمله بعينيها بحزن و هي تمسك يده:


- لا تمزح معي، أرجوك أعصابي متعبة...


ضغط على يدها بحنو والأخرى على صدره بطريقة مسرحية:


- أنا آسف، لن أكررها يا سيدتي من جديد..


عادت لتبتسم ابتسامتها الواهنة الصغيرة...


ناصر!!


كم أحبك..


سامحني فقط، سامحني....


و غاب عن ناظرها وهو يشيعها ذاهباً إلى عمله...


أغمضت عينيها وعشرات الخواطر تتزاحم في مخيلتها، كلها يتداخل، يتسابق لكن أيهما سبق!!


لا أدري!!!



=========



لم تنم البارحة مطلقاً، كانت ممسكةً بالمفتاح تشهد المعركة القائمة في السماء!!

تلك التي ينتصر فيها نور الدُّجى على لُجج الظلام..


ها هو الصباح ينبلج و العينان مسهدتان، تتثاقلان كل حين لكأنهما تنوءان بوطأة الليل و تعاقب النهار!!!


كلاهما ثقيل، كلاهما يحمل في بزوغه شجن و في هباته ذكريات، ذكريات مبعثرة!!


استدارت ببطء لتلك الراقدة بسلام..


أتراها نائمة فعلاً؟!


أنهضت "غدير" نفسها و فتحت الباب بهدوء....


و جدت خالها جالساً لوحده على مائدة الإفطار الذي لم يُمس...


كان شارداً هو الآخر...


يا تُرى فيمَ يفكر!!


أخذت نفساً عميقاً قبل أن تنطق و هي تصطنع الابتسام:


- صباح الخير يا خالي..


التفت إليها و نظرة حنونة ارتسمت في مقلتيه..


- صباح النور يا ابنتي، تعالي و اجلسي معي..


اقتربت منه وأصابعها لازالت منقبضة..

- كيف حالك؟!


سألها و هو يمعن النظر فيها..


- بخير. ردت بإقتضاب.


صمت كلاهما ربما ليفكرا فيما يقولانه!!


و يبدو أنها لم تجد شيئاً


قطعته أخيراً:


- أتريد أن أسكب لك شاي؟!


- بشرط أن تشاركيني في طعامي..


- لستُ جائعة يا خالي، لا أشتهي شيئاً..


و أطرقت للأرض..


تنهد بأسى فأردفت بحنان:


- الآن سيستيقظون و سيفدون جميعهم..


- من "جميعهم"؟! "ناصر" هو من يستيقظ في الصباح فقط و ها قد خرج و كأنه لا يراني!!!



آه، ناصر خرج!!


من سيأخذني إلى هناك إذن!!


لا يمكنني أن أطلب من خالي، مستحيل!!




- كل من في هذا البيت تغير، انقلب حاله لا أدري كيف؟! زوجته "شيماء" بتُّ لا أراها مطلقاً و "ندى" لم تعد الفتاة المرحة التي عهدتها من قبل و أنتِ، أنتِ تحبسين نفسك في الغرفة و لا تخرجين إلا حين أناديكِ...


- ليس الأمر هكذا يا خالي، أنا...


- أنتِ ماذا؟! انظري لنفسك، أأنتِ غدير فعلاً!!


- ......................


- الحياة تستمر يا ابنتي ستهلكين نفسك بسببه!!


انتفضت في جلستها و كأن أفعى لدغتها، ردت بأنفاس متقطعة:



- ليس بسببه، لم يعد يعني لي شيئاً...


و بترت جملتها و هي تنظر لخالها الذي كان يهزُّ رأسه..


قالت بغصة:


- سأذهب إلى غرفتي..


حثت الخطى إلى هناك و أوصدت الباب خلفها بألم...


حتى أنت يا خالي..


لمَ لا يصدقني أحد!!


لم لا تصدقوني...


ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها...


ماذا أفعل الآن!!


لا بد أن أذهب قبل أن يعود من عمله...


من سيأخذني إلى هناك؟!


لايهم!!


كل الطرق تؤدي إلى روما أليس كذلك؟!!


و سحبت عباءتها...


==========



فتحت خزانتها تتفقد محتوياتها...


أخرجت علبةً متوسطة الحجم، زهرية اللون، مخملية الملمس....


جلست على الأرض و فكت الشريط الحريري بتؤدة...


تناولت ألبوم الصور و أخذت تتصفح صور زواجهما بلهفة و شوق و هي تمعن النظر فيها عن كثب...


ابتسمت ثم ضحكت و هي تتذكر مواقف حدثت لهما أثناء التصوير..


كل صورة تمثّل حياة، حياة كاملة بالنسبة لها...


انظروا إليه!!


هذا الرجل زوجي..



زوجي أنا!!


مررت أناملها على وجهه لكأنها تريد أن تتأكد من وجوده أو ربما لتحفر ملامحه في ذاكرتها للأبد!!


وضعت الألبوم جانباً ثم أخرجت رزمةً من الرسائل رُبطت بعناية و بترتيب...



كانت هذه رسائله لها أبان أيام الخطوبة...


منذُ أن عرفته و هو جاد و عملي، كان يجلس معها لساعات و يتحدث في شتى المواضيع من الأدب إلى الدين حتى السياسة دون أن يتكلم عنها هي...


دون أن يعلق على تسريحة شعرها مثلاً أو مكياجها أو ما كانت تتكبده حين تعلم بقدومه...


وكم وددت أن تخنقه في تلك اللحظات و تصرخ في وجهه يكفي!!


لكنها تعود لتمسك نفسها و تستمع مجبورة لمحاضراته الثقافية!!


لكن لا، لا تظلموه، لا تحنقوا عليه كما فعلتُ في البداية...


كان قبل أن ينصرف يدسُ في يدي رسالة!!


أي حروف حبٍّ تلك التي يسطرها...


و أي أبيات شعرٍ هائمة يدشنها لي...


لي وحدي...


ليست من أبيات "نزار" كالتي يسترقها كعادة العشاق...


كانت أبياته هو، من صنع يديه، من خلجات وجيبه...


لي وحدي كتبها...


كنتُ أغرق في بحر كلماته، وأظل أقرأ و أقرأ وأعيد قراءتها كل يوم بل كل لحظة حتى تبلى الورقة من يدي فأضطر لأن أضعها في الصندوق كي لا تهترئ وتختفي الحروف...


و كم اشتقت للحظة انصرافه تلك و بتُ أتلهف خروجه، صدقوني ليس لأني أنفرُ من شخصه...


كلا فمثله لم يُخلق إلا ليُحب لطيبه و حنانه...


ذاك كان زوجي أنا...


أرأيتم مثله!!!


و قربت الرسائل إلى وجهها و هي تتنسم عبيرها بعمق، عبير تلك الأيام الجميلة..


ما أطيبها من ذكرى و ما أحلاها من أيام...


و اهتزّت الأوراق من يدها فجأة...


ما عادت ذكرى طيبة يا "شيماء"...


لقد لوثتها، دنستِ طيبها، عبثتِ بطهارتها..


ماذا تبقى منها؟!!


أو ماذا ستُبقين؟!


تحركت شفتيها ببطء و هي تخاطب نفسها بإختناق:


لكني لم أقصد.....


أنا لم أفعل شيئاً..


فقط شربتُ ماء...


أفي شربِ الماء جريمة!!


أغمضت عينيها بقوة و هي تصرُّ على شفتيها....


أجل جريمة، جريمة كالتي تستقرُّ في بطني الآن!!!


و سالت الدموع من عينيها، أطلقت لها العنان بصمت...


سامحني يا "ناصر" سامحني...


احتفظ بالصندوق، احتفظ به وبذكرياتنا الجميلة معاً..




و رسائلك يا "ناصر" لا تلقها، لا تقطعها، بل دعها كما هي..


أنا حفظتها عن ظهرِ قلب، حفظتُ كل كلمة، كل حرف...


لكن أنت...


لا تنساني، إياك أن تنساني...


نااااصر أرجوك!!!!



==========



توقفت سيارة الأجرة ليس ببعيدٍ عن الشقة...

أسرعت في خطاها و هي تتلفت حولها...


اصطدمت بالباب فارتجّت من الأعماق...


و أحست بقدميها تخونانها...


ما تقدم عليه جنون، بل أكثر من جنون...
لا يهم، لا شيء يهم!!


أدخلت المفتاح بقلبٍ راجف و أمسكت إكرة الباب و دفعته....


كان المكان غارقاً في سكونه، في هدوءه، في غباره!!


شهران، زمنٌ طويل أليس كذلك!!




هزت رأسها بقوة ثم صوبت بصرها نحو غرفتها فقط...


فقط لا غير...


إنها لا تريد أن تذكر شيئاً، فطيفه سيتراءى لها حينها، في كل بقعة و زاوية، بل في كل مكان...


تلكأت عند بابها، تجول ببصرها بألم في أرجاءها، في أغراضها المبعثرة...


كلا إنها لن تأخذ شيئاً منه، من ماله، لا أريد شيئاً يذكرني به!!


لا مجال هنا للوقوف أكثر، لا وقت للبكاء على الأطلال...


تقدمت و هي تدوسُ على بقاياها، على روحها الهائمة بلا هدى...


النزف يتحلل، يقطر من ضلوعها، يخرج من مخبأه و الجروح تُنكأ، لا تلبث أن تنكأ، كيف لا وكل الشواهد أمام عينيها!!


يكفي، قلتُ لكم يكفي!!!


جثت على ركبتيها الواهنتين و هي تفتش في أدراجها لكن يدها لم تصل إلى شيء...


تلفتت بشرود...


أين وضعته!!


وابتسمت بلا روح...


إنها تنسى، لطالما كانت تنسى أشياءها...


ليتها تنساه فقط، ليتنا كنا مخيرين في سحق ذاكرتنا!!


أبعدت الوسادة و كانت خالية بالفعل!!!


أزاحت الدثار بأكمله عن فراشها فانتفض قلبها بعنف...


ليس هنا!!


لم تجده!!


عادت لتجثو من جديد مادةً يدها أسفل السرير...


أصابعها لا تقبض إلا الهواء..


ها هو يتسرب، يتيه، ثم يتخبط بين يديها و يُفلت!!


أين هو؟!



- عمّ تبحثين؟! عن هذا؟!!


واستدارت بإرتياع نحو مصدر الصوت...


كان واقفاً عند الباب وبيده شيء ما...


بدا وجهه منطفئاً، مُتعباً خلا عيناه اللتان تلمعان....


لازال بملابس الأمس و قد بان زغبٌ خفيف على ذقنه بإهمال...


- عن هذا؟! كرر بصوتٍ غائب.


رفعت بصرها غير مصدقة و هي تنهض نفسها....


قالت دون شعور:


- اعطنيه!!


- .............


أخذ صدرها يعلو و يهبط بإضطراب و أنفاسها تتضاءل:


- اعطني دفتري.


- .....................


- قلتُ لك اعطنيه.. صاحت بهستيرية.


و بدا كما لو كان قد سمعها للتو، تقدم قليلاً ماداً يدهُ إليها فتراجعت خطوات...


- خذيه.


لكنها لم تمد يدها بالمقابل بل نظرت إليه بضياع...


و ضعه على حافة السرير و ابتعد..


خطفته بسرعة و دفنته في صدرها و هي تشدُّ عليه بقوة لكأنها تخشى بأن يقتلعه أحدٌ منها...


- لمَ لم تخبريني من قبل؟!


- ..............


هزها من كتفيها بقوة و هي تنظر له و لا ترى!!!



- لمَ لم تخبريني؟! و احتدّ صوته.



نزعت نفسها منه و هي تُبعد يده بإحتقار...


- أخبرك بماذا؟!


صرخت بصوتٍ مبحوح:


- ماذا تريدني أن أقول؟! أأقولُ لك أنا لا أعرف إن كنتُ عذراء أم لا؟!


وضحكت بمرارة و الدموع تطفر من عينيها....


أردفت بصياح و هي تمسح وجهها:


- أكنت ستصدقني حينها، ستصدقني وأنا في ليلة زفافي!!


- .....................



و ضمت يدها إلى صدغها و هي تهز رأسها ببطء و أنفاسها تتهدج:


- ما كان أحد ليصدقني، من سيصدق شيء حدث منذُ عشرةِ أعوام، أمي لم تعرف، لم تفهمني وأنا ابنتها ستأتي أنت و تفهمني!!


- ...........................


- أم أقولُ لك عن شعوري حين فهمت ما جرى لي، حين سمعتُ الفتيات في المدرسة يتحدثن عن هذه الأمور!!


- ....................


- أأقولُ لك أني وأدتُ حلم الزواج من حياتي للأبد و أنا لم أتخطى بعد أعتاب المراهقة!!


رفعت أصبعها فجأة بتحذير و صوتها يختنق:


- كنتُ قانعة بقسمتي، لم أكن لأشتكي أبداً، ما كنتُ لأشاركهم أبداً في أحلامهم الحمقاء تلك!!


- ......................


- أنا لم أبكي أبداً أتسمع، لم أبكي قط..


و أحنت جذعها و هي تغطي وجهها بدفترها و شهقاتها ترتفع...


- كان عليكِ أن تخبريني، لم جعلتني أظلمك، لمَ عذبتني و عذبتِ نفسك!!


رفعت رأسها ببطء و هي تمسح وجهها بأناملها المرتجفة...


خاطبته بصوتٍ ذاهل، متقطع كأنها تخاطب سراب:




- أخبرك!! أنت لم تسمعني حتى، اتذكر تلك الليلة حين توسلتك، حين جثيت تحت قدميك كي تسمعني ولو قليلاً لكنك رفضت....


- ......................


- أذللتني بلا رحمة، لن أسامحك أبداً ما حييت..


- إذا كنتُ قد أخطأت فأنتِ أخطأت أيضاً، كلانا أخطأ يا "غدير" و أنتِ السبب..


- أنا السبب!! صاحت بإختناق.


- أجل، ما كان عليكِ أن تسكتي، أنا زوجك كان عليكِ أن تخبريني، بالله عليكِ كنتُ سأعرف!!


- حاولتُ إبعادك عني، لا تنكر!! صرخت في وجهه.


- هذا ليس حلاً أبداً. علّق بيأس.


ثم أردف بصوتٍ بائس:


- جعلتني أظلمك، ظننتكِ أخطأتِ..


و صمت و هو يمرر أصابعه على جبينه بتوتر..


- لا تبرر لنفسك، أنت صيرت حياتي إلى شقاء، أنت ظالم، قاسي القلب، اجبني فيمَ تختلف أنت عنه؟!!


- ألا تفهمين، أيُّ رجلٍ بمكاني كان سيفعل الشيء نفسه بل أسوأ من ذلك..


- أجل قولها، أنت مثله، مثل كل الرجال، كلكم متشابهون، كلكم.. صاحت و هي تضرب بقبضتيها على رجليها.


- ماذا تقولين، أنا "عمر" ألا تعرفيني؟!


- و لا يهمني أن أعرف، ابتعد عن طريقي..


- قلتُ لكِ أنا آسف، ماذا تريدين أكثر؟!


- لا أريدُ منك شيئاً، فقط دعني أعش بسلام..


- أنا لا أستطيع العيش بدونك، ليس بعد ما عرفتُ كلّ شيء!!


- كي تذلني، كي تذكرني بذلك كلما تشاجرنا أو اختلفنا، تخالني لا أعرفك!!


- أنتِ لا تعرفيني حقاً!!


- لا أريد أن أعود لأحد، ولا أن أتزوج أحد، أريد أن أعيش لنفسي، لنفسي فقط...


- لن تستطيعي ذلك أبداً، أنتِ لستِ هكذا!!


- لقد أعطيتك فرصة، آن لكِ أن ترديها وتمنحيني فرصةً من جديد.


- أنت لم تعطني شيئاً، أنت رفضت أن تسمعني حتى. صاحت بألم.


- سأسمعك!!


- ليس لدي شيء لأقوله لك الآن، لأن لا شيء بيننا، لم يعد يربطني بك شيء..


- أنتِ لازلتِ زوجتي!!


- أنا لا أريدك، ألا تفهم!!


- اخرسي..


- لن أخرس و لن تسمع مني إلا هذا الكلام..

و أردفت بهستيرية و هي تغرز أظافرها بلا شعور في الجلد الأسود:


- و لا تظن لأنك عرفت سأسمح لك بإذلالي كما يفعل هو، لن أسمح لك ولا لأحدٍ بذلك أبداً...


- ماذا تقولين؟!


قاطعته بشرود و هي تبتعد شيئاً فشيئاً:


- أجل، هذا أفضل لي و لك..


و التفتت إليه بغصة:

- لن أعود إلى الجحيم مرةً أخرى، لقد تعبت، لا يلدغ المؤمن من حجرٍ مرتين!!


- أنا لستُ بأفضل من أمي، لستُ بأفضل منها!!!


و تجاوزته و هي تشيح بوجهها بعيداً، بعيداً...



و ما أن لامست الهواء حتى انفجرت في البكاء بصوتٍ مخنوق...


ضمت الدفتر لجانبها و هي تختبأ في الأزقة، في طريقٍ آخر لا يمتدُّ بصلةٍ إلى هناك...



رفعت رأسها لمرآة السماء، قطرات المطر تنسابُ على وجهها، تختلط بدموعها و تتحد في صورة شفافة لا متناهية...


مطر!!


مطر!!


رددت بهمس و هي تترنح في سيرها..


الطريقُ يبدو طويلاً، بعيداً، خالياً إلا من سواها...


و المطر يسقط بغزارة، بحباته الكبيرة، يبلل التراب و يمنحه شيئاً من عبقه الأثيري...



شيئاً من الطفولة، حين نرتعُ في برك الماء، نتسابق مع الأطفال و ننزلق على الأرض، على التراب، على المطر!!!


و لاحت طيفُ ابتسامة مخنوقة على شفتيها...



حين كانت مع والدها، تختبىء أسفل سترته، حين يحيطها بذراعيه كي لا يبتلُ شعرها، كي لا تفسد جدلتاها!!!



غابت الابتسامة و حلّت محلها رعشة على الشفتين...


عادت لتحتضن دفترها والرعدة تسري في جسدها النحيل...



الطريق لازال بعيداً....



تُرى إلى أين يصل مداه!!!



أوَ تعرفين...



أيُّ حزنٍ يبعثُ المطر!!!


========






كانت جالسة أمام الجهاز، تضغطُ على أزرار لوحة المفاتيح بقوة و هي تتمتم بغيظ....


سأبحث لي عن وظيفة بدلاً من البكاء على ذلك الأحمق!!


من يظنُ نفسه؟! مثله أدوسه بقدمي دون أن أبالي..


عرفتُ الآن لمَ لم يتزوج بعد!! و من هي تلك العوراء التي ستقبل به!!

فليشكر ربه لأني نظرتُ في وجهه، ليس في رأسه إلا ثلاثُ شعرات و يرفع أنفه!!


لا شك، كلها سقطت من التفكير في المال!!


اتصلت بي "أشجان"، أخبرتني بأنها ستنتقل لشركةٍ أخرى، ومن يقدر أن يستمر مع ذلك التمساح!!!


هذه الأشكال تحتاج إلى أصناف من الوزن الثقيل تُشابهها...


مثلي تماماً...


لا أقصد وزن جسمي، تعرفوني رشيقة!! بل أقصد قوة الشخصية والحكمة والرزانة، وكلها ولله الحمد تتوفر لدي!!!



قالت أنه بات أكثر عصبية، يهبُّ في وجه الجميع صارخاً!!


كم شعرتُ بالسعادة و شمتُ فيهم، كلهم دون استثناء!!

لا تحملقوا فيّ هكذا، أنا لستُ منافقة!!

فاليذوقوا شيئاً مما ذقته، لقد أذاقني الويل!!!


و مرّت صورٌ في ذهنها فتوقفت عن الكتابة و ضحكت ضحكةً مكتومة...


كان ذلك في آخر أسبوع معه، حين أعادها للعمل مع "جميلة" و "أشجان"...


الغيظ قد تجمع في صدرها منه، من بروده، من لا مبالاته، كيف يهمشها هكذا في لحظة و قد كانت تجلس معه أكثر مما تجلس مع والدها في البيت!!

من يظنّ نفسه!! لكن أنّى لقالب الثلج أن يتحرك، كل ما قاله:

- كفي عن السخافات!!

و كفّت عنها، لكن لا حياة لمن تنادي، ها هو اليوم الأخير لها في الشركة، يدخل و يخرج من مكتبه دون أن يلتفت لها حتى، دون أن ينظر لها و لو لثانية!!


انتهى وقت الدوام، خرج حاملاً حقيبته الجلدية و خاطب الجميع بصوتٍ جامد:

- يمكنكم أن تصرفوا الآن!!


ثم استدار إليها بنفس النبرة:

- لقد تمّ إرسال تقريرك يا آنسة إلى الجامعة و نسخة أخرى إلى الوزارة عن طريق الفاكس..
- ماذا كتبت فيه؟! سألته بعدائية و هي توشك على الانفجار.
- ما تستحقينه!! ردّ بإستفزاز و هو يعقد حاجبيه.

هبت واقفةً من كرسيها و هي تضع يداها على خصرها:

- و ما الذي استحقهُ برأيك!!
- أنتِ أعلم بنفسك!!


لم تجد نفسها إلا و قد سكبت عليه الماء المتبقي من الزهرية!!!


أخذ يطالعها مصدوماً و عشرات الشياطين تتراقص في عينيه...


ولكن، إن كان يملك العشرات فهي تملك المئات، صاحت في وجهه:



- ألا تنظر أمامك جيداً، لقد وسخت الأرضية!!!


- ....................


- كان عليك أن تقترب أكثر، لنتأكد إن كانت بدلتك ضد الماء أم لا!!!



غصّت "أشجان"، حتى "جميلة" أخفضت رأسها إلى أن لاصق ذقنها سطح المكتب...


- أتعرفين أنتِ مجنونة، وأنا لا أُحاسب المجانين!!


- ما المجنون إلا أنت!! صاحت بغيظ.

صرخ بغضب:

- أيتها الوقحة، قليلة الأدب..

فغرت "ندى" فاهها بإستنكار و هي تتلفت حولها...

- أنا قليلة الأدب؟! ماذا عنك!! أنت أفظع مدير رأيتهُ في حياتي، أنت..أنت شيء لا يُطاق، الكل هنا لا يُطيقك، اسألهم..

والتفتت لتلك الأخيرة:

- أليس كذلك؟!

لكنها لم تجب..
- انظر الفتاة أُصيبت بالخرس بسببك



- تخالني أخافُ منك أو من تقريرك، لا يهمني حتى إن رسبت!!

و دقّت الطاولة بيدها بتحدي و لم تجد إلا و قبضته تسقط على أصابعها..

صرخت




- تضربني، أتمدُّ يدك عليّ؟!

- حتى تتعلمي الأدب وإن رفعتِ صوتك قطعتُ لكِ لسانك

-




و نظرت إلى ساعتها و هي تطالع العقارب بقلق:

- أين ذهبت هذه الغدير، لم تعد بعد، و هاتفها مغلق!!

عاشقة الكتب 24-05-07 06:57 PM

النهااااااااااااااااااااااااااااااابه
 
جبان، جبان، جبان...



كيف فعلتُ ذلك؟! كيف عاملتها هكذا؟!



كان عليّ أن أسمعكِ حين أردتِ الكلام، أن أُمنحك الفرصة لتدافعي عن نفسك، لكنهُ الشيطان من أعمى بصيرتي، هو من أفقدني صوابي!!



سامحيني، أرجوكِ سامحيني....


أعلم بأني ظلمتك، بأني أهنتك و أسأتُ إليكِ...


كان رغماً عني صدقيني، ليس بيدي..


بالله عليكِ ماذا كنتِ تريدين أن أفعل؟!


أن أصمت و أنا أخالك على علاقةٍ برجل...


أيبقى في العقلِ شيء حينئذٍ؟!


أجيبوني!!



لكنها لا تعرف، إنها لا تفهم، لا تزنُ الأمور أبداً!!



و ضرب بقبضته على الطاولة فاهتزّ الكأس الزجاجي بإرتعاش...


صه!!






كُفّ عن لومها يا "عمر" و جادل نفسك، أخرج خباياها...



ماذا عنك؟!


لقد باتت تخافك، تخشى لقياك، إنها تفضل الجحيم على أن تعود إليك!!



أسمعتم ما قالته!!!


أسمعتم بالنار التي صلت جوفي؟!



تخالني سأعايرها!!



أأنا سأُعايركِ!!



أأنا أقدرُ على ذلك!!




أيُّ كلماتٍ تلك التي صفّتها و خنقتني..


كل كلمة، كل حرف خنجرٌ مسموم انغرز في صدري بلا رحمة...



كلا، لن أعايركِ، لن أذلّك، هذا ليس ذنبك البتة، بل ذنبُ ذلك ال****، ذلك القذر...



و اعتصر الكأس في يده بقوة..


تهشم...


و سال الدمُ أحمراً لاذعاً..



بقوة زخات المطر، بإنسياب ذراته...



تطلع ليده بغور، بعمق و هو يراقب تلك القطرات النازفة...



كلا، لن أدعها، لن أتركها..



"غدير" ستعود إلي، سأردها شاءت ذلك أم أبت حتى و لو ضغطتُ عليها بالقوة...



حتى و لو اضطررت لإخافتها!!



إنها لا تعرف مصلحتها أبداً، مصلحتها معي أنا أتسمعون!!!



سأُنسيها، ستنسى الماضي كل الماضي معي أنا..



سأصبر، لن أيأس أبداً، و ستعرف أني أحبها هي لشخصها، لا لإعتباراتٍ خرقاء أخرى!!



لكن لا بد من فعلِ شيءٍ أولاً!!



لا بد من تصفية بعض الأمور!!



و نهض بتصميم!!



========




كانت أنفاسها الساخنة تلفحُ وجهها رغم البرودة التي سرت في عظامها...



- أين كنتِ؟!



قطرات المطر قد بلّت ملابسها و ها هي تبلل الأرضية أيضاً، تصنعُ بقعةً صغيرة...



تطلعت إلى الوجوه المحدقة بها، تلك التي تنتظر إجابتها...



أخذت تنظر لهم بشرود، بحواس غائبة، دون أن تفقه شيئاً...



أردف صائحاً:



- أتعرفين كم الساعة الآن يا فتاة؟!


- .................


- الساعة الآن السادسة مساءاً، أين كنتِ منذُ الصباح؟! أردف "الأب" بغضب..



و تحركت شفتاها حينها بإرتعاش...



ليس من البرد، كلا!!!



بل لأنها المرة الأولى التي يصرخُ عليها خالها...



نظرت إليه بعينين غائمتين، خاويتين من كل شيء و لا شيء!!



لانت ملامح وجهه قليلاً، لكن نبرته لم تتغير....


عاد ليسألها بغضبٍ أبوي:


- أجيبي!!



أحاطت دفترها بيديها بقوة ربما لتستمد منهُ شيئاً من الدفء أو الأمان....


الأمان!!!


ردت بصوتٍ مرتجف:


- لم أذهب لمكان!!


- .................


همست بتقطع:


- لقد نسيتُ...نسيتُ دفتري و ذهبتُ لآخذه..


- ...................



ثم أردفت و هي تهزُّ رأسها نافيةً:



- لم يكن أحدٌ هناك، لم أرى أحداً!!


- ..................



و رفعت أناملها المرتجفة إلى وجهها و هي تصيح بإختناق:



- لمَ تنظرون إليّ هكذا؟!

- .................


- أنا لم أفعل شيئاً، لم أفعل شيئاً..


- ..................


- اسألوا أمي، اسألوها هي ستخبركم...



وشهقت بغصة و هي تهرع لغرفتها...



تنهد الأب بألم و هو يضع يده على رأسه فبدا كما لو كان قد كبر عشر سنين أخرى...




أمسكه "ناصر" و أجلسه على الأريكة...



قال بإجهاد:



- أنا لم أقصد ما ظنّته...


- أعلم يا والدي، لا عليك..


- كنتُ خائفاً عليها، هي الآن في عهدتي، إنها أمانة من والدتها رحمها الله..



ثم ضغط على جبهته:


- لا أدري ماذا أفعل، حاولتُ معها بشتى الطرق، لكن لم أتوصل لشيء..


- لا تقلق عليها، "غدير" قادرة على الاعتناء بنفسها...



- أتمنى ذلك..



و رفع ا رأسه فجأة و كأنهُ تذكر شيئاً ما:


- كيف حال "شيماء" الآن؟!


- بخير. ردّ بإقتضاب.



ثم أضاف مُزيداً:


- لقد باتت أكثر هدوءاً.


- ألم تخذها إلى المستشفى!!


- إنها ترفض..


- ربما كانت حاملاً!!



ابتسم "ناصر" ابتسامةً باهتة و هو يرد:


- كلا، ليست كذلك..



ثم قال مغيراً دفة الموضوع:



- سأصعد الآن، أتريدُ شيئاً!!


- انتبه لها و لنفسك..


- إن شاء الله.



و صعد تاركاً إياه يغرق من جديد في همومه لوحده!!



==========




مررت أناملها النحيلة على حروف اسمها المحفورة على جلده الأسود...



فتحت الدفتر المبتل و أنفاسها الحارة تجثو ببطء كخفوت نبضات قلبها...



كُتبَ بخطٍ أسود باهت....



مولودة في العام 1987




موؤدة في العام 1997!!




كنتُ في العاشرة من عمري، أسابق الحياة، أتلفت يمنةً و يسرى فتطاير معي جدلتاي و أظل أتابعهما و أنا أضحك، دائماً أضحك!!!



كنتُ في غرفتي، والوقت ظلام، ظلام قد غاب القمر فيه!!



سمعتُ طرقاً خافتاً على الباب فهرعتُ لأفتحه...



رفعتُ رأسي لأعلى..



كان طويلاً جداً، قد جاوز مرمى بصري...



- ماذا تفعلين يا حلوتي؟!


- أنا لستُ حلوتك!! و عبست في وجهه.



أخفض رأسه و هو يبتسم لها ابتسامةً صفراء:



- لقد أحضرتُ لكِ شيئاً!!


- ماذا؟!


- دمية جميلة مثلك..



وأخرجها من خلفه، بجلادتها الزاهية اللامعة..



مدت يدها لأعلى لتطالها بلهفة، فعاد ليرفعها أكثر بمكر...



- ما رأيك أن نلعب معاً؟!!


- أنت كبير، ستلعب بدمية!! و ضحكت عليه ببراءة بصوتٍ مرتفع.



و ضع يده على فمها محذراً:


- صه، اسكتي، أتريدين من والدتك أن تأتي و تأخذها!!


هزت رأسها نافيةً، ثم قالت و هي تبعد يده بقرف:


- رائحتك كريهة يا "عمي"..


- لا تجعليني أغضبُ منكِ، سآخذ اللعبة..


- كلا، كلا.



و عادت لتقفز لأعلى علها تصل إليها و هي تزدادُ ارتفاعاً...



- حسناً و لكن لا تخبري أحداً، إياكِ!!


هزت رأسها بالإيجاب و هي تقبضُ على العلبة الزاهية بسرعة...


و خرج بعد أن لعب لعبته الأخرى!!!



انسابت دموعها الساخنة على خديها، وصلت حتى نهاية الذقن إلى أن استقرت على الورق البالي...



ها هي تمتزج مع الحبر، تُمحي بقايا الحروف!!!



تراءت لها صورته تتراقص بين السطور مُحذراً بصوتٍ أقرب لفحيح الأفعى:




- لا تخبري أحداً!!



لم أخبر أحداً، لم أخبر أحداً أيها ال****....



عادت لتغوص في أعماق الورق...



لتمعن النظر أكثر في الحروف المتلاشية!!!



الوجه يبتسم و الابتسامة الصفراء تعلو الشفتين كلما التقى بها غامزاً بعينيه...



ليتك تموت، ليتك!!



إن أخبرتُ والدي سيقتلك، سيمزقك إلى أشلاء!!!


هو ليس هنا الآن، لقد ذهب ليستقبل والدتي!!



أمي تخاف، تخاف أن تبقى لوحدها في الظلام...



ما أسعدها، ستكونُ معه...



حتى النهاية، حتى نهاية النهاية!!




و هو!!


ماذا عنه؟!!



أنا لستُ بحاجةٍ له و لا لأحد..


أنا أستطيع العيش بمفردي...


أستطيعُ العيش في الظلام!!!



و مدت أصابعها لتمزقه، لتقطعه و تُمحي صورته للأبد...



لقد انتهى، انتهى كل شيء..



صرخت بصوتٍ مرتفع حتى تردد صداها في الغرفة...



- لم يعد لي ماضي، لقد مزقته، مزقته، لم يحدث لي شيء قط، لم يحدث..



و انتحبت بمرارة و هي تنظر لأشلاءها المتبعثرة في كل مكان!!



=======




كانت تطالعه بنظرةٍ هائمة، شفافة، تراقب حركاته، لفتتاته، إيماءاته و كلَّ خليةٍ فيه...



رفع رأسه عن الكتاب فجأة و كأنهُ شعر بعينين ترصدانه...



ابتسم في وجهها متسائلاً:


- استيقظتي؟!


هزت رأسها بإيجاب دون أن تفارقهُ عيناها...



ترك ما بيده و اتجه نحوها جالساً بجانبها....



خاطبها بحنان و هو يشير للكيس بجانبها:


- لقد أحضرتُ لكِ أكلةً صينية كالتي تُحبين..


أجابت بصوتٍ خافت:


- تعرفني لا أجيد استعمال أعوادهم..


- نحنُ لسنا في المطعم الآن.. علّق مازحاً.


- أنت تسخرُ مني. نظرت له بعبوسٍ مصطنع.


- حاشاي أن أسخر منك، من روحي!! و ابتسم بصدق.


روحك!!!


عادت لتتأمله بشوق، بوله، و حزنٍ دفين!!



و شرع بفتح الكيس لكنها أمسكته و هي تهزّ رأسها:



- لا أريد، ليس الآن..


- لا ترديني....


- سآكل فيما بعد، صدقني..



و همّ بقولِ شيٍء ما، لكن اهتزاز الهاتف قطعه، قال موجهاً لها الخطاب:



- هاتفك لم يتوقف عن اهتزازه منذُ الصباح!!


و حاولت أن تنهض لترى لكنه استوقفها:


- سأحضره، لا تتحركي..



و أحضره....


تطلعت إلى الرقم لمدةٍ طويلة و ملامح وجهها تتقلص بضيق....



- من؟! سألها مستفسراً.



لمَ تسرقون من سعادتي حتى اللحظات، ألا تعلمون بأني بأمس الحاجة لها!!


أجابت بعد جهد:


- لا أحد، لا شيء مهم.. و أغلقت هاتفها و الألم يعتصرها عصراً..



وصمتت بغصة و هي تطالعه بضياع...



- ماذا بك؟!


التفتت إليه بنظرةٍ ساهمة:


- "ناصر" عدني بشيء..


- قولي ما تشائين..



- عدني بأنك ستسامحني يا "ناصر"، عدني بذلك!! كررت بلهفة.


- أنتِ لم تفعلي شيئاً لأسامحكِ عليه..



- أرجوك قلها فقط، ستسامحني، ستغفر لي يوماً، أتوسلُ إليك!!



- أعدكِ بذلك.. ردّ بإنقباض.



و أراد الاستفسار لكن صوتاً آخر كبحه من جديد..


- هذا صوت عمي يناديك.. علقت "شيماء" بقلق.


- سأذهب لأرى...



و قام من مكانه بعد أن وصاها...



هزت رأسها بشرود دون أن تسمع..



سيسامحني، قال أنهُ سيسامحني!!



=======




كان جسدها يشتعل حرارة رغم البلل التي يسري في جسدها كقُطر الندى!!



فتحت عينيها ببطء لتجد "ندى" بجوارها و بيدها شيء..


حركت رأسها بضيق لتتجنبه..


عللت "ندى" مُعاتبة:


- هذه كمادات، أنتِ محمومة من بقاءك في المطر لساعات..


ثم أردفت بصوتٍ أكثر حدة:



- تلك كانت قمة الغباء..


- ليتني مُت و ارتحت..


- ماذا تقولين؟! صاحت بإستنكار.



أشاحت وجهها و لم تحر جواباً، وإن كان صدرها يعلو و يهبط بإنفعال...



سألتها بتعب:


- منذُ متى و أنا على الفراش؟!


- منذُ يومان..


- يومان!!



و أزاحت الغطاء عنها قليلاً لكن "ندى" أمسكتها بسرعة:



- أين ستذهبين، لازلتِ مريضة!!


- أنا بخير الآن، أريدُ أن أخرج سأختنق!!


- كلا، خروج لا!! صاحت بإندفاع.


- لماذا؟!


- ............


- لماذا؟!


نظرت لها "ندى" بإرتباك دون أن تنبس ببنت شفه.....


أخذت "غدير" تحدق فيها بشك....


خاطبتها بصوتٍ متهدج:


- خالي هو من قال هذا!! لم يعد يثق بي أليس كذلك؟!!


- .......................


- أليس كذلك؟! كررت بصياح.



و قلبت وجهها للجانب الآخر و هي تضغطُ بالوسادة على فمها علها تكتم شهقاتها...



" ليس هكذا، فقط لو تعلمين!!"...

=======



جدار!!!



أيّ قاصمِ ظهرٍ وضعوه ليحولوا بيني و بينها؟!!



إنها هنا بجواري، أكادُ أسمع صوتها....


لم أنم البارحة قط، ليس من الألم و لكن بسببها!!



يبدو أنها كانت تهذي، كانت تصرخ!!


كدتُ أفزُّ لها، أرى ما بها، أملأ عيني بمرآها...


لكنهم لم يسمحوا لي، قالوا لي لا يجوز!!


لا يجوز أن أرى زوجتي!!!



زوجتك؟!!



زوجتك أم طليقتك!!



بلى زوجتي أتسمعون، زوجتي مهما فعلت!!



و إن لم أرها اليوم سأراها غداً و بعد غد و متى ما شئت!!




فقط ابتعد يا "عمر" ابتعد قليلاً و ستدنو منك...



الطيور هكذا مهما فرّت، لا بد أن تعود يوماً لأعشاشها...



و أنت ملاذها يا "عمر"، ملاذها و إن طال انتظارك...


جرب و لن تخسر، ماذا لديك لتخسره بعدها؟!!



و شعر بوخزٍ مفاجئ فتحسس جبهته...



لازال الدمُ ندياً و الجرح لم يلتأم بعد...



لا يهم لو نفذ بأكمله، المهم أني حطمتُ أضلاعه، هشمتُ لذاك السكير وجهه!!!



لا أدري أما زال حيّاً!!


أما زال به رمق!!



الحثالة مقرها السجون حيثُ تقبع الحثالة التي تشابهها...



و ابتسم بقسوة...



الواسطة تنفع أحياناً!!




===========



تسلل نور الصباح خلسةً خلف الزجاج....


نهضت بهدوء كي لا تحدث أي ضوضاء فيستيقظ...


فاليوم عطلته، و من حقه أن يرتاح خصوصاً بعد حادثة اليومين الماضيين!!



شعرت بنشاطٍ غير عادي و هي تتلفت حولها!!!


مررت ببصرها حول المكان بحب...


هذه المرة الأولى التي تكتشف فيها جمال حجرتها...


أخذت تلمُّ ما تبعثر و تضعهُ في مكانه الأصلي...


اليوم، ليس ككل الأيام...


اليوم لا بد أن يعود كل شيء لمكانه، لحجمه الطبيعي و أولهم بطنها!!



و لاح طيفُ ابتسامةٍ شاحبة على شفتيها...



==========



شدّت على أصابعها بعصبية و هي تصيح:


- لم لم يخبرني أحدكم؟!


- كنتِ مريضة آنذاك..



أخفضت صوتها فجأة و هي تسألها بصوتٍ متوتر:



- كــ..كيف حاله؟!


- بخير، ناصر و أبي لم يتركاه لحظةً واحدة.


- جيد. ردت بغصة.



طالعتها "ندى"بطرف عينيها مُعلقةً:


- إنهُ في غرفة الجلوس الآن!!



رفعت "غدير" رأسها بعدائية:



- لم تخبريني ها؟!



- ...............


- لم أقل لكِ أني أريدُ أن أراه. صاحت بإنفعال.



هزت "ندى" كتفيها و مطّت شفتيها بلا مبالاة:


- كما تشائين!!



خرجت "غدير" من فورها و هي تصفق الباب خلفها بغضب..



ولجت إلى الصالة، و جلست على الأريكة ضاغطةً على جهاز "الريموت كنترول"...



رفعت الصوت عالياً، عالياً دون أن تفقه شيئاً مما يُنطق!!


الصور تبدو غائمة و العينان ترمشان، ترمشان بسرعة...



هو هنا الآن!!


تقول أنهم غرزوا جبينه، غرزوه؟!


هذا يعني أن الجرح بليغ..


مطواة!! استخدم مطواة!!


ذاك المجرم يفعلُ أي شيء..



و انقبض صدرها و قلبها يكادُ يخرج من ضلوعه، من قفصه الصدري..



لا تنظروا إليّ هكذا!!



لن أذهب إليه، أتسمعون!!



هو بخير، قالت أنهُ بخير الآن....



عادت لتشدُ على الأريكه، لتقبض عليها بأصابعها علّها تخفف تلك النار المشبوبة في جوفها...



تراخت أصابعها بعد برهة، أفلتتها و نهضت من فورها بلا شعور..



طرقت الباب بخفوت و دفعته ببطء دون أن تنتظر الإذن بالدخول...



كان وجهه محمرّاً و هو يشعل سجارته بلا مبالاة...



و رغم أنهُ أحسّ بوجودها إلا أنهُ لم يرفع رأسه بل لازال بصره مصوباً ناحية النافذة..



و لازالت هي واقفة عند الباب تُطالع كل شيء إلاه!!!



تحركت و هي تجرُّ قدميها جرّاً ناحيته علّها ترى شيئاً أو تتضح لها الرؤية و لو قليلاً، قليلاً فقط....



وضعت يدها على صدرها و عيناها معلقتان على ذقنه الذي لم يشذبه بعد، إنها لا تريد أن تشرأبًّ أكثر، لا تريد أن تنظر لأعلى، لذاك الامتداد!!!


و سقط بصرها سهواً!!


الحروف تتعثر، تنحبس بجوفها، تصارعُ لوعةً اجتاحتها ببطء، بقوة، بحرقان!!



هتفت غير مصدقة:


- ماذا فعلت بنفسك!!


- ....................



كان خطاً طويلاً، مائلاً على الجانب الأيسر من وجهه بالقرب من حاجبه...



- أأنت أحمق؟! صاحت بغصة و هي تقبض على صدغها بإختناق.




التفت حينها إليها بشزر ثم سحق سجارته و عاد لينظر إلى النافذة...



- أقلتُ لك اذهب إليه!! من خوّلك بذلك، كم مرة قلتُ لك لا شأن لك بي؟!!


- .................


- ثم، ثم منذُ متى تدخن!! ألا تعرف أن التدخين ضار بصحتك!!


- منذُ أن عرفتك، ارتحتي!! صاح فيها بنفاذ الصبر.


تطلعت إليه بعينين دامعتين و هي تعضُ على شفتيها...


- منذُ أن عرفتني!! ماذا فعلتُ لك؟! سألته بصوتٍ مبحوح.



- ألا تعرفين!! و أشاح وجهه بسرعة كي لا يرى نظرتها تلك..


- تريد أن تحملني مسؤولية ما حدث لك؟!


- أنا لم أقل هذا؟! صاح بغضب و هو ينهض من مكانه..


- أنت تتحدث كما لو كنت البريء و أنا من أخطأ!! صرخت.


- اعتذر، أنا المخطئ الأول و الأخير، ارتحتي الآن!!


- ...................


و انقطع ذلك الخيط من الصبر الذي يشده، انفلت من بكرته و تقطعت أسبابه..



- ماذا تريدين أكثر؟! اعتذار واعتذرتُ لك، تريدين أن أجثو تحت قدميك كي تعلمي بأني نادم أشدّ الندم..


- لا أريدُ منك شيئاً..



- كلانا أخطأ يا "غدير"، لستُ وحدي المذنب..


- لا تفتأ أن تلومني، كأنني السبب في ذلك!!


- لمَ تعقدين الأمور، لم تؤولين كلامي كما تريدين، لم تفعلين بي ذلك!!


- كي ترتاح، صدقني ذلك أفضل لي و لك...


- أنا لا أريد أن أرتاح، أنا أريدكِ أنتِ..


- و أنا لا أريدك!! صاحت بصوتٍ متهدج..


تقدم منها بغضب فانكمشت و هي تتراجع للوراء و تمسك بالجدار..


- لا تحاولي أن تستفزيني، أتسمعين!!


- لا تصرخ علي..


- لا تُملي عليّ ما أفعله، أنا أصرخ كما يحلو بي و أفعل ما يحلو لي...


- ستبقى ظالماً، لطالما كنتُ كذلك..


- ماذا عنكِ ها، أنتِ مجردة من الرحمة، أنتِ لا قلب لكِ..


- أجل أنا لا قلب لي، أنا أكرهك، اذهب من هنا، لا أريدُ أن أراك.. صاحت بإنفعال و جسدها يرتعد..



خطف مفتاح سيارته الموضوع بجانب المنفضة..



- أجل، اذهب، اذهب كما تذهب دائماً..



التفت لها بيأس و قد ارتسم الألم بحدّة في عينيه...



- أنا لا أفهمك، تريدينني أن أذهب أم أبقى؟!




- اذهب أو..ابقى هذا بيتكم وليس بيتي..



- كلا هذا بيتك وأنا من عليه الخروج، لا ينبغي عليّ الحضور هنا من جديد...


و قطعت حديثها و هي تراه يدلك جبهته بضيق...


- أراجعت الطبيب؟! سألتهُ بقلق.



أخفض يدهُ بسرعة و هو ينظر لعينيها بثبات، يغوصُ في أعماقها، في ذلك الليل الطويل!!


علّق ببرود:


- لمَ تسألين؟! لا شأن لكِ بي!! متساويان أليس كذلك؟!



صاحت من بروده، من لا مبالاته، من قسوته:


- خالي قلقٌ على صحتك ليس إلا، أنا لا يهمني ما تفعله بنفسك!!



و غطت وجهها بكفيها الصغيرين و هي تجهشُ بالبكاء...



الجو متوتر، مكهرب، مشحون بشتى الشحنات الإنفعالية...
اقترب منها أكثر حتى بات في مواجهتها...


- "غدير"!! ناداها بهمس...


- ................


- أنا آسف.


- ...............


- أرجوكِ..




رفعت رأسها لتراهُ أمامها، لترى عيناه...


كانتا تنضحان بشيءٍ قديم، شيءٍ لطالما رأته إبان زواجهما، حين كانا هنا معاً في البيت..



ذلك الشوق، تلك اللهفة، ذلك الحب الدفين...


ارتجفت أهدافها الذابلة و هي تخاطبه بغصة:



- كنت ستسجن للأبد لو مات!!


و صمتت و هي تتأمل جرحه...


لقد دافع عني يا أبي، دافع عني...


لقد أخذ حقي منه!!


ضرب على صدره بقوة، بإتجاه الوجيب، ذاك الذي يخفق بين الضلوع...



صاح بعذاب:


- أتخالينني حيّاً، أنا أموت في الثانية ألف مرة لكنكِ لا ترحمين!!




ماذا عني يا "عمر"، أنا لا أستطيع العيش بدونك..


لا أقوى على فراقك...


من منا من لا يرحم ها؟!



أجل، أنا كاذبة لا تُجيد الكذب...



أحبك يا "عمر" أقلتها لك مرّة!!




مسحت عينيها بسرعة و هي تنكس رأسها من جديد :


- سأنادي لك "ندى" لتعيد تضميد جرحك..


- لا تتعبي نفسك.. و تنهد بألم.


ثم أردف و هو يبتسم لها ابتسامةً حزينة:



- حسناً، سأذهب الآن..


- ....................


- انتبه لنفسك. و ارتجف صوتها بهمس و هي تشيح بوجهها..

لكنه لم يتحرك وقتها بل بقي يتأملها، يحتويها بعينيه...


النبضات تخفت، تتضاءل، تتوارى وراء الحُجب...



تناهى إلى مسمعها تباعد خطواته كطرقات المطرقة على المسمار!!


الأزيز مزعج، مؤذي للسمع، موجع للقلب!!!



صاحت بجزع:


- انتظر..


- ماذا؟


و التفت نحوها...


ردت بتلعثم دون أن تنظر إليه:


- أ..أ..


- ............


- أنا، أأ.. "ندى" تريدك!!


- .................



- لا تذهب، انتظر قليلاً..



و نظر لوجهها، كان قد احمرّ فجأة و بعنف...


أشاحت بسرعة و هي توصد الباب خلفها بخفوت...



ثم هرعت لغرفتها...



كان الجدال على أحدّه مع تلك الأخيرة..



- كلا لن أقول له ذلك، قولي له بنفسك..


- أنا أخجل، لا أستطيع لكن أنتِ لا...


- ماذا تعنين؟! أني عديمة الحياء!! صاحت بإستنكار.


وضعت "غدير" يدها على فمها و هي ترد:


- اخفضي صوتك، لم أعني ذلك، أنت مهذبة جداً، هيا أرجوكِ قبل أن يذهب...


- ماذا أقولُ له بالضبط؟!


- قولي له أيّ شيء، أي شيء قبل أن يذهب..


- حسناً، حسناً لقد حطمتي كتفي!!



و نهضت و هي تزفر و إن شابها ابتسامة شيطانية...



أما تلك فوقفت خلف الباب و يدها على قلبها الذي كان يدقُ بجنون...


أتراها تهورت...


أتُراها على صواب!!!


و لم تكن بحاجة لأن ترهف السمع، كان الصوتُ عالياً!!!



- "عمر" تقول لك "غدير" أنها خلف الباب تسمعنا!!



ندت من فمها شهقة مكتومة..



و انفتح الباب لترى زوجان من العيون مصوبة ناحيتها....


أشارت لها "ندى" بإصبعها الإبهام و هي تخاطب "عمر":



- أرأيت؟!


- ...........


- لقد قالت لي كما قلتُ لك بالضبط!!



تضرج وجه "غدير" و هي تضع يديها على خدها الذي التهب:


- أ..أ... أنا لم أقل شيئاً..



- بلى، تريدك أن تردّها الآن إن أمكن!!



رفعت "غدير" نظرها بصدمة لندى و هي تصيح فيها بإنفعال:


- أيتها الكاذبة!!


- ............



شهقت و هي تضربُ على صدرها:


- أنا كاذبة؟! ألم تتوسلي لي للتو لأخبره بأن يتزوجك..


- لا تصدقها!! و لكزتها بقوة بذراعها..



أخذت "ندى" تفركُ يدها و هي تهرب مبتعدةً عن قرصاتها:


- قلتُ لها لم أسمع قط بأن الفتاة تخطب، قالت لي بلى يحدث ذلك في الهند!!!



- أنا..أنا لم أقل ذلك أبداً.. خاطبته مطرقةً و هي تكاد تبكي.


- أجل، أعرف!!



- ...................



- "غدير"!! نادها بصوتٍ مخملي.



و دقّ قلبها بعنف..



- أتقبلين بي زوجاً؟!



رفعت رأسها إليه لثانية فضاع الأمسُ و اليوم و الغد!!!



ارتحلَ من روزنامة الزمن و لم يتبقَ إلا هو، هو فقط!!!



أطرقت بإستحياء..


- ماذا قلتِ؟!



تحركت شفتاها بإرتعاش، بهمس، بصوتٍ لا يكاد يُسمع:



- لا أعلم، اسأل خالي أولاً..


- سأحادثه الآن..


- كلا، ليس اليوم!!





و رفعت رأسها نحوه ببطء..



- بل غداً أو بعد الغد، أو انتظر، انتظر قليلاً..



أخذ يطالعها بحيرة....



كانت قد غابت نظرتها الخجولة وحل محلها نظرة خوف و قلق...



إنها لازالت خائفة ربما منه، أو من عودة الذكريات من جديد...


لا بأس سأنتظر، سأصبر، صبرتُ شهوراً ألن أصبر أياماً!!



ستعود، الطيور لا بدُ أن تعود لملاذها...



و حبيبتي ليست كأي عصفور...


تلك كانت حبيبة عمر!!


أليس كذلك؟!!


========




- أنا أشتهي توتاً، اشتر لي توت!!



وابتسمت ابتسامةً مضيئة في وجهه...


سألها بدهشة:


- توت!!


- أجل، توت!!


عقد حاجبيه باستفهام و هو يمرر أصابعه في شعره:


- توت في هذا الفصل من السنة، من أين!!


- يوجد في البقالة الكبيرة عند تقاطع الشارع الأخير... ناشدتهُ بلهفة.



ابتسم، بل شعر بغبطة و هو يتأملها...


هذه المرة الأولى منذُ زمن تطلبُ منه شيء...


و ماذا؟! طعام!!


تطور ملحوظ....



- كما تريدين يا سيدتي، تريدين شيئاً آخر؟!



- كلا، فقط توت!!



و شيعته حتى الباب..


و عادت لتبتسم من جديد!!



========




الصمت يجوبُ المكان...


لا أحد هنا، كلهم ذهبوا، و لم تبقَ إلا هي...



ها قد عاودها الملل من جديد، لن تجد من يسامرها الآن، من تتشاجر معه، من تخاطبه حتى!!!



لقد عادت "غدير" لعمر هذا الصباح.....



و رغم أنها كانت مترددة إلا أنّ الفرحة كانت تتراقصُ في عينيها السوداوان كل حين...


و تذكرت منظرها و هي تسحبها من الغرفة و هي تمتنع ضاحكة..


- اخرجي من غرفتي لا أريدك..


- هذه ليست غرفتك لوحدك، لي قسمٌ منها..


- من قال ذلك؟!


- خالي قال ذلك.


- لا تجبريني لإستعمال العنف!! شمرت "ندى" عن ساعديها..


- أأهونُ عليكِ هكذا، أنسيتِ ليالينا معاً!! و عبست "غدير" في وجهها.


- طبعاً و كيف أنسى!! هذا هو دافعي الأكبر لطردك..


- ماذا فعلتُ لك؟!


- أنتِ تشخرين، شخيرك المزعج يمنعني من أن أنام بهدوء!!


- أنا أشخر!! شهقت و هي تتمسك بعمود السرير بقوة و الأخيرة تدفعها.



- أجل لكني لم أخبرك من قبل، خفتُ أن أجرح مشاعرك!!


- أنتِ كاذبة..


و سمعتا نحنحة بالقربِ منهما....


تركت "غدير" العمود و أخذت تنظر لنفسها بتعثر...


"لم أنظر لنفسي في المرآة، يا إلهي كيف أبدو الآن!!"..


التفت له "ندى" بظفر و كأنها وجدت غنيمة...


صاحت بإنفعال:


- ها قد جئت في وقتك، "عمر" قل الحقيقة، زوجتك تشخر أم لا؟!


و التقت عيناها به تلك اللحظة....


بقيا هكذا مدةً طويلة و كأن الزمن نفذ هو الآخر...


و لم يتبقَ الآن إلا هو و هي فقط!!!



وضعت "ندى" يديها على خصرها و هي تنقل البصر بينهما بإستنكار...


- أنت..أنتِ!!



و انتبه لنفسه، فنظر لأخته بعينين ضيقتين و هو يخاطبها بصوتٍ مصرور:



- كفي عن التلفيق عن زوجتي..


- أنا من يلفق أم أنت!! لا تضطرني لأن أخبرها بمَ اتفقت به معي ذلك اليوم!!


وأشارت له بغيظ مهددةً..


- عمّ اتفقتما؟!


- لا عليكِ منها، هيا تأخرنا.


و سحبها من يدها بسرعة دون أن يترك لها المجال لتسأل أكثر و هي تخاطبه بأنفاسٍ متقطعة:


- انتظر، أغراضي لم آخذها..


- سنأخذها مرةً أخرى..


توقفت فجأة بشك:


- عمّا اتفقتما؟!


- لا شيء، لا شيء، إنها تهلوس، ألا تعرفينها!!



و لم تسمع بعد ذلك بقية حوارهما...



و قطع سرحانها الدق المتواصل على باب غرفتها..


- من؟!


- أنا ماما.


- ماذا تريدين؟!


- رجل هنا، يريد بابا.


- قولي له أنهُ غير موجود.


- قلتُ ذلك ماما، قال يريد أنت يكلمك..

فتحت "ندى" عينيها على اتساعهما و هي تفتح الباب لــ "أوميني" الخادمة...


- هو قال يريدني؟!


- يس ماما.


- ماذا قال بالضبط؟!


- قال يريد آنسة "ندى"!!


فغرت فاهها...


من ذا الذي يريدها!!


آنسة "ندى"!!


أتراه هو!!


معقول؟!!


التفتت للخادمة و هي تسألها:


- كيف شكله، أهو أصلع من الأمام؟!


- أجل ماما..


"هذا هو إذن"..


- ماذا أقول له؟!


- امممم قولي له ستأتي في الحال..


وأوصدت الباب في وجهها بعنف....


أسرعت للمرآة، وضعت "بلاش" و أحمر شفاه طبيعي و هي تربت على خديها...


فتحت خزانتها بوجل و هي تسحب لها شالاً من المنتصف فتناثرت ملابسها بأكملها على الأرض!!


هذا ما كان ينقصني!! و ركلتها بقدمها.



تطلعت لنفسها من شتى الزواية و حين استوثقت من نفسها خرجت...


و مشت بوقار!!!



فتحت باب غرفة الضيوف و هي تتنحنح بصوتٍ خافت...


و لم يلتفت، كان مُعطياً ظهرهُ لها و هو يتأمل محتويات المكتبة..


عادت لتتنحنح من جديد لكن لا حياة لمن تُنادي...




صاحت بنفاذ صبر:


- حتى متى!! أحبالي الصوتية تقطعت!


و استدار لها مبتسماً...


- أوه معذرةً، لم انتبه...



قالب ثلج، قالب ثلج!!!


لا فائدة منه إطلاقاً...


خاطبته بعجرفة من طرف أنفها:


- نعم ماذا تريد؟! والدي ليس هنا و أخوتي ليسوا هنا، لا أحد هنا إلاي، قل ما لديك بسرعة و خلصني..


لم يُجب بل جلس على أحد المقاعد بأريحية دون أن يعبأ بصياحها..


قال بهدوء:


- ألن تقدمي لي شيئاً؟!


- ليس لدينا شيء لنعطيك إياه، ثلاجتنا خالية!!


- حتى ماء!!


- بلى لدينا، لكن خادمتنا مريضة والمطبخ بعيد!!


- ....................


- لا تنظر إلي هكذا، إذا ماتت لا سمح الله من سيعمل لنا بعد ذلك!! ستأتي أنت لتطبخ؟!


تطلع لها بشزر:


- انتبهي لحديثك أم نسيتي أني المدير!!



- المدير هناك في شركتك المقرفة و ليس في بيتي...




ثم وضعت ساقاً على أخرى و هي تنظر له بفمٍ مزموم..



- اجلسي جيداً و تحدثي جيداً!! صاح بغضب.


عدلت من وضعها بسرعة و هي تجلس بخوف كتلميذة في المدرسة...



هزّ رأسه أسفاً و هو يتمتم:


- لا أدري متى ستهذبين ألفاظك؟!


عبست في وجهه لكن دون أن تنبس ببنت شفه...


ثم زفر و هو يردف بصوتٍ أكثر جدية و إن شابه توتر:


- اسمعي يا "ندى"..


حملقت فيه بدهشة، دون أن تستوعب ما سمعته...


ندى!!


أسمعتموه، قال "ندى"!!


هذه المرة التي يناديني بإسمي المجرد!!



- أأنتِ معي؟!

- ...........


- أأنتِ معي؟! كرر.



انتبهت لنظراتها، فعقدت ذراعيها على حجرها و هي تجيب بعدائية:



- أجل، تخالني أسرحُ بك!!


- قبل أن أقولُ لكِ ما أريد، أريدُ أن أحدثك عن نفسي قليلاً..


- ماذا، تفضل؟! سألته بفضول..


أطرق قليلاً و هو يقول:


- والدتي توفيت منذُ أن كنتُ في الثالة من عمري، كنتُ البكر، وبالرغم من ذلك إلا أن والدي لم يتزوج مرةً أخرى...


و صمت برهة ثم أردف:


- و قد عشنا معاً لوحدنا فلم أعرف النساء في حياتي قط..


- .....................


- لم أكن لأنتبه لهن، فقد كنّ في رأيي شيئاً هامشياً، شيئاً لم أعتد على وجوده بعد، لم أتعايش معه، أتفهميني؟!


هزت رأسها بإيجاب..


أجل فهمت....


يا إلهي أنت معقد!!!



و تغيرت نبرة صوته و بدا عليه الإرتباك للمرةِ الأولى منذُ أن عرفته...


- حتى جئتِ أنتي..


أنا!!


و استيقظت حواسها و هي تنظر له مشدوهة...


- كنتِ نوعاً آخر من النساء، ليس من النوع الذين اعتدتُ على التعامل معه بلا وجود في العمل، اقتحمتِ حياتي فجأة بحيوتيك، بنشاطك و جنونك اللامتناهي!!


- !!!!!!!!!!!


- و حين أحضرتكِ إلى مكتبي علمتُ أني كنتُ أجازف، أني سأكشفُ لكِ نفسي، كنتُ أريدكِ بجانبي، أن تلطفي حياتي الجافة التي تشبه حياة المعسكرات..


- .........................


- لكني فكرتُ كثيراً و وجدتُ نفسي أسوأ من يتعامل مع النساء، أنا لا أجيد التعامل معهم البتة و خفتُ أن أظلمك...


- ....................


- و حاولتُ إبعادك بعدها لكن لم أقدر، كنتُ أماطل نفسي حتى اللحظة الأخيرة..


- ....................


- قلتُ لنفسي أنكِ نزوة في حياتي ستنتهي بإنتهاء ضوضائها، لكني كنتُ أخادعُ نفسي..


و رفع رأسه و هو ينظر لها بثبات:


- أتتزوجيني يا "ندى"؟!


و انعقد لسانها فجأة و هي تمسك الأريكة كي لا تسقط من عليها...



- أتتزوجيني؟! أتقبليني بعيوبي؟!


لازال فمها مفغوراً...


لا بد أني أحلم، لا شك في ذلك!!


تطلعت إليه من جديد و هي تخاطبه بذهول:


- تريد أن تتزوجني؟!


- أجل..


- تتزوجني أنا!!


و هبت من مكانها واقفة دون تصديق، اقتربت منه فنظر لها بقلق:


- أنا لا مانع عندي أبداً..


- ..............


- و إذا شئت منذُ اليوم، لا داعي للحفلات و الشكليات!!!


- اليوم؟! في المرة القادمة بإذن الله.. ردّ بخوف.


- كلا، ربما تُغير رأيك!! صاحت في وجهه.


ثم وضعت يدها على فمها بصدمة....


ماذا تقولين؟!


سيهرب هكذا!!!


اثقلي يا "ندى" اثقلي!


لا بد أن تخجلي، لا فائدة منكِ، لن تتعلمي أبداً السلوك القويم!!



أسبلت عينيها و هي تقول بعتاب:


- ما بالك مستعجل هكذا، الدنيا لن تطير!!


- !!!!!!!



- صحيح أنّ الخطاب لا يتوقفون عند باب البيت لكني لا أقبلُ أيّ أحدٍ..


- لابد من أن تتوفر فيه شروط و أهمها السينما!!


و رفعت رأسها و هي تطالعه بعينين نصف مغمضتين:


- أتذهب للسينما؟!


- لا، ليس لدي وقت لهذه التفاهات..


- اها.. و مدتها و هي تطالعِ السقف.


- .................


- أنت مثلي تماماً، أنا لا أحب السينما أيضاً، كثيراً ما يدعوني الآخرين إلى هناك خصوصاً أخوتي "عمر" و "ناصر" لكني أرفض!!


- ........................


- أقول لهم لا يجوز!! نحنُ فتيات ما الداعي للذهاب للسينما التلفازُ موجود، لكن ماذا نقولُ عن شباب اليوم!!


وابتسمت له ابتسامةً واسعة و هي تسبلُ أهدابها من جديد...


"ستذهب رغماً عن أنفك!!!"


و خيم الصمت بينهما لكنها قطعته و هي تحمحم:


- احم، اذهب الآن و عُد مساءاً، في الساعة السابعة تقريباً!!


- لماذا؟!


نظرت إليه بغضب و هي تضع يديها على خصرها:



- كي تخطبني من والدي رسمياً، أم غيرت رأيك!!



- كلا، سآتي بالطبع!!


- جيد، سأذهب الآن إلى غرفتي، لا تنسى!!!


و استدارت بعد أن حدجته بتهديد!!




=========




جثت على التراب و هي تضع "المشموم" بعناية على القبر....



قرأت سورة الفاتحة في سرها ثم أغمضت عيناها و هي تتنهد..


الصور تمرُّ بطيئة، ثقيلة، ترزءُ بأوجامها....


حين كانت تسرح شعرها، حين كانت تغني لها قبل أن تنام، حين كانت تقول لها:


- كان يا مكان، في سالف العصر و الزمان، كان هناك فتاةٌ جميلة، تشبه البدر...


- ما اسمها؟! سألتها بطفولية.


- غدير!!


- مثل اسمي أنا!! وضحكت و هي تُشير لنفسها.

- أجل، دعيني فقط أُكمل..


- أكملي ماما..


- كان والدها تاجر كبير، يملك صناديق كبيرة مليئة بالذهب والفضة و ....


- كلا، كلا.. قاطعتها و هي تضرب بيديها على الفراش.


- ماذا يا ابنتي؟!


- هذا ليس والدي، أبي ليس تاجراً..


- أعلم و لكن هذه قصة!!


- كلا، كلا، لا أريدها، أريدُ أن أسمع قصتي أنا، "غدير" في المدرسة الإبتدائية و لديها أب يعمل سائقاً و أم لا تعرف صنع الحلويات كأمهات صديقاتي!!


- أنا!! قالت "الأم" بعتاب..


- أجل، أنتِ!!


و هكذا دواليك....



قبضت على حفنةٍ من التراب فتخللت أصابعها، تطايرت مع هبات النسيم..



لمَ نحسُ بقيمة الشيء بعد أن نفقده!!



رحمكِ الله يا أماه!!!



مسًّ كتفها فهزت رأسها و نهضت بعد فترة و هي تلملمُ نفسها...



مشيا صامتين ربما احتراماً لصمتِ أصحاب القبور...


صمتهم الأبدي!!!


و ما أن تجاوزاها حتى خاطبته بشرود:


- أتخالها سامحتني؟!


- بالطبع..



و عادت لصمتها من جديد و هي تركب السيارة بجواره..



- غدير!!


رفعت رأسها إليه بإستفهام...


عبث بجيب بنطاله ثم أخرج شيئاً...


- خذي.


و تطلعت إلى النقود التي دسها في يدها و أثنى أصابعها عليها..



- ما هذا؟!


- المكتوب!!


- المكتوب؟! كررت بتساءل.


- أجل أنتِ من قال إذا تحقق لك ما تريد، لا بد أن تدفع شيئاً...


- ...................



- أنسيتي!!


و ما أن استوعبت حتى نظرت إليه بدهشة:


- أستشيعت؟!



هزّ رأسه نافياً و هو يبتسم بهدوء:


- كلا.


أرخت قبضتها و هي تطالع النقود المرصوصة في كفها..


رفعت رأسها إليه و هي تبادله بإبتسامة:


- امممم وماذا تمنيت؟!


- لن أخبرك.. ردّ بعناد.


- أرجوك!!


- آسف، أشياء خاصة!! و أدار محرك السيارة.



ضربته على كتفه بخفة و هي تقول:


- و منذُ متى لديك أشياء خاصة لا أعلمها؟!


- ماذا الآن؟! أراكِ بدأتي تتصرفين كالزوجات الفضوليات، أنا لا أحبُ هذا الطبع أبداً!!


- هذا طبعي و لن أغيره، ماذا ستفعل؟! نظرت إليه بتحدي.


- ماذا أفعل؟! قال مفكراً و كأنهُ يحل معضلة..


- أجل، ماذا ستفعل!!


و التفت لها حينها بثبات...


أجاب بشغف، و عيناهُ تهيمان بوجهها:


- سأسجد لله شاكراً، يكفيني أن عدتِ لي..


و تفاجئت من رده..


أخذت تطالعه بحب، بشوقٍ دفين، ليس منذُ اليوم و لا حتى الأمس...


بل منذُ سنين، أبعد من السنين!!




- عمر.. نادته بهمس.


- نعم؟!



- .............



- ماذا تريدين؟! كرر بإهتمام.



- كنتُ أريد أن أسألك..


و تطلعت إلى عينيه، إلى السؤال الذي كان يلحُّ عليها دائماً..


- ماذا؟!


- امممم لاشيء..


و أردفت و هي تزمُّ شفتيها بلؤه:


- أشياء خاصة!!




ثم أمالت برأسها على كتفه و هي تضحك بخفوت من دمدمته...



========





- قلتُ لك يا "ناصر" لا تقف أمام هذه النافذة.


ابتسم في وجهها وهو يهمس:


- تخافين علي؟!


تورد وجهها، لكنها سرعان ما قطبت جبينها بعبوس وهي تردف:


- هذة النافذة خطيرة، انظر ليس بها قضبان، الحمد لله لا يوجد في هذا المنزل أطفال..


- لكن قريباً سيفدون مثنى وثلاث ورباع...


قالها وهو يفرد أصابعه للعد، ثم أردف متسائلاً بابتسامة:


- أم نكتفي باثنين، أعتقد أن هذا الزمن تصعب فيه تربية أطفال كثيرين...


- ..........................


- لكن لو كانوا يشبهونك فلا مانع أن يكونوا عشرة، حتى إذا رأيتُ أحداً منهم في الشارع تذكرتك...




ثم عاد ليردد لها هامساً:


- سننجب طفلاً، طفلاً جميلاً..


- وإن كانت طفلة؟!


- سيكون هذا أروع، سأسميها شيماء2 ، واحدة في قلبي والأخرى في سويداءه...






و أفاقت من ذكرياتها، ذكرياتِ الأمس البعيد...



قال سيسميها بإسمي، لقد وعدني بذلك...



و أغمضت عينيها بقوة و هي تعضُ على شفتيها الذي بللها مجرى الدموع المالح...



سامحني يا "ناصر"...



سامحني...





و في بقعةٍ ليست ببعيدة، على الشارع المقابل....



و قف هناك مشرأباً بعنقه حيثُ جمهرة الناس..




الريحُ عاصفة، زمهريرة، تلقفُ ما أمامها، تقتلعهُ من الجذور!!!!




الرؤوس تبتعد، تتركُ المجال للآخرين لكي يروا بعد أن ملّوا هم الرؤية!!


فتناثرت محتويات الكيس...





أكان دمها ذاك أم بقع التوت!!!!









انتهى!!!

عاشقة الكتب 24-05-07 06:59 PM

النهااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااايه

اتمنى ان تنال اعجابكم

حسين السريعي 12-06-07 08:24 PM

وآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
 
السلام عليكم
عزيزتي عاشقة الكتب أولا ذوقك حلو جداً الرواية فعلا رائعة 00وأحب اقول لك أني أنا وشذى الوردة وأنت نتشارك في الأذواق !!!!
لكن حبيبتي الرواية منزلتها شذى وساعدتها أنا من زمان على هذا الرابط :flowers2:
http://www.liilas.com/vb3/showthread.php?t=33609


الساعة الآن 08:06 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية