منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الارشيف (https://www.liilas.com/vb3/f183/)
-   -   أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام .. (https://www.liilas.com/vb3/t40092.html)

عاشقة الكتب 24-05-07 10:35 AM

أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..
 
"أشعلتُ لقلبك شمعة"


(1)


اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...

البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!

سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!

وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!

دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!

ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!


المطر........


حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!


حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!

ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....

التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...

عن الجذع أم الجذور؟!

سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...

التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..

السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...

- "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.

التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.

- تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.

استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:

- وما دخلكِ أنتِ؟
- أنا أختك الكبيرة.

الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...

- أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.

كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!

هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...

أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!

أم تراها تتخيل ما تسمع؟!

تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....

لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!

إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..

خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....

- افتحي الباب يا بنت الـ.......

"يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....

شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!

لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.

فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:

- لِمَ ضربته؟

عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!


"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..

أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....

- ألا تُجيبين؟

اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!

وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:

- س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..

هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..

شدها من حجابها...

"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....

حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...

سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..

طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...

لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...

"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!

- وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.

دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...

يا لهذا الوجع..

لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...

يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!

تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..

أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!

أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..

لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..

أتراها لازالت باقية..أصابعي!!


مؤلم مؤلم مؤلم...


وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...

- إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟

ثم خرج....

لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..

ليتني أبقى هكذا للأبد!!

حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...

لقد تشوهت يدي...

وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....

أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..

لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!


ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...

أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!

جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..

ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!

كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..

أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!

أرتفع أنينها....

لا أطيقُ قربها مني....

نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:

- إنها تؤلمني، دعيها...

تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...

تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...

أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!

أجل...قريباً!!

رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!

مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..

لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..

قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....

منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!

أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....


نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!

أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!

يا ليت....

===========
(2)


لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....

كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....

لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..

نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..


سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!

أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...

قال بصوتٍ باردٍ مثله:

- يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.

نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..

- يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.

الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!

لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!

- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..

لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...

وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:

- اشتري بالباقي علبة سجائر لي..

"بأس ما أنجبتي يا أمي"..

حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..

أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....

جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..

جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..

ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..

ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...

سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!

أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!

أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..


خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!

لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..

خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:

- اشتري بسرعة ولا تتأخري.

"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"

سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..

لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...

أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...

وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....

حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!

وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..

- وأخيراً وجدته.

لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..


ودون مقدمات.....

ودون رحمة....

سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..

سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:

- انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..

جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.

- ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.

هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:

- غبية، غبية، غبية.

وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....

أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!

كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!

نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!

مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..

سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..

لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!

هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..

- ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟

أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...

سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...

عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...

من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!

غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!

عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..

"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."

بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...

أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...


لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....


نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...

"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..

سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..

أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..

دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:

- بابا "محمد" موجود؟

هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.

- بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.

شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!


سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...

تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..

"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..

أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..

رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!


- إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.

ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:

- حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...

ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.

- يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..

التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:

- صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.

ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.

- اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.

وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.

- انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.

وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:

- نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.

صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:

- صدقتِ..

وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..

أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....

- بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.

ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.

جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.

- من هذه؟

أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..

صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....

بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:

- غــ..غ..غدير، معقول؟!

ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...

هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..

أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!


- خاااالي ..... خااالي.

كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!

زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!

قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.

أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:

- ماذا تقولين يا ابنتي؟

لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...

أرجوك حسسني بالأمان...

عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.
- ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!

صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!

- سيذبحنيييييييييييييييييييي.



الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها....


=====================
(3)

فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً...


تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....


التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:

- أين أنا؟!!

ردت "ندى" بدلاً عنه:

- أنتِ في المستشفى الآن ياااا ابنة عمتي.

وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.


ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..


ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...

هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..

- غدير.

رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...

- من فعل بكِ هذا؟! حميد؟؟

أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.

- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..

لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:

- لا....لا أحد.

تنهد الخال وهو يستعيذ من الشيطان:

- كيف لا أحد!! إذن من ورّم لكِ فمك وكسر لكِ يدك، الطبيب يقول أن يدك تحتاج لشهرٍ كامل كي يلتأم الكسر.


وبشكلٍ لا شعوري، رفعت بصرها نحو الباب، كان واقفاً يرمقها بتأمل و بريق اهتمام يلمع في عينيه الخضراروين!!!!

حتى الآن لم ينبس ببنت شفه، تغير منذُ آخرِ مرةٍ رأتهُ فيها...

- غدير!!

عادت لتتصفح وجه خالها، عيناه تطالبها بالإجابة لكنها تمتنع...

"إذا أخبرتك، من سيبقى معها في البيت؟! مجيد!! إنه لا يكاد يكون موجوداً هناك، دائماً مع أصدقائه...

هم أولاً ونحنُ...أخيراً..".


تنهد الخال يائساً منها..

تمتمت في نفسها:

- ما كان عليّ أن آتي، ماذا بمقدوره أن يفعل؟! لو عدتُ للبيت مباشرة لأخذتُ جزائي وانتهى الأمر...يا تُرى كم الساعة الآن؟!


دقّ على ركبتيه ثم أضاف:

- على العموم لقد اتصلتُ بوالدتك لأطمئنها، مسكينة كانت قلقة..

"ولماذا قلت لها، لماذا أخبرتها؟!!"..

- متى سأخرج من هنا؟ سألتهُ بخوف.

- يومان هذا ما قالهُ الطبيب، تحتاجين للتغذية والراحة.


"لن يستطيع أن يؤذيني هنا في المستشفى وأمام الآخرين..هذا مؤكد!!".


ابتعد "عمر" عن الباب بعد أن سمع طرقاً خافتاً، غاص قلبها في أوديةٍ سحيقة، إلى القاع....

أتت معه، هذه المرة أنقلبت الآية، تقدمت هي أولاً ثمَّ هو..ألسنا في مستشفى؟!!

- السلام عليكم.
- وعليكم السلام والرحمة.

"أيُّ سلامٍ يأتي منكما..".

كانت تنظر لها وهي تبكي، دائماً تبكي، يا إلهي ألا تنتهي دموعها أبداً؟!

دلفت لتسلم على "عمر"، صافحها ببرود فلم يكن يعرفها جيداً، يا للعلاقات الأسرية المترابطة!!

أخيراً سمعنا صوته:

- كيف حالك عمتي؟
- بخير يا ابني..

"كم تُثيرين الشفقة" رددت "غدير" في نفسها..

تقدمت من السرير، سلمت على أخيها طويلاً، ثم قبلت "ندى" التي فرحت بعمتها....

كانت تنظرُ لي، أعرفُ ذلك، لكني أشحتُ ببصري للجهة الأخرى، فالتقت عيناي به، بذلك الوحش.

- كيف حالك؟! سألها بصوتٍ خافت كفحيح الأفعى.

"بأفضل حالٍ عندما لا أرى وجهك"..

لم ترد، نظرت إلى خالها وهي تزدرد ريقها، تتوسل إليه بعينيها لعلهُ يفهمها...

"أرجوكم أبعدوه، انظر له كيف يبتسم كالشيطان، سيذبحني..."

- كيف حالك؟

خاطبها مرةً أخرى وقد تغيرت نبرة صوته، يبدو أن سكوتها لم يعجبه.


شدّت اللحاف حتى ذقنها، تقدم هو الآخر ليسلم على خالها، ألسنا في مستشفى!!


كان يتقدم وهو ينظر لها لكأنهُ يتوعدها، اقترب أكثر فمسّ حافة السرير، انخلع قلبها....

خافت أن ينقض عليها، يضربها، يخلع ذراعها من جديد، الظلال تسقط والعينان تتقدان، تكادان تفلتان من محجريهما، فزّ قلبها، صرخت:

- كلااااااااااااااااااا، أبعدوه، خاااااالي...

وغرقت في نوبة من الصراخ الهستيري، عيناهُ مخيفتان، وجههُ أسود، كريه كريه كريه..

لا بد أنّ الجميع سمع صرختها، أتت الممرضات، لم تنتبه لأحد، كان همها ذلك الواقف أمامها....

لاح لها "عمر" يمسكه من يده ويسحبه للخارج، والأخير يسب ويلعن.....

لحق الخال بهما، لم تشعر إلا بوخز إبرة في ذراعها وصوت "ندى" يتلو آية "الكرسي" وأمها لا زالت تبكي!!!!



===================


- اسمع يا هذا إن اقتربت من ابنة أختي ستندم..أقسمُ بذلك.

نظر لهُ ببرود وبكل جرأة وقال:

- ماذا ستفعل؟!

هذه المرة تقدم منه "عمر":

- سنوصل تقرير الطبيب إلى الشرطة، أتفهم، لقد كشف التقرير عن رضوض في الجسد وكسرٍ في اليد، ويكفي نظرة إلى وجهها ليعرف الجميع أنها كانت تُضرب، أو تعرف ما هي عقوبة ضرب قاصر؟!

تغير وجه "حميد" وأطلّ الخوفُ من عينيه، قال بعد تردد:

- ومن قال إني ضربتها؟!
- هي..

- أنت تكذب، هي لا تجرؤ.
- بلى وجميعنا شهود.

قالها بثقة ثم أضاف:

- وبإتصالٍ واحد مني ستُلقى في السجن لتتعفن مع الحثالة التي تنتمي إليهم.

عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، صدره يعلو ويهبط والغضب يحتد بداخله، تنفس بعمق ثم زفر وهو يبتسم بإذلال:

- والمطلوب؟!

هنا تكلم الخال:

- سآخذها معي إلى المنزل لترتاح نفسيتها قليلاً.

قاطعه بسرعة:

- ولكن أمها...

- عمتي يمكنها أن تزورها في البيت متى شاءت..أهلاً وسهلاً بها..

نظر إلى "عمر" بكل الحقد والكراهية، ابتسم مرةً أخرى ابتسامةً صفراء وهو يصد للأب:

- إنها في بيت خالها..في أيدٍ أمينة..لو سمحت أخبر زوجتي بأن تأتي هنا، لقد تأخرنا...

تركاه دون أن يردا عليه، تمتم "عمر":

- يا لهُ من حيوان..
- بنت ال...... لن أجعلها ترتاح. ردد "حميد" في نفسه.



==========


انتقلت إلى بيت خالها، رحب بها الجميع، شاطرت "ندى" غرفتها التي تُجاور غرفة أخيها، أما "أبو عمر" فقد كانت غرفته في الصالة، و الطابق العلوي قد أحتله ناصر وزوجته بإعتبار أنّ "وليد" مسافر ليدرس طب ولن يعود الآن.


إذن لم يتغير ترتيب الغرف حتى بعد مرور كل تلك السنين..


- كم أنا سعيدة، بل أكادُ أطير من الفرح، أخيراً وجدتُ من أحادثها في هذا المنزل..يا ربّ سأطير..

ضحكت "غدير" من منظر "ندى"، بدت كطفلة وجدت دميتها الضائعة، كانت جميلة، بشرتها صافية بلون القمح، عينيها صغيرتين لكن فاتحتان كالشهد بعكس أخيها ذي العينين الخضراوين...

من أين اكتسب هذا اللون!!!


كانت في الثانية والعشرين من عمرها، تكبرها ب4 أعوام ومع ذلك بدت وكأنها أصغر منها، أصغر بكثير، ليس وهي تتحدث وتفكر هكذا كالصغار...

لم يطحنك الزمن بعد مثلي يا "ندى"، لم يطحنك بعد....

أكملت وهي لا تزال تتحرك كطائر في الغرفة:

- صحيح أنّ "شيماء" زوجة ناصر تعيش معنا، لكنها عروس، وأخجل أن أجلس معها..

ماتت ضحكة غدير على شفتيها قبل أن تكتمل، لم تصل إلى القلب بعد...

قالت لتغير الموضوع:

- أين القِبلة، عليَّ أن أقضي صلوات اليومين الماضيين..

ابتسمت "ندى" في وجهها وهي تُشير للقِبلة، أحضرت سجادة الصلاة ووشاح..

دخلت "غدير" للحمام لتتوضأ، مسحت على جبيرتها وهي تفكر بتردد:

أأسألها إذا كان عندهم "تربة".....

غبية، بالطبع لا يوجد شئ من هذا القبيل في هذا المنزل، إنهم من المذهب السني مثل أمها، وإلا لما سمّوا ابنهم "عمر"!!!!

نظرت غدير إليها بإرتباك:

- أيمكن أن تعطيني منديلاً..
- بالطبع.

أخرجت "ندى" من حقيبتها واحداً، ثنتهُ "غدير" وشرعت بالصلاة و هي تشعر بنظرات "ندى" الحائرة تخترقها، لكنها ما لبثت أن استغرقت في صلاتها، فعليها الكثير لتقضيه...


دلفت "ندى" إلى حجرة أخيها، كانت لاتزال مصدومة، فتح لها الباب، دخلت على الفور، نظر بإستغراب لمرآها:

- ماذا بكِ؟ ماذا تُريدين؟!
- أتُصدق أنّ ابنة عمتي شيعية!!

سكت برهة وهو عاقدٌ حاجبيه حتى تلاصقا، لانت ملامحه ثمّ عاد ليكمل ربط حذائه:

- وإذن؟!!

تطلعت إليه وهي لم تستوعب بعد:

- أقول لك أنها شيعية.. ألا يعني لك هذا شئ..أمها سنية من مذهبنا، كيف هي مختلفة؟!!

قاطعها وهو يتنهد، كأنهُ ضاق من كثرة الكلام:

- والدي أخبرني أنّ والدها كان بحرانياً من المذهب الشيعي لذلك رفضوا زواجها منه في البداية، ويبدو أنها بقيت على مذهبه...

أكمل ربط حذائه واستعدَّ للإنصراف، نادته، التفت لها وهو يتأفف:

- ماذا أفعل الآن؟!
- تفعلين بماذا؟!!

هزت كتفيها وكأنها لا تعرف عمّا تريد أن تسأل.

ضمّ ذراعيه إلى صدره وهو يبتسم بسخرية:

- يا أختي العزيزة، إنها من مذهب آخر ولكنها مسلمة مثلك، يوجد بيننا وبينهم نقاط اختلاف لكنها لا تضر....

تركها، هزت رأسها وهي تتمتم:

- ولم أنا قلقة هكذا؟! إنها تبدو طيبة..طيبة جداً، يكفي ما لاقته!!!


================



أكان من الحكمة أن آتي إلى هنا، أحتمي بجدران هذا المنزل، إلى متى سأهرب منه، سيأتي اليوم الذي أعود فيه إلى هناك، وسينتظرني هذا أمرٌ لا شك فيه.....


شهرٌ كامل مدة بقائي هنا وهي مدة تكفي لأن تزيدهُ سُعاراً، ولكن لمَ أُوجع رأسي، دع الخلق للخالق، لا أدري ربما تحدث أشياء!!


كأن يموت مثلاً!!! دعوني استمتع بالبقاء هنا، إنها نعمة ما بعدها نعمة...

جلست على السرير وهي تفكر بأغراضها، ملابسها، وخصوصاً دفترها الأسود، كيف تجلبهم إلى هنا...

سمعت دقاً على الباب، اعتدلت في جلستها، كانت "ندى" وكانت تبتسم...

ما أجمل ابتسامتها....

- لقد وضعوا الغذاء، هيّا..جميعنا بإنتظارك.
- لستُ جائعة.

قطبت حاجبيها:

- كيف!! الطبيب أوصى بأن تتناولي الوجبات الثلاث بإنتظام.

- أيمكن أن أتناول طعامي هنا؟ حقيقةً أنا أخجل من الظهور أمام أخوتك بذراعٍ مُجبّرة.

- كلا، والدي أوصاني بأن أسحبكِ معي إلى غرفة الطعام، ثم أخوتي هم أبناء خالك أي بمثابة أخوتك، ليسوا بغرباء...

"ما الغريب إلا أنا"..لم تملك أن ترفض، في بيتهم وترفض، هذه قلة ذوق!!!

- طيب، ساعديني في إرتداء وشاح الصلاة.

دلفتا، كان الجميع متجمع على الطاولة، ألقت السلام عليهم وهي مخفضةً رأسها، لازال الحياء يعقلُ لسانها..


أشارت لها "ندى" لتجلس بجانب والدها، ربما لتؤكد قرابتها منهم، أو لتحسسها بالأمان...

بالأمان؟!!

نظرت إليه "غدير" كان يتحدث إليهم وهو يضحك، جميعهم يضحكون...

اللهم احفظ لهم سعادتهم...

لم تشاركهم في الحديث إلا قليلاً، لم تعتد على هذا الجو بعد، اكتفت بتناول بضع لقيمات وهي تعبث بملعقتها بيدها اليسرى، خاصة أنّ "عمر" كان جالساً قُبالتها وكانت عيناها تسقطان عليه سهواً!!!

- خالي. نادتهُ بصوتٍ أقرب للهمس.
- نعم يا عيوون خالك.

أحمرَّ وجهها، تلعثمت وهي تكمل، فهي لم تعتد على هذا الإطراء والتدليل.

- أريدُ أن أجلب بعض حاجياتي من المنزل.

- لا بأس، في الغد، في مثل هذا الوقت يناسبني، ما رأيك؟!

- كلا "قاطعتهُ فوراً" أقصد لا أستطيع أن أذهب في مثل هذا الوقت لأن..لأن....

"لأنه يكون متواجداً في المنزل، لا أريد أن أراه..".

- يمكنني أن آخذها في الصباح.

كان "عمر" من تكلم، صوبت نظرها تجاهه، أومئ رأسه لها بخفة لكأنهُ فهمها، علم بمخاوفها...


لكن الأدوار ستتغير، أجل لن تلبث إلا أن تتغير!!!!

أليس كذلك؟!

انتشلها خالها من خواطرها:

- وعملك؟
- سأستأذن من المدير، لن يمانع.

أكمل الخال تناول طعامه وكأنه أعلن موافقته، أما هي فلم تعلم بما شعرت...

فرح، خوف، غموض، يلزمني وقت لأحلل خواطري المجنونة..رددت في نفسها.


==================



جلست هي و"ندى" و "شيماء" يثرثرن في أمورٍ شتى، مضى الوقتُ سريعاً، لا أدري لم ساعات السعادة تبدو دوماً قصيرة لا تكاد تحسُ بها!!

تناول الجميع العشاء، لم يكن "عمر" موجوداً....

ذهبت غدير وندى لغرفتهما المشتركة، تحدثتا قليلاً وسرعان ما غطت "ندى" في النوم، إذ تنامُ مبكراً استعداداً للذهاب إلى الجامعة، فصل صيفي، فلم يتبق عليها إلا القليل وتتخرج.


سمعت "غدير" باب الغرفة المجاور يُغلق، لا بد أنهُ أتى...فكرت.

تقلبت على وسادتها ربما للمرة الخمسين، لم تعتد عليها بعد، بل لم تعتد على المكان برمته، يدها اليمنى تعوقها عن التقلب بحرية على الفراش...


أينما تتلفت تحاصرها القيود، تطوقها وتكبّل حريتها....

تطلعت للساعة، كانت الثانية عشر بعد منتصف الليل.

- سأذهب لأشاهد التلفاز!!

لكنها ترددت:

- أألبس وشاح الصلاة؟ من الصعب أن ألفه على جسدي بيدٍ واحدة، ثم من سيخرج في هذا الوقت، الكل نائم والسكون مخيم على المكان..


سحبت خمارها، وأغلقت الباب خلفها بخفوت، توجهت للصالة، قلبت في القنوات، ضغطت على قناة space toon، شاهدت رسوم الكارتون توم & جيري...

كم أحبها!!!

أندمجت وهي تضحك، يغيظها توم دائماً ينتصر على القط المسكين..


- ألم تنامي بعد؟!

التفتت إلى مصدر الصوت، كان هناك واقفاً بفانيلة بيضاء وإزار، وهي جالسة بخمارها وبجامتها فقط!!!

تمتمت بكلمات غير مفهومة، لم تعرف بم ترد، ركزت بصرها على شاشة التلفاز و وجهها يحترق، بدا توم و جيري ضبابيين!!


- في أي صفٍ أنتِ؟ أتاها صوته قوياً ورخيماً خرق سكون الليل.


"يا إلهي، لماذا لا زلت واقفاً، أرجوك اذهب، أريد أن أعود لغرفتي..".

- لقد أنهيت المدرسة هذا العام.
- ألن تذهبي للجامعة؟

- لا أدري.
- ربما نسبتك لا تسمح لكِ بذلك.

التفتت له بكبرياء وأنفة:

- تخرجتُ بنسبة 92.9 % . قالتها بإنفعال.

رفع حاجبيه مستغرباً ردة فعلها الهجومية، سكت برهة يتأملها ثم أردف:

- إذن....
- أعتقد أن هذا أمرٌ يخصني.

- لم تتكلمين هكذا من طرف أنفك. قالها ببرود.
- لم أطلب منك أن تكلمني.

حاولت أن تنهض، لكنها تذكرت أنها تلبس خماراً فقط لا يكاد يستر.

فهم حركتها المبتورة لكنهُ لم يتحرك، تنهدت بتأفف:

- لا إله إلا الله..
- سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.

- سيدنا محمد صلى الله عليه وآله "وهنا ضغطت على مخارج حروفها" وسلم رسول الله.


ابتسم بتهكم وهو يقطب حاجبيه العريضين، يتلاصقان سريعاً عند المنتصف، غاظتها ابتسامته، ردت بحدة:

- إمامكم الشافعي يقول:

يا آل بيت رسول الله حبكم فرضٌ من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخرِ أنهُ من لم يصلِ عليكم لا صلاة له...

كشّر في وجهها:

- أنا لستُ شافعياً.

- لا يهمني ما تكونُ عليه.

- أتعرفين أنتِ وقحة. قالها بشراسة.

- وأنت قليلُ الأدب.


ارتفع فكه قليلاً ثم أطبقه، كان يريد أن يتكلم أو يتحرك، لا تدري، خافت من منظره...

"ما كان عليي أن أشتمه، لكنه هو من شتمني أولاً، لحظة أنا في بيته وليس في منزلنا وهذه نقطة تُحسب له..".

كيف اختلفنا هكذا، كان في الصباح لطيفاً....

لكنها الأدوار، ألم أقل لكم أنها لا تلبث أن تتغير؟!!!


- تستحقين الضرب فعلاً. قالها من بين أسنانه المطبقة من الغيظ.


حزت في نفسها كلماته، أخترقتها، وصلت إلى القلب فوراً، لم للكلمات أثرٌ مدوي في نفسك، تشطرك شطراً، يظل صداها ممتزجاً مع دمك، لا تنساها أبداً...

تظاهرت بأنها لم تسمع، أصبح لون الشاشة أزرق، توقف إرسال قناة "سبيس توون"، غيرت القناة لعلهُ يفهم الإشارة ويذهب...

وذهب فعلاً، أما هي فانتظرت دقائق، انتشلت نفسها بصعوبة إلى الغرفة، بكت بصمت ونامت من شدة التعب...

=============

عاشقة الكتب 24-05-07 10:41 AM

(4)


استيقظت من النوم بصعوبة على هزات "ندى"...

- هاا، ماذا تريدين؟
- انهضي أيتها الكسولة، "عمر" يستعجلك.

قفزت مذعورة من اسمه، لا تريد أن تذكر ما حدث البارحة..

- لماذا؟

ضحكت "ندى" من منظرها ثم عادت للمرآة لتضبط حجابها:

- أيُّ ذاكرةٍ تمتلكين!! ألم تتفقا على أن يوصلك إلى منزلك اليوم لتجلبي أغراضك.


"في الحقيقة أعتقدتُ بأنهُ سيلغي ما اتفقنا عليه بعد ما قلتهُ له البارحة".

- حسناً، سأجهز بسرعة.


نهضت إلى الحمام بتثاقل، ففكرة العودة إلى المنزل مرةً أخرى تُثير فيها الرهبة والخوف، ومع من؟! معه!!


كانوا يتناولون الإفطار، الأب وندى وعمر، ألقت التحية عليهم، تجنبت النظر في وجه هذا الأخير، قضمت شطيرتها دون شهية، قرب خالها طبق البيض المقلي بجانبها فأبعدته وهي تشكره...

رائحته تثير فيّ الغثيان في الصباح الباكر!!!

نظرتُ إلى خالي بشعره الذي غزاه الشيب، لم يتغير كثيراً...

بلى تغير، باتت ملامح وجهه أكثر ليناً وضعفاً، بعض الرجال حين يكبرون يصبحون شفافين جداً لدرجة الكسر، أقول البعض وليس الكل!!



انطلقنا في سيارته، جلستُ في المقعد الخلفي، و "ندى" في الأمام بجانبه...

- عمر اضغط على موجة "إمارات FM".
-
- أصبحنا وأصبح الملك لله، أرحمي أذناكِ، سنستمع للقرآن الكريم أفضل.

صمتت "ندى" ومن يقدر أن يحتج؟!

انسابت آيات الذكر الحكيم عذبة كعذوبة قطرات المطر، شفافة كإشراقة الشمس قُبيل الفجر....

نظرت غدير إلى الطريق من خلال النافذة، تتأمل المارة وتنصت لسورة "يوسف"...

لا أملُّ سماعها...


أوقف "عمر" سيارته عند صرح الجامعة بمنطقة "الصخير"، صرحٌ كبير، أتراني سأدخله يوماً...

هل سيقبل "حميد" بذلك؟!

لاأعتقد، هو بالكاد سمح لي بإكمال الثانوية، فما بالك بالجامعة ومصاريفها التي سيتحجج بها....

همهُ الوحيد أن يحرمني من الأشياء التي أحبها..

ترجلت "ندى" من السيارة وهي تلوّح لكلانا، لتنضم إلى هذا الصرح..

- مع السلامة..
- مع السلامة. همست.

عدتُ لأراقبها من خلال النافذة وهي تلتحق بمجموعة من الفتيات اللاتي يضممن كتبهن إلى صدورهن بشدة...


ليتني كنتُ معكم...

لم نتحرك، نظرتُ إلى الأمام، التقت عيناي بعيناه في المرآة...

هل قلتُ لكم أنها خضراء بلون الزبرجد؟!!

كانت المرة الأولى منذُ البارحة، رفعتُ حاجباي بتعجب أما هو فظل ينظر لي بثبات:

- ماذا تنتظر؟! سألتهُ ببرود.
- اركبي في المقعد الأمامي.

فتحتُ فمي وأنا مصدومة:

- لماذا؟!
- لا أريد أن يظن الناس أني أعمل سائقاً..

- وبماذا سيضرك هذا الظن، أتحسب نفسك عنتر بن شداد أو قيس بن الملوح.. قلتها بسخرية.



- أنتِ لا مذهب لكِ.
- وهل مذهبك يقول أن تجلس فتاة أجنبية بجوارك؟!

- مذهبي لا يقول هذا، بل أنا أقولُ هذا...

- إذن أنت لا مذهب لك أيضاً..
- متساويان أليس كذلك؟! قالها بقسوة.

- الثرى لا يتساوى مع الثريا أبداً...

قلتُ هذا وأنا أشير بإبهامي الأيسر إلى صدري...

زمّ شفتيه، وعيناه تتقدان شرراً، دار بجذعه تجاهي، أما أنا فالتفتُّ إلى النافذة بسرعة، أخفي عيني الخائفتين...

- اشكري جنسك، لو لم تكوني أنثى لحطمتك...


كانت يدي اليسرى ترتجف، لساني ينزلق بي في مواقف سخيفة حقاً..

وضعتها في حجري كي لا يلاحظ ارتجافها...

صاح بقوة أجفلتني وجعلت قلبي يهوي بعيداً، بعيداً إلى أدنى بقعة....

- ترجلي هيا إلى الأمام، وإلا قسماً لن أتحرك من هنا...


ثم عاد إلى موضعه، أما أنا فبقيتُ صامتة...


أوقف محرك السيارة ورغم أن الجو حار إلا أنه لم يفتح نافذتي!!!!


مرت 10 دقائق ربما ونحنُ على هذا الحال...


أخيراً فتحتُ الباب بصعوبة واستسلام، كان بودي أن أصفقه بقوة لكن يدي اليسرى لم تكن بجودة الأولى...

ركبتُ بجانبه، شغل محرك السيارة ولم ينبس ببنت شفه، لم يعلق ويسخر مني، لديه أخلاق عالية هذا الأخ!!!

المسافة التي تفصل بيننا صغيرة جداً، لا تتعدى الشبران....

لم أرتح في جلستي، هو أيضاً يبدو غير مرتاح، يداهُ اليمنى تتحرك كثيراً!!!

نظرتُ إلى النافذة لألهي نفسي، لم يسألني حتى عن الطريق إلى منزلي...

أتراهُ يعرفه؟! ربما وصفهُ خالي له...

أجل ربما!!!!

===============







تابع (4)


أودُّ لو أفتح باب سرك
لأستطيع فهم سرّ شرك

فأنت لا تضرُّ من يسعى إلى
أذاك يا راعي الندى وضُرك

لكل من سقاك كل شهدهِ
في كأسه تصبُّ كل مرك (الرائع مانع سعيد العتيبة)


===========


لم تنم "شيماء" البارحة جيداً، تقلبت في فراشها وهي تتذكر ما قالته لها أمها:

- دعينا نذهب إلى الطبيب لنتأكد.

- لقد أجريت اختبار الحمل في المنزل والنتيجة كانت لا شيء.

- لقد مرّ على زواجكم ثلاثة أشهر وهو وقتٌ كافٍ، ابنة عمك "ليلى" حملت منذُ الشهر الأول.

امتقع وجه "شيماء" وهي تردد بصوتٍ متباكٍ:

- لم يمضِ على زواجنا الكثير يا أمي، إنها 3 أشهر فقط...أحياناً يحدث الحمل بعد مرور سنة على الزواج.

شهقت الأم وهي تضرب بيدها على صدرها:

- أجننتِ يا "شيووم"، ستنتظرين سنة كاملة؟!! أتريدين أن يتزوج "ناصر" بأخرى!!

- أنا لم أقل هذا، أنا قلتُ لازال الوقتُ مبكراً على الحمل و كل شئ بيد الله..

مطت الأم شفتيها المجعدتين وهي تتمتم:

- ونعم بالله، ولكن اعلمي أن ما يربط الرجل بالمرأة هو الولد، هو من يقوي شوكتها ويصونُ بيتها...


تنهدت "شيماء" بحرقة، سالت الدموعُ بحرارة على وجنتيها، شدت اللحاف وهي تبكي:

- لم تريدين أن تفسدي فرحتي يا أمي....


===========


- هذا هو بيتكم.

- أجل.

أوقف مكابح سيارته.....

شيء يشدني إلى مقعدي، يمنعني من التحرك، قدماي ثقيلتان كأنهما خُدرتا....

- إلى متى سأنتظر؟!!

لم أرد عليه، جررتُ نفسي وهو يتفحصني وكأنني وكأنني....


لا شيء!!!


يا لقلبك الأسود، حدجتهُ بنظرة وتركتُ سيارته دون أن أغلق بابها حتى...


فلينفجر في مكانه..لايهم..


دخلتُ المنزل دون أن أدق الجرس، لم يدخل معي، الحمد لله...


في الحقيقة خجلتُ أن يشاهد المكان الذي أعيشُ فيه..


البيتُ هادئ، لا توجد حركة إنسية في هذا المكان، التلفاز مغلق على غير العادة، أين ذهبوا؟!!


ولجت إلى المطبخ بخفة، كانت تمسك بالملعقة الكبيرة وتديرُ ما بالوعاء...

رائحة الطهو لذيذة، مميزة، بيتية من الدرجة الأولى، تقفُ ساهمة، شاردة، يا تُرى فيمَ تفكر؟!!

تنحنحتُ في بادئ الأمر كي لا تجفل:

- احم، احم... السلامُ عليكم.

التفتت نحوي وقد ألقت ما بيدها، مسحت يديها بثوبها بعجل، وهي تنظر لي بتلك النظرة التي تُثير الشفقة، أراهن بأنها ستسكب دموعاً جديدة الآن...

لم يخب ظني، هرعت إلي تحتضنني، تمسك بيدي المجبرة وتبكي، تركتُ لها المجال لتعبر عن مشاعرها دون أن أتحرك أو أنبس ببنت شفه...


أخذت تتلمس قسمات وجهي غير مصدقةٍ وجودي، هالتني الهالات السوداء التي أحاطت بعينيها الغائرتين في أفول، لكني لم أعلق....


- كيف حالكِ يا ابنتي، هل أنتي مرتاحة هناك؟ هل يعاملونكِ جيداً، لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، البيت لا طعم له من دونك..


"الآن، الآن يا أمي؟!"...

- أنا بخير والحمد لله. قلتها بجمود، وأنا أنزع نفسي منها. ثم أردفت:

- سآخذ بعض حاجياتي..

سألتني بتلهف والحسرة ترتسم في عينيها الذاويتين:

- أستذهبين؟ ألن تبقي هنا؟!!

- وهل أصبتُ بالجنون لأفعل ذلك..تريدين منه أن يُجهز علي، لا ترتاحين إلا بعد أن يشبعني ضرباً، أليس كذلك؟!


شهقت وهي تضع يدها على فمي بسرعة مانعةً فمي من إطلاق سيل كلماتي الحاقدة:

- سامحكِ الله يا ابنتي، أنا لا أتمنى لكِ إلا الخير، لكني..لكني ، لا حول لي ولا قوة..

"لو حاولتِ ردعه يوماً لما استمرّ في تعذيبي"...


أبعدتُ يدها عن فمي، أدرتُ لها ظهري وأنا أقول بصوتٍ خافت:


- لقد تأخرت، سأجمع أغراضي.... وداعاً ياا أمــ......


دلفتُ دون أن أكمل، انتابتني غصة، أعلم أني قاسية في معاملتي لها، لكنها هي السبب، هي السبب في كل شئ....


هي السبب وكفى، ثم قلبي لم يعد به مجالاً لأن يحب، الحقد ملأه، أعماه وأدماه، صيرهُ شوكاً يجرح فقط، لأنهُ لم يعرف في حياته إلا الجرح...


انطلقت "غدير" إلى غرفتها والغصة تخنقها، تلسع صدرها، فتحت غرفتها، وتوقفت فجأة....

لقد رتبتها، وضعت كل شئ في مكانه كالسابق...

تنفست بعمق...

ولكن هل سيبقى شئ كالسابق؟!!


جثت على الأرض، رفعت حافة سجادتها الحمراء وأخرجت مفتاحاً صغيراً، توجهت لخزانة ملابسها، فتحت درجها السري أولاً، مدت يدها لتتناول دفترها...

ذاك الذي رافقها طوال سنين عمرها الثامنة عشر، في كل ورقة وكل سطر جزء من حياتها...

جزء من سرها، جزءٌ منها، هي وهو سيان، إن فُتح هو اختفت هي!!

ضمتهُ إلى صدرها بيدها اليسرى بقوة بأصابع مرتجفة، أغمضت عينيها والصور تتلاحق، تومض وتنطفئ كبروق سماوية...

حين تولد النجوم وتموت....

ويغيبُ القمر....

لا يبقى إلا السراب، والحقيقة أين محلها؟!!

إنها لا تعرف ولا تدري أفي يومٍ ما ستعرف!!!!


ضغطت بأظافرها على جلده الأسود لعلها توقف الاهتزاز الذي يعتريها كلما أمسكته..

قلبها يغوص، يتماوج مع الرمال المتحركة، ها هو يوشك على أن يُدفن، نتوءٌ يطفو، يعلو وينخفض، تعبث به الرياح، تقلبهُ كيفما تشاء رغماً عنها....

- ماذا تفعلين؟!

قفزت من مكانها مذعورة، التفتت لصاحب الصوت المستنكر، الواقف بجانب الباب بغطرسة...

ذكرت الرحمن في سرها لعلها تهدأ الإنقلاب في نبضاتها...قالت بعد دقيقتن، بعد أن تمالكت نفسها..

- أنت، لقد أجفلتني، ألا تعرف أن تتحدث بصوتٍ هادئ كباقي البشر..


رمقها بإبتسامة هازئة بات لا يفتأ أن يصوبها تجاهها....

- عذراً إن قطعتُ عليكِ أحلامك الوردية...

نظرت إليه بشزر ثم قالت:

- من سمح لك أن تدخل غرفتي؟!

- أهذا كل ما تعرفينه من آداب الضيافة؟

"ربما كان يقصد أنني لم أدعوه لدخول منزل عمته!!"...

عادت لتخرج باقي حاجياتها من درجها دون أن تهتم لمغزى كلماته:

- أريد فقط أن أرتب ملابسي، لو سمحت.

- أمكِ تبكي.
- أعرف.

- أقول لكِ تبكي، وتقولين أعرف!!
- ماذا تريد مني أن أفعل؟! قالت ببرود.

تطلع إليها بإستنكار، لكنهُ ردّ بهدوء:

- المرء لا يجد لديه بين الفين والأخرى أماً، انتبهي فلا يحس الإنسان بقيمة الشئ إلا بعد أن يفقده.


تركت ما بيدها فجأة لكأنها تفجأت ما قاله، في عينيه بريقٌ حزين سرعان ما أخفاه، وغلّف تعابيره بقناعٍ جامد:

- إذا انتهيتِ من جمع ما يلزم، ناديني لأحمل الحقائب ولكن بسرعة، ليس لدي وقتٌ لأضيعهُ أكثر.


وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...

فوضى مشاعر...

عادت لتضم دفترها إلى صدرها، أبحرت بها الخيالات بعيداً، بعيداً...

تنهدت ثم أكملت جمع أغراضها...

لم تأخذ معها الكثير، فقط ما يكفي لمدة شهرٍ واحد!!!


تناول منها حقيبتها الصغيرة، كان حينها واقفاً مع أمها، التفتت لها الأخيرة، وقد بانت الهالات أكثر سواداً والعينان أكثر ضيقاً....

تهدج صوتها وهي تقترب منها لتصافحها:

- انتبهي لنفسك..

الصوت يختنق بحنجرتها، يجاهد ليلامس الهواء وينطلق...

كعصفورٍ كسيرٍ هو، ها هو يبزغ بخفوت، بصوتٍ أقرب للهمس:

- مع السلامة.

كان ينظر لها، يشير إليها بشئ، لكنها لم تفهم...

لكن الأم فهمت ما يعنيه، بادرت هي بعناقها، وغدير تشعر بالضياع، بالفوضى...

لملمت نفسها بصعوبة...

وفي الحياة دوماً....

لقاء ووداع....

ويخسر فقط من يفقد الأمل!!!!



=============


- قلتُ لك يا "ناصر" لا تقف أمام هذه النافذة.

ابتسم في وجهها وهو يهمس:

- تخافين علي؟!

تورد وجهها، لكنها سرعان ما قطبت جبينها بعبوس وهي تردف:

- هذة النافذة خطيرة، انظر ليس بها قضبان، الحمد لله لا يوجد في هذا المنزل أطفال..

- لكن قريباً سيفدون مثنى وثلاث ورباع...

قالها وهو يفرد أصابعه للعد، ثم أردف متسائلاً بابتسامة:

- أم نكتفي باثنين، أعتقد أن هذا الزمن تصعب فيه تربية أطفال كثيرون...

- ..........................

- لكن لو كانوا يشبهونك فلا مانع أن يكونوا 10، حتى إن رأيتُ أحداً منهم في الشارع تذكرتك...

أخذ ناصر يضحك بأريحية و "شيماء" تحاول أن تخفي امتقاع وجهها، وصوت أمها يتردد صداه في أذنيها:

أتريدين أن يتزوج أخرى...لا يربط الرجل بالمرأة إلا الولد...إلا الولد...


هي تحبه، بل تعشق ذرات الهواء التي يتنسمها...

صحيح أن زواجهم تم بطريقة تقليدية، ولكن من قال أن الحب قبل الزواج هو الأساس، بل كثيراً ما يولّد الزواج حباً أقوى وأسمى من الحب الذي يتفوه به أخونا روميو وأختنا جولييت!!!


نظرت إلى زوجها بكثير من الحب، وإن شابته حسرة وألم، صحيح أنهُ لا يذكر الأطفال إلا مازحاً، ولم يحادثها قط بالموضوع بجدية أو بشكل مباشر، لكن توقه للأطفال يلوح دوماً في عينيه حين يرى أحداً منهم، فيردد لها هامساً بود:


- سننجب طفلاً مثله، لا بل أحلى منه، أريده مثلك..
- وإن كانت طفلة؟!

- سيكون هذا أروع، سأسميها شيماء2 ، واحدة في قلبي والأخرى في سويداءه...

عضت على شفتيها بقسوة حتى كادت تدميها لعلها توقف هذه الانفعالات المحتدة بجنون داخل أعماقها...


"لماذا يا أمي، لماذا؟..."

أخذت نفساً، ثم مست كتفه ليلتفت لها:

- ناصر، فلنبتعد عن هذه النافذة...

التفت لها بحنو، أمسك يديها حين فاجئتهم دمدمة "ندى"...


- أنا منحوسة، أعرف ذلك، مكتوب على جبيني "ندى" المنحوسة..

أطلت عليهم بوجهها المنتفخ من الغيظ، ألقت الكتب التي بيدها وهما يرمقانها بتعجب.

- ماذا بك؟! ماذا حدث؟ سألتها ندى.
- لم يجدوا غيري لأتدرب في شركته.

- عمن تتكلمين؟

- ما من أحد يتدرب معه إلا و أعاد فصل التدريب مرة أخرى..
- من هذا؟ سألها ناصر هذه المرة.

تطلعت إليهما بنفاذ صبر، زمت يديها معاً عدة مرات ثم تركتهما وعلامات الاستفهام على وجهيهما وانصرفت...

فتحت باب غرفتها بقوة، كانت "غدير" مستلقية على الفراش وبيدها دفترها تنظر إليه بشرود...


- أرأيتِ أين سيلقوني؟!

التفتت إليها "غدير"، وقد علق بأهدابها شئٌ من الندى، مسحته بسرعة قبل أن ينتثر...

- ماذا هناك، لم تصرخين؟! حاولت أن تسأل بصوتٍ طبيعي.

خلعت "ندى" خمارها وهي تجلس على السرير الآخر.

- سأتدرب..
- وماذا في ذلك؟
- سأتدرب في شركة ".......".

رفعت غدير كتفيها وكأنها لم تفهم بعد.

- كثير من صديقاتي تدربن هناك، من تحمّلن منهن للنهاية أعدن الفصل من جديد، أما الأغلبية فتركوا العمل هناك...

- ولم كل هذا؟

- من مديرها، يقولون أنهُ قاسٍ في عمله و مصابٌ بمسٍ في عقله..

رفعت غدير حاجبيها بإستنكار، ثم ما لبثت أن ابتسمت:

- مدير ومجنون ولديه شركة؟!! كيف هذا....
- هذا ما يقولونه..

- لا عليكِ منهن، إنها إشاعات...
- أقولُ لكِ صديقاتي أكدن لي ذلك..

- حتى وإن كان كذلك، اعتبريها مغامرة أن تتعاملي مع هذه الفئة...
- تضحكين علي..

ووقفت وهي تكادُ تنفجر....

- على العموم أنا سأرى الوضع هناك ليومِ واحد، وإن كان مثل ما قالوا سأنسحب من هذا الفصل..

- لن تتخرجي إذن، اسمحي لي أنتِ المجنونة إن فعلتِ ذلك...


سكتت "ندى" وقد أعتلتها حيرة وخوف....
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.

القادم يزحف ببطء....

في يديه زهرة وكومة حشائش....

ونقطة في السماء تضيُ من بعيد...

تمنح للسائلين أماني....

فهل تتحقق؟!!
(5)

عيناك للبعيدِ تنظران
لذا فأنت لم ولن تراني

أنا القريبُ منك تلك محنتي
ومحنتي أساسها أمران

فأولاً أرى خطايا سيدي
وثانياً أمنحها غفراني

(العتيبة)



=====================


واقفة هي وخمارها يتطاير، تواجه الريح وتحدق في ذلك القرص كعادتها، لعلها تنجح مرة واحدة وتطول فترة تحديقها!!

ولم لا؟!

سرت في جسدها رعدة بفعل نسيم الهواء، التفتت لندى التي كانت تقفز، ضحكت في سرها من منظرها، أحياناً تخالها فتاة خارج هذا الزمن....

- انظري يا "غدير"، شهاب، شهاب...

- هذا شهاب؟! خلتهُ دخان طائرة!! تساءلت بتعجب.

- كلا، كلا أنا أعرفهُ، هيا تمني.. صاحت بإنفعال.

- أتمنى ماذا؟!

- تمني أي شئ، ولكن بسرعة قبل أن يختفي...


تطلعت حينها إلى ندى، كانت قد أغمضت عينيها و مسّت بأناملها شفتيها كأنها تهمهم بشئٍ ما..

صدت "غدير" للشهاب، تتبّع خياله الذي يذوي بخفوت وتتلاشى ذراته كلما ابتعد..

تتمنى أمنية؟!


أيُّ أمنية!! إنها لا تعرف أيها تختار، أن ترتاح من "حميد" أو تعود لمقاعد الدراسة من جديد، أو.....


الوقتُ ضيق والشهاب يأفل مودعاً، يمنحُ الناظرين أماني، منهم من لحق ومنهم لا بد أن يقطع تذكرة القطار الثانية، إنها مسألة وقت فقط...

الوقت؟!!


عادت لتتطلع لصاحبتها، إنها تكاد تحزر ما تمنتهُ منذُ لحظات..

أن ينقلوها إلى شركة أخرى، أو يقيلوا مديرها الذي لا تفتأ أن تذكر اسمه بكره...


تناهى إلى مسمعهما صوتٌ رجالي ينادي...

- ندى، والدي يريدك أسفل...


استدارت هذه الأخيرة لأخيها، مطت شفتيها وهي تسأله:

- لماذا؟!

- اذهبي وانظري ما الأمر..

هزت كتفيها بإستسلام، ثم خاطبت "غدير":

- أستنزلين معي؟

هزت هذه الأخيرة رأسها نفياً، وبقيت تتابع ذلك الخيط الأبيض الرفيع.....


أين سيصل؟!!


تقدم بمحاذاتها، قطع وجوده حالة السكينة التي كانت تعيشها منذُ لحظات...


ما تراه الآن يبدو هلامياً، سراباً!!!


نظر إلى حيثُ تتطلع، وقال بصوتٍ ساهم:

- أتؤمنين مثلها بهذه الترهات؟!

لم تجب فوراً، بقيت صامتة ثم قالت بهدوء:

- أن تؤمن بشيءٍ ما ليس بترهات..

- أنتن الفتياتِ هكذا دوماً رؤوسكن فارغة.

- قد أقولُ الشئ نفسه عنكم..


التفت إليها فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين، في عينيه بريق وفي عينيها تحدي أشم..

بقيا هكذا لبضع دقائق، لكن سرعان ما أشاحت "غدير" وجهها بإرتباك وقد علا وجنتيها حمرةً خفيفة...


ابتسم مغيراً الموضوع:

- كيف هي يدك الآن؟!

تطلعت إلى ذراعها الذي فُكت جبيرتها منذُ يومين...

- بخير..

- غداً تكملين شهراً هنا..

- وغداً أذهب هناك.. قالتها بهمس.

- أخائفة أنتِ؟ سألها بحنان.

هربت من عينيه وهي تطأطأ رأسها للأرض...

خائفة؟!!!

إنها تكادُ تموتُ رعباً، لياليها الأخيرة كانت كابوساً، صورته المخيفة سلبت عينيها الكرى، وبات الليلُ طويلاً طويلاً، و أينما قلبت رأسها على وسادتها الخالية ، لاح لها طيفه مهدداً...


يا رب لطفك، لطفك فقط....

النسيم يهوي يرتع بحرية مع تقلبات الجو، ولم يتبقى من الشهاب شئ، ها هو نقطة صغيرة تجثو بهدوء، وتتماهى مع السحاب...


لم تشعر إلا بوقع أصابعٍ ثقيلة تمسكُ يدها، تطلعت إلى كفها المرتجف الذي احتواهُ بين كفه الكبير...

بدت ذاهلة وهي تنقل بصرها بين يده و سحنته التي كانت هادئة...

سكنت هي لبرهة وإن كان الذهول لازال عالقاً بمحياها الذي شحب فجأة....

وما أن ضغط على يدها مهدئاً حتى انتبهت لنفسها، وعادت تنظر إلى يده...

وكأنها فاقت من ذهولها، فنزعت يدها من يده بحدة وتراجعت إلى الوراء وهي تحدجهُ بنظرةٍ ما...


قالت بصوت بعيد، تعدى حنجرتها ومرّ خاطفاً على أوتار أحبالها الصوتية، ولكن هذا الخطف كان كافياً ليهزه، ليبعثره، ليجعل هذه الخيوط متشابكة فتتكوم بشكلِ عقدة....


أيمكن الفكاك منها؟!!


صدى الصوت يتردد، رغم بعده، رغم لحنه المتكسر، رغم تشابك أوتاره!!!


- تظنني سهلة، تستطيعُ خداعي..

رفع حاجبيه متسائلاً ثم أجاب بجفاف:

- عقلك يقفز بكِ إلى البعيد جداً..

- كلكم متساوون، كلكم...


قاطعها وهو يجيبها بخشونة ساخرة:

- عزيزتي لا تتوهمي بنفسك الشئ الكثير..

نظرت إليه بحقد، وقد تداعت النظرة الخجولة التي كست عينيها منذُ قليل...

- أتعلم، أنا أكرهك أكرهك، أكرهكم جميعاً..


تطلع إليها من رأسها إلى أخمص قدميها وكأنه يحدج ذبابة، ثم قال ببرود:


- أنتِ لا تستحقين الشفقة أبداً..

- لم أطلب شفقتك.. صرخت بوجهه بغضب.

- انتظري.. صاح وهو يقف أمامها معترضاً.

- ابتعد عن وجهي.

- خاطبيني باحترام، لا تنسي أنتِ ضيفة في بيتي. وأشار بأصبعه إلى الأرض مهدداً.

- حسناً، سأترك لك بيتك، ليس غداً بل اليوم والآن..

- أيُّ لسانٍ تملكين؟!

- قلتُ لك ألف مرة، لا تحادثني...


- اسمعي، لم يولد بعد من يملي علي طريقة حديثي، وإن كنتُ متساهلاً معك في أشياء فهذا لأني لا أريد أن أضع عقلي بعقل طفلة لم تتعدى الثامنة عشر، معقدة وحمقاء....


- أتقيس العقل بالعمر؟! أنا لستُ بطفلة أتفهم...أنت لم تعش مثلي، لم ترى ما رأيتهُ أنا، أنا لستُ بطفلة لأني لم أعش الطفولة حتى...لست من تكسر ألعابك، لست أنت من يقول لك أخوك الصغير: أنت حشرة أنت لا شئ.. لست أنت من يضرب في اليوم عشرات المرات، لست أنت عندما حرقت ثــ....


وتوقفت عن الحديث فجأة وكأنها انتبهت لسيل كلماتها، وضعت أناملها المرتجفة على شفتيها، وعيناها تزدادُ اتساعاً، والرعب يغطي القسمات، يسري في حنايا الوجه كالتيار...

الصور تتزاحم، تومض وتنطفئ، وذيل الشريط قد بدأ يتزحلق، يفلت من رباطه الذي ربط فيه يوماً ما بإحكام..

اقترب منها وهو يسألها متلهفاً:

- أنتِ ماذا؟! اكملي...

هزت رأسها نفياً وهي تبتعد للوراء ببطء..

- لا، لا، لم يحدث شئ، لم يحدث شئ، صح؟!!

كررتها بذهول وهي تضم يديها لصدرها لعلها توقف خفقانها المجنون...


- غدير، ماذا بكِ؟! سألها بقلق.

عادت لتهز رأسها من جديد وقد بدأت الدموع تطفو في عينيها السوداوين...

- أريد أن أعود..أعود لغرفتي..أرجوك.


تأملها للحظات وهي تطأطأ رأسها محاولةً أن تخفي الندى...

الريح، لازالت تعبث، تجولُ المكان بخفة، ولم يبقى من الشهاب إلا ذرة، حاملةً آخر الأماني...


ابتعد عن الباب الذي كان حاجباً إياه بقامته الطويلة...

مرت بسرعة بجانبه، وأخذت تعدو من على السلم...

راقبها إلى أن اختفى طيفها تماماً...


تنهد "عمر" وعاد يتصفح وجه السماء، كتف ذراعيه وبقى هكذا زمناً مفكراً....


ثم انصرف............
الحزنُ لا يزالُ لي مُعلّماً
تسمعهُ أذناي إن تكلما

تراهُ في سود الليالي أذني
إن ضحك الحبيبُ أو تألما

الحزنُ أعطاني حبيبي أحرفي
وأحرفي كانت إليك سلما


==============
(6)


حنت "ندى" جذعها، وإحدى يديها مرتكزة على طاولة العمل..

- أين هذه الفردة اللعينة؟!


مالت أكثر وهي تتلمس الأرضية بيديها كلما أمكن، اصطادت يدها شيئاً، كانت إحداها...

سمعت دقاً مزعجاً على طاولتها، فأخذت تتأفف بين انهماكها:

- لو سمحتِ ....

- لحظة، لحظة، لن أهرب من هنا، سأرى أين ذهبت فردتي أولاً!!


وفجأة أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة وهي ترفع رأسها وعلى وجهها ابتسامة كبيرة، ويدها اليمنى حاملةً كعبها العالي بظفر..

- أخيـــ ....

و وأدت جملتها قبل أن تكتمل، غابت الابتسامة من على الشفتين، تطلعت إلى حذائها ذو الكعب العالي المرفوع وإلى الواقف أمامها عاقداً حاجبيه بإستهجان...


ألقت ما بيدها بخوف وهي تقف بسرعة، تلعثمت:

- أ..أعتذر، لم أكن أعلم أنه..أنهُ أنت أستاذ.


وضع كفيه على طاولتها وهو يحدجها بغضب:

- أهكذا تعاملون من يفد إليكم لحاجة؟!! تستصغرون خلق الله، وحين يأتي المدير ينقلب وجهكم ولسانكم وكأن على رؤوسكم الطير، أليس كذلك يا آنسة..


صمتت "ندى" وهي تسبُ نفسها ونعالها وذاك الواقف أمامها يزأر كوحش.


- ماذا بك؟! لم لا تردين، أتخالينني لا أعلم ما يدور في هذه الغرفة، أو بما تقولينه أنتِ وزميلاتك الموظفات عني..

- أنا أنا..

- أصمتي..


أطرقت "ندى" للأرض وهي تود لو أن الأرض تُشق فجأة وتبلعها، لا بد أنها "جميلة"، أجل و من غيرها تلك الجاسوسة الفتانة، انتظري علي و سأُريكِ؟!



ضرب على طاولته فأجفلت وتبعثرت خواطرها المحمومة:

- والآن خذي هذه الحسابات وراجعيها...

وألقى الملف، تبعثرت بعض أوراقه على الطاولة، نظرت إليها بنقمة، وصوبت إليه نظرة تماثلها وفمها مقفل بشدة مانعةً إياه أن ينفتح وتنطلق كل أنواع الشتائم التي سمعتها في حياتها...


رفع حاجبيه وكأنهُ يقول بتحدٍ:

- نعم؟!! ردي إن استطعتِ..


وتركها وبركان من الغضب يحتدُ بداخلها...

جلست على كرسيها وهي تحاول أن ترتدي حذائها بلا شعور....


لكنها لم تجده، فعادت تبحث عنهُ من جديد!!!


==============



جالسة هي في الصالة والتلفاز مفتوح، كانت ترى ولا ترى، تسمع ولا تسمع، وجهها شاحب وقد علتهُ صفرة...


ضمت الوسادة الصغيرة إلى حجرها، ثم قربتها إلى صدرها، ثم تركتها على الأريكة....


زفرت، وهي تضع يدها على جبينها، حرارة تشتعل بجسدها منذُ الأمس، وهمدان يلفها، يمنحها الخمول والتعب، كل شئ معطل إلا الخافقين، ينبض بجنون كطبول غجرية حارماً إياها من الراحة أو التنفس بحرية...


ساعة الصفر أقتربت، وحتفها بات قريباً ومؤكداً!!!


الانتظار متعب، مرهق للأعصاب، بل هو سفرٌ طويل هائم في تراتيل الزمن،،،


آلالامٌ قوية اجتاحت معدتها، قطعت أمعاءها، لا تدري كم مرة تقيأت هذا الصباح...


أغمضت عينيها بعجز فانحدرت دموعها سخية دون خجل، دون قيود، دون عيون متطفلة...


تركت لها العنان، لعلها ترتاح، تأخذ نفساً، فالساعات القادمة تبدو مخيفة، كئيبة...


آه، ما أصعب الانتظار!!!


ها هي تجلس هنا وكأنها على أهبة الاستعداد لتلاقيه، لتلاقي حتفها...


لا تريد أن تبدو أكثر ضعفاً، أكثر خوفاً، على الأقل ليس أمامهم، ليس أمامهُ هو خصوصاً!!!


وسمعت جرس الباب، لا بد أنهم قدموا، أمها اتصلت لخالها وقالوا سيأتون بعد قليل...


لم يحددوا الساعة بالضبط؟! يا له من بارع في تحطيم الأعصاب...


دق الجرس، وقريباً سيُفتح الباب وينخلع قلبها للأبد...


أحنت رأسها والدموع لا زالت تنزل بإستسلام، بضعف، جسدها لا تشعر به، فقط روحها التي تتعذّب، تتقلب بين شفا حفرة من الجحيم الأسود...


النبض بات خافتاً، ضعيفاً، والدماء في رأسها تضخ بقوة، بسرعة، تكادُ تسمعها، والعِرق، العِرق كأن أصابهُ مس، يضغط على بقاياها، يخنقها، يطوق رقبتها...



لاح لها خالها وبجانبه "عمر"، لم تستطع أن تنظر لأياً منهما، دفنت وجهها في تلك الوسادة التي ألقتها منذُ قليل، وأجهشت بالبكاء بصوتٍ مرتفع...


شعرت بيدين على كتفيها، تربتان عليها، أتاها صوته مطمئناً أبوياً ذكرها بالغائب منذُ زمن، بيتمها الأول:


- لا تخافي يا ابنتي، ثقي برحمة الله...


لم ترفع رأسها لكنها قبضت على يده، ضغطت عليها بقوة دون أن تفلتها.

- عمر، افتح الباب يا ابني..


اليدُ تزيد من ضغطها، والروحُ تفلت، تهيم على وجهها، تكادُ تلفظ آخر أنفاسها...


لطفك يا ربُّ لطفك...


الريحُ تحمل السلام والتحايا، والهودج، هودج الموت يفتح ذراعيه لها، يدعوها لتستقله وتلحق بالركاب...


ندّت من فمها صرخة ملتاعة بترتها فوراً...


اليد الآن ترتجف، خفت من قبضتها، ترى أين وصلت الروح الآن؟!!


هبت إليها والدتها تعانقها، لكنها لا تقبل، لا زالت تعانق وسادتها، ترفض أن تراه...


الصمت خيم حول المكان ما خلا الشجن الذي ينبعث من ذلك الرأس...


- أكلُّ هذا البكاء شوقاً لوالدتك؟! ما كان عليكِ إذن أن تفاريقها منذُ البداية.. ردد "حميد" ساخراً.


حدجه "عمر" بنظرة غاضبة، لكن ذلك لم يمنعه من يبتسم ابتسامتهُ الصفراء القبيحة:

- هيا لا بد أن نذهب الآن، فلنترك هذه المشاعر الجياشة بعد العودة للمنزل.

- انتظر "غدير" لن تذهب إلى أي مكان.

- ماذا تعني؟!

- أعني أنها ستبقى هنا..

- هه، وبأي حقٍ تبقيها هنا؟!

- هذا بيتُ خالها..

- وذاك منزل والدتها.. ألا تخافون ربكم، تريدون أن تحرموا هذه اليتيمة من أمها..لا حول ولا قوة إلا بالله...

- وهي ترفض الذهاب إليه ما دمت أيها ال**** موجوداً هناك..



عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، وقد انمحى القناع المتزلف الذي كان يرتديه:

- مال****ُ إلا أنت..


تقدم منهُ "عمر" لكن الأب أوقفه:

- عمر، توقف، لا تنسى أنهُ ضيفٌ في بيتي، وزوج عمتك أولاً وأخيراً.


ثم التفت إلى هذا الأخير وهو يخاطبه:

- لكن هذا لا يمنع أن ما يقولهُ ابني هو الذي سيحدث بالفعل...

- يبدو أنك جننت أنت وابنك..

- احترم نفسك أيها الدنيء.

- اسمع، بل اسمعا كلاكما، ستأتي رغماً عنها وعن أنفيكما، وإن لم تدَعوها تأتي بهدوء معنا، فسنضطر أن نأخذها بالقوة، وتحملوا أنتم الشرطة والفضائح..


- بل اسمعني أنت، غدير لن تخرج من هنا، وافعل ما تريد، وبابُ بيتنا مفتوحٌ دوماً للشرطة وغيرها، لذا تهديدك هذا أكتبهُ في ورقة وألقه في ماء البحر...هيا تفضل، أخرج من هنا.


والتفت لأخته:

- اعذريني يا أختي، أنتِ محشومة عن كل ما يحدث..

سكتت الأم ولم تحر جواباً، وبقيت تتطلع لابنتها التي لا تفتأ أن تشهق بين الفينة والأخرى دون أن تفلت زمام وسادتها..


- هيا، هيا فلنخرج من هنا، بأس العائلة التي ناسبتها، ولكنكم لن تفرحوا كثيراً، بيننا وبينكم المحاكم، وسنرى كلام من الذي سيُلقى في البحر..


و دفع زوجته وهو يسب ويلعن، التقت بهم "ندى" في الطريق....

ابتسمت لعمتها:

- عمتي هنا؟! مرحباً كيف...

- لا بارك اللهُ فيك ولا في والدك ولا في عمتك..سيري بسرعة أنتِ الأخرى، هيا...


تطلعت "ندى" إليه دهشة وقد عقد لسانها، وما أن ولجت بالداخل ورأت "غدير" بهذه الحالة، حتى هرولت إليها مسرعة وهي تتساءل:


- ماذا حدث؟! بالله عليكم أخبروني..

التفت الأب لابنه دون أن يجيبها:

- عمر، تعال معي المكتب..


وانطلق الرجلان معاً...

- غدير....


أحاطتها بذراعيها، كان جسدها يرتجف، يدها متشنجتان، كلما حاولت أن تبعدها عن الوسادة المتشبثة بها، كانت تلهث والأصابع تنثني وتعود لتقبض عليها من جديد...


أخذت "ندى" تقرأ عليها ما تيسر من آية "الكرسي" والمعوذتين، حتى هدأت أنفاسها المتقطعة شيئاً فشيئاً....

تراخت اليدين...

- هيا، ارفعي رأسك..


الجسد يرتفع، ينوء بحمله، بدت عيناها صغيرتان حمراوان، أمسكتها "ندى" لتستند على الأريكة، لكن صوت الأب المنادي قطع عليها ذلك.

- غدير يا ابنتي، تعالي هنا ، أريدك قليلاً..

- أتستطيعين النهوض؟ سألتها ندى.


هزت "غدير" رأسها بإيجاب وهي تنهض بتعب، ساعدتها "ندى"، لكنها عادت لتأخذ الوسادة من جديد...


لا تدري، حسستها بالأمان!!!


- ادخلي يا ابنتي..

دخلت "غدير" تسبقها "ندى".

- أنا قلتُ غدير فقط وليس أنتِ.

ابتسمت "ندى" ببلاهة لأبيها وهي ترد:

- ربما تحتاجون لشيء.


صدّ الأب لغدير، كانت مطأطأةً رأسها وهي تمسح عينيها اللتان لا تتوقفان عن الذرف.


- ارفعي رأسكِ يا ابنتي، ما دمتِ معنا فأنتِ بأمان...


رفعت رأسها ببطء فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين...


كان مكتفاً ذراعيه وقد استند على طاولة المكتب....


لكنهُ سرعان ما أشاح بوجهه لكأنهُ يتهرب من نظراتها!!!!


نقل الأب بصره بين الاثنين، تقدم منها فالتفتت إليه:

- اسمعي يا ابنتي بعد الذي حدث اليوم لا بد أن نجد حلاً.


ردت عليه بتقطع وشهقاتها تخنقها:

- كيف؟! سيأخذني معه، لن يقبل بأن أبقى هنا.

- بل سيقبل رغماً عنه إذا نفذتِ ما قلته أو بالأحرى نفذتما ما سأقوله الآن..


تطلعت لخالها بخوف وقد بدا الشك يدبُّ في أعماقها خصوصاً بعد نظرات ذاك الواقف ليس ببعيد.

أخذ نفساً طويلاً ثم أردف بهدوء:

- تتزوجان أنتِ وعمر، وبالتالي تخرجين من وصاية الكل إلا زوجك.


الأصابع لا ترحم الوسادة القطنية، والمفاجأة أكبر من أن تُحتمل، أمسكت بتلابيب صاحبتها لعلها توقف رجفتها، تمنع نفسها من أن تهوي، من السقوط!!!


الضخ، الضخ يعود بقوة وهناك في الحنجرة، حشرجة، الصوت يودُ لو يغادر الجسد...

هزت رأسها نفياً وهي تردد بصوت مبحوح :


- لا لا... لا لا أريد أن أتزوج...سأعود... سأعود إلى هناك من جديد.


تطلع لها بدهشة متسائلاً:

- لماذا يا ابنتي، في زواجك نجاتك!!

- لا أريد لأن.. لأن...

واشتبكت بتلك العينين من جديد، فيهما قسوة وغضبٌ مفاجئ انعكس على لونهما فبات أخضراً قاتماً...


أخذت تتطلعُ إلى الأرضِ بحيرة، ماذا تقول بالضبط!!!


- لأن ماذا؟! سألها الخال بلين.


عادت لتنظر إليه، عيناهُ معلقتان على شفتيها تنتظران الإجابة...


ارتبكت أكثر، قربت الوسادة من صدرها كأنها في حالة دفاع عن النفس:

- لأن لأن كلانا من مذهب مختلف...

- وماذا في ذلك؟! سألها "عمر" بتصلب.


- أجل يا ابنتي، ماذا في ذلك، كلنا أولاد آدم وحواء، أبناء دين واحد..


- أأأ.. تعرف.. تعرف أنت يا خالي، نحنُ.. أنا، لدينا طواف النساء، أما أنتم فلا، فإذا لم يطف الزوج أكون..أقصد تكون محرمةً عليه..


أخذت شهيقاً طويلاً متقطعاً، ثم أردفت دون أن تنظر لأحدهم:

- ثم الزواج ليس... ليس شيئاً بين اثنين فقط، سيكون هناك أطـ..أطفال، والأطفال دائماً يتبعون مذهب الأب عادةً، مثلما أنا تبعتُ مذهب والدي، وتبع أخي "مجيد" مذهب والده..


تطلع إليها "عمر" بدهشة وعلى وجهه علامات الاستفهام:


- والداك كانا أيضاً من مذهبين مختلفين، أفهميني إذن كيف تزوجا بالرغم من ذلك وأنجباكِ.

وأكمل:

- أما بالنسبة لمذهب الأطفال فأعتقد أن هذا الأمر سابق لأوانه..


صمتت دون أن تحر جواباً، وعادت أصابعها لتتشنج من جديد، تطلعت إلى "ندى" بحيرة كأنها تستعطفها، أن تفهمها، أن تساعدها وتقول شئ أي شئ، ولكن أنّى لها أن تفهم هي الأخرى..


لكنها لا بد أن ترفض أليس كذلك، لا بد لها أن تصمد وألا تضعف، لابد!!!


- أنا لا أريد أن أتزوج، لا أريد...أرجوكم.

و تركت وسادتها لتهوي كي لا تهوي!! وغطت وجهها وهي تجهش بالبكاء.


- قلتُ لك يا أبي مثلها لا يستحق، لا فائدة منها أبداً..

ثم وجه خطابه لها:

- ليكن في معلومك أنني لم أرغب بالزواج منك لشخصكِ أنتِ، ولكن احتراماً لطلب والدي، لخالك الذي لم أشأ أن أراه يستعطفني لأتزوج فتاةً حمقاء مثلك.


- عمر!!!

تنهد "عمر" وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم.


- أنا لدي فكرة.


نظر الجميع إلى "ندى" التي ارتبكت من تسلط العيون عليها وقالت بخفة لتلطف الجو:

- يتزوج عمر وغدير على الورق كما في الأفلام..كل ما يهمنا هو ورقة الإثبات الذي سنواجه بها زوج أمها..أليس كذلك؟!!


صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، حتى "غدير" أوقفت بكاءها.

- فكرة لا بأس بها.. ردد الأب مفكراً وإن شابه ضيق.

لكزت ندى صاحبتها وهي تخاطبها:

- اقبلي، إنهُ على الورق فقط...


على الورق!!!

كان ينظر لها تلك اللحظة، في عينيه حديثٌ طويل، فيه عتاب، برود، ظلمة!!!


عيناهُ تقولان الكثير، لكنهُ لم يتح لها الفرصة لأن تقرأ أكثر!!!


غلف وجهه بتعبيرٍ جامد، ولم يبدِ حماسه أو رفضه للموضوع، بل همهم موافقاً وكأن الأمر لا يعنيه...

وافقت هي الأخرى...وهل لديها خيارٌ آخر!!! وشئ أفضل من لا شئ....


على الورق!!!!


لا تدري لم قلبها منقبضٌ هكذا...

ربما وجهه الذي قسى فجأة...ربما عيناه!!!

أجل..أجل عيناه هي السبب...


- أجهزا بسرعة كي نذهب للمحكمة بعد قليل، لا بد أن نغتنم كل دقيقة متاحة لنا قبل أن يتحرك ذلك المعتوه...

ثم أردف الأب:

- سأتصل بناصر ليكون شاهداً على العقد، والآن سأترككما لتتفاهمان..ندى تعالي معي.

- لكن يا أبي... قالتها بإستعطاف.

- هيا..


خلا المكان إلا منهما وبدا الصمتُ السيد الآمر في هذا الجو المشحون بالتوتر....


أحست بنظراته مصوبة عليها، أرادت أن تلحق بخالها و "ندى" وتهرب من أمامه...

لا تدري ما الذي تشعر به الآن..

ليتني لم ألقي الوسادة!! رددت في نفسها.


- هل أنتِ سعيدة الآن؟! أتاها صوته ساخراً بارداً.

- ...................

- هيا، أطلقي رصاصاتك، أبي ليس هنا..أخلعي رداء البراءة وقولي ما بجعبتك...

- ...............

- ما بك، لم لا تتكلمين؟! ألا تريدين أن تضيفي شيئاً آخر غير المذهب والأطفال أم أن جميع حججك قد نفذت!!!

- ..................

تحرك من مكانه فرفعت رأسها بخوف، مرّ بجانبها وما أن وصل للباب حتى قال شيئاً جعلها تلتفت إليه وهي تشهق!!!!!!



================

عاشقة الكتب 24-05-07 10:45 AM



- أتعتقد أن زواجهما سينجح؟!

غمغم "ناصر" بعبوس وهو مندمجٌ في القراءة:

- اممم، ما فهمته من والدي أنهُ زواج صوري ليس إلا.

- أعلم ذلك، ولكن الابتسامة لم تفارق وجه أخيك طيلة اليوم...


ابتسم "ناصر" وهو يذكر شكل أخيه الأكبر، ووجه "غدير" المرعوب التي ما فتأت أن أوقفت الإجراءات عدة مرات لولا إلحاح والده و"ندى".


- لا أدري، الله وحده يعلم ما إذا كان هذا الزواج سيستمر أم لا...

- ونعم بالله.


وعاد ليكمل قراءته، أما هي فأخذت تتطلع لخيطِ نشز من فستانها، محاولةً قطعه..


لكنهُ كان أملساً والخيط قصير أصعب من أن يُقطع هكذا!!!

ارتجفت أناماها لخاطرٍ مر عليها، خاطراً بات هاجساً بالنسبةِ لها..


تركت الخيط كما هو ونادت زوجها بصوتٍ هامس:

- ناصر...
- نعم..

تشجعت من ابتسامته الهادئة، اقتربت منه بإرتباك دون أن تنظر إليه مباشرةً:

- ما رأيك، أن..أن نذهب للمستشفى.

ترك ناصر الكتاب الذي بيده وهو يتطلع لها بتعجب:

- لماذا؟

- لـ..لإجراء فحص.


الدهشة تتسع في عينيه، لكنهُ سرعان ما فهمها، هو قد بدأ يلاحظ تلميحاتها لهذا الموضوع في الآونة الأخيرة.

- لا داعي لذلك..لازلنا في البداية.

- أعلم..لكن "ليلى" ابنة عـ...

- أعرف، قلتها لي من قبل، ولكن ما شأننا والآخرين، هذا الأمر بيد الله، وخوفك هذا لا مبرر له، حتى الطبيب سيقول لكِ ذلك.


نكست رأسها بأسى وانكسار.... تنهد من مرآها...

اقترب منها وهو يخاطبها بحنان:

- لا تبتأسي يا عزيزتي، اسمعي سننتظر شهراً آخر، إذا لم يحدث شئ، سنراجع الطبيب، هل ارتحتي الآن؟!


رفعت رأسها وقد تهلل وجهها وبان الفرحُ في عينيها، تطلعت إليه بحبٍ كبير، حبٍ جارف....


يا رب احفظ لهم سعادتهم!!!



=====================


الخروج الآن لوحدها بات خطيراً، في المرة المقبلة ستأخذ معها "ندى" أينما أرادت شيئاً، فالدنيا الآن لا أمان لها، لا أمان لها إطلاقاً!!!!


- لماذا تنظر إليّ هكذا..

- وكيف أنظر إليكِ؟!

- لاأدري..لكن..المهم نظراتك لا تعجبني.

- سأنظر كما يحلو لي، أتفهمين.


قالها بهدوء وهو يقترب منها شيئاً فشيئاً. تراجعت هي إلى الوراء بخوف حاولت أن تخفيه.

أجابت بحزم:

- لا أريد أن أفهم، وإذا كررتها سأضطر لأن أخبر خالي.


تطلع لها برهة بإستغراب ثم ضحك بقوة، سألها بإستهزاء:

- ستخبرينه بماذا؟! أن زوجك ينظر إليكِ!!!!!

- أنت لست زوجي...ألا تفهم. صاحت بحدة.


قبض على يدها وقد تلاشت تباشير الضحك من وجهه:

- بل زوجك رغماً عنكِ والورقة تؤكد ذلك.


حاولت أن تنزع تلك الأصابع القابضة على ذراعها ولكن دون جدوى.


صاحت بتقطع وقد خُطفت أنفاسها:

- قلتها بنفسك "على الورق" الورقة فقط من تجمع بيننا، لا شئ أكثر.


قرب وجهه من وجهها، حتى كادت أن ترى انعكاس صورتها في عينيه، رد بهدوء، بصوتٍ واطئ:

- هذا ما تتمنينه أنتِ أليس كذلك؟! لكن الوضع لن يبقى هكذا للأبد.


أنفاسه تحرق خديها، الاحمرار يتصاعد ليعمّ رقبتها، رمشت عينيها مراراً وتكراراً لعلّ الصورة تتضح، وبعد جهد أطلق سراحها فجأة..


ترنحت إلى الخلف وصدرها يعلو ويهبط من حدة الانفعالات التي اجتاحتها تلك اللحظة.


سألته بتقطع وهي تحاول أن تمسك بجمام نفسها:

- ماذا..ماذا تقصد؟!!

لم يجب واكتفى بالنظر إليها من جديد ولكن ببرود.

صاحت في وجهه:

- طلقني، أتسمع، طلقني.


قهقهته الجافة ترتفع، تتصاعد ولا تلبث أن تهوي، لكن أين؟!!


في أعماقها هي..هي وحدها...

نطق متشدقاً:

- وهل تزوجتك يا صغيرتي حتى أطلقك...


وقفت مشدوهة من عبارته للحظات، وكأن الزمن تجمد، كل شئ توقف، إلا صداه.

وحين فاقت من بهتانها، واستيقظت من خيالاتها، أخذت تنادي عليه...


لكنه كان قد سار عنها إلى غرفته، خياله تلاشى بين الأزقة، ضربت الأرض بقدميها لعلّ الدق يخفف دقات قلبها المرتاعة.....


القادم يبدو مخيفاً، غامضاً، مليئاً بالشوك، وقد بدأت أزهار الياسمين تبزغ من بين الحشائش!!!!!



===============



ماذا لدينا غير الاستسلام
وغير عزف نغمةِ السلام

الحربُ طالت بيننا حبيبتي
وآن أن أنام أو تنامي

عودي إلى طفولةٍ مُحتاجةٍ
للنوم في الهدوء والظلام



==============

(7)


استندت على الباب مغمضةً عينيها بقوة، الأصوات ترتفع وتعلو، وصوت صراخه يصمُّ الآذان....


عادت لتتحسس إكرة الباب كالعمياء لتستوثق من أنهُ قد قُفل بإحكام..

- كيف زوجتهما هكذا؟! هذا الزواج باطل..

- أبطله أنت إذا استطعت...


الحروف لا تُسمع الآن بوضوح، همهمة غير مفهومة هي التي طغت حول المكان، حيثُ اجتمع الرجال وأشباه الرجال!!!


أخيراً هدئت الجلبة، ربما خرج، لكن لا، ها هو صوته القبيح يعود من جديد:

- إن كنتُ قد قلتُ ذلك فمن خوفي أنا وأمها عليها ليس إلا، مسكينة لقد تركتها في البيت تبكي، ابنتها الوحيدة ولا تحضر عقد قرانها، لذا كان علي أن أتأكد...


ثم التفت إلى "عمر" وهو يبتسم له ابتسامته الصفراء اللزجة:

- مباركٌ عليك يا "عمر" عرفت أن تختار، انتبه لها!!!!


أيها ال****!!!


أرادت أن تصيغ السمع أكثر، أن تعرف ما رد عليه هذا الأخير، لكن صدى صوته لم يصل إليها بعد...


تنهدت وهي تسمعُ الأبواب تُصفق...


لقد انتهى كابوس!!


و بدأ كابوسٌ من نوعٍ آخر، أتراها تتخلصُ منه هو الآخر؟!!


ستحاول وبشتى الطرق، ولن تعدم أي وسيلة لذلك..


سمعت طرقاً خافتاً على الباب فاعتدلت في وقفتها، تساءلت:

- من؟

- هذا أنا.

- ماذا تُريد؟!

- أريد أن أحادثك قليلاً.

- قل، أنا أسمعك.

- افتحي الباب، ليس لائقاً أن أقف هكذا.

- ندى ليست هنا، و لن أفتح، أسمعت، لذا قل وخلصني.


صرّ على أسنانه، وهو يردّ عليها بصوتٍ كظيم:

- افتحي الباب وإلا كسرته على رأسك الفارغ.

- ما الفارغ إلا أنت، وإن كنت تجرؤ اكسره، سيأتي خالي وسيكسر رأسك...


- أخفتيني أنتِ بخالك..أم نسيتي أنهُ أبي أيضاً، ثم يا "حبوبة" أبي خرج هو الآخر..

صمتت وهي تسمع صوت تنفسه الغاضب، مرت ثواني قبل أن ترد بخوف:

- أنت تكذب، خالي لن يتركني مع...مع مثلك!!

صاح بإستنكارٍ أفزعها:

- مثلي؟!!


ثم أردف بغضب:

- حسابنا ليس الآن يا "غدير" سأجعلك تدفعين ثمن كل كلمة، كل عنادٍ عاندتيني إياه، كل شئ والأيامُ بيننا، أقسم بذلك.


ضربت الباب بقبضتها لعلها توقف الارتجاف الذي سرى في جسدها:

- طلقني ... طلقني، لا أريدُ أي شئ يربطني بك، أتسمع..

- هذا أبعدُ إليكِ من طيل السحاب...


وصفق هو الآخر باب غرفته المجاورة....


طلقني...

أخذت ترددها بهمس، وهي تنزلق لتصل إلى الأرض، إلى أدنى بقعة....

وضعت رأسها في حجرها و بكت بصمت....


ولكن من قال أن المصائب لا تأتي فُرادى؟!


غديـــــر..ماذا أقولُ لكِ؟!!


لا تعليق!!!

==============



وقفت أمام باب مكتبه عدة مرات، كلما همت أصابعها بأن تخدش خشبه أو تخدش وجهه!!! عادت لتضم يدها إلى جانبها من جديد...


وأخيراً، بعد عشر دقائق استجمعت شجاعتها وهي تردد كل الآيات التي حفظتها منذُ طفولتها، طرقته بخفوت فربما لا يسمعها وتعود إلى مكتبها، لكن صوته الجاف وأد أحلامها الخائبة.


- تفضل.


"أعوذُ بالله".

دخلت وبيدها الملف الذي أعطاها إياه بالأمس، لم يرفع نظرهُ إليها بعد، كان منهمكاً في توقيعِ أوراق..

تنحنحت لعل صوتها يخرج من احتباسه الأزلي كلما رأته.

- لقد راجعتُ الحسابات أستاذ.

- والنتيجة؟! سألها دون أن يرفع رأسه بعد.

- جميعها صحيحة.


حينها فقط رفع رأسه وأشار لها بأن هاتيه، مدتهُ إليه من بعيد، لكن يدها لم تصل إليه.


- اقتربي، لم أنتِ واقفة هكذا؟!


"أحقاً لا تعرف!!!"


تقدمت فتناولهُ منها، أخذ يتصفحه وهو يغمغم:

- إذن كل العمليات الإحصائية صحيحة؟!

- أجل.


وفجأة، ألقى الملف الذي بيده بقوة فأجفلت، وبقيت تنظر له بتعجب من نزوات غضبه الغريبة.

صاح في وجهها:

- صحيحة؟!! يا آنسة، هذا الملف قد تم مراجعته عدة مرات من قبلي وقِبل بعض الموظفين، واشتمل على 6 جداول إحصائية خاطئة، وتقولين جميعها صحيحة؟!!!


فتحت عينيها بدهشة على وسعهما ورددت دون تصديق، ودون أن تبالي بصياحه:

- لقد راجعته من قبل، وجعلتني أُعيد مراجعة ملايين الحسابات التي تحويه؟!


- كنتُ أريد أن أتأكد، ما إذا كان هناك شئ في العالم اسمه ضمير، دقة، أمانة.


العينان تكادان تخرجان من محجريهما واللسان ينطلق دون قيود، أخذت تهتف وهي تشير لوجهها:

- انظر..انظر لعيناي، كيف أصبحتا حمراوين، لم أنم البارحة إطلاقاً وأنا أراجع هذه الحسابات المطبوعة بآلة من العصر الحجري.


نظر إليها دهشاً من جرأتها وعفويتها في الكلام:

- وما شأني أنا إن نمتِ أم لا؟!


صاحت بتقطع وصدرها يعلو ويهبط بإضطراب:

- أنت..أنت..

- أنا ماذا؟ تكلمي.. سألها ببرود.


"أنت ****، نذل، جبان، أنت مزبلة التاريخ، بودي أن أخلع حذائي وأحطم جمجمتك".


عادت لتعض على نواجذها بقوة لبضع دقائق، ثم أفلتت شفتيها وهي تزفر بحقد:

- لاشئ يا.. يا أستاذ..


حدجها بنظرة هازئة وكأنه علم بأنها لن تقدر أن تنطق حرفاً.


فتح درج مكتبه، وأخذ يعبث فيه دون أن يحول عينيه عنها.

- أيمكن أن أنصرف الآن؟

- لحظة..انتظري.


وأخرج شيئاً ما:

- خذي هذه حسابات أخرى تخص بنك "......" راجعيها و افتحي هاتين العينين المكحلتين جيداً..

- هذا ليس كحلاً، هذه هالات سوداء من أوراق البارحة. قالتها ودموعها توشك أن تطفر من الغيظ.

لم يبالي بما قالته، تأمل بإهتمام تغير ألوان وجهها بالتدريج.


كانت تتطلع إلى الملف الذي لو تُرك له المجال لينطق، لأنًّ من ثقله!!


- هذا كثير!! هذا الأسبوع زواج إحدى قريباتي و.....


"يا رب تكثر عليك العقارب والأفاعي".


قاطعها وهو يعنفها:

- وهل نحنُ نلعب؟! هذا عمل، ما دمتِ لستِ نداً لهذا النوع من الأشغال لم أخذتِ تخصص محاسبة.

وأردف:

- أنا لا أحب التلكأ أو التبريرات الواهية للتهرب من العمل..ولا تُدخلي شؤونك الخاصة في العمل، مفهوم؟!

- ...................


- لم أسمع جوابك، أم أن كلامي لا يعجبك؟!


"لا يعجبني!! يا أخي أنت بأكملك لا تعجبني".


- مفهوم يا أستاذ. أجابت بذّل.

واستدارت لتعود من حيثُ أتت، تسبقها آلالاف الدعوات عليه طبعاً!!!

- يا آنسة..

- نعم؟!

- وجهكِ منتفخ...تنفسي ببطء، ليس جيداً لصحتك هذا الاحتقان.


وكادت أن تتعثر بالسجادة المبسوطة في مكتبه:

- انتبهي أثناء سيرك أو ارتدي نظارات ما دمتِ لا ترين جيداً...


وما أن خرجت من مكتبه حتى أخرجت الصرخة التي كانت قد كتمتها طويلاً,,,


ولكنها، لم تجد إلا الجدران وحدها لتتلقفها!!!



=============



- ماذا سترتدن في الحفلة؟ سألت "شيماء"

- أنا عن نفسي لا أملك ثوباً، سأطلب من والدي نقوداً لأشتري شيئاً جديداً.


- وماذا عنكِ "غدير"؟!

- أنا؟!

- أجل..

- أنا لن أذهب، لا أعرف أحداً، ماذا سيقولون عني؟! "أطرش في الزفة".

- يا عزيزتي، لقد بتِّ فرداً منا، يا حرم أخونا المصون.


حدجتها "غدير" بنظرة نارية، وعادت لتكتب شيئاً في دفترها..

لا أفهمه، لا أعرفه!!

من؟!!

قالوا عنهُ زوجي...

وأغلقت الدفتر بشرود...


- ماذا قلتِ؟! عادت "شيماء" لتسألها.

- امممم، لا أدري.

- ستأتين رغماً عن أنفك. ردت "ندى".

- لاأملك مالاً.

- والدي لن يبخل أبداً على ابنة أخته..

قاطعتها "شيماء" وهي تغمز عينيها:

- ولم عمي؟! الآن أصبحت في ذمة رجل آخر مسؤول عنها.


وضحكت الفتاتان و"غدير" تنظر لهما بحنق، ودثرت نفسها بغطاءها لعلها تهجع وتسلم من لسانهما.


"يا ليت!!"

==============


- ندى قومي، قومي..

- آ..آآه ماذا تريدين؟

- أريدُ أن أشرب كوب ماء.

- اذهبي واشربي.


وعادت لتتدثر في فراشها من جديد.

- ندى، أنا أخاف من الظلام، قومي معي.


من الظلام أو من ذاك الذي يترصدُ بك في الظلام!!


- أريد أن أنام..المدير ال****...

- أيُّ مديرٍ تتحدثين عنه؟!


لكن الأخيرة لم تجبها، فرأسها مثقل من حسابات الأمس واليوم، والمعادلات وعلامات الجمع والطرح تطنُ بجنون أمام عينيها كأزيز نحلة!!


تطلعت إلى النائمة بيأس....


أأنبأكم إحساسكم يوماً أن شيئاً سيئاً سيحدث إن فعلتم هذا الشئ، ومع ذلك تفعلونه؟!!


ارتدت "غدير" حجابها بيدٍ ترتجف، ها هي تفتح باب غرفتها ببطء كلصة تتسلل بين الأزقة....


صوبت بصرها إلى الغرفة المجاورة، كان الهدوء والظلام سيدا المكان بلا نزاع..


مشت على أطراف أصابعها....


اللهيب يتراقص والفراشة تهوي إليه رغماً عنها، تتراقص بخفة حوله، تفرد جناحيها الجميلين، وفي لحظةٍ ما، تسقط!!!!


أجل تسقط...


فأنى لجناحيها أن يتحملا قسوة تلك النار...


احذري يا غدير، احذري...


وصلت إلى هناك، كان مصباح المطبخ مولعاً، توجهت إلى الثلاجة وسكبت لها كأساً.


لم تنتبه إلى الظل الذي بقى واقفاً يتأملها وهي تزدرد الماء.


وحين همّت بإرجاع الكأس لمكانه، هتف بسرعة:

- انتظري.


والتفتت إلى مصدر الصوت، كان واقفاً بمحاذاة الباب وعيناه الخضراوان ترصدان تحركاتها...

على شفتيه ابتسامة، ماذا عنها هي؟!!


استندت بضعف بجانب الثلاجة، تنفسها بات سريعاً، متلاحقاً، ونبضات قلبها تدق بجنون...

لسانها يتثاقل، والصوت يخرج بخفوت، بتقطع:


- أنت..أنت ماذا تريد؟

رفع يديه إلى أعلى ببراءة موضحاً:

- أريدُ فقط كوب ماء.

- أنت تكذب، تعتقد أن خدعتك ستنطلي عليّ...

- كم أنتِ واهمة كثيراً بنفسك..هيا اعطني كوب ماء.

- لن أُعطك شيئاً.

- إذن سآخذهُ بنفسي..


صرخت مهددةً وهي تنكمش على نفسها:

- لا تقترب.

- اخفضي صوتك أيتها المجنونة.


الكأس يكاد يتحطم، يتلاشى بين أصابعها، الضغطُ على الكأس وفي الهواء يزداد، وإن كان الكأس من زجاج فما بين الضلوع أرق من أكسير..


عادت لتنكمش، لتنزوي بعيداً عنه، الصدرُ يعلو ويهبط بقوة، والامتقاع يلون وجهها بألوان شفافة، خالية من أي لون!!!


صاحت فيه بيأس:

- قل لي ماذا تُريد وخلصني.

- أريدُ كأس ما، لم لا تصدقين، ماذا في رأسكِ هذا؟!


رددت بشرود:

- تريدُ ماء؟!

- أجل ماء..ماء فقط، ليس في نيتي أي شئ آخر!!


تطلعت بداخل الكأس لثواني، ثم عادت لتنظر إليه، على وجهه علامات تساؤل، تعجب، تفكير!!!


حاجباه التصقا معاً بصرامة، وشئ ارتسم في عينيه، عادت لتسأله بصوتٍ شارد:

- تريدُ ماء؟!

- أجل ماء. أجابها متفحصاً.


فتحت باب الثلاجة من جديد، سكبت الماء في الكأس، ها هو يطفو ويلامس حافته.


مدتهُ إليه بيدٍ ترتعش، الماء قد بدأ ينسكب شيئاً فشيئاً على الأرض واليد لا تتوقف عن الاهتزاز...


تقدم منها ببطء، العينان الخضراوان تعكسان شيئاً غريباً، تكادان تنطقان:


لماذا؟!


مدّ يدهُ هو الآخر، تابعت هذه اليد الممدودة وهي تقترب ببطء، أنامله كادت تصل ولم يتبقى من الكأس إلا ثلثه!!!


وما أن مسّت أصابعه حافته حتى أسقطته، وانتثر زجاجه على البلاط..


شهقت وهي تلطمُ وجهها، أخذت تنظر بهلع إليه وإلى الزجاج، هزت رأسها بجنون نافيةً وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:


- لم أقصد أنا..لم أقصد..

- لا بأس..لايـهم.


واقترب منها محاولةً تهدئتها، صرخت بجزع وهي تحمي نفسها بيديها:

- لا تضربني..

- لن أضربك..


لكنها لم تكن تسمع، لازالت تتراجع ويديها تغطيان وجهها برعب.


وأحاطها بذراعيه بقوة، رغم احتاجها، رغم ممانعتها، رغم الخدوش التي خدشتهُ بها!!!!


لازالت تقاوم، كلبؤة هي...


كلبؤة أم طيرٍ جريح؟!!!


هزها من ذراعيها بقوة لعلها توقف صراعها المحموم معه...


أجنحة الفراشة تتكسر، تذوي واللهب لازال مشتعلاً، لازال يتراقص بخفوت فوق ذُبالته...


عادت لتسأله بوهن من بين دموعها:

- ماذا تريد؟!

- قلتُ لكِ لا أريدُ شيئاً..



عاد ليضمها بقوة ليطفأ مقاومتها الأخيرة، فالجسد بات واهناً، أضعف من أن يقف صامداً أمام اللهب!!


بكت كثيراً على صدره، يدها لاتزال تهوي على كتفيه بهون، والشهقات لا تتوقف..


أيُّ زمنٍ توقف لتلك الصورة الفريدة....


أتراها ستتكرر؟!


صوت بكائها يخفت، يذوي كذُبالة الأمس، واليد تتوقف...


وهناك، في سمرة الليل، عينان تسمرتا:

- "عمر"..."غدير"!!!

نزعت "غدير" نفسها وهي تشهق من صوت الأب المستنكر....

أخذت تجول بصرها بين الأثنين بذهول، بتعجب، دهشةً هي من نفسها...


وحين أفاقت، ركضت إلى غرفتها وهي تتخطى صوت الأب المستنكر...




الريح تصفر في الخارج....


وقد بدت نجوم السماء قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد....


وهناك في غرفةٍ ليست ببعيدة، انساب نشيج يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر!!!


ويبقى صوتُ الأب هو الفاصل...


تُرى ماذا تحمل الأيام القادمة لـــ:

غدير، عمر، ندى؟!!!

انتظروني....

لاأنااام...

أبعدتُ عنك سيدي فؤادي
فارجع إلى طبائعِ الاستبدادِ

اغضب وصح فلن يضجّ مسمعي
لأنني أسمعُ في حيادِ

الحبُّ مات بيننا لأنهُ
لا حُبّ بين العبدِ والأسيادِ!!


===============

(8)


أناملها تلامس شفتيها المرتجفتين وقد ارتكزت بإحدى يديها على سطح الأرض بضعف...


هي لا تصدق ما حدث للتو!!


كيف حدث ذلك؟!


هو السبب، ذلك الغشاش المخادع يخالني لا أعرفه، لا أفهمه، لكن لا...


لا وألفُ لا، سأحاربه....سأٌقاومه حتى آخر رمقٍ لي..


لأنني...لأنني أكرهه!!


أكرهه وكفى!!


امتدت أصابعها لخدها وهي تهزُّ رأسها، الدموع تملأ الوجه المعذب، تحفر في حناياه شيئاً، والخطوط تتضح لتكون معلَماً,,


السطور تُرسم، والوجه صفحة، يحتاج لمن يفهمه ويقرأه....


عادت لتهز رأسها غير مصدقة....


الحروف تتبعثر، والكلمات تتلاشى وتبتعد هناك، حيثُ لا قلم، لا حبر، لا سطور!!


همست لنفسها بخوف:

- و خالي، ماذا سيقول عني الآن؟!!

- ماذا سيفعل؟!

- رحماك يا رب رحماك....


نجوم السماء تتراءى من خلف زجاج النافذة، ها هي تنبض بقوة ووضوح، في نورها أمل وألم!!!


اتجهت لفراشها وهي تحيطُ نفسها بدثارها، لعلها تشعر بالأمان قليلاً، قلبها لم يتوقف عن الدق بعنف، بجنون...


أخذت تطمأن نفسها:


ما حدث كان كذبة، كذبة سقيمة من تخيلاتي...


لا بد أنني كنتُ أحلم، أتوهم...


ولكن....


كيف حدث ذلك أخبروني، كيف؟؟!!


الجبين لازال يتصفد عرقاً رغم الجو المكيف، وباب الغرفة المجاورة لم يُوصد بعد!!!



=================


- "غدير" انهضي..

- ............

- غدير!!

ردت دون أن تفتح عينيها، الصوتُ كان متعباً، راحلاً منذُ الأمس:

- ماذا تريدين؟!

- هيا افطري.

- لا أريد.


"لا أريدُ شيئاً، لا أريد أن أراهم، لا أريدُ أن أرى خالي".

- أيتها الكسولة!!

- أريدُ أن أنام.


"لم يصافحني الكرى منذُ الأمس، هو السبب، هو الغشاش، المخادع".


وعادت لتتدثر من جديد...


الهجوع نعمة، لا يقدرها إلا المحرومون!!


==============




- هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. تتمتعين بلباقة الحديث وتستفيدين من قوة إقناع مميزة تجعلك محط أنظار العديد من الأشخاص.



رفعت "ندى" رأسها عن الجريدة بزهو وهي تبتسم لصُحيباتها، ثم أردفت بخيلاء وهي تضم خصلة نشزت سهواً من حجابها للداخل:


- كم أحب "الأبراج" تشعرني بالتفاؤل.


- أنا لا أصدقها. ردت "جميلة".


"أكيد لن تصدقيها لأنكِ حقودة وحسودة، ولو كان طالعي اليوم سيئاً لقلتِ آميين!!".



- ندى، أقرأي برج المدير.. خاطبتها "أشجان".

- من أي برجٍ هو؟!


- من برج الحمل..


فتحت "ندى" عينيها دهشة في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ضحكت بإستهزاء:


- الحمل؟!!! ظننته من برج "الثور"، برج "أم دويس"، برج "الله وأكبر عليك يا الظالم"...


ثم أكملت وهي ترفع الجريدة لأعلى:


- اسمعن "برج الوحش" ماذا يقول اليوم: تتجه إلى إقامة علاقات فوضوية. كن صادقاً مع نفسك واعطِ قلبك فرصة ليدق دقاته الحقيقية..


ولم تكمل، إذ غرقت في نوبة هستيرية من الطراز الأول:


- قلبه يدق؟! أشك..أشك إن كان لدى هذا الرجل قلبٌ أصلاً..


وألقت الجريدة ووجهها يتضرج احمراراً من شدة الضحك:


- مسكينــ .....



لكنها توقفت فجأة ما أن رأت وجه "أشجان" الذي تغير فجأة والتي راحت تدفن رأسها في الأوراق الموضوعة أمامها، ولم تفتها تلك الابتسامة الخبيثة التي لاحت على شفتي "جميلة"..


وبلا شعور صدت للباب، ورأتهُ واقفاً وقد ضمّ قبضته لجانبه وانحرف فمه بزاوية حادة...


وضعت يدها على فمها وهي تشهق وتسب نفسها في سرها ومن أخترع الأبراج ووضعها في الجرائد!!!


- أ..أ...أ.. هذا كان..كان برجي أنا. وابتسمت ببلاهة وهي تشير لصحيباتها كي يؤيدنها لكن أحداً منهن لم تنطق بكلمة.


ملامح وجهه الجامدة جعلتها تزدرد ريقها وتبتلع ابتسامتها البلهاء.


- تعالي إلى المكتب فوراً. قالها بصوتٍ آمر مليء بالوعيد.


وانصرف إلى الداخل..


- ماذا أفعل، أشيروا علي، ثم لماذا لم تخبروني، أشهد ألا إله إلا الله، منذُ زمن والنحس مكتوب على جبينك يا "ندى".


وأخذت تندب حظها العاثر و"أشجان" تحاول تهدئتها:


- لقد جاء على حين غرة، ثم لقد أشرتُ عليكِ بأن تتوقفي لكن صفحة الجريدة كانت تغطي وجهك بأكمله.


- ماذا يقول برجكِ اليوم: هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. قالتها "جميلة" بإستهزاء وتشفٍ، ثم أردفت:


- صدق تعالى حين قال "كذب المنجمون ولو صدقوا".


لم ترد عليها "ندى" بل أخذت تحدجها بنظرة نارية وهي تود لو تنقض عليها وتملأ وجهها بعلامات خضراء وزرقاء بدلاً من ألوان المكياج التي تصبغ بها وجهها كل يوم.


التفتت لأشجان وهي تسألها:

- ماذا أفعل الآن؟!

- أذهبي له الآن..

- ماذا؟!


وكأن أفعى لدغتها، أحنت جذعها لتحكم إرتداء لحذائها، قالت دون أن ترفع رأسها:


- أذهب إليه وهو في هذه الحالة؟!! مستحيل.


وسحبت حقيبتها والجريدة بعد أن جعدتها بغيظ:


- أنا سأعود إلى البيت الآن، بعد يومين لدي حفلة إحدى قريباتي و أريد أن أذهب هناك وأنا سليمة، مع السلامة.


- انتظري...


- قولي له معدتها آلمتها، أخاها عاد من السفر، دهستها سيارة، أي شئ...



وانصرفت عنهم وهي تهرول حامدةً نجاتها، تاركةً بركان الغضب ينتظرها هناك لوحده!!!



===========



سمعت طرقاً على الباب، عادت لتتدثر وتصمّ آذانها وتتظاهر بالنوم من جديد:


- "غدير" هذا أنا خالك افتحي الباب.


فزّت من فراشها وقد بدأت تقضم أظافرها دون شعور:

- غدير!!

- لحظة، لحظة، سأفتح الآن..


تلكأت كثيراً قبل أن تمسك إكرة الباب، طأطأت رأسها وهي تتحاشى النظر إليه....


جلس على الكرسي المقابل للمنضدة أما هي فاحتارت...


أتقف أم تجلس على حافة السرير، أم ترمي بنفسها من النافذة وترتاح من الموقف برمته!!!!


كان يتأملها، ويتأمل علامات الشعور بالذنب الذي أنطبعت على وجهها حمراء قانية...



الصمت بينهما طال، كلاهما سارحٌ بفكره، ولكن ما أصعب الانتظار..


الكلمات لا بد أن تُراق بسرعة، بسرعة، حتى يكون أثرها قاضياً مميتاً، ربما بعدها يلتأم الجرح دفعة واحدة!!


والنزف، النزف فلتكن حذراً منه، إياك أن تقترب منه، فغبار الأيام كفيلة بأن تثيره، وتجدد ثوب حزنه من جديد...


لكن المشكلة تكمن في نوع الجرح، أليس كذلك؟!


أهي جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!


طال الصمت وآن لهُ أن يقطع، والمجرم لا بد له أن يتكلم، أثمه يخنقه، يضيق عليه الخناق...


دعه يتحدث لعل مطرقة الضمير تتنحى عنه، فلقد أعياها وأثقل همها..


الحروف تخرج مترددة، مبعثرة، خجلة هي من نفسها:


- خالي، أنا..أنا...


لكنها لم تستطع أن تكمل، ماذا تريدونها أن تقول؟!

تنهد وهو يربت على ركبته:

- بعد الذي حدث البارحة لا بُد أن يتمم هذا الزواج.


- لا أرييييييد.


وانكبت على قدميه وهي تنتحب:

- لن أخرج من هنا حتى، سأحبس نفسي، ولكن لا، لا توافق يا خالي.

- لماذا يا ابنتي كل هذا؟! لماذا تتعبين نفسك وتتعبيني؟!


- أنا قلتُ لك، نحنُ..نحنُ مختلفان.

- لكنكما تزوجتما وانتهى الأمر، ليس من المعقول أن تبقيا هكذا للأبد.

- ..................

- ثم لا بد أن تتابعا حياتكما، كلٌّ له حق بأن يعيش..

- فليكمل هو حياته، أنا مرتاحة هكذا، فليطلقني، أجل يطلقني ويذهب كلٌّ في حال سبيله.


- ماذا تقولين؟! لم يمر أسبوع واحد على قرانك وتريدين الطلاق؟! وبهذا السن الصغيرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.


"ليتني لم أوافق منذ الأساس، ليتني"..


- أنا أقبل بأي شئ إلا هذا، أتوسل إليك يا خالي، أتوسل إليك.


ودفنت رأسها بين قدميه، وهي تتشبث به بإستعطاف...


جثا للأرض وهو يمسحُ على شعرها، رفع وجهها المبلل بالدموع:

- لا تتوسلي يا ابنتي، وسيكونُ لكِ ما تريدين، ولكن اعلمي ستكون هذه آخر فرصة لكما، إن تكرر ما حدث بالأمس، سأبتُ في الأمر.


- حـــ....حسناً..


ربت على ظهرها لكي تقف على قدميها من جديد...


كان يتنهد كل حين وكأن شيئاً يضايقه، وكأن الأمر برمته لا يعجبه....

- هيا قومي لتتناولي إفطارك.


- لا أريد...ليس الآن.

"ربما لحين أن يذهب ذاك إلى عمله".


- طيب سأترككِ، ولا حاجة لأن تحبسي نفسكِ هنا.


هزت رأسها بإيجاب دون أن تؤمن فعلاً بإماءتها...


وما أن خرج وابتعدت خطواته حتى أوصدت باب غرفتها من جديد...


تنهدت هي الأخرى وهي تلهج بالحمد، لقد نجت بأعجوبة!!!


لكن تنهيدتها لم تكتمل، إذ سرعان ما سمعت صوت "عمر" يرتفع شيئاً فشيئاً، وكان يقول شيئاً عنها...

أخذت تدور في الغرفة بتوتر وهي تقضم أظافرها من جديد، وما هي إلا ثواني حتى سمعت طرقاً عنيفاً على الباب..


توقفت في مكانها وقد أخذ منها الخوف مأخذاً كبيراً...

- من؟!

- لا تتظاهري بالغباء.

- ماذا.. ماذا تريد؟

- أحقاً لا تعرفين!! صاح فيها بشراسة.

- قلتُ لك لا تتعب نفسك معي.

- أنتِ مجنونة.

- أجل مجنونة، أتريدُ الزواج بمجنونة؟!

- بودي ذلك كي أعالجك.

- أليس لديك كرامة، أقولُ لك لا أريدك، لا أريدك، أتريدني أن أصرخ عالياً علك تفهم.

- اسمعيني هذا الزواج سيكتمل شأتِ أم أبيتِ، وتوجد طرق كثيرة لإجبارك على ذلك..

- أنت شخص لا تُطاق.


- لديكِ 4 جدران في غرفتك، أليس كذلك؟!


لم تفهم مغزى سؤاله لكن أجابته بنعم.

- وباب أيضاً؟!

- نــ..عم..

- اضربي رأسكِ بأياً منهم.



وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...


مستحيل، هذا الرجل مستحيل!!



وقطع صوت ندى خيالاتها...

- لحظة، لحظة.

ولجت إلى الداخل وهي تتنفس بسرعة:

- أعوذُ بالله..

نظرت إليا "غدير" بتساؤل:


- بعلك العزيز كان سيقطع رأسي منذُ قليل.


تجاهلت "غدير" كلمة "بعلك" وعادت لتستفسر:

- لماذا؟!

- لأنني سألتهُ كيف حالك!!


ثم أردفت وهي تلقي بنفسها على السرير:

- الإجرام تفشى في كل مكان، في البيت، وفي المكتب..


أخذت "ندى" تثرثر عما حدث لها اليوم، والأخيرة لا تسمع، كان ذهنها منصرف للذاهب منذُ قليل، في حديثه، في تهديده المبطن...


أتراها ستنجو فعلاً؟!

أتمنى ذلك.....


==============

عاشقة الكتب 24-05-07 04:32 PM

- لكنك وعدتني.

- لقد اتفقنا بعد شهر وليس بعد مرور أسبوع!!!


- أنت لا تفهم، لم لا تحس بي، لم تستصغر هذا الأمر، أينما التقيتُ إحدى صديقاتي يسألنني: ألم تحملي بعد؟! وأمي تسألني وأقاربي كذلك، أكادُ أجن..


- .........................


- وأنت ليس لديك إلا اصبري واصبري، لم أنت خائف هكذا؟!


وانتفض "ناصر" في مكانه وكأن أفعى لدغته:

- ماذا تعنين بحديثكِ هذا؟!


صمتت وكأنها أحست بفداحة ما قالته، لكنهُ لم يمهلها لتعتذر:

- لا تظنيني من هؤلاء الرجال الذين يقيسون الرجولة بهذا الشئ، لو كان بي عيباً لكنتُ أول من أخبرتك..


- "ناصر" أنا...

- يكفي، لقد أفضتِ أم لديكِ المزيد؟!


طأطأت "شيماء" رأسها خجلة من نفسها:

- على العموم سيكونُ لكِ ما تريدين، واليوم إذا شأتِ حتى لا تظني أني أتهرب..


- أ..أ.. اليوم سنشتري فساتين لحفلة الغد.


- ..........................

- ألن تذهب بي إلى السوق؟


- ...............

- ناصر؟!

- نعم. رد بضيق.

- هل أنت غاضب مني؟

- كلا.


- ناصر، لا تكن قاسياً علي هكذا.


واقتربت منه وهي تذرف "دموع التماسيح"، قالت بإستكانة:


- إذا لم تسامحني فلن أذهب لحفلة الغد.


ولأنهُ يعرفها، أخذ يجاريها وهو يخفي ابتسامته:

- لا تذهبي..

- هذا يعني أنك لم تسامحني.

- بل سامحتك، ولكن لا تذهبي.

- ولكن، ولكن، "ندى" ستذهب، حتى "غدير" ستذهب هي الأخرى، ماذا سيقول عني الناس؟!

- قولي هذا من البداية..

- ناصر!!

- آه منكن!!!




=============


- هيا يا غدير لقد تأخرنا.

- لا أريد..لا أدري.

- تريدين أن تبقي لوحدك في البيت مساء الغد.

- لا.

- إذن؟!

- من سيوصلكم؟!


- قلتُ لكِ ألف مرة "ناصر" و "عمر".

- ولم لا يوصلنا "ناصر" فقط؟

- وهل سيبقى "ناصر" لوحده في المجمع ونحنُ ندور في المحلات!!


سحبت "غدير" خمارها وهي تدمدم، إنها خائفة من مقابلته وجهاً لوجه بعد آخر حوار دار بينهما، لكنهم ليسوا لوحدهم، سيكون الجميع معهم....


سارت وهي تطمأن نفسها، ألقت السلام بصوتٍ لا يكاد يبين وهي تلج داخل السيارة...


كانوا يتسامرون ويتضاحكون حتى هو، وكأن شيئاً لم يكن!!


بقيت صامتة وهي تنصت لأحاديثهم وعينها على المرآة والسائق!!!

"حتى لم ينظر إلي، غريبٌ أمره"..


ووصلوا إلى مجمع "..."، تقدمت النسوة أماماً والرجال يتبعنهم، لم يتركوا ركناً إلا دخلوه...


كانت "غدير" تتابع بملل الملابس المعروضة بعكس "شيماء" و "ندى" اللتان أخذتا تبحثان بحماس عما يليق وفي أيديهم عشرات القطع!!!


ولفت انتباهها فستاناً ما، اقتربت لتتفحصه...


لونه أسود بغموض الليل، ملمسه أثيري ينزلق بسرعة عند لمسه...


كان بسيطاً في تصميمه، حتى التطريز لم يكن ملفتاً للنظر...


أخذت تقلبه وقد بدأ يروقها، لكن شيئاً ما فيه استوقفها وجعل يدها تتوقف فجأة!!


"لا يوجد شئ كامل، لا يوجد، حتى الفساتين!!"..


- ماذا؟! هل أعجبكِ هذا الفستان؟! سألتها "ندى" وهي تتفحصه هي الأخرى.

- إنه جميل، لكن....

- لكن ماذا؟! لا تتعللي، لقد حل المغرب الآن، والحفلة غداً وليس بعد أسبوع.

- لو كان مقفلاً من الخلف لأخذته..

- وماذا في ذلك؟!


- أنا لا أحب هذا النوع من الملابس.

- أيتها الغبية، تلك كانت ملابس جدتي، ثم كل الفتيات يرتدين هكذا، ألم تشهدي أعراساً من قبل.


"بلى، بلى شهدتُ واحداً، وكان عرسي!!"...

- كلا، سأبحث لي عن شئ آخر..

- انتظري لا تتركيه، إن ابتعدتِ عنه الآن، لن تجديه، سيتخطفهُ غيرك...


"هذا فستان أم قطعة لحمة؟!"...


- اسمعي، بوسعك أن ترتدي عليه وشاحاً بمثل لونه، لدي واحد في خزانتي..

- ألم تنتهين بعد، لقد أصابني الدوار من السير وراءكن.


أتاهم صوت "عمر" مزمجراً من الخلف، فغضت "غدير" بصرها بإرتباك، ردت "ندى" مدافعةً عن نفسها:

- أنا قد انتهيت و "شيماء" منذُ قليل، زوجتك هي من أخرتنا..


لكزتها هذه الأخيرة بمرفقها، فصاحت متوجعة، أما "عمر" فلانت ملامحه الغاضبة وقال بهدوء:

- ألم يعجبكِ شئ؟!


تطلعت "غدير" إلى "ندى" لكأن تنتظر منها أن ترد.


- إنهُ يسألكِ أنتِ وليس أنا.

تطلعت للأرض وهي تهمهم بصوت غير مسموع...


خاطبت "ندى" أخيها بعد أن امتنعت تلك عن الكلام:


- لقد أعجبها هذا الفستان لكنها تقول...

ولم تكمل، إذ سرعان ما وضعت "غدير" كفها بسرعة على فم "ندى" مانعةً إياها من أن تنطق المزيد..


تطلعت إليه لأول مرة منذُ الأمس ووجهها يتضرج إحمراراً:

- سآخذه، لقد انتهيت من الشراء، أليس كذلك؟!


هزت "ندى" رأسها بالإيجاب وهي تكاد تختنق...


أما "عمر" فقد بقي ينظر إليهما بدهشة وهما تبتعدان وكلٌّ منهما تدفع الأخرى...



وجالت عبارة "أصحاب العقول في راحة!!!" في ذهنه طويلاً....


تُرى من قالها؟!!


===========



وضعت "ندى" العذر الطبي الذي أخذته بالأمس من الطبيب في حقيبتها كي لا تنساهُ في الغد....


لقد غابت يومين كاملين عن العمل بحجة المرض ، وأغلقت هاتفها كي لا تتصل لها تلك "العقربة" أو "أشجان" ويخبرنها بردة فعل المدير فتفسدان عليها فرحتها...


فلتهنأ براحة البال ولو مؤقتاً، فالليلة حفلة ولا بد أن تكون هي النجمة بلا منازع!!!


أخذت تتطلع إلى نفسها في المرآة، تستوثق من ملابسها و مكياجها، تضيف وتمسح، وهكذا دواليك!!


وفي الجانب الآخر، كانت "غدير" حابسةً نفسها في الحمام، لا تفتأ أن تثبت الوشاح حولها بضيق، فوجوده أو عدم وجوده سيان!!!


ماذا تفعل الآن؟!


إنها لا تتبع إحساسها، لا تتبع حدس الأنثى أبداً!!


كيف ستخرج، مستحيل أن تذهب هكذا، هذا من رابع المستحيلات!!

ودت أن تلقيه في القمامة، لكنها استدركت نفسها، فهو ليس ملكها...


فتحت إكرة الباب وهي تنادي:

- "ندى"...

- نعم، ماذا تريدين؟

- وشاحك هذا لا ينفع؟!

ردت عليها وهي تعقص رموشها:

- إذن لا تلبسيه.

- ماذا؟!

- لم تعطين المسألة أكبر من حجمها الحقيقي، يا ماما هذه حفلة نسائية..


- أنتِ لا تفهمين..

- أفهم ماذا؟!


- لا شئ...
-

- لم أتوقعكِ هكذا من العصر الحجري مثل مديرنا.. قالتها بصوت هامس، ثم هزت رأسها لكأنها تريد أن تنفض ذكراه من ذهنها.


- والحل؟! سألتها بنفاذ صبر.

- أخرجي وسأجد لكِ حلاً بإذن الله..


ترددت "غدير" كثيراً في الخروج، لكن ما باليد حيلة، لفت الوشاح عليها من جديد وهي تمسكه من الخلف كل حين...


وما أن خرجت حتى صفرت "ندى" تصفيرة إعجاب "فاشلة":

- تبدين رائعة.

- شكراً. ردت "غدير" بتواضع، ثم أردفت:

- وأنتِ أيضاً.

تطلعت "ندى" لنفسها بزهو في المرآة وهي تقول وابتسامة كبيرة على وجهها:

- بالتأكيد هذا أمر لا نقاش فيه!!!!!!!

- والآن جدي لي حلاً يا "أبو العريف"..

- استديري لأرى..


- اعطني وشاحاً آخر أكبر من هذا فقط..

- ما بك؟ سأتأكد أولاً أي الأحجام تناسبك..


عادت "غدير" لتثبت الوشاح جيداً بيدها اليمنى بإرتباك، ونظرات "ندى" المستغربة لم تساعدها...

- أ..أ..ستــ..ستعطيني وشاحاً آخر أم..أم لا؟


هزت "ندى" كتفيها وهي تتنهد من غريبة الأطوار هذه:

- لحظة واحدة...

فتشت في ملابسها المبعثرة إلى أن وجدت شيئاً مناسباً..

- خذي هذا..

تناولته منها بسرعة، وعادت للحمام مرة أخرى ونظرات ندى التي كادت أن تقع تلاحقها...


وأخيراً خرجت وفي وجهها شئ من الرضا وكثير من الإحراج...


لكن "ندى" لم تعلق وعادت ترتب خصلات شعرها المتناثرة بتمعن مصطنع..


جثت "غدير" لتبحث عن حذائها الأسود المخبئ أسفل سريرها، وبينما هي منشغلة في البحث، غافلتها "ندى" بحركة مفاجئة وسحبت وشاحها، وهي تضحك بلؤم:

- ألديك وشــم أم...


لكن ضحكتها لم تكتمل، إذ سرعان ما شهقت بقوة وهي تسقط الوشاح من يدها...


وضعت يدها على فمها وهي تتراجع إلى الخلف حتى اصطدمت بالباب:

- آنا آسفة، لم...لم أقصد، يا إلهــي...


وفرّت من الغرفة وهي تحبس دمعة خانتها على حين غرة...


أما تلك القابعة ليس ببعيد، بقيت هكذا ردحاً من الزمن جامدة في مكانها وهي تمسك ذلك الوشاح المتطاير...



الأيام لا تخبئ أحداً، أليس كذلك؟!!




كانت يدها اليسرى ممتدة على حافة السرير، و الأخرى قابضة على عنقها المطرق إلى الأرض بوهن.


نظرت بذبول إلى القدمين اللتين اقتربتا منها بوجل، رفعت رأسها فجأة فاصطدمت بتلك العينين الخضراوين، في مرآتهما تساؤل وشفقة و......!!!!


ابتعدت لاشعورياً عن السرير وجسدها يرجف من الهلع، دنا منها فصاحت بصوتٍ مبحوح:


- ماذا تريد أنت الآخر؟!


- لم آتِ لشيء، اطمأني..


- أ..أخرج، أخرج من هنا.


- أريني ما بظهرك أولاً.


- ليس بي شئ أتسمع.


- لا تخافي لن أفعل شيئاً، لن أقترب حتى، أريني من بعيد.


تراجعت إلى الوراء وهي تضم يديها خلفها، لصقت نفسها بالجدار وصدرها يعلو ويهبط بقوة واحتقان...


- لا تقترب مني ولن أريك شيئاً، أخرج من هنا، أرجوك أخرج....


- لن أخرج قبل أن أطمأن عليكِ..

- قلتُ لك ليس بي شيء.

- إذن أريني...


جالت ببصرها حول الغرفة بيأس، ثم نظرت إليه وهي تقول له بإستعطاف:


- أرجوك أخرج قبل أن يأتي خالي، أتوسل إليك.


لم تنتبه إلى وشاحها الحريري الذي انحسر فجأة عن كتفيها، ملس بسهولة، انزلق حتى وصل لأصابع قدمها ثم تدحرج بعيداً عنها......


حاولت أن تثني جذعها لتلتقطه، لتلفه عليها من جديد، لكنه سيراها، سيرى ما بها، تطلعت إلى الوشاح بعجز ثم هزت رأسها بألم.



ركع للأرض وانتشله، نظر إليه مطولاً ثم مده إليها، يداها لاتزالان مضمومتان إلى الخلف، تحيطان بظهرها، نزعت إحداها وهي تشعر بالثقل، مدتها وما أن لامست أصابعه حتى شدها إليه وبقوة......




ارتطمت به بفعل القصور الذاتي، مسكها من كتفيها كي لا تسقط، حاولت أن تبعده، أن تدفعه، لكن يداه كانتا كالصخر...


ضربته بما تبقى لها من قوةٍ متلاشية، ضربته بجنون وهي تحاول التملص منه....

صرَّ على أسنانه وهو يهزها:


- اهدأي ...


- دعني، خاليييييييييييي.


لم ينصت لها، أدارها ليرى ما كانت تخفيه، مرّت ثانية و لم تشعر إلا بوقع أصابعه تنغرز بقوة على كتفيها...


الجسد يرجف، ينوءُ بما يحمل، سكنت عن المقاومة، اهتز جسدها بقوة ويداه لازالتا مثبتتين تمنعها من السقوط أو الهرب....


بكت بصمت وإن أفلت منها صوتٌ متقطع...


أحست بالعار، بالمهانة، ها هم اكتشفوا أحد أسرارها الخاصة بها وبأوراق دفترها، ماذا سيبقى لها بعد إذن؟!!


أتاها صوتهُ أجشاً كابتاً إنفعاله:

- من فعل بكِ هذا؟

غطت وجهها بكفيها، أتاه صوتها متقطعاً، راحلاً، غائباً في زمن لا يملك إلا الغبار!!!


- لا...لا أحد..

- كفي عن الكذب.


حاولت أن تبتعد عنه.


ردّ بإصرار:


- ليس قبل أن تخبريني، حميد، أليس كذلك؟


سكنت حركتها وكأن اسمه كان كفيلاً بإيقاف أي شئ، أي شئ...


- متى وكيف ولماذا؟ أجيبي...


الأسئلة تتوالى، تتدافع بقوة زخات المطر، وسيلان السم!!!


الجروحُ تنكأ، والماضي يُنبش، ولم يتبقى من الورق الشئ الكثير!!!


أمسكت عنقها وهي تشعر بالإختناق، أدارها لتنظر إليه....


أبعد يدها عن جيدها:


- أخبريني بما حدث..

- ليس لدي شئ لأخبرك إياه.


عاد ليهزها من جديد، لكنها كانت تصرُّ على شفتيها من جديد:

- لن أدعكِ إلا بعد أن تخبريني بما حدث.


- ماذا أقولُ لك. صاحت في وجهه وقد عادت إليها نوبة الشراسة.


- أبي قد يأتي في أي لحظة!!! قالها بتهديد.


عادت لتحاول سحب يدها وهي تنادي بندى وشيماء لكن أحداً منهن لم يكن ليسمعها...


تطلعت إلى العينين الصارمتين بيأس وهي تتلفت كل حين خشية أن يأتي خالها، صرخت بألم:

- تريد أن تعرف؟!

- أجل. رد بهدوء.

تنفست بتقطع وهي تطالع البعيد:

- هو طلب مني أن أكوي له ثوبه، صدقني لم أكن أقصد أن أحرقه، لا بل قصدت، لا بل لم أكن أقصد، كنتُ أتمنى حرقه في خاطري ولا أدري كيف أحترق..


أرخى ذراعيه شيئاً فشيئاً فهامت روحها، ارتحلت لبضع سنين إلى الوراء، حين كانت تملك جديلتين، جديلتين فقط!!!


الصوت يبتعد، يخبو، والعينين تدكنان وتعكسان صفحة ألم:


- ضربني ووضع المكواة على ظهري و....

ورفعت رأسها إليه وهي تردد ببطء، ثم ما لبثت أن هزت رأسها بعصبية:

- حرقني، حرقني، طبع على ظهري العلامة الكريهة، بتُ أكره نفسي، أكره أن أراها في المرآة...


شدته من ياقة قميصه بعنف، الصور تتضح، تومض وتنطفئ، ولم يتبق من الألوان إلا الأبيض والأسود!!


- وهي، هي، لم تفعل شيئاً، لم تقل له شيئاً، فقط وضعت لي مرهماً، حتى المستشفى لم يرضى أن تأخذني إليها، وتقول لي إنها أمك، وهي مسكينة!!!!


وحينها فقط أفلت يدها....


وانزوت بجانب سريرها تبكي بصمت...


بقيا هكذا زمناً ليس بطويلاً...


جثا بجانبها وبيده وشاحها، خاطبها بحنان:


- خذي، ارتدي هذه وامسحي دموعك.


لكنها لم تستجب، فألقاه في حجرها وهي تزداد انكماشاً..

- هيا قومي، لقد بدأ الحفل..

- لن أذهب.

- بل ستذهبين.


رفعت رأسها، وقد بانت ابتسامة على محياه بين غلالة دموعها..

- ألا تريدين أن ينبهر الجميع بجمالك كما تقول "ندى"..


أشاحت بوجهها كي لا ترى عيناه، كي لا تؤثرانِ بها!!!


مدّ لها منديلاً ورقياً، فأخذت تمسح وجهها، لكن ما أن رأت ما علق به حتى شهقت:

- مكياجي؟!


رفع كتفيه بإستسلام، أن لا حيلة لي...


وأنهضت نفسها بسرعة وهي تنظر لنفسها في المرآة، لكن صوت استنكارها احتبس في حلقها، بعد أن رأت صورته بجانبها....


كسا اللون الزهري وجهها، فعادت لتتلعثم:

- لو سمحت...

- ماذا؟
- أخرج من هنا..

- لماذا؟!!!

- لأسباب كثيرة..

- مثلُ ماذا؟!


تطلعت إليه بحنق من أسئلته السخيفة، ثم عادت لتصرخ:

- هيا أخرج...


وابتسم لها بإغاظة وهو يشير لها بعينيه الأثنتين..


تابعته إلى أن وصل الباب، لكنهُ تلكأ وعاد ليقول:

- لقد نسيتُ شيئاً..

- ماذا؟!


- أن أقول أنكِ تبدين جميلة جداً هذا المساء....


وانصرف!!!


وأُسقط في يدها....



"صدقني يا عمر، أنا لا أستحقك!!!!!"....




=================


علا كثيراً بيننا الغبارُ
وضيّع اليقين الاستكبارُ


فأنت لم تنجح أمامي مرةً
وكل يومٍ بيننا اختبارُ

ما عدتُ أدري هل أقول: يا أخي
بالحبّ أم أقول: يا جبّارُ!!!


==============
(9)



وصلت "ندى" وقلبها المخلوع يسبقها إلى الشركة، أخذت تفتح شنطتها كل حين لتتأكد من وجود العذر...


استقبلتها "أشجان" عند الباب بحرارة وهي تضربها على كتفها بخفة:


- لقد اشتقنا لكِ كثيراً، العمل ممل بدونك، هذه آخر مرة تغيبين فيها..

- ليس باليد حيلة، تعرفين كانت لدينا حفلة..


وتطلعت إلى "العقربة" التي كانت تحدجها بطرف عينها وهي تمطُّ شفتيها:


- لديكم حفلة أم خائفة مما جنتهُ يداكِ؟!

- أنا لم أفعل شيئاً لكي أخاف، أسمعتي؟!


- ولم وجهك مخطوف هكذا إذن؟!

- من رؤية وجهك السمج.

- ومن تحسبين نفسك؟! السفيرة عزيزة. قالتها بسخرية.



أمسكتها "أشجان" قبل أن تنقض عليها بأظافرها:

- ابتعدي عني، دعيني أؤدبها..

- أدبي نفسكِ أولاً..

- لا، هذا كثير..


وأفلتت من قبضة "أشجان" وهي تتوجه إليها كالسيل الهادر، غرست إصبعاً غاضبة في جبهتها وهي تقول بتهديد:


- لقد تغاضيتُ عنكِ كثيراً، ليس لشخصك فأنتِ بالنسبة لي لا شئ، ولكن احتراماً لذاتي لأن ليس من مقامي أن أُخاطب مثلك..


أبعدت "جميلة" إصبعها بقرف:


- و مثلك لا يشرفني أن تلمسيه.


- لأنكِ قذرة.


- أنتِ قليلة أدب.


ردت عليها ببرود:

- والدي رباني جيداً، ليس مثلك أخرج كل يوم أمام الرجال بهذا الوجه المصبوغ.


هرعت "أشجان" لتقف بينهما كي لا يتطور النقاش أكثر:

- أهدأن، هذا الكلام لا يجوز.


وتعالى صراخ الفتاتان وكلٌّ منهما تشتم الأخرى بقاموسها الخاص دون أن يبالين بصياح "أشجان" الغارقة بين دفتي بركان..


خرج المدير بعد أن وصل الأمر بينهما إلى تكسير المزهريات وتقذيف الأقلام!!


- ماذا يجري هنا؟! صاح بغضب.


- هي من بدأت أولاً. ردت "ندى" وهي تلهث.

- كذابة.


- أتنعتينني بالكذب؟!


- أصمتا كلاكما، ألا تخجلن من أنفسكن في هذا السن وتتشاجرن!!!


- هي من تفتعل المشكلات دائماً، انظر حتى أظافري تكسرت.



وقربت "ندى" يديها من وجهه وهو يطالعها بإستغراب:


- لقد دفعت 4 دنانير بأكملها من أجل "الم****ير". قالتها بحرقة.


وصمت مشدوهاً من تصرفاتها الخرقاء، ثم ما لبث أن قال بحزم:


- أنت ِتعالي إلى مكتبي.


- ولم أنا دائماً؟! صاحت بإستنكار.



حدجها بنظرة ما فأسبلت عينيها بذل...


"أيها الظالم"..


- هيا تحركي.

- سألحقك بعد قليل أستاذ. ردت بإستكانة.


- بل الآن، أم تريدين أن تهربي كالمرة السابقة.


صمتت "ندى" وهي تبتلع كل شئ، لسانها، قهرها، وابتسامة تلك العقربة الخبيثة.




سارت أمامه وكأنها سجينة، أوصد الباب خلفه فقرأت الفاتحة في سرها ونطقت الشهادتين !!!


جلس على كرسيه الوثير، وبقيت هي واقفة بذّل دون أن تفوتها نظراته المتفحصة...


أتاها صوته خالياً من أي تعبير:


- أيمكنكِ أن تخبريني لم غبتِ؟

- كنتُ..كنتُ مريضة، لحظة...


وأخذت تفتش في حقيبتها عن العذر، لكن يدها العمياء لم تره، تطلعت إليه بإرتباك وهي تقول بتلعثم:


- لقد أحضرته معي، صدقني..

- أريني إياه إذن..


وعادت لتفتش بعد أن بعثرت محتويات حقيبتها وهي تجثو على الأرض...


ولكن المصيبة العظمى أنها لم تجده أيضاً!!!


أين ذهب؟!


- لا أدري أين طار.. قالت بصوتٍ متباكِ.


- ربما أخذه علاء الدين في طريقه!! رد بسخرية.


- والله العــظ...


- لا تحلفي، على العموم كل شئ سيدون في تقريرك، الإهمال، اللعب وعدم اللامبالاة، كل شئ سيُحتسب عليك.


- لكن هذا ظلم، ظلم، أنا لم أفعل شيئاً، والعذر كان بحوزتي قبل أن أراك..



- أنا لا يهمني هذا الكلام برمته، أنا تهمني الوقائع الملموسة بيدي، أتفهمين؟!



"أنا لا أفهم إلا شيئاً واحداً فقط، هو أنك بإختصار ****ررررررررررررررر"..


ثم أخذ يعبث في الحاسب الذي أمامه تاركاً إياها تغلي ودموع توشك أن تطفر من عينيها.


- أتعرفين برنامج SPSS أم لا؟!

- أجل أعرفه. ردت من طرف أنفها.

- إذن خذي هذه البيانات وأدخليها بدقة، أسمعتي!!

- ماذا؟! لكنني لا أعرف.

- لقد قلتِ للتو أنكِ تعرفين هذا البرنامج.

- أ..أجل، لقد أخذته فصلاً واحداً و لكنني نسيته فأنا لم أستخدمه بعد ذلك في مقرراتٍ أخرى..


- بودي لو تقولين لي مرة واحدة فقط عن شيئٍ تعرفينه!!


أحست بالمهانة، بالإحراج فأن تُطعن في قدراتك لأمرٌ مهين، ردت بكبرياء:


- أنا أعرف أشياء كثيرة مثل...


لكنهُ قاطعها وهو يكمل بسخرية لاذعة:


- مثل قراءة الأبراج والفناجين أليس كذلك؟!

- .............

- ماذا عن قراءة العيون، أوصلكم هذا التكنيك أم ليس بعد؟!


" وصلنا تكنيك "مُت بغيظك" !!!"...


- أستاذ أنا أنا...

- اخرسي...


"إلى متى؟!! سأصابُ بالخرس بسببك"


"في المرة القادمة سأضع لساني في "المفرمة" قبل أن آتي إلى هنا"...


- وإن كررتها مرة أخرى وذهبتِ دون إخطاري بالأمر شخصياً سيكون لي معك تصرف آخر...


"فالتذهب إلى أسفل سافلين، هذا هو مكانك الذي تستحقه"..



وعاد ليعبث في درج مكتبه، مدّ إليها بقرص:


- خذي هذه نسخة من البرنامج وطريقة استخدامه، أقرأيها جيداً ثم طبقي هذه البيانات.


أخذت تنظر إلى يده الماسكة للقرص بحقدٍ أسود:


- ماذا تنتظرين؟!


"أنتظر أن تموت وأرتاح منك"..


وسحبته بحدة وهي تضغط عليه بعصبية:


- احذري، ما بك؟! وأشار بأصبعه إلى رأسه..



الصرخة في جوفها تتلاحق، تكاد تنطلق من حنجرتها وتهدم هذا المكتب بمن فيه..


خرجت بسرعة من المكتب دون أن تغلقه، وما أن وصلت لطاولتها حتى صاحت:



- انتظر، انتظر فقط حتى تسلّم تقريري، لن أتركك وشأنك، سأفرغ كل النيران التي في جوفي بوجهك، فقط انتظر علي..


وعادت لتضرب بيديها على سطح المكتب بقوة:


- ماذا قال لكِ هذه المرة أيضاً؟! سألتها "أشجان" بشفقة.


- لا أدري لم يعاملني هكذا لوحدي، لم لا يأتمر عليكِ أو على تلك "العقربة"؟!


- اخفضي صوتك كي لا تسمعك، إنها في الحمام تضمد جراحاتها..

- أجيبيني لماذا؟!

- لا أدري..



جلست "ندى" بغيظ وإحدى يديها أسفل ذقنها واليد الأخرى تكادُ تحطم القرص!!!



=============




- ألم أقل لكِ أنهُ سيقول مثل هذا الكلام؟!


- فلنذهب إلى طبيبٍ آخر، أنا لا أثقُ فيه.


- اسمعي، إن بقيتِ توسوسين هكذا فلن يحدث شيء، الطبيب قال لا بد من الاستقرار النفسي وعدم القلق.


- ما يقوله هراء في هراء، كلام المجانين هذا لا أصدقه.


رد عليها بغضب:

- العلم يقول هذا، لا تكوني عنيدة.


وخرجت من السيارة بسرعة و صوت "ناصر" يلاحقها..


وما أن وصلت إلى غرفتها حتى أوصدتها بالمزلاج، ألقت بنفسها على السرير وهي تجهش بالبكاء..


- شيماء افتحي الباب.

- .................

- ماذا تريدين مني أن أفعل أكثر من هذا؟!


رفعت رأسها المثقل وصاحت بتهدج:

- نذهب لطبيبٍ آخر.

- كلهم سيقولون كما قال هذا الطبيب.


- لا بأس المهم أن أطمأن.


تنهد "ناصر" بإستسلام وهو يرد:

- حسناً، سنذهب فب الغد.

- كلا، ليس غداً بل اليوم.


أخذ يضرب بيده كفاً بكف وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم:


- إن شاء الله، سيكون لكِ ما تريدين.


أنهضت نفسها وهي تفتح الباب، لكنهُ لم يدخل:


- سأستأنف عملي الآن، انتبهي لنفسك..


وقفل عائداً من حيثُ أتى، راقبت خياله الذي يتهادى من بعيد..

- أنا لم أكن قاسية معه وهذا من حقي!!


=============




كان الأب جالساً وبجانبه "ندى"، تخبره عن مديرها وإن كان معظم ما تقوله ملفقاً!!


أخذت "غدير" تضحك بخفوت وهي تشير لها: أيتها الكاذبة.


وتلك لازالت تواصل الحديث عن أمجادها التي يفتخر بها المدير وكيف حاول إقناعها بإلحاح بأن تعمل هناك بعد أن تتخرج لكنها رفضت!!!!



- أتصدق يا أبي، أحياناً أصرخ عليه وأقول له أفعل هذا وذاك، ويفعله دون نقاش!!


- لا يا ابنتي، لا بد أن تضعي بينك وبين رؤسائك حدوداً مهما كانوا طيبين.



وأخذ يُلقي عليها بالنصائح و "ندى" تهز رأسها بإيجاب وهي ترفع حاجبيها كل حين إيماناً بما يقوله، و "غدير" توشك أن تنفجر من الضحك المكبوت...


أما "شيماء" فكانت ساهمة، شاردة في حديث الطبيب الآخر، فلقد قال كما قال الأول:

- الاستقرار النفسي قبل كل شئ...


وقطع صوت الهاتف أفكارها، فرفعت السماعة التي بجوارها:

- آلو.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام والرحمة.


ثم سرعان ما أندمجت في الحوار:

- ماذا؟! أيّ واحدةٍ تعنين؟!

- التي ارتدت ثوباً أسوداً.


- امممممم، لكنها متزوجة.


وحينها التفت لها الجميع وعلى وجوههم علامات التساؤل والاهتمام.


- لا بأس، لا.. ليس بكِ حاجة لأن تعتذري.

- ...............

- مع السلامة.


ووضعت السماعة وهي توجه خطابها لغدير:


- لقد خطبوكِ!!

- ماذا؟! صاحت "ندى".


- أيُّ حديثٍ هذا الذي تقولينه يا "شيماء"؟


- صدقني يا عمي، المرأة اتصلت وقالت نريدُ ابنتكم التي كانت ترتدي ثوباً أسوداً واعطتني اسمها أيضاً.


ارتبكت "غدير" في جلستها وهي تنقل بصرها بين وجوههم، قالت وهي تحاول أن تلطف الجو:


- كثيراً ما يحدث ذلك في الأعراس. وضحكت بقلق ضحكة مبتورة.


- ترى ماذا ستكون ردة فعل "عمر"، إن علم بالأمر.


وحينها أنقبض صدرها وهي ترد بسرعة:

- ليس هناك داعي لإخباره.

- أيتها الغبية، لا بد أن تخبريه حتى ترتفعين في نظره أكثر وأكثر. عللت "شيماء".



- ولكن كيف لم يخطبوني أنا، لقد صرفتُ الكثير على مكياجي وملابسي كي تلقطني إحداهن!! تساءلت "ندى" بصوتٍ مسموع.


- بلا شك خالوكِ مجنونة، وهل يوجد فتاة عاقلة تصافح 400 مدعو وهي تنتقل كنحلة من طاولة لأخرى. ردت عليها شيماء.


- ألآ تفهمين، كنتُ أفعل ذلك كي أتأكد من أن الجميع شاهدني!!! ردت بغباء.



لم تلتفت "غدير" لحوارهما، كان همها ذاك الذي يخاطبها بحدة:


- كلا يا ابنتي، أنا لا أرضى لإبني بالمهانة، وأيُّ رجلٍ في العالم، أياً كان لا يرضى بأن يُطعن في كرامته.


- خالي، هم لو كانوا يعلمون أني من مذهب آخر، ما كانوا سيخطبوني..


- وإن يكن!! إلى متى سيستمر هذا الحال، لا أحد يعرف بهذا الزواج.


- خالي، أفهمني أنا..


- يكفي يا ابنتي، وأنا منذُ البداية لم أكن مرتاحاً لهذا ولكنني مررتُ الأمر، لكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فلا أقبلها لنفسي وأولادي.


- خالي...


لكنهُ قاطعها:


- أعتقد لم يتبقى على شهر "محرم" إلا 3 أسابيع، لذا جهزي نفسك بسرعة لأن زواجكما سيُشهر وعلى الملأ.



ونهض وتركها بعد أن أخذ منها شيئاً...


سلب منها روحها!!!

ماذا يتبقى من الجسد؟!



أتعرفون ما معنى هذا؟!


ما معنى أن أتزوج؟!


معناه أن أنتهي، أن أضيع...


في بدايتي نهايتي...


أم في نهايتي بدايتي؟!


أم ماذا؟!!



خالي!!! ماذا تقول؟!



يا روح هيمي، هيمي في ملكوتك..


ولتنثري جناحيك...


ما عاد هناك المزيد من الوقت...


الفراشات ولت، والغربان بدأت تحوم...


يا روح هيمي، الظلال تنتشر...


ولن يتبقى في السماء نجمة...


ها هي الغربان تعود...

ولكن!!!


روحك ما جرى بها الآن؟!!


أيّ جناحين متكسرين تلك التي تطوينهما...



لذا ارحلي بعيداً..بعيداً...


حيثُ لا نجوم، لا أحد!!!



تطلعت إلى "ندى" و "شيماء" بوجه غائم، لكأنها تطلب منهما أن تلحقا به، أن يحجم عن قراره!!!



أن تُخبراه أن الفراشة بلا جناحين، بلا روح!!!


لكنهما كانتا تتجادلان دون أن تنتبها لخطاب العيون الموجه إليهما...



الجو يبدو كئيباً، مظلماً، والقلب لا يتوقف عن الخفقان، وجميع الحواس مُستثارة، متيقظة على أهبة الاستعداد للسفر، للرحيل!!!!


لا، مستحيل، لا لالالالا...


جمعت يدايها بجانب صدرها، تنفسها بات سريعاً، متقطعاً، وشعور بالغثيان يرافقها كل حين...


الشعور بالإختناق يتصاعد، لكأن الأوكسجين نفذ من هذا المكان، والأظافر بدأت تُقضم، لم يتبق منها شئ!!!


وتوقف الزمن برمته، توقف بعد أن لاح صاحب تلك العينين الخضراوين بقامته الطويلة عند باب المجلس...



وما أن رأته "شيماء" حتى هتفت:


- "عمر" صدق أو لا تصدق؟!

- ماذا؟

- لقد خطبوا زوجتك منذُ قليل!!

- ماذا؟


وصدَّ لغدير التي سرعان ما أن طأطأت رأسها للأرض حيث هوت الروح!!!


أما هو فتحولت ملامح وجهه الدهشة إلى الغضب وهو يستمع لإعادة الحديث الذي دار بين أسلاك الهاتف.


- لمَ لم تقولي لها أن لديها ابنة خال عازبة حتى تأتي و تخطبني؟!!!!!


أخذت "ندى" تقاطعها كل حين بهذا السؤال الملح والأخيرة لا تُجيبها.



- أنتِ سعيدة بلا شك؟! وجه خطابه الغاضب لتلك الغارقة في اللاشئ...


أصابعها تقبض على الأريكة بتوتر، والصوت يحتبس، ضاع هو الآخر مع الحواس..


لالالا، مستحيل، مستحيل...


وقال شيئاً جعل حواسها تستيقظ، تعود لتنشب أظافرها من جديد ولكن في قلبها!!!



و رفعت رأسها بسرعة لترى طيفه الغاضب يبتعد حيثُ غرفته...


فزت من مكانها وأخذت تهرع إليه وهي تناديه، لا بد أن تفعل شيئاً لا بد، وهو القادر على حسم الموضوع....


أجل، لا بد!!!



كلهم انصرفوا ولم يتبقى إلا "ندى" و "شيماء"...


كانت هذه الأخيرة تتنهد بإستغراب من تصرفات "غدير"، لكن تنهيدتها قطعها صوت صياح "ندى":



- يا ناااس أريدُ أن أتزوج أنا الأخرى، ظلم في كل مكانٍ ظُلم!!!!


نهضت هي الأخرى مفزوعة وهي تردد في نفسها:

- كلهم مجانين، لا حول ولا قوة إلا بالله...



==============



- عمر، عمر انتظر. صاحت وهي تحاول اللحاق به.


استدار لها وقد دكنت عيناهُ الخضراوين:


- ماذا تريدين؟! أن يكتمل طابور خطّابك!!


- ما حدث كان إلتباساً ليس إلا، تعرف أنا...


لكنهُ قاطعها بصوتٍ غاضب جعلها تجفل:

- هذا الموضوع انتهى، وكان من المفروض أن ينتهي منذُ زمن، أتفهمين.


- قلتُ لك نحنُ لا نليق ببعض... أخذت تردد ذلك وهي تضرب بقدمها الأرض.


- أعذارك الواهية هذه ضعيها تحت وسادتك قبل أن تنامي!!!



وأراد أن يدخل غرفته فاستوقفته من جديد، وهي تقول له بتوسل:


- لننسى كل ما حدث، لنكن كالسابق أقارب فقط، أرجوك.


أمسك يدها وهو يهزها بعنف:


- تريدين أن أنسى أنكِ زوجتي؟! أن أنسى أنكِ لا تبعدين عني إلا مسافة باب واحد!!!


حاولت أن تسحب يدها وهي تصرخ:

- لا تُعد علي هذا الكلام....يا أخي أنا لا أطيقك، أنا أكرهك، أكره أن أراك حتى..


- أولاً أنا لستُ أخاكِ أنا زوجك، ثانياً حبك لي أو كرهك لا يهمني في شئ..


- أليس لديك ذرة إحساس واحدة؟!


- إحساس؟!! أنتِ آخر من يتكلم عن المشاعر يا قالب الثلج، انظري لي جيداً، انظري لوجهي، أأخلو من الإحساس..


- ..............................


- واجهيني إن أستطعتِ، لا تفتأتين أن تدفني رأسكِ كالنعامة.. قالها بشراسة.



تحاشت نظراته وهي تحاول أن تتمسك بأي شئ، أي شئ...


- أتعلم، في شهر محرم لا أرتدي إلا السواد، ما ستراه هو أسود في أسود..

- .......................


- وربما أمدده حتى "صفر"، تعرف لدينا وفيات كثيرة في هذا الشهر أيضاً.


- ....................

- لم لا ترد؟! أيعجبك هذا؟!!



- افعلي ما تشائين، أنا لستُ ديكتاتورياً. رد ببرود.


- كما أنني فاشلة في كل شئ، حتى البيض لا أعرف كيف أسلقه.


- المطاعم كثيرة والحمد لله، هل انهيتي سخافاتكِ أم لا، أنا متعب وأريد أن أنام.



نظرت إليه دون تصديق وهي تعضُّ على أناملها دون وعيٍ منها:

- أنت مخلوق من ماذا؟!

- من ماء وطين مثلك.



وترك يدها فجأة فكادت أن تهوي لولا أن أمسكت بالجدار..



انسابت دمعتها حارة شقية حائرة في ظلمة الليل، لا تدري إلى أين سيجرفها التيار معه...



لا تدري إلى أين؟!!



- لماذا تركتني يا أبي، لماذا؟!!

.
.
.
.
.
.
.
.
.

الطبول تدق، وصداها يكاد يصمُّ الآذان...


وقد بدأ ثوب العرس يُحاك...



وآن للشمعة أن تُظهر ذُبالتها قريباً!!!



انتظروني...



لاأناام..

إني خيرتكِ فاختاري
ما بين الموت على صدري

أو فوق دفاتر أشعاري

اختاري الحب أو اللاحب
فجبنٌ ألا تختاري

لا توجدُ منطقةٌ وسطى
بين الجنةِ والنارِ!!


(نزار قباني)


=============

(10)



تقلبت على وسادتها، وهي تحاول أن تمنع صوت ضحكاتهم من أن تصل لأذنيها....


لحظتها دفنت رأسها بقوة في الفراش وهي تحيطه بيديها النحيلتين...


لا تريد أن تسمع شيئاً، أي شئ!!!


هم لم يسمعوها حين بكت وتوسلت، حين جثت أمام أقدامهم واحداً تلو الآخر كي يوقفوا هذا الزواج...



بل تركوها وساروا، لم يعبأوا بها، وقالوا وهم يلوون أنوفهم:


"دلع بنات!!!"..



كلا كلا ليس دلعاً البتة، فأنا لم أعرف في حياتي معنى "الدلع"....



الوسادة تتراخى والعينان تُسبلان بوهن فقد أضناهما البكاء وجافاهما الكرى...



ضاع كل شئ، كل شئ، ولم يتبقى من الزمن إلا الغد!!!!



ها هم قد وضعوا فستانها الأبيض في خزانتها وأغلقوها كما أغلقوا حياتها وربما للأبد...



لازالوا يضحكون وهي تبكي...أيُّ مفارقةٍ عجيبةٍ تلك!!



الأصوات تتضح، تتعالى في حبور، وكان أقواها صوت الأب...


الفرحة تكاد لا تسعه، فإبنه الصغير عاد أخيراً من غربته وابنه البكر سيتزوج غداً، أيُّ سعادةٍ تلك التي تغمر قلبه الآن...



امتدت يدها النحيلة إلى قلبها هي الأخرى، قلبها الذي انفجع، بات كليلاً الآن، لا أحد يبالي به، لا أحد...


حتى هو ترك المنزل، وبات في شقتهما المستقبلية!!!


قالوا: ليس فئلاً طيباً أن يرى الرجل عروسه قبل ليلة زفافه...


تركوه يذهب قبل أن أقنعه، قبل أن أثنيه عن قراره!!!


لماذا يا خالي لماذا؟!


ماذا فعلتُ كي تفعلوا بي هذا؟!!


ألا زلت تضحك، وأنا لوحدي أنزف هنا....


لا أريد أن أتزوج...



لا أريد أن أرتدي هذا الفستان، خذوه، لا أريده...



كنتُ قانعة بقدري، راضية بنفسي، لم يا خالي لم؟!



ماذا أفعل الآن، أخبروني؟!



يقولون غداً عرسي، عرسي أنا!!!!


رحماك يا رب رحماك...




الشجن ينطلق من ذاك الرأس المثقل بالهموم، بالآلام...


والأظافر لم يتبقى منها شئ!!!


وقد بدأت خيوط الفجر تشتبك مع ظلمة الليل المتواري في الأفق، في نقطةٍ بعيدةٍ هناك...



ولا بد للشمس أن تظفر، فأنى لضياء القمر أن يقاومها؟!!



=========




الحركة تدبُّ في المنزل بنشاط، و "ندى" لا تتوقف عن الصياح:

- لقد تأخرنا عن "الصالون"، هيا انهضي.


- هيا يا "غدير"، ناصر ينتظرنا منذُ زمن في السيارة.


- لا أريد قلتُ لكم لا أريد.



وعادت لتبكي بصمت ووجها مدفون في وسادتها، جلست "شيماء" بجانبها وهي تمسح على شعرها بحنان:


- صدقيني، أنا أعرف شعورك تماماً، بل هو شعور يخالج كل عروس..


"أنتِ لا تفهمين، كلكم لا تفهمون".


ردت ندى وهي تمطُ شفتيها:

- لو كان عرسي أنا ما كنتُ بكيتُ أبداً، بل لظللتُ أقفز من السعادة..


قالتها بصوتٍ حالم، لكن صوت "شيماء" قطع عليها أحلامها:


- أنتِ حالة خاصة تختلف عن بنات خلق الله!!


لم تبالي "ندى" بما قالته هذه الأخيرة وأردفت بتساؤل:


- تعتقدين لو وضعتُ إعلاناً في الجريدة "أريدُ عريساً" سأجد من يقبل بي؟!!!!


- أكيد، ومن يرفض أن يأخذ مجنونة؟!


زمّت فمها بإستياء وهي تصيح:

- لا أحد يحس بي هنا، كلكم متزوجون، حتى "غدير" ستتزوج، أخشى أن أبقى العانس الوحيدة في هذا المنزل مع أبي نبكي على الأطلال...


ثم أخذت تضرب على صدرها وهي تولول:

- سيذهب شبابك وجمالك سدى يا "ندى"...


دمعت عينا "شيماء" من شدة الضحك على منظر تلك الأخيرة، حتى "غدير" توقفت عن البكاء هنيهة وأفلتت ابتسامة صغيرة من شفتيها.


- أضحكوا علي، سنرى من سيبكي غداً. صاحت.



وكأن كلماتها كانت كافية لأن تمسح تلك الابتسامة الخاطفة و تعود لواقعها المر، اهتزّ جسدها من جديد وأخذت تبكي بصوتٍ مرتفع...



تطلعت الفتاتان لبعضهما البعض بإستغراب، أمسكتها "شيماء" من كتفيها وهي تحاول تهدئتها:


- اذكري الرحمن واغسلي وجهك، هذا لا يجوز، هيا انهضي.


لكنها لم تتوقف بل أخذت تتشبث بقوة بعمود السرير.


- ندى ساعديني لنذهب بها إلى الحمام، ستدمي عينيها هكذا من كثرة البكاء.


صرخت فيهما بصوتٍ مبحوح وهي تقاوم:


- اتركوني، لن أذهب، لا أريد أن أتزوج، أتوسل إليكم.


وذهبت توسلاتها أدراج الرياح....


كانت من الوهن بحيث أوشكت أن تسقط عدة مرات...


- ماذا بك؟! لم تفعلين بنفسكِ هكذا يا "غدير"، انظري لوجهك أهذا وجه عروس... سألتها "شيماء" بألم.


غطت وجهها بكفيها وهي تهزُّ رأسها و تشهق:


"أنا لستُ عروساً، لستُ كذلك"!!!!


لكن صوتها أحتبس في حلقها تلك اللحظة وأطاعتهم بإستسلام....


ماذا يستطيعن أن يفعلن؟!

لا شئ!!!


================



الدقائق تمرُّ بطيئة كسلحفاةٍ كسول تأبى أن تُغير من مكانها، لكنها لا تقدر أن تغير مسار القدر!!!



النجومُ قد زينت السماء ببريقها الفضي وتركت إحداها تهوي سهواً هناك، في مكانٍ ليس ببعيدٍ على الأرض...



جثة هي بلا روح، أينما قالوا لها شئ هزت رأسها وفعلته، بريق عينيها أنطفأ والعينان تأفلان كأفول الشمس لحظة مصافحة الغروب،،،



ها هم يطلبون منها أن ترفع رأسها وتبتسم...



ابتسمت وهي تطالعهم وعلى وجهها علامة استفهام:



"أيكفي هذا، أم هل من مزيد؟!"...


- انظري لنفسك في المرآة، تبدين مذهلة...



وتأملت صورة تلك الفتاة التي أشاروا لها في المرآة، إنها تكاد لا تعرفها، من هذه؟!



الصورة غائمة، مهشمة، محطمة هي...




وضعت كلتا يديها على المرآة لكأنها تود أن تخفيها، أن تهرب بها إلى البعيد...



الصورة بقيت، والروح ذهبت بعيداً بعيداً...



ساعدتها "شيماء" لتنهض فحركتها باتت ثقيلة والفستان يعيقها، يكاد يخنقها....



الشفتان ترتعشان والوجه منطفئ...



لا أحد يجيد القراءة هذه الأيام، ها هم يسوقونها وهي تمشي بإستكانة...



ماذا بعد ذلك، أجيبوني؟!!



ضمت يديها في حجرها وهي تنظر للطريق من نافذة السيارة...



النجوم في السماء لازالت تنبض بوهن، والنجمة الحمراء المسماة بالدب الأكبر تكاد تغطي على الجميع....



أسرها منظرها، مدت يدها التي ترتجف لأعلى قليلاً لكأنها تودُّ لو تصل إليها وتلامسها، أو ربما لتذهب معها إلى هناك!!!



حتى الطريق للحفل كان طويلاً، مرهقاً ومعذباً، والنجمة الحمراء لازالت بقوتها، لازال شعاعها الأحمر نابضاً...



وتوقفت السيارة فجأة، كان "ناصر" و زوجته يتحدثان وهي تسمع بلا حياة...




القلب ينزف، ينزف صديداً، كل ما فيها استُنزف، لم يبق إلا القليل...



فتحت "شيماء" الباب وهي تحاول مساعدتها على الخروج، كانت تنظر إليها بذهول، عينيها الذاويتان تتطلعان لحنايا وجهها....




"ألا تفهمين؟!"...



الرسائل لا تصل، والبريد ضاق ذرعاً بحملها...



اتصلت "شيماء" بندى لتخرج من الصالة وتساعدها في حمل فستان العروس....




وتهرع تلك لتلحق بالركب، كلاهما تمسكان شيئاً، إحداهما اليد والأخرى الفستان...



ماذا عن القلب الدامي؟!!




الطبول تدق والفرقة لا تتوقف عن الغناء،،،



الدقات تتوالى بقوة، بصوتٍ يكاد يصمُّ الآذان...



الدم يجري بقوة هو الآخر، يساير الهواء والماء والمطر والموت!!!!



- ابتسمي، وجهك يبدو شاحباً..



وتبتسم مرةً أخرى ابتسامةً ميتة!!



هي الآن آلة، تنفذ ما يقولونه، دائماً تسمع وتطيع...



وهناك في نهاية الممر، وقف بقامته الطويلة ينتظرها...



وقف صاحب تلك العينين ببدلته السوداء كسواد الليل المظلم...



المظلم هنا وهناك!!!



تلفتت يميناً وشمالاً كلٌّ بجانبها، صدت للأمام...



وهو أيضاً...


أين المفرُّ إذن؟!!!



الطريق مسدود، والثغرات تُملأ....



ها هي شيماء تمسك بيدها وتمدها لذاك الأخير...



تناول تلك اليد النحيلة، ضمها إلى يده..



لكنها كانت باردة لا حياة فيها....




شدها بقوة لعل الحرارة تعودُ إليها وتنظر إليه...



رفعت رأسها فتقابلت بعينيه...



إنها تجيد القراءة جيداً، ليست مثلهم...



في عينيه شوقٌ قديم، حب، وحنان...



أخفضت رأسها لكأنها لا تريد قراءة المزيد، دارت بجذعها قليلاً فلقت "ندى" و "شيماء" يتهامسن وهن يبتسمن ويشرن إليهما.



أشارت لها "شيماء" بأن أكملي المسير...



رفعت "غدير" إصبعها المرتجف وهي تشير لنفسها بتساؤل، فهزت لها "شيماء" رأسها بالإيجاب...



أغمضت عينيها بألم، الطريق إلى الموت بات وشيكاً، والشريط يُفلت و لم يتبق من الخيوط إلا القليل...



- هيا يا "غدير". أتاها صوته دافئاً وهو يضغط على ذراعها بخفة.



التفتت إليه بسرعة، تأملته من جديد وعاد الحديث القديم....



وضعت أصبعها من جديد على جيدها لكأنها تستفهمه هو الآخر...




هز رأسه وهو يبتسم لها مطمئناً، أخفضت إصبعها و فمها يرتعش بيأس...



الإثنان يتقدمان، والطبول تدق بعنف، الحواس ضاعت، هامت هي الأخرى..



أخذت تطالع المدعوات بعينين لا تريان، كان يهمس لها بالكثير مازحاً ومعلقاً لكنها أيضاً لا تسمع!!!



وأخيراً جلسا وبقيت هي هادئة، ساكنة في مكانها...



يده لا تزال مشتبكة بيدها علها تبعث الحياة فيها....



ولكن ماذا بعد نفخ الرماد، لاشئ، لاشئ....


اقتربت منها "ندى"، وهمست في أذنها شيئاً...


كانت قد طلبت منها أن تبتسم كي تلتقط لها "المصورة" صوراً...



آه نسيت، لطالما نسيت أن تركّب ابتسامتها على شفتيها!!!


أطاعت وهي تحدق في الحاضرين...



وتساءلت في نفسها بذهول: إلامَ ينظر هؤلاء؟!



لكن حضور "شيماء" وبيدها تلك العلبة الحمراء قطع عليها لحظة تأملها....



فتحت العلبة أمامهما، كانت عبارة عن طقم من الذهب الأبيض المطعم بالألماس...


أشارت إلى "عمر" بأن يُلبسها الخاتم....



وعاد ليبحث عن أصابعها التائهة فالتفتت إليه وهي تطالعه بتعجب هو الآخر...



الخاتم ينزلق بسرعة في الإصبع النحيل، تأملت ذلك الطوق الصغير، لا تدري إلى متى سيبقى مُطوقاَ لإصبعها؟!!



أعطتها "شيماء" خاتماً آخر فضياً وهي تشير بأن تُلبسه عُمراً....


تطلعت إلى ذاك الأخير بألم، بضياع.....


يدها لا ترى و لا تتوقف عن الاهتزاز، تأبى أن تُدخل هذا الخاتم....



نظرت إلى "شيماء" بعجز وكأن لسان حالها يقول:


"ألم تفهمي بعد؟!"..


- ساعدها يا "عمر"... ردت "شيماء".


"آه، لم تفهم"...



أمسك "عمر" بيدها وأخيراً دخل الخاتم....


شدّ على يديها من جديد و ترك إحداها تهجع بين يديه....



أطرقت للأرض تناظرها بعينين غائمتين، خاويتين من كل شئ، كل شئ إلا النجوم!!!!



و لاح طيفها يتهادى بين الحضور، بعباءتها حضرت هذا المساء...



لكنها لم تكن لتراها أليس كذلك؟!!



اقترب منها "عمر" وهو يهمس في أذنيها:


- أمك وصلت...



رفعت رأسها ببطء تتأمل تلك القادمة من بعيد...



غريبة!!!



لم تأتي باكية بل كان على وجهها تباشير الفرح!!


أخطأتي!!


دائماً تخطأين وتعكسين الأدوار...


الليلة يحق لكِ أن تبكي...


أن تندبي نفسك وحظ ابنتك العاثر!!!



وهرعت إليها لتضمها ، لكنها أدارت وجهها بضيق للناحية الأخرى منتظرةً أن تفكها من عناقها!!!


- مبروك يا ابنتي...


الآن عدتِ، عدتِ بعد أن أنتهى كل شئ...


وأخيراً تركتها لتبارك لعمر....



بقيت هي واقفة ورأسها مائل ناحية الغرب، حيثُ لا تشرق الشمس أبداً!!!



أجلستها "شيماء" فأخذت تمسح على جبينها بإعياء...



تابعتها بطرفها وهي تنزوي في زاوية ليست ببعيدة وعلى وجهها تلك النظرة الشفافة!!!



الحفل لازال مستمراً رغم خفوت حركة البشر والفرقة لا تتوقف عن الغناء....


- هيا، لنخرج..


كان هذا صوته، أفاقت من ضياعها لتتطلع إليه وعلى وجهها إمارات التساؤل..


- أجل، سنذهب الآن.



أشاحت وجهها بذعر ناحية الغرب حيث تجلس "شيماء"، شدتها من ثوبها المنفلت من عباءتها.


- ماذا تريدين؟!


لكنها لم تقدر أن تنطق واستمرت في الشد بقوة..



تقدمت منها وهي تحاول أن تسمع ما تحاول شفتاها أن تنطقان به لكنها صمتت فجأة وبقيت تنظر لها بيأس....



همست لها في أذنيها وهي تساعدها على الوقوف:


- اذكري الرحمن ولا تقلقي.


وضعت يدها على عنقها وهي تبحث بعينيها عن شئٍ ما، عنها هي؟!


نطقت بتقطع:


- أين..أين أمي؟!!


- لا أدري ربما ذهبت.


وعادت لتجول ببصرها التائه حول المكان...


ذهبت؟!!


دائماً تذهب وتذهب وتذهب و....


تتركنني....



تطلعت إلى "عمر" ، إلى عينيه العميقتين وهي تهز رأسها بقوة..


- ماذا بك؟! سألها.


فتحت فمها لتنطق وهي لاتزال ممسكةً بشيماء...


ماذا تقول له؟!


- سأبقى..سأبقى هنا. قالتها بإستعطاف.


رفع حاجبيه بإستغراب ثم سرعان ما لانت ملامح وجهه:


- أنا متعب الآن، سنعود مرة أخرى!!


ماذا يخالني هذا الرجل؟! غبية؟!


وسارت معه بإستسلام بعد أن دفعتها "شيماء" بخفة وأصوات الزغاريد تسبقهما...


الطبول تدق، تدق بقوة طبول الغجر إبان إشعال الحطب، والرماد ينثر في كل مكان...


ها هي تكاد تتعثر في مشيها وهو يسندها بجانبه كل حين...


أين المفرُّ أين؟!


قبضت على كم "الجاكيت" وهي تهزه بوهن:


- أريد أن أذهب إلى البيت..


- الآن سنذهب.


- كلا أريد أن أذهب لبيت خالي وليس إلى هناك.



لكنه لم يسمعها هو الآخر وأكمله طريقه وهي تبكي بجانبه بصمت...


وصلوا إلى نهاية الممر، حيثُ الباب مفتوح، والأب ينتظرهم هناك...


ضمها إليه وهو يمسح على رأسها، فزادت من تشبثها به...


لماذا يا خالي لماذا؟!!


تهدج صوته وهو يحاول أن يرفع رأسها لأعلى:


- لا تبكي يا ابنتي..

ثم التفت لإبنه وهو يوصيه بحزم:


- انتبه لها يا ابني...


- سأضعها في عيني..



وأفلتها الأب فضاعت من جديد، الطريق إلى السيارة يبدو قصيراً هذه المرة، وهي لا تتوقف عن شد كمه:


- عمر..عمر. أخذت تشهق ببطء.

- ماذا؟

- أريد أن أعود.

- صدقيني غداً سآخذك إلى هناك.

- عمر..


لكن صوتها ضاع من جديد دون أن تكمل، تنهد بتعب وهو يساعدها في الدخول بفستانها الثقيل:


- لا بأس..لا بأس..


وتحركت السيارة دون أن تترك شدّ كمه، لعله ينتبه لها أو يفهمها....



أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، وقد بدا شعاع نجمة الدب الأكبر خطاً متعرجاً يرنو إلى السماء...


أخذت تحدق فيه من النافذة ويداها تتراخيان....


التفت إليها متعجباً من هدوئها المفاجئ لكنه قال: هذا أفضل!!!



الليل طويل، طويل، والوقت يراوغك، يخدعك، والأيام لا تخبئ أحداً أليس كذلك؟!



ها هم قد وصلوا.....



أوقف مكابح سيارته وهو يتوجه لبابها ليفتحه، رفعت رأسها إليه بألم، عيناها تنضحان بالكثير، ولكن يبدو أن الإرسال بات مشوشاًً هذه الأيام...



أمسك بيديها فعادت لتقبض عليهما بقوة وهي تهز رأسها ببطء...


افهمني...



لكنه لم يفهم، لم يفهم هو الآخر!!!



سارت معه بإستسلام، توشك هي على السقوط، على التعثر دائماً...


- انتبهي...


بعد ماذا؟!



وفتح باب الشقة تاركاً إياها تدخلُ أولاً بقدمها اليُمنى....


كل شئٍ يبدو جديداً لم يُمس، الطلاء، الأثاث، والبلاط!!


ورن هاتفه معلناً عن وصول رسالة، قرأها ثم غمغم:


- سأذهب دقيقة فناصر بالأسفل قد جلب لنا العشاء.


لم تعلق و جلست على الأريكة مطرقةً رأسها للأرض وهي تسمع خطوات حذائه تتهادى على البلاط المصقول....




وعاد سريعاً، عجيبٌ أمر الوقت، كيف يتلاعب بنا هكذا!!



وضع الأكياس على الطاولة الصغيرة أمامها، قال وهو يشيرُ لها بابتسامةٍ هادئة:


- ادخلي الغرفة تلك لتغيري ملابسك ونتناول العشاء أم تريدين أن أُريك الشقة أولاً؟!


- لا أريد. ردت بخفوت.


- لا تريدين ماذا؟! العشاء أم مشاهدة الشقة؟! حددي بدقة.


رفعت رأسها حينها وهي تدعك ثوبها بعصبية...أتراهُ يسخر منها؟!


- لا أريدُ شيئاً. صاحت.



"آه عادت من جديد لعدائيتها".



جلس على الكرسي المقابل لأريكتها وهو عاقدٌ ذراعيه وحاجبيه معاً!!


- بودي أن أفهمكِ مرةً واحدة فقط أيتها المخلوقة من لاشئ، أجيبيني ماذا تريدين بالضبط؟!


- أنا لا أريدك.


- ماذا؟!



نظرت مباشرة إلى العينين الخضراوين المشتعلتين وردت بحدة:


- قلتُ لك ألف مرة أنا لا أريدك، لا أريدك لكنك لا تفهم.



- هذا الحديث أنتهى أمرهُ منذ زمن ولم يعد مجدياً الآن.. رد ببرود.



وقفت وهي تسندُ نفسها بيدها على الأريكة:


- كلا لم ينتهي، لم ينتهي. وأخذت تصرخ بهستيرية وهي تضرب بقبضتيها على ثوبها الفضفاض.



وفزّ من مكانه حتى كاد ظله أن يسقط عليها، أجفلت في بادئ الأمر وأوقفت حركتها، لكنها لا بد أن تقول شيئاً، لابد!!




قبض على إحدى يديها وهو يهزها بعنف لعلها تعودُ إلى صوابها:



- اسمعي لقد تحملتكِ كثيراً بتصرفاتك الغريبة وحديثك السخيف ودموعك البلهاء وليس بي صبرٌ لأتحمل المزيد، أسمعتي؟!



سحبت يدها منه بصعوبة وهي تترنحُ للخلف:


- مريضُ القلب تجرحه الحقيقة أليس كذلك؟!


- إذا كان هناك مريضاً ما في هذا المكان فهو أنتِ..



وسكنت برهة وهي تطالعه بعينين غائمتين، ردت بتهدج وهي تهزُّ رأسها نفياً:


- أنا لستُ مريضة، أنا قلت لهم لا أريد أن أتزوج، لا أريد أن ألبس هذا الفستان لكنهم لم يسمعوني..




وغطت وجهها بكفيها الصغيرين وهي تجهش بالبكاء بمرارة، تقدم منها وقد هدأت ثائرته قليلاً من منظرها، أبعد كفيها يضمهما بحنان بين يديه....



- آسف، لم أقصد أن أعاملكِ هكذا...



وأشاحت بوجهها لتخفي دموعها أو ربما لتهرب من عينيه!!



لكنه لم يسمح لها بالهرب أو الإفلات...



أحاطها بذراعيه، وكانت هي تبحث عن الأمان، عن شئٍ تستندُ عليه في زمنٍ بخل بالحب والسلام...



بكت على صدره وتكررت تلك الصورة الفريدة، ولكن من منا يحتفظُ بصوره كاملةً؟!


الصور تومض وتنطفئ كبروقٍ سماوية يكادُ سناها يخطفُ عقلها، لبّها، روحها الباقية....



لا تريد أن تضعف هي...



في بدايتي نهايتي...


أم في نهايتي بدايتي، أجيبوني إن كان عندكم الإجابة!!!



لا بد أن تقاوم هذا الضعف، لا بُد...



وانتزعت نفسها منه بإنهاك وهي تحاول تهدئة دقات قلبها المضطربة،،،،


رفعت يدها المرتجفة بجانب فمها لكأنها تود أن تخفف من وطأ كلماتها التي ستلقيها عليه بعد قليل...



الكلمات تصل لطرف لسانها وتقف عنده بإرتعاش، وتتبعثر...



أراد أن يقترب من جديد، لكنها صدته بيديها وهي تتراجع إلى الوراء بتثاقل...



الكلمات لابد لها من الخروج، لابد أن تفرض سيطرتها في هذه الحظات:



- أنت لا تفهم، أنا لا أريدك، أنا أحبُّ رجلاً آخر وتخيلتهُ أنت!!



الزمن توقف تلك اللحظة، أم أنعدمت الأشياء؟!



أم يا تُرى كان كابوساً، أضغاث أحلام؟!



لماذا يا "غدير" لماذا؟!



وهوى بصفعةٍ قوية على وجهها كادت أن تطرحها أرضاً، وسرعان ما أمسكها قبل أن تسقط لا لكي يحميها ولكن ليشدها من شعرها، من بُصيلاته، من جذوره!!!



- أعيدي ما قلته؟! صرخ في وجهها بشراسة وهو لا يتوقف عن الشد.


لكنها لم تستسلم، صاحت بصوتٍ مختنق وهي تحاول أن تبعد أصابعه المنغرزة في شعرها دون جدوى:




- أحب رجلاً آخر... أحبه، أحبه.




وتردد صدى الصفعة الأخرى في أركان الشقة المظلمة، وهوت هي على الأرض بفستانها الأبيض تُقبل بلاطه....



الصور لا تلبث أن تتكرر، والأدوار تتبدل أليس كذلك؟!



الصمت يخيمُ حول المكان ما خلا صوت أنينها المتقطع وصوت أنفاسه المتلاحقة الثائرة بجنون...



وقف برهة وأفكارٌ كثيرة تحتدُّ بصدره الله أعلم ما هي.....



مرر أصابعه في شعره الأملس بعصبية ونظرةٌ قاتلة ارتسمت في عينيه اللتان دكنتا وبات لونهما أسوداً تلك اللحظة...



خاطبها بصوتٍ أفح:


- أجيبي أيتها ال****ة من هو وإلا قتلتك..


- .....................


- أجيبي وإلا قسماً ستباتين هذا المساء في قبرك.



لكنها لم ترد، فجثا للأرض ماداً يده بعزمٍ جديد، أحست به فحركت أصابعها المرتجفة لاشعورياً لتحمي شعرها الذي تقصف وترسبت بعض خصلاته بين يديه....



وارتفع صوت أنينها المتقطع بعد أن أطبق يده الثقيلة على عنقها بعنف مغيراً اتجاهه، وقال بقسوة وهو يقرب وجهها المعلّم بأصابعه من وجه:


- من هو؟!


- ............


- من هو؟!


وصرخ صرخةً جعلت جسدها بأكمله يرتعد، أنكمشت وهي تحاول أن تمد يدها وتغطي وجهها الذي شحب رُعباً وبات لونه يحاكي جلد الأموات..


- ألن تنطقي؟!


- .............


- ألا تقولين؟


- ....................


- تخفين هويته؟!


- ................


- ستتكلمين رغماً عنكِ أيتها ال****ة والأيام بيننا، وأقسم سأُحيلها كلها إلى جحيم.



وأفلتها فجأة فسقطت على فمها...



سال الدم أحمراً، قانياً بلون شعاع نجمة الدب الأكبر!!!



ها هو خيطه الضعيف يجري على البلاط، يبلله، ربما ليمنحهُ تذكاراً خاطفاً!!



صفق باب غرفته بقوة بينما هي لاتزالُ على الأرض تأن!!!!



============




توقفت "ندى" أمام مرآتها وهي تطالع نفسها من كل جانب وفي مختلف الوضعيات!!!


وعندما تأكدت من نفسها و جمالها!! دخلت إلى الحمام لتزيل آثار المكياج وتغير ملابس الحفل...


ألقت نفسها على السرير وهي تتنهد...


الغرفة باتت خاويةً على عروشها، وعادت هي إلى وحدتها من جديد بعد أن غادرتها "غدير"...


سحبت لها "دباً" كبيراً ووضعت عليه رأسها بدلاً من وسادتها علهُ يخفف وحشتها ولو قليلاً....



أغلقت عينيها بتعبٍ وإرهاق كي تنال لها قسطاً من النوم، فغداً لا بد أن تذهب للعمل مبكراً وإلا كان لها المدير بالمرصاد!!



وفي الجانب الآخر، كانت "شيماء" واقفةً في منتصف الصالة ، تنتظر أن يلحق بها زوجها ويبدو أنها نسيت أن "وليد" عاد إلى هنا، وأنهُ احتلّ غرفة "عمر" بعد أن تزوج هذا الأخير...



خلعت وشاحها وسمحت لتسريحة شعرها أن تتحرر من ضغطه وضغط الجو الحار....



سمعت صوت حركةٍ خافتة خلفها فالتفتت وعلى وجهها ابتسامةٌ ساحرة:



- ناصر ....



وقطعت جملتها قبل أن تكتمل وقد صُدمت من ذلك الطيف الذي يطالعها بإنبهار!!!



وانتبهت لنفسها فارتدت وشاحها بسرعة من جديد وتنحنح هو الآخر معتذراً عن دخوله المفاجئ هكذا....


تابعته وهو يلج إلى الغرفة المجاورة لغرفة "ندى"، وبعد دقائق عاد "ناصر" ليفيقها من صدمتها ويأخذها معه...



.
.
.
.
.
.
.
.



وكانت أول صفعة..


أول نظرة....


دائماً هناك الأولى، أليس كذلك؟!!


انتظروني..




لاأناام....


أشكو من الظلم الذي ألقاهُ
وظلمُ من أحببتهُ أبقاهُ


وكلما زاد اضطهادي عندهُ
تبسّم القلبُ فما أشقاهُ

الاضطهادُ كاللهيب فهو إن
أحرق قلب عاشقٍ نقاهُ...


===========

عاشقة الكتب 24-05-07 04:39 PM

(11)



أمالت بكرسيها إلى الجدار وهي مندمجة في قراءة الرواية التي بين يديها....



كانت "أشجان" تثرثر في أشياء كثيرة لكن أذنيها لم تكن لتعمل تلك اللحظة، فقط عيناها اللتان تكادان تلتهمان تلك الحروف الصغيرة المنحوتة على الورق الباهت....



ودخل بعد أن ألقى التحية حاملاً معه حقيبته السوداء:

- السلام عليكم.


- وعليكم السلام. ردّ الجميع.



رفعت عينيها عن القصة لترد هي الأخرى بخفوت ثم عادت من جديد لتتبع السطر الذي توقفت عنده.



ومرّ خاطفاً أمامها لكنهُ سرعان ما عاد أدراجه ووقف أمام مكتبها يدقه بأصابعه.



الظل الواقف يمنعها من الإكمال والدق يحدث بلبلة في ذهنها، وضعت القصة في حجرها ونظرت له بتساؤل، فلا تدري أي تهمة سيلقي عليها اليوم!!!


- ماذا تقرأين؟!


- قصة. ردت ببراءة.


- أريني إياها.



ومدتها إليه وهل تستطيع أن ترفض؟!


وقبل أن تصل إلى أصابعه أرجعتها بسرعة إلى الخلف وهي تبتسم له بإرتباك وقد انتبهت لنفسها وللقصة!!!



- إنها لا تناسبك، أنصحك ألا تقرأها. ضحكت بغباء.



وأطبقت فمها بعد أن رأت تلك النظرة المجرمة على وجهه.


- هاتيها. قال بصوتٍ آمر.


فوضت أمرها لله وأعطتها إياه وسط نظرات "أشجان" الراثية لحالها..



وما أن وقعت عيناه على الغلاف حتى رفعها عالياً وهو يصيح:


- أهذا ما تقرأينه؟! قصص مراهقين!!


رمشت عينيها عدة مرات وهي تتمنى أن يخفض القصة كي لا يروا الصورة أو عنوانها..


"غرام وانتقام"!!!!



لمَ لم تختار عنوان آخر "محترم" بعض الشئ، لكن المشكلة أن كل روايات "عبير" هكذا، أليس كذلك!!!


"فضحتني يا رب تنفضح بين خلقه"...


- كم عمرك؟! صرخ في وجهها.


"ولم هذا السؤال المحرج؟!"..


- أ..أ.. ثمانية عشر عاماً.



وانطلقت ضحكة صغيرة من فم "أشجان" لكنها سرعان ما دفنتها بين الأوراق.


نظرت إليه من طرف عينيها...


آه، لم يصدقها هو الآخر!!



فتحت فمها لتعلل بتلعثم:


- أتصدق، كثيراً ما يخالونني في الإعدادية، انظر لوجهي أبدو صغيرة أليس كذلك؟!



قالت ذلك وهي تشير بيديها لوجهها وهي تكاد تخرج المرآة من حقيبيتها لتستوثق من نفسها وتُريه!!



تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وهو يصرُّ على أسنانه:


- سألتكِ سؤالاً محدداً فأجيبي عليه.


- عمري اثنان وعشرون عاماً. ردت وهي تلوي فمها بعبوس.



وقبل أن يفتح شفتيه قاطعتهُ مستدركة بسرعة:


- هذا بالتاريخ الانجليزي، لكن بالعربي لم أكمل بعد اثنان وعشرون، لازلتُ واحد وعشرون عاماً..



وعادت لتبتسم بزهو لأنها صغرت عاماً لكن ابتسامتها لم تكتمل، يكفي نظرة واحدة إلى وجهه لتجعلك تُصاب بالمغص.



أخذ يضرب بالقصة الذي ثناها على الطاولة بنفاذ صبر، قال:


- ألا تخجلين من نفسك في هذا السن وتقرأين هذه السخافات.



"لااااا هذا كثير، ماذا يخالني هذا الأحمق، ثم ما قصدك في هذا السن؟! تخالني بعمر جدتك؟!"..



- هذه حرية شخصية. ردت وقد وضعت كلتا يديها على خصرها بعصبية.



تطلع إليها من علو وقد ارتسمت على وجهه الدهشة من حركتها، لكنه سرعان ما صاح:


- حرية شخصية في بيتكِ هناك وليس هنا، هذا المكان للعمل وليس لقراءة القصص الفاسقة!!


- كنتُ أقرأها في وقت فراغي، لم يحن بعد وقت بدأ العمل. زمت فمها.


تطلع إلى ساعته ثم نظر لها بشزر:


- الساعة الآن التاسعة والربع يا آنسة.



- كانت التاسعة إلا عشراً، لكنك من ضيعت وقتي كنتُ سأُنهيها في العشر دقائق المتبقية.



- ضيعتُ وقتك؟! سألها بغضب.



وكأنها انتبهت لكلامها الذي تمادت فيه، فأسبلت رموشها بذل بسرعة محاولةً أن تُنزل أي شئ من عينيها، لكن يا لعناد عينيها!!


نكست رأسها وهي تقول بإستعطاف:


- أستاذ، البارحة..البارحة أخي تزوج ابنة عمتي، وكانت تنام معي في الغرفة والآن ذهبت، وأنا فتاة صغيرة تعرف ذلك والكل يشهدُ بهذا!!!



ثم أكملت وهي تزدرد ريقها وتلون من نبرة صوتها:


- و..و رومانسية والطبيب الذي أخذت منه العذر بذلك اليوم قال لي ليس جيداً أن أكبت مشاعري فأنا صغيرة، قلتُ لك ذلك من قبل أليس كذلك؟!


ورفعت رأسها قليلاً ليؤكد أو يفند سؤالها، لكنه كان يطالعها وعيناه مفتوحتان على أوسعهما...


عادت لترمش عينيها ببراءة وأردفت:

- وهذه القصص تفيدني، فمثلاً أبكي بعد قراءة القصة، تعرفني حساسة ورومانسية، وابنة عمتي تزوجت البارخة بأخي و....


- يكفييييييييييي.


وصرخ فجأة فأجفلت في مكانها وهي لا تعرفه سبب صراخه، وضعت أصبعها الأيسر في فمها وهي تطالعه بتعجب.



"يبدو أنه جنّ!!"


- لم أطلب منكِ أن تحكي لي قصة حياتك التافهة كقصتك.



وأردف وهو يلقي بالقصة في القمامة المجاورة لطاولتها بتهديد:



- هذا سيكون مكانها الحقيقي، وسأمر كل يوم لأتفقدها وإن تحركت شبراً واحداً سأُلقيكِ بدلاً منها، أتسمعين؟!



"ستلقيني أنا في القمامة؟! أنا "ندى" بنت "محمد" ألقى في القمامة؟! ماذا عنك يا "عنتر"؟! المحرقة تناسبك أليس كذلك؟!"



ودخل إلى مكتبه وهي تتابع طيفه وتتخيل أنها تخنقهُ بأصابعها، التفتت للفتاتين إحداهما تبتسم بتشمت والأخرى تبتسم أيضاً!!!



قالت وهي تحركُ كتفيها بلا مبالاة:



- كنتُ سأردُّ عليه لولا أنه ذهب، تعرفون..يخافُ مني!!



"الآن نحنُ في الصباح، لازال الوقتُ مبكراً على الأحلام!!"..



وجلست على كرسيها تطالع قصتها بحسرة!!



تُرى ماذا حدث بجاكلين الآن؟!!




===========



فتحت عينيها بإضطراب وهي تحاول أن تتجنب الضوء الشارد الذي انسلّ إلى هذا المكان عُنوةً من زجاج النافذة الكبيرة....



حركت أصابعها بتعثر لتصل إلى نحرها وتقبض عليها...


الإحساس بالضيق، بالإختناق يتصاعد، والوجود أسود رغم شعاع النهار!!!



كانت مستلقية على الأرض بفستانها الأبيض، مررت عينيها الذاويتين على حاشيته فعادت إليها ذكرى ليلة البارحة...



صدرها بدأ يرتفع ويهبط بسرعة وهي تجول ببصرها حول المكان، حول الفراغ، حول السكون المطبق وهي تطالع باب تلك الغرفة حيثُ يقبع ذاك الذي في يديه مصيرها...


وضعت كفها بوهن على جبينها، أزيزٌ قوي يطنّ برأسها، جسدها متهالك من شدة التعب، ومن كثرة البكاء..


لكنها لا بد أن تقوم، أن تُنهض نفسها قبل أن ينهض!!!


و عاد الإختناق ليغلفها من جديد، ليزيدها تقريحاً ويشلّ حواسها رعباً...



استندت بيديها بتثاقل على البلاط لكن قواها الخائرة لم تسعفها، ربما كان ذلك بسبب ثقل الفستان أو ثقل أثمها أو خيال يده الثقيلة التي تلوحُ لها كل حين!!



أفلتت يديها وهي تشعر بالعجز...


العجز!!!


شعور مقيت، مميت، يحطمك، يحيلك إلى هشيم، إلى لاشئ....


ولكن منذُ متى كنّا شيئاً حتى نتحول إلى لاشئ؟!



أسندت رأسها على الأريكة القريبة منها وهي تغمض عينيها بقوة، فهذا أقصى ما تستطيعُ فعله حتى الآن!!


وسمعت حركة خافتة، كان هذا صوت إكرة بابٍ يُفتح...


انتفضت في جلستها تلك فعادت لتنكمش وودت تلك اللحظة لو تختفي خلف الأريكة أو تتحول إلى جماد، إلى سراب، إلى ذرة غبار لا تكاد تبين!!!



آه، ليت المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غُلابا....



لاح لها طيفه بقامته الطويلة واقفاً عند الباب وبصره مصوب نحو البقعةِ التي افترشتها دثاراً على الأرض...


أخفضت رأسها، لا تريد أن ترى وجهه، ملامحه، عيناه!!!


نحنُ في البعيدِ أفضل، أفضل بكثير...


آه لكنهُ لا يرضى بالبُعد ولا بالسلام...


في أيِّ عالمٍ نحنُ نعيش وفي أي زمن؟!


أليس بزمن الموت والورود؟!


في الزمن الذي تعانق فيه الياسمينة أشواك "الورد المُحمدي"؟!



دنا منها شيئاً فشيئاً وهامتهُ عالية أما هي فلا تزال تطأطأ، لازالت تلامسُ الأرض والطين!!!



أيُّ مسافةٍ تلك التي تفصلُ بينهما الآن؟!


بحجم الثرى وطول الثريا!!!


نظر إليها من علو، بحدة وقدمه تدوسُ على تلابيب فستانها الأبيض...


الصوتُ ينطلق بارداً، ساخراً، مليئاً بالقسوة والإزدراء:


- ما بالُ العروس العاشقة نائمة هنا؟!


- .......................


- أنمتي جيداً أم أن خيالاتك حوله سرقت عينيكِ لذة النوم؟!


- .....................


- ما بك لا تنطقين، أكلُّ هذا خجلاً من حبك الفياض؟!!


ونزل بمحاذاتها فأخذت ترتجف وهي تدفن رأسها في الأريكة....


لكن صوته عاد أكثر بروداً، السم يجري في أوتاره، والسم ينفذ، يخترق الروح والقلب معاً، فما أقسى الكلمات، ما أقساها...


- هذه الدموع والنظرات المرعوبة ما عادت تؤثر في، لذا لا تمثلي المزيد.


- .................


- الآن فهمتُ لم كان زوج أمك يضربك، لا بد أنهُ عرف بإنحلالك الأخلاقي، ربما لهذا قال لي ذلك اليوم المشؤوم حين أخذتك: انتبه لها، وأنا الأحمق كنتُ في خبر كان..


- ..................



- ويبدو أنهُ فشل في ذلك، وقد حان دوري يا عزيزتي لأسيرك على الصراط، ألا توافقيني الرأي؟!



رفعت رأسها والألم يعتصر وجهها من كلماته، من قطرات السم!!


تطلع هو إلى سحنتها المبللة، إلى عينيها الذابلتين، وتوقف كثيراً عند فمها المتورم في نهاية زاويته اليسرى.



تجهم وجهه فجأة ثم قال بعد برهة بتوتر:


- اذهبي وغيري ملابسك..



عادت لتنكس رأسها فتهدل شعرها المبعثر على كتفيها...


مرت لحظة صمت ودون شعور مرر أصابعه في تلك الخصلات الطويلة ليزيحها عن وجهها، التفتت إليه بسرعة فانتبه لنفسه ويده!!!



سحب يده وهو يدير وجهه بعيداً عنها وقال بصوتٍ مصرور:


- اغربي عن وجهي فوراً..


وحاولت أن تنهض باضطراب لكن محاولاتها باءت بالفشل من جديد، إن استمرت على هذا الحال ستتحطم بلاشك...



وقف وعادت نظرة السخرية ترتسم في عينيه الخضراوين، مدّ يده إليها، أخذت تطالعه بتردد لكنها ما لبثت أن مدت يدها النحيلة لتستند عليه وأخيراً وقفت على قدميها..



وترك يدها بإمتهان وهو يخاطبها :



- حقيبتك في الغرفة الأخرى..



أسرعت الخطى إلى حيثُ أشار، استندت على الباب وهي تتنفس بعمق، أوصدته خلفها ثم تحركت للسرير....


كان بودها أن تستلقي، أن تغفو، لكنها عادت وفتحت تلك الحقيبة الكبيرة واستخرجت لها شيئاً لترتديه، لتتحرر من هذا الثقل...



غسلت وجهها بالماء وهي تربت بخفة على جلدها علّ لون الحياة يعود إليه من جديد....


وأخيراً أمسكت بدثارها وهي تقبض عليه بتعب، وقبل أن تضع رأسها على الوسادة وترتاح، سمعت طرقاً على الباب.


ردت بوهن:

- من؟!


- من تعتقدين؟! حبيب القلب!!


غطت رأسها بدثارها، لا تريد أن تسمع المزيد، كفاك...


- أعدي لي شيئاً أنا جائع.


- أنا متعبة، أريدُ أن أنام..


- صحيح؟! ألم يكفك نوم البارحة بأكمله!! سألها بإستهزاء.


وطفرت الدموع من عينيها بعجز، إنه يتقصد تعذيبها، إهانتها، جرحها...


لكنها من بدأت وعليها أن تُكمل...



انتشلت نفسها بصعوبة وهي تبعد دثارها وتهمهم بخفوت بأنها ستأتي...


وسمعت صوت شخصه يبتعد ففتحت الباب، لكنها لم تعرف أين تذهب...


أين هو المطبخ؟!


أطلت برأسها للصالة فلم تره فقررت أن تبحث عن المطبخ لوحدها...


وما أن استدارت على عقبيها حتى لقته أمامها!!!!


شهقت وهي تضع يدها على صدرها و تتراجع إلى الوراء من رؤيته المباغتة..


- ماذا؟! أخفتك؟! لم أكن أعلم بأني مخيفٌ لهذه الدرجة!! قالها بتأسف زائف.



ثم صمت وهو يتأملها ببطء من رأسها لأخمص قدميها، ناداها آمراً:


- تعالي إلى هنا...


لكنها بقيت مستندة على الجدار وهي تهزُّ رأسها ببطء، عيناهُ تبدوان غامضتان، مخيفتان أحياناً!!



وما أن شرع بالإقتراب حتى حاولت الهرب لغرفتها لكنهُ كان أسرع منها، أمسكها من زندها وهو يضغط عليه، صاح في وجهها بغضب:


- أنا لا أحب أن أكرر كلامي مرتين، حين أقول شيئاً تنفذينه مباشرةً أتفهمين؟!


هزت رأسها بجنون بالإيجاب لكنهُ زاد من ضغطه فصرخت من الألم:


- أريد أن أسمع الإجابة أم أن لسانك لا يعرف إلا أن ينطق الحقارة فقط.


- ح..حسناً، فقط..أترك..أترك يدي..

أردف بتساؤل وهو عاقدٌ حاجبيه:


- والآن ما هذا الذي ترتدينه؟!


تطلعت إلى نفسها بحيرة وشفتها ترتجف:


- مـ...ماذا؟!


- اللون الأزرق لا أحبه، وما لا أحبه أنا لا تحبينه أنتِ!!!


تطلعت إليه بشرود دون تصديق فهزها لتنتبه له وهو يردد:

- لم أسمعك، قولي لا أحبه.


- لكنني أحبه. صاحت بهمس مرتعش.


أطبق على عنقها وهو يقرب وجهها من وجه حتى كادت أن ترى صورتها المرتجفة في عينيه المشتعلتين، قال بتهديد، بموتٍ زاحف:


- أنتِ لا تريدين أن تستثيري شياطيني اللعينة هذه اللحظة أليس كذلك؟!


هزت رأسها بخوف وهي تردد:


- لا...لا أحبه، لا أحب هذا اللون.


وترك عنقها فهمّت بالدخول لغرفتها من جديد، صاح فتجمدت في مكانها:

- أين تذهبين؟!


تطلعت إليه إرتباك وهي تشير لنفسها:


- سأغير ملابسي...


- ليس الآن، اذهبي واصنعي لي "فطوراً" أولاً..


- أين المطبخ؟ سألته بوجل.


- هناك.



وما أن وصلت هناك حتى استندت على الباب وصدرها يعلو ويهبط بهلع..


لقد فقد صوابه هذا الرجل!!


أكان يقصد اللون فعلاً؟!


وانصرفت لتصنع الشاي وهي تسقط كل الأشياء من يديها من شدة التوتر...


فتشت في الثلاجة عن أطعمة جاهزة، أخرجت جبناً وشرعت في قلي البيض...


وضعت الإفطار في "صينية" متوسطة الحجم....


كان جالساً في الصالة واضعاً قدماً على أخرى فوق الطاولة، وبيده جهاز التحكم عن بعد، يقلب القنوات...


ودون أن يلتفت إليها قال:

- ضعيه على الطاولة.


لكنها لم تتحرك وبقيت تنظر له بتساؤل، وحين أطالت في وقفتها، رفع بصره إليها وهو يحدجها:


- ماذا؟! ألا تسمعين؟ أأصبتِ بالصمم أيضاً؟!


- كيف أضعها وأنت..أنت قدميك على الطاولة..


- أعتقد أن هذا الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، أبعدي قدمي..



و كادت "الصينية" أن تسقط من يديها، لولا أن تشبثت بها جيداً في اللحظة الأخيرة...



أن تُجرح، تُسب، تُضرب، أمرٌ أعتادتهُ من صغرها ولكن فليقف عند هذا الحد، فهي لا تسمح لأحد، أي أحد أن يمتهن كرامتها.


وعادت كبرياءها لتعود للصدارة وتدوسُ على الألم، على الخوف...


ردت بشموخ:


- أنا لستُ خادمتك..


وحنت جذعها لتضعه على الأرض لكنها توقفت في نصف حركتها بعد أن رأت ساقيه الطويلين أمامها، أرخت يديها وأكملت إلى أن وضعتها على الأرض بتصميم...


ودارت دون أن تلقي عليه نظرةً حتى...


وبقيا هكذا واقفان بلا حركة، بلا صوت....


الهواء يرفلُ بالغبار، بشرارٍ متطاير والصمت أبلغ من الكلمات أحياناً!!


أتاها صوته من الخلف بعد أن أخذ قسطاً من الزمن:


- أنتِ محقة أنتِ لستِ بخادمة...أنتِ لا شئ...


و غاب البريق الشامخ من عينيها، أنطفأ، وحل محله الإنكسار، بقايا الحطام...


كم من السهل أن تكسرنا الكلمات، تشطرنا شطراً، فيبقى الجرح نازفاً ويد الجراح عاجزة عن تضميده....



- خذي هذا الإفطار أو كليه فأنا لا أريده!!!


النجمة تأفل، تهوي إلى القاع، تتعفر في التراب وتفقد بريقها، ضياءها الأزلي...


تأملت "الصينية" بعينين لا تريان، فقدتا بريقهما هما الأخرتين، ها هما تغيمان الآن، سحقهما ذاك الأخير وذهب..


آه ما أقسى الكلمات....


عادت لتنحني من جديد، حملت "الصينية" ووضعتها على الطاولة ثم توجهت إلى غرفتها...



القلق يكتسحها، والتعب يحطم بقايا خلاياها...


ما تعيشه الآن هو كابوس، كابوس كريه، لكنها ستحاول أن تتخلص منه...


أجل ستفعل ذلك...


أخذت تمسح على جبينها وهي تضغط عليه بأصابعها بقوة:


أحقاً سأنجح!!


قولوا بلى، أرجوكم..


أرجوكم...


وألقت نفسها على الوسادة وهي تجهش بالبكاء بصمت...



==========



النهار لا يلبث أن ينطوي سريعاً...


كصفحةٍ من الجريد هو....


ويأتي الليل بغيومه، بنجومه، برعوده!!!



لماذا يا "غدير" لماذا؟!



إن تبحثي بين سطور الورقِ
عما أردتُ قوله تحترقي

لا تقرأي إلا الجلي واتركي
عنكِ الخفي واسلمي من أرقِ

إن الحروف كالبحار من يخض
غمارها مهددٌ بالغرقِ


===============



تابع>>> (11)



سارحة في جلستها تلك، ويدها أسفل ذقنها، عيناها الشاردتان ترفّان وتمسان الهواء البارد المنبعث من جهاز التكييف...


كان يسرّح شعره استعداداً للخروج وهو يخاطبها من خلال المرآة، ناداها بعد ذلك عدة مرات علها تنتبه إليه...


رفعت رأسها ناحيته وهي ترفع حاجبيها بتساؤل:


- شيماء!!


- ماذا؟!


- ألن تذهبي معنا؟


- بلى، سآتي.


- هيا إذن ارتدي عباءتك، سيدمدم أبي إن تأخرنا.


نهضت وهي تسحب خمارها من الشماعة ببطء، اقتربت من زوجها وهي تدعك شيئاً علق بذيل الخمار.




- ناصر، لم لا تستشر أخاك في أمرنا؟! لقد درس الطب في السويد وبالتأكيد طرق العلاج هناك متطورة أكثر من هنا.


تطلع إليها بتعجب ثم سرعان ما قال عابساً:


- "وليد" لم يصبح طبيباً بعد حتى أستشيره.


- لم يتبق عليه إلا سنة واحدة ويتخرج.


عاد ليبعثر شعره من جديد في اتجاه آخر دون أن يعلق.


- ناصر!!

- ........

- ماذا قلت؟!

- أقول ماذا؟!


وتطلعت إليه بنفاذ صبر وقد تركت ما بيدها:

- أنت لا تأخذ الأمر بجدية أبداً.


حدجها بنظرة نافذة، لكنها لم تلن وبقيت على وقفتها الجامدة تلك..


رد بصوتٍ غاضب:


- ماذا تريدين بالضبط؟! أن أخاطب ذلك الغر وأستشره في...


قاطعته بسرعة:

- هو ليس غراً وإن كان على مظهره، فأنت تعرف أن معظم من يسافر للخارج يتغير..


- أنا لا أثق فيه أصلاً، حتى الدراسة أشك بأنه قد درس طب..


- وماذا كان يفعل إذن؟!


- لا أدري، لكنني لم أحب أن أقلق والدي بشكوكي هذه.


- أنت تتوهم، لقد آراني أنا وندى شهاداته للعام الماضي وكانت بتقدير "امتياز".


صمت برهة ثم تنهد مستغفراً:


- حتى وإن كان كذلك فسنستشر طبيباً حقيقياً وليس متدرباً.


- وماذا فعل الأطباء الحقيقيون؟! ليس لديهم إلا كلمة: اصبروا..اصبروا.. رددت بسخرية مريرة.


- وهذا بالفعل ما ينبغي علينا فعله، فليس بنا عيباً والحمد لله.


- وماذا ستخسر إذا سألته؟! أم أنت تغار منه لأنه أصغر منك ولديه شهادة جامعية!!



تعابير الوجه تجمد، و تتلاشى تلك الخطوط الدقيقة المحفورة في حناياه...


الألم يرتسم في المقلتين، ينعكس في العدستين الزجاجتين الصغيرتين...



خرج من الغرفة بهدوء، أما هي فتهاوت على الكرسي بتثاقل....



غطت وجهها لكأنها خجلت من فداحة ما قالته...


باتت تلقي الكثير من الكلام في الآونة الأخيرة..


دون حساب، دون حذر...


ليست من الدرر، ليست كذلك أبداً...



كلنا نشرب من هذه الكأس ولكن حذارِ، حذارِ من الانغماس حتى الثمالة!!!!




أتاها صوت "ندى" من أسفل ينادي عليها، يستعجلها للذهاب ويفيقها من خواطرها التعسة.....


ارتدت حجابها وهي تشعر بالضيق، ووصلت إلى حيثُ كانوا مجتمعين...


انقسمت العائلة إلى سيارتين، الأب ووليد وندى في سيارة و ناصر وشيماء وهدوءهما العاصف في سيارة أخرى...


=============



خرجت من غرفتها بتعثر وهي تتطلع لنفسها كل حين...


لقد اتصل خالها وقال أنهم سيأتون هذا المساء...


ارتدت بنطالاً من الجينز الأخضر الباهت، وقميصاً زيتوني اللون تنتهي أطرافه بقصات غريبة ذات طابع غجري...


مشت إلى الصالة دون هدى وهي منكسةٌ رأسها بقلق...



كان واقفاً أمام النافذة يطالع المارة والسيارات، وما أن سمع وقع أقدامها الخافتة حتى التفت إليها...


رفعت رأسها هي الأخرى ببطء فالتقت بعيناه....


وتضرج وجهها احمراراً مما رأته!!



كان يرتدي بدلةً بمثل لون قميصها وقد بدت عيناه منسجمة تماماً مع ما يرتديه..


كلاهما خضراوان!!!



حاولت أن تشيح وجهها وتطالع أي شئ، أي شئ، لكن تلك النظرة المرتسمة في عينيه عادت لتأسرها وتجبرها على النظر إليه من جديد!!



وتحرك هو من مكانه أما هي فبقيت متجمدة، واقفة بلا حراك، قدماها لا تتزحزحان عن البلاط!!



أصبح في مواجهتها مباشرة، عيناه تطوفان بحرية في قسمات وجهها المرتبكة في خجل غريب..


الزمن يتوقف هو الآخر، يتوه، أو ربما يحاول أن يختلس لحظات، لحظات فقط ويحتفظ بها في علبته!!!



ضاعت هي الأخرى...


عاجزة، حائرة من عينيه المتشابكتين في غموض، إعجاب، شوقٌ دفين....


أسبلت عينيها بضعف ومشاعر غريبة تمزقها، تُحيلها لأشلاء، ويظل بقاياها فتاتاً تذروه الريح والهمسات!!!


لا تريد أن تغرق في هذا المحيط البلوري، هي منارة هكذا هي، والمنارة إما أن تغرق أو تبقى صامدة حتى النهاية!!


أتاها صوته أجشاً هامساً:


- سيفدون الآن!!


- .............


- سيفدون الآن؟! كرر عبارته من جديد.



رفعت وجهها باضطراب وهي تحاول أن تتحاشى عينيه:


- وإذن؟! سألت بهمس.


- وليد و ناصر سيحضران أيضاً، أتريدين أن تخرجي أمامهم هكذا؟!



ها هي تطفو، تضيع بلا منارة بلا قشة!!



والصخب يعلو هنا، هنا بين الضلوع حيثُ يتوسد القلب بلا حول، بلا قوة!!!



استدارت لتعود إلى غرفتها وترتدي وشاحاً....


الطريق إلى هناك بدا طويلاً، متعباً، مؤلماً رغم قصر المسافة..


جلست على كرسيها بوهن وهي تحاول أن تتجنب تلك الغصة بصدرها، بحلقها..


الصراع النفسي منهك، مميت حتى النخاع...


سمعت أصوات التهاني والترحيب تتزاحم جملةً مع بعضها البعض و تقترب...


ارتدت وشاحها وهي تمسح عينيها بعجل...



وما أن فتحت الباب حتى أطلت "ندى" بوجهها الضاحك، عانقتها على الفور دون أن تترك لها المجال لتتنفس.



- لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، الغرفة مظلمة بدونك..



عادت الابتسامة الضائعة لترتسم على شفتيها :


- وأنا أيضاً... كثيراً..


- اتركيها يا "ندى" أريد أن أسلم عليها أنا الأخرى. صاحت "شيماء".


- انتظري، أريد أن أسألها عن سبب جمالها المفاجئ مرةً واحدة، أعترفي أي نوعٍ من الكريمات تستخدمين، شانيل أم ديور؟!


ضحكت "غدير" وقد تورد خداها:


- لم أستخدم شيئاً صدقيني.


- إنها عروس، والعروس تكون مشرقة دوماً هكذا، ولكن ما أدراكِ أنتِ؟!


تطلعت لها "ندى" بحنق أما "غدير" فاكتفت بالإبتسام ببهتان، ردت عليها بعصبية:


- غداً عندما أتزوج إن شاء الله لا أريدك أن تزوريني في الصباح، أسمعتي؟!


- ومن هذا تعيس الحظ الذي سيجني على حياته بيديه ويأخذك؟!


- ربما المدير. ردت "غدير" بسرعة.



زمت "ندى" شفتيها بغضب وهما تضحكان عليها بصوتٍ مرتفع، مدت يدها وقرصت "شيماء" في ذراعها فصرخت الأخيرة متوجعة أما "غدير" ففرت من أمامها إلى الداخل وهي تصيح بتهديد وتضحك في آنٍ واحد:



- قفي مكانك، سأنادي خالي، كنتُ أمزح، نددددددددى..


وأخذت تجريان في الغرفة وهما تقذفان بعضهما بالوسائد.


وبينما كانت تحاول الوصول للباب اصطدمت بشئ!!


كان هو...


- أجل، أمسكها يا "عمر" سأقتصُ منها.



وبحركة دفاعية أحاطها بذراعيه وهو يرد على "ندى" بتهديد:


- كلا، هذه زوجتي إن اقتربتِ منها كسرتُ يدك.


- هكذا إذن؟!



وعبست في وجهيهما وهي تندب حظها العاثر:

- كلهم لديهم من يدافع عنهم إلا أنا..



نظرت إليه مشدوهة وقد مستها كلماته في الصميم، انتبه لها وهي تتأمله فعاد البريق البارد ليطوح نظراه وصوته من جديد:



- أبي يريد أن يسلم عليكِ.


هزت رأسها بالإيجاب دون أن تنطق، أبعد ذراعه عنها فأحست بالبرد والضياع!!!



أخذت تختلس النظرات إليه من جديد وهو بجانبها بقامته الطويلة...



إنها لا تفهمه، لا تفهمه أحياناً!!!



وقطع عليها خالها تفكيرها وهو يصافحها ثم يقبل جبينها ويجلسها بجانبه...



بارك لها "ناصر" و "وليد" وأعطياها هدية فأخذتهما شاكرة.


كانت تستمع إليهم وتبتسم بخفوت، كثيراً ما تتلاقى بعينيه فتضطرب وتعود لتعبث بما في يديها.


وحانت لحظة الإنصراف فقال "عمر":


- أبقى يا أبي وتعشى معنا.


تطلع إليه بعتاب وهو يسأله:


- جعلتها تطبخ منذُ اليوم الأول؟!


ابتسم في وجه والده:


- العشاء لا، سنطلب لنا جميعاً من أحد المطاعم.


- بالهناء والشفاء يا ابني، لكننا تأخرنا والبيت خالٍ دون رقيب.



تسمع حديثه وهو يتحدث وكأن شيئاً لم يكن، كزوجٍ سعيد هو!!!



غاب الرجال بالأسفل ولم يتبق إلا هي و"ندى" و"شيماء".



اعتراها الخوف فجأة من ذهابهم، أخذت تتطلع لصاحبتيها بتوتر وهما يمازحنها وتتشاجران دون أن تفقه ما تقولانه..




وحين تحركتا للإنصراف، وقفت هي الأخرى:


- أين ستذهبان، لازال الوقت مبكراً.


- الساعة التاسعة وأنا أنام مبكراً تعرفيني. ردت "شيماء".


تطلعت "غدير" إلى "ندى" بتوسل خفي:


- أبقي معي هذا المساء.


- لا بأس، ليس لدي مانع، سأستأذن من والدي أولاً.


لكن "شيماء" سحبتها معها والأخيرة تصيح:


- مع السلامة سنذهب الآن، لا عليكِ من هذه المجنونة.



و بدأ قلبها يدق بطريقة غريبة، بقوة، بجنون، تطلعت إلى حيث انصرفوا، إلى حيثُ خرجوا كلهم، كلهم دون استثناء!!!



أرادت أن تعود لغرفتها، لكن جسدها خانها مرةً أخرى، لم حين نأمره أحياناً يرفض الانصياع، تُرى ماذا يحدث للجهاز العصبي حينها، أيصاب بالركود أم ماذا؟!!



نظرت إلى القدمين اللتين انتصبتا أمامها، رمشت عينيها عدة مرات ثم صدت للأمام...



عيناه تتقدان شرراً و وجهه مظلم كسمرة الليل حين هجوعه...



فتحت شفتيها لتقول شيئاً لكنها أمسكت، بدت مبلدة الحس تلك اللحظة...



كيف يتغير الإنسان بين عشيةٍ وضحاها!!



ماذا حدث يا ترى؟!


وقطع السكون بصوتٍ قاسٍ مليء بالترهيب:


- ماذا قلتِ لشيماء؟!



ازدردت ريقها وهي تحاول أن تُخرج صوتها الذي احتبس في حنجرتها، ردت بإرتجاف:


- لم أقل لها شيئاً.


أمسكها من يدها بعنف وهو يصيح في وجهها:


- لاتكذبي..


- والله العظيم لم أقل شيئاً. ردت بتباكِ.


- تخالينها حمقاء مثلك!!


- لم أقل شيئاً..لم أقل شيئاً. وأخذت تجهش بالبكاء دون أن تعي ما يقصد...



كانت خائفة من نفسها أو ربما منه!!


أفلتها وهو يحدجها بإزدراء :


- لا تملكين إلا البكاء، أهذا ما تجيدينه؟!


وضعت باطن كفها على فمها كي تأد دمعتها وهي تسير إلى الخلف.



- أين تذهبين؟!


- أنا..أنا.....و اختفى صوتها المبحوح.



هز رأسه نافياً وهو يعقد حاجبيه:


- أنا من أقول متى تنامين ومتى تنهضين!! اجلسي.


وتطلعت إليه برجاء من بين غلالة دموعها الصامتة لكنهُ صمّ أذنيه عن نداءها اليائس...



جلست على الأريكة وهي مطرقة، وبقي هو واقفاً ووجهه محول للجانب الآخر...



ومرّ زمنٌ طويل وهما على هذه الحالة، وأخيراً نطق وبدا صوته لها بعيداً، غريباً، قادماً من كوكبٍ آخر!!!


- لا بد أن نتكلم في موضوعك، تعرفين، ذاك الذي تحبينه!!


رفعت رأسها بسرعة وكأن أفعى لدغتها لكنها سرعان ما أشاحت وجهها ونكست للأرض.



أردف وقد تغيرت نبرة صوته:


- لم تخبريني من هو، وأعتقد من حقي أن أعرف، ألا ترين ذلك؟!



وجهه ينضح بالعذاب، بالألم،بليلٍ سرمدي...


تساقطت دموعها بلا توقف وهي تكابد لوعة اجتاحتها تلك اللحظة..



- أنا لا أريد أن أرى دموعاً، أنا أريد أن أسمع فتكلمي...



الطعنات تتوالى والألم أكبر من أن يحتمل، لكنها من بدأت أليس كذلك وعليها أن تكمل...



الحروف كلما حاولت تجميعها، تنفلت، تتشتت، تنسل من ذاك الخيط الدقيق الذي يربطها معاً...



تحاملت على نفسها وهي تقول بجهد، بتقطع:


- هو..هو..


وصمتت وعيناها تسألانه قبل أن تلقي الرصاصة:


"لم تعذب نفسك وتعذبني"..


لكن عيناه كانت متوقفتان على شفتيها تنتظران منها الإفصاح، فليجرف السيل كل شئ، لا يهم، بعد ذلك لا يهم!!



- هو ابن..جارنا.



عاد الصمت ليخيم من جديد، وإن كان صمتاً مشحوناً برعود، ببروق، بأشواك...


- ولم لم يتقدم لكِ ليخطبك؟!


آه، لازال مصراً، لازالت السكين لا تتوقف عن القطع...



- لازال طالباً في الجامعة و..وظروفه لا تسمح له بالزواج حالياً.. ردت بشرود، دون حياة.


- آها، هكذا إذن؟!



وتغير صوته فجأة وبدت عيناه قاسيتين، سوداوتان!!!


- وماذا فعل بعد أن علم بأنكِ تزوجتِ الآن، وأن العصفورة قد طارت...


أفاقت من شرودها و أجفلت من مرآه، من صوته، وصمتت ترمقه بإرتياع..


صرخ بغضب:

- أجيبي..


غطت وجهها بيديها لكنه تقدم منها وأبعد تلك اليدين النحيلتين...



ثم أخذ يهزها كي تجيب، صاحت في النهاية بيأس:


- لا أدري..لا أدري.



قال بإجرام:


- عدتِ للكذب مرةً أخرى، لو تعلمين كم أكره الكذب والكذابين!! لا بد أنه كان بينكِ وبينه اتصال أليس كذلك؟! أو ربما كنتما تتقابلان ونحنُ لا نعلم؟!!!


- كلا، كلا، كلا...



وأخذت تجهش بالبكاء بمرارة وهي تصيح بلا دون توقف..


لكنه لم يرأف بحالها أو بحاله!!!


السكين لابد أن تقطع مرةً واحدة وبنفاذ أليس كذلك؟!


الموت البطئ ليس جيداً على الإطلاق، ليس مريحاً أبداً...



- إذن كيف تعارفتما وتكونت قصة حبكم الجميلة؟!أخبريني ربما غفلتُ عن بعض طرقكم الجديدة!!




وضعت يديها على أذنيها وهي تصرُّ على شفتيها بألم...



- لا تختبري صبري يا "غدير" وإلا قسماً قتلتك لا محالة.



دفنت رأسها في الأريكة وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:


- طلقني وارتح مني..



وكأنها ذرت الملح على الجرح النازف، ذاك الذي لازال طرياً، غضاً، لازال يسيلُ عبيطاً بقوة زخات المطر وبتموجات السم!!


امتدت يده لتطبق على عنقها بعنف ويديرها إليه، قرب وجهها المرتعش من وجهه حتى انسابت دموعها المالحة على يده....



ردّ بصوتٍ غائب عن الوجود، خالٍ من أي شئ إلا الفناء!!


- تريدين أن أطلقك كي تتزوجينه بعد ذلك..


- ................


- لكن هذا أبعد لكِ من طيل السحاب والموت أقربُ لكِ مما تريدين، طلاق ولن أطلقك وسأفعل ما أريده وسأتزوج عليكِ بدل الواحدة ثلاث.



- كلاااااااااااا.



وأخذت تصيح بجنون وهي تضربه بقبضتها المنفلتة:


- طلقني، طلقني، أنا لا أحبك لا أريدك.



تطلع إليها بإزدراء وهو يقول بسخرية قاسية:


- يا عزيزتي الحب بات شيئاً لا أؤمن به، غير موجود على الإطلاق في قاموسي.


أوقفت حركتها وهي تمسح وجهها بذراعها أو ربما لتخفي عينيها كي ترد بشكيمة!!


رفعت صوتها بتصميم وهي تقاوم تلك الأنفاس التي لا تلبث أن تجثو على صدرها، أن تضيق عليها الخناق...



- الحب موجود، حقيقي لأنني..لأنني أحبه هو، أسمعت؟!



وما أن رأت يده ترتفع لتهوي حتى دفنت رأسها بسرعة في صدره لتحتمي به منه!!!!!



تشبثت به بقوة بأصابعها المرتجفة وهي تتوسل إليه بكلمات غير واضحة...


سكن هو الآخر وإن بقيت يده معلقة في الهواء...


عيناه تجوبان هذا الرأس المندس، المرتعد خوفاً من يده الثقيلة....


الشجن ينطلق من تلك التي تكاد تغفو من شدة التعب، من كثرة التعب...





أرخى ذراعه، وأمسكها من كتفيها ليزيحها عن صدرها لكن سرعان ما استيقظت حواسها و انقضت عليه من جديد لتحتمي به منه من جديد!!!



- أنتِ ماذا تريدين؟! أن تذبحيني.. صاح بألم، بعذاب، بصوتٍ خافت وهو يهمس في أذنيها.



وأخيراً أبعدها عنه بضعف...

العذابات تتوالى...


و مصاعب تستعمر القلب كفوهة بركان ..


صراعات قلب و عقل..


فمن المنتصر ؟!
هل أنتِ يا حبيبتي حبيبتي؟
أم أنتِ يا حبيبتي مصيبتي؟!

أريدُ أن أقول فيكِ غزلاً
وأن يضوعَ فيك طيبُ طيبتي

لكن هواك غربةٌ فكيف لي
أن أصنع الأفراح من تغريبتي؟!!


=============


(12)




كانت واضعةً قدميها على الطاولة بإستهتار وهي تثني إحدى الأوراق بأناملها وتترنم بأحد الألحان...


فلا غرو، فاليوم هو الثاني بعد سفر المدير المفاجئ إلى "قطر"...


ومرّ في ذهنها خاطرٌ خبيث فابتسمت....


مدت يدها لحقيبتها وأخذت تعبث بها قليلاً وأخيراً أخرجت شيئاً...



نهضت من مكانها و توجهت لمكتب صاحبتها وهي تسألها بنعومة مصطنعة:


- "أشجان" متى سيعود المدير من سفره برأيك؟!


- لا أدري، ربما بعد أسبوع..


- امممم سنشتاقُ له كثيراً!!!!


ولوت فمها بقرف وهي تغطي جانب من وجهها الأيمن بيدها..


ثم أردفت بدلع:



- خذي هذه "علكة"، ذكرتك وأنا في المحل واشتريتها خصيصاً لكِ، تعرفينني لا أنسى من أحبهم أبداً...



والتفتت إلى "جميلة" التي كانت تطالعها بحنق، فبادلتها ابتسامةً عريضة وهي ترمش عينيها ببراءة:


- عذراً لا أملك قطعةً أخرى، سأكتب ملاحظة في المرة القادمة، تعرفين مشاكل الذاكرة هذه الأيام!!


وعادت لتخاطب "أشجان" من جديد وهي تعبث بخصلتها النافرة من حجابها:


- هل سمعتي أغنية "نانسي" الجديدة؟!



ولكزت إحدى عينيها ففهمتها "أشجان" وضحكت بخفوت..


ردت عليها والضحكة تملأ شفتيها:


- أي أغنية؟!


- أخصمك آه.


- هذه أغنية قديمة على ما أعتقد..


لوت "ندى" فمها وهي تعلّق بعتاب:


- ماذا جرى لكِ، ألم تعلمي؟! لقد أجرت على كلماتها بعض التعديلات!!


- يجوز... ردت وهي تهز رأسها بإيمان.



- المهم سأسمعك إياها.



و تراجعت بخفة إلى الوراء لتقف في المنتصف دون أن تأخذ موافقتهم!!!!


أخذت تتنحنح في البداية وهي ترمقهما بإبتسامة، ثم شكّلت يدها على هيئة "ميكرفون" وهي تنحني:


- تصفيق حار أولاً يا بنات لصاحبة الصوت العذب...شكراً شكراً.


وأعادت خصلتها إلى الداخل لتطربهم بصوتها الصداح!!



أخصمك آه

أسيبك لا


وجوّه الروح حتفضل "مديري" إلا آنه بهوااه!!!


يا لي بهواك مجنني يا لي بالشغل دايماً "متعبنيييييي"!!


..........................................


وانفجرت "أشجان" على طاولتها والدموع تطفر من عينيها لكنها استمرت بالغناء وهي تتحرك بجانب "جميلة" لتصطدم بها عمداً:


- أخ، لا تقفي أمام إبداعي، يا للغيرة القاتلة.


ومدت لها لسانها وهي تميل بجذعها وتسحب "أشجان" من يدها لتشاركها الرقص:



- تعالي وارقصي معنا، فساعات الحظ هذه لا تعوض. نادتها بسخرية.


خرجت "جميلة" من المكتب ومعها أوراقها وهي تنظر لهما شزراً...


- هههههه، ستخبر المدير بكل شئ بعد أن يعود.


ردت "ندى" وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة:


- لا عليكِ منها، سأكذّب كل ما ستقوله، هيا أنا سأغني مقطعاً وأنتِ تُكملين.


- موافقة.



- أخصمك آه. ودارت حول نفسها.


- أسيبك لا...


- وجوّه الروح حتفضل "مديري" إلا آنه بهوااه!!!



وتبادلت الفتاتان المكان وهما تصفقان بأيدي بعضهما...


- يا لي......



وجمدت الفتاتان فجأة بمكانيهما وبعد أن أستوعبتا الشئ الواقف أمامهما صرختا بصوتٍ كاد أن تتهدم له أسقف الشركة....



خبأت "أشجان" وجهها المتضرج احمراراً من الإحراج بكفيها أما "ندى" فكادت أن تتعثر بحذائها المخلوع وهي تركض حافيةً كالصاروخ إلى الحمام...



أغلقت الباب خلفها وهي تصفع وجهها دون شعور:


- يا إلهي، الفاتحة، الفاتحة على روحك يا "ندى"!!


وسمعت طرقاً عنيفاً على الباب فهوى قلبها تحت قدميها...


أخذت تصيح بتوسل:


- ليس ذنبي أنا، "نانسي عجرم" من غنت هذه الأغنية!!


- افتحي الباب واخرجي من هنا..



- ستصرخ علي أعرفُ ذلك.



- افتحيه وإلا كسرته على رأسك.. صرخ بصوتٍ هادر.



- أريدُ أبي، أريد أن أعود للبيت، أخوتي مرضى، و أنا مريضة أيضاً، أصبتُ بالجدري، سأُعديك!!



ورفعت صوتها بتباكٍ وهي تقرص خدها أمام المرآة وتطالع نفسها بإعجاب في آنٍ واحد!!!


- سأعدُّ حتى الثلاثة إن لم تخرجي سيكون حسابك عسيراً. قال بتهديد.


عادت لتصيح بإستعطاف:


- أنت لا تصدقني، تريدني أن أشتري لك هذا الشريط وأسمعك إياه؟!


- قسماً بــ...


- لحظة لحظة سأخرج.



عادت لتربت على خدها وهي تدور في مكانها:



ماذا أفعل، ماذا أفعل!!


وفتحت ماء الصنبور، واختلست منه قطرات وضعتها في عينيها وهي تصرُّ عليها وتقرص خدها من جديد...



- اخرجي فوراً. صرخ بنفاذ صبر.




أمسكت إكرة الباب ببطء وهي تسمع الدماء تجول بقوة في رأسها وتعطله من الخوف...



وأخيراً فتحته وهي مطأطأة رأسها بأقصى ما تصل إليه حتى كادت رقبتها أن تنكسر من هذا الإنحناء القسري!!



كانت ترى حذائه فقط، هذا ما استطاعت مشاهدته!!



ازدردت ريقها وهي تقول بخفوت وذل:


- أستاذ، أستاذ لم أكن أعلم بأنك ستعود اليوم..


- حقاً!! أعتذر إن كنتُ قد قطعتُ عليكِ الحفل أنتِ وصديقتك!! رد بسخرية لاذعة.


- أستاذ أنا..أ...


- اخرسي أتخالين هذا المكان مرقصاً؟! أليس بكِ ذرة حياء واحدة، ألا تخجلين من نفسك؟!


"لا تبدأ بالغلط، سكتُ عنك كثيراً أيها السخيف!!!"..



- أستاذ، الطبيب الذي أعطاني العذر ذلك اليوم قال...


قاطعها بإستهزاء:



- ماذا قال هذه المرة أيضاً؟! أن ترقصي وتغني كي تعالجي جنونك!!!


غطت وجهها بكفيها وهي تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها من الإحراج..


- أ..أ...أ وعادت تتأتأ.



- اصمتي، كم مرة قلتُ لكِ لا أريد أن أسمع صوتكِ البشع هذا.


- أنا صوتي بشع؟! رفعت يدها عن وجهها وهي تصيح بإستنكار.



حدجها بنظرةٍ نارية فعادت لتزم فمها ووجهها منتفخ، أخذ يتأملها من رأسها لأخمص قدميها بإمتهان ثم توقف عند قدمها الحافية، كانت بلا حذاء!!!



تطلعت إلى حيثُ ينظر فصعقت وهي تتراجع للوراء بسرعة....


أخذت تردد بتلعثم وعلى فمها ابتسامة بلهاء:


- حذائي، أين ذهب؟! لا بد أنهم سرقوه، تعرف هذه الأيام كل شئٍ يسرق، وحذائي غالي الثمن، اشتريته بــ....


وعاد إليها المغص من جديد من ملامح وجهه المكفهرة...


- اليوم لن تخرجي من هنا، ستبقين هنا حتى المساء تعملين..


- مع "أشجان"؟!


- كلا لوحدك. رد بحسم.


رفعت أصبعها بإستنكار وهي تشير لـ"أشجان":


- هي أيضاً فعلت مثلي، هذا ظلم..


شهقت "أشجان" لكنها لم تبالِ بها وأخذت تنظر إليه بغضب:


- هي لم تكن كذلك أبداً وأنتِ من خربتها..



ضربت على صدرها وهي تصيح في وجهه:


- أنا خربتها؟! يا قليل ال...



وتقدم منها وقد أسودّ وجهه، سألها بصوتٍ مصرور:


- قليلُ ماذا؟! أكملي...


عادت لتنطق والحقد يملأ عينيها:


- يا قليل ال..ال...


وصمتت وهي تنظر للأرض كأنها تبحث عن شئ ثم صدت له وهي تطالعه:


- ال...الشعر!!



وتحركت عضلة صغيرة في زاوية فمه في شكلٍ أشبه بضحكة، لكن وجهه سرعان ما عاد لجديته وغموضه.



- في المرة القادمة لا تنسي أن تحضري معكِ "دفّاً" ربما تحتاجينه..




"أحتاج لمقص كي أقص لسانك الكريه هذا"...



وسار عنها إلى مكتبه وهي تتابعه بعينين لا تريان..


أخذت تخاطب نفسها بأسى:


- سيحبسني هنا حتى المساء، كيف سأتحمله!!



وأخذت تدق الأرض بقدمها الحافية دون شعور..


اقتربت منها "أشجان" وهي تربت على كتفيها:


- لا عليكِ، هو يومٌ واحدٌ فقط...



- بودي أن أعرف لم يكرهني أنا بالذات، دائماً أنا أنا أنااااااااااااااااااااااااا.



وأخذت ترفع من صوتها، فسحبتها هذه الأخيرة وهي تكمم فمها:


- اخفضي صوتكِ، تريدينه أن يسمعكِ من جديد ويمسح بكِ الأرض.


- دعيه يسمع، أنا أريده أن يسمع، يخالني أخافُ منه، ألا يعرف من هي "ندى"؟!



تطلعت إليها "أشجان" بإشفاق وهي تهز رأسها:


- أجل هو يعرف هذا جيداً...



- ثم ما ذنبي أنا إن كانت "نانسي" اللعينة تختار هذه الكلمات الخرقاء، أأنا من قلتُ لها ذلك؟!



- !!!!!!!!!!!


- ثم أين ذهب حذاااااااااااائي؟!



و أخذت تصرخ بهستيرية وهي تدور حول المكان وتلقي بالأشياء من حولها:


- سرقوووووووووه...



جلست "أشجان" على مكتبها وهي تطالع صاحبتها بخوف..


"يبدو أنها فقدت عقلها"...



==========

عاشقة الكتب 24-05-07 04:45 PM

(12)



أوقفت قلمها عن الكتابة فجأة وهي ترهف السمع للصوت القادم من بعيد...


لحظة!! هذا ليس بصدى صوته...


ربما كان ذلك صدى أنفاسها هي، أو صدى خواطرها التي باتت تأرقها منذُ يومين!!!


منذُ آخر مساءٍ جمعهما معاً...


أين هو ؟! و أين ذهب؟!


وعاد القلق ليعتريها من جديد، فأزاحت دفترها عن جانبها وفتحت باب حجرتها لتخرج...


أخذت تدور حول الشقة ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم ولكن دون أن ترى له أثراً في هذا المكان....


أمن المعقول أن يتركها هنا لوحدها؟!!


كلا، كلا هذا ليس من شيمه البتة...


وتطلعت إلى غرفته بوجوم، هذا هو المكان الوحيد الذي لم تطرقه بعد...



أتراهُ يحبس نفسه فيها كما تفعل هي؟!


توقفت أمام باب غرفته بتوجس، لكنها استجمعت شجاعتها أخيراً وطرقتها بخفوت....



لا إجابة، لا صوت، لا صدى!!


زادت من دقها وهي تنادي عليه:

- عمر!!


ليس هنا أيضاً...


وانقبض صدرها وهي تقف في مكانها بحيرة، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت من جديد لكن شيئاً استوقفها...


أمسكت إكرة الباب وأدارتها فانفتح شيئاً فشيئاً...



أطلت من تلك الفرجة الضيقة وهي تجول ببصرها حول الغرفة التي لم تطأها قدماها من قبل.....


وفتحت الباب على مصراعيه...


كانت واسعة، فسيحة، جدرانها مطلية بلونٍ مشمشي فاتح...


ولجت إلى الداخل، وبلا شعور أخذت تتفقد محتوياتها وتجمع تلك الملابس المبعثرة على الأرض...


كان فيها شيئاً منه، شيئاً لم تستطع تلك النافذة المفتوحة أن تتخلص منها رغم هبات النسيم التي تعبث بحرية في تلك الستارة.....



ربما كانت رائحة عطره المميزة، أو غموضه أو حتى قسوته!!


عادت لتحني جذعها وتلتقط فرشاة شعره الملقاة على الأرض....



وضعتها على طاولة الزينة لكنها توقفت طويلاً أمامها وقد جذبتها تلك الصورة الصغيرة المحاطة بإطارٍ نحاسي مُذهب....


أمسكتها بيديها الصغيرتين وهي تمرر أناملها النحيلة عليها....


تأملت صاحب الصورة، وجهه، عيناه، وكل خلجةٍ من خلجاته...


ولاح طيفُ ابتسامةٍ باهتة على شفتيها وهي تلمس عيناه!!


لم تعرف حتى الآن مِن مَن اكتسب هذا اللون؟!


أتراها ستعرف يوماً أم لن تجرؤ على سؤاله حتى؟!


وطمست الصورة بيدها وهي تضمها إلى حجرها بقوة وألم...



هبات النسيم لازالت تدور بحرية، تجوبُ الستار والزوايا والزمن!!!



لكنها تقفُ عاجزةً عن اختراق الجنان، عاجزةً أن تمنحه شيئاً من الراحة والطمأنينة والسكون....



- ماذا تفعلين في غرفتي؟!



ورفعت رأسها فجأة بذعر منتشلةً خواطرها، لتجد صاحب الصورة واقفاً ويده مرتكزةً على الباب...


تراجعت إلى الوراء وهي تخفي ما بيدها خلفها بخوف...



كان ينظر لها بتعب وقد بدا الإرهاق على وجهه الأسمر ما خلا ذلك البريق القاسي الذي بات يلوح في عينيه في الآونة الأخيرة...



- أأعجبتكِ غرفتي؟!


- ..................


- ربما تودين الإنتقال إليها؟!! سألها بسخرية مؤلمة.



أطرقت للأرض وهي تهزُّ رأسها نفياً ببطء...



خيم السكون المتوتر عليهما من جديد، لكن صوته الهادر أجفلها:


- إياكِ أن تأتي إلى هنا يا "غدير"، إن أردتِ أن تسلمي مني..


ثم أردف وهو يصيح:


- اخرجي من هنا فوراً...



وانكمشت في مكانها وهي تعضُّ على نواجذها بقوة....



لازالت مطرقة، لازالت هاوية، لازالت ضائعة هنا و الصورة لازالت بين يديها!!!!


وابتعد عن الباب وهو يتقدم منها بغضب من وقفتها هكذا بلا حراك....


أمسكها من ذراعها المنثني وهو يصرخ في وجهها:


- لقد عُيل صبري منكِ، أنا لستُ قديساً، لستُ قديساً أتفهمين؟!



لكنها لم تكن لتسمع، كان همها أن تتراجع إلى الوراء....


انتبه إلى يديها المعقودتين، فسألها بحدة:


- ماذا تخفين خلفك؟


نظرت إليه بإضطراب وهي ترد بتقطع:


- لا...لا شئ..


- كم مرة قلتُ لكِ أنا لا أحبُّ الكذب!! أريني ما بيدك..


- "عمر" أرجوك......


وذهبت توسلاتها أدراج الرياح، هناك خلف الستار!!!



أمسكها من ذراعها وهي تجاهد بيأس:

- إنها..إنها..


وسحبها من يدها دون أن يستمع لما تقوله، وسكن فجأة وهو يطالع صورته دهشاً...


مرر بصره بينها وبين الصورة بتساؤل:

- لماذا؟!


لم تحر جواباً، كل ما أرادته هو أن تفر من هنا، من أمامه...


لكنه وقف أمامها بالمرصاد وعاد ليسألها بإصرار:

- لماذا؟!


أطرقت للأرض وهي تحاول أن تلملم نفسها، أن تجمع أشلاءها...


وكلما حاولت أن تمسكها، أن تقبض عنق الزجاجة أفلتت وسالت قطرات الماء....


- أنا..أنا...


- أنتِ ماذا؟!


- لاشئ..لا شئ. رددت بصوتٍ لا يُسمع.


تطلع إليها بنفاذ صبر وهو يمرر أصابعه في شعره بتوتر....


ثم نظر إلى الصورة وما هي إلا دقيقة حتى ألقاها على الأرض بعنف...


الصورة تهوي والزجاج يتحطم، يتبعثر ناعماً، بقطعٍ صغيرة لا تبين...


وضعت أناملها المرتجفة على فمها لتكبح صرخة استنكار كادت أن تنطلق رغماً عنها...


وأشار بيده إلى الباب فخرجت كالبرق ولوعةٌ دفينة تسبقها...


ألقت بنفسها على سريرها وهي تجهش بالبكاء، ضربت وسادتها بقبضتها وهي تهمس:


- ليس ذنبي..ليس ذنبي أنا!!



===========



- اذهبي هو ينتظرك، أليس هذا ما تريدينه!!


- ناصر، ألا زلت غاضباً؟! إذا كنت لا تريد فلن أذهب.


نظر إليها بفتور ثم تنهد:


- أنا لستُ غاضباً..


اقتربت منه وهي تضع يدها على كتفيه:


- إذن تعال معي.


أبعد يدها عنه بضيق:


- أنا أخبرتهُ بما لدي، ليس لدي المزيد لأقوله..


نظرت إليه بعبوس ثم سرعان ما خرجت من غرفتها...


تطلع إلى الباب المفتوح وتنهد...



ثم عاد ليتصفح كتاب "رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية" للدكتور محمد جابر الأنصاري...


أخذ يقلبه برهة ثم سرعان ما قلبه على الصفحة التي توقف فيها مسبقاً..


لا يدري ما يمزقه أكثر!!!


هموم العالم القابع في دوامة، في بقعةٍ سوداء ضئيلة، في ماءٍ آسن يرفل بالجبن والعار والتبعية!!


أم همومه مع هذه الزوجة العنيدة!!!


كلاهما صداع، صداع مقيت...



دقت باب غرفة الجلوس لتجدهُ جالساً بإنتظارها وفي يده لفافة تبغ سرعان ما سحقها على الطاولة الزجاجية الصغيرة!!!


حركت يدها في الهواء لتبعد رائحة الدخان الكريهة بإشمئزاز عن محيطها...


وبعد أن ألقت السلام جلست على الكرسي الذي يقابله...


وابتسم لها معتذراً:


- آسف إن أزعجتكِ الرائحة، إنها عادة سيئة اكتسبتها في الغربة!!


- لا بأس. ردت مجاملةً.


- طيب لنبدأ الجلسة، أخبريني أولاً ماذا قال لكما الطبيب.


- ألم يخبرك "ناصر"؟


- بلى، ولكن أحب أن أسمعه من جديد منكِ، فأنتِ تعرفين أن النساء يذكرن تفاصيل قد يغفلها الرجل وقد تفيدنا في موضوعك..


وعاد ليبتسم لها، فحكت جبينها بتفكير:


- لقد أجروا لنا فحصاً أكلينيكياً، وقال الطبيب أن كلانا سليمان من هذه الناحية، لكن القلق النفسي هو من يحولُ ذلك وسماه بالاضطراب السيكو...


وتوقفت عند هذه الكلمة بتلكأ محاولةً نطقها بشكلٍ صحيح:


- آه، السيكوسوماتيك”psycosomatic” أي الاضطراب النفس جسمي..


- لم أفهمها صراحةً..


- هذا اضطراب ينشأ من وجود عامل نفسي كالضغوط أو التوتر أو القلق مما يؤثر على وظائف الجسد الفسيولوجية فيصاب الشخص مثلاً بآلام عضوية، أمراض القلب، صداع، إمساك، عقم وهكذا...



وشهقت بصوتٍ مرتفع وهي:

- عقم!!


- أجل، بل أسوأ من ذلك، إذ قد يصل الصراع النفسي الذي يعيشه الفرد إلى اصابته بالسرطان والعياذ بالله و هذا ما أثبتته آخر الدراسات الأجنبية.


وأخذ يشرحُ لها وهي تستمعُ له بإنصات واهتمامٍ شديد...


- على العموم أنتِ لازلتِ صغيرة وأمامك المتسع لتنجبي بدل الطفل عشرة...


قال ذلك وهو يتأمل وجهها البرئ بإعجاب لم يخفى على عينيها...


تململت في جلستها بضيق وهي تهمهم بردٍ غير مفهوم.


وانتبه لنفسه وعاد ليتكلم بلغة الطب من جديد:

- اعطني فحوصاتكم السابقة لأطلع عليها.


- تريدها الآن؟!


- ليس الآن تحديداً، ولكن في أقرب فرصة، فأدواتي المخبرية ستصلُ بعد يومين أو ثلاثة من الخارج.



نهضت وهي تشكره منصرفةً فعاد ليسحب لهُ سجارةً أخرى....



نفث دخانها ببطء وصورة قوامها الممشوق ماثلة بوضوح أمام عينيه الصغيرتين!!!



=======


- خذي..


- ماذا؟!


- أعطها المدير.


تطلعت "أشجان" للملفات وكأنها تنظر لأفعى و سرعان ما رفعت يدها نافيةً وهي تقول:


- آسفة، أنا لن أذهب إليه، هذه ملفاتكِ أنتِ ولا أريده أن يصرخ علي.


- لن يفعل شيئاً لكِ.


ثم اقتربت منها وهي تهمس لها بتوسل:


- أرجوكِ، ألا يقولون: الصديق وقت الضيق.


- سأساعدك في أي شئ ولكن إلا في هذا.


كتفت "ندى" ذراعيها وهي ترفع حاجبيها عالياً:


- لم تفعلي لي شيئاً قط، دائماً أنا، أنسيتِ ذلك اليوم حين تعطلت سيارتك وأوصلتك إلى منزلك!!


شهقت "أشجان" وهي تردد دون تصديق:


- أتمنين علي بتلك التوصيلة؟!


مطت "ندى" شفتيها:

- كلا، ليس هكذا، تعرفين هذا ليس من خصالي، أحببتُ أن أذكرك ليس إلا..


ثم أردفت بصوتٍ واطئ:


- ماذا سيضرك، ارميها على مكتبه وانقذيني..


- أنا لا أحب المشاكل، ولا أستطيع الرد عليه مثلك.


- وأنا لا أطيق رؤية وجهه.


- قولي لـ"جميلة" ربما تساعدك..


- يا لخفة دمك!!


واستدارت متجهة للمكتب وهي تتأفف، طرقت الباب فجاء صوته البارد:


- تفضل..


- إذا كنت مشغولاً سأعود!!


- ادخلي.


زمت شفتيها وهي تتمتم بشئٍ ما، وولجت إلى الداخل...


وضعت ما بيدها على الطاولة مباشرة وهي تخاطبه بسرعة:


- الملف الأحمر والأزرق لشركة "الصائغ" للمقاولات، وهذه رسالة وصلت لك من بنك "البحرين والكويت" ربما كانت ديون أو ضرائب لم تدفعها أفتحها إذا كنت تريد أن تعرف...


ثم استدركت وهي تلوي شفتيها:

- إذا شئت طبعاً..


واستدارت لتعود إلى مكانها لكنه استوقفها:


- هيه أنتِ انتظري.


- نعم.

ودوّن شيئاً ما في ورقة صغيرة وهو يخاطبها:


- غداً أريدك أن تذهبي إلى هذه الشركة لتخلصي معاملاتنا معهم، وخذي معكِ "جميلة" فقد سبق أن تعاملت معهم.


- أنا لن أذهب معها..


- لماذا؟!


- نحنُ لا نكلم بعضنا..



ردّ بحزم:

- الأمور الشخصية ليس لها علاقة بالعمل في هذا المكان، أتفهمين!!


- سأطلب من "أشجان" أن تذهب بدلاً عني.


- أنا قلتُ أنتِ وانتهى الأمر فلا تجادليني. صاح في وجهها.


- لماذا تكرهني، ماذا فعلتُ لك؟!


- أكرهك!! ومن أنتِ كي أكرهك أو أحبك!!


رفعت أصبعها في الهواء بتهديد:


- إذا كنت تحبني فهذه مشكلتك لوحدك، لو سمحت أنا صغيرة ولا أريد أن تتفتح عيناي على مثل هذه الأمور!!!


فتح هو عينيه بدهشة...


و من قال الآن أنهُ يحبها!!!



ثم أردفت بإنزعاج:



- ثم هذا مكان عمل كما تقول، و من المشين أن تتحدث إلي هكذا، ماذا لو دخل أحدهم وسمعك تقول هذا الكلام!! تريد أن تتشوه سمعتي؟!!



ثم زفرت وهي تشيح وجهها وتحرك أصابعها في الهواء...


- أعلم أنني جميلة وملفتة للنظر لكن هذا لا يجوز، لا يجوز إطلاقاً!!!!



الدهشة تكبر وتمتد لتشد تعابير وجهه بأكملها...


وحين أفاق من صدمة كلماتها، ضرب بقبضته على مكتبه بقوة، فقفزت في مكانها وهي تلم أصابعها بخوف:


- تعالي إلى هنا، اقتربي...


- ماذا..ماذا تريد، كنتُ أمزح معك، لا يجوز..يجوز...أشر برأسك يجوز أو لايجوز؟!


- أأنتِ بلهاء أم ماذا؟!


وأكمل بغضب:


- ماذا تعتقدين نفسكِ أيتها السخيفة الفارغة من أي شئ!!


"أنا سخيفة، أنا فارغة، سامحك الله!!"


ولكن لا ترد على السفيه جوابا أليس كذلك؟!


اسمعني إذن أيها السفيه....



أسبلت عينيها بتذلل كعادتها في تلفيق قصصها الدرامية، ولم تفته هذه الحركة أبداً...


عبّرت بإستكانة:


- صدقني أستاذ، عندما كنتُ صغيرة كان بودي أن أصبح ممثلة، لكن كلهم وقفوا في وجهي، حتى المعلمات في المدرسة كن يطردنني من المسرح ويقلن عني فاشلة...


وغطت وجهها بكفيها وهي تخرج صوتاً أقرب للبكاء، وتطالعه بعينها من تلك الفرجة الضيقة التي تخللت أصابعها...


وأكملت وهي تنهنه:


- وتكونت لدي عقدة، ليس مثل عقدة "أوديب" و "الكترا"، لا بل أخطر...


ورفعت يديها عن وجهها وهي تسأله فجأة بحماس:


- أتعرف عقدة "أوديب" و "الكترا"؟!!


فغر فاهه وهو يحملق فيها بريبة من تغير حالها...


- أنا أعرفها جيداً، هذا فتى اسمه "أوديب" كان يكره والده لأنه ينافسه في حب أمه، تصور ترك نساء العالم وأنا!!! وأحب أمه ذلك المجنون!!!


وأخذت تضحك بأريحية وهي تضرب ظهر الكرسي بيدها وبعد أن هدأت، أردفت:


- أما "الكترا" فهذه فتاة كانت واللهُ أعلم، تعرفني لا أحبُّ أن أغتاب، لكن هم من قالوا عنها ذلك، المهم كانت هي الأخرى تحب أمها، كلا، بل كانت تحب والدها وتكره أمها، أرأيت مجانين كهؤلاء؟!!


وعادت لتضحك بهستيرية وقد نست نفسها...


نظر إليها بذهول وعلّق وكأنهُ يخاطب نفسه:


- ما المجنون إلا أنتِ أيتها المجنونة...



لكن كلماته تلك لم توقفها بل زاد ذلك من ضحكها وهي تلوي على نفسها وتسعل دون توقف....


تسللت ابتسامة صغيرة عنوةً إلى شفتيه من منظرها لكنهُ سرعان ما أخفاها وقال بجمود:


- بإمكانك أن تنصرفي الآن يا آنسة.


وخرجت من مكتبه بعد عناء متعب من أجل أن تقفل فمها، وما أن فتحت الباب حتى استلمتها "أشجان" وهي تسحبها:


- أخبريني، ماذا جرى؟! لم كل هذا الضحك مع المدير!!


- أتعرفين "أوديب" و "الكترا"؟! سألتها بأنفاس مقطوعة.


- لا...



وكلما همت بأن تنطق كلمة عادت لتقهقه من جديد بصوتٍ مجلجل ودموعها تطفر من عينيها..



- ندى، تكلمي من هم هؤلاء؟!



ولكن لا حياة لمن تنادي....



==========



غطت وجهها بصفحة الجريدة العريضة وهي تحاول أن تتحاشى ذاك الظل الذي بات يحاصرها أمامها وفي أحلامها!!!



عيناها مفتوحتان تتابعان تلك الحروف الصغيرة المطبوعة في جملٍ وعبارات لم تفقه منها أي شئ، وكيف لا، وهو واقفٌ هكذا منذُ 10 دقائق!!



الصفحة لم تقلب بعد وأطرافها بدأت تتجعد بلا رحمة بين أصابعها...


وكلما كادت يدها تهوي على حجرها استماتت بقوة لتظلّ مرفوعة، فلا تدري أي صفحةٍ طُبعت على وجهه هذا المساء!!


ولكن لا بد لها أن تقرأ شاءت ذلك أم أبت ، ها هي يداه تمتدان لتخطفا الجريدة وتكورانها بأكملها...


ضمت يديها إلى حجرها ونكست رأسها كأنها تنتظر العقاب.


- ماذا أعددتِ للعشاء؟! سألها ببرود.


- لاشئ.


- لاشئ؟! صاح بغضب.


انكمشت في مكانها وهي تردُّ بإستعطاف:


- لم أجد شيئاً في الثلاجة لأطبخه.


- ولم لم تخبريني من قبل؟!


- أنا لا أراك..


- بإمكانكِ أن تتصلي على هاتفي.


ردت بإنفعال:

- لا أعرف رقمك.


- أليس لديكِ لساناً لتسألي!!


- أنت تريدُ معاقبتي على أي شئ أليس كذلك، اضربني إن كان يريحك هذا..


وغطت وجهها بكفيها وهي تبكي من العذاب، من الألم، من هذا الشجار اليومي الذي لا ينتهي....


مدّ يده بسرعة واضعاً إياها على رأسها لمدةٍ طويلة فارتفع صوتُ بكاءها و بدأ جسدها يهتز...


ثم حرك أصابعه ليمسح على شعرها برفق:


- انهضي سنتناول العشاء في الخارج..



وهدأت فجأة فقد خالته سيخلع شعرها كما حدث في المرة السابقة..


رفعت وجهها إليه وهي تمسح عينيها دون تصديق...


طالعها بنظرةٍ عميقة قبل أن يستدر:


- هيا لا نريد أن نتأخر...


وتركها تتابع طيفه يتهادى لينزح إلى الأسفل...


إنها لا تفهمه، لا تفهمه أحياناً...


انساقت هي الأخرى إلى غرفتها دون تفكير لتغير ملابسها....




وانتابتها السعادة دون أن تدري مصدر ذلك، ألأنها ستخرج من هنا لأول مرة أم لأنها ستخرج معه أم ماذا؟!



وجدته ينتظرها في سيارته، فولجت إلى الداخل وانطلقا معاً...


لم يتحدث كلاهما ولم تسأله أين سيذهبان، واكتفت فقط بالنظر إلى النافذة...



الكونُ يبدو فسيحاً في المساء وقد ألقى بظلاله على الجميع مانحاً إياهم شيئاً من الألفة ودفء النجوم...


أخذت تعبثُ بعباءتها بعد أن أتعبها النظر إلى الفضاء، ثم راحت تختلس النظر طويلاً إلى الجالس بجانبها بصمت....



الليلُ يضفي الكثير ويخفي الكثير أيضاً!!


ولكن من الصعب أن تحدق عن كثب أليس كذلك؟!



وأرادت أن تحول وجهها للنافذة من جديد لكنهُ التفت لها في تلك اللحظة وكأنهُ أحسًّ بنظراته المحدقة به...


وتشابكت نظراتهما برهة فتضرج وجهها احمراراً لأنهُ أمسكها متلبسة بتهمة النظر إليه!!



أزاحت بصرها إلى يديها المنقبضتين، فأتاها صوتهُ لاذعاً كالسوط!!


- ماذا؟! تقارنين الأصل الصورة!!


وعنّفت نفسها على فعلتها المشينة كما أسمتها وهي تدعو أن يتوقف عن السخرية بها...



وأخيراً أوقف مكابح سيارته.....


انتظرها ريثما تخرج بينما هي تتطلع إلى اللافتة المعنونة بمطعم "الأبراج"...


وتقدمها خاطفاً وهي تحاول اللحاق بخطواته السريعة بين الممرات حتى كادت أن تتعثر عدة مرات.


التفت إليها وهو عاقدٌ حاجبيه:


- ماذا بك؟!


- انتظرني أنا لا أعرف هذه الأماكن، لم أدخلها قط..


وارتجفت أهدافها وهي تقاوم دمعةً مُرة علقت بأطرافها.....


لا تدري لم أحست بالخوف وهو يبتعدُ عنها بخطواته، وحين اختفى طيفه فجأة بين الأزقة كادت تصرخُ ذعراً...


نكست رأسها بألم فانسابت دمعتها شفافة ملساء، انحدرت حتى ذقنها...


انقبض وجهه فجأة وضاقت عيناه وهو يرد بخفوت:


- آسف ...


ومدَّ يدهُ إليها فتناولتها وهي تتشبثُ بها بقوة أدهشته...



وجلسا حيثُ أشار النادل متقابلين...



سألها محاولاً الترفيه عن دموعها التي لا تفتأ أن تنزل على وجنتيها:


- ماذا تريدين أن أطلب لكِ؟!


- لا أريدُ شيئاً..


- امممم، تريدين "سزلنج دجاج"، هذا طبق لذيذ...


- ...........


- أم تريدين "شاومين" مشكل؟! هيا قرري..



وهزت كتفيها بأن لا تدري وقد بدأ مزاجها يتغير من رؤيته يخاطبها هكذا بلا تكلف...


ومرت دقائق قليلة سرعان ما أُحضر فيها الطعام وعاد الصمت ليخيم حول المكان ما عدا قرقعة الصحون...


لم تأكل الكثير واكتفت ببعض لقيمات...


- ألم يعجبكِ الأكل؟


- بلى، لكنني شبعت والحمدُ لله.


وضمت يديها إلى جانبها وهي تتأمله، تراقب طريقة أكله، حركاته، شعره!!!


خاطبها دون أن يرفع عينيه عن الطبق:


- لا تنظري إليّ هكذا، نحنُ في مطعم!!



- أنا لم أكن انظر..انظر إليك.. ردت بإنفعال.


- أجل!!


- أ..أ سأذهب إلى الحمام لأغسل يدي.


- أتعرفين أين يقع؟!


- ســ..سأسأل.


- انتظري سآتي معك، لقد انتهيت.



وسبقته في الخروج وقلبها يدقُّ دون هدى، بإضطراب....


ماذا أفعل أنا يا ربي!! يبدو أنني فقدتُ عقلي!!!


ودخلت إلى الحمام لتغسل يديها ووجهها علها تفيق من انجذابها المغناطيسي له.....


وأخذت نفساً عميقاً وهي تخرج لكنها لم تجده...


وابتعدت عن دورة المياه لتقف في نهاية الممر متجنبةً ازدحام الوافدين إلى هناك..



وانسلّ المنديلُ من يدها فحنت جذعها لتلتقطه، لكنها لم تكمل إذ سرعان ما التقطتهُ يدٌ أخرى أسرع منها وناولتها إياه...


- تفضلي...


تطلعت إلى الرجل الواقف قبالتها وعلى وجهه ابتسامة هادئة...


- شكراً.


وأخذته منه فهمهم:


- لا شكر على واجب.


وبقيت في مكانها واقفة تنظر للساعة بتوتر والرجل يتأملها بإهتمام:


- أتنتظرين أحداً، أتريدين مساعدة، أنا في خدمتك!!


هزت رأسها بسرعة وهي ترد بخوف:


- كلا، أنا لستُ وحدي، معي ..ز..وجي.


- أهاا..



ومد هذه الكلمة بتفكير، فأخذت تتلفت حولها وما أن صدت للأمام حتى رأتهُ قادماً باتجاهها...


ابتسمت له بارتياح لكنها سرعان ما وأدت ابتسامتها...


كانت عيناهُ تشتعلان وقد بدا وجهه مظلم، منطفأ، ومسحة من الإجرام تلوحُ في حناياه وهو ينقل بصرهُ بينهما...


تراجعت إلى الخلف بفزع وهي تهزُّ رأسها نافيةً كي لا يفسر ما يراهُ خطأ...


ها هو يقترب بثبات، بقوة...


أخذ صدرها يعلو ويهبط بقوة وشفتاها ترتجفان، وأفلتت من فمها صرخة ذعر:



- كلاااااااااااااااااااااااااا

لكن الصرخة اختنقت قبل أن يتردد صداها!!!!


مازال القلب يشتعل..
أصابهُ ظمأ الراحة و الاستقرار..
غارقٌ في لجلل حروفٍ هوت كالنار على الأسماع...
الحجارة تدقُ بعضها البعض والشرارة لا تلبث أن تتولد عنوةً رغم أنف الرياح...
الهديرُ لازال مستمراً وعاصفةٌ هوجاء قادمة على قيد أنملة...
و اعتراف يكاد يمزق حبل مودة مازالت معمرة بحب دفين
فمتى يحط الاعتراف
رحاله
على شواطي الحقيقه ؟؟

(13)

أحاط خصرها بذراعه وهو يشدها إليه بقوة، نظر إلى الواقف أمامه وهو يسأله بجمود:


- نعم!!

- لا...لا شئ يا أخي.


وابتعد الرجل وهو يغمغم معتذراً...


أما هي فبقيت جامدة في وقفتها تطالع الفراغ بعينين لا تريان وذراعه لا تزال تطوقها...


صرّ على أسنانه، وبصوتٍ كظيم همس:


- سيري أمامي فوراً وبهدوء.


وأفلتها بإزدراء دون أن تنبس ببنت شفه، دون أن تتحرك، بصرها ينظر للبعيد، إلى الأمام، إلى لا شئ!!!


وانتبهت لأصابع يدها التي أخذت ترتجف دون توقف....


روحها معلقة بين جنبيها، فوق فوهة زجاجة مهشمة، وقدماها ثقيلتان لا تتزحزان ولا تستجيبان لنداءه المتكرر لها....


أخذت تطالعه وتطالع يديها لكأنه تستفهمه وتستفهمهما معاً عمّا حدث!!!


تُرى ماذا حدث؟!


عاد ليدمدم وهو يسحبها من ذراعها بفظاظة....


هوى قلبها، ماج تحت الأقدام الثقيلة وانزوى هناك في زاوية مظلمة، غير مرئية...


لازالت عاجزة عن الحراك لوحدها، عن النطق، فقط زخات الدماء التي تنبض في عروقها بقوة، بسرعة شلت باقي الحواس...


ووجدت نفسها داخل السيارة دون أن تشعر، ها هي تسمع هدير محركها ينطلق....


الهدير يعلو، يطغى على الأسماع، والأشياء تتماهى أمام عينيها، تبدو صغيرة، صغيرة جداً، كتلك النقط المتوهجة التي نراها على قمم الموج قُبيل الغروب...



وأدار مقود السيارة حول "الدوار" فجأة فارتطم كتفها بالباب، أمسكته بيدها الأخرى وهي تغمض عينيها بتعب...


الدموع تنساب حارة، دفينة على الوجنتين، ها هي تصل لأسفل الذقن وتتجمع بتؤدة...


"ليت الطريق إلى المنزل بعيداً، بعيداً". رددت في نفسها.


الصمتُ قاتل، مخيف، ملئٌ بالرعود والمطر!!!


الكلام أفضل، أفضل بكثير، تحدث وقل شيئاً، أي شئ...


والتفتت إليه في نصفِ التفاتة ويدها تقبض على صدغها...


بدت عضلات وجهه مشدودة وفمه مزموم، وعيناه، إنها لا ترى عيناه!! بهما تستشفان حالته، بماذا يفكر الآن؟!!


عضت على نواجذها لتمنع صرخة ارتياع انطلقت من الداخل، إنها تخافه، تخافه أحياناً!!!



تشابكت أناملها معاً في عقدة، كتلك العقدة التي تعتمل بصدرها تلك اللحظة، أخذت تنظر بزيغ إلى النافذة والعقدة تكبر وتكبر لتصبح بحجم كرة الثلج....


لم تستطع الصبر أكثر، الصمت أصعب من أن يُحتمل، وقد بانت معالم شقتهما عن كثب..


نادتهُ بإرتجاف، بصوتٍ لا يكادُ يُسمع:

- عمر!!


- صه، أصمتي.



انخلع قلبها، إنه يأبى أن يعود ليستقر، لا يلبث أن يتردى، يهوي إلى الأعماق، حيثُ لا تدري!!



بكت بصوتٍ متقطع، بصوتٍ مسموع علّها تنفس عما بداخلها أو ربما لتستعطفهُ منذُ الآن!!!


ولكن لا حياة لمن تنادي، أليس كذلك؟!


توقف الهدير وتوقفت السيارة وتوقف خافقها هو الآخر!!!


أمسكت بمقبض الباب لكأنها تسميت في منعه من أن يُفتح، لكن يدها أوهن من أن تمنع أو تحتج...


نظرت بعجز إلى الباب المفتوح وإلى ذاك الواقف أمامها بعينيه الداكنتين!!


وسارت دون أن تنتبه لخطواتها، بدا الطريق وعراً أو ربما خالياً من الوجود أو ربما كانت هي بلا قدمين!!


وما أن ولج إلى الداخل حتى تجمدت هي عند الباب لكنهُ قبض على يدها رغم صياحها.


صرخ وهو يدنو من وجهها وهي تحاول الابتعاد:


- من هذا، تكلمي؟!


- لا أحد، لا أعرفه، لا أعرفه. ردت بجنون.


وأجهشت بالبكاء لكنهُ لم يرحمها ولم يرحم دموعها، هزها بعنف لتنظر إليه من جديد:


- بكاءك لن يجدي نفعاً معي لذا أتركي ألاعيبك بعيداً عني وخاطبيني جيداً وإلا حطمتك..


- يدي.. يدي تؤلمني. صاحت بألم.


- لم تري شيئاً بعد يا غدير!!


توسلته بصوتٍ ضعيف من بين شهقاتها:


- لا أعرفه أقسمُ لك، لقد سقط منديلي وناولني إياه.


نظر إليها بإستهزاء وعلى فمه ابتسامة قاسية:


- يا للشهامة، ولم أنتِ دون بقية النساء؟!


- لم يكن هناك أحدٌ غيري. ردت بإندفاع.


- وبالطبع لم تشاءا أن تضيعا هذه الفرصة الثمينة أيتها ال.....


- كلا، أرجوك لا تقلها، أنا لستُ هكذا، لستُ هكذا.


وأخذت تنتحبُ بين يديه بحرقة وهي تردد بصوتٍ مبحوح.


أتاها صوته بارداً، بعيداً، بلون الرماد...


- تريدين أن أصدقك بعد الذي رأيتهُ بأمّ عيني!!


- قلتُ لك لم أفعل شيئاً، هو من أتى و...


وصرخ في وجهها فخانتها قدماها:


- ماذا؟! كنتِ تريدنني أن أتأخر أكثر، أن أنتظركما حتى تنهيان أحاديثكم ال****ة!!


- قلتُ لك لا أعرفه، صدقني.


وارتمت تحت قدميه وهي تمرغ وجهها ودموعها في يده بلا توقف...


ومرّ زمنٌ طويل سادهُ أنينها المتقطع، كساهُ بثوبه، بلونهـ بترابه، بزمهريره!!!



حدجها من علو وهو يخاطبها ببرود:


- تريدين أن أصدقكِ؟


- أجل، أجل. رددت بإستعطاف.


- إذن وافقي..


- أوافق على ماذا؟! سألتهُ بلهفة.


- لا أخالك ساذجة لهذه الدرجة!!


ورمقها بنظرة ما فأخذت تطالعه بإستفهام وقد نسيت ألمها...


بقيت تنظر إليه هكذا لبرهة حسبتها دهراً دون أن تتغير تعابير وجهه...


و لكن سرعان ما أن تغيرت تعابير وجهها هي بإمتقاع...


ابتعدت عنه لا إرادياً بفزع وهي تتمسك بظهر الأريكة:


- كلا، أنا، أنا...


وطأطأت رأسها للأرض ودموعها تتساقط بغزارة دون أن تحر جواباً.


- لقد صدق ظني إذن!!

رفعت بصرها إليه بإرتياع وأناملها على شفتيها المرتعشتين تمنعاها من الصراخ.


"ماذا!!"


- تحافظين على نفسك من أجله أليس كذلك؟!!


- .........................


واسودّ وجهه فجأة وهو يقول:


- أقسم وأنا لا أقسم إلا لماما أن ما تتمنينه لن يحصل، هي مجرد أيام يا "غدير" أيام فقطٌ بيننا..



شعرت بالدوار ينتابها، كانت على الهاوية، على شفا حفرة من الجحيم...


استندت بجذعها على الأريكة لعل الرعدة تتوقف وتتوقف أنفاسها التي انتفضت...


وبعد جهد استنفرت حواسها وهي تضغط على مخارح ألفاظها بصعوبة:


- ط..طلقني، هذا أفضل لي و...لك أرجوك!!


وعادت لتبكي بتقطع...


عقد حاجبيه فبانت عيناه أكثر حدة، أشدّ قسوة:


- أتخالينني سأطلقك أو شيئاً من هذا القبيل يوماً ما؟!

- ...............................


ضرب كفاً بكف وهو يعلق بجفاء:


- أنتِ واهمة يا عزيزتي، فهذا من آخر المستحيلات.


- ....................


- يبدو أنكِ لا تعين ما أقولهُ أبداً، حبكِ له أفقدكِ صوابك وحكمتك، تعالي واقتربي هنا لأسمعك!!


ترنحت في وقفتها وهي تهز رأسها بضعف...


- أنتِ لا تسهلين الأمر على نفسك!!! لا تضطرني إلى فعل شئٍ لا أريده. صرخ بتهديد.


- ع...ع-مر، عمر. نادته بألم.


- لا تنطقي اسمي على لسانك مرةً أخرى، أنتِ تثيرين اشمئزازي.


- ع..مـــر. وأخذت تشهق وهي تغطي وجهها بكفيها وقد جثت على الأرض.


وأراد أن يخطو للأمام ليقول شيئاً لكنهُ عاد ونكص وخرج من البيت بأكمله!!!



وغاب القمر تلك الليلة......



=========

عاشقة الكتب 24-05-07 04:51 PM

دخلت "ندى" إلى المكتب وهي تسب وتشتم وتمسح جبينها المتصفد عرقاً، وما أن رأتها "أشجان" حتى هرعت إليها وهي تصيح:


- لماذا فعلتِ ذلك يا "ندى"؟!


- أف، ماذا فعلت!! ردت بنفاذ صبر وهي تلقي بنفسها على الكرسي وتغمض عينيها بقوة.


- المدير قلب المكتب على رأسي بحثاً عنكِ وقد اتصلتُ بكِ عدة مرات لكن دون جدوى.


- أوه نسيت أن أشحن البطارية. وضربت على جبينها بخفة وهي تردف بسرعة:

- ألديكِ شاحن الآن؟!


- أنتِ في مصيبة وتسألين عن الشاحن؟! سألتها بإستنكار.


- مصيبة!! أعوذُ بالله، ما هذا الفأل السئ، أنا لا أحب التشاؤم في....


ولم تكمل عبارتها إذ سرعان ما حولت بصرها إلى تلك الأصابع التي تدق على سطح الطاولة من الخلف بغطرسة.


رمشت عينيها ببراءة وهي تقول:


- السلام عليكم يا أستاذ..


- .............


- أنا ألقيت السلام فلي 69 حسنة، وإذا رددت أنت تحصل على حسنة واحدة فقط، ألا تريد حسنات!!!


قاطعها وهو يزمجر في وجهها بغضب:


- كيف تركتها لوحدها في الطريق؟!

ازدردت ريقها وقد جفلت من نبرة صوته:

- من تقصد؟!


- أقصد "جميلة" فلا تتغابي..



"أنا غبية!!! ماذا عن اختبار "وكسلر" الذي طبقته على نفسي ونتج أني ذكية، من منهما الصادق؟! بالطبع الاختبار، إنهُ يريد أن يشكك في ذكائي ليس إلا هذا الغبي!!"



واستجمعت شجاعتها وهي ترد عليه بإندفاع وقد لوت فمها:


- لقد كذبت علي، قلتُ لها منذُ البداية ادفعي ديناراً واحداً ثمن البنزين ووافقت، وحين أتممنا العمل أخرجت لي 500 فلس، تصور!! قالت لي إن هذا ما تملكه فقط تلك الكاذبة البخيلة...


- أتتركينها في الشارع وفي عز الظهيرة من أجل 500 فلس؟!!


شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تقول:


- وهل تعتبرها قليلة!! من أين لي ثمن البنزين كل يوم؟! أنت لا تعطيني راتباً رغم كل ما أبذله من جهد ومشقة في العمل حتى أنكسر ظهري، ووالدي فقير، نحنُ فقراء، لا نملك مالاً كثيراً كالذي في محفظتك!! تريدني أن أسرق؟!!


تطلع إليها بصدمة ثم ما لبث أن أخرج محفظته من جيب بنطاله وهي تراقبه:


- خذي هذه الـ 500 فلس المتبقية.


صاحت بإستنكار:


- 500 فلس!! أريد ديناراً كاملاً، تخالني أخذتُ منها شيئاً، لقد ألقيتُ حفنة النقود التي أعطتني إياها من النافذة!!


وبان على وجهه عدم التصديق فردت بمراوغة:

- أ..أ سأعطيها إياها بعد أن تعود، فمهما كان النقود نعمة من عند الله.


وتناولت منه الورقة الحمراء لتدسها في حقيبتها وهي تدافع عن نفسها بإيمان:


- لا تخالني مادية، أنا أكره النقود، إنها تحرق يدي!!


وابتسمت ابتسامةً عريضة...


نظر إليها من رأسها لأخمص قدميها وكأنهُ يقيم بعوضة فشعرت بالمهانة وابتلعت ابتسامتها.


- أين هي الآن؟!


ردت عليه والحقد يشعُ من عينيها:


- إنها بجانب محطة البنزين في منطقة "........" تشم رائحة البترول!!!


لم تبالي بنظرة الاستهجان التي اتسمت على وجهه وأردفت وعيناها تضيقان:


- ماذا أفعل لها؟! هي قالت لي أنها تحبُّ رائحته، أنت لا تعرفها مثلي، إنها من ذلك النوع المدمن على هذه الروائح، أحياناً أراها تجلب صمغاً وتشمّه وهي جالسة تحت الطاولة، أنا أخافُ منها، خذها مني نصيحة: أطردها وارتح منها.



- حقاً!!! لقد قالت لي كلاماً آخر، قالت أنكِ هددتها إن لم تدفع ستلقينها إما في "الصخير" حيثُ لا أحد هناك أو ستلقين بها في المحطة المليئة بالعمال الهنود.


- أنا خفتُ على الجمال الموجودة في "الصخير" أن تموت عندما تركبها تلك السمينة ثم هي كاذبة فلا تسمع لها بل صدقني أنا. ردت بإنفعال.


- أنتِ لا جدوى منكِ إطلاقاً في أي شئ، هيا قومي معي لنجلبها.


- من؟! أنا!!


- أجل أنتِ.


ضربت على صدرها وهي تصيح:


- تريدني أن أذهب معك في السيارة لوحدنا؟!! لو علم والدي سيذبحني لا محالة، و "عمر" و "وليد" سيسلخان جلدي وسأصبح مشوهة...


وأخذت تتخيل شكلها بعد الذبح والسلخ فصرخت بلا شعور:


- كلا، كلا مستحيل، ليس أنا، ليس أنا.


وانتبهت لنفسها وهي تصرخ، وأخذت تتلفت حول المكان فرأت "أشجان" وهي تغطي وجهها بالملف المهتز بين يديها..



تطلعت بإرتباك إلى المدير الذي كان يحدجها بنظرة شك وارتياب، فابتسمت له ببلاهة وهي تعلل بصوتٍ منخفض:


- كنتُ أقصد من هذا الكلام أنني من عائلة محافظة ليس إلا..


- بإمكانك أن تلحقيني بسيارتك.


- سيارتي نفذ منها البنزين، كم مرة قلتُ لك ذلك.


وأطبقت فمها وهي ترى وجهه يظلم فجأة فأطرقت للأرض بإستكانة...


- سأنتظرك بالأسفل. ردّ بحسم.


مطت شفتيها لفترة طويلة ثم زمته وهي تتابع طيفه الذي اختفى بسرعة..


تنهدت وهي تخاطب "أشجان":


- يا له من رجلٍ مريع!! الناس الآن باتت لا تبالي بالأخلاق!!


- وهل ستذهبين معه فعلاً؟!


- سأذهب، أتحسبينني أخافُ منه!! ردت بلا مبالاة.


ثم أخرجت مرآتها الصغيرة من حقيبتها وبعد أن استوثقت من منظرها زفرت وهمت بالإنصراف لكنها توقفت بعد بضع خطوات:

- أشجان..


- نعم!!


- لديكِ رقم هاتفي؟!


- أجل.


- وتعرفين الطريق إلى منزلنا؟!


- أجل أعرف.


- أنا أرتدي الآن سلسلة فضية بإسمي في حال قُطعت جثتي.


- لا حول ولا قوة إلا بالله.



ثم بدأ صوتها يتهدج:


- "أشجان" سلمي على أبي وأخوتي وقولي لهم أنني من حرقتُ القفص وهرّبتُ طيور الكناري!!!



وبكت الفتاتان وهما تتعانقان وقد اندمجتا في تلك اللحظة المأساوية.


وتركتها "ندى" بعد أن حملتها الأمانات الثقال!!! وحين نزلت وجدتهُ ينتظرها، فركبت في المقعد الخلفي.



أدار محرك سيارته مع أنغام "بحرين أف أم" فانتابها الذعر فصاحت:


- هيه أنت، أنا لا أسمع الأغاني الآن، لقد قاطعتها، من يسمعها لا يسمع ريح الجنة، لا أسمعها، لا أسمعهاااااااااااااااااا.


واستدار إلى الخلف وهو ينظر لها بإستنكار من هذا الزعيق المفاجئ..


وتمتم بشئٍ ما لم تسمعه وهو يوقف المسجل، فعادت لتستند على مقعدها وهي تتنهد بإرتياح، لكن السكون سرعان ما خيم حول المكان فاستفز حواسها، أخذت تتلفت في مكانها وهي تفتش عن جريدة، قصاصة ورق، أي شئ لكنها لم تجد أياً منهم، كانت السيارة نظيفة تماماً!!!



حنت بجذعها إلى الأمام وهي تصيح بالقرب من أذنيه:


- حر، حر،حرررررررر، أنا لا أستحمل الحر، شغل المكيف، الكريمات التي وضعتها على وجهي قد سالت.


وأوقف مكابح سيارته فجأة حتى كادا يصطدمان بالسيارة التي تسير أمامهم..


تراجعت إلى الوراء بسرعة وهي تسمع صوت سبابه وكلماتٍ لم تسمعها قط في حياتها من قبل...


أغلقت إحدى عينيها وهي تتلقى صراخه كالرشاش:


- أنتِ ماذا أيتها الحمقاء الغبية؟! لقد كدتُ أرتكبُ حادثاً بسببك، ألا تعرفين أن تتحدثي بهدوء!!


مدت فمها بإستياء وهي تتأفف بصوتٍ منخفض:

- ماذا كلامي لا يعجبكِ؟!

ردت بتذمر:


- بل يعجبني، كل شئ يعجبني، العمل يعجبني، سيارتك تعجبني، "جميلة" تعجبني، الطريق يعجبني، كل شئ!!!


وهزّ رأسه بإستنكار وهو ينظر إليها من مرآة سيارته...



فتحت حقيبتها وأخرجت لها "علكة" مضغتها بتأنٍ لعلها تهدأ، لكن العلكة تلكأت بين أسنانها وهي تتذكر حوادث اختطاف فتيات قرأتها في الجريدة عن أرباب العمل وبقي مصيرهن مجهولاً حتى اليوم...



اختلست النظر إليه من المرآة لتستوثق من منظره، أيبدو من هؤلاء؟!



وتخيلته بلحية كثة وشارب طويل ذكرها بمجرمي الأفلام الهندية التي تُدمن على مشاهدتها ليالي الخميس فارتاعت..



أخذت بلا شعور تدق زجاج النافذة بقوة بأصابعها وهي تصيح:


- افتح النافذة، لا يجوز، سيدخل لنا الشيطان.


وبهت الرجل في مكانه، واستدار لها دون أن يوقف محرك سيارته وقد بدا وجهه محتقناً...


رد بصوتٍ مصرور وقد طفح الكيل منه:


- أنا الآن من سيفتح النافذة ولكن لألقيكِ منها أيتها الشيطانة المجنونة!!


- أنت "شِيطان سنداباد" الذي أراد قتل "شاروخان".... لا... مستحيل...


وأخذت تصيح بإنفعال فأوقف سيارته في زاويةٍ ما وهو في حيرةٍ كبيرةٍ من أمره..


"عمن تتحدث هذه المجنونة!!"


- تريدين أن أوقف لكِ سيارة "أجرة" كي تطمئني ؟!


- كلا.


- تريدين أن تخرجي من السيارة؟


- كلا.


- تريدين أن أتصل بذويكِ؟!


- كلا.


- ماذا تريدين إذاً؟!


- سُق بسرعة كي نصل.


قالت ذلك وهي تمسح دموعها بطرف خمارها، فعاد ليقود والصدمة تعلو وجهه من تصرفاتها الغريبة، إنها ليست طبيعية البتة!!!


- هيه، أنت!! نادته بحدة.


وشعر بالخوف لأول مرة منذ أن ركبت معه.


- إذا وصلنا إلى هناك فلا أريدها أن تجلس بجانبي، دعها تجلس بجانبك أنت!!



وزمت فمها بتكبر وهي تعقد ذراعيها وتنظر للنافذة وكأن شيئاً لم يكن...


"غير معقول..غير معقول!!!!!" ردد في نفسه.



==========



تقلبت "شيماء" على فراشها وهي تضغط بوسادتها الأثيرية على رأسها علها تبعد طيف أسئلته المحرجة الذي ما فتأ يسألها عنها ظهر هذا اليوم....



ورغم ممانعتها إلا أنهُ ألح وأصر بحجة أن العلاج يقتضي ذلك!! كم كرهته تلك اللحظة وشعرت بالمقت ناحيته...


وحين سلمته ظرف الأشعة وفحوصات الأطباء السابقة تعمد أن يمسك يدها، أجل لم تكن بالصدفة، كان يقصدُ ذلك وعيناهُ الخبيثتان تشهدان بذلك....



كيف يجرؤ على ذلك، كيف؟!!!


لن أذهب إليه أبداً مرةً أخرى، أبداً، أنا لا يهمني الأطفال، لا يهمني إلا ناصر....



ولكن!!!!!



و دفنت رأسها في وسادتها بعد أن أرخت قبضتيها و بكت بصمت...
(14)


لاح هلالُ محرم كقاربٍ وحيد تائهٍ في لجة لا متناهية من الظلمات....


بدت السماء شاحبة، مائجة كمحيطٍ في عينيها السوداوين...


ابتعدت عن النافذة وهي تتنهد، وجلست على حافة السرير تنظر للباب بإستغراق...


أتجرؤ؟!!


و وقفت على قدميها بتصميم...

توجهت إلى غرفته و رفعت أناملها لتخدش بابه...

وقبل أن تطرقه انفتح على مصراعيه ولاح لها صاحب العينين الخضراوين..

تبخرت شجاعتها وهي تتراجع للوراء، أخفضت يدها وضمتها خلف ظهرها وهي تطرق للأرض.


قالت بسرعة وبصوتٍ هامس:


- أريد أن أزور خالي إن لم يكن لديك مانع.


وعادت لتتنهد وكأنها أزاحت حملاً ثقيلاً عن صدرها...


وانتظرت رده لكن لا جواب...


وأخيراً رفعت رأسها إليه بتوجس....


كان يجول ببصره حول ملابسها المكونة من قميص وبنطالٍ أسودا اللون ما خلا من ورود بيضاء صغيرة ناعمة زينت حاشيته...


خشيت أن يطلب منها أن تغير ملابسها كما حدث في ذلك اليوم، لكنها لن تقبل هذه المرة، هذا من معتقدات مذهبها بل من صميمها ولا يحق له أن يفرض رأيهُ عليها...


و رفعت نظرها إليه بتحدي لكن عيناه بدتا حينها خاويتان من أي تعبير، سأل بجمود:


- الآن؟!


- أ...لا، بل في الغد، كلهم يجتمعون يوم الجمعة.


وأوصد غرفته ولم يعلق وكأن في صمته الإجابة، فشعرت بالإحباط دون أن تدري السبب..


وسار عنها وهي تتابع خياله، فنادته بإنكسار :


- عمر!!


التفت إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل:


- نعم؟!


ولم تدر ما تقول وحين أحست بطول صمتها أردفت:


- أريدُ أن أذهب هناك طيلة الأيام العشرة من محرم.


- لا مانع لدي حتى لو بقيتِ لديهم للأبد !!!


وصفق الباب خلفه...



===========


أينما رأته تحاشته وأخذت تمكث ساعاتٍ طوال في غرفتها على غير العادة، حتى أن "ناصر" لا حظ ذلك...


- ما بك؟!


- لاشئ..


- هل أنتِ مريضة؟! أتريدين أن أذهب بك إلى الطبيب؟


- قلتُ لك ليس بي شئ.


ونهضت من سريرها لكأنها تريد أن تثبت ذلك...


ابتسمت ابتسامةً باهتة و هي تقترب منه، وجلست على الكرسي بمحاذاته....


سألته بلطف:


- ماذا تقرأ؟!


- كتاب..


- ألا تسأم من قراءة هذه الكتب، أنا أفضل قراءة المجلات..


وأطبق ما بيده وهي يقول بتفكير:


- كيف أقولها لكِ يا عزيزتي، ولكن من المعروف- واعذريني- أن النساء رؤوسهن فارغة!!


- أنا رأسي فارغ!!


و مدت يدها لتضربه على صدره لكن قلبها لم يطاوعها فمست كتفه وكأنها تمسُّ ريشة، ردت بعتاب:


- هذا وأنا زوجتك وأمامك تهينني!!


- أبداً هذه ليست إهانة وإنما حقيقة..


وضحك بخفوت، أما هي فنظرت إليه بغضب في بادئ الأمر ثم ما لبث أن تلاشى وهي تراه يبتسمُ لها معتذراً:


- كنتُ أمزح معك..


- لا تتعب نفسك فلن أسامحك. ردت بدلع.


- هيا "شيووم" أنا آسف.


- تريدني أن أسامحك؟!


- هذا جل ما أتمناه.


- إذن أحضر لي هدية.


- فقط؟!


وأشار بأصبعه إلى عينيه وهو يقول لها بحنان:


- لو طلبتِ عيني فلن أتأخر..


نظرت إليه بحبٍّ جارف تجاوز حدود المكان والزمان...


كيف أغفلته، كيف سهت عنه، كيف لم تقدِّر ذلك القلب الذي طالما أغرقها بحنانه، بدفئه...


كيف تناست هذا كله في ذروة رغبتها بطفل!!!


وأخذ يتحدث و يعلق ضاحكاً وهي لا تسمع فقط تراقبه، تتأمله، هذا هو زوجها، أمسها ويومها ومستقبلها..


هو كل شئ بالنسبةِ لها، كل شيء...


وانتبه لشرودها فعلّق:


- بمن أنتِ سارحة الآن، أعترفي؟!


- لن أخبرك.


- إذن سأكمل قراءة كتابي.


- كلا، انتظر، كنتُ أفكر بك..


- ألم أقل أن رأسكن فارغ!!!


وابتسم، ولم تغضب هذه المرة بل أخذت تنظر إليه من جديد بحنو وهو يقلب الصفحات التي بين يديه...


أي خطيئةٍ كانت سترتكبُ بحقه؟!!!



============



بدا النهار صحواً، خالياً من الضباب ومن النجوم!!


الوقت يمر بطيئاً كسلحفاة كسول، حتى تلك الأشعة الذهبية المنتشرة في الأفق لا تلبث أن تتغلل لجسدك، تمنحك سمرة وشيئاً من الاكتئاب!!!


والحديث بينهما بات مقتضباً لكأنهما أصمان لا يتعاملان إلا بلغة الإشارات!!


الحياة هكذا لا تُطاق وقديماً قالوا: "جنة من غير ناس، ما تنداس"...

إنها تفضل الجحيم الذي يذيقها إياه على صمته، فعلى الأقل تحس بالحياة تدبُّ فيها، تشعر بأنها كيان موجود، وليس حطاماً رُكن على الرف...


أم تراه ذلك السادي قد صيرها مع الأيام "ماسوشية"!!!

و وصلا، وما أن توقفت السيارة حتى ترجلت منها دون أن تنتظره، ودفعت الباب الذي كان نصفه مفتوحاً...

ولجت إلى الداخل وابتسامة كبيرة على شفتيها وما أن رأتها "ندى" حتى هتفت بإسمها وهرعت لتعانقها...


وشعرت بالسعادة تغمرها وهي تراهم مجتمعين كلهم عدا، عدا "شيماء"!!!

وسألت عنها:

- أين هي؟!


- إنها تستيقظ متأخرة هذه الأيام..


والتفتت إلى خالها وهو يمد يدهُ إليها:


- اقتربي يا ابنتي، أريدُ أن أراكِ عن كثب، فلا أدري إلى متى يريد ابني "العاق" أن يخفيكِ عنّا!!


وجلست بجانبه وهي تطرق رأسها خجلاً...
- أخيراً أحضرتها هنا.. ردّ الأب بعتب.


- زوجتي ولا أستطيع الاستغناء عنها...


ورفعت رأسها بسرعة لتراه يبتسم وهو يصافح أخوته...

إنه يجيد هذه التمثيلية جيداً...

دور السعيد!!

هي ليست مثله، لا تُجيد التمثيل لا هنا ولا هناك!!!

وتقدم من والده فسقطت عيناهُ عليها وسرعان ما تلاشت الابتسامة عن شفتيه...

انسحبت بهدوء، إلى الوراء، إلى لا مكان!!!

ووقف خالها ليعانقه وهو يربت على ظهره وهو يمازحه:

- لقد أصبحت نحيلاً...

والتفت إلى "غدير" وهو يسألها بلوم:

- ألا تطعمينه يا "غدير"؟!

وبدت وكأنها أخذت على حين غرة من سؤاله، بانت علامات الذنب على وجهها حمراء مهينة والعيون ترصدها لتتلقف إجابتها..

ماذا تقول لهم، أنهُ يأمرها بأن تعدَّ له طعاماً كل يوم وحين يجهز يرفض تناوله وهكذا دواليك!!

عضت على شفتيها دون أن تنبس ببنت شفه وهي ترمش عيناها بسرعة كأنها تريد أن تجعل منها ستاراً يحجبها عن الآخرين....

وأحست بيدين دافئتين على كتفتيها فسرت في جسدها رعدة كالتيار...

التفتت إليه خلفها و بلا شعور وضعت كفها على إحدى يديه، تستمد منها الأمان!!

وضع يده الأخرى على يدها وهو يضغط عليها بخفة:

- أنا و زوجتي أحرار، كفاكم فضولاً!!

وعادت الضحكات والهمهمات لتسري في المكان....


وابتعدت اليد هي الأخرى!!!

=========



- لم قلتِ له أنني من أريدُ ذلك؟!


- لم يكن ليأبه بي لو طلبته بإسمي، ثم ألم تقولي أنكِ لا تملكين قطعاً سوداء كافية في خزانتك!!


- أنتِ مستحيلة!!


- كفي عن الثرثرة، إنه ينتظرنا.


وتناولت "ندى" حقيبتها وهي تدفع "غدير" أمامها...


لم يكن "المجمع" بعيداً فسرعان ما وفدوا هناك...


سارت الفتاتان معاً يتبعهما "عمر" بصبر...

كانت "ندى" تقفز من محل لآخر وهي تجر "غدير" من يدها و تلقي عليها محاضرة عن الموضة وخطوط الأزياء!!!

- "ندى" لقد تعبت، فلنسترح هنا..

لكن الأخيرة لم تكن تسمعها، كانت تصوب عينيها بدهشة في زاوية ما...


- ماذا بك؟!

- تصوري من هنا!!!

- من؟!

- المدير!!! قالتها بصوتٍ عال.


- أخفضي صوتك، "عمر" وراءنا، ثم أين هو لا أراه.


- ذاك الذي يحتسي القهوة في "لاميزون دي كافيه".


- يوجد عشرات الأشخاص هناك، كيف لي أن أعرفه!!

- تعالي سأريكِ إياه عن كثب...


- ماذا عن "عمر"؟


استدارت "ندى" إلى ذاك الأخير وهي تشير إليه بأن يأتي:


- أخي العزيز سنذهب إلى ذاك المحل، صدقني هذا آخر مكان سندخله.


- كم مرة قلتِ ذلك!!


- عمر!!


- لقد تأخر الوقت، هي 5 دقائق إن لم تنتهي أخذتُ زوجتي وتركتك هنا..


- هي من تريد أن تذهب إلى هناك وليس أنا.



لكزتها "غدير" في ذراعها وهي تخاطبه بخجل:


- إنها تكذب، لم أقل ذلك.


ونظر إليها وعلى شفتيه وميض إبتسامة صغيرة لكن "ندى" قطعت عليهما المشهد وسحبتها معها وهي تخاطبه من بعيد:


- انتظرنا هنا، لن نتأخر.


و اختبئتا خلف عمودٍ كبير، قالت بصوتٍ منخفض:


- ذاك هو، الذي يعبث بـ"اللاب توب"، حتى في المجمع لا ينفك عن العمل!!


- آه، هذا هو المدير إذن، لا بأس به!!


- لأنكِ لا ذوق لكِ، هذا أفظع وأسمج رجل عرفته بعد "براد بيت"!!


- من هذا براد بيت؟!


- جارنا الذي يسكن في البيت المجاور!!


- هيا لقد تأخرنا، "عمر" سيغضب.


- لا عليكِ منه، ما دمتِ معي فلن يقول شيئاً...


واستدارت "غدير" إلى حيثُ تركاه، كان مندمجاً في حديثه مع أحد الأشخاص...


أحقاً ما تقول؟!!


وتأملته في وقفته تلك وقد نست ما حولها

بالفعل هو لا يرد لها أي طلب، ليتهُ يبقى لطيفاً هكذا للأبد!!


- انظري...


وضحكت "ندى" بخفوت:

- يبدو أنها أفلتت من شرطة الآداب..

ونظرت "غدير" إلى حيثُ التفًّ الناس حول شقراء طويلة، ملابسها كانت حدِّث ولا حرج!!


- كأني قرأتُ مرة قانوناً ينص بالحد الأقصى لطول "التنورة"... علقت "ندى".


- إنها فاتنة جداً..


- أنا أحلى منها!!!!

ثم أردفت:

- اسمعي دعينا نذهب لأحد حراس الأمن ونبلِّغ عنها..


- هذا أحدهم، قد انضمّ مع المتفرجين!! ربما كانت نجمةً سينمائية؟!


- ليست كذلك، أنا أعرفهم كلهم.

وصدت للجانب الآخر وما لبثت أن شهقت بصوتٍ عالٍ:

- انظري كيف يطالعها قليلُ الأدب، عديم التربية..


- من؟!


- ومن غيره!! المدير...


- وما شأنكِ أنتِ؟!


- ما شأني؟! أهذا سؤال تسأليني إياه، هذا مديري، مديري أنا ألا تفهمين؟!


وتابعت بحرارة:


- ثم، أنسيتِ نحنُ نعمل معه ومعظمنا فتيات، إذا تفتحت عيناهُ الآن على هذه المرأة فربما ستتفتح عيناهُ علي وهذا هو الاحتمال الأكبر!! ثم على بقية الفتيات!!!!


- !!!!!!!


- سأفضحه، سأخبر كل من معنا في العمل عن سلوكه المشين!!


- أين ستذهبين أيتها المجنونة؟!


- ألا ترينه، يكادُ يقفُ لها كلما مرت بجانبه، اتركيني سؤأدبه، سأريه من هي "ندى"..


وأفلتت من قبضة "غدير" وهي تمشي كالسيل الهادر...

و وصلت إلى طاولته وهي تدقُّ الأرض بقدمها اليمنى، قالت بصوتٍ مصرور:


- ألا تخجل من نفسك؟! رجل في مركزك وسنك ينظر لهذه الأشكال...


وأجفل من وجودها المفاجئ أمامه هكذا...



ضربت يداً بيد وهي تردد:


- رجال آخر زمن، آخر زمن، تتظاهرون أمامنا بالشرف والأدب وحين نغفل عنكم ولو لثانية أظهرتم وجهكم الحقيقي..


- ......................



- وأنا أتعب نفسي يومياً أمام المرآة ولم تقل لي شيئاً مرةً واحدة حتى لم تكن تنظر إلي!!!


- .....................


- أتعرف كم أتكبد في بداية كل شهر وأنا أتبضع في السوق كي أشتري شالاً بلون حذائي..


ورفعت قدمها قليلاً لتريه حذائها الزهري:


- ألا تراه جميلاً؟!! ألا يعجبك ذوقي؟!


أخذ يطالعها مصعوقاً دون أن توقف لسانها...


- ثم ماذا بها كي تنظر إليها دوني أقصد دون الفتيات المحترمات، أتعتقد أن عينيها فعلاً زرقاوان، كذابة، كذابة، ثم كذابة، تلك عدسات ملونة، كلها صناعية محقونة بـ"البوتكس" و "الكيلاكوجين"، أما أنا فمحلية مائة بالمائة...




ثم استدركت وكأنها تذكرت شيئاً ما:



- ماعدا رموشي، فلقد سقطت من العقص واستخدام الماسكرا والسبب أنت!!!



وصاحت بصوتٍ عال:


- أجل أنت، لا تنظر إليًّ هكذا، قالوا رموش العين تذبح وسقطت رموشي كلها وأنت كالجمل في مكانك...



- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!



- أرجوك لا تبرر ولا تكلمني، ما بيننا قد انتهى والسبب عيناك الفارغتان، أرجوك يكفي لا تحاول معي..



ولوت شفتيها بقرف وهي تعطيه ظهرها وبقيت هكذا برهة ثم عادت لتستدر وعيناها نصف مغمضتان:

- وداعاً..



وسارت عنه كما جاءت وآلالاف الشياطين تتراقص أمام عينيها حتى أنها تجاوزت "غدير" دون أن تشعر....


ولم تنتبه لها "غدير" هي الأخرى، كانت عيناها شاردتان في "عمر" الذي يبدو أنه تناسى وجودها ووجود أخته وأخذ يحدق في تلك المرأة الشقراء كبقية الرجال...


وغاص قلبها، شعرت بأنها تهوي وتعود لتطفو مرةً أخرى على رمالٍ لا قرار لها...


وأشتعل شئ في صدرها، شئ غريب، غريب ومهين في آنٍ واحد!!



وتمنت لو أنها لم تأتي إلى هنا، بل الأسوأ أنها تمنت لو أن زوجها لا يملك عينان!!!!


وقبضت على حقيبتها بقوة وهي تقاوم الاضطراب الذي يعتمل بداخلها، حزينة وغاضبة، ثائرة وخامدة، كنبعٍ فوار في بركةٍ آسنة كانت هي تلك اللحظة....



وسمعت صوتاً يناديها فالتفتت لندى:


- أنتِ هنا وأنا أبحثُ عنكِ في كل مكان...


- .....................


- لم تسأليني ماذا فعلتُ به!! لقد أدبته!!


"يا لحظك، ماذا عن ذاك؟!!"


- تصوري لم ينبس ببنت شفه، يبدو أنهُ خجل من نفسه...


- ....................


- أتعتقدين أنهُ سيقول لي شيئاً في الغد عما فعلتهُ اليوم، لا أتصور سيفضح نفسه حينها..


ثم أردفت بقلق:

- لقد صرختُ عليه، ولكن إذا واجهني سأنفي كل شئ، سأنفي حتى أنني رأيته بالمرة!!


- ما رأيك يا "غدير"؟!


- لم لا تتكلمين؟! أين عمر؟!!


"إنهُ هناك لم يخفض عينيه عن تلك المرأة ولو لبرهة، نسيني منذُ أن رآها"..



- لقد رأيته، هيا تأخرنا فلنذهب بسرعة قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه..



"ماذا بعد ذلك؟!"...



وسارت معها بإنكسار و بشئ من خفي حنين ووصلوا إليه دون أن ينتبه، مسّت "ندى" كتفه وهي تقول بعجل:


- هيا، لقد انتهينا من الشراء..


- لا أرى في أيديكما شيئاً..


- سنأتي يوماً آخر، لم تعجبنا بضاعتهم!!!


والتفت إلى "غدير"، كانت تطالع الأرض دون أن تسمع ما يقولا..


خاطبها بقلق:


- ما بك؟!


- ..........


- غدير!!


ورفعت رأسها وهي تنظر لعينيه الخضراوين بألم:


- لا شيء..


- هيا بنا إذن..


وركب الثلاثة السيارة صامتين، كلٌّ سارح في خطى أفكاره....


وما أن نزلت "ندى" حتى عاد ليخاطبها من جديد:


- ما بك؟!


- قلتُ لك ليس بي شيء. صاحت بعصبية.


رفع حاجبيه بدهشة ثم هزّ رأسه وهو يتابع القيادة..


و مدّ يده ليضغط على زر المسجل وكانت نشرة الأخبار...


وانقطت النشرة فجأة فطالعته بحدة وهي تقول:


- رأسي يؤلمني، لا أريدُ أن أسمع شيئاً!!!


وما أن وصلا حتى خرجت بسرعة دون أن تغلق الباب، لحقها وكانت بإنتظاره!!!

ألقت بحقيبتها على الأرض، فسألها بإستنكار:


- ماذا جرى لكِ هذا المساء!!


- ماذا جرى لي أم ماذا جرى لك أيها المحترم!!!


- أنا لا أفهم شيئاً مما تقولين..


انفجرت في وجهه وهي تنظر له بإزدراء:


- تخالني لم أرك كيف تنظر إليها؟!


- عمن تتكلمين؟!


- عن تلك المرأة التي لم تبعد ناظريك عنها منذُ أن دخلت..


- أنا لم أرى أحداً ولم التفت لأحد.


- لا تكذب..


- انتبهي للسانك..


- بالطبع ستنكر، فهذا طبعكم دوماً، الغش والخداع يجري بدمائكم..


- لا يهمني إن صدقتني أم لا... ردّ بنفاذ صبر.


- لم لم تذهب إليها أو ربما أخذت رقمها دون أن أدري!! وغطت وجهها وهي تبكي بصمت.


وأمسكها من ذراعها وهو يصرخ بشراسة:


- قلتُ لكِ لم أفعل شيئاً.


- أنت كاذب..


- اخرسي..


وانكمشت في مكانها وهي تغمض عينيها بقوة...


أردف وهو يصيح:

- وحتى لو كنتُ أنظر إليها فعلاً فهذا من حقي!!


فتحت عيناها وهي تردد كلامه بإستنكار:


- من حقك؟!


- أجل من حقي..


- أنسيت أنك متزوج؟!


- حقاً، لم يخبرني أحد بذلك من قبل!! قالها بسخرية.



وهدأت ثائرتها قليلاً وهي تفرُّ بنظراتها للأرض...


وأردف وهو يتأمل تعابير وجهها بإنتباه شديد:


- وليكن بمعلومك أنني أفكر جاداً بالزواج بأخرى.


ورفعت وجهها الذي أحتقن فجأة وهي تردد دون تصديق:


- ماذا؟!


- ما سمعته يا عزيزتي..


- كلا، لن تتزوج، لن تتزوج. صاحت بجنون.


- آسف، لم تتركي لي خياراً آخر، لا تقلقي لن أطلقك، سأبقيكِ على ذمتي معززة ومكرمة هنا أو عند والدي إذا شئتِ!!



أسمعت عن الدجاجة التي ترقص ألماً؟!


وكأنّ مسّاً أصابها من كلماته التي رنّت في أذنيها كالسندان، أخذت تضربه على صدره بما تبقى لها من قوة، كانت تشهق بتقطع وهو واقف بلا حراك ينظر لها بإهتمام...


أمسكت ياقة قميصه بكلتا يديها وبكاءها يرتفع:


- لن تتزوج أسمعت!!


- أمنعيني إن استطعتِ. ردّ بهدوء.


مسحت أنفها وهي تقول بتهديد:


- سأخبر خالي، سأخبره بما تودُّ فعله.


وبرقت عيناه بغضب:


- أتخالينني طفلاً كي تهددينني بوالدي؟! لا تضطرني أن أفعلها والآن!!


- لن تقدر، لن تجرؤ... صرخت.


ورفع أصبعه في الهواء بتصميم:


- والله العــ....


وضعت يدها بسرعة على فمه بإرتياع قبل أن يكمل...


نظرت إلى عينيه بتوسل ودموعها تذرف بملوحة وبمرارة تمرغ بها قلبها...


لكن عيناه قالتا شيئاً آخر، لا زالتا صلبتان، لم تستجيبا لتوسلها الصامت...


وتهاوت يدها إلى جانبها بضعف وكادت أن تهوي هي الأخرى لكنهُ أمسكها فدفنت وجهها في صدره وهي تنشج بصوتٍ خافت كنشيج الميازيب في مواسم المطر!!



حينها فقط أطبق عينيه بألم...



"سامحيني يا عزيزتي، كان لا بد أن أقول هذا، ليس من أجلي فقط بل لأجلك، لا زلتِ صغيرة ولا تفهمين!!"..




==========




- "جميلة".."ندى" كفاكما. صاحت "أشجان" بيأس.



لم تبالي "ندى" بصياحها وأردفت وهي تغرز أصبعها في جيد "جميلة".



- اشكري ربكِ لولاي لكنتِ جثةً مجهولة الهوية!!


- لولاكِ أم لولا خوفك من المدير لأنهُ حينها كان سيطردك شرّ طردة.



شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تضع كلتا يديها على خصرها:


- سيطردني؟! كم أنتِ واثقةٌ بنفسك، يا عزيزتي المدير لا يقدر أن يستغني عني ولو للحظة واحدة، وكل طلباتي لديه أوامر، أتسمعين!!



ضحكت "جميلة" بجفاء وهي ترد بسخرية:


- لا يستغني عنك؟!! لا أدري من تلك التي يمسح بها الأرض يومياً وكأنها ذبابة، لا شي!!


- أخرسي يا مدمنة "الحشيش".


- أنا مدمنة "حشيش"، أشهدي عليها يا "أشجان" أمام المدير عندما يأتي، وأمام الشرطة لأني سأشتكيكِ بتهمة القذف والتشهير العلني.


كتفت "ندى" ذراعيها وهي تعلق بإستهزاء:


- أخفتني، بُصيلات شعري ستسقط رعباً من تهديدك.


وأردفت بصوتٍ مصرور:





- أنتِ ومديرك والشرطة تحت حذائي هذا ولو أنكم لا تساوون فردةً واحدةً منه!! وبإشارة واحدة من أصبعي سفرتكم إلى بلادكم لأنكم لا تبدون "بحرانيين" مائة بالمائة، لا بد أنكم من المجنسين!!!



وشعرت بلكزة خلفها فأخذت تحكُ ذراعها وهي تتابع:


- لا تنظري إليّ هكذا أيتها البلهاء الغيورة، أجل غيورة لأنني أجملُ منكِ وأصغر سناً والكل يحبني حتى مديرك المغرور وإن أظهر خلاف ذلك!! لو رأيته البارحة كيف كان يلاحقني في المجمع لكنني...


وعادت اللكزة أقوى من السابق فاستدارت للخلف وهي تتأفف:


- ماذا لقد حطمتِ ذ.....


ولجمت لسانها وفمها مفتوح تطالع الخيال الذي ظهر أمامها فجأة بذهول، وحين استوعبت شخصه صرخت صرخةً قوية زلزلت المكان...


وقطعت صرختها وهي تغطي وجهها بكفيها و تدورُ في مكانها كالعمياء...


وداست على قدم "أشجان" دون أن تدري ولم تعتذر رغم صراخ تلك الأخيرة، كانت الصدمة قد شلت حواسها وهي تستعيد في مخيلتها ما قالته عنه..



- قفي مكانك.. صاح فيها بغضب.


وجمدت في مكانها كتمثال وكفاها لازالا يحجبان وجهها.


- ويدكِ أيضاً أبعديها!!


وامتثلت لأمره وعيناها نصف مغمضتان، فبان لها ذقنه ورقبته فقط...



بللت شفتيها وهي تقول بهمس:


- أبي صدمته شاحنة البارحة و و..زوجة أخي ستلد، أجل ستلد اليوم!!!


- .................


- برأيك ماذا ستنجب ولداً أم بنتاً، حقيقةً أنا أفضل البنات، ماذا عنك؟!



وحاولت أن تبتسم لكن وجهه المكفهر حطم معنوياتها فازدردت ريقها وهي تقول بتقطع:


- أنا..أنا مريضة، الطبيب شخص حالتي وقال أنني أعاني من شئ غريب لم يكتشفوه بعد، أتصدق!!! سترك يا رب...



وقضمت أظافرها وهي تردد هذه العبارة في سرها بحرارة..



ورفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً:


- هل سمعت هذا الخبر: حزب الله قرر قصف "تل أبيب"..


- ....................


- خبر قديم، أعرف...


- آه، حلا شيحا تطلقت من زوجها، لكن ربما لا تعرفها.


وتوقفت عن القضم وهي تقول بتباكِ:


- أريدُ أن أذهب للحمام.



وأرادت أن تخطو إلى البعيد قليلاً لكن جذعه كان لها بالمرصاد..



وأشار إلى مكتبه فكادت تخر مغشياً عليها وهي تندبُ حظها العاثر:


- غداً، غداً إن شاء الله سآتي مع والدي لنحل الموضوع.


وبكت في خاطرها بصمت، وسمعت صوته يسخر بقسوة :


- والدك في المستشفى الآن، أنسيتي؟!



أدارت وجهها المضطرب في وجه "أشجان" الذي بدا صغيراً جداً، بدا ضبابياً!!!


ثم التفتت لجميلة كان وجهها جامداً هذه المرة، لم ترى ابتسامتها الشامتة على شفتيها!!


حتى هي تشفق علي، سترك يا رب!!



وسارت إلى الأمام وقد مرًّ في ذهنها صورة معزة صغيرة ذبحها والدها بجانب بيتهم عندما انتقلوا إليه لأول مرة، وبعدها قاطعت اللحوم، رفضت أن تأكله لبضع سنوات لكن الوجبات السريعة حلت لها تلك العقدة...



"مسكينة أيتها المعزة"!!! رددت..
(15)



دخلت إلى مكتبه قبله و صوت الباب يُصفق خلفها بعنف..


صرّت عينيها و أذنيها بقوة...


و أخذت تدعو في سرها و تنذر عشرات النذور كي تسير الأمور على خير!!


جلس على مقعده الوثير وأصابعه تدقُّ على سطح الطاولة...


كانت الدقات تزحف إلى رأسها ببطء وقوة كدقات المطرقة على المسمار...


واستمرّ الدق هكذا وبدا سيد المكان تلك اللحظة...


فتحت إحدى عينيها المزمومتين بتوجس لتستشفّ معالم وجهه، لكنها لم ترى شيئاً!!!


لم ترى غضبه، غطرسته، أوداجه التي تنتفخ كلما رآها!!!


فقط كان يطالعها بإزدراء!!


فتحت كلتا عينيها وهي ترمشهما بسرعة وقد بهتت من نظرته تلك...


و رأته يسحب ورقة من على المنضدة و يكتب فيها بسرعة...


و هوى قلبها....


أرادت أن تتقدم لعلها تسترق شيئاً مما يخطه بيده، لكن رجلاها تجمدتا من الخوف...


تحركت شفتيها بإضطراب و أخيراً سألتهُ بصوتٍ غائب:


- ماذا..ماذا تكتب؟!


- ..................


- تكتبُ شيئاً عني، صح؟!!


- ..............


- صدقني، أنا لم أقصد أن أقول شيئاً مما سلف، أصلاً أنا لم أقل شيئاً!!!


- ...............


- هي من تحرضني، هي من تدفعني لقولِ ذلك، إنها تستخدم جهازاً ما بالتنويم المغناطيسي، لا أعرف اسمه، يجعل شفتاي تتحركان بما لا أعلم، إنها "ساحرة"!!!



ورفع رأسه حينها لها فأسبلت عينيها وهي تتظاهر بالإستكانة و الضعف...


لكنها سرعان ما سمعت جرة القلم تعود من جديد...



"لا فائدة من هذا الظالم، لا فائدة منه!!!"



عادت لتقول بإستعطاف:



- أرجوك، لا تضيع مستقبلي، أريد أن أتخرج هذا العام...


- ...........................


- أعدك أنني سأحسن سلوكي، سأتوقف عن الكذب، عن التمثيل، سأصادق "جميلة" أيضاً إذا شئت!!


- ..........................


- لا تكتب عني شيئاً، أنا لا ذنب لي، أنا خلقني الله هكذا، لكنني سأتغير، سأتغير بصدق...


- ........................



- إذا علم والدي سيمرض، سيتقطع شمل عائلتنا، هم بحاجة لي، كلهم يعتمدون علي، أيرضيك أن نشحذ؟!!



و انطلق صوت بكاءها ليرتفع وهو لا يتوقف عن الكتابة!!!



أخذت تطالعه بحرقة وعيناها تكادان تقفزان من محجريهما من بروده...


- أليس لديك إحساس؟!


- ....................


- لقد أذليتُ نفسي لك أكثر من اللازم!!


- ...................


- حتى البكاء بكيت، ماذا تريدُ أكثر من هذا؟!


- ....................


- قلتُ لك توقف، توقف عن الكتابة!! صاحت بتهديد.


- اصمتــــــــــــــــــــي....



وصرخ بغضب وهو يلقى القلم الذي بيده في الهواء...


تابعته بفزع وهو يتدحرج على الأرض ويصل لأصابع قدمها....


نقلت بصرها بين القلم وصاحبه وهي تقول بخوف:



- أستاذ أنا....


- قلتُ لكِ أغلقي فمك، عندما أتكلم لا أريد أن يقاطعني أحد، صوتك هذا لا أريد أن أسمعه، مفهوم؟!!



هزت رأسها بذل...


- أنا للآن لا أعرف أنتِ ماذا بالضبط!! أنا لم أصادف في حياتي العملية و التي ناهزت الاثنا عشر عاماً موظفة مثلك!!



- بالطبع مثلي أنا لا يوجد، أتصدق!! الكثيرات يقلدنني ولكن أين الثرى من الثريا!! وأشارت لنفسها بحماس وقد نسيت نفسها.



تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وبدا كما لو كان يصارع شيئاً يودُّ قوله..



- أعوذُ بالله بالشيطان الرجيم..


- أنا شيطان؟!! سألته بإستنكار.


- اخرجي، اخرجي فوراً من هنا. صرخ بنفاذ صبر.


- لم تصرخ علي دائماً، ماذا فعلتُ لك؟!!


- ألا تفهمين ما يقال لكِ من الوهلة الأولى؟! أأنتِ صماء؟!


- حسناً سأخرج، لكن ماذا عن هذه الورقة ؟! كتفت ذراعيها.


- تريدين أن تعرفي ما بها؟!! سأل بتشفٍ.



عادت لتهز رأسها بسرعة..



مدّ الورقة إليها فأخذت تقرأها بنهم وعيناها لا تتوقفان عن الرمش، وبعد برهة امتقع وجهها وهي تطالعه...



صاحت بصوتٍ عال:

- ماذا؟!


- هذا أقل شئ تستحقينه!!


ردت بحقد:


- أستحقه؟! كل هذا لأني قلتُ عنك كلمتين!!



- تعترفين بذلك أيضاً يا قليلة الأدب..




- أنا قليلة الأدب يا حيوان!!!!



ووضعت يدها على فمها وهي تشهق بصوتٍ مكتوم....


تمنت أن تموت، أن تنشق الأرض وتبتلعها، أن يصاب المدير بالصمم لحظتها!!


ربما لم يسمع، لم يسمع!! أخذت تكرر في نفسها..


و تراجعت إلى الوراء وهي ترى وجهه يُظلم، يكفهر...


أخذت تتأتأ بإرتجاف:


- لا..لا تفهمني بشكلٍ خاطئ، هذه نظرية علمونا إياها في المدرسة.


- ......................


- أنت حيوان وأنا "ندى" و الناس حيوانات، ألم يقل "داروين" الإنسان حيوان ناطق!!!!


- ......................


- إذا كنت لا تصدقني سأحضر لك كتاب "الفلسفة" غداً.


- إذن اسمعي يا "حيوانة" منذُ الغد، لا بل منذُ اليوم سيطبق القرار، عملك هنا ينتهي الساعة التاسعة مساءاً ، وما أن تبدأ الفترة الثانية حتى تأتي إلى مكتبي كل يوم لأعلمك وأدربك فلدي أكوام من الملفات لا بد أن أنهيها، وأنتِ من فصيلة الحيوانات وتحتاجين للتدريب كي تفهمي!!!


- ....................


- تريدين أن أكرر عليكِ الكلام أم يكفيكِ هذا؟!


- ....................



- أريد أن أسمع جواباً، يكفي أم لا؟! صرخ بغضب..



و ألقت الورقة بسرعة من يدها وفرت من أمامه وهي تبكي بمرارة...


و تلقفتها "أشجان" في الخارج وهي تربت على ظهرها بحنو...


- هدئي من نفسك، هو دائماً هكذا. قالت بصوتٍ منخفض.


نزعت نفسها منها وهي تصرخ:


- هو ****، ذاك هو..


- "ندى"!!


وأشارت إلى "جميلة" بحركة خفيفة لكنها لم تبال واستمرت في صياحها:


- تخيلي ماذا يريد أن يفعل بي؟!!


- ماذا؟! سألت "جميلة" ببراءة.



فما كان منها إلا أن أزاحت "أشجان" عن طريقها وهي تقترب والشرار يتطاير من عينيها...



وضعت "ندى" أصبعها على فمها وهي تردد بتهديد:



- أصمتي، أنتِ السبب، أنتِ السبب في كل شئ..


تراجعت "جميلة" إلى الوراء بخوف وهي تنظر "لأشجان" بإستنجاد.



- "ندى" كوني عاقلة.



استدارت إليها وهي تعود للبكاء:


- عاقلة!! سيحبسني لديه كل يوم حتى المساء، كل يوم، كيف سأتحمله!!


- تحلي بالصبر، لم يبقى الشئ الكثير على فترة تدريبك. أخذت تواسيها.


صاحت بوعيد:


- لكنني سأجعله يندم، يندم على اللحظة التي وضع فيها هذا القرار، والأيام بيننا...



واتجهت لمكتبها والفتاتان تراقبانها بوجل وما أن استقرت عليه حتى طالعتهما بجمود وهي تعضُّ على شفتيها بقوة...


وتلكأ لسانها كثيراً قبل أن ينطق:


- أأنا من فصيلة الحيوانات؟!!


وعادت لتنفجر في البكاء من جديد...


==========



تطلعت إلى نفسها في المرآة بقلق وهي تعيد تصفيف شعرها ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم!!!



إنها تكره أعمال الزينة، تمقتها، تشعر بأنها تقيدها، تجعلها مصطنعة، كدميةٍ مشدودة!!!



و مرت صورة "الشقراء" أمام عينيها فعاد الغضب الأعمى ليمزقها من جديد، ليفقدها صوابها ويأجج النار التي لا تلبث أن تتقد في صدرها كل حين...



وألقت فرشاة شعرها بيأس...


إنها لا تستطيع أن تكون مثلها، ليس في هذه الفترة على الأقل!!!


ولمَ تحاول ذلك أصلاً؟!!


لم يا "غدير"، ماذا جرى لكِ، بتّ تكشفين أوراقكِ له وهو يستمتع بذلك...


يفتعل معكِ المشكلات ليذكركِ بها وبتلك التي ينوي الزواج بها، ثم يترككِ تحترقين وهو يبتسم!!!



ماذا جرى لكِ أيتها الغبية، إلى أي مدى ستجركِ حماقتك، أوراقك لا بد أن تدفنيها كما تدفنين دفترك وتهيلين عليها التراب وتصمتي، تصمتي للأبد!!!


غرزت أصابعها كأنها تودُّ أن تُفيق نفسها من هذا الكابوس المريع، الكابوس الذي يقضُّ مضجعها ويحيل لياليها سواداً حالكاً لا نجوم فيه...


جلست على حافة السرير مطرقةً رأسها....


الأفكارُ تعصفُ بها كدوامة، كدائرة مفرغة لا قرار لها، ها هي تسمع صوت باب حجرته...


سيخرج، سيخرج منذُ الصباح، دائماً يخرج ولن يعود إلا متأخراً...


وتريدونها بعد ذلك أن تصمت!!!



ألقت نفسها على السرير وجسدها يهتز بصمت...


ماذا جرى لكِ يا غدير، ماذا جرى؟!!!



==========



سكبت لها عصير البرتقال وهي تنظر للخارج من نافذة المطبخ مستمتعةً بإرتشافه على جرعات...


حين يتحد الصباح مع الهدوء ينفرزُ في ذاتك شيئاً ما، شيئاً لا تعرف كنهه، لا تستطيع وصفه...


شئ جميل وشفاف، شئ يشبه الصفاء، يشبه النقاء، يلامس سريرتك، يهزُّ أوتارها فينبعث منها هدوء، راحة، سكينة عجيبة....


ما أجمل الصباح، وما أروع زقزقة العصافير حين تدغدع مسمعك!!!


وبقيت هكذا مأسورةً بجمال المنظر، بروعة الشمس والشجر والعصافير!!



وبقي هو واقفاً عند الباب يتأملها بغموض...


وكأنها أحست بإحساس الأنثى بتلك النظرات، فاستدارت للخلف....


- صباح الخير.


وصمتت فترة قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفض و حاجباها معقودان:

- صباح النور.


ووضعت كأسها الذي لم تتمتع بإحتساءه بأكمله بجانب الحنفية، ومرت بجانبه لكنه لم يتزحزح عن الباب.


- لو سمحت!! قالت بإستنكار.


تنحى قليلاً وهو يعلق:


- يبدو أنكِ نسيتِ موضوعنا!!


- أي موضوع؟! سألته بشزر.


- موضوع الفحص!! لقد وصلت أدواتي المختبرية منذُ أسابيع...


- أنا و زوجي "ناصر" لا نفكر حالياً بالأطفال. ردت بحزم.


تطلع إليها بتثاقل وهي تبادله نظرة كراهية لم تفته..


- كما تشاءان، وإذا غيرتما رأيكما فأنا موجود..


مرّت من فرجة الباب دون أن تجيب عليه...


صعدت السلم وأحساسها بالقرف منه يتصاعد...



يا لهُ من رجل يُثير الغثيان!!!



===========




قفزت مذعورة من صوت صراخه....


أغلقت باب غرفتها خلفها وهي تتلفت بحيرة ماذا تفعل وأين تختبئ، فلا تدري أي شيطانٍ ركبهُ اليوم؟!!!



لم تجد إلا الفراش ملاذاً، اختبأت فيه وهي تغطي نفسها، حتى إذا جاء ظنها نائمة وانتهى اليوم على خير!!!!



كم هو جميل أن نحلم، وكم هي صعبة أن تتحقق الأحلام....



دفع باب غرفتها وهو يصرخ:



- غدييييييييييييييييير...



تقدم منها وهو يهزها:



- أنتِ، ألا تسمعين قومي، كيف تنامين في الظهيرة؟



أبعدت الغطاء عن وجهها وهي تسأله بتقطع:


- أ..أ..ماذا، ماذا حدث؟


- أين قميصي الأخضر؟



رفعت كتفيها بخوف بأن لا تدري.


حدجها بغضب وهو يزمجر:


- اذهبي وابحثي عنه فوراً.


- حـ..حسناً.


- هيا قومي، ماذا تنتظرين؟


وفزّت من جلستها ودمدمته تصل لأذنيها:



- لا أدري لم تزوجت؟! ويقولون الزواج راحة!!!



اتجهت للغسالة، فتشت بسرعة وهو خلفها لا يزال يدمدم.


- ليس هنا..


- اذن أين ذهب، كيف اختفى هكذا فجأة؟!


- ألبس لك شيئاً آخر.


- لا أريد إلا هو.


- لا تصرخ علي، لستُ أنا من ضيعه.


- صه، أصرخ كما أشاء في بيتي، أم لديكِ اعتراض يااا آنسة؟!



وشرد ذهنها قليلاً...


لم يريده هو بالذات!!!!



- يبدو أننا لن ننتهي من أحلام اليقظة اليوم، هيا...



دفعها أمامه حتى غرفته، و بقي هو واقفاً عند الباب وهي تبحث في خزانة ملابسه:



- ملابسي مكوية، إذا تجعدت أو لم تعيديها لمكانها ستضطرين إلى كيها من جديد.



نظرت إليه والغيظ يكاد يفتتها، ودت لو تقطعه هو وملابسه!!!



أي أسلوبٍ بات يتبعه معها هذه الأيام!!


كيف انتقلت الدفة إلى يده؟!!



كله بسببها، تلك الشقراء الفارغة..


- لم أجده، ليس هنا..


- ابحثي جيداً...


وجالت ببصرها حول الغرفة وتوقفت عند طاولة الزينة...


رفعت إليه القميص والدهشة تعلوها:


- كان هنا أمامك ولم تره؟!!



- لو كنتُ رأيته لما ناديتك، أعطنيه.


لقد سلبت عقلك، أصبحت لا ترى الآن!!!


لا تراني ولا ترى ما يدور حولك...


تطلعت إليه بألم وهي تسأله بمرارة:


- أين ستذهب ؟!


- وما شأنكِ أنتِ!!


- أريد أن أذهب معك، أنا لا أخرج أبداً من هنا..


- كل ليلة أوصلك إلى بيت خالك..


- و أين تذهب حينها؟!


- ومنذُ متى تسألين!!


- منذُ اليوم سأسأل..


- أذهب للمكان الذي يحلو لي، ولعلمك أنا لا أحب التدخل في خصوصياتي..



- هذه ليست خصوصياتك وحدك، أنت تريدني أن أبقى جاهلة عمياء لا أعرف شيئاً عما يدور من ورائي!!!


- وما الذي تعتقدينه يدور وراءكِ يا آنسة؟! سألها بسخرية.


- لا تنادني هكذا. صاحت بغضب.


- اسمعي أنا متعبٌ الآن من العمل، ولا طاقة لي للشجار.


- إذن ابقى في البيت.


- لقد وعدتُ أصحابي بالقدوم.


- أصحابك؟!



أخذت تكررها و هي تضحك بجفاف:


- لا تقل لي!! كل هذا الصياح والبحث المتحمس عن القميص، كل هذا من أجل عيون أصحابك!!


- أفهميها كما تشائين، وسواء صدقتِ أم لا فأنا رجل أهتم بمظهري الخارجي في كل الأحوال!!


- أنت كاذب منافق، غشاش. صاحت بإنفعال.


- غدير!! صرخ بتهديد.


- لا تنطق اسمي على لسانك، أنا أكرهك، أكرهك.


- اخرجي الآن قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه!! رد بصوتٍ غاضب.


كان صدرها يعلو ويهبط بإختناق، والثورة تدبّ في أعماقها كإعصار يريد أن يجرف كل من يقف أمامه بجنون...



- أخرجي، أريد أن أغير ملابسي..


الأفكار تطحنها والوسواس الخناس لا يلبث أن يتراقص أمام عينيها، لا يلبث أن يهمس أذنيها بكلمات، باتت هاجسها الأخير...



تطلعت فجأة إلى الكأس الموضوع على المنضدة ودون شعور تناولته:


- ارتده الآن، سيبدو لائقاً!!!


وانسكب الماء على القميص وعلى جزءٍ من ثيابه...



تطلع مصدوماً إلى نفسه ولها لثانية، وبلا شعور مدّ يدهُ هو الآخر!!!




ورنّ في الغرفة صوت صفعة قوية استقرت على الخد مباشرة دون سابق إنذار..



رفعت أناملها المرتجفة إلى خدها لتتحسسه، لتتحسس السياط الذي كوى جلدها...



رفع يده إلى شعره بتوتر كما لو كان في حالة اعتذار...



ترقرقت الدموع من عينيها وهي تنظر إليه وتهزّ رأسها دون تصديق...



صفعها من أجل قميص؟!!



كلا، ليس من أجل قميص، بل لأجلها، لأجلها هي أياً كانت...




و هرعت إلى غرفتها وهي توصدها خلفها بالمزلاج...



وانزلقت أسفل الباب، على الأرض وأجهشت بالبكاء...



=============




دقت الباب عدة مرات ورغم أنها سمعت كلمة "أدخل" إلا أنها كررت الطرق وبصوتٍ أعلى!!!



وانفتح الباب على مصراعيه فحدجت الواقف أمامها بحقد ودخلت مباشرة وفي يدها ملف أبيض اللون..


و سمعت الباب يُغلق بعد لحظة فعاد الألم بقوة إلى معدتها...



- اجلسي. ردّ ببرود.


لكنها بقيت واقفة كالتمثال دون أن تنبس ببنت شفه!!



عاد إلى مقعده وهو يعبث بأدراجه دون أن يحول عينيه عنها..


- ستبقين واقفة هكذا إلى متى؟! ردّ بنفاذ صبر.



لا جواب!!!!


وانتفخت أوداجه وهو ينظر إليها بغضب وهي تكتفي بالرمش فقط!!!


وضع يديه بتصميم على سطح المكتب واستطالت قامته في وضع الوقوف...



اهتزَّ الملف الذي بيدها ونظرت إليه من طرف عينيها وما هي إلا ثانية حتى هرعت إلى الكرسي لتجلس عليه!!



عاد إلى مقعده وهو يتنهد...



وقال بعد قليل:



- سنبدأ في جرد حسابات "المخازن الكبرى" أولاً، أنتِ ستقومين بـــ.....



و توقف عن الكلام وهو يراقبها...



كانت تضع قدماً على أخرى وتتصفح الملف الذي بيدها بتمعن، وفي كل حين ترفعه حتى يلاصق وجهها وهي تحرك رأسها!!!


- هل أنتِ مختلة عقلياً؟! سألها بإرتياب.


- .........................


- ماذا في يدك؟!


- ..................


- لم لا تتكلمين؟! أأصيب لسانك بالشلل!!!


- ................


وضرب بقبضته على الطاولة:


- أعطنيه، لعنةُ الله على الشيطان!!



وتطلعت إليه ببلاهة وهي تشير إلى الملف بإصبعها..

- أجل، أريدهُ هو، جيد أنكِ تفهمين!!



ولمعت عيناها ببريقٍ ما سرعان ما أطفأته...


رفعت الملف عن حجرها وهي تمسكهُ لأعلى....


حركت يدها ناحيته لكنها سرعان ما أنحرفت بسرعة وأفلتته على الأرض!!!


فتحت فمها بدهشة وهي تهزُّ كتفيها كأن لا دخل لها، وهو جامدٌ في مكانه، مصعوق!!!



أمالت بجذعها وألتقطته ومدت يدها لتمسح جبينها وهي تلهث من التعب!!!



ثم زفرت وعادت لتشير إلى الملف بإصبعها....


ولم يُجب....


فعادت لترفعه إلى أعلى، إلى أقصى ما تستطيع وهي تنظر للملف بتفحص، ولوت فمها كأن شيئاً لم يعجبها فيه فأسقطته!!!


التفتت إليه وفمها مفتوح، عيناه تكادان تخرجان من محجريهما من منظرها...


عادت لتنثني من جديد وتلتقطه و تمدهُ ناحيته!!!


أطرق رأسه قليلاً وكأنهُ في حالة تفكير عميق...


ثم وقف فجأة فقفت هي الأخرى وهي تمدُّ الملف بأطراف أناملها، لكنهُ لم يأخذه بل دار نصف دورة حتى أصبح بمواجهتها...


وقبل أن تستوعب سحب الملف من يدها ولفه بأصابعه وهوى به على كتفها ...



صاحت وهي تتراجع إلى الوراء وتمسك كتفها:


- أ تضربني أيضاً؟!!


- لأن الحيوانات هكذا، لا تفهم ولا تتكلم إلا بالضرب!!


- والله سأخبرُ والدي عنك والشرطة..


- تخبرينهم بماذا؟!


- أنك مددت يدك علي.. صرخت وهي تدقُ الأرض بقدمها.


- وأين شهودك؟!


شهقت دون تصديق...


- أنت لا تطاق، لا أريد أن أعمل معك..



- اذهبي للوزارة الآن لتغيري مكان تدريبك إن كنتِ تقدرين.



أخذت تندب حظها العاثر وهي تصيح بحرقة:


- أنا لا دخل لي، أريد أن أعود للبيت، كلهم عادوا إلى بيوتهم عداي أنا، كلهم يتناولون الغذاء وأنا جائعة، كلهم نائمون الآن وأنا أعمل وأعمل وأعمل وفي النهاية أُضرب ويُقال عني أني من "الحيوانات"!!!


- إذا أنهيتِ جرد كل هذه الملفات سأُعيدك إلى مكانك.


- أحتاج لسنة كاملة كي أنهي أوراق الزبالة تلك. ردت بإشمئزاز.



تطلع إليها بشزر وهو يصرُّ على أسنانه:



- اسمها أوراق العمل وليس أوراق الزبالة، كفي عن التحدث بسوقية..


- أصبحتُ سوقية أيضاً؟!! وأخذت تصيح.


لم يبالِ بصياحها وأردف:


- ثم كلما عملتِ بجد وإخلاص ونشاط حقيقي ستُنهينها في أسابيع..



"أنا لا أقدر أن أتحملك يوماً واحداً ما بالك بأسابيع!!"



- هيا عودي لمقعدك لنبدأ وكفي عن تصرفاتك الخرقاء!!



"اصبر علي فقط، لن أكون "ندى" إن لم أجعلك تعضُّ أناملك ندماً لأنك وضعتني معك في مكانٍ واحد!!!"




==============



أحنت جذعها لترتدي نعليها ولم تشعر إلا بيد تمس ظهرها...


رفعت رأسها فوراً بوجل...


- آسفة إن أخفتك، كيف حالك يا ابنتي..


وابتسمت "غدير" ابتسامةً كبيرة وهي تصافخ المرأة بحرارة:


- أنا بخير، كيف حالكِ أنتِ؟!



- الحمد لله على كل حال..


ثم هتفت بسرعة:


- ماذا عن والدتك، هل أبلت من مرضها؟!!


- أمي؟!! تساءلت بدهشة.


- أجل والدتك، كانت مريضة وعلى فراشها المسكينة حين زرتها آخر مرة.


"أمي مريضة!!"


وشعرت بالإثم يعقد لسانها...



الغصة ترتفع، تتضاعف جرعتها، و الذنب يبدو جلياً ونظرات المرأة تشهد على ذلك...



" مريضة وأنا لا اعلم!!"



أرجوكِ اصمتي، ومنذُ متى كنتِ تسألين، ألم تتوقي إلى الفكاكِ منها ومن صورتها المهشمة الضعيفة!!!



ألم تريدي الخلاص، النسيان، أليست هي أول بصمة سوداء في حياتك، أليست هي السبب يا "غدير"؟!!


لم السؤال إذن؟!!


هي أيضاً لم تبالي، حضرت عرسك وخرجت وكأن ليس هذا بزفاف ابنتها...



ربما منعها، ربما جاءت خلسة وعادت قبل أن يكتشف غيابها ذاك السكير!!



لا... لا تبحثي لها الأعذار..



لا أب لكِ، إذن لا أم لكِ!!



هكذا هي المعادلة منذُ الأزل!!


وتجاوزت المرأة والكلمات تطنُّ في أذنيها كدبيبُ نحلة...



المصائب لا تأتي فرادى أبداً، تأبى إلا أن تأتي كلها وعلى حين غرة...


مريضة!!!



وماذا في ذلك، كلنا نمرض وهي كبرت في السن!!



ماذا بعد ذلك؟!!



ستموت!!!



كلنا سنموت اليوم أو غداً، لا فرق!!!



لم الحزن إذاً، لم الرثاء؟!!



دع الخلق للخالق وسر في طريقك وحدك واصمت...



اليوم وغداً ووراء الشمس ستسير وحدك، اعتد منذُ اليوم ولا تنظر للوراء...



مريضة!!!



ماذا تريدونني أن أفعل؟!



أزورها مثلاً!! أهذا ما تريدونه؟!!



كلا لن أفعل، لن أفعل أسمعتموني، لن أفعل...



لا أريد العودة إلى هناك، لا أريد أن أذكر أي شئ، أي شئ...



ربما كان رابضاً هناك وأنا تقتلني رؤيته..



أنا لا ماضي لدي، كله ضاع، تمزق، ألقيته خلف ذاكرتي..


خلف الشمس!!!


ماذا تريدونني أن أفعل ها؟!!



قلتُ لكم لا، لن أزورها، لن أفعل...



أمي أنا مريضة!!!!


هراء!!!

من قال ذلك؟!!



و وصلت لشقتها بذهنٍ غائب...



الأنورار مطفأة والسكون يتراقص بخفة حول المكان...


مدت أناملها لتتلمس مفاتيح الكهرباء...



لتضيء المكان وشيئاً من روحها الهائمة، المنغمسة في الظلام...



لم يعد حتى الآن وربما لن يعود!!!



هذا أفضل، أنا لا أريد أحداً، فليذهبوا كلهم للجحيم!!!



وأنا من وراءهم!!!



وألقت بنفسها على سريرها وهي تدفن وجهها في وسادتها التي طالما تشربت دموعها، امتصت آلامها، همست لها بأسرارها وحدها..


ما أوفاها هذه الوسادة!!!



و تركت لنفسها العنان وهي تجرُّ الدثار عليها...



لم الحياة هكذا دوماً؟!!



كحركة المد والجزر...



ترفعك حيناً وتهبطُ بك حيناً آخر...



لم هذا الكلام يا "غدير"، منذُ متى وكنتِ تقدمين آراءك عن الدنيا!!



أعترفي، جاهري بما في جعبتك...



هي السبب، هي، لم تمرض، ولم تأتي تلك المرأة لتخبرني بذلك؟!


استغفر الله، أتعترضين على أمر الله...



يا عزيزتي: لا يُغني حذرٌ من قدر...



أنا لا أشعر بالأسى حيالها، لا تهمني، ألا تفهمون، لذا لا تصدعوا رأسي بهمساتكم تلك...


صه، صه، صه أنا لستُ أكذب، أنا قلبي مات، مات منذُ زمن، مات وكان من الأحق أن يأدوه منذُ ولادتي، كان لا بد أن يدفنوه أو يدفنوني!!!



بلا قلب أنا أفضل، بلا قلب أنا أعيش!!!!



أمي ماتت، ماتت منذُ زمن وكفى...


ماتت وانتهى أمرها بالنسبة لي!!!



ثم يأتي هو...


إذا تواجدت هي، فتش عن "هو"!!



ذلك الكاذب، القاسي، صفعني لأني كشفته، فهمته..



تريد أن تتزوج، فلتتزوج إلى الجحيم أنت ومن تريدها!!



فقط كفّ عن ترديد ذلك على مسامعي...



لا تخالوني أغار، لا تخالوني أحبه...


ما لكم تنظرون إليّ بريب؟!



قلتُ لكم لا أحبه ألا تفهمون، مثلي أنا لا يعرف الحب، ومثله لا يستحق أن يُحب ذلك الغشاش!!!



ولكن انتظر....


قبل أن تتزوج بأخرى، طلقني فأنا لم ولن أريدك...



أتسمع، طلقني، تخالني سأبكي عليك إن أخذتها وطلقتني؟!!



ذاك ما أصبو إليه، ذاك جلُّ ما أتمناه....



لن أذرف عليك دمعةً واحدة، ولن أغضب، بل سأدعو لك ولها بالتوفيق...



قلتُ لكم كفو عن التطلع إلي...




أنا لا أبكي لا عليها ولا عليه!!!



أنا لا أحمل في قلبي شيئاً...



لا أحمل إلا شقائي!!



وأجهشت بالبكاء وهي تعصر الوسادة بيديها...



ولم تنتبه أنهُ كان مستنداً منذُ زمن على الباب، يشاهد الجسد المهتز من تحت الدثار، يسمع تلك الشهقات المنفلتة رغم الوسادة المحيطة بها، يشاهد هذا كله و هو يقف ساكناً!!!



وانطلق الصوت بعد برهة بهدوء، بخفوت كخفوت ذلك الضوء الشارد من القمر عبر زجاج النافذة...


- غدير!!!


وتوقف الرأس عن شجنه فجأة وكأن الصوت وحده كان كفيلاً بتجميده!!!

عاشقة الكتب 24-05-07 04:54 PM

(16)



كل شيء ساكن، كل شيء يصيغ السمع لصوت أقدامه على الأرضية!!


سقطت ظلاله عليها، شعرت بثقلها، بوطئتها كما لو كانت تتغلل عظامها، تسري في جسدها كالتيار!!!


لكنها لم تُزح رأسها، لم ترفعه، لازالت الوسادة الأثيرية تحتضنه، تحيطه كسياج!!!


وجلس على حافة السرير فاهتزَّ قلبها في عرشه...


- غدير!!!


لا صدى، لا صوت، لا إجابة!!



وضع يده برفق على كتفها وهو يردف بهدوء:


- أعلم أنكِ مستيقظة، فلا تتظاهري بالنوم!!


كفت عن التنفس، أم لعل الهواء انعدم، تلاشى، تسرّب كذلك الضوء الشارد الذي تسلل للغرفة دون استئذان!!




- أريد أن أعتذر عما بدر مني ظهر هذا اليوم...



وعادت لها ذكرى الصفعة، ذكرى الإهانة، ذكراها هي!!



من أين جاء؟!


دفعت يده بعيداً عنها دون أن تنظر إليه وهي ترد بصوتٍ مبحوح:


- ابتعد عني..


تنهد وبعد برهة صمت قال:


- أنا آسف، لم أكن أقصد، أحياناً لا أتمالك أعصابي..


- لا أريد أعتذارك، لا أريدُ شيئاً منك، من فضلك أنا متعبة..



وتهدج صوتها، اختنق في حنجرتها لكنها جاهدت كي يبقى موؤداً، في طي الكتمان...



- أرجوك لا تبكي، أقسم أني نادم على ذلك..


رفعت رأسها بسرعة، بأنفة لتواجهه:


- أنا لا أبكي.


- لا تكفين عن الكذب أبداً!! وهذه الدموع التي تغرق وجهك!!


- أنا عائدة للتو من "المأتم".. أجابت بعصبية.


- ومن أوصلك إلى هناك؟!


- وما شأنك أنت؟!


- غدير!!


- أنا لا أحب أن يتدخل أحد في خصوصياتي كما لا تحب أنت، أسمعت؟!


- ما هذا الكلام الأحمق!!


- هذا كلامك أنت!! و منذُ اليوم سأفعل ما يحلو لي، أنا لم يعد يهمني شئ، أي شيء!! أخذت تصيح.




جرها من ذراعها عنوة للأمام حتى بات وجهها قريباً من وجهه...



تلاقت عيناهما معاً، شعرت بأنها حطام، هشيم، يذوي بسرعة، يتردى في العاصفة ويتهاوى بضعف..



نسيت كل غضبها، كل العذاب الذي سببهُ لها فقط وهي تغوص في عينيه...



أيضحك علي؟!



لاحت ابتسامة ضئيلة على شفتيه وهو يهمس:



- يبدو أن الغيرة أفقدتكِ صوابك!!



صرخت وهي تحاول أن تسحب يدها وتبتعد وقد أصابتها كلماته بالهلع.


- اترك يدي.



أردف دون أن يعبأ بصياحها و بأنفاسها المتقطعة:



- تهربين، دائماً تهربين، لم تخافين من نفسك؟!


هزت رأسها نافية وهي تردد بإختناق:


- أنا لا أفهم ما تقول!!



أمسكها من كتفيها وهو يهزها :



- انظري إلي، صارحيني، أفهميني كيف تحبين آخراً وتغارين علي؟!!



- أنا..أنا...أغار؟! كلا، كلا..



ونزعت نفسها وهي تضمُّ يديها نحو صدغها بخوف....


- كاذبة لا تُجيد الكذب!!


- أنا لا أكذب، ولا أريدك أن تكلمني، أخرج من هنا..



أخذ يتأملها بنظرة عميقة وهي تشيح وجهها بإضطراب دون أن يستقر على جهةٍ محددة...


- كف عن التحديق بي هكذا.. صاحت بصوتٍ مبحوح.



- ستخبريني بكل شيء يا "غدير" يوماً ما، أجل أنا واثق من ذلك..



- ليس لدي شيء لأخبرك إياه ألا تفهم؟!



- سنرى!!!



ثم أردف بثقة عجيبة:


- سنستأنف حياتنا كأي زوجين، وأنا مستعد أن أنسى الماضي، أنسى كل شئ ونبدأ من جديد...




"الماضي ننساه!!! كيف لي أن أنسى؟!"



وتطلعت إليه والخوف يغزو قلبها، لم هو واثقٌ من نفسه تماماً هكذا؟!



لكن لا، لا يستطيع لا هو ولا غيره أن يجبرها على شيء، حتى الكلام!!!



- والآن من أعادك إلى هنا؟!



أجابته دون شعور:


- ناصر.


- لمَ لم تقولي لوالدي؟!!


- .....................


- غدير!!


- هاا. ردت بشرود.


- لمَ لم تقولي لوالدي؟


- خالي ينامُ مبكراً..


- لم لم تتصلي بي، أتخالينني سأرفض؟!


- أنا لا أجدك لا في البيت ولا على الهاتف. ردت بألم.


- ستجديني إذا شئتِ أن تجديني!! وابتسم بحنان...



رفعت رأسها إليه والعذاب ينضح من وجهها...



تلك النظرة العميقة في عينيه والصوت الحالم...



لم هذه الثقة، أجبني؟!



ألا تعرف أن "عمر" و "الغدير" لا يجتمعان أبداً؟!!



هكذا هم منذ الأزل، هكذا كتب التاريخ!!!




وأين نحنُ والتاريخ، أين نحن وما خطهُ الزمن!!





وقطع صوته خيالاتها، بعثرها، وضعها بعيداً هناك، في أقصى المكان...




- غداً سأوصلك، وكل ليلة تقريباً قبل أن أسافر..




أتراها سمعته يقول "سيسافر" أم أن ذهنها قد ارتحل، سافر هو الآخر مع خيالاته، اختبأ في تلك العينين العميقتين!!



- تسافر!!



وتطلعت إليه بكل جوارحها، تطلعت إلى عينيه، شفتيه، إلى خلجات وجهه لعلهُ يكذب ما تسمعه، يفنده، أو يأخذ روحها معه!!!



- أجل سأسافر...



- ستسافر!! عادت لتكرر دون تصديق.


- لقد اتفقتُ مع الرجل ولم يبقى إلا أن أذهب هناك!!



- لمَ و أين؟! و غاب صوتها عن الوجود...



- إلى سوريا بعد 5 أيامٍ، أما لمَ فأنتِ تعرفين!!!



سوريا!!!



ورأته، إن كانت ترى اللحظة!!



رأتهُ يميل عليها ويمسك وجهها بين يديه وهي جامدة، ذاهلة عما حولها...



طبع قبلةً طويلة على جبينها ثم همس:



- تُصبحين على خير يا عزيزتي!!!




ونهض وهو يغلق الباب خلفه بخفوت!!



أبقي في العقل شيء، أم أن الجنون أصل كل الأشياء!!!



وضعت خدها على الوسادة ببطء وهي تغمض عينيها...



إنها تريد أن تنام، لا تريد أن تفهم شيئاً و لا أن تذكر شيئاً!!



ستنسى كل شيء وتنام، فغداً لا بد أن تستيقظ مبكراً وترحل!!!



أجل ترحل....



و مدت أصابعها المرتجفة لتتلمس جبهتها الدافئة، أبقتها هكذا طويلاً ربما لتتزود من حرارتها في أيام شتوية قادمة!!!



وانحدرت دمعة.....


تراقصت بخفة على خديها، ولمعت كذلك الضوء الشارد من النافذة!!!!



=============



كانت يدها اليمنى موضوعة أسفل ذقنها وهي تراقب المدير بعينين تنعسان كل حين....



" ألا يسأم هذا الرجل أبداً؟! أهو آدمي فعلاً أم آلة!!! لا يتوقف عن العمل لحظة، بالطبع يريد أن يكنز أكبر قدر من المال، لا بد أن حسابه يحوي عشرات الآلاف من الدنانير!!


عشرات الآلاف؟!! بل ربما وصل إلى مليون دينار، ومع ذلك لا يقدرني ولا يعطني شيئاً، ألا يعلم أنني مفلسة، ماذا سيضره لو أعطاني 100، 200، أهذا كثير؟!!"


ولكن...


"ما جاع فقير إلا بما متع به غني"، وأنى لهذا الظالم أن يشعر بي...



وتنهدت بصوت مرتفع لعلهُ يسمعها!!!



يا ربي ملل فظيع، إنه لا يتكلم جملتين كاملتين معي...



كم اشتقت للثرثرة مع "أشجان" ، حتى "العقربة"، أرجوكم لا تصفوها هكذا!!!


كم أفتقدها، افتقد الشجار معها، قالب الثلج الموضوع أمامي حرمني من كل شيء...



حتى العطور والمكياج الخفيف حُرمت منها بسببه، تعرفون أنا بدون شيء ألفت النظر ماذا لو وضعت شيئاً؟!!!



آه، مشكلة، كل شيء مشكلة، ولكن هذا المدير أكبر مشكلة في حياتي!!!




أنا معتادة على النوم ظهراً في هذه الساعة، دماغي تبرمج على هذا، لا أستطيع أن أقاوم النعاس، لكن أخاف أن يصرخ علي كما حدث بالأمس، جعل قلبي يقفز في مكانه ولم أعد إلى طبيعتي إلا بعد أن أفرغت زجاجة مياه معدنية كاملة في جوفي!!!!



كدتُ أموت بسببه، كل شيء يحدث بسببه، كان سيقضي على شبابي، قضى الله على الشيطان وعليه!!!!



و عاد النعاس ليُداعب عينيها بخفة ورأسها يتثاقل وهي تقاوم....



وأحست بشيء يدغدغ أصابع قدمها فأخذت تحركها بضيق...


ويبدو أن هذا "الشيء" كان مصراً على إزعاجها و حرمانها هو الآخر من النوم ولو للحظات!!!


حنت جذعها وهي ترمش أهدابها المتثاقلة بخمول...


تطلعت إليه وهو يتحرك بحركاتٍ عشوائية وكأنهُ يبحث عن أمرٍ ما...


رفعت رأسها بسرعة إلى المدير المنهمك في عمله بصدمة ثم صدت للأرض بنفس السرعة...


و ندت من فمها صرخة قوية وهي تبتعد عن الكرسي وتنفض ملابسها كالمجنونة...



أجفل المدير في مكانه، ترك ما بيده وتقدم منها:



- ماذا؟!


- صرصار، صرصار ركب على ثيابي. صرخت بفزع.


- أريني..



- تريدني أن أريك ثيابي؟!! صاحت بإستنكار.



- أنا قلتُ هذا؟! سأل بدهشة.



أردفت من علو وهي تحك قدمها بفعل القشعريرة:



- من تظن نفسك؟! أبي، أخي، زوجي لا سمح الله!!!



ونظر لها بنظرة لو كانت تنطق لسطرت:



هذا من آخر المستحيلات!!



ثم هزّ رأسه وتوجه إلى مقعده وعاد لينهمك في عمله تاركاً إياها تغلي...



نظرت إليه دون تصديق وهي توشك على تقطيع نفسها...



"مستحيل، هذا ليس من البشر إطلاقاً، إنهُ لا يحس، بارد كالثلج!!"



- أين تذهب؟! ابحث عنه واقتله...



- لا شك أنهُ مات الآن بعد هذا القفز كله!!!



فغرت فاهها والقشعريرة تقطع أوصالها كلها....



- مات في ثيابي!!!!


- يجوز..



"الصرصار مات في ثيابي أنا؟!!"



تقدمت منه بغضب وهي تضرب الطاولة بيدها:



- أنا لن أبقى في هذا المكان المليء بالحشرات!!


- .............................


- اليوم صرصار، غداً أفعى والله أعلم ماذا أيضاً!!


- ..........................


- أريد أن أعود لمكتبي.



- قولي هذا منذُ البداية.. ردّ بهدوء دون أن يرفع ناظريه عن الأوراق.



- والآن؟!


- أجلسي مكانك واعملي. ردّ بحزم.


- ماذا؟!


- كما سمعتِ يا آنسة. وعلت نبرة صوته.


- أنت ظالم، ظالم.. أخذت تصيح بحرارة.


- أبكي هناك، لا أريدُ إزعاجاً!!!



وتوقفت عن الصياح وهي تعضُّ أناملها دون شعور....



- عودي لمقعدك، لا أحب أن أرى أحداً واقفٌ على رأسي..



- لا، مستحيل، مستحيل...



وانفجرت في الصياح وهي تجلس على كرسيها رغماً عنها...



ولكن....



لا حياة لمن تنادي!!!



=========




استندت على الباب بتعب وإحدى يديها ممتدة لضغط الجرس منذ فترة ليست بقصيرة...




الرياح تعصف وتنثر الغبار حولها و القشة تتمايل بعودها النحيل، ما لها والحضور هنا، مالها وعكس التيار!!!



أخفضت يدها، باتت ترتعش كثيراً ولا تجدي أي نفع والجو عاصف لا تحتمله...



وانتابتها قشعريرة فالتصقت أكثر بالباب....



مال هذا الباب لا يُفتح!!! لطالما كان يفتح ويُغلق في وجوه الناس في اللحظة ذاتها!!!




ما بالهُ الآن أوقفَ حركته تماماً؟!!



أتعود من حيث أتت؟! ومن أين أتت أصلاً؟!



حيث يُجهز ضريحها بصمت، حيثُ يرفع نعشها بهدوء ويُطاف به بين الزوايا، لا تخافوا سأُضع قريباً في لحدي!! إنها مجرد أيام...بضعة أيام ليس إلا، ألم يقل هو ذلك!!!




الرياح تهدر بلا رحمة والباب لا يُفتح وهي تستكين على خشبه بخنوع....



وسمعت حشرجة القفل فكادت تسقط.....



أمسكت الجدار أرادت أن تلتحم به أو تختفي!!!




و تعلقت عيناها على الشبح الواقف أمامها....



كان قصيراً و ممتلئاً...


لازال قصيراً ولكن أين ذهب الجسد؟!!



أخذ يتأملها كما تتأمله لكنهُ كان أسرع منها...



سرعان ما تجاوز الدرجات الرفيعة وغاب بهدوء مع الرياح، في نفس الاتجاه!!!!



ولجت إلى الداخل وعيناها تسقطان سهواً على المكان، حيثُ عاشت سنين حياتها...



خلعت نعليها ومشت حافية على الرمال كعادتها في باحتهم الكبيرة...



وأحست بالراحة لأول مرة منذ أن وطئت هنا، راحة قديمة، بعيدة كالنجوم...



وانساقت إلى شجرة اللوز الضخمة المزروعة بتحدي، ضاربة بمحاولات "حميد" في قلعها عرض الحائط....



لا أخضر ولا يابس!!



ماذا يريد إذن؟!!



غريب أن تُثار الذكرى، كل الذكرى من مجرد النظر...



أما نحتاجه هو ومضة، ومضة صغيرة فقط لينفتح الصندوق، صندوق الذاكرة؟!!



أم أن الأشياء مخزونة هكذا في كل الحواس؟!!



و تركت الجذع، لطالما تركته، وأخذت تبحث عنها...



عن "هي"!!



ولم تدخر جهداً في البحث عنها....



كانت هناك، لطالما كانت هناك تطبخ وفي كل الأحوال!!!



- السلام عليكم...



وبدا لها أن والدتها لم تسمع صوتها الخافت فعادت لتلقي بالتحية من جديد لعلها تلتفت...



و سقطت الملعقة الكبيرة، تهاوت كما تهاوت تلك المرأة الخمسينية على الأرض!!!!



القلب الجزع يدمي، يتقطع هو الآخر وتلك المرأة تناديها، تفتح ذراعيها الرخوين لها.....



منذُ صغرها وهي لا تُجيد لغةالإشارات، لم تفهم معنى أن تُحِب و تُحَب، إنها لا تعرف كيف أن تُعبر عن مشاعرها لأحد، هكذا هو قلبها مغلفٌ بجمود!!





وانساقت لها رغماً عنها، رغماً عن جهلها بالإشارت، رغماً عن قلبها الجامد!!!!



ارتمت في حضنها وهي تتشبث بها بقوة والأخيرة تمسح على رأسها وتحيطها بذراعه الآخر....


رفعت وجهاً أضناهُ السهر، قرحهُ البكاء:


- سامحيني، لم أكن أعلم أنكِ مريضة..


- أنا بخير منذُ أن رأيتك..


وسكتت كلتاهما، لم تعتد قط على الكلام معها بأريحية، أم أن البعد ألقى قيوده على الأم وابنتها!!!


أشارت إلى القدر الذي يغلي:


- ماذا تصنعين؟! رائحته لذيذة. وابتسمت ابتسامةً باهتة.


- "بحاري دجاج"، وجبتك المفضلة، لا بد أن تذوقيه أبقي حتى الغذاء.. قالتها بلهفة.


تلاشت الابتسامة على الشفتين، لم يتح لها أن تستقر أكثر، لا بد أن ترحل...


- لا أستطيع..


ثم أردفت لتبعد مخاوفها:


- كيف حالك وحال "مجيد"، لقد رأيتهُ للتو...


عاد الوجوم ليعتلي وجهها، ليستقر في أخاديده، ليسطر للناس قصة كانت يوماً ما أحد أبطالها...




- أخاكِ الصغير صار سكيراً، صيرهُ والده سكيراً مثله..



"وماذا كنتِ ترتقبين من بذور تلك الثمرة؟!"


- كل يوم فضيحة، كل يوم تأتي الشرطة لتسأل عنه والجيران بدأو يشتكون...


ووضعت طرف خمارها على فمها وبكت بصمت...


البكاء بصمت، سمة مشتركة بيننا!!


و قدر الأم لا يختلف عن ابنتها أحياناً، أليس كذلك!!!



أمسكت كفيها معاً وهي ترد بتهدج:


- اطلبي الطلاق منه ودعينا نعيشُ سوياً.



رفعت الأم رأسها وفي وجهها طيف استسلام، يلوحُ دوماً على وجوههن، بل هو جزء منهن:


- ليس بعد هذا العمر يا ابنتي..


- ستتركيني مرةً أخرى. صاحت بلوعة.


- أنتِ معك زوجك، ماذا تريدين بي؟!



ونكأت الجرح، لا زال ينزف صديداً، لازال يتقيح...




- زوجي!! أنا لا زوج لي، ليس لي أحد!!



ودفنت نفسها في حجرها وهي تجهش بالبكاء..


وعاد دفاع الأمهات للصدارة، سألتها بوجل:


- ما هذا الكلام يا ابنتي؟! غدير، تكلمي..


- سيتزوج يا أمي، سيتزوج... رددت بخفوت.



- كيف؟! لم يمر على زواجكما أسابيع!!!



وصمتت تغالب عبراتها وهي تنظر لها بألم، بعذابٍ أزلي...


- غدير ماذا حدث بينكما؟!


- أنا لا أستطيع يا أمي، لا أقدر..



- لا تستطيعين ماذا؟! أجيبي..



استرسلت وكأتها تخاطب نفسها كالخيال:


- سأموتُ حينها، سأتدمر!! ليس من أجلي بل من أجله...



- عم تتحدثين؟!



عادت لتغوص في تلك العينين الحانيتين، ابتسمت بمرارة:



- أنتِ لا تفهمين، لم تفهميني يوماً...




ونزعت نفسها منها انتزاعاً وهي تنظر لساعتها، وقفت بتعب، حدجتها بنظرة حزينة قبل أن تستدر:



- انتبهي لنفسك..




وغادرت قبل أن تسمع صرختها المدوية...




أتُراها فهمت؟!!!



=============





- وما ذنبي أنا؟!


- ذنبك أنه زوجك!!


- وهو أخوكِ أيضاً..



أردفت بحنق:


- ماذا لو ذهبت إلى "السينما"، لم يرفض هذا المعقد..


- "ناصر" ليس معقداً..


- ومتخلف أيضاً!!


- سأخبره بما قلته عنه.


- اخبريه، انا لا أخاف منه ولا من أحد، العيش هنا أصبح لا يطاق، لا أكاد أهرب من السجان الذي في المكتب، حتى أُصدم بآخر هنا!!! لم تنغصون علي حياتي؟!!!



- ما الأمر؟! من الذي ينغص عليكِ حياتك؟!!


والتفتت الفتاتان إلى الصوت القادم، ابتسمت "ندى" ابتسامةً كبيرة وهي تخاطب "شيماء" بتزلف:



- أنا ليس لي أخ إلا "عمر" وهو أكبر منه وكلماته هي التي أنفذها بالحرف الواحد!!



وهرعت إلى أخيها وهي تمسكه بدلع:


- كيف حالك يا أخي؟!


- ماذا تريدين؟!


- "عمور"!! نادته بعتب.


- نعم؟!


- أريد أن أذهب للسينما.


- لا.

شهقت:


- لماذا؟!



- ليس لدينا نساء يذهبن للسينما!!




وابتعدت عنه وهي تصيح بغضب:


- ولم تذهب أنت؟!


- أنا رجل!!


- كل ما تفعلونه أنتم حلال في حلال، ونحنُ أي شيء نريده حرام في حرام..


- اذهبي وشاهدي الأفلام في التلفاز، لم يمنعك أحد.


- أريد أن أشاهدها في السينما، لقد وعدتُ صديقتي "أشجان"..


- اعتذري منها.


- هذه المرة الثالثة التي اعتذر لها، ماذا أقول لها؟! قالت بإستعطاف.


- قولي لها الحقيقة، أخوتي غير موافقين.


- تريد أن تهتز صورتي في أوساط المجتمع الراقي، سيضحكون علي!!


- هذا الموضوع انتهى بالنسبة لي فلا تتعبي نفسك.



- متخلف آخر!! كلكم متخلفون، معقدون!! تمتمت بحقد.


- ماذا قلتِ؟! سألها.


- أقول متى أتزوج وأرتاح من هذا السجن ومنكم!!


- ألا تخجلين من أحد!!


صاحت بإستنكار:


- حتى الخجل تريدونني أن أخجل رغماً عني!! كل شيء بالاستبداد، بالديكتاتورية!! أين منظمة "حقوق الإنسان" لتأخذكم؟!!


- لا حول ولا قوة إلا بالله...



و سار عنها .....



ندت من فم "شيماء" ضحكة، فنظرت إليها "ندى" بغيظ:


- صدقيني، حينها سأذهب إلى السينما كل يوم، صباحاً وظهراً ومساءاً.


- وأفرضي أن زوج المستقبل لم يقبل هو الآخر؟!


- أتمزحين!! هذا أول شرطي كي أوافق عليه...


وركبت الدرج وهي تفكر ماذا تقول لأشجان!!!

(17)




خرج من بيت والده وهو يُدخل هاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين في جيب بنطاله...



ساق سيارته على عجل وهو يضرب يده اليسرى على رجله بقلق...



ما بالها لا تكف عن الرنين ولا تُجيب حين يتصل!!!



ووصل بسرعة حيثُ أفواج من النسوة يزدلفن من ذلك الصرح الكبير ذي القبة الخضراء...



عجيبة تلك القبة بنصلها الفولاذي الصاعد للسماء في خشوع، وقد تدلى منها هلال صغير بدا كثغر طفلٍ يبتسم على استحياء..



و عاد يتطلع في الوجوه التي تعترضه علّه يلمحها في ذلك الزحام...



وميزها رغم سمرة الليل، بعودها النحيل، بخمارها الذي تجعل طرفه يتدلى على جانب وجهها وتزيحه كل حين دون شعور....



ضغط على بوق السيارة عدة مرات ليُعلمها بقدومه، فالتفتت إليه برهةً خاطفة ثم عادت لتخاطب تلك الفتاة الواقفة بجانبها...



و لمَ هذه الضجة التي افتعلتها، وهذا الرنين ما دامت الآنسة لم تُكمل أحاديثها بعد؟!



و ابتسم بتهكم، كم هي مكشوفة تلك الصغيرة، تُحاول أن تستفزه، تعانده، ولكن...



على هامان يا فرعون!!



عاد صوت البوق ليرتفع فصافحت "غدير" الفتاة ثم توجهت للسيارة حاملةً في يدها بعض الأشياء...



ودخلت دون أن تنظر إليه أو تنبس حتى ببنت شفة...



تطلع إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل مصطنع، ثم هزّ رأسه وأدار محرك السيارة من جديد...



وانتشرت رائحة الورد لتضوع المكان بطيبها، لتمنحها شيئاً من العذوبة، شيئاً من الجمال...



وأدارت إحداها بين يديها بشرود وهي تنظر لأوراقها التي لم تتفتح بعد..




وامتدت يد لتختطفها من بين يديها، حينها فقط دارت إليه..


- شكراً!!


- هذه ليست لك. ردت بحدة.


- حقاً!! لا تنطلي علي حركاتكن!!



وقرّب الزهرة من أنفه وهو يشمها بعمق، فشعرت بالغيظ، تصرفاته في الآونة الأخيرة تكادُ تُصيبها بالجنون!!



- انتبه، للورد أشواك!! علقت بسخرية.


- ما دامت من يدك، فأنا لا أُبالي بشيء.. قالها بحرارة و عيناه تشعان دفئاً غريباً..



صدت للنافذة و قد عاد الإضطراب ليعتمل صدرها من جديد...


لمَ هذا الكلام؟!


لم تفتأ تقول لي ذلك؟!


ألست مسافراً إليها؟!


ألن تتركني وتذهب إليها؟!


أم قطعتين في الجيبِ أفضل؟!


كاذب، غشاش آخر!!!



و كادت تصرخ في وجهه بذلك لولا أن توقفت السيارة، وشكرت ربها أنها توقفت و أمسكت أعصابها التي باتت تنفلت لأدنى كلمة وبدون سببٍ ....



وتركت باب السيارة مفتوحاً فناداها:



- على رُسلك!! انتظري..



ولم تتوقف وأكملت طريقها مباشرة إلى غرفتها وهي تصفق الباب خلفها وتوصده بالمزلاج..


وسمعت دق الباب بعد وصولها بدقائق..



- من؟!


- من تعتقدين في رأيك؟!


- ماذا تريد؟!


- خذي لقد نسيتِ أشياءك؟!


- أيُّ أشياء؟!


وانتبهت أنها عادت بيدين خاويتي الوفاض، ولامت نفسها على إهمالها وسرحانها، أيُّ زلةٍ سيحملها إياها الآن؟!



وفتحت الباب قليلاً وقد عم الاحمرار وجهها وعنقها:


- تفضلي..



وسحبتها من يده دون أن تترك له مجالاً ليضيف المزيد...




سمعته يغمغم بالخارج فعادت لتفتح الباب:



- انتظر..


- ماذا؟!


- خذ.



وتطلع إلى الشمعة البيضاء الممدودة إليه بتساؤل:



- ما هذا؟!


- شمعة..


- أعرف، ولكن لمَ، ماذا أفعلُ بها؟!


- أطلب أمنية و احتفظ بها، وإذا تحققت أعطني "المكتوب"..



تطلع إليها بشك وهو يقول:



- أليست سحراً أو شيئاً من هذا القبيل؟!



وحدجته بنظرة نارية فأخذ يبرر مازحاً:



- أقصد ربما لكي تمنعيني من السفر!!



- سفرك أو عدمه لا يهمني بشيء!!



وصفقت الباب في وجهه بغضب...



ماذا يظنُ نفسه؟!



لم يذكرني برحيله كل حين...


ألا يعلم بأنهُ يقتلني حينها ألف مرة..



لماذا يا "عمر" لماذا؟!!



===========




طافت "شيماء" حول الفناء الخارجي وهي تسمع جلبةً خفيفة....



وجدت عاملان آسيويان يحملان علباً كبيرة و "وليد" ينهرهما ليحملوها بالشكل الصحيح...



"ألم يقل أن الأجهزة وصلت منذُ أسابيع!!!"...تساءلت في نفسها.



وانزوت قليلاً كي لا تكون في مرمى البصر وأخذت تتابع عملية النقل بإهتمام....




- هيا أحملوا معكم العلب الفارغة والأكياس للخارج!! أمرهم بعجرفة.



وانصرف العاملان وخرج هو على أثرهم دالفاً من الباب الاحتياطي...


وبعد أن استوثقت من انصراف الجميع، سارت بفضول نحو المخزن الكبير الذي أحتله بهدف تحويله إلى مختبر لتجاربه!!!



وأطلت من بين قضبان النافذة لكنّ الشبك المعدني الناعم كان يعوق الرؤية بوضوح، فتنهدت بإستسلام..



وأرادت أن تعود من حيث أتت لكن عيناها سقطتا فوراً على إكرة الباب...



وأدارته دون أن تتوقع شيئاً، ولكن يا لدهشتها فقد كان الباب غير مقفلاً!!



وهزت كتفيها وهي تفتحه شيئاً فشيئاً....



كان المكان مليئاً فعلاً بالأجهزة المفتوحة فعلاً و أخرى لازالت في علبها تنتظر المشرط...



وتوقف بصرها حول جهاز X-Rays يقابله سرير صغير قد تناثرت أدوات لم تعرفها حوله...



وولجت للداخل تفحص كل ما تصادفه بتمعن، خاصة تلك الملفات المركونة على أحد الرفوف بعناية..



وأخذت تتصفحها بتعجب وهي تحاول أن تقرأ ما فيها بصعوبة، إذ كان الخط متشابكاً على عادة الأطباء...



- ما هذا!! سميرة، سميحة؟!!



وجلست على حافة السرير بعد أن أبعدت الأدوات بحذر وعيناها تحاولان أن تفك الطلاسم المكتوبة كما سمتها!!!



أيأتي له مرضى؟! ولكن أين ومتى؟!



ربما كانت ملفات قديمة منذُ أيام دراسته بالخارج!!



و مطت شفتيها بلا مبالاة وهي تعيدها لمكانها...



وألقت نظرةً أخيرة للمكان لتتأكد من أن كل شيء في محله ثم أغلقت الباب خلفها بخفوت...


وسارت في الممر دون أن تنتبه لتلك العينان اللتان لاحظتها منذُ أن وصلت بإنتصار!!!!




===========



- هيه أنت!!


- .................


- يا عديم الضمير، يا عدو الإنسانية!!


- ماذا تريدين؟! صرخ بغضب.


- أريد أن آكل، أنا جائعة، كم مرة قلتُ لك ذلك؟!!



- وماذا أفعلُ لكِ؟!


- أريدُ "بيتزا"، اشتر لي "بيتزا"... وضربت منضدتها بكلتا يديها وهي تصيح.


- وهل تريدينني أن أخرج من العمل كي أشتري لسيادتك بيتزا؟!


- أنا قلتُ لك اخرج؟! ألم تسمع بإختراع اسمه "هاتف"؟!



وزفرت وهي تقول بصوت منخفض لا يُسمع:



"غباء، لا أدري بدوني كيف كانت ستسير الشركة!!"...



ورفع سماعة الهاتف بإستسلام فصاحت بعجل:



- انتظر، لم تسألني ماذا أريد؟!



وأردفت دون أن تتيح له الفرصة ليسأل:



- أريدُ بيتزا، ليس من المعجنات الموجودة هنا، بل إما من "سيزر" أو "بيتزا هت"..


- .................


- بالخضار ، وبدون "المرتديلا"!!!


- ...............


ورفعت أصبعها في الهواء بتحذير:



- حجم كبير لو سمحت ، ولكن انتبه سآكلها لوحدي، إذا كنت تريد اشتر لك أخرى، أنا لا أحب أن يشاركني أحد في طعامي!!!



- حجم كبير؟! لن تستطيعي قطعاً أكلها..


- بل أستطيع.. ردت بثقة.



وسألها بريبة:



- أرأيتها من قبل، أتعرفين كيف يكون حجمها؟!



وشعرت بالإهانة من تساؤلاته، فعاد لتضرب الطاولة بغضب:


- تخالني جئتُ من البادية!! ليكن في علمك أنا كل أسبوع أذهب للمطعم والسينما، خصوصاً السينما، أذهب لها كل ليلة ، كل ليللللللللللللللللللللة!!!



وأخذت تصيح بصوتٍ عالٍ، والمدير ينظر لها بإستغراب..



ووقفت فجأة من مكانها وكأنها تذكرت شيئاً و هي لاتزال ترمقه بنظرة عدائية:



- أيعجبك هذا؟! لقد فورت دمي الآن، خلاياي العصبية احترقت بسببك ، اشتر لي عصير برتقال..



- !!!!!!!!!!!!!!



- و احضر لي ....



- ماذا تريدين أيضاً؟! سلطة خضار؟! خبز بالثوم؟! سألها بحنق.



- اممممم، لم أكن لأقول هذا، أنا لا أحب أن أثقل على أحد!! ولكن إذا كنت تشتهيها فلا بأس!!



وعادت لتسترخي في مقعدها وعلى شفتيها ابتسامة عريضة تترقب وصول البيتزا...



===========



توقفت أمام باب غرفته وهي تطالع بألم تلك الحقيبة الكبيرة الموضوعة على السرير...



كان يتحرك بحماس وهو ينقل ثيابه داخلها، وتوقف فجأة وكأنهُ انتبه للتو من وجودها الذي ناهز النصف ساعة ربما!!



- لم أنتِ واقفة هكذا، تعالي وساعديني!!!



و لم ينتظر إجابتها، سرعان ما سحبها للداخل...



و بقيت جامدة بلا حراك وهي تمسك دمعتها خشية أن تغدر بها غيلةً أمامه...



كانت تتقطع من الداخل، وصرخة مرة في حلقها لا تلبث أن تحتج، وهي تكافح لكبح جماحها كي لا تنطلق...



أما تشعر بنزيفي يا هذا؟!!



وعاد الألم ليعتصرها بقوة دون أن تجد له منفذاً لتنّفس عنه...




أخذت تطالعه بيأس، بعذاب، لكنهُ لا يرفع رأسه، لم يعد يرى أحداً إلا نفسه...




لقد نسي كل شيء، كل شيء و أولهم أنتِ يا "غدير"!!!



وأفاقت على صوته...



- لم تسأليني متى سأعود؟! سألها بلوم.



- فالتبقى طوال عمرك هناك، لا يهمني.. ردت بصوتٍ متهدج.



- سأسافر لأسبوعان فقط، أتخالينها تكفي؟!!!



بل يكفي ما تفعله بي، يكفي...




- ألا تعلمين أين وضعت ربطات العنق خاصتي؟!


- في جهنم...



وانفجر ضاحكاً وهو يبحث في أدراج خزانته:



- خسارة، كانت غالية الثمن، سأشتري لي في الصباح أخرى جديدة..



ثم أردف وهو يتأملها بإهتمام:


- جهزي لنفسك حقيبةً صغيرة كي تبقي في بيت والدي لحين عودتي.


- لن أجهز أي شيء ولن أذهب لمكان. صاحت بغضب.


- ستبقين في الشقة لوحدك؟!


- لا شأن لك بي حتى لو مُت، أتفهم؟!



وغطت وجهها بكفيها وهي تبكي بمرارة...



ولم تشعر إلا بيدين تطبقان على كفيها بحنان، ضمهما إلى يديه وهو يضغط عليهما برقة:



- إياكِ أن تقولي هذا مرةً أخرى، ألا تعلمين بدونك أضيع..


- ها أنت ستسافر بدوني و... صمتت من الألم.


- بودي أن آخذك، لكنكِ لا تنفعين!! أتقبلين أن تكوني شاهدة على العقد؟!!



وسحبت يدها منه ولم تشعر إلا بها تمتد في صفعة على خده..



تطلع لها مصدوماً وهي يمسكها من معصمها بقوة ، لكنها لم تخف ولم تجفل، كانت تستمد من جرحها النازف شجاعة، تجعلها تواجه اليوم وغداً وبعد سنين!!




- أيتها المتوحشة!!


- لا يهمني رأيك بي، أريدك أن تطلقني قبل أن تسافر، لا أريد البقاء معك بعد اليوم، أتسمع؟!


- لم أكن أعلم أن فراقي سيؤثر عليكِ بهذه الدرجة!!!



وفي حركة لم تتوقعها منه تلك اللحظة، رفع يدها التي صفعته إلى شفتيه وقبلها!!!



و فجرت تلك الحركة البراكين الكامنة بداخلها، زلزلتها من الأعماق، زادتها ألماً، ضاعفت لوعتها....



سحبت يدها منه وهي تصيح في وجهه:



- أنا أكرهك، أكرهك، ارحل، لا أريد أن أراك ..




وهرعت لغرفتها تبكي نفسها، خيبتها، وذاك الذاهب في الغد ...



==========



- كليها كلها والآن!!


- سأحمل البقية إلى المنزل. قالت بإستعطاف.


- كلا، بل الآن. ردّ بحزم.


- معدتي ستنفجر، لا أستطيع..


- أنتِ من قلتِ تريدينها بهذا الحجم، تحملي نتيجة طمعك.


- إذا كان على ثمنها أيها البخيل فسأدفع لك.. صاحت.


- لا أريد ثمنها، وستأكلينها رغماً عنك.


- لن أفعل.


- بل ستفعلين.


- لن أفعل وأرني كيف سترغمني.


- تتحدينني؟!


- وأتحدى من هو أكبرُ منك!!


- إذاً لن تخرجي من هنا، وستباتين الليلة في المكتب!!



و تطلعت إليه بخوف لأول مرة، أجاد هو فيما يقوله!!



- أنت لا تعني هذا، أليس كذلك؟! سألته بإضطراب.


- أنا لا أمزح أبداً.


- أبي..أبي سيتصل إذا تأخرت، وأخوتي سيأتون وسيحطمون رأسك..



وسحب حقيبتها الموضوعة على الطاولة..


- ماذا تفعل بحقيبتي، ألا تخجل من نفسك؟!



وأخرج هاتفها المحمول دون أن يعبأ بإستنكارها:



- الهاتف وقفلته، أريني كيف سيتصل بك أهلك؟!



و ازدردت ريقها الجاف وهي ترمش عينيها بسرعة...



أخذت تردد بتقطع:


- إن...إن شاء الله، سآ...سآكلها، فقط لا تُغضب نفسك!!



وأمسكت القطعة الخامسة وهي تشعر بالغثيان، وقبل أن تفتح فمها، خاطبته بتوسل:


- تفضل، كل معي، لذيذة، لا تُقاوم!!!



وأمسكت معدتها بتعب وهي تنظر لوجهه الجامد...



وكادت الدموع تطفر من عينيها وهي تمضغ قطعاً صغيرة وتتوقف كل حين...



- ماذا تنتظرين؟!


- لا أستطيع، سأتقيأ..


- لا مانع تقيأي ثم أكملي البقية!!!



وأسقطت القطعة وهي تضع يدها على فمها وتنثني إلى أسفل..



- هيا، كفي عن التمثيل!! صاح بقسوة.


ردت بصوتٍ محتقن:


- سأموت، إن لبدنك عليك حق!!



- ما شاء الله وتعرفين الأحاديث النبوية؟!


- أتخالني كافرة؟! صاحت فيه بإستنكار وقد نسيت ألم معدتها.



ودقّ الطاولة بأنامله بتهديد:


- ستأخريني وتأخرين نفسك...



ورفعت رأسها بعد أن قرصت خديها بقوة، أسبلت عينيها وهي تقول بوهن:



- لا أستطيع، معدتي لا تحتمل، رشاقتي هي سبب تعاستي، ما ذنبي أنا؟!!



ورفعت صوتها بتباكٍ وهي تفرك عينيها دون أن تنظر إليه...



- ابكي حتى الغد، ستأكلين يعني ستأكلين..



- ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء يا عديم الرحمة!! صاحت من بين دموعها الشحيحة.



- إلى متى سأنتظر؟! صرخ بنفاذ صبر.



أمسكت القطعة بإحدى يديها بإستسلام واليد الأخرى تمسح وجهها...



وبقيت تنظر لها بتقزز والغثيان يكاد يُصيبها بدوار، وقربتها من فمها، وما كادت تفعل حتى انثنت من جديد وهي تصيح من الألم..



- بطني يؤلمني، سأموت...



ثم رفعت رأسها بصعوبة وهي تخاطب ملامحه التي باتت أكثر جموداً:



- لن آكلها، لن آكلها أسمعت، تريد أن تحبسني، لا يهمني، لن آكل شيء.



ووضعت رأسها على الطاولة و بكت...



وسمعته يبتعد ويعود أدراجه، ثم قال بصوتٍ رخيم:


- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وهو: لا للطمع!!!


- .....................


- موعدنا في الغد بإذن الله مع درس جديد أيتها التلميذة النجيبة!!


- ...................



- يمكنك أن تعودي إلى البيت الآن!!!



واستقامت في جلستها تلك وهي تنظر له بشزر:




- ليتني أقرأ خبر وفاتك في الجريدة أيها المجرم!!


- .....................


- سأخبر الجميع عنك، سأخبرهم كلهم عن أعمالك السوداء مثلك!!! رددت بصوتٍ مبحوح.


- ......................


- لن أعود إلى هنا، لن أعمل معك وإن كان على الشهادة فخذها، لا أريدها، أفضل أن أنسحب من الجامعة بأكملها ولا أبقى معك دقيقة يا شبيه هتلر، أيها الظالم النازي!!



وسحبت حقيبتها ونعليها وخرجت بدموعها ودعواتها عليه!!!




===============




هبّت من نومها مذعورة....



تلفتت حولها وصدرها يعلو و يهبط في اضطراب...



فلم تلقى إلا الظلام الدامس يكتنفها، يحيطها من كل جانب...



غرزت أصابعها في شعرها الأسود علها توقف الأفكار المستعرة بجنون في ذهنها...



كان كابوساً، ما رأتهُ كان كابوساً...



عمر لن يسافر، لن يسافر، ولن يُحضر معه تلك الشقراء!!!



أمسكت جبينها الملتهب بين راحتيها، كان مبللاً!!



من أين جاء كل هذا الماء؟!!!



أبعدت الغطاء عنها بوهن و توجهت إلى الحمام لتغسل وجهها...



المرآة...


ما أقساها!!!



عيناها تبدوان حمراوتان كأنهما لم تذوقا النوم منذُ شهور...



و الوجه شاحب، فقد بريقه، سرقتهُ الأيام!!



تخلل الماء البارد بين أصابعها وهي ترشح وجهها ببطء لعلها تُزيح شيئاً من عياءه، من همومه، من كوابيسه الذي تلاحقه في كل مكان...



لم يتبقَ من الأيام إلا غداً، غداً فقط!!!



واحد، اثنان، ثلاثة، أربع، خمسة...


ما أسهل العد!!



وما أقسى الحياة!!!



وسمعت صوتاً خافتاً يهمس في أذنيها بكلمات:



دعي الأيام تمر هكذا ولا تُبالي، ماذا ستجنين أكثر؟!!



ماذا بإمكانك أن تفعليه أو تقدميه؟!!



لا شيء..



إذن اصمتي، اصمتي وكفي عن البكاء والأنين...



لطالما كنتِ وحيدة، لطالما تركوكِ وحيدة، لمَ العويل إذن؟!



لأنهُ "عمر"...



"عمر"!!!




أصص ما هذا الكلام؟! ما هذه النبرة الضعيفة، لم أعهدك هكذا من قبل يا "غدير"!!!



"عمر" أهذا من رفضته في البداية، من حاربتي لئلا يتم بينكما الزواج؟!!




ما بينكما انتهى، كان لا بدُ أن ينتهي منذُ زمن، لأن ليس بينكما أي شيء أصلاً!!



لكنني، لكنني.....



ماذا؟! عدنا للنبرة الضعيفة...




في كلتا الحالتين أنتِ خاسرة، في كلتا الحالتين ستخسرينه!!!



تدثري جيداً يا "غدير" وانسي!!



انسي "عمر، انسيه....



الأفكار تكاد تعصف بها، تزلزلها ، تهدم كل الحواجز الذي بنتها منذُ سنين طويلة....



لم يتبقى شيء على الغد...



ها قد اختلطت خيوط الفجر بنجوم الظلام...



ها قد تشابكتا، اتحدتا معاً في رقصة سرمدية...






أتراهُ سيسافر؟!


أتراها ستتكلم؟!


أم أن الفجر سيبقى هكذا في حالة احتضار؟!

عاشقة الكتب 24-05-07 05:00 PM

(18)



تلكأت "ندى" عند باب الشركة وهي تضع أصبعها في فمها بتوتر...


أأدخل أم لا؟! ماذا سيقول عني عندما يراني قد عدت!!


سيقول رغماً عن أنفها عادت وسيبدأ في التشمت والسخرية مني...


تعرفونه حقود، يغار مني لأني أفضل منه!!!


ثم سيصرخ في وجهي أمام "أشجان" و "جميلة" و سيشير لي بإصبعه لأتوجه إلى مكتبه وكأني نعجة من نعاجه الهاربه!!!


كلا، ثم كلا، أنا "ندى"، تعرفون من هي "ندى"؟!! هيبتي وكرامتي هي أغلى شيء عندي!!


سأعود لمنزلي وأنام خيراً لي من رؤية وجهه السمج، وسأمر على المستشفى في طريقي وآخذ لي عذراً من هناك، تعرفون معدتي لاتزال تؤلمني منذُ البارحة بسبب المجرم!!


وابتعدت عن مدخل الشركة وهي سارحة في أفكارها تلك، ولفت انتباهها صوت بائع جرائد يُدلل على بضائعته المتنقلة..


حرفت مسارها عن موقف السيارات واتجهت ناحيته...



- اعطني صحيفة "الأيام"..


- تفضل "مدام"!!


- "مدام"؟! أنا مدام يا قليل الأدب!!



وسحبت منهُ الجريدة وهي تنظر له بشزر، تطلع لها "الآسيوي" بخوف دون أن يدري فيمَ أخطأ!!


وقلبت الجريدة بسرعة حتى وصلت إلى صفحة "الوفيات"!!


مررت عينيها بسرعة على الأسماء ثم زفرت بصوتٍ مرتفع، وخاطبت العامل بإستفهام:



- كم سعرها؟!


"كل الجرائد بنفس السعر!!"


- 200 فلس.


- ماذا؟! لا أريدها، صفحاتها مجعدة، لا بد أن كثيرين قرأوها بالمجان قبلي!!


- أنت أول نفر قرأها دون أن يدفع!!


- لا تكثر الكلام "بابو".. وطالعته بتهديد وهي تُردف:


- أنا يسفر أنت بلادك إذا عصّب.


- ماما، أنا عندي جنسية "بحريني"، أنا مثل أنت "سيم سيم"!!



وشهقت "ندى" وهي تضرب على صدرها:


- أخذت الجنسية "بابو"؟!


- يس مدام، و اسمي أصبح "محمد"، انظر..



وأخرج لها بطاقته المدنية فقرأتها عن كثب وهي تهزُّ رأسها أسفاً...


زمن!!!


ومطت شفتيها وهي تردد بصوت خافت:


- الآن أنا و "بابو" بحرينيين!! كيف تركب هذه؟!



هزت رأسها بلا مبالاة ثم أخذت تطالع عناوين الكتب المعروضة...


مغامرات اللص الظريف "أرسين لوبين" – أشياء لا تنسى – فنون الطبخ و ....



"كيف تُسقطينه في شباكك!!"..



وسحبتهُ على الفور وهي تتصفحه باهتمام شديد...


- مدام، ادفع أولاً قبل أن يقرأ..


- سأدفع، سأدفع، انتظر قليلاً، ولا تقل لي مدام وإلا صفعتك!!


و تراقصت ابتسامة شيطانية على شفتيها وهي تتخيل أشياء!!!






التفتت للبائع وهي تسأله بلطف:



- أيمكنني أن أستعيره "بابو"، سأعيدهُ لك في الغد كما هو!!!



- لا ماما، غير ممكن.


و هبت في وجهه صارخة:

- وكم ثمنه؟!


- 3 دنانير. ردّ بخوف.


وأخرجت محفظتها من حقيبتها الصغيرة وهي تخاطبه:


- أنت بحريني الآن صح؟!


- يس ماما. أجاب بفخر.


- أما سمعت بالقانون الجديد؟!



- لا ماما.


- إذا اشترى بحريني من بائع بحريني لا بد أن يخفضه ديناراً كاملاً!!!



- !!!!!!!!!!!!!!!



- خذ، هذان ديناران ولا تجادلني وإلا!!


وضربت على جبهتها بخفة:


- نسيت، لديه جنسية!!



وسارت عن البائع المذهول وهي تنظر للكتاب بحماس، و نشاطٌ كبير يدبُّ بداخلها..



- اليوم، موعدنا اليوم!!!



وابتسمت بشيطنة...



==========



يتجاهلني
يعنفني
بصمته
بنظراته
و شيء ما يلف سكون عبراتي
هل أحبه؟!!


هل يعقل أني أتلمس ملامح وجوده
في قلبي
و برودة اللحظة تجتاح أطرافي
و تلك النار تستعر في جوفي
و أنا مثل ما أنا
ذهول و هذيان
يلفني
و أتدثر ببقايا همسه


هل يعقل؟!!
أني وقعت في قاع الردى
و كل ما يلفني هنا ظلام
و هيام


إلى متى؟!!
أتأبط الكتمان
و ألوذ بالحرمان
عن ظل و حنان


إلى متى؟!!
أسير في بوتقة الجنون
أنا و الطعون
و قلب خائف مجروح
مازلت أهذي
و أهذي
و كل أوراقي مكشوفة



ترى متى ينار لي درب المدى
دون دمع على خد الأسى
و دون ألم يتردد مع الصدى
وحدي
أنا
من غيرك من أكون؟!!

(بقلم المبدعة: دمعة الأيام)




و انسابت دمعة شفافة امتزجت مع الحبر الأسود، تماهت معه، و أخفت معالم حروفه...


مدت أناملها النحيلة لتمسحها و تُصلح ما يمكن إصلاحه...


لكن قطرة أخرى عنيدة سقطت فانهمرت البقية كرذاذ المطر في مواسم الصيف...


أول الغيث قطرة، أليس كذلك؟!



أغلقت دفترها قبل أن يجرفه السيل، ففيه الماضي و بدونه لا ماضي لها!!!



وأجالت ببصرها حول الفراغ بسكينة تناقض تلك النار المستعرة في جوفها...



بدا لها المكان مظلماً رغم أن شمس الأصيل كانت شاخصة بشموخ في قلب السماء..



لا أحد هنا، لا أحد...


فقط أنا والسكون..


والظلام!!!


وسمت صوت ضحكة مخنوقة فالتفتت بسرعة نحو الستارة بخوف..


ضغطت بشدة على مرفقيها وهي ترتعد..


وعلت الضحكات أكثر، ارتفعت..


همست لنفسها بصوتٍ مرتجف:


كلا، كلا، أنا لا أسمعُ شيئاً...


هذا صوت الريح..


أنا أتخيل..


إنها كوابيس، أضغاث أحلام...



نحنُ لازلنا في الليل، أليس كذلك؟!



وأنّت بصوتٍ متقطع وهي تضع يدها على فمها..


عمر، أين أنت؟!


لا تتركني، لا تذهب....




و دفنت نفسها في وسادتها لعل الأصوات تبعد أو تخفت قليلاً!!!


يا ليت!!!



===========



قلبت صفحات المجلة بملل...


الحيارة رتيبة، مملة، خانقة، لا جديد فيها..


لو أكملت تعليمها لربما شغلت نفسها قليلاً..



ولكن مجموعها في الثانوية العامة لا يؤهلها لدخول الجامعة، وحتى لو أهلّها فلن تذهب، إنها تكره الدراسة ولا تطيق لها صبراً!!!


ماذا عن العمل؟!


ومن سيقبلها بشهادتها البسيطة!! الدنيا كدرجات السلم، متى ارتقيت رقتك درجة حتى توصلك للقمة، ومتى ما دنوت ألقتك أسفل سافلين، و في كلتا الحالتين أنت ساقط!!


ستسقط من علو أو دنو، هكذا هي الحياة!!!



لو كان لديها شيئاً آخر يشغلها، شيئاً آخر!!!



وتجسد ذلك الشيء على صفحات المجلة!!!



أخذت تطالع صور الأطفال بشوق ولهفة وهي تمرر أصابعها على شعرهم، أعينهم الصغيرة، وتتخيل أنها تقرص تلك الخدود الممتلئة كالندى!!!




وابتسمت بألم وهي تضمُّ الصور إلى صدرها بقوة حتى تجعدت صفحاتها...



وانفتح الباب فجأة:


- عزيزتي ســ .....


وسكت وهو يطالعها بتساؤل لكنها سرعان ما أغلقت المجلة و مسحت عينيها وهي تصطنع المرح:


- ماذا تريد؟!


وحدجها بنظرة متفحصة لطالما سبرت غورها...


- ما بك؟!


- لاشيء، ليس بي شيء.


وعادت لتبتسم ولكن دون حياة، تقدم و تناول المجلة من يدها رغم اعتراضها ولم يتصفح كثيراً، كانت الورقة المجعدة واضحة للعيان....


رفع بصره إليها فاضطربت في وقفتها وكأنها ارتكبت اثماً..


تنهد وهو يضع المجلة على المنضدة...



خاطبها بعتب:


- ألن تكفي عن التفكير بهذا الموضوع، ارحمي نفسك..



ردت بصوتٍ غائم:


- لا أستطيع، ليس بيدي يا "ناصر"..


أجلسها وهو يشدّ على يديها بمواساة...


نظرت إليه بحزن وهي تردف:


- ربما لن أنجب طفلاً أبداً، ربما كنتُ عاقراً..


- صه ما هذا الكلام يا "شيماء"!!


- هذا ما يتهامس به الجميع في وجودي، لو رأيتهن كيف يتغامزن وهن يبتسمن بشماتة..


- لا تبالي بما يقلنه، كلام الناس لا يهمني البتة، لا يهمني أحدٌ سواكِ...


- لكنك تريد أطفالاً، أنت قلت لي ذلك منذُ بداية زواجنا..


- ....................


- أرأيت؟! ردت بألم.


- هذه أمنيات كل رجل مقبل على الزواج!!


- وأنا لا أستطيع تحقيق هذه الأمنية..


- كفي عن هذا الكلام، ليس بكِ شيئاً، السببُ ليس منكِ، اصبري حتى يأذن الله..


- ربما لن تصبر أنت، وستفعل كما يفعل بقية الرجال وتتزوج من تنجب لك!!!



- أنا لستُ متخلفاً، ولو عرضوا علي نساء العالم بأجمعهن ما اخترتُ غيرك...



و تطلعت إليه...



عيناهُ صادقتان، تنطقان بالحب، بالوفاء...


"أي زوجٍ رائعٍ أنت يا ناصر...


أأستحقك فعلاً؟!!"..



وابتسمت في وجهه وهي تغير الموضوع:


- لم تقل لي ماذا كنت تريد؟!


- ماذا كنتُ أريد!!! فعلاً ماذا كنتُ أريد؟!



وأخذ يهمهم بتفكير ثم قال فجأة وكأنهُ تذكر:


- أجل، كنتُ أريد أن أقول لكِ ....و ابتسم بهدوء وهو ينظر لها بعمق.


- ماذا؟!


- أني أحبك..



وكانت دعواها أن:



"يا رب احفظه لي"....



==========



ابتسمت "ندى" ابتسامةً شيطانية وهي تُذكّر نفسها بالخطوات التي حفظتها عن ظهر قلب منذُ الصباح...


حملت الكيس الكبير بيدها وكادت تدفع الباب بقدمها كعادتها لكنها أمسكت ووبخت نفسها على هذا التصرف بشدة!!


"انتبهي!!"


و طرقت الباب برقة وهي تنعّم صوتها :


- أأدخل أستاذ؟!


وخُيّل إليها أن الرد تأخر أكثر من المعتاد!!



وأخيراً أتاها الصوت الجامد:


- تفضلي..



فتحت الباب دون أن تنظر لجهةٍ محددة وجلست على مقعدها المعتاد في نهاية الزاوية..



فتشت في حقيبتها سريعاً وأخرجت ورقة قربتها من أنفها لتتأكد من بقاء رائحة عطر "كوكو شانيل" فيها ونهضت على الفور..


وتمهلت في خطاها وهي تمشي على استحياء حتى وصلت إليه:


- أستاذ هذا عذر غيابي لهذا الصباح، و قد أعطاني إياهُ الطبيب ليومٍ كامل بعد تناولي لبيتزا مسمومة البارحة!!! ومع ذلك قررتُ أن آتي رغم مرضي لأني لا أحتمل الفراق عنك، أقصد فراق العمل!!


- ............................


- لا تنسى أن تشمّ العذر بعد أن تقرأه!!!


وقرصت خديها ليُحمّرا وهو يطالعها مبهوتاً فحدجته بنظرة مسبلة وسارت عنه..



و جلست على كرسيها وأخذت تعبث بالكيس الكبير...



أمسكت مزهرية زجاجية شفافة ووضعتها على الطاولة بصوتٍ مسموع فالتفت المدير وفي وجهه تساؤل لكنه سرعان ما هز رأسه باستخفاف وأكمل عمله...



أخرجت باقة كبيرة من الورد الأحمر المخملي، فكّت رباطها والابتسامة الشيطانية تتراقص على شفتيها...



صفت الأزهار بعناية داخل المزهرية الزجاجية وهي تطالع المدير بطرف عينيها بخبث..



عدت للعشرة في سرها ثم نهضت من جديد...


سحبت زهرة ندية العود ووضعتها خلفها وهي تقترب من طاولة المدير، أحنت رأسها فجأة وهي تدسُ أنفها في الورقة التي بين يديه...



وأجفل من وجودها أمامه هكذا لكنها نظرت إليه وهي ترمش عينيها ببراءة ووضعت الزهرة الحمراء أمامه واستدارت!!!



أخذ يحدق في الشيء الذي وضعته بذهول ثم التفت إليها فلم يرى إلا الملف يغطي وجهها تماماً!!!!!


أزاحت "ندى" الملف قليلاً بعد بُرهة فوجدته يعود للكتابة وهو يحكُ شعره!!!!



وكادت تصرخ من الفرح:



"هذه أول إشارة، لقد نجح الطعم لأستاذ "كمبيوتر" بدأ يحك شعره وهو يفكر بي، ولكن...


ماذا لو كان في شعره قمل!!!!!!"



ولوت فمها بتقزز...


"لا بد أن أتأكد، سأحاول من جديد".. خاطبت نفسها بتصميم.



ونهضت ساحبةً معها زهرةً أخرى فرفع بصره إليها في نفس اللحظة فغضت وهي تلقي بالوردة بسرعة من بعيد وتفرّ إلى مكتبها...



وحجبت وجهها بوجل وحين أزاحته رأته يرصدها فوضعت يدها على فمها قبل أن تصرخ وأدارت كرسيها لتقابل الحائط!!!



ومرت 10 دقائق تقريباً وهي تنظر للحائط الأصم حتى كلّت عيناها، تلمست خلفها بيديها وسحبت لها ورقة...



" لو كان غاضباً لصرخ علي، ثم السكوت علامة الرضا، أليس كذلك؟!



وعادت لوضعها الطبيعي مختبئة كالعادة، فتحت إحدى عينيها...


كان قد توقف عن الكتابة وبقي ينظر للزهرتين بتمعن...


وتهللت و أمسكت نفسها عن القفز وسط المكان..


وسمعت صوته الهادر يناديها دون أن يُبعد ناظريه عن الورد:



- تعالي إلى هنا يا آنسة..


"إنهُ يناديني، سيعترف لي، لقد سقط في الشباك أخيراً!!!



وهرعت إليه من فورها حتى كادت تتعثر!!!!

تطلع إليها من رأسها لأخمص قدميها ثم سأل بجفاف:



- أيمكنكِ أن تخبريني ماذا ترمين من وراء هذه التصرفات الخرقاء؟!


- ...................


- ألن تعقلي أبداً؟!


- .................


وصرخ بغضبٍ ثائر:


- خذي هذه الورود وانصرفي لعملك...



وشعرت بأن أحداً سكب على رأسها ماءاً بارداً...



"أهذا ما ناداني من أجله!!"...



تطلعت إليه بإنفعال وهي ترفع أصبعها أمام عينيه:



- أنا لا آخذُ شيئاً من غريب!! ماذا أقول لو سألني والدي عن مصدرها؟! أأقول له أنك أعطيتني هذه الورود الحمراء!!! أتريده أن يعلقني من النافذة!!



وتطلع إليها بدهشة لكنها لم تبالِ وتابعت:


- كف عن حركات المراهقين هذه، هذا عيب يا أستاذ، عيب أتسمع، عمرك في الثلاثين وتحضر لصغيرة مثلي، سريعة التأثر وروداً!!!



وفغر فاهه والدهشة تتسع....



- وأيُّ لون؟! لوناً أحمراً، أتعرف عمّا يعبر هذا اللون؟!


- !!!!!!!!!


- لم لا تقلها مباشرة بدلاً من اللف والدوران!!


- أقولُ لكِ ماذا أيتها المجنونة؟! صاح بغضب.


- وكيف لي أن أعرف ما يدور في ذهنك الخبيث!! تحضر لي وروداً حمراء وتكتب لي رسائل معطرة تضعها في ملفي، ماذا تسمي كل هذا؟!!


- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!



و زفرت وهي ترفع كتفيها بإستنكار:


- لا أدري متى سأسلم من المعاكسات التي لا تنتهي، أينما أسير، أينما أتواجد تلاحقونني!!!


- ........................


- و بعد هذا الاكتشاف الذي اكتشفته عنك، تبين لي أنه لا يصلح بنا أن نبقى معاً في مكانٍ واحد، أنا أخافُ على نفسي!!



واحتقن وجهه فبدا داكناً وهو يصرخ بغضبٍ مكتوم:



- ابتعدي عني قبل أن أخنقكِ!!


- لا تصرخ علي، وليكن في علمك بعد كلامك هذا وتصرفات المراهقين التي فعلتها قد سقطت من عيني، لذا لا تتعب نفسك فلن أقبل الزواج بك!!!



وضرب بقبضته على الطاولة فركضت إلى كرسيها بخوف..



- مجنونة، مجنونة!!!


- أنا أسمعك!! ردت بتهديد.


وعقدت ذراعيها بغيظ وهي تدمدم:



"مؤلف كاذب، كيف تسقطينه في شباكك!!!



ألقيه في البحر!!



أين ستُفلت مني يا "بابو"!!"



============



ربما رحل، رحل ولم يحفل بي البتة، كم كان متلهفاً للذهاب و كأنهُ سيلقى الجنة!!!


كلهم يرحلون، يرحلون تباعاً...


الأب يرحل، الأمُ ترحل، والزوج يرحل!!!



تركني هنا وحيدة مع الظلام، مع السكون، مع الوحشة...



يا لقسوته، يا لظلمه، ويا لحرقة قلبي!!!



تركني وذهب، من لي بعد اليوم، من؟!



وتهاوت على كرسيها بوهن تحاول أن تلملم شعثها، أجزاءها المبعثرة، روحها المنفلتة من جسدها، الهائمة بلا هُدى...



وسمعت طرقاً خافتاً على الباب فرفعت رأسها بضعف...


وتراءى لها أن الباب يُفتح وأنهُ واقفٌ الآن أمامها يطالعها بثبات...


تلمست جبينها بأناملها المرتجفة بإعياء...


أنها تحلم، تتخيل، باتت تسمع وترى أشياء غير موجودة أصلاً في الآونة الأخيرة!!



لا بد أني جننتُ، ها أنا أهذي به من جديد...



"عمر" سافر ، منذُ الغروب، لا بل منذُ زمن..


سلب روحي و رحل...


لم يعد يُريدني، أنا لا أنفع!!



و طفرت الدموع من عينيها بحرارة وهي تطالع الخيال الواقف بصمت..



رفقاً بي رفقاً، أنا لا أحتمل...


يكفيني سأصاب بالجنون..



وكادت تصرخ، لكن صوتها اختنق، احتبس، ضاع في جوفها، تسرب كما تسربت الأيام الخمسة من بين يديها في غفلةٍ منها...



أجبني أأنت أنت أم أنك وهم، سراب؟!


ألازلت هنا؟!


ما بالك صامت، تنظر إليّ هكذا، لا بدّ أن بي شيئاً، لا بد أني فقدتُ رشدي؟!



لا تسألني من أنا؟!


أنا لا أعرفُ نفسي، بتُّ لا أعرفها إطلاقاً...


لستُ غدير، لستُ هي، ولكن بالله عليك قبل هذا أخبرني، أجبني:


ألازلت هنا؟!



وانفجرت في البكاء بهستيرية وقد بلغ منها السيلُ الزبى...


بلغ أقصاه، وهي لم تعد تحتمل، إنها أوهن من أن تحتمل المزيد...


وبدا لها أن الخيال يتململ في وقفته بتوتر...



- غدير!! ناداها بصوتٍ هامس.



النبضات تضعف والحواس تتلاشى، تتبدد، و الجسد الواهن لا يتوقف عن الارتجاف..



رفعت بصرها إليه وهي تنظر له كالحلم، دون تصديق!!



و نطقت أخيراً بصوت مبحوح، خافِت، عُيل من كثرة البكاء:



- أما زلت هنا، لمَ لم ترحل؟!


- ..................


ورفعت أصبعاً باتجاه الباب سرعان ما تقهقر وانثنى وهي تردف:


- اذهب، إنهم يستعجلونك، ربما تنتظرك بنفسها في المطار!!!


- .........................



- لمَ تنظر إليّ هكذا، أنا لا أبكي لأجلك، بل أبكي أمي، أمي مريضة، ستذهب هي الأخرى، ستموت، أنا أعرفها جسدها لا يتحمل المرض!!


وتهدج صوتها وهي تقبض على صدغها بإختناق:


- ليس لي أحد، من أحبهم لا بد أن يذهبوا، يتركوني ويذهبون...


وضاع الصوت من جديد وصدرها يعلو و يهبط بإضطراب..


ورفعت رأسها بسرعة وكأنها استوعبت شيئاً ما للتو، صاحت فيه بحدة:


- إلا أنت، أنا أكرهك، أكره أن أراك حتى..


- وأنا أعشقك أيتها العنيدة، أعشقك حتى الموت.


- اخرس، لا تقل لي هذا الكلام..



- وأنتِ أيضاً وبنفس القدر ، أليس كذلك يا غدير ؟!



وضعت يديها على أذنيها وهي تصيح بقوة:


- ارحل من هنا..


- كيف أرحل دون أن أودعك!!


وتقدم منها فصرخت بجنون وهي تتراجع عن كرسيها:


- لا تقترب مني أبداً، أنت تفقدني أعصابي..


- لن أقترب ولكن مدي يدكِ إلي ، صافحيني ربما تكون المرة الأخيرة!!!


و ضمت يديها خلفها وهي تستمر في التراجع دون شعور، بلا حواس!!!

الأخيرة؟!


أقال الأخيرة؟!


أسمعتموه؟!!


لن يعود إلى هنا!!!


سيبقى هناك!!
جثت على الأرض قبل أن تهوي وهي تمسك بحافة السرير، قدماها أوهن من أن تحملاها، أوهن من أن تحمل ذلك القلب المعذب...


اقترب منها و وضع يده على كتفها بقلق :


- هل أنتِ بخير؟!



أجابت بصوتٍ ضعيف، غائب عن الوجود:


- لن أسامحك ما حييت..



وضمها إليه بقوة حتى تلاشت أنفاسها وهو يهمس في أذنها:


- سأشتاقُ لكِ كثيراً...



و حاول أن يبعدها، لكن أصابعها كانت متشبثة بقميصه...


وأراد إزاحة تلك الأنامل القابضة عليه، فانتبهت وصاحت بإرتياع:




- كلا، لا تتركني، لا تسافر أرجوك..



- لا بد لي من ذلك!!



ردت بإندفاع وهي تنتحب:


- سأفعل أي شيء تريده، أي شيء..



- أي شيء؟!



ونظرت إليه بعينيها اللتان بدتا كمحيط لا متناهي من الدموع..


ارتمت على صدره من جديد وهي تصيح بيأس:


- أجل أي..شيء..


وانخرطت في بكاءٍ مرير...



ربت على ظهرها برفق وهو يفكر بشرود..



- اسمعي، لا أستطيع التراجع الآن، سأسافر وأنهي أموري ثم أعود...



رفعت رأسها بسرعة:


- ماذا؟!


- هدئي من روعك لا بد أن أمهّد لهم، لا بد من التبرير فأنا أعرف الرجل جيداً، كلانا نعملُ معاً!!


- أنا لا يهمني ذلك، اتصل واعتذر له. وأخذت تصيح.


- إنهُ ينتظرني الآن في المطار.


- أنت تكذب علي..


- أنا لا أكذب أقسمُ بالله، ولكن لا بُد من إنهاء بعض الأمور!!



- ..........................


- لقد أقسمت!!!


- ..........................


- سآتي بسرعة حين تسنح لي الفرصة، صدقيني..



مسحت عينيها وهي تخاطبه:


- عدني أنك ستعود لوحدك!!


- أعدك..


- وأنك لن تتزوج أبداً..


- أعدك..



وابتسم في وجهها فأطرقت وجهها بإضطراب..


ثم أمسكها من ذراعها وهو يُنهضها من على الأرض:


- هيا، لم يتبق شيء على موعد الرحلة، أين حقيبتك؟! لقد تأخرت!!



واتجهت لخزانتها لتحمل معها بعض الأشياء لمنزل خالها ريثما يعود...




في أي هاويةٍ أسير!!



لا يهم، لا شيء يهم من بعده...



المهم أنهُ سيعود، قال لي سيعود، لن يتزوج، لن يتزوج أتسمعون!!



ماذا أريدُ أكثر من هذا !!!



ولكن !!!
(19)




رفعت بصرها نحو السقف وهي تتابع حركة المروحة الرتيبة.....


لقد مرّ أسبوعٌ كامل منذُ أن سافر و اتصل خلالها 4 مرات...


في المرةِ الأولى لم تكن موجودة أما في المرات الثلاث فلم تدرِ ما كانت تقول له!!


كانت تبقى صامتة معظم الوقت وهي تستمع له وكأن قد أُسقط في يدها!!


وحين يهم بوداعها وإغلاق السماعة تكاد تصرخ: انتظر!!


لكن لسانها يخونها من جديد وترد بصوتٍ خافت: مع السلامة...


وتعنف نفسها بعد ذلك طوال الوقت وهي تشعر بالندم..



أنها لم تعتد بعد، لازالت خائفة، خائفة من القادم...


وتنهدت بعمق وهي تنظر ليديها المتشابكتين في حيره...




"سأخبره، لا بد أن أخبره قبل كل شيء...



ولكن ماذا أقول له!!


ربما لن يصدقني..


لن يصدقني؟!!


"عمر" سيصدقني، أليس كذلك؟!


أنا لم أفعل شيئاً، لا شيء...


سأخبره على الهاتف عندما يتصل، لا أستطيع مواجهته، لا أستطيع...


أجل سأخبره و ليحدث ما يحدث!!


عمر لن يتركني، لن يتخلى عني، عمر يحبني، هو قال لي ذلك"..


و شدت الدثار حولها بإحكام لعلها تُبعد تلك الهواجس التي تنتابها وتؤرق مرقدها كل حين...



يا رب لطفك، لطفك فقط...



=========



- كلا، كلا، لا تقلق، الأمور تسير على ما يُرام!!


وأخذ يضحك بأريحية وهو ينقل سماعة هاتفه الجوال لأذنه اليُسرى:



- سأعود قريباً، بعد شهرين ربما، أجل..


و انخفضت حدة الصوت في موجة أشبه بالهمس الخافت!!


كانت تحتسي عصير البرتقال المفضل لديها وهي تُصيغ السمع لحديثه بفضول...


أغلق هاتفه وهو يجر كرسياً و يخطف شطيرة موضوعة على الطبق....


- عذراً إن أزعجتك، صباح الخير!!


- صباح النور. تمتمت.


- كيف حالك وحال ناصر؟! سألها بصوتٍ عادي.


- نحنُ بخير، الحمد لله...


وصمت كلاهما صمتاً ظاهرياً ثم نطقت بعد دقائق:


- سترجع إلى السويد؟


- أجل.


- ومتى ستعود؟!


- بعد أن أتخرج، لم يتبق إلا عام واحد كما تعرفين. وابتسم بهدوء.


- اها. ردت بشرود.


وأردفت:

- بالتوفيق إن شاء الله.



ووضعت كوبها على الطاولة وقبل أن تهم بالإنصراف التفتت نحوه:


- "وليد" أيمكن أن.....


- ماذا؟! تفضلي. سأل باهتمام.


تطلعت إليه بصمت لمدة ليست بقصيرة ثم هزت رأسها ببطء وهي ترد:



- آه، لاشيء، لاشيء، شكراً على كل حال.



و توارت عن الأنظار...


وبقي هو على مقعده يلتهم شطيرته بنهم، سحب كأسها وسكب له عصيراً!!!


تمتم بصوتٍ منخفض:



- مسكينة أنتِ يا "شيماء"!!



وارتشفه و ابتسامة ثقة كبيرة تعلو شفتيه...



ثم أخرج سجارته ونفث دخانها بإرتياح....



=========



- ألا تفهمين العربية حين أكلمك؟!


- ..............................


- هيا انهضي.. صرخ بغضب.


- لن أنهض، ولن أتحرك شبراً من هذا المكان، أتسمع!!!



ووضعت يدها أسفل ذقنها من جديد وهي تنظر له بتحدي..


صاح بنفاذ صبر:


- هذه المرأة سيدة أعمال!!


- سيدة أعمال أم رئيسة التنظيفات!! أنا لا يهمني، ما يهمني أنها امرأة وأنا لا أستطيع ترككما لوحدكما، ضميري لا يسمح لي بذلك!!!


- كفي عن هذه الترهات واغربي عن وجهي في الحال و إلا..


- وإلا ماذا؟!


- سأنادي حارس الأمن الواقف في الخارج مع الكلب!!



وما أن ذكر لفظة "الكلب" حتى أصابها الفزع فاعتدلت في جلستها مذعورة وهي تحاول أن تتمالك نفسها...


خاطبته بتباكٍ:


- أنا أعرف، لم تقتنيه إلا لتُخيفني، لكنني لا أخاف، نحنُ نربي في بيتنا القطط و الكلاب وحتى الأفاعي!!!


- .........................


- ثم ماذا سيُضيرك لو بقيت هنا ها؟!! أريد أن أتعلم، أنا لم أرى في حياتي سيدة أعمال من قبل..


- يكفي ثرثرة..


ودقّ سطح مكتبها بتهديد...


- سأنصرف الآن ليس خوفاً من تهديدك، ولكن لأن، لأن، أجل لأن أسعد لحظات حياتي تلك التي لا أراك فيها!!


أجابها بقسوة لاذعة:

- ويستحسن لو تغادري المكان برّمته و تعودي لمنزلك فلستُ محتاجاً لخدماتك النفيسة هذا اليوم!!



وخرجت وهي تجمع أغراضها بغضب...


"يطردني من أجلها وأنا توسلتهُ البارحة كي أعود للبيت بحجة مرض والدي ولم يسمح لي"...

وجلست على مكتبها القديم والغيظ يفتتها...



وسمعت وقع خطواتٍ ثابتة لكعبٍ عالٍ فالتفتت إلى الباب و بقيت تحملق فيه!!



كانت امرأة في عقدها الثالث تسبقها رائحة العود النفاذة، كستنائية الشعر، خمرية البشرة وإن لم يخفي لونها ذلك المكياج الصارخ الموضوع بإتقان...


اقتربت منها المرأة برشاقة وهي تُبعد خصلات شعرها الطويلة إلى الوراء...


خاطبتها بتكبر:


- أين مديرك؟!


"لم تلقي عليّ السلام حتى!!"..


- في الداخل.. ردت مبهورة الأنفاس.


و ولجت إلى حيثُ أشارت لها..


وما هي إلا ثانية حتى ضربت "ندى" على صدرها وهي تخاطب نفسها:


- هذا المحروم إن رآها فلن ينظر في وجهي بعد اليوم!!!


"لا بد أن أفعل شيئاً، لا بد من الهجوم على العدو!!"


ولم تستطع الجلوس على الكرسي، أخذت تدور حول المكان لمدة ربع ساعة دون أن تهتدي لشيء وتوقفت فجأة..


هرولت إلى المطبخ الداخلي وأعدت كوبا "نسكافيه" بدون سكر!!


طرقت الباب بخفة قبل أن تسمع الإذن بالدخول وعلى فمها ابتسامة حقودة...


أخذ المدير يطالعها مصدوماً من وجودها حتى الآن وبدا على وجهه التوجس!!


- أحضرتُ لكما "نسكافيه" ليبلل حلقكما الذي لاشك جف من كثرة الكلام!!


و وضعت "الصينية" على الطاولة و استدارت نحو المرأة...



نظرت إليها و هي تصيح بإعجاب:


- واو شعرك رائع، صبغتهُ رائعة، في أي صالونٍ صبغته؟!



وأخذت تمسح عليه والمرأة تطالعها بخوف..



- ما بالكِ لا تُجيبين يا جدتي، أنتِ في عمر جدتي صح؟! أراهن أن عمرك في الستين لكنها عمليات التجميل !!



ثم مطت شفتيها بعبوس وهي تخاطبها:


- ثم كيف تخرجين أمام الملأ بدون حجاب، هذا عيب، حرام، ألا تعلمين أن كل شعرة شيطانة يا شيطانة!!


وشدت شعرها بقوة فصرخت المرأة من الألم..


- آسفة، آسفة لم أقصد. وتراجعت وهي تضع يدها على فمها ببراءة.


- اخرجي من هنا. صرخ المدير بغضب.



ثم التفت للسيدة وهو يعتذر:


- أعتذر منكِ سيدتي، لكن هذه الفتاة ليست طبيعية تماماً!!


- وما دامت كذلك لم لاتزال تعمل لديك، شيء غير معقول إطلاقاً!!


قالت ذلك وهي تُعيد ترتيب شعرها بضيق.


- أعتذر لكِ سيدتي من جديد..


وسكتت المرأة على مضض، ثم التفت إلى "ندى" وهو ينظر لها بشزر..



زمت فمها بغضب مماثل وهي تحدجه بحقد، وخرجت وهي تصفق الباب..


"أنا غير طبيعية!! و يقول هذا أمام تلك المتعجرفة!!


وعادت لتجلس على مكتبها وهي تضربه بقبضتيها...



ومرت ساعة كاملة وهي على هذه الحالة وأخيراً انفتح باب المكتب الرئيسي وقبل أن يلوح أحدهما اختبأت أسفل طاولتها..


- سعدتُ بلقائك سيدتي.


- هذا من دواعي سروري، سنكون على اتصال دائم مع شركتكم.


- وأنا من جهتي سأباشر بالعقد منذُ اليوم..


- إلى اللقاء إذن..


- إلى اللقاء.



"ألن ينتهيا من أحاديثهما السخيفة؟!! ماذا جرى له اليوم مدير الغفلة!!"



وسمعت صوت كعبها يتهادى على الأرض مبتعدة فهبت من مكانها واقفة..


- لحظة. هتفت "ندى"..


أجفلت المرأة وجمدت في مكانها.


- سيدتي، سيدتي، أعتذرُ عما بدر مني. قالتها وهي تنكس رأسها بإنكسار.


- .................


- أرجوكِ سامحيني. وسحبت يدها لتقبلها.


- يكفي، سامحتك.


- فعلاً!!


- أجل.


- أيمكنني أن أسألكِ سؤالاً بحق الصداقة التي جمعتنا اليوم؟!!


تنهدت المرأة بإستسلام:

- تفضلي..


- الظلال الذي في عينيكِ جميلٌ جداً، أتعلميني طريقته؟!!



و ابتسمت المرأة بخيلاء وهي تُجيب:


- هذا ظلال "السموكي"، ولستُ من وضعته بل أخصائية تجميل خاصة بي..


- حقاً؟! أهذا ما يسمونه "سموكي"، لا أصدق، يا لحسن حظي، أريني..



ووضعت أصابعها على الفور على جفني المرأة بعشوائية وهي تمسحهما والمرأة تصرخ...


وانفتح الباب فجأة على وجل و أطل المدير بقلق:


- ماذا يجري؟!


- غبار دخل في أذني أقصد عيني سيدة الأعمال!!! لقد تأخرت عن البيت، مع السلامة وخذها للطبيب...


وجرت بإرتياع للباب الخارجي وما أن لامسها الهواء حتى انفجرت ضاحكة وهي تحمد الله أن غداً الخميس..



- سينسى، بعد يومان سينسى!!


==========

عاشقة الكتب 24-05-07 06:42 PM

أأخبرها هذا المساء، أم أُبقي الأمر مفاجأة!!


كلا، لن أخبرها، أريدُ أن أرى الفرحة الممزوجة بالدهشة جلية في عينيها السوداوين عندما تراني...


معشوقتي الصغيرة تخالني سافرت لأتزوج!!


أتزوج!!


تكفيني هي بجنونها وعنادها لأعزف عن نساء العالم برّمته وأنتظرها هي!!


كثيراً ما وددتُ خنقها بيدي هاتين لكنني أُحجم!! وكيف لي أن أخنق قلبي؟!


كيف سأعيش حينها؟!!


أعلم بأني آذيتك كثيراً يا صغيرتي، صدقيني رغماً عني، ولكن أقسم بأن أعوضك عمّا فات و سأنسى الماضي وكل شيء من أجلك وحدك، و من أجل أن أراكِ سعيدةً تضحكين...


كيف تغلل حبها هكذا إلى روحي، ومنذُ متى؟!


لا أدري، حقيقةً لا أدري...


ربما منذُ أن رأيتها أول مرة و قد أُغمي عليها، أو حين سكنت معنا في البيت فسكن معها قلبي، أو ربما حين تزوجتها وأفقدتني عقلي أو ربما كان حبي لها منذُ الأزل!!



أجل، منذُ الأزل...





إني لأجزم بأني أحبها حباً قديماً، حباً مُعتقاً، حباً يذكرني دوماً بلحظات الصبا، حين أرتع في الطُرقات في مواسم المطر لأتنسم عبق التراب، عبق الندى، عبق تلك اللحظات العجيبة...


أيُّ رجلٍ عاشق صيرتني يا "غدير"!!


وتخالينني بعدها سأتزوج؟!!


إنه العمل، وكم كرهت العمل لحظتها طالما سيبعدني عنكِ...


وابتسم وهو يعقد ذراعيه خلف رأسه....


لا أعلم كيف صدقتني حينها، ربما كانت الغيرة من أطاشت صوابها...


ولكن لم يبق الشيء الكثير...


لم يتبق إلا الغد، الغدُ فقط من يفصل بيننا!!



سأتصلُ لها هذا المساء ولكن لن أخبرها، أعدكم بذلك...



أريدُ أن أسمع صوتها، كم اشتقتُ لها كثيراً، كثيراً...



==========



- ماذا تصنعين؟!


- بسبوسة أعددتها بنفسي!! أجابت بفخر.


- بسبوسة!!


- أجل.


- تبدو لذيذة.


- انتظري، لا تلمسي شيئاً!


- لماذا؟!


- لازالت ساخنة..


- أريدُ أن أتذوق فقط.


- ابتعدي إذن، أنا سأقطعُ لكِ.


وأمسكت "ندى" السكين وهي تنظر لبسبوستها بإعتزاز وقطعت قطعة..


- هذه صغيرة جداً!!


- أخافُ عليكِ من السمنة!


وقضمت "غدير" القطعة بتؤدة وهي تستطعمها وما هي إلا دقيقة حتى ألقتها وهي تضع يدها على فمها بغثيان..


- طعمها كالبيض الفاسد!!


- ماذا؟!


و أخذت "ندى" قطعة وقربتها من أنفها ثم صاحت بإستنكار:


- رائحتها عادية أنتِ تتوهمين، تأكدي...




وما أن قربتها من "غدير" من جديد حتى انتابت تلك الأخيرة نوبة غثيان حادة، جرت من فورها إلى المغسلة..


اتجهت لها "ندى" بفزع وهي تضع يدها على كتفها وتهزها بخوف:


- ماذا بك؟! لم أضع شيئاً غريباً في الأكل، أقسمُ لكِ..


صاحت بتقطع وهي تمسك معدتها بقوة:


- آه، ابعدي يدكِ، رائحتها.......


و عاودتها النوبة أعنف من ذي قبل و "ندى" تنظر إليها بعينين مذعورتين وهي تتراجع إلى الوراء...


وأخذت "غدير" تتنفس بعمق وهي ترشح وجهها بالماء، وتمالكت نفسها بعد مرور دقائق ثقيلة والتفتت لتلك الأخيرة معتذرة:


- يبدو أنني متعبة قليلاً، سأذهب لأرتاح، آسفة..


وأرادت "ندى" أن تساعدها على السير لكنها أمسكت خشية أن تتقيأ من جديد..


وبقيت تتابعها بقلق حتى غاب خيالها في الغرفة...


رمشت عينيها مراراً وتكراراً وهي تتذكر ما وضعته في الخلطة من محتويات..


" طحين، سكر، زبدة، حليب، بيض"


بيض!!!


كان طازجاً، صدقوني، أنا كسرته بنفسي و الخادمة فعلت كل شيء!!"


وعادت إلى المطبخ و تناولت قطعة وهي تتمتم بتعجب:


- ليس بها شيء، إنها طيبة المذاق!!


وتوقفت في الصالة وهي تنظر للغرفة المغلقة بتفكير...


و فجأة شهقت بصوتٍ مرتفع وكأن الإلهام هبط عليها:


- غدير حامل؟!!


وما أن فاقت من صدمة الاكتشاف حتى صاحت بفرح:


- سأصبح عمة، سأصبح عمة أخيراً..


وأخذت ترقص جدلةً حول المكان دون أن تنتبه لتلك الواقفة من بعيد...


تلك التي كانت تتمزق، تتفتت كورقة خريفية أفلتت من غصنها اليابس...


هزت "شيماء" رأسها ببطء و هي تعتصر الألم من قلبها عصراً..


"حامل!! غدير حامل!!"


وأصابتها هذه الجملة بشظية أدمتها، جعلتها تنزف، تتقرح من الداخل، الجرج يُنكأ ببطء و قوة والألم يشتد، يعصف بكيانها، ويهزها حتى الأعماق!!


ها هي العبارة ترنُّ في أذنيها من جديد بوقعٍ غريب، وتخترق الصدر مباشرة، إلى هناك، بين الضلوع!!


وهرعت للسلم بجنون وقلبها يترنح بين ضلوعها، الوجود أسود، مظلم لا أمل فيه...


أوصدت الباب خلفها و التفتت لذاك الجالس بهدوء و بيده كتاب..


أخذت تهدأ نفسها الثائرة دون جدوى ثم نطقت بهيجان:



- زوجة أخيك حامل.


رفع رأسه لوجهها الغاضب بتساؤل:


- من؟!


- ومن غيرها؟! غدير.. صاحت بحسرة.


- آه، مبروك. و صمت بحيرة.


- أهذا ما لديك فقط؟! مبروك!!


- ماذا تريدين مني أن أقول!!


- أنا لا أريدك أن تقول شيئاً، أريدك أن تتحرك كباقي خلق الله!! صرخت بإنفعال.



نهض على قدميه وهو يُلقي بالكتاب على الأرض بنفاذ صبر:


- فعلتُ لكِ كل شيء، لم نترك طبيباً إلا وذهبنا إليه، ماذا تريدين أكثر!!


- فلنسافر، لنتعالج في الخارج..


- نتعالج!! أأصبتِ بالجنون، لم نكمل عام ولا حتى نصف عام على زواجنا ونسافر لنتعالج!!!


- غدير و عمر لم يمر على زواجهما سوى شهر واحد و ها هي ستُرزق بطفلٍ قبلي..


و أفلت الصمام من يدها، أجهشت بالبكاء بمرارة وغصاتها تتلاحق...



وبقي واقفاً بتردد وهو يتطلعُ لها...


- شيماء... ناداها بألم.


صاحت من بين دموعها:


- اخرج من هنا، أنت لا فائدة منك، لن تحس بي أبداً، أبداً..


وخرج من الغرفة والحزن يعصف به...


أيّ حالةٍ وصلت إليها زوجته!!


أكلُ هذا من أجل طفل!!


أنا لا يهمني الأطفال، أنا يهمني أنتِ، أنتِ فقط لكنكِ لا تفهمين...



"زوجة أخي حامل!!"


ليوفقهما الله، ماذا تريدين مني أن أفعل!!


أن أشتمهما، أن أحقد عليهما لأنهما سينجبان ونحنُ لا؟!!


ماذا تريدين مني بالله عليكِ أخبريني!!


تريدين أن نسافر؟!


ومن أين لي المال لأسافر وحتى لو وجدت، فسأطرد من عملي طرداً نهائياً من كثرة الإجازات التي آخذها من أجل البقاء معك، كي لا تبقي وحيدة، كي لا تفكرين!!!



أأنا لا أحسُّ بك؟!


أرجوكِ أرحميني لقد تعبت، كفي عن التحدث عن الأطفال، بتُّ أكره سيرتهم!!



وتطلع إلى السماء بحزن وهو يتساءل:


لم الحياة هكذا كظلمة هذا الليل و لكن بلا نجوم!!


بلا نجوم؟!!


=======



خرجت من غرفتها مسرعة و هي تسمع صوت الهاتف يرن بتواصل و قد عاودها النشاط بعد أن غفت قليلاً وأراحت جسدها المتعب...



لا بد أنه هو، لقد حفظت مواعيد اتصالاته جيداً، في الساعة الثانية عشر تماماً!!


وخفق قلبها بشدة لذكراه، وقفت ليس ببعيدٍ عن "ندى" وهي تنصت بخجل لحوارهما...


- أهلاً أهلاً، كيف حالك الآن؟!


- كم مرة سألتني هذا السؤال؟!


- أريدُ أن أطمئن على صحتك ليس إلا!!


وزفر وهو يسألها بنفاذ صبر:


- أين غدير؟!


- من "غدير"؟!


- زوجتي..


- ومتى تزوجت!! سألتهُ بإستنكار.


- ندى، سأصفعك..


- كيف؟! ستخرج لي من سلك الهاتف!!



وضحكت بأريحية و "غدير" تشير لها بأن تعطيها سماعة الهاتف لكنها لم تبالي..


- سأعطيك إياها ولكن بشرط!!


تنهد بإستسلام:


- وما هو شرطك؟!


- تشتري لي هدية، هدية محترمة تناسب مقامي المرموق في العائلة والأوساط الإجتماعية المعروفة، تعرفني أنا...


- كفي عن الثرثرة وناديها وإلا قسماً عدتُ هذا المساء و ذبحتك..


- حسناً، حسناً، لا تغضب، أعوذُ بالله..


- إلى متى سأنتظر؟!


- ستأتي الآن لا تقلق، تعرفها بطيئة الحركة، ليست في مثل رشاقتي!!


و نظرت لها "غدير" بتوعد فمدت لها لسانها بلؤم ثم صاحت بسرعة وكأنها تذكرت شيئاً ما:


- ذكرتني، نسيت أن أخبرك!!


- ماذا؟!


- لن تصدق..


- ماذا؟! كرر بنفاذ صبر.


- مبروك، زوجتك حامل!!!!
(20)



- آلو، آلو!!


- ..................


- لقد انقطع الخط!! يبدو أن المفاجأة ألجمت لسانه!!!!



وتهاوت "غدير" على الكرسي الذي بجوارها وهي تحملق في المكان بعينين فارغتين من كل شيء...


من كل شيء!!


التفتت لها "ندى" وهي تمط شفتيها و تُردف بلا مبالاة:


- لا تقلقي سيعاود الاتصال من جديد، كان متهلفاً للحديثِ معكِ..


"ماذا تقول هذه؟!"


و رفعت رأسها إليها وهي تنظر لها دون تصديق، خاطبتها بصوتٍ خافت يرتجف:


- لم قلتِ له ذلك؟!


- ماذا؟!


- لم قلتِ لهُ أني حامل، لم فعلتِ ذلك بي؟! سألتها بلوعة.


- لكنكِ كذلك. أجابت بتردد.


- أنا لستُ حاملاً!! صرخت بإختناق.


- لقد رأيتكِ تتقيأين عندما........


قاطعتها وهي تقبض على صدغها و تهز رأسها بألم:


- رائحة البيض لا أطيقه، يُثير فيّ الغثيان منذُ الصغر!!


- حسناً، لابأس، كان سوء تفاهم ليس إلا. علقت "ندى" بإضطراب.


- سوء تفاهم!! تقولين سوء تفاهم؟!! رددت بذهول.



- عمر لن يغضب، سأقول له أن الحمل كاذب، لا تفعلي بنفسكِ هكذا..


- عن أي حملٍ كاذب تتكلمين، ، عمر سيطلقني، سيتركني بسببكِ أنتِ..


- كلا، عمر لن يتركك لخطأ تافه كهذا، أنتِ تبالغين. ردت بتهدج.


- أنتِ لا تفهمين شيئاً، لا تفهمين.



وغطت وجهها بكفيها وهي تشهق بالبكاء...


جثت "ندى" بجانبها و هي تشدها من ثيابها:


- قولي لي ماذا أفعل، سأفعل أي شيء.


رفعت "غدير" رأسها بضعف و نظرت لها بتوسل:


- اتصلي له، أخبريه، قولي له أنكِ تمزحين..


هرعت "ندى" للهاتف وهي تعيد الضغط على الأزرار عدة مرات...


وبقيت على هذه الحالة عدة دقائق، ردت بصوتٍ خافت وهي تتطلع إلى "غدير" بإرتباك:


- لا يُجيب، لا بد أنها الخطوط ....



وخيم الصمت حول المكان.....



كانت تنقل بصرها بشرود بين ندى و يدها وسماعة الهاتف !!!



وتمهلت عند سماعة الهاتف طويلاً....



خاطبتها بصوتٍ أثيري كالحلم و هي تضم يديها إلى صدرها:


- كنتُ سأخبره وكان سيصدقني...


- ..............................


- هو يعرف بأني أحبه و لا أحبُّ غيره...


- .............................


- لقد اشتريتُ له هدية، قميص أخضر بلون عينيه!!! كنتُ سأسأله من أين اكتسب هذا اللون بعد أن يعود...




- ولكن ليس بعد الآن أليس كذلك؟! ليس بعد الآن..



و نظرت إلى "ندى" وكأنها انتبهت للتو من وجودها، صاحت بألم:



- كلهُ بسببك، أنتِ السبب..



وانسابت دموعها وهي تراها تغرق من جديد في نوبة من البكاء المرير...



يا نجوم السماء ابقي يقظة...



لا ترحلي، لا تأفلي كي لا يحلّ الصباح!!



=========




لم تنم البارحة، لقد أبى الكرى إلا أن يحرمها النوم و راحة البال...


تقلبت على فراشها وهي تحاول أن تتجنب ذلك الضوء المضطرب المنبعث من قنديل الصباح...



لم ينم البارحة هو الآخر، نهض منذُ بزوغ الفجر!!


لا يهم، لا شيء يهم!!!


و أزاحت الدثار عنها بضيق وتوجهت للمرآة..


عيناها متورمتان من كثرة البكاء، من شدة الألم، من تلك الغصة التي لا تفتأ أن تُضيّق عليها الخناق وتلاحقها كظلها كما تلاحقها عبارة:


"غدير، حامل!!"...



أأنا حقودة؟!


أجيبوني!!



أتخالوني أغار منها وأحقد؟!


ما بالكم تنظرون لي بشك!!!


قولوها أمامي و كفوا عن التحدث خلفي بهمس!!



أجل، أجل، أنا غيورة، حقودة، قولوا عني ما شئتم، فقد تعبت، مللت، ضاق صدري!!



وهذا الزوج البارد!!



لا آخذ منه إلا الكلام، إلا الوعود السقيمة...



اصبري، اصبري، اصبري!!!!!


لقد تعبتُ من الصبر!!


ماذا سيضيره لو سافرنا؟! ماذا سيخسر؟!


لم يحطم آمالي، لم لا يفهمني هذا الرجل؟!!


ألا يعلم؟!!



قريباً ستمر الشهور التسعة كلمح البصر، وستُرزق هي بطفل..



أتعرفون ما معنى "طفل"؟!


ذلك المخلوق الصغير ذي العينين الصغيرتين، ذلك الذي سينطق لها:


ماما!!


حينها سأجن أتفهمون؟!



كلا، كلا أنتم لا تفهمون، لا تفهموني...



أريدُ أن أصبح أماً، أريدُ أن أصبح أماً...


و دفعت الأشياء الموضوعة أمام المرآة بعنف، تحطمت، تكسرت وتبعثرت كروحها الممزقة في كل مكان وعادت لتجهش بالبكاء...



==========



مقفل!! هاتفه مقفل منذُ البارحة...


لم لا ترد!!


ردّ علي، أرجوك...



لا تتركني هكذا أخافُ منك...



صمتك يُرعبني، أرجوك تكلم، قل شيئاً، لكن لا تسكت، لا تعذبني هكذا..



الخطوط هي السبب، إنها كما قالت "ندى" متشابكة!! أنت لست غاضباً مني...



أليس كذلك يا "عمر"، اجبني، لم لا ترد علي!!


يا لقسوة قلبك، أهنتُ عليك بهذه البساطة!!



و سمعت ضجة فالتفتت نحو الباب بوجل...



أطلت "ندى" وهي تلهث:


- "عمر" عاد..


- كلا. صرخت بإرتياع.


وصمتت برهة لتلتقط أنفاسها ثم أضافت:


- لا تقلقي، لا يبدو عليه الغضب أبداً، ألم أقل لكِ..


- لا أريد أن أذهب، لا أريد أن أراه.


وانزوت للبعيد بخوف....


اقتربت منها "ندى" حتى أصبحت بمحاذاتها:


- ماذا سيقولون؟! زوجك عائد للتو من سفره وأنتِ هنا مختبئة؟!


- إنهُ لم يعد إلا لأنه يخالني كما قلتِ.. ردت بخوف.


- سأخبره بإلتباسي في الموضوع، اطمأني.


- متى؟! سألتها وهي ترفع رأسها بتلهف.


- عندما يكون لوحده، لا تخافي لن أعدم وسيلةً هذا اليوم..


تطلعت لها بيأس وهي تصيح:


- سأبقى هنا، قولي له أني مريضة، لستُ هنا، قولي له أي شيء..


وأخذت تبكي بصمت وهي تدفن رأسها في حجرها...


- لم تعقدين الأمور وهي بسيطة، أنا لا أفهمك!!


- .......................


- هيا انهضي معي، كل شيء سيحل بإذن الله..


رفعت رأسها ببطء وهي تنظر لها بألم..


"سيُحل؟!!"


- هيا اغسلي وجهك قبل أن يأتي إلى هنا ويراك بهذه الحالة..


و ساعدتها "ندى" على النهوض...


غسلت وجهها لكنها لم تستطع أن تمسح معالم الخوف المرتسمة على وجهها الشاحب....



وسارت بتعثر و هي تختبأ خلفها...


كانوا جميعهم هناك، فلا غرو فاليوم جمعة...


"وليد" جالس و بيده سجارته التي لم يشعلها بعد و بجانبه "ناصر" عاقداً ذراعيه خلف رأسه وقد بدا عليه أنهُ لم ينم منذُ عام أو ربما خُيل لها ذلك!!


وتوسط الأب المقعد الكبير عدا "شيماء" التي كانت واقفة تحدجها بنظرة غريبة لم تعتدها من قبل...


إلا هو!!!


لم يلتفت لها منذُ أن وطأت بقدمها الصالة...


لم ترى وجهه..



لم يلتفت؟! أو ربما هي لم تجرؤ على النظر إليه!!!


- سلمت على الكل، ونسيت زوجتك؟! خاطبه الأب.



ورفع رأسهُ حينها نحوها فالتقت بعينيه الخضراوين....


فيهما وحشة، سكون، جمود...


ومدّ يد ليصافحها، كانت يدها ترتجف من نظرته الجامدة، تلك التي تُخفي خلفها خبايا نفسه العميقة...


ضغط على يدها بشدة وهو يطالعها بثبات فسحبتها بسرعة وهي تنظر بزيغ إلى "ندى"!!


وعادوا إلى أحاديثهم من جديد، كان يبدو مندمجاً معهم، مرحاً، لا يكف عن التعليق!!!

و خاطب الجميع وهو يشير إليها:



- لابد أن نترككم الآن أنا متعب وأريد أن أرتاح.


ردت بسرعة:


- كلا، كلا، الشقة لا بد مليئة بالغبار الآن، ستأتي "ندى" معي و ستنظفها..


ونظرت "غدير" إلى تلك الأخيرة بإستعطاف.


- أجل سآتي معكم.


- ولم "ندى"، ألا أنفع؟! سألها ببرود.


- أنت متعب، ارتح ونحنُ سنفعل كل شيء. تابعت شقيقته.


- بل هي من يجب أن ترتاح، أليست بحامل؟!


قالتها "شيماء" بمرارة وهي تنظر مباشرة لناصر....



نهض هذا الأخير معتذراً من المكان برمته وهو يتمتم بكلمات.


- لم لم يخبرني أحد من قبل؟! سأل الأب بعتب.


- لست أنت فقط يا أبي، تصور أنا زوجها و آخر من يعلم!! علق "عمر".


وضحك الجميع وهو معهم!!!



- على العموم مبروك يا ابنتي.



وسكنت سكون الريح لحظة المغيب....



الكلمات تعبر أذنيها بتثاقل، بتقهقر والهدير يعلو بداخلها بصمت وهي عاجزة عن الرد، عن الصياح:



"كفوا عن هذا الحديث!! ماذا تفعلون بي؟!!"



ارتعشت شفتاها وهي تهزُّ رأسها له، فابتسم بقسوة وهو يخاطبها بثبات:



- هيا يا عزيزتي لقد تأخرنا، لو تعلمين كم أرهقتني هذه الرحلة!!!


ثم التفت لأبيه:


- نستودعكم الله..



وأُسقط في يدها!!!


و شيعت "ندى" وفي عينيها لوم، عتاب:


"لم تفعلي شيئاً، لقد كذبتِ علي"...


===========



لحقته حتى الفناء الخارجي وهي تناديه:


- وليد..



وتوقف فجأة وهو يستدير لها بتساؤل:


- نعم!!


- بشأن الفحوص التي أعطيتك إياها...


- ماذا بها؟!


- قلت لي أنك ستلقي عليها نظرة..


- آها، أجل، أجل..


- وما رأيك؟!


- تعرفيني لا أثق بفحوص المستشفيات هنا، لا بد أن أستخدم أجهزتي الخاصة.


- أنا ليس لدي مانع البتة.


- وناصر؟!


- سيأتي أيضاً. ردت بشرود.



أشعل سيجارته ونفث دخانها أمامها وهو يجيب بهدوء:


- الآن أنا مشغول، لدي موعد مع بعض العملاء..


- ومتى تكون فارغاً؟!


- يمكنك أن تمري عليّ بالليل فهذا أنسب وقت بالنسبة لي.


- بالليل؟!


- أجل، إذا شئتِ. رد بلامبالاة.



واستدار إلى معمله وقبل أن يدخل سحق السجارة بقدمه!!!



وبقيت واقفة تنظر بيأس لكل شيء، كل شيء...



===========



طفرت الدموع من عينيها وهي تمسحها بإرتجاف، كان أقل حركة أو صوت يصدر من السيارة يجعلها تصرخ وهي تشهق بصوتٍ كتوم...


الخوف منه يشلها، يشل تفكيرها، يشل حواسها المتلاشية...


وتوقفت السيارة فتوقف قلبها عن النبض، نظرت إليه بإرتياع وهي تنكمش في مكانها..


- انهضي، ماذا تنتظرين؟! قال بجمود.


نطقت بتقطع:


- عمر أنا....


- بهدوء انزلي لو سمحتِ، لا نريدُ فضائح في الطريق!!


وبعينين مغشيتان تابعته وهو يتجه للصندوق الخلفي ليُخرج حقائبه...


صدّت لحقيبتها الصغيرة و أخذت تتأملها لبرهة و دون شعور أخرجت مفتاح الشقة خاصتها...



التفت لها وهي تخرج لكنهُ أكمل إنزال الحقائب بهدوء..



أوصدت باب غرفتها خلفها و هي تستند عليه و صدرها يعلو و يهبط بخوف...


مرت الدقائق بطيئة، ثقيلة بثوانيها التي يبدو أن العطب أصابها فلم تتزحزح من فلكها الدوّار...


وسمعت خطواته الثابتة تقترب فالتصقت بالباب وضربات قلبها تدق بعنف..


- غدير، افتحي الباب.. نادى بتهديد.


- اسمعني أولاً. صاحت بترجي.


- ماذا لديكِ من مزيد لتقولينه؟!!


- أنا لستُ حاملاً، أقسمُ بالعظيم، ألا تثقُ بي!!


- أثقُ بك؟!! تقولين لي ليلة زفافك أنكِ تحبين رجلاً، و بالأمس فقط يقولون لي أنكِ حامل!! كيفُ أثقُ بكِ بعد ذلك بالله عليكِ؟!


- لا، أنت لا تفهم أنا...


- أين كنتِ حين اتصلتُ بك أول مرة منذُ سفري ها؟!


- لقد ذهبتُ لــ.......

وصمتت...


"لأشتري لك قميصاً بدلاً من ذاك الذي ألقيته بعد أن سكبتُ عليه الماء!!"



- تحملتك كثيراً، أكثر مما تسمح به طاقتي، تحملتُ رفضك، جرحك لكرامتي و صبرت لكن إلا كرامتي يا "غدير"، إلا هذه... و صرخ بغضب.



- كرامتك لم تُدنس، لقد حافظتُ عليها في غيابك كما في وجودك، لمَ لا تصدقني؟!



أكمل وهو يصمُّ أذنيه:


- وعن أي غبارٍ في الشقة تتحدثين، إنها تبدو لامعة تماماً كما لو نُظفت بالأمس!!



- لا ماذا تقول؟! صاحت بإرتياع.


- وتمثيلية الحب والدموع ليلة سفري، وأرجوك لا ترحل!!! تريدين أن تبرئي ساحتك أم تريدين إيقاعي كي أتشبث بك ولا أتركك؟!!


- أنا...


"أحبك بصدق".. واغرورقت عيناها بالدموع.


- أنتِ مخطئة يا عزيزتي، واهمة حتى النخاع، أنتِ لم تعودي شيئاُ بالنسبة لي، وكما رفعتكِ عالياً، أُلقي بكِ أسفل سافلين في اللحظة ذاتها...



وضرب بقبضته على الباب بقوة فهوت على الأرض، و ليس وحدها من سقط، فقد هوى قلبها وانجرح في سويدائه...


ما أقسى الكلمات.....


- لن تفتحي الباب إذن؟!


وبكت بصوتٍ منخفض.



- سأخرج قليلاً ثم أعود و ستفتحينه عن طيب خاطر، أليس كذلك يا "غدير"؟!




- كلا "عمر"، أرجوك.. صاحت بذل.


- أليس كذلك يا "غدير"؟! صرخ بشراسة.


- عمــــــــــــر!!


وأخذت تنتحب بمرارة وهي تركع على الأرض....


==========



أأذهب إليه أم لا؟!



"ناصر" لم يعد بعد، لم يبالي بي، خرج من الظهيرة ولم يتصل حتى!!


ثم لم أنا مترددة!! سأجري فحوصاً ليس إلا، هو طبيب وأنا بمثابة المريضة!!!


ثم أنا امرأة متزوجة و أعرف حدودي جيداً وهو يعرف ذلك، ولا تنسوا أني زوجة أخيه....



ولكن...



لا أدري لم لا أشعر بالراحة معه!!


إن به شيئاً غريباً، ربما تلك النظرة في عينيه، أو ابتسامته الغامضة...



كلا، هذه تخاريف، لا بد أنني أتوهم، ثم كان يبدو غير متحمساً عندما طلبت منه إعادة إجراء الفحوص...



وزفرت وهي تتحرك في غرفتها بضيق...



"ناصر" ليس معي، والوقتُ ليل ....



قولوا لي، أرشدوني:



أأذهب إليه أم لا؟!



==========



رفعت رأسها بضعف وهي تطالع المكان...


أين هي الآن؟! وفي أيَّ يوم وأي ساعة؟!


وأمسكت رأسها وهي تشعر بألم فظيع يدبُّ في أوصالها...


أنهضت نفسها بصعوبة و هي تتلمس مفتاح الإنارة لعلها تضيء شيئاً من عتمة المكان..


وتغلغل النور الخافت إلى أعماقها فذكرته!!


أصاغت السمع لعلها تجد له أثراً، أتراهُ لازال هنا، ألازال يقظاً؟!!


لم لا تصدقني يا "عمر"، لم لا تسمعني...


وانسابت دمعة حارة من عينيها الذابلتان وهي تُسند نفسها بالباب...


بقائي هنا جنون، سيقتلني بلا شك...


لابد أن أخرج من هنا حتى يهدأ، حتى يعرف الحقيقة..


ولكن إلى أين؟!


إلى أمي؟!


سيكون زوجها هناك...


أأذهب إلى خالي؟!


سيعود "عمر" ويُعيدني من جديد، كلا، كلا، خالي سيقف بجانبي ويحميني....


مِن من؟! من عمر!!


أجل، ليس وهو بهذه الحالة، يبدو مخيفاً...


وسحبت خمارها وهي تُطفئ نور غرفتها من جديد..


ماذا لو كان بالخارج ينتظرني؟!


وهمت بخلع خمارها لكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة..


"لا بد أن أغامر، في كلتا الحالتين أنا هالكة لا محالة"...


- يا رب ساعدني. رددت بحرارة.


وأمسكت إكرة الباب بيدٍ ترتعش..


فتحت الباب ببطء، ببطءٍ شديد ويدها الأخرى تمسك بالمفتاح الذي كاد ينزلق من رجفة أصابعها..


الصمت والظلام مخيمان حول المكان فاسترقت النظر لغرفته، كانت موصدة...



تحركت على أطراف أصابعها وهي تتلفت حولها كل حين و فجأة تعثرت بثنية السجادة فندت من فمها صيحة مبتورة...


وتخيلته يأتي ويراها وقد سمع صوتها فخفق قلبها بزيغ وهي تحاول النهوض لكن دون جدوى..


يا لغدر الحواس!!


وأنّت بصوتٍ منخفض و هي ترى خياله يتراءى لها قادماً من المطبخ..


هذا ليس هو، إنهُ ليس "عمر"، ليس هو أسمعتم!!



كان ممسكاً في يده كوب ماء وهو يتأملها بعبوس، ازدرده في جرعة واحدة ثم وضعه على الطاولة التي تتوسط الصالة الكبيرة...


تقدم منها دون أن يرفع بصره عنها وهي تزداد انكماشاً، مدّ يده إليها فرفعت يدها نحو صدغها بذعر وهي تهز رأسها و تتحاشى النظر في وجهه..


أحنى جذعه وأمسكها من كتفيها بقوة لينهضها وهي تستميت بالابتعاد...


- تريدين أن تهربي؟! سألها بسخرية.


ولوى ذراعها وهو يجذبها نحوه فصرخت من الألم...


- أين كنتِ ستفرين؟! إليه؟!!


- إلى بيت خالي أقسمُ لك بالله. ردت بإرتجاف.


- مشكلتكِ أنكِ لا تجيدين الكذب، ومن كان سيوصلك إلى هناك؟!


- كنتُ سأتصل لندى، ذراعي تؤلمني، ارحمني أرجوك.. وأخذت تنتحب بصوتٍ مرتفع.


- لم تري شيئاً بعد!!


وأفلتها بإزدراء فترنحت وهي تمسك يدها بوهن...


بكت بصوتٍ متقطع:


- إذا كنت لا تثق بي طلقني.


- أطلقك وبهذه السهولة!! يا لوقاحتك!!


- ماذا؟! ستضربني؟! سألت بجزع.


وتطلع إلى شفتيها المرتعشتين ثم ردّ بقسوة لاذعة:


- في هذه أنتِ مخطئة، عظامك الرقيقة غالية علي!! أم نسيتِ أني دفعتُ فيكِ مهراً غالياً!!



- .............................


وشدها من شعرها وهو يجذبها إليه فارتفع صوت بكاءها وهي تحاول التملص منه..


قال بصوتٍ كظيم:


- كان عليكِ أن تخافي وتفكري ألف مرة قبل أن تفعلي ما فعلتِه..


- أنا لم أفعل شيئاً أقسمُ لك.. صاحت بلوعة من بين دموعها.


- كل هذا ولم تفعلي شيئاً بعد؟!


- سأخبرك بكل شيئ، فقط اصبر علي قليلاً..


- اصبر عليكِ؟! وماذا كنتُ أفعل طوال الوقت!!! وصرخ في وجهها فانتفضت في مكانها.



- أنت لا تعرف أنا.....


- أصص. وضع أصبعه على فمه وهو يُكمل بصوتٍ واطئ:


- لا أريد أن أسمع صوتك، اذهبي إلى الغرفة الآن..


هزت رأسها بجنون كأنها تفرُّ من الجحيم...


وما كانت إلا خطوة حتى قبض على عنقها فصرخت من جديد....



- أين تذهبين يا صغيرتي، ليس إلى هنا، بل هناك!!



وتطلعت إلى حيثُ أشار بيده...



وجمت حركتها، توقفت صرختها، لم يُسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة...



نظرت إليه برعب، وقد بدا وجهها شاحباً مائلاً للبياض..


صاحت بصوتٍ مبحوح:


- عمر، لا، أرجوك..


- أتظنينني مغفلاً؟!



- أنا لم أفعل شيئاً، لم أفعل شيئاً. رددت بجنون.


- لا بد أن أتأكد.


- كلاااااااااا.


- بل نعم..



و جرها من ذراعها بقسوة، تلك التي كانت تتشبث بإستماتة بقدميه، بأي شيء وإن كانت قشة في الهواء!!!





الروح تُنازع، تكاد تُفلت من الجسد، ذلك الجسد المضمخ بالجراحات...


جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!



واخترق الفضاء صرخة مبحوحة اختزنت في جوفها الأمس واليوم والماضي!!!



كلا، كلا لم تكن صرخة، بل حشرجة، أجل، حشرجة إنسان ذبيح، سُلبت روحه ليس اليوم، بل منذُ سنين، حين كان بريئاً وعيناهُ مغمضتان...



حين كانت طفلة بجديلتين تتراقصان وهي تقفز لأعلى وتضحك....


تضحك!!!


لمَ، لمَ، لمَ؟!!



ولكن أنى للفراشات أن تعي أن لهيب الشمع يؤذيها!!!

عاشقة الكتب 24-05-07 06:46 PM


(21)



وانتفضت في مكانها وهي تحاول أن تبعد الأيدي التي تريد الإمساك بها...


- كلاااااااااااااااااااااا، ابعدوه، أنا لا أريده، لا أريده. صرخت بهستيرية.


- اهدئي يا ابنتي، "عمر" ليس هنا.


- أبي لم يكن هنا، أنا لا أحب اللعب، لا أحبه..


- اذهبي ونادي الممرضة، بسرعة.. صاح بابنته بجزع.






وأحمل معولي لأحرث في ثرى الأيام...


لأنبش الماضي وأبحث عن حاضري..


أين الزهور، أين الجذور، أين البذور؟!


أين أنا وأين التراب!!


سأبني محرابي بنفسي وأهيل التراب على لحدي...


وألقي بنفسي هناك في الحفرة، في القاع حيث لا أحد، لا أحد على الإطلاق...


دعوني..


أتركوني..


أو..


دثروني!!


ها هو السراب قادمٌ إلي


يريد أن يحتويني

يمتصني


فأظل أنا دون بذور دون جذور بلا أزهار...




وانسابت دمعة حارة من عينيها المغمضتين بقوة والممرضة تسحب الإبرة المغروزة من ذراعها...


وقبل أن تستدر خاطبت الشخصان الموجودان بالغرفة:


- المريضة بحاجة للراحة أرجوكم، الإنفعال ليس جيداً لها فالزموا الهدوء..


وابتعدت بخطواتها الجامدة وهي تُغلق الباب خلفها بخفوت...


دفنت "ندى" رأسها في حُجرها وهي تشدُّ على الغطاء...


خاطبتها بصوتٍ هامس:


- سامحيني، سامحيني يا "غدير"..


وأشاحت تلك الأخيرة بوجهها للجانب الآخر بصمت وعيناها لا تتوقفان عن الذرف...


وتقدم الأب قليلاً فكفت "ندى" عن الكلام، قال بصوتٍ خافت كأنهُ يخاطب نفسه:


- لا حول ولا قوة إلا بالله، لو أعلم فقط ماذا حدث!!


ثم أردف لابنته:


- هيا معي، دعيها ترتاح.


- كلا، سأبقى ربما تحتاج لشيء. ردت بتهدج.


- أنتِ لن تبقي صامتة و لن تلبث أن تنفعل كما حدث منذُ ساعات.


- أعدك سأبقى ساكنة...


تنهد الأب بأسى وهو يُلقي عليها نظرة أخيرة..


لازال وجهها شاحباً وآثار الدموع تلمعُ في أطراف أهدابها المسبلة و قد اتخذت لها مجراً متعرجاً على خديها، وشفتاها لا تكفان عن التحرك لكأنها تود أن تقول شيئاً لأحد لكنها لا تلبث أن تصمت...


وشيعها وابنته وهو يوصيها فهزت الأخيرة رأسها أن اطمأن...


يطمأن!!!


==========



اخرسوا لا أريد أن أسمع كلمة، أي كلمة!!



تلك ال****ة، تلك الساقطة، تلك كانت زوجتي!!


زوجتي أنا!!!


قسماً لن أبقيها حية، سأقتلها، فنائها بيدي هاتين...



و غرز أصابعه في شعره وهو منكسٌ رأسه للأرض...



بدت الأرضية البيضاء مظلمة في عينيه..




كم توسلتني، كم تشبثت بقدمي وهي تنتحب و تقسم لي بأغلظ الأيمان بأن أتركها وستخبرني بكل شيء....


و كدتُ أنا المغفل أن أرضخ لها وأستمر في العيش في الظلمة، في الضلال!!


لكنني لم أقبل، لم أزد إلا إمعاناً في إذلالها، الغضب كان يعميني، يُعمي بصيرتي و يصمُّ أذناي، كلا، لم يكن الغضب فقط بل كان الخوف!!



أجل خفت أن تصدمني، أن تقول لي من جديد أنها تحب رجلاً كما فعلت أول مرة، أن تؤكد لي ذلك بعد أن حاولت تناسيه، وأنا لا أتحمل جرحاً آخر، لا أتحمل طعنةً أخرى في القلب!!



و ليتني عشتُ في الوهم الأول، ليتني لم أعرف، وليت الطنعة رضت بأن تستقر في القلب وحده، كانت في شرفي، كرامتي أنا!!

وانهارت...



انهارت كالمجنونة....


لكن لا شيء يشفع لها عندي، أين ستفلت مني، أنا قاتلها لا محالة!!



ولاحت له قدمان تنتصبان أمامه، ولأنه يعرفهما جيداً فلم يرفع رأسه..


وخيم الصمت بينهما لكن "عمر" قطعه وهو يتساءل بسخرية قاسية:


- كيف حالها؟!


"أما زالت حية؟!"


- بخير. ردّ بإقتضاب.



ثم زفر وهو يخاطبه بغضبٍ كامن احتدّ في صدره:


- تركتها أمانة لديك ووعدتني بأن تضعها في عينيك وهذا مآلها!!


- ......................


- لا أدري كيف انقلب حالكما فجأة!!


- ......................


- هي لا تتكلم وأنت لا تتكلم، بالله عليك كيف ستُحل مشكلتكما!!


- ....................


وتطلع له الأب بنفاذ صبر وهو يردف:




- اسمع هي مصرة على الطلاق الآن، ليس على فمها إلا هذه الكلمة، الفتاة ترتعد من مجرد ذكر اسمك، وإن استمرت في ذلك فسأضطر إلى الوقوف بجانبها..


- ......................



- أجل، صحتها أهم شيء بالنسبة لي، لن أعذب هذه اليتيمة بسببك حتى وإن كنت ابني.


نهض "عمر" من مقعده بتثاقل وهو يرد ببرود:


- اعذرني يا أبي أطيعك في كل شيء إلا هذا، طلاق ولن أطلقها، و قل لها ذلك..


"ليس الآن يا غدير، ليس الآن!!"


و أكمل طريقه منصرفاً وما أن وصل خارج المستشفى حتى استند على سيارته بتعب!!



=============



- كيف أصبحت الآن؟!


- ...................


- الحمد لله، اتصلي بي بين الفينة والأخرى لتطمأنينا..


وأغلق "ناصر" هاتفه وهو يلتفت لزوجته الراقدة في فراشها...


تنهد وهو يخاطبها بوجوم:


- مسكينة هذه الفتاة، المصائب تلاحقها أينما كانت..



وأتاه صوت "شيماء" ضعيفاً لا يكاد يُسمع:


- ماذا بها؟! متعبة في حملها!!


- إنها ليست حاملاً البتة، لقد أكدت لي "ندى" ذلك...


- ليست حاملاً؟!


ولم تسمع بقية ما قاله، أغمضت عينيها بألم وهي تحاول أن تشد الدثار علّها تصمُّ آذانها، أو ربما لتحجب صوراً لا تفتأ أن تطفو أمام عينيها اللتان لم تذوقا النوم أبداً، أبداً!!


و انتابتها رجفة فلم تستطع أن تُكمل الشد...


اقترب منها "ناصر" وهو يُدني لها الدثار:


- ماذا بكِ؟! أأنتِ مريضة؟!


وخفت الصوت أكثر من ذي قبل:


- أنا لستُ مريضة، ليس بي شيء..


ووضع يده على جبينها وهو يقول بخوف:


- أنتِ في طور حمى!!


وسرعان ما أبعدت يده بنفور:


- قلتُ لك ليس بي شيء..



ودفنت وجهها في الوسادة لتخبئ نفسها..


لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئه البتة!!


"كان كابوساً، أنا متأكدة".. رددت في نفسها بأنفاسٍ محمومة.


- تريدين أن أذهب بكِ إلى الطبيب؟! عاد ليسألها بقلق.


- لا أريد أن أرى طبيباً، أنا أكرههم، أكرههم كلهم، اتركني لوحدي الآن أرجوك..


و أنّت بصمت وهو يطالعها بوجل..


مسح على شعرها برفق فحركت رأسها بضيق:


- كيف أتركك وأنتِ بهذه الحالة؟!


- سأنام وأكون بخير...


و غطاها جيداً وهو يتنهد، وقبل أن ينصرف أطفأ المصابيح....



"البارحة لم يحدث شيء، لم يحدث شيء، أليس كذلك؟!


لم يحدث شيء"...


وانتابتها الغصة فرفعت أناملها المرتجفة إلى شفتيها لتمنع شهقتها المكتومة...



==========


- يمكنك أن تنصرفي الآن إذا شئتِ، لم يتبق على انتهاء الدوام إلا ربع ساعة..


- كلا، شكراً، سأُكمل هذا أولاً.. ردت "ندى" بخفوت.



و تطلع لها بتمعن و هي منهمكة في الكتابة...


لقد تغيرت كثيراً، باتت أكثر هدوءاً و أكثر شروداً!!!


لم تعد تعانده كالسابق، بل أصبحت تبادر للعمل قبل أن يطلب منها ذلك..


وهذه النظرة الحزينة التي تعلو عينيها بين الفين والآخرة، ما سببها يا تُرى!!


كيف تغيرت هكذا؟!!


وعاد لعمله هو الآخر، لكن رنين الجوال المتصل قطعه..


والتفت إليها بتساؤل..


كان القلم يهتزُّ بين يديها و موسيقى هاتفها لا تتوقف، لكأنها مصرة على أن يسكتها أحدهم، لكن يبدو أن صاحبته لا ترضى بذلك!!


وتوقف الهاتف عن رنينه بعد إلحاح فأفلتت القلم و كأنها أزاحت حِملاً كان ينوء على صدرها..


ورفعت بصرها بلا شعور فالتقت بعيناه...


كان ينظر لها بحيرة...


- عودي إلى منزلك إن كنتِ متعبة..


وهزت رأسها نافية ببطء..


- الساعة الآن التاسعة تماماً!!


- لم أنهي ما بيدي بعد.. عللت بتباكِ.


- أنهيه في الغد، لا مشكلة.


- لا أريـد أن أعود الآن أرجوك.. توسلته بغصة.


وعادت لتهز رأسها وهي تُردف بإختناق:


- إنها لا تتوقف عن البكاء أبداً، تتظاهر بالنوم لكني أسمعها..


- ..................


- أنا لم أكن أقصد، صدقني، لم أكن أقصد أن أفسد حياتهما..


- .............


- والآن سيتطلقان بسببي، بسببي أنا..


وأجهشت بالبكاء و هي تضع رأسها على الطاولة....


و بقي في حيرته لدقائق عديدة دون أن يعي شيئاً مما تقول..


و نهض أخيراً من مقعده بعد أن أخرج شيئاً من درج المكتب..


تقدم منها ووضعه على الطاولة:


- خذي هذا مفتاح احتياطي للباب الخارجي للقسم، ابقي هنا متى انتهيتِ و إن كنتُ أفضل أن ترجعي لمنزلك فالوقت متأخر بعض الشيء...



رفعت رأسها فرأته يبتسم له ابتسامةً صغيرة مطمئنة فنظرت له بإمتنان، و لكن سرعان ما كسا وجهه بتعابير جامدة قبل أن يقول مودعاً:


- مع السلامة، وانتبهي لنفسك..



==========



- ماذا تفعل؟!


- كما ترى، أجمعُ أغراضي.. ردّ "وليد" بهدوء.


- ستسافر؟!


- أجل، قريباً، لا بد أن أستعد للعام الجديد، تعلم لم يبقى شيء على التخرج.


وابتسم في وجهه ثم عاد ليغلق إحدى العلب باللاصق...


- "وليد" أريد أن أستشيرك بشأن زوجتي..


وتوقف حينها عن الحركة وانمحت ابتسامته عن شفتيه:


- ماذا بها؟! سأل بقلق.


- موضوع الحمل قد أثر عليها بشكلٍ كبير، حالتها النفسية تتردى في إزدياد.


- وماذا تريد مني بالضبط؟! سأله و هو يُكمل اللصق.


- أريدُ منك النصيحة..


- انتظرا، فليس بكما شيء كما ذكرت لي من قبل..


- أنا لستُ مستعجلاً البتة، لكنها هي، وأنا أخافُ عليها من كثرة التفكير..


- قل لها في العجلة الندامة!! وابتسم بتهكم.


- والحل؟!


- بإمكاني أن أُعطيك أسماء بعض الأطباء الجيدين!!


ثم تابع بلا مبالاة:


- و إذا أردتما أن تخضعا لفحوصاتي من جديد، فليس لديّ مانع!!


ومرر "ناصر" يده على جبهته بتعب وهو يعلق بشرود:


- أجل، من أجلها...



==========



كانت جالسة على الأرض...


عيناها تطالعان السقف بإنكسار و هي تتمتم بصوتٍ خافت كأنها تخاطب نفسها...


و صدت لتنظر للأرضية و هي تحرك أصبعها على شكل دائرة استماتت في إغلاقها لكن دون جدوى!!


وولجت "ندى" إلى الداخل بعد أن طرقت الباب عدة مرات كي لا تجفل....


جلست إلى جانبها كعادتها و هي تبعد خصلات شعرها المتناثرة بإهمال عن وجهها..


كفت "غدير" عن الرسم و عادت لتطالعها بتلك العينين...


فيهما ذاك التساؤل القديم، ذاك السؤال الذي لم تجد له إجابة حتى الآن...


أشاحت "ندى" وجهها بضيق دون أن تحر جواباً...


وتحركت شفتيها بإرتعاش وهي تسألها:


- ألم يقل له خالي؟!


- بلى قال له... أجابت بعد طول صمت.


- وماذا أجاب؟!


- ........................


و وضعت يدها على كتفها وهي تهزها بضعف:


- لن يطلقني؟! سألتها بإرتجاف.

- اهدئي يا "غدير" كل شيء سيحل بإذن الله.. ردت بتباكٍ.


- أنتِ لا تفهمين، "عمر" سيقتلني، سيقتلني..كررت بإنفعال.


- "عمر" يحبك و...


قاطعتها وهي تهزُّ رأسها ببطء:


- لكن لا، سيطلقني، المحكمة الجعفرية ستطلقني رغماً عنه، أليس كذلك؟!



- زواجنا تم في المحكمة السنية!! و إن كنتِ لا تعرفين، لا بد أن تقدمي طلبكِ هناك وأنتِ شيعية المذهب لن يطلقوك ولا حتى في أحلامك!!


و تدفق الصوت بارداً، قاسياً، قد تطاير منهُ الشرر...


التفتت "ندى" لأخيها بوجل...



كان واقفاً عند الباب وهو عاقدٌ ذراعيه وفي عينيه نظرة غامضة، سحيقة، لا قرار لها...


أنهضت نفسها من على الأرض و هي تخاطبه بتوسل:


- "عمر" أرجوك...


- أريد أن أتحدث معها لوحدنا لو سمحتِ..


- لا تعاتبها، إنها لازالت مريضة..


- اخرجي من الغرفة الآن..


- أنا السبب، أنا من أخطأ و ليس هي.


- قلتُ لكِ اخرجي وأغلقي الباب خلفك.. صرخ بغضب.



و تطلعت إليها بغصة...


كانت تنظر للحائط بإستسلام، بهدوء وكأنها فقدت الأمل في أن تعيش...


كل شيء تعطل فيها عدا صدرها الذي كان يعلو و يهبط بسرعة...


هرعت "ندى" من الغرفة ودموعها تسبقها..


"كيف أصبحت قاسياً هكذا يا "عمر"، كيف؟!!"


وأُغلق الباب...


سمعت خطواته تقترب منها فأغمضت عينيها بقوة وهي تعصرهما عصراً..



وأحست بظله يسقط عليها من علو و يقف ساكناً فيوقف بقايا أنفاسها المتلاشية عن الوجود...


و ما هي إلا برهة حتى شعرت بأصابعه تلامس كتفها فاهتزّ جسدها بعنف..


علّق بصوتٍ ساخر:


- لا تخافي، لن أوسخ يدي بقذرة مثلك..


- ..................


و استمر في سخريته:


- كيف حالكِ الآن؟! يقولون أنكِ مريضة؟!


- ....................


- ممَ يا ترى؟! لا تقولي لي أنكِ صُدمتِ مثلي بالإكتشاف العظيم!!


وانقلبت سحنته فجأة و تقلص فمه في غضبٍ هادر و أردف بصوتٍ مكبوت:


- بودي أن أعرف و أتمنى لو تتكرمي علي بالإجابة علّكِ تشفين غليلي ولو قليلاً..


- ......................


- أكان ذلك قبل أن آخذك أم بعده؟!


و أخذت تأن بصوتٍ خافت وهي تحاول أن تبتعد عنه لكن هيهات..


- وسؤال آخر لكِ يا سيدتي، وأريد الإجابة على كليهما مرةً واحدة لو تفضلتِ، كي تكون الضربة واحدة هنا ...


و ضرب على قلبه بقوة وهو يردف:


- قاضية، لا أريدها على جرعاتٍ أبداً...


نظرت إليه بألم و هي تنشج بالبكاء...


- أكان ذلك من تحبينه؟!


أسندت رأسها على حافة السرير و روحها تكاد تزهق..


ولم يمهلها لتلتقط أنفاسها، لتستوعب وطأ أسئلته، ما خلفته من دمار...



أمسكها من كتفيها وهو يجبرها على النظر في وجهه..


- أجيبيني يا ابنة عمتي، أيتها الزوجة المصون!! صاح بمرارة.


و تحركت شفتيها بإرتعاش وهي تهمس بصوتٍ مبحوح، بصوتٍ متقطع، لا يكاد يُسمع:


- لا تعذب نفسك و تعذبني أرجوك..


وغاب صوتها، انقطع وهو يُفلتها بإزدراء..



- ومن قال لكِ أنّي أتعذب، أنتِ لا شيء بالنسبة لي، أنتِ مجرد ساقطة، قذرة، ****ة.. صاح بغضب.


وانسابت دموعها بحرارة و ظهرها يكاد ينفصم من شدة انحناءها...


الطعنات تتوالى، تتغلغل إلى الروح، وتصرعه أرضاً بلا هوادة...


- ألن تجيبي؟!


- ..................


- أنتِ لا تريدين أن أفعل شيئاً يؤذيكِ أليس كذلك؟!


واهتزّ كتفاها بشدة وهي تبكي بصوتٍ مخنوق...


- ألن تجيبي؟! صرخ بصوتٍ عال و هو يشدها من شعرها...


رفعت رأسها إليه وهي تشهق:


- اقتلني إن كان يريحك هذا، لكن لا تعذبني أرجوك..


- أتصدقين كنتُ سأرتكب فيكِ جريمة لكني اكتشفت أنكِ لا تستحقين..


- ....................


- و كان بإمكاني أن أفضحك لكني لم أفعل، اسأليني لم؟!


- ......................


- اسأليني لمَ؟! صاح في وجهها.


- لمَ، لم، لم؟! كررت خلفه بهستيرية.


- ليس من أجلك البتة، فأنتِ أحقر من أن أتستر عليها، بل من أجل والدي، من أجل اسمه الذي طالما كان نظيفاً يا نظيفة!!


الروح تُستنزف، لم يبقى على خروجها شيء، الكلمات كنصل السكين بل أحدُّ سناً، والجرح، الجرح أعمق من أن يتصدع...



أردف ببطء وهو ينظر لها بثبات:



- أتعرفين ماذا نفعل بالزوجات الخائنات؟!



ورفعت يدها المرتجفة بجانب فمها و هي تهز رأسها بذعر، لكنه سرعان ما أمسكها من معصمها بعنف....



- قلتُ لكِ أنتِ أقذر من أن أمسّك. علق بإزدراء.


وأخذ يعبث بأصبعها البنصر حيثُ استقرّ خاتم الزواج!!


طالعته بهلع وهو يحرك الخاتم إلى أعلى ببطء ثم يُعيده إلى مكانه...



- أتعلمين لقد فكرتُ جيداً، وقلت لن أستفيد شيئاً بإبقاءك على ذمتي، لن أجني إلا تلويث سمعتي، و ما دام الكل ينالك فما المشكلة!!



- ......................


وشدها نحوه و هو يهمس في أذنيها:



- عزيزتي، أنتِ طالــــــــــــــــــق..

(22)



لا بأس، لا بأس!!!


رددت بهمس و هي تضع يدها على عمود السرير و تُنهض نفسها التي ترنو للأرض كل حين...

كل شيء انتهى الآن، لم يعد هنالك مزيد من الخوف، من الألم، من الضياع...


و جلست على فراشها و هي تمسح أنفها و تزيح شعرها المبلل عن وجهها بأناملها المرتجفة...



لقد كان لكِ ما شئته أخيراً...


ها أنتِ حرة، طليقة، مُطلقة!!!




ليذهب، كان سيذهب في كل الأحوال، كنتُ أعرف ذلك..


ولقد حاولت بشتى الطرق أن أعجل ذهابه، لكنهُ لم يستمع لي لا قبلاً و لا الآن...


لا بأس قلتُ لكم لا بأس...


ما عاد ينفع الكلام الآن، هذا أفضل له، أنا لا فائدة مني، لا فائدة أبداً!!


لقد نفذ الغدير، ماج وارتحل في القاع، لم يبقى منه إلا بقعةً ضحلة كسراب الظمآن...


غداً سينسى كل شيء و ينساني..


من أجله، لا بد أن ينساني، لا بد...


أما أنا فسأُخفي ذكراه في قلبي، سأدسه بين وجيبي، لن أريه أحداً أبداً...


لا ضرر من ألا أنساه، أليس كذلك؟!


لم يقولوا هذا حراماً، ليس مثل اللعب البتة صدقوني!!



أنا لم أشأ أن أجرحك، جرحك يعذبني، يُلقيني في جهنم!!


تخالني لا أفهمك، لا أفهم عيناك، أنا أراك شخصك كله خلالهما..


عيناك التي لن تجيب عن سؤالي عنهما أبداً!!!


العذاب كل العذاب ينضح منهما، لكنني لم أشأ ذلك...


ليس بيدي يا "عمر"، ليس بيدي...


لكنك لم تفهمني يوماً ولم تسمعني...


اذهب و لا تعد هنا مجدداً...


أنساني وأكرهني بكل جوارحك، بلا حدود و سأظل أحبك أنا حتى النهاية يا "عمر"، حتى النهاية...



لا أريد العودة إليك أبداً، أريد أن أبقى لوحدي، لوحدي فقط...


تعبت من الشك، من الغيرة، من ذكريات الأمس..


في البعيد أحبك أفضل، دائماً أفضل بكثير..


و لا أجد في قربك إلا الخوف...


أخافك حين ترفع يدك و حين تمدها إلي لتضمني إلى صدرك!!!


أحبه و أخافه!!


أيُّ مفارقةٍ عجيبة تلك التي أعيشها!!


لا بأس قلتُ لكم لا بأس..


لا محلّ لي الآن هنا ما دام يحمل أثرك...


ما دمت يوماً كنت تقطن في الغرفة بجواري!!!


ألم أقل لك أنا "غدير" و أنت "عمر"...


وقد عجز التاريخ أن يقربهما، فكيف أنا و أنت بنو البشر؟!!


انساني يا "عمر" انساني...


حتى لو اضطررت أن أجعلك تكرهني كالموت، لا بد من ذلك، من أجلك وحدك...


كي تعيش أيها المُحب الأحمق!!


كل شيء انتهى، إذن كل شيء على ما يُرام، أليس كذلك؟!


و سمعت ضجة في الخارج فالتفتت نحو الباب...


كانت واقفة هناك و هي تمسح دموعها الحارة بإنسياب...


ابتسمت ابتسامةً صغيرة في وجهها و هي تقول:


- كل شيء حُلّ الآن!!

- إنه يتجادل في الخارج مع والدي الآن، يقول أنه سيسافر..


- لا بأس فليتزوج..


- سيسافر ولم يقل ستزوج!!


- سيان، كل شيء سيان.. ردت بصوتٍ لا روح فيه.



و تعالت الضجة، وسمعت صوت الأب يهدر بقوة:


- أجننت؟! يبدو أنك فقدت عقلك!!


- صدقني لم أكن عاقلاً كاليوم..


- لمَ الآن؟! ألم تكن رافضاً من قبل..


- كنتُ أنتظرها تتعافى، خفتُ أن تنتكس من جديد!! صاح بسخرية.


"أو ربما لأحفر صورتها في عيني قبل الرحيل، تلك الخائنة"..


- لمَ يا ابني فعلت ذلك، لمَ تعجلت، كنتُ أمني النفس بأن تتصالحا.. علق بحزنٍ مرير.


- هذا لصالحها، صدقني ستشكرني على ذلك..


"لأنها لو بقيت على ذمتي ما كانت لتعيش أكثر من دقائق!!"..


وقبل أن يستدر قال و كأنه تذكر شيئاً:


- وخذها مني نصيحة يا والدي، لا تدعها تخرج بمفردها أبداً، عيال الحرام كثيرون!!


وسمعت صوت شيء يتحطم على الأرض...


قالت بضعف و جسدها يهتز بصمت:


- أغلقي الباب أرجوكِ، أريدُ أن أنام، لم أنم منذُ سنين!!




=========



- ماذا تقول؟؟! صاحت فيه دون تصديق.


- أهذا ما كنتِ تريدينه؟! وأمسك يدها ليهدئها لكنها سرعان ما سحبتها و هي تصرخ فيه بعصبية.


- أنت جبان، نذل، ****!!


- أجننتي؟! صاح فيها وهو يهزها بقوة لتثيب إلى رشدها..



و هدأت قليلاً و هي تطالعه و كأنها انتبهت له و لنفسها للمرة الأولى..


رفعت يديها إلى صدغها و هي تنظر له بغصة وشفتاها ترتعشان:


- أنت السبب، أنت السبب..


- ماذا فعلتُ لكِ؟ سألها "ناصر" بيأس.


- تركتني لوحدي ولم تعد...


و أردفت "شيماء" بتقطع:


- لماذا فعلت بي ذلك؟!


واهتزّ جسدها و هي تنشج بخفوت...


تطلع لها بحيرة دون أن يفقه شيئاً...


ماذا جرى لها؟!


أكل هذا من أجل طفل؟!


ستفقد عقلها من أجل طفل!!


- قولي لي ماذا تريدين بالضبط، فقط لا تعذبيني و تعذبي نفسك أرجوكِ.. خاطبها بتوسل.


هزت رأسها و هي تتراجع للوراء:


- لا أريد شيئاً، لم أعد أريدُ شيئاً، لا شيء..


- أأنتِ متأكدة؟! ألا تريدين أن تراجعي الطبيب؟!



و تشنجت حواسها و هي تحرك أصبعها في الهواء نافيةً و تصرخ بهستيرية:



- لا تذكر لي اسمهم، كلهم شياطين، كل الأطباء شياطين، أنا أكرههم كلهم..



وغطت وجهها و هي تلقي بنفسها على أقرب مقعد و تبكي بصوتٍ مرتفع...


خرج "ناصر" من الغرفة من فوره..


شظاياها تنغرز في قلبه، تُحيله إلى رماد...


منظرها أفظع من أن يتحمله، و صوتها، صوتها في الليل حين تهذي يقطعه، يُحيل لياليه إلى كوابيس سرمدية..


أيُّ زوجةٍ تعسة صيرتها...


أكلُّ هذا من أجل طفل!!



========



- أنتِ تعلمين أن فترة تدريبك ستنقضي الأسبوع القادم...


صمتت دون أن تحر جواباً..


- أ..يمكنك أن تعودي منذُ الغد إلى مكتبك القديم مع زميلاتك.


رفعت رأسها بسرعة وهي تسأله بإندفاع:

- لماذا؟!

ردَّ ببطء:

- لم يعد هناك مبرر لبقائك فلقد أجدتِ العمل..


- لكنني أريد أن أبقى... معك!! ردت بهمس.


صمت و هو ينظر لها لمدة طويلة و هي منكسة رأسها، ثم قال بصوتٍ خالٍ من أي تعبير:


- الأفضل أن تعودي..


- هل أخطأتُ في شيء، هل ضايقتك!!


- ليس الموضوع هكذا يا آنسة...


- ماذا إذن؟!


- لم يتبقَ إلا أسبوع فقط!!


- وماذا يضيرك لو أتممت هذا الأسبوع معك!!


تنهد بضيق مغيراً وجهة الحديث:


- ألم تكوني تلحين علي بأن أُعيدك إلى مكانك..


- هذا كان قبلاً، قبل أن أعرفك، أما الآن فلا، أنا.....


- اسمعي، هذا الكلام السخيف لا أريد أن تكرريه، للأسف ظننتكِ كبرتِ و عقلتي لكنكِ لن تتغيري أبداً..


- إذا كان العقل سيبعدني عنك فأنا لا أريده!! صاحت.



- ألم تسمعي بمصطلح "الاستغناء عن الخدمات"، أنا أستغني عن خدماتك مشكوراً. أجاب بقسوة.


ثم أردف بصوتٍ أكثر حدة:


- لا فائدة من بقائك، أتفهمين!!



وعاد ليجلس على مكتبه بتثاقل دون أن ينظر ناحيتها...


نظرت إليه بعينيها الدامعتين خاطبته بعتاب دون أن يلتفت:


- جعلتني أعتادُ عليك ثم تريد أن تبعدني!!


- ..................



- أنا أكرهك، أكرهك، أتمنى ألا أراك أبداً...



وخرجت من المكتب و هي تمسح دموعها تاركةً حاجياتها تشهد على التذكار الأخير!!!



========



هبّت من نومها مذعورة و هي تتلفت يمنةً و يسرة بإرتياع...


مررت أناملها المرتجفة حول جبينها الذي يتصفد عرقاً وقد أخذ خافقها ينبض في عروقها بعنف..


تطلعت إلى "ناصر"، كان مغمضاً عينيه بقوة وقد تغضن جبينه..


مسّت كتفيه وهي تناديه بأنفاس متقطعة:


- نا..صر..نـ..اصر.


عاد جبينه ليتجعد أكثر و لم ينبس ببنت شفة..


- نا..صر إنه ينتظرني..


- عمن تتكلمين؟! سألها بتعاسة.


- الشيطان، ألا تعرفه!! صاحت بإستنكار و هي تقبض على عنقها بخوف.


- ......................


- إنهُ يقف خلف الباب. همست له بخفوت وشفتاها ترتجفان.


- لا يوجد أحد، كم مرة تأكدتُ لكِ من ذلك!! صاح بيأس.


- أصص اخرس كي لا يسمعك، أتريده أن يأتي إليك أنت الآخر!!



ولم يحتمل أكثر، فزَّ من مرقده و هو يضع يده على جبهتها..


- أنتي محمومة، حرارتك في ازدياد..


صاحت بلوعة وهي تهز رأسها:


- إإإياك، إإياك أن تشرب شيئاً، يجعلونك تنام!!


- انهضي لا بد أن أذهب بك إلى الطبيب.


وصرخت صرخةً عالية و هي تقاومه بهستيرية:


- لااااااا، طبيب لا.



و أفلت يدها و هو يمرر بصره بألم بين آثار خدوش أظافرها و بينها...


أخذت تطالعه هي الأخرى بعينين ذابلتين و هي تهزُّ رأسها...



- أنا لم أقصد..


- لا عليكِ. رد بلطف و هو يبتسم ابتسامةً باهتة.


غرزت أصابعها و هي تمسك حفنة من شعرها بقسوة...


- كل هذا منه، من الشيطان!!


- ..................


- لكنني لن أجعله ينتصر، عندما أراه سأقتله!! صاحت.



ثم أردفت و هي تضع أصابعها على فمها كأنها ستخبره بسر كي لا يسمعه أحد:


- لا تخبر أحداً، لا تخبرهم..


- ..................


- ما بالك تنظر إلي هكذا، أنت لا تصدقني!!


- ........................


- تخاله كابوساً، أتخالهُ هكذا؟! سألته بلهفة.



وشدت على قميصه وهي تصيح فيه بإصرار:


- أليس كذلك، قُل لي..


وغرقت في نوبة من البكاء الهستيري..


وضع يده على رأسها المدفون في الفراش بشرود..



سأجهز أوراقي لنسافر، لا يهم إن فصلوني، لا يُهم إن طُردت...


كل شيء لا يهم عداكِ أنتِ....


===========



وضعت يدها أمام وجهها لتحجب عنها نور الشمس الساطع في قلب السماء...


وجدت الباب مفتوحاً على غير العادة و ولجت إلى الداخل...


انتابتها رعدة، ليس من الجو، فهو أقيظ من أن يرسل رعدةً إلى جسدها النحيل، ولكن من تلك الرياح التي تصدرُ صوتاً كالعواء كل حين!!


أمسكت بالعلبة بتؤدة و هي تتفقد المكان بشجاعة..


ماذا سأخسر بعد؟!!


لاشيء!!


و تنهدت بعمق و هي تطرق الأماكن، كل الأماكن و كان آخرها غرفتها...



الغرفة خاوية، ليس منها فقط، بل خاوية من عروشها، من كل شيء!!!



أتراهم رحلوا!! تركوا المكان!!



كلا، كلا، مستحيل، كانت ستخبرني، أمي لن تتركني، لن تتركني هي الأخرى...



وأرادت أن تفتح فمها لتنادي عليها، لتزلزل أركان هذا البيت المتهدم، لكن صوتها اختنق، احتبس في حنجرتها، هي لم تعتد يوماً أن ترفع صوتها في هذا المكان...



و سقطت العلبة من يدها، تدحرجت على الأرض و تبعثر ما فيها و هي تسير كالخيال....


تراخت ركبتاها و استمرت في السير على الرمال حافية القدمين دون أن تشعر بلسعتها...


بدت غائبة عن الوجود و هي تتلفت حولها بضياع...


و تنفست الصعداء و هي تلمحها تنشر الغسيل على الحبل في الجانب الخلفي...


هناك حيثُ رأته يدخن سيجارته...


هناك حيثُ ابتدأت الشرارة الأولى و انقلبت حياتها!!


هرعت إليها و هي تطوقها من الخلف بلهفة، وأحست برعدتها تسري في جسدها كالتيار...


مدت الأم يدها ووضعتها على يدها الصغيرة دون أن تلتفت، لربما لتتأكد من هويتها، أو كي لا تفيق من حلم نسجهُ خيالها المتعب..


- أمي..نادتها بصوتٍ متهدج.


واستدارت لها دون أن تفلت يدها من قبضتها و هي تنظر لها دون تصديق..


مررت أنامل يدها الأخرى على وجهها النحيل لتتحسسه...


أهذه أنتِ فعلاً؟!!


و ضمتها إلى صدرها و قلبها يخفق بإضطراب، كأنفاسها اللامنتظمة، المنفلتة من حنجرة الزمن...



- سامحيني يا ابنتي، سامحيني.. قالت بغصة.


- لم يكن هذا ذنبك.


أبعدتها عنها و هي تقول بعزم الأمومة:


- سأذهب إليه وأخبره.


- لا فائدة يا أمي، إنهُ لن يسمع..


- سيسمعني أنا، رغماً عنه سيسمع، ما كان عليكِ أبداً أن تسكتي، كان عليكِ أن تخبريني و تخبريه..


- أقولُ لكِ لا فائدة، لقد سافر و لن يعود..


- لا يهم، سأنتظره ولو بعد مائة عام..


- لا جدوى يا أمي، لقد طلقني..


ودفنت رأسها في صدرها من جديد و هي تبكي بصمت...


- طلقكِ!! رددت بذهول.


- قلتُ له لم أفعل شيئاً لكنهُ لم يصدقني..


- طلقكِ!! كررت و هي تطالع وجه ابنتها بألم.


- أأنا قذرة يا أمي؟! سألتها بصوتٍ مبحوح.



صاحت بإرتياع و الغصات في جوفها تتلاحق:


- إياكِ أن تقولي هذا، أنتِ ابنتي، أنا من ربيتك بيدي هاتين، أنتِ أطهر مخلوقة على الأرض..


- إذن لم يعاقبني هكذا؟! أنا أحبه يا أمي..



و خنقتها الغصة و هي تعضُّ على شفتيها لتمنع شهقتها..


ثم أردفت بنشيج:


- أنا لا حظ لي، لا حظ لي..


ارتفع صدر الأم بإجهاد و هي تشعر بوخزات قوية في قلبها، في سويدائه...


ابعدتها عنها مرةً أخرى لعلها تلتقط أنفاسها..


صاحت بإختناق:


- أنا من أفسدتُ حياتك، أنا السبب...


- كلا، أنتِ لا ذنب لكِ.


- أنا أمك و كان علي أن أعرف..


ولطمت وجهها بعنف و هي تتراجع للوراء:


- أيُّ أمٍ أنا!! أنا لا أستحق..


- كلا أمي، لا تجعليني أندم بأني أخبرتك..



وأبعدت يديها عن وجهها و كادت تتهاوى لكنها أمسكتها في اللحظة الأخيرة..




- ادخلي لترتاحي، أنتِ متعبة..


- لا بد أن أنشر الثياب. ردت بأنفاس متهدجة.


- أنا سأنشرها بدلاً عنكِ..



ابتسمت في وجهها بوهن فأضاء، علقت بصوتٍ حالم:


- لا تتعبي نفسك، إنها ثياب لا يرتديها أحد..


رفعت "غدير" بصرها نحو قطع الملابس، كلها ملابسه!!


- "مجيد" أُلقي في السجن..


وعاد وجهها ليتقلص ببطء و هي تضع كفها ناحية قلبها بألم:


- لقد حطم زجاجة على أحدهم، و الصبي في حالة خطر..


و سمعتا صوت صفيرٍ عالٍ يقترب منهما قطع عليهما الحوار، التفتت "غدير" بسرعة ناحيته..


- أهلاً، أهلاً، كيف حالُ عروستنا الصغيرة!!


- ...................


- اممممم لا بأس بك وإن نحفتِ قليلاً!! ألا يطعمونكِ هناك؟!


- ..............


- إن شئتِ أن تعودي هنا فلا مانع، أمك الآن تشعر بالوحدة، كثيرٌ أن تفقد ابنها وابنتها في نفس الوقت، ألا ترين ذلك؟!


- ......................


ثم تقدم منها و هو يحني رأسه بخبث:


- وكيف حال زوجك؟!


رمقته بنظرة احتقار، كرهٍ عميق، بعمق جوف الأرض:


- لا تذكر زوجي على لسانك أيها القذر..


تقلص وجهه فجأة منصدماً من جرأتها، ثم ما لبث أن لانت ملامحه و هو ينطق بتشدقٍ ساخر:


- أين كان لسانُ القطةِ مختبأ طوال الوقت؟!


- لو تعلم كم تثير رؤيتك في نفسي الغثيان أيها ال****..شددت على الكلمة الأخيرة.


و رأته يهم برفع يده فابتعدت و هي تصيح بتهديد:


- إن مددت يدك ستندم، لا حق لك علي الآن فأنا...متزوجة!!


تطلع إليها بحقد و هو يردف بصوتٍ مصرور:


- أنتِ محقة، لكن ماذا عن هذه؟!


وصفع الأم الذاهلة عن الجميع صفعةً قوية أطاحتها على الأرض...


و دلف!!



تراخت ركبتاها فركعت على الأرض بجوارها...


- أمي، أمي.. هزتها من كتفيها وهي تناديها بصوتٍ مبحوح.


- ...............


- قومي معي، انهضي...


فتحت عينيها بضعف و هي تتمتم:


- لا... أقدر يا ابنتي..


- أتؤلمك كثيراً؟! سألتها بلهفة و هي تمرر أناملها على خدها المتغضن .


- كلا يا ابنتي. وابتسمت بوهن.


- سامحيني، سامحيني. خاطبتها بغصة.


و سكتت...


رفعت أصبعها إلى فمها و هي تخاطبها بعتابٍ قديم، بعمر السنواتِ الخوالي...


- أماه، لا يجدي السكوت، ألم تقولي ذلك؟!


اهتزّ جسدها بعنف و هي تردف بتقطع:


- أمي أتذكرين بدلة والدي، بدلته الرمادية، لا شك تذكرينها..


- ...................


- أراد "حميد" أن يرتديها، سمعته يسألكِ عنها..


ومسحت ما بين أنفها وهي تكمل:



- وسكتِ كعادتك، لكنني لم أرضى، لم أكن لأقبل بأن يرتدي ذاك ال**** شيئاً به رائحة والدي، مثله يلوثها أليس كذلك؟!


- ........................


- أنا من سرقتها، أنا من أخذتها من خزانة غرفتك..


- ....................


- لقد ضربك حينها، كنتِ تعلمين أني من أخذتها و سكتِ...


- ......................


- من منا من يسكت ها؟! صاحت فيها بعتاب.


وأجهشت بالبكاء وهي تنشيج بصوتٍ متقطع كنشيج الميازيب في مواسم المطر...


وبقيت هكذا على صدرها وهي تغرقها بدموعها....


رفعت عينيها الذاويتين وهي تتطلع لها بألم، خاطبتها بهمس:


- لا تذهبي أرجوكِ، لا تتركني..


- .....................


- لا تذهبي قبل أن تسامحيني، لا تذهبي.


- ....................




وأفاقت من يأسها وصاحت وهي تهزها من جديد بقوة..


- من سيبقى لي من بعدك، أأتيتم مرة أخرى، ألا تخشين الله؟!!



ثم قالت فجأة وكأنها تذكرت شيئاً:


- لقد جلبتُ لكِ وشاحاً، لقد صنعتهُ بنفسي، تعرفيني لطالما تفوقت في حصة "الكروشيه"..


- .................


- أتريدين أن تريه؟! لحظة، لحظة انتظريني..



و هرعت من مكانها على عجل و هي تجري حيثُ ألقت العلبة، أخذت تفتش عنها بعينين لا تريان حتى وجدتها....



و تعثرت في جريها فسقطت على الأرض، لكنها تحاملت على نفسها حتى وصلت إليها:


- انظري إليه يا أماه، أليس جميلاً، لونه أخضر كلون عينيه!!


- .........................


- لا تنظري إلي هكذا بعينكِ المفتوحتين، أعلم بأني كاذبة، أنا لا أستطيع نسيانه، لا أحتمل البعد عنه...


- ........................


- اصبري سأضعهُ عليكِ، ستصغرين عشرة أعوام كما كان أبي يقول لكِ ذلك...



و رفعت رأسها و هي تحاول تثبيته بإصرار رغم اهتزاز يدها...


- أرأيتِ كم تبدين جميلة..


- ...................


ثم أحاطت وجهها بيديها المرتجفتين وهي تخاطبها بصوتٍ خافت:


- أقلتِ لكِ من قبل أني أحبك، أنا أحبك يا أمي، أحبكِ كثيراً...


- .........................


- أعلم بأنكِ غاضبة مني، أنا أعلم بأني ابنة عاقة، لكنني سأتغير أقسمُ لكِ بذلك...


- ........................


- سأعمل وأُعيلك بنفسي و سنعيش سوياً، قدر الابنة كقدر أمها، كلانا ليس له حظ في هذه الدنيا، لذا لا بد أن نكون معاً...


- ......................


- ألا يعجبك كلامي، ما بالكِ تسكتين؟!


وضمتها إلى صدرها بقوة وهي تنتحب بصمت...


- غداً ستستيقظين أليس كذلك؟!


- .....................


عادت لتهزها بقوة وهي تصيح فيها:


- لا تموتي الآن، امسحي على شعري أولاً...


- ...................


ثم اقتربت منها و صرخت بهستيرية:


- امسحي عليه، هكذا يفعلون باليتامى أولاً..


- .........................



- أمااااااااااااااااااااه..



وشهقت شهقةً قوية كادت أن تخرج معها روحها....





الرياح في الخارج لازالت تعوي ربما لتصمّ الآذان عن صرختها.....

عاشقة الكتب 24-05-07 06:49 PM

(23)

" ما قبل الأخيـــــر "




- "ندى" انظري، شهاب!!



ابتسمت تلك الأخيرة ابتسامةً باهتة و هي تتابع ذلك الامتداد الطويل الذي ينثر ذراته البيضاء في السماء...


- ماذا ستتمنين؟! سألتها بحماس.


- ما عادت تجدي الأماني. ردت بغصة و هي تضع رأسها على كتفها..


- كلا، لا تفقدي الأمل، أنتِ من قال لي ذلك..


- لقد مرّ شهران، شهران يا "غدير".. ردت بمرارة.


- أعرفُ ذلك. ردت بخفوت و قد فارقتها الابتسامة.


عادت "ندى" لترفع رأسها لأعلى و كأنها تخاطب السماء:



- لقد نلتُ تقديراً مرتفعاً لديه، تصوري كتب لي توصية!!



- أليس هذا ما كنتِ تريدينه؟!


صاحت بألم:


- أنا لم أعد أبالي بذلك، أنا أريد...


و سكتت دون أن تنبس ببنت شفه...


احترمت "غدير" صمتها و شردت في خواطرها هي الأخرى...



و انتبهت لشيءٍ ما على الأرض فاحنت جذعها لتلتقطه و هي تقول لندى بخفة:



- ما رأيك أن نغير هذا الجو الكئيب، فالنتسوق اليوم أو نذهب للبحر أو...أو نزور متحف البحرين، أتصدقين لم أرى آثار بلادي قط!!


وضحكت بأريحية و هي تردف:


- أتعلمين سأتعلم السياقة، أجل لا بد لي من ذلك، وسأعود لمقاعد الدراسة، سأذهب للجامعة..


- ....................



ثم أردفت بغموض و كأنها تكلم نفسها:


- سأفعل كل شيء، كل شيء أريده، كل شيء حُرمت منه..


ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها و سحبت "ندى" من يدها و هي تخاطبها بمرح:



- حتى السينما إذا شئتِ سأذهبُ معكِ!!



- لقد تغيرتِ كثيراً يا "غدير".. طالعتها بإهتمام.


- أليس هذا أفضل؟!



و عبثت بشعرها الذي باتت أطرافه لا تتجاوز العُنق...



- لم أقصد شعرك القصير، لقد بتّ تشبهين الأولاد..


- و ماذا في ذلك، ليتني ولدتُ صبياً!


- لماذا؟!


- هكذا فقط!! ردت بفتور.


- ..................



- أتعلمين شيئاً سأصبغه أيضاً، أتخالين اللون النحاسي يناسبني؟!



- أجل لكن....



- لكن ماذا؟!


- ................


- لكن أمي لم تُكمل الأربعين، أهذا ما تودين قوله!!



- ......................




أشاحت بوجهها نحو قرص الشمس مُردفةً بخفوت:


- حين ذهبت ماتت "غدير" هي الأخرى، ، لم يعد لها وجود، وأنا لا أريد أن أذكرها، لا أريد...


- أنتِ تهربين من واقعك!!



- سمّه ما شئتِ، أنا لا أبالي.. ردت بإنفعال.



تأملتها "ندى"...


إنها لم ترتد حتى ثوب حداد على والدتها، فقط تكتفي بزيارتها في المقبرة بين الحين و الآخر....


لم تعد تسمع صوت بكاءها في الليل، بل تبقى معم الوقت صامتة، شاردة و قد تنتابها لحظات مرح مفاجأة كاليوم!!



إنها تبالي مهما أنكرت، مهما حاولت أن تصطنع الضحكة على شفتيها....


إنها تحاول أن تهرب فقط، و لكن إلى متى سيطولُ هروبها؟!!



سألتها "ندى" بلين مغيرةً وجهة الحديث:


- لم تقرري أين تريدين أن نذهب؟!


- نزور متحف البحرين. جارتها بإبتسامة صغيرة.


- و ماذا بعد؟!



غرزت أصبعها في خدها مفكرةً، ثم قالت بحماس:



- نذهب إلى الحديقة المائية...



- ثم ماذا؟!



- ثم، ثم نشتري اسكريماً كبيراً، بهذا الحجم، نلتهمه أنا و إياكِ و نحنُ نسير على البحر!!



- ثم ماذا؟! كررت بحماس هي الأخرى.



- بعد ذلك نعود للمنزل..



وضحكت الفتاتان معاً...




- صه، هذا صوتُ والدي يُنادي..


- حسناً سأذهب إليه.



- ناداني أنا و لم يقل "غدير"!! و مدت لها لسانها لتغيظها.



- أعرفك تغارين مني لأن خالي يحبني أكثر منكِ..



- هذا في أحلامك فقط..




و تسابقت الفتاتان و هما تنزلان من على السلم و كل واحدة تحاول شد الأخرى كي تمنعها من الوصل..



- لقد أفسدتِ تسريحة شعري. صاحت "ندى" بإستنكار و هي تُعيد تصفيف شعرها.


- انظري أيضاً ماذا حدث لقميصك!!


- ماذا حدث له؟! سألتها بخوف.



- لقد تمزق من الخلف!!



شهقت "ندى" وهي تستدير و تسحب ذيل القميص لترى..



فاغتنمت "غدير" الفرصة و تجاوزتها و هي تضحك بأنفاس متقطعة...


- أيتها الكاذبة، سأُريكِ...


قاطعتها و هي تستدير لها قليلاً:


- تعالي إن استطعتِ شيئاً...



و اصطدمت بشيء فكادت أن تسقط على الأرض بفعل القصور الذاتي لولا أن أمسكها ذاك الشيء...




أخذت تطالعه مصعوقة و كأن على رأسها....


انتبهت لنفسها فتراجعت للخلف بإرتياع ثم عادت لترتقي السلم من جديد بإضطراب ..



و التقت بندى في منتصف الطريق، خاطبتها بإستغراب:



- لماذا عدتِ؟!


هزّت رأسها ببطء:



- لا شيء، لا شيء...



و أوصدت خلفها الباب، لعل وجيبها يهدأ قليلاً أو يعود لغفوته من جديد!!!



==========





- مبروك يا سيدتي أنتِ حامل!!



و تهاوت على الكرسي بذهول..



ابتسمت لها الطبيبة في وجهها مُعلقةً:



- كم أنا سعيدة من أجلك، أو بالأحرى من أجلكما، سيسعد زوجك كثيراً....


- ........................



- اسمعي منذُ اليوم جميع الأدوية المهدئة التي وصفتها لكِ تمتنعين عنها كلياً، و لا تتناولي أي شيء إلا بعد استشارة الطبيب...


- ......................



- ما بالك صامتة، هل ألجمتك المفاجأة!!



رفعت "شيماء" رأسها بتعب و هي تسألها بصوتٍ منخفض:



- في أيّ شهر؟!


- في الشهر الثاني..



فتحت فمها المرتعش لتصرخ، لكنها أمسكت نفسها بشدة...



أطرقت للأرض و أنفاسها تضيق شيئاً فشيئاً، خاطبتها بإختناق:



- أأنتِ متأكدة؟!



- بالطبع!!



- ربما كنتُ في الشهر الثالث أو الرابع، أو أي شيء، أي شيء!!!




تطلعت لها الطبيبة بإستنكار و قد عقدت حاجبيها:



- يا عزيزتي أنتِ لازلتِ في البداية، أنا متأكدة، كنتِ ستلاحظين ذلك بنفسك...




"ألاحظ!! أنا لم ألاحظ شيئاً، و لم أشرب شيئاً، صدقوني!!"...



عاد صدرها لينقبض من جديد و هي تردف بتقطع:



- أنا لا..لا أريده.


- لا تريدين ماذا؟!


- لا أريد ط..فلاً، أنا لستُ حاملاً، لستُ حاملاً، لا أريد هذا الطفل..


- يبدو أنكِ متعبة، سأنادي "ناصر" من الخارج..


- انتظري!!



صاحت و كأن ذكر اسم زوجها كان كفيلاً بإعادتها إلى صوابها.....


وقفت على قدميها و هي تتلمس وجهها بإرهاق:


- أنا أعتذر، أنا بالفعل متعبة هذه الأيام، لا تخبريه أرجوكِ، سأقول له في البيت، أرجوكِ...



تطلعت لها الطبيبة بشك ثم ما لبثت أن تنهدت:




- لا بأس.


- ..................


- اسمعي يا "شيماء" أنتِ لستِ كأي مريضة تفد إلى هنا، فزوجك قريبٌ لي، لذا إن كان لديكِ أي شيء و تودين إخباري به فكلي آذانٌ صاغية.


- كــ..كلا، ليس لدي شيء أخفيه..



عادت الطبيبة لتتنهد ثم رسمت على وجهها ابتسامة:


- على العموم يمكنك أن تنصرفي الآن، و مبروك مرةً أخرى...



و خرجت من غرفة الكشف دون أن ترد و كأنها تفر من الجحيم....



التفتت على صوتٍ يناديها مقترباً....


- أنا هنا..


- ............


- ماذا قالت لكِ الطبيبة؟!


- لا شيء جديد!!! ردت بعصبية.


- قلتُ لكِ دعينا نسافر لكنكِ لم تقبلي..



- أرجوك أريد أن أعود للبيت، أنا مجهدة..


- حسناً حسناً، اهدأي...




==========




- إلى متى ستبقين هكذا، الشمس حارة جداً..


- ألازال هنا؟!


- إنه مع أبي في غرفة الجلوس..


- أينوي البقاء؟!


- لا أعتقد ذلك، أبي لن يسمح بذلك أبداً..



- أنا لا أريد أن أسبب مشاكل لأحد، و هذا بيته، أنا من ينبغي عليها أن ترحل..



- أجننتي!! ما هذا الكلام، ثم أين ستذهبين، لقد توفيت والدتك رحمها الله، ثم أنا لم أرى معه حقائب، لا بد أنه وضعها في الشقة..


- الشقة!!


و نهضت "غدير" من على الأرض و هي ترمق "ندى" بنظرة ساهمة...


- ماذا بك؟!


- لا شيء..


و سحبت وشاحها لتغطي به شعرها و هي تهم بالنزول...


- أين ستذهبين؟!


- إلى غرفتي!!



وأكملت طريقها بشرود...



==========





أحسبيها جيداً، أحسبيها يا شيماء..


وضغطت بيديها على رأسها بقوة..


شهران، قالت شهران!!!


لقد رحل منذُ شهران...


رحل الشيطان، أليس كذلك؟!!



لم تنظرون لي هكذا؟!



كلا، كلا، ليس كما تظنون!!



هذا طفلي و طفل "ناصر" أتسمعون!!


طفلي أنا!!



سأصبح أماً، سأسمع كلمة "ماما" أخيراً....




إذا كان صبياً سأسميه "خالد"، خالد ناصر!!


أليس جميلاً!!



لا بد أن يلاءم اسم الطفل اسمَ والده!!


و والده ناصر....



ما لكم تحدجوني بهذه النظرة!!



ابتعدوا عني، لا أريد أن أراكم، لا أريد أن أسمع ما تقولونه...


ما تقولونه كذب، زيف، خداع...



أنا لم أشرب شيئاً ولم أذهب لأحد...



وهذا الطفل طفلي، و طفل..ناصر!!!



دعوني أفكر جيداً، آه ماذا كنتُ أقول...


و مررت أناملها المرتجفة لتمسح دموعها الحارة التي بللت وجهها....



أجل، وإذا كانت فتاة سأسميها، سأسميها "نور"، نور ناصر!!


و شهقت و هي تصيح بمرارة:



أنا لا أريده، لا أريدُ أطفالاً...


هذا ليس ابني...


هذا ابن الشيطان!!



========



- لستُ جائعة..


- لم تتناولي الغذاء، و حتى العشاء ترفضينه، ستحبسين نفسك من أجله!!


- ليس بسببه، قلتُ لكِ لستُ جائعة.. صاحت بضيق.


- لا بد أن تتعودي على رؤيته، أنتما من دمٍ واحد و لن يفتأ أن يأتي إلى هنا..


- أنا لا يربطني به شيء، ما بينننا انتهى، أفهمتي!!



وأشاحت وجهها للجانب الآخر بغصة...


اقتربت منها "ندى" و هي تضع يدها على كتفها فالتفتت لها بحزن..



- لماذا عاد؟!


- كان لا بد أن يعود يوماً.


- لم يذكرني، صح؟!


- ..................


أطرقت و هي تسألها بألم:



- أهو بخير؟!


- أجل بخير...


- لقد تغير كثيراً..


- كما تغيرتِ أنتِ!!



أبعدت الوسادة عن حجرها و هي تنهض من على الفراش بإختناق...


- سأخرج قليلاً..


- لازال هنا..


- و منذُ متى غادر "هنا"!!



و خرجت من الغرفة...


قدماها تقوداها هناك، حيثُ ترن ضحكته عالية حول المكان...


تضحك!!


لطالما كنت قاسياً يا "عمر"، في كل شيء...


نساني، "عمر" نساني....


غبية!!!


و أنى له أن يذكر مثلك!! أنسيتِ ما أنتِ بالنسبة له!!


لا شيء، أقل من اللاشيء، هذا ما قاله لكِ!!!


ولكن أهذا ما كنتِ تصبين إليه؟!



أن ينساكِ...كي يعيش، لا تنكري ذلك؟!


أجل، لكن....



لكن ماذا؟!


لم أتخيل قط أن ينساني بهذه السرعة، أن يهمشني من عالمه...



وأرادت أن تعود إلى حيثُ كانت لكنها سمعت صوت خالها بالخارج فأجبرت قدميها على الدخول إلى أقرب مكان....


استندت خلف الباب و هي تغمضُ عينيها بقوة...



سيخرج الآن، سيذهب كما كان يذهب دوماً...


لماذا عدت؟!


لم جعلتني أراك...


كنتُ قد بدأت أتعايش مع طيفك، مع ذكراك...


و تنهدت بقوة و هي تسير بلا هدف في المطبخ..


أشعلت الموقد بشرود و وضعت إبريق الماء...


أخذ الماء يغلي بفوران و هي تتأمل فقاعاته التي تطفو على السطح كل حين..


وضعت ملعقتان من القهوة السوداء فهدأت ثائرة الماء و عاد لاستقراره!!


ليتني مثله!!


سكبت السائل الحار في الكوب و هي تديره بلا شعور...



ارتشفت منه قليلاً في سيرها علّ لذعتها تخفف من المرارة التي تلسع جوفها بلا هوادة...


و قبل أن تلج إلى الداخل، أعادت رسم الابتسامة المتقنة على شفتيها و هي تفتح الباب بيدها الأخرى بحذر...




و شمت رائحة عطرٍ مميزة فاهتزّ الكوب من يدها و سكنت دون أن ترفع رأسها...



ها هي قطرات من السائل تتخلل أصابعها، تلسع جلدها لكنها لا تتذمر، لا تشتكي....


أكان هنا منذُ هنيهة أم لازال!!!


أم أنّ حواسها من شُبه لها ذلك!!



رفعت بصرها ببطء....




ها هي صورته تنطبع في مقلتيها و تنعكس هناك، بين الضلوع...



كان واقفاً بجوار المنضدة بقامته الرفيعة و منكبيه العريضين يرمقها هو الآخر و لكن بثبات..




عاد الكوب ليهتز، ليرتجف بعنف كدقات قلبها المجنونة...


- خذيه من يدها!!


ما تراه إذن حقيقة، و صوته البارد يشهد على ذلك!!


تناولته "ندى" من يدها برفق، في عينيها هي الأخرى غموض، شيء لم تفهمه..


الصوت البارد ينطلق من جديد بصوتٍ آمر:


- "ندى" اتركينا قليلاً..


- لكن...


- بإمكانك أن تتركي الباب مفتوحاً.. علّق بتهكم.


- أنا لن أبقى.. صاحت بصوتٍ مبحوح.


و خيل لها أنه لم يسمع، فكررت و صدرها يعلو و يهبط بإضطراب:


- أنا لن أبقى..


واستدارت بسرعة و يدها تمسك إكرة الباب:


- انتظري!! صاح بغضب.


و تجمدت في مكانها دون أن تلتفت له..


سمعت خطواته الثقيلة تقترب منها فارتعدت في وقفتها...


وضع يده على الباب و هو يخاطبها بجفاء:


- تريدين أن يظل الباب مفتوحاً أم مقفلاً!!



ابتعدت عنه بتعثر و هي تصيح بتقطع:



- ماذا..ماذا تريد؟!


- لا أخالك تريدينهم أن يعرفوا!! أجاب بقسوة و هو يشير لشقيقته.


- ....................


ثم التفت لتلك الأخيرة و هو يومىء لها:


- أتسمحين؟!


تطلعت إلى "غدير" كأنها تنتظر منها الإجابة...



مست كتفها و هي تسألها:


- أتريدين شيئاً!!


هزت رأسها بلا شعور و كأنها لا تستمع لأحد...


و انصرفت تاركةً الباب مفتوحاً على مصراعيه...


خيم الصمت بينهما، كانت تفر بنظراتها الشاردة في كل مكان إلاه!!!


ماذا يريد ها؟!


أن يلقي علي كلمات أخرى نسيها المرة السابقة!!


كلا، لن أسمح له، لا أريدُ مزيداً من الكوابيس..


لا مجال للتراخي الآن، لا وقت للجبن، للخوف...


لقد بتِ سيدة نفسك يا "غدير"، أنتِ فقط لا الغير...


ميزة جديدة للمطلقة!!


أتاها صوته بعد طولِ صمت، ساخراً، فظاً:


- كيف حالك؟!


رفعت رأسها المُطرق بتحدي....



كان بصره مصوباً نحوها بتمعن، مُحيطاً بحنايا وجهها الشاحب...


- كما تراني...


وانقلبت سحنته فجأة، قال بصوتٍ كظيم:


- ماذا فعلتِ بنفسك، تبدين...!!


و صمت وكأنه يكابد شيئاً رابضاً على صدره...


تطلعت إلى عينيه بإستفهام علّها تستشف مغزى حديثه...


ماذا يقصد؟! أتراه يعني شعرها الذي رآه في الصباح دون وشاح!! أم ماذا؟!!!



ردت بصوتٍ جاهدت ليظلّ ثابتاً:


- أنا حرة و أفعل ما بدا لي!!


- حرّة!! منذُ متى هذا الكلام؟! علق بإزدراء..


قالت ببطء و هي تصرُّ على كلماتها متجاهلةً نبرته:


- منذ الأمس واليوم و غداً..


- يبدو أن غيابي أثر على عقلك!! و ابتسم بإستهزاء..


- إذا انهيت كلامك انصرف، لديّ كثير من الأمور لا بد أن أُنهيها..


أمسكها من ذراعها على حين غرة...


- يلزمني أكثر من وقحة مثلك كي تملي علي تصرفاتي..


صاحت بإنفعال:


- ابعد يدك عني، أجننت!!


- لماذا؟!


ردت بأنفاسٍ متهدجة:


- أنت... طلقتني!!


- آه نسيت، لكم أنسى أنا ذلك!! و قست ملامحه.


ثم أردف و هو يخاطبها بصوتٍ منخفض:



- شيء جيد فعلاً أن تعرفي الحلال من الحرام!!!!


- ........................


شدّ عليها بقوة و هو يصيح:



- ألم يكن ما فعلته حراماً يا زوجتي المصون!!



نزعت يدها منه بصعوبة و هي تطالعه بمرارة، بألمٍ ارتسم بحدة على محياها...


أمسكتها بيدها الأخرى و هي تطرق للأرض بشجن...


إنه لا يفتأ أن يُلقي عليها الكلمات...


ليست كأي كلمات، إنها رصاصات، رصاصات سرعان ما تنفذ إلى القلب و تدمي روحها...


لم لا تكف عن تعذيبي...


قال بعد برهة و هو ينظر لها بثبات:


- ثم يبدو أنكِ لا تعرفين!!

- ....................


- أنتِ لا زلتِ في فترة "العدة"..


شيء ما في نبرته جعلتها ترفع رأسها بسرعة، بخوف، بحذرٍ شديد...


- وماذا في ذلك؟! سألته بإضطراب.


- أستطيعُ إرجاعك متى شئت..



تراجعت إلى الوراء و هي تصيح بإرتياع:


- أنا لم أسمع بذلك من قبل، أنت تكذب..


- ما الكاذب إلا أنتِ أيتها الــ...


و سكت فجأة، لكنها لم تصمت بل استمرت في صياحها:



- أجل أنا ****ة، قذرة كما تريد أن تقول، لم تريد إرجاعي إذن؟!


أجاب بقسوةٍ لاذعة:


- و لازلتِ كذلك بالنسبة لي، و لكن من نعرفه أفضل ممن لا نعرفه، أليس كذلك!!!


طفرت الدموع من عينيها بحرارة و هي تهزُّ رأسها دون تصديق:


- لن أن أعود إليك..


- لم أطلب رأيك، أتفهمين!!


- سأقتل نفسي إن حاولت أن تردني، أتسمع سأقتل نفسي..



- كان من الواجب أن تقتلي نفسك منذُ زمن و ليس الآن يا عزيزتي!!


- أنا أكرهك، لا أريدك، لا أريدك، لا أحد سيجبرني على الرجوع إليك..



- ستعودين رغماً عنكِ و في الوقت الذي أريد..



لم يتبقى إلا ورقة واحدة، حوافها كنصل السكين، لا يهم إن كانت الورقة الرابحة أم الخاسرة، لا مجال الآن للاختيار و التفكير!!


أخذ صدرها يعلو و يهبط بتثاقل و هي تحاول جر الكلمات لتخرج من ضلوعها، من جوفها المحتقن....


قالت بصوتٍ يرتجف:


- لن أعود إليك، ذاك..ذاك كان يعاملني أفضل منك!!




واستقرت صفعة قوية على خدها كادت تطيحها أرضاً...


لكنها لم تصرخ ولم تبكي، بل وضعت يدها على خدها و هي تعضُّ على شفتيها المرتعشتين بقوة....



أمسكها من زندها بقسوة و هو يديرها لتواجه، لكنها تمتنع عن النظر إليه و جسدها لا يكف عن الاهتزاز...


صرخ في وجهها:


- إياكِ أن تعيدي لي مثل هذا الحديث، إياكِ..


- .......................


- أنا لا أعلم ماذا تنوين أن أفعل بك بكلامك هذا، أن أسحقك مثلاً، ألا أبقيك حيّة!!


- .........................


صاح و هي تزداد انكماشاً:


- ماذا أفعل بكُ كي أشفي غليلي، أجيبي!!!


- ...........................


و مدّ يده إلى وجهها فأشاحته بإرتياع، لكنه أجبرها على النظر نحوه....


نظر إلى خدها المعلّم بأصابعه و هو يخاطبها بصوتٍ غائب:


- لم تضطريني إلى فعل أشياء أمقتها و أكره نفسي بسببها..


ثم أردف صارخاً:


- لم كلما حاولتُ نسيانك تراءيتِ لي..


- ..................


- أنتِ.....


وأفلتها دون أن يُكمل!!


و لم تتوقف هي عن النحيب!!



==========



لا ، كلا، كلا...


و مدت يدها إلى صدغها و هي تلهث...


إنها تشعر بالإختناق، بالضيق، لم تعد تنام مطلقاً، مطلقاً...


الجو هنا حار جداً رغم أزيز المكيف المزعج...


مسحت وجهها المبلل بكم ثوبها...


إنها لا تعلم ما مصدره، كيف تتصببُ عرقاً هكذا....


أنهضت نفسها بصعوبة و هي تشعر بجفاف حاد في حلقها...


سارت حتى المنضدة و أمسكت بزجاجة المياه المعدنية....


رفعتها إلى أعلى و هي تراقب صورتها المنعكسة في المرآة المستديرة....



أسقطت الزجاجة من يدها فجأة و هي تستدير نحو الفراش بذعر...


أخذت تتطلع إلى الراقد بهلع و دقات قلبها في إزدياد...


و كأنه أحسّ بعينين ترصدانه، فتحرك بضيق و بان وجهه...


أسندت جسدها على حافة المنضدة و هي تتنهد بوهن...


يا إلهي ماذا جرى لي!!


مررت أناملها الواهنة على جبينها و هي تنظر لزوجها...


و تذكرت الزجاجة فأخذت تفتش عنها رغم بعينين غائمتين....



ووجدتها!!!



كان الماء قد سال من فوهة الزجاجة دفعةً واحدة...


ضغطت على بطنها بألم و هي تراقب آخر قطرة وجدت طريقها لتلامس سطح الأرض...


هزت رأسها ببطء و هي تخاطب نفسها بإختناق:


أنا لا أريد أن أشرب شيئاً، لا أريد...


لا أعلم ماذا وضع فيه الشيطان!!


قلتُ لكم ابتعدوا عني!!


لا أريدُ شيئاً منكم، لا أريد....



============



فتح الباب الذي أحدث صريراً مرتفعاً منذُ أن لامسه....


كان المكان غارقاً في لجةٍ لا متناهية من الظلمات...


فكّ ربطة عنقه بضيق دون أن يبحث عن زر الإنارة...


و ألقى بنفسه على أقرب أريكة مغمضاً عينيه بتعب...




لمَ ذهبت رغم علمك بوجودها هناك؟!


لتشقي نفسك، لتعذبها كما تعذّبت طوال الشهرين المنصرمين...


كيف لم تمسك نفسك أمامها، تناسيت كل شيء بمجرد رؤيتها فقط...



و ماذا كنت ستقولُ لها حين رأيتها للوهلة الأولى!!


تبدين فاتنة رغم نحولك، رغم قصة شعرك الصبيانية!!



و ماذا أيضاً، اعترف!!


كنتُ سأقول:


اشتقتُ لكِ كثيراً، كثيراً أيتها الحبيبة الخائنة!!!



ما كان عليّ أن أذهب البتة، لكن أنى لهذا القلب الأحمق أن يستجيب للعقل...


أنهُ لا ينصاع لما آمره به، يأبى إلا أن يسيرني و يراها....


ما أقسى مرآها، ما أقساه....



ما هذا!!


رفع يده بدهشة و هو يحدق في قطرةٍ غادرة فرّت رغماً عنه...


دموع!!


أأنا أبكي؟!


أنا "عمر" أبكي؟!


ومن أجل من؟!


من أجل خائنة، كاذبة، بلا أخلاق!!!


تلك التي أودّ خنقها و عناقها في وقتٍ واحد!!!


و نهض من مكانه بضيق علّ الأفكار تبتعد عنه، تهاجر بعيداً، بعيداً و تريحه....


دخل غرفته، كانت هي الأخرى غارقة في الظلام....


تلمس طريقه إلى خزانته، و أخذ يفتش عن ولاعته القديمة بعمر 10 سنين، منذُ أن قطع هذه العادة السيئة!!


لكن الأيام لا تبقي أحداً على حاله، و هو بأمس الحاجة لأن يدخن، علّ دخانها يهدأه أو يصمته!!


و وجدها، وجد ولاعته الذهبية لكن يا للسخرية!!



كانت علبة السجائر قد نفذت!!


جعد العلبة بيديه لكأنه يصبُّ جام غضبه عليها....


ثم عاد ليفتش من جديد، عمّاذا؟!


كان هو لا يدري!!


ربما يجد سجارة مخبئة بعمر ولاعته..


مستحيل؟!!


صدقوني لا يوجد شيء اسمه مستحيل...
و أمسك بشيءٍ ما، ناعم الملمس....




شمــــــعة!!!


و ابتسم بتهكم....


قالت لي: خذها و تمنى أي شيء و سيتحقق!!


و صدقتها، صدقتُ تلك الكاذبة، ولم يتحقق أي شيء....


أتريدين أن تعرفي ماذا تمنيت؟!


تمنيت أن تكوني لي....


أن تحبيني كما أهيمُ بكِ عشقاً...


ما كان علي أن أصدق مثلك!!!


أجيبيني هل أنارت قلبك، هل أشعلته، أم أن اللهيب لم يعرف طريقه إلا إلي؟!!


قولي لي أيتها الخائنة!!!


صه، صه، صه، أبتّ تخاطب الشموع أنت الآخر، أجننت؟!!


إنها لم توجد إلا لتحترق، لتضيء المكان ثم تُلقى في أسفل سافلين كصاحبتها الكاذبة!!!



و أخرج ولاعته....

أشعلها هي بدلاً من السجارة....



تراقص اللهب بإستحياء فوق تلك الذُبالة...


و قد بدد نورها الخافت شيئاً من ظلمة المكان...


اللهب يهتز مع حركة الجسد، يتناغم معه في رقصةٍ سرمدية....


خرج من حجرته و قبل أن يتجاوزها التفت نحو الجانب الآخر...


الصور لا تلبث أن تومض و تنطفئ كبروق سماوية....


في طياتها صور الأمس، كل الأمس...


دفع الباب ببطء لكأنه لا يريد أن يُجفل من بالداخل أو ربما كي يمني نفسه!!!


بأنها لازالت هنا، لازالت تختبأ عنه...


وانفتح الباب على مصراعيه...


لم تكن هناك!!!


لا وجود لها...


أنسيت، لم تعد تعيش معك، لن ترى وجهها من جديد، لن تسمع صوتها...


كنت تكذب عليها أنت الآخر...


أنت لن تعيدها إلى عصمتك أبداً!!


أتقوى على الموت في اليوم ألف مرّة!!!


كانت حُجة، مجرد حجة لتملأ عينيك بها، و ليُناغي صوتها أذناك للمرة الأخيرة فقط..


و جال ببصره المتعب حول المكان...


ثيابها متناثرة في كل زاوية بإهمال...


لم تأخذ شيئاً...


إنها تأبى إلا أن تذكره بها...


أنها تعذبه في وجودها و غيابها...


أجيبوني كيف أنساها بالله عليكم، كيف!!!


و اقترب نحو السرير الخالي و هو يضع الشمــــــعة بجوار "الأباجورة"....


و أحسّ بشيٍ صلب!!!

"الجــــــزء الأخيــــــــــــر"



وضعت يدها المرتعشة على خدها للمرة العاشرة على التوالي و هي تطالع الفراغ بعينين لا تريان...


كل ما تراهُ يبدو مظلماً، باهتاً، كأن غشاوةً سقطت عليه فجأة!!


ما حدث كان سراب، وهم، خدعة بصر ليس إلا!!

و تلكأ بصرها الذاهل على الباب حيثُ خرج الأخير...


بلى كان هنا، كان هنا و أصابعه تشهدُ على ذلك!!


و تسللت دمعة حارة انسابت بعمق على حنايا وجهها المبلل علها تلطفه، تطفىء شيئاً من لهيبه...


ماذا تريدُ مني!!

اجبني بالله عليك..


كفاك، كفاك...


ألم يكفك ما فعلته بي!!


ألم تكفك الاهانات، ألم يكفك كل العذاب الذي عيشتني إياه!!!


ماذا تريد مني؟!

أن أعود إليك من جديد!!


لن أعود إليك أتسمع، لن أعود ولو على جثتي!!


تريد أن تذلني، أن تُحيل أيامي الفانية إلى كوابيس...


لا لن أسمح لك، لن أسمح بأن تطعني، تجرحني ثم تتركني وحيدة بلا ضماد...


تخالني لا أعرفك أيها القاسي...


لن تفتأ أن تردد علي الكلمات، ستلقيها على مسمعي و سترحل بعدها كما ترحل دوماً و سأبقى أنا أتجرع مرارتها لوحدي ويظل الجرح مفتوحاً، معرضاً للصديد كل حين...


اخرج من حياتي، دعني أعش بسلام..


أنا لستُ بحاجة لأحد، أتخالني سأموتُ بدونك!!!


أنت واهم، إن لم أنسك اليوم سأقتلعك من قلبي غداً!!


إنها مسألة وقت يا "عمر" أتسمع، سأنساك...


سأعيش لنفسي فقط، لن أبالي بك أو بغيرك


لا أحد له حقّ علي الآن، أنا حرّة


ما فات مات و آن من هواك أن تحلّني!!


اتجهت بعزم لدرج خزانتها، تناولت مفتاحاً فضياً كانت قد خبأته للذكرى، للذكرى فقط!!


قبضت عليه بأناملها و عاد الضباب لينتشر حول المكان!!


==========



كانت ضامة يديها إلى حجرها و قد أمالت رأسها على الجدار....


- شيماء، شيماء!! هزها برفق.


- ....................


- ماذا تفعلين هنا؟! كيف تنامين على الأرض!!


فتحت عينيها الصغيرتين بإجهاد، أخذت تطالع الوجه القلق دون استيعاب...


همست:

- ناصر!!


- أجل ناصر..

وابتسمت حينها في وجهه ابتسامةً صغيرة واهنة...


عقد حاجبيه و هو يسألها بعبوس:


- كيف وصلتي إلى هنا؟!


- كنتُ عطشى و بحثت عن ماء..


وغابت ابتسامتها ليحل محله ألم قبض على أحشاءها..


أردفت بصوتٍ شارد:


- يبدو أني نسيتُ نفسي و نمتُ دون أدري..


صمت برهة مفكراً ثم قال:


- تبدين مجهدة هيا لترتاحي على فراشك.


- أنا مرتاحة هكذا..


- لم يكن النوم على الأرض مريحاً قط!!



و ساعدها عى النهوض مُسنداً إياها بين ذراعيه....


علّق مازحاً و هو يدثرها:


- لقد أصبحتِ ثقيلة.


شحب وجهها فجأة و تقلص محياها و هي تنظر له بخوف...


هزت رأسها ببطء و هي ترد بتقطع:


- ليس بي شيء، هذا...هذا من تأثير الأكل..


- أنتِ بالكاد تأكلين!!


- قلتُ ليس بي شيء. صاحت و هي تتلفت حولها بجزع.


نظر إليها دهشاً، ردّ بخفوت:


- ماذا بك كنتُ أمزح ليس إلا..


عادت لتتأمله بعينيها بحزن و هي تمسك يده:


- لا تمزح معي، أرجوك أعصابي متعبة...


ضغط على يدها بحنو والأخرى على صدره بطريقة مسرحية:


- أنا آسف، لن أكررها يا سيدتي من جديد..


عادت لتبتسم ابتسامتها الواهنة الصغيرة...


ناصر!!


كم أحبك..


سامحني فقط، سامحني....


و غاب عن ناظرها وهو يشيعها ذاهباً إلى عمله...


أغمضت عينيها وعشرات الخواطر تتزاحم في مخيلتها، كلها يتداخل، يتسابق لكن أيهما سبق!!


لا أدري!!!



=========



لم تنم البارحة مطلقاً، كانت ممسكةً بالمفتاح تشهد المعركة القائمة في السماء!!

تلك التي ينتصر فيها نور الدُّجى على لُجج الظلام..


ها هو الصباح ينبلج و العينان مسهدتان، تتثاقلان كل حين لكأنهما تنوءان بوطأة الليل و تعاقب النهار!!!


كلاهما ثقيل، كلاهما يحمل في بزوغه شجن و في هباته ذكريات، ذكريات مبعثرة!!


استدارت ببطء لتلك الراقدة بسلام..


أتراها نائمة فعلاً؟!


أنهضت "غدير" نفسها و فتحت الباب بهدوء....


و جدت خالها جالساً لوحده على مائدة الإفطار الذي لم يُمس...


كان شارداً هو الآخر...


يا تُرى فيمَ يفكر!!


أخذت نفساً عميقاً قبل أن تنطق و هي تصطنع الابتسام:


- صباح الخير يا خالي..


التفت إليها و نظرة حنونة ارتسمت في مقلتيه..


- صباح النور يا ابنتي، تعالي و اجلسي معي..


اقتربت منه وأصابعها لازالت منقبضة..

- كيف حالك؟!


سألها و هو يمعن النظر فيها..


- بخير. ردت بإقتضاب.


صمت كلاهما ربما ليفكرا فيما يقولانه!!


و يبدو أنها لم تجد شيئاً


قطعته أخيراً:


- أتريد أن أسكب لك شاي؟!


- بشرط أن تشاركيني في طعامي..


- لستُ جائعة يا خالي، لا أشتهي شيئاً..


و أطرقت للأرض..


تنهد بأسى فأردفت بحنان:


- الآن سيستيقظون و سيفدون جميعهم..


- من "جميعهم"؟! "ناصر" هو من يستيقظ في الصباح فقط و ها قد خرج و كأنه لا يراني!!!



آه، ناصر خرج!!


من سيأخذني إلى هناك إذن!!


لا يمكنني أن أطلب من خالي، مستحيل!!




- كل من في هذا البيت تغير، انقلب حاله لا أدري كيف؟! زوجته "شيماء" بتُّ لا أراها مطلقاً و "ندى" لم تعد الفتاة المرحة التي عهدتها من قبل و أنتِ، أنتِ تحبسين نفسك في الغرفة و لا تخرجين إلا حين أناديكِ...


- ليس الأمر هكذا يا خالي، أنا...


- أنتِ ماذا؟! انظري لنفسك، أأنتِ غدير فعلاً!!


- ......................


- الحياة تستمر يا ابنتي ستهلكين نفسك بسببه!!


انتفضت في جلستها و كأن أفعى لدغتها، ردت بأنفاس متقطعة:



- ليس بسببه، لم يعد يعني لي شيئاً...


و بترت جملتها و هي تنظر لخالها الذي كان يهزُّ رأسه..


قالت بغصة:


- سأذهب إلى غرفتي..


حثت الخطى إلى هناك و أوصدت الباب خلفها بألم...


حتى أنت يا خالي..


لمَ لا يصدقني أحد!!


لم لا تصدقوني...


ثم هزت رأسها لتبعد خواطرها...


ماذا أفعل الآن!!


لا بد أن أذهب قبل أن يعود من عمله...


من سيأخذني إلى هناك؟!


لايهم!!


كل الطرق تؤدي إلى روما أليس كذلك؟!!


و سحبت عباءتها...


==========



فتحت خزانتها تتفقد محتوياتها...


أخرجت علبةً متوسطة الحجم، زهرية اللون، مخملية الملمس....


جلست على الأرض و فكت الشريط الحريري بتؤدة...


تناولت ألبوم الصور و أخذت تتصفح صور زواجهما بلهفة و شوق و هي تمعن النظر فيها عن كثب...


ابتسمت ثم ضحكت و هي تتذكر مواقف حدثت لهما أثناء التصوير..


كل صورة تمثّل حياة، حياة كاملة بالنسبة لها...


انظروا إليه!!


هذا الرجل زوجي..



زوجي أنا!!


مررت أناملها على وجهه لكأنها تريد أن تتأكد من وجوده أو ربما لتحفر ملامحه في ذاكرتها للأبد!!


وضعت الألبوم جانباً ثم أخرجت رزمةً من الرسائل رُبطت بعناية و بترتيب...



كانت هذه رسائله لها أبان أيام الخطوبة...


منذُ أن عرفته و هو جاد و عملي، كان يجلس معها لساعات و يتحدث في شتى المواضيع من الأدب إلى الدين حتى السياسة دون أن يتكلم عنها هي...


دون أن يعلق على تسريحة شعرها مثلاً أو مكياجها أو ما كانت تتكبده حين تعلم بقدومه...


وكم وددت أن تخنقه في تلك اللحظات و تصرخ في وجهه يكفي!!


لكنها تعود لتمسك نفسها و تستمع مجبورة لمحاضراته الثقافية!!


لكن لا، لا تظلموه، لا تحنقوا عليه كما فعلتُ في البداية...


كان قبل أن ينصرف يدسُ في يدي رسالة!!


أي حروف حبٍّ تلك التي يسطرها...


و أي أبيات شعرٍ هائمة يدشنها لي...


لي وحدي...


ليست من أبيات "نزار" كالتي يسترقها كعادة العشاق...


كانت أبياته هو، من صنع يديه، من خلجات وجيبه...


لي وحدي كتبها...


كنتُ أغرق في بحر كلماته، وأظل أقرأ و أقرأ وأعيد قراءتها كل يوم بل كل لحظة حتى تبلى الورقة من يدي فأضطر لأن أضعها في الصندوق كي لا تهترئ وتختفي الحروف...


و كم اشتقت للحظة انصرافه تلك و بتُ أتلهف خروجه، صدقوني ليس لأني أنفرُ من شخصه...


كلا فمثله لم يُخلق إلا ليُحب لطيبه و حنانه...


ذاك كان زوجي أنا...


أرأيتم مثله!!!


و قربت الرسائل إلى وجهها و هي تتنسم عبيرها بعمق، عبير تلك الأيام الجميلة..


ما أطيبها من ذكرى و ما أحلاها من أيام...


و اهتزّت الأوراق من يدها فجأة...


ما عادت ذكرى طيبة يا "شيماء"...


لقد لوثتها، دنستِ طيبها، عبثتِ بطهارتها..


ماذا تبقى منها؟!!


أو ماذا ستُبقين؟!


تحركت شفتيها ببطء و هي تخاطب نفسها بإختناق:


لكني لم أقصد.....


أنا لم أفعل شيئاً..


فقط شربتُ ماء...


أفي شربِ الماء جريمة!!


أغمضت عينيها بقوة و هي تصرُّ على شفتيها....


أجل جريمة، جريمة كالتي تستقرُّ في بطني الآن!!!


و سالت الدموع من عينيها، أطلقت لها العنان بصمت...


سامحني يا "ناصر" سامحني...


احتفظ بالصندوق، احتفظ به وبذكرياتنا الجميلة معاً..




و رسائلك يا "ناصر" لا تلقها، لا تقطعها، بل دعها كما هي..


أنا حفظتها عن ظهرِ قلب، حفظتُ كل كلمة، كل حرف...


لكن أنت...


لا تنساني، إياك أن تنساني...


نااااصر أرجوك!!!!



==========



توقفت سيارة الأجرة ليس ببعيدٍ عن الشقة...

أسرعت في خطاها و هي تتلفت حولها...


اصطدمت بالباب فارتجّت من الأعماق...


و أحست بقدميها تخونانها...


ما تقدم عليه جنون، بل أكثر من جنون...
لا يهم، لا شيء يهم!!


أدخلت المفتاح بقلبٍ راجف و أمسكت إكرة الباب و دفعته....


كان المكان غارقاً في سكونه، في هدوءه، في غباره!!


شهران، زمنٌ طويل أليس كذلك!!




هزت رأسها بقوة ثم صوبت بصرها نحو غرفتها فقط...


فقط لا غير...


إنها لا تريد أن تذكر شيئاً، فطيفه سيتراءى لها حينها، في كل بقعة و زاوية، بل في كل مكان...


تلكأت عند بابها، تجول ببصرها بألم في أرجاءها، في أغراضها المبعثرة...


كلا إنها لن تأخذ شيئاً منه، من ماله، لا أريد شيئاً يذكرني به!!


لا مجال هنا للوقوف أكثر، لا وقت للبكاء على الأطلال...


تقدمت و هي تدوسُ على بقاياها، على روحها الهائمة بلا هدى...


النزف يتحلل، يقطر من ضلوعها، يخرج من مخبأه و الجروح تُنكأ، لا تلبث أن تنكأ، كيف لا وكل الشواهد أمام عينيها!!


يكفي، قلتُ لكم يكفي!!!


جثت على ركبتيها الواهنتين و هي تفتش في أدراجها لكن يدها لم تصل إلى شيء...


تلفتت بشرود...


أين وضعته!!


وابتسمت بلا روح...


إنها تنسى، لطالما كانت تنسى أشياءها...


ليتها تنساه فقط، ليتنا كنا مخيرين في سحق ذاكرتنا!!


أبعدت الوسادة و كانت خالية بالفعل!!!


أزاحت الدثار بأكمله عن فراشها فانتفض قلبها بعنف...


ليس هنا!!


لم تجده!!


عادت لتجثو من جديد مادةً يدها أسفل السرير...


أصابعها لا تقبض إلا الهواء..


ها هو يتسرب، يتيه، ثم يتخبط بين يديها و يُفلت!!


أين هو؟!



- عمّ تبحثين؟! عن هذا؟!!


واستدارت بإرتياع نحو مصدر الصوت...


كان واقفاً عند الباب وبيده شيء ما...


بدا وجهه منطفئاً، مُتعباً خلا عيناه اللتان تلمعان....


لازال بملابس الأمس و قد بان زغبٌ خفيف على ذقنه بإهمال...


- عن هذا؟! كرر بصوتٍ غائب.


رفعت بصرها غير مصدقة و هي تنهض نفسها....


قالت دون شعور:


- اعطنيه!!


- .............


أخذ صدرها يعلو و يهبط بإضطراب و أنفاسها تتضاءل:


- اعطني دفتري.


- .....................


- قلتُ لك اعطنيه.. صاحت بهستيرية.


و بدا كما لو كان قد سمعها للتو، تقدم قليلاً ماداً يدهُ إليها فتراجعت خطوات...


- خذيه.


لكنها لم تمد يدها بالمقابل بل نظرت إليه بضياع...


و ضعه على حافة السرير و ابتعد..


خطفته بسرعة و دفنته في صدرها و هي تشدُّ عليه بقوة لكأنها تخشى بأن يقتلعه أحدٌ منها...


- لمَ لم تخبريني من قبل؟!


- ..............


هزها من كتفيها بقوة و هي تنظر له و لا ترى!!!



- لمَ لم تخبريني؟! و احتدّ صوته.



نزعت نفسها منه و هي تُبعد يده بإحتقار...


- أخبرك بماذا؟!


صرخت بصوتٍ مبحوح:


- ماذا تريدني أن أقول؟! أأقولُ لك أنا لا أعرف إن كنتُ عذراء أم لا؟!


وضحكت بمرارة و الدموع تطفر من عينيها....


أردفت بصياح و هي تمسح وجهها:


- أكنت ستصدقني حينها، ستصدقني وأنا في ليلة زفافي!!


- .....................



و ضمت يدها إلى صدغها و هي تهز رأسها ببطء و أنفاسها تتهدج:


- ما كان أحد ليصدقني، من سيصدق شيء حدث منذُ عشرةِ أعوام، أمي لم تعرف، لم تفهمني وأنا ابنتها ستأتي أنت و تفهمني!!


- ...........................


- أم أقولُ لك عن شعوري حين فهمت ما جرى لي، حين سمعتُ الفتيات في المدرسة يتحدثن عن هذه الأمور!!


- ....................


- أأقولُ لك أني وأدتُ حلم الزواج من حياتي للأبد و أنا لم أتخطى بعد أعتاب المراهقة!!


رفعت أصبعها فجأة بتحذير و صوتها يختنق:


- كنتُ قانعة بقسمتي، لم أكن لأشتكي أبداً، ما كنتُ لأشاركهم أبداً في أحلامهم الحمقاء تلك!!


- ......................


- أنا لم أبكي أبداً أتسمع، لم أبكي قط..


و أحنت جذعها و هي تغطي وجهها بدفترها و شهقاتها ترتفع...


- كان عليكِ أن تخبريني، لم جعلتني أظلمك، لمَ عذبتني و عذبتِ نفسك!!


رفعت رأسها ببطء و هي تمسح وجهها بأناملها المرتجفة...


خاطبته بصوتٍ ذاهل، متقطع كأنها تخاطب سراب:




- أخبرك!! أنت لم تسمعني حتى، اتذكر تلك الليلة حين توسلتك، حين جثيت تحت قدميك كي تسمعني ولو قليلاً لكنك رفضت....


- ......................


- أذللتني بلا رحمة، لن أسامحك أبداً ما حييت..


- إذا كنتُ قد أخطأت فأنتِ أخطأت أيضاً، كلانا أخطأ يا "غدير" و أنتِ السبب..


- أنا السبب!! صاحت بإختناق.


- أجل، ما كان عليكِ أن تسكتي، أنا زوجك كان عليكِ أن تخبريني، بالله عليكِ كنتُ سأعرف!!


- حاولتُ إبعادك عني، لا تنكر!! صرخت في وجهه.


- هذا ليس حلاً أبداً. علّق بيأس.


ثم أردف بصوتٍ بائس:


- جعلتني أظلمك، ظننتكِ أخطأتِ..


و صمت و هو يمرر أصابعه على جبينه بتوتر..


- لا تبرر لنفسك، أنت صيرت حياتي إلى شقاء، أنت ظالم، قاسي القلب، اجبني فيمَ تختلف أنت عنه؟!!


- ألا تفهمين، أيُّ رجلٍ بمكاني كان سيفعل الشيء نفسه بل أسوأ من ذلك..


- أجل قولها، أنت مثله، مثل كل الرجال، كلكم متشابهون، كلكم.. صاحت و هي تضرب بقبضتيها على رجليها.


- ماذا تقولين، أنا "عمر" ألا تعرفيني؟!


- و لا يهمني أن أعرف، ابتعد عن طريقي..


- قلتُ لكِ أنا آسف، ماذا تريدين أكثر؟!


- لا أريدُ منك شيئاً، فقط دعني أعش بسلام..


- أنا لا أستطيع العيش بدونك، ليس بعد ما عرفتُ كلّ شيء!!


- كي تذلني، كي تذكرني بذلك كلما تشاجرنا أو اختلفنا، تخالني لا أعرفك!!


- أنتِ لا تعرفيني حقاً!!


- لا أريد أن أعود لأحد، ولا أن أتزوج أحد، أريد أن أعيش لنفسي، لنفسي فقط...


- لن تستطيعي ذلك أبداً، أنتِ لستِ هكذا!!


- لقد أعطيتك فرصة، آن لكِ أن ترديها وتمنحيني فرصةً من جديد.


- أنت لم تعطني شيئاً، أنت رفضت أن تسمعني حتى. صاحت بألم.


- سأسمعك!!


- ليس لدي شيء لأقوله لك الآن، لأن لا شيء بيننا، لم يعد يربطني بك شيء..


- أنتِ لازلتِ زوجتي!!


- أنا لا أريدك، ألا تفهم!!


- اخرسي..


- لن أخرس و لن تسمع مني إلا هذا الكلام..

و أردفت بهستيرية و هي تغرز أظافرها بلا شعور في الجلد الأسود:


- و لا تظن لأنك عرفت سأسمح لك بإذلالي كما يفعل هو، لن أسمح لك ولا لأحدٍ بذلك أبداً...


- ماذا تقولين؟!


قاطعته بشرود و هي تبتعد شيئاً فشيئاً:


- أجل، هذا أفضل لي و لك..


و التفتت إليه بغصة:

- لن أعود إلى الجحيم مرةً أخرى، لقد تعبت، لا يلدغ المؤمن من حجرٍ مرتين!!


- أنا لستُ بأفضل من أمي، لستُ بأفضل منها!!!


و تجاوزته و هي تشيح بوجهها بعيداً، بعيداً...



و ما أن لامست الهواء حتى انفجرت في البكاء بصوتٍ مخنوق...


ضمت الدفتر لجانبها و هي تختبأ في الأزقة، في طريقٍ آخر لا يمتدُّ بصلةٍ إلى هناك...



رفعت رأسها لمرآة السماء، قطرات المطر تنسابُ على وجهها، تختلط بدموعها و تتحد في صورة شفافة لا متناهية...


مطر!!


مطر!!


رددت بهمس و هي تترنح في سيرها..


الطريقُ يبدو طويلاً، بعيداً، خالياً إلا من سواها...


و المطر يسقط بغزارة، بحباته الكبيرة، يبلل التراب و يمنحه شيئاً من عبقه الأثيري...



شيئاً من الطفولة، حين نرتعُ في برك الماء، نتسابق مع الأطفال و ننزلق على الأرض، على التراب، على المطر!!!


و لاحت طيفُ ابتسامة مخنوقة على شفتيها...



حين كانت مع والدها، تختبىء أسفل سترته، حين يحيطها بذراعيه كي لا يبتلُ شعرها، كي لا تفسد جدلتاها!!!



غابت الابتسامة و حلّت محلها رعشة على الشفتين...


عادت لتحتضن دفترها والرعدة تسري في جسدها النحيل...



الطريق لازال بعيداً....



تُرى إلى أين يصل مداه!!!



أوَ تعرفين...



أيُّ حزنٍ يبعثُ المطر!!!


========






كانت جالسة أمام الجهاز، تضغطُ على أزرار لوحة المفاتيح بقوة و هي تتمتم بغيظ....


سأبحث لي عن وظيفة بدلاً من البكاء على ذلك الأحمق!!


من يظنُ نفسه؟! مثله أدوسه بقدمي دون أن أبالي..


عرفتُ الآن لمَ لم يتزوج بعد!! و من هي تلك العوراء التي ستقبل به!!

فليشكر ربه لأني نظرتُ في وجهه، ليس في رأسه إلا ثلاثُ شعرات و يرفع أنفه!!


لا شك، كلها سقطت من التفكير في المال!!


اتصلت بي "أشجان"، أخبرتني بأنها ستنتقل لشركةٍ أخرى، ومن يقدر أن يستمر مع ذلك التمساح!!!


هذه الأشكال تحتاج إلى أصناف من الوزن الثقيل تُشابهها...


مثلي تماماً...


لا أقصد وزن جسمي، تعرفوني رشيقة!! بل أقصد قوة الشخصية والحكمة والرزانة، وكلها ولله الحمد تتوفر لدي!!!



قالت أنه بات أكثر عصبية، يهبُّ في وجه الجميع صارخاً!!


كم شعرتُ بالسعادة و شمتُ فيهم، كلهم دون استثناء!!

لا تحملقوا فيّ هكذا، أنا لستُ منافقة!!

فاليذوقوا شيئاً مما ذقته، لقد أذاقني الويل!!!


و مرّت صورٌ في ذهنها فتوقفت عن الكتابة و ضحكت ضحكةً مكتومة...


كان ذلك في آخر أسبوع معه، حين أعادها للعمل مع "جميلة" و "أشجان"...


الغيظ قد تجمع في صدرها منه، من بروده، من لا مبالاته، كيف يهمشها هكذا في لحظة و قد كانت تجلس معه أكثر مما تجلس مع والدها في البيت!!

من يظنّ نفسه!! لكن أنّى لقالب الثلج أن يتحرك، كل ما قاله:

- كفي عن السخافات!!

و كفّت عنها، لكن لا حياة لمن تنادي، ها هو اليوم الأخير لها في الشركة، يدخل و يخرج من مكتبه دون أن يلتفت لها حتى، دون أن ينظر لها و لو لثانية!!


انتهى وقت الدوام، خرج حاملاً حقيبته الجلدية و خاطب الجميع بصوتٍ جامد:

- يمكنكم أن تصرفوا الآن!!


ثم استدار إليها بنفس النبرة:

- لقد تمّ إرسال تقريرك يا آنسة إلى الجامعة و نسخة أخرى إلى الوزارة عن طريق الفاكس..
- ماذا كتبت فيه؟! سألته بعدائية و هي توشك على الانفجار.
- ما تستحقينه!! ردّ بإستفزاز و هو يعقد حاجبيه.

هبت واقفةً من كرسيها و هي تضع يداها على خصرها:

- و ما الذي استحقهُ برأيك!!
- أنتِ أعلم بنفسك!!


لم تجد نفسها إلا و قد سكبت عليه الماء المتبقي من الزهرية!!!


أخذ يطالعها مصدوماً و عشرات الشياطين تتراقص في عينيه...


ولكن، إن كان يملك العشرات فهي تملك المئات، صاحت في وجهه:



- ألا تنظر أمامك جيداً، لقد وسخت الأرضية!!!


- ....................


- كان عليك أن تقترب أكثر، لنتأكد إن كانت بدلتك ضد الماء أم لا!!!



غصّت "أشجان"، حتى "جميلة" أخفضت رأسها إلى أن لاصق ذقنها سطح المكتب...


- أتعرفين أنتِ مجنونة، وأنا لا أُحاسب المجانين!!


- ما المجنون إلا أنت!! صاحت بغيظ.

صرخ بغضب:

- أيتها الوقحة، قليلة الأدب..

فغرت "ندى" فاهها بإستنكار و هي تتلفت حولها...

- أنا قليلة الأدب؟! ماذا عنك!! أنت أفظع مدير رأيتهُ في حياتي، أنت..أنت شيء لا يُطاق، الكل هنا لا يُطيقك، اسألهم..

والتفتت لتلك الأخيرة:

- أليس كذلك؟!

لكنها لم تجب..
- انظر الفتاة أُصيبت بالخرس بسببك



- تخالني أخافُ منك أو من تقريرك، لا يهمني حتى إن رسبت!!

و دقّت الطاولة بيدها بتحدي و لم تجد إلا و قبضته تسقط على أصابعها..

صرخت




- تضربني، أتمدُّ يدك عليّ؟!

- حتى تتعلمي الأدب وإن رفعتِ صوتك قطعتُ لكِ لسانك

-




و نظرت إلى ساعتها و هي تطالع العقارب بقلق:

- أين ذهبت هذه الغدير، لم تعد بعد، و هاتفها مغلق!!

عاشقة الكتب 24-05-07 06:57 PM

النهااااااااااااااااااااااااااااااابه
 
جبان، جبان، جبان...



كيف فعلتُ ذلك؟! كيف عاملتها هكذا؟!



كان عليّ أن أسمعكِ حين أردتِ الكلام، أن أُمنحك الفرصة لتدافعي عن نفسك، لكنهُ الشيطان من أعمى بصيرتي، هو من أفقدني صوابي!!



سامحيني، أرجوكِ سامحيني....


أعلم بأني ظلمتك، بأني أهنتك و أسأتُ إليكِ...


كان رغماً عني صدقيني، ليس بيدي..


بالله عليكِ ماذا كنتِ تريدين أن أفعل؟!


أن أصمت و أنا أخالك على علاقةٍ برجل...


أيبقى في العقلِ شيء حينئذٍ؟!


أجيبوني!!



لكنها لا تعرف، إنها لا تفهم، لا تزنُ الأمور أبداً!!



و ضرب بقبضته على الطاولة فاهتزّ الكأس الزجاجي بإرتعاش...


صه!!






كُفّ عن لومها يا "عمر" و جادل نفسك، أخرج خباياها...



ماذا عنك؟!


لقد باتت تخافك، تخشى لقياك، إنها تفضل الجحيم على أن تعود إليك!!



أسمعتم ما قالته!!!


أسمعتم بالنار التي صلت جوفي؟!



تخالني سأعايرها!!



أأنا سأُعايركِ!!



أأنا أقدرُ على ذلك!!




أيُّ كلماتٍ تلك التي صفّتها و خنقتني..


كل كلمة، كل حرف خنجرٌ مسموم انغرز في صدري بلا رحمة...



كلا، لن أعايركِ، لن أذلّك، هذا ليس ذنبك البتة، بل ذنبُ ذلك ال****، ذلك القذر...



و اعتصر الكأس في يده بقوة..


تهشم...


و سال الدمُ أحمراً لاذعاً..



بقوة زخات المطر، بإنسياب ذراته...



تطلع ليده بغور، بعمق و هو يراقب تلك القطرات النازفة...



كلا، لن أدعها، لن أتركها..



"غدير" ستعود إلي، سأردها شاءت ذلك أم أبت حتى و لو ضغطتُ عليها بالقوة...



حتى و لو اضطررت لإخافتها!!



إنها لا تعرف مصلحتها أبداً، مصلحتها معي أنا أتسمعون!!!



سأُنسيها، ستنسى الماضي كل الماضي معي أنا..



سأصبر، لن أيأس أبداً، و ستعرف أني أحبها هي لشخصها، لا لإعتباراتٍ خرقاء أخرى!!



لكن لا بد من فعلِ شيءٍ أولاً!!



لا بد من تصفية بعض الأمور!!



و نهض بتصميم!!



========




كانت أنفاسها الساخنة تلفحُ وجهها رغم البرودة التي سرت في عظامها...



- أين كنتِ؟!



قطرات المطر قد بلّت ملابسها و ها هي تبلل الأرضية أيضاً، تصنعُ بقعةً صغيرة...



تطلعت إلى الوجوه المحدقة بها، تلك التي تنتظر إجابتها...



أخذت تنظر لهم بشرود، بحواس غائبة، دون أن تفقه شيئاً...



أردف صائحاً:



- أتعرفين كم الساعة الآن يا فتاة؟!


- .................


- الساعة الآن السادسة مساءاً، أين كنتِ منذُ الصباح؟! أردف "الأب" بغضب..



و تحركت شفتاها حينها بإرتعاش...



ليس من البرد، كلا!!!



بل لأنها المرة الأولى التي يصرخُ عليها خالها...



نظرت إليه بعينين غائمتين، خاويتين من كل شيء و لا شيء!!



لانت ملامح وجهه قليلاً، لكن نبرته لم تتغير....


عاد ليسألها بغضبٍ أبوي:


- أجيبي!!



أحاطت دفترها بيديها بقوة ربما لتستمد منهُ شيئاً من الدفء أو الأمان....


الأمان!!!


ردت بصوتٍ مرتجف:


- لم أذهب لمكان!!


- .................


همست بتقطع:


- لقد نسيتُ...نسيتُ دفتري و ذهبتُ لآخذه..


- ...................



ثم أردفت و هي تهزُّ رأسها نافيةً:



- لم يكن أحدٌ هناك، لم أرى أحداً!!


- ..................



و رفعت أناملها المرتجفة إلى وجهها و هي تصيح بإختناق:



- لمَ تنظرون إليّ هكذا؟!

- .................


- أنا لم أفعل شيئاً، لم أفعل شيئاً..


- ..................


- اسألوا أمي، اسألوها هي ستخبركم...



وشهقت بغصة و هي تهرع لغرفتها...



تنهد الأب بألم و هو يضع يده على رأسه فبدا كما لو كان قد كبر عشر سنين أخرى...




أمسكه "ناصر" و أجلسه على الأريكة...



قال بإجهاد:



- أنا لم أقصد ما ظنّته...


- أعلم يا والدي، لا عليك..


- كنتُ خائفاً عليها، هي الآن في عهدتي، إنها أمانة من والدتها رحمها الله..



ثم ضغط على جبهته:


- لا أدري ماذا أفعل، حاولتُ معها بشتى الطرق، لكن لم أتوصل لشيء..


- لا تقلق عليها، "غدير" قادرة على الاعتناء بنفسها...



- أتمنى ذلك..



و رفع ا رأسه فجأة و كأنهُ تذكر شيئاً ما:


- كيف حال "شيماء" الآن؟!


- بخير. ردّ بإقتضاب.



ثم أضاف مُزيداً:


- لقد باتت أكثر هدوءاً.


- ألم تخذها إلى المستشفى!!


- إنها ترفض..


- ربما كانت حاملاً!!



ابتسم "ناصر" ابتسامةً باهتة و هو يرد:


- كلا، ليست كذلك..



ثم قال مغيراً دفة الموضوع:



- سأصعد الآن، أتريدُ شيئاً!!


- انتبه لها و لنفسك..


- إن شاء الله.



و صعد تاركاً إياه يغرق من جديد في همومه لوحده!!



==========




مررت أناملها النحيلة على حروف اسمها المحفورة على جلده الأسود...



فتحت الدفتر المبتل و أنفاسها الحارة تجثو ببطء كخفوت نبضات قلبها...



كُتبَ بخطٍ أسود باهت....



مولودة في العام 1987




موؤدة في العام 1997!!




كنتُ في العاشرة من عمري، أسابق الحياة، أتلفت يمنةً و يسرى فتطاير معي جدلتاي و أظل أتابعهما و أنا أضحك، دائماً أضحك!!!



كنتُ في غرفتي، والوقت ظلام، ظلام قد غاب القمر فيه!!



سمعتُ طرقاً خافتاً على الباب فهرعتُ لأفتحه...



رفعتُ رأسي لأعلى..



كان طويلاً جداً، قد جاوز مرمى بصري...



- ماذا تفعلين يا حلوتي؟!


- أنا لستُ حلوتك!! و عبست في وجهه.



أخفض رأسه و هو يبتسم لها ابتسامةً صفراء:



- لقد أحضرتُ لكِ شيئاً!!


- ماذا؟!


- دمية جميلة مثلك..



وأخرجها من خلفه، بجلادتها الزاهية اللامعة..



مدت يدها لأعلى لتطالها بلهفة، فعاد ليرفعها أكثر بمكر...



- ما رأيك أن نلعب معاً؟!!


- أنت كبير، ستلعب بدمية!! و ضحكت عليه ببراءة بصوتٍ مرتفع.



و ضع يده على فمها محذراً:


- صه، اسكتي، أتريدين من والدتك أن تأتي و تأخذها!!


هزت رأسها نافيةً، ثم قالت و هي تبعد يده بقرف:


- رائحتك كريهة يا "عمي"..


- لا تجعليني أغضبُ منكِ، سآخذ اللعبة..


- كلا، كلا.



و عادت لتقفز لأعلى علها تصل إليها و هي تزدادُ ارتفاعاً...



- حسناً و لكن لا تخبري أحداً، إياكِ!!


هزت رأسها بالإيجاب و هي تقبضُ على العلبة الزاهية بسرعة...


و خرج بعد أن لعب لعبته الأخرى!!!



انسابت دموعها الساخنة على خديها، وصلت حتى نهاية الذقن إلى أن استقرت على الورق البالي...



ها هي تمتزج مع الحبر، تُمحي بقايا الحروف!!!



تراءت لها صورته تتراقص بين السطور مُحذراً بصوتٍ أقرب لفحيح الأفعى:




- لا تخبري أحداً!!



لم أخبر أحداً، لم أخبر أحداً أيها ال****....



عادت لتغوص في أعماق الورق...



لتمعن النظر أكثر في الحروف المتلاشية!!!



الوجه يبتسم و الابتسامة الصفراء تعلو الشفتين كلما التقى بها غامزاً بعينيه...



ليتك تموت، ليتك!!



إن أخبرتُ والدي سيقتلك، سيمزقك إلى أشلاء!!!


هو ليس هنا الآن، لقد ذهب ليستقبل والدتي!!



أمي تخاف، تخاف أن تبقى لوحدها في الظلام...



ما أسعدها، ستكونُ معه...



حتى النهاية، حتى نهاية النهاية!!




و هو!!


ماذا عنه؟!!



أنا لستُ بحاجةٍ له و لا لأحد..


أنا أستطيع العيش بمفردي...


أستطيعُ العيش في الظلام!!!



و مدت أصابعها لتمزقه، لتقطعه و تُمحي صورته للأبد...



لقد انتهى، انتهى كل شيء..



صرخت بصوتٍ مرتفع حتى تردد صداها في الغرفة...



- لم يعد لي ماضي، لقد مزقته، مزقته، لم يحدث لي شيء قط، لم يحدث..



و انتحبت بمرارة و هي تنظر لأشلاءها المتبعثرة في كل مكان!!



=======




كانت تطالعه بنظرةٍ هائمة، شفافة، تراقب حركاته، لفتتاته، إيماءاته و كلَّ خليةٍ فيه...



رفع رأسه عن الكتاب فجأة و كأنهُ شعر بعينين ترصدانه...



ابتسم في وجهها متسائلاً:


- استيقظتي؟!


هزت رأسها بإيجاب دون أن تفارقهُ عيناها...



ترك ما بيده و اتجه نحوها جالساً بجانبها....



خاطبها بحنان و هو يشير للكيس بجانبها:


- لقد أحضرتُ لكِ أكلةً صينية كالتي تُحبين..


أجابت بصوتٍ خافت:


- تعرفني لا أجيد استعمال أعوادهم..


- نحنُ لسنا في المطعم الآن.. علّق مازحاً.


- أنت تسخرُ مني. نظرت له بعبوسٍ مصطنع.


- حاشاي أن أسخر منك، من روحي!! و ابتسم بصدق.


روحك!!!


عادت لتتأمله بشوق، بوله، و حزنٍ دفين!!



و شرع بفتح الكيس لكنها أمسكته و هي تهزّ رأسها:



- لا أريد، ليس الآن..


- لا ترديني....


- سآكل فيما بعد، صدقني..



و همّ بقولِ شيٍء ما، لكن اهتزاز الهاتف قطعه، قال موجهاً لها الخطاب:



- هاتفك لم يتوقف عن اهتزازه منذُ الصباح!!


و حاولت أن تنهض لترى لكنه استوقفها:


- سأحضره، لا تتحركي..



و أحضره....


تطلعت إلى الرقم لمدةٍ طويلة و ملامح وجهها تتقلص بضيق....



- من؟! سألها مستفسراً.



لمَ تسرقون من سعادتي حتى اللحظات، ألا تعلمون بأني بأمس الحاجة لها!!


أجابت بعد جهد:


- لا أحد، لا شيء مهم.. و أغلقت هاتفها و الألم يعتصرها عصراً..



وصمتت بغصة و هي تطالعه بضياع...



- ماذا بك؟!


التفتت إليه بنظرةٍ ساهمة:


- "ناصر" عدني بشيء..


- قولي ما تشائين..



- عدني بأنك ستسامحني يا "ناصر"، عدني بذلك!! كررت بلهفة.


- أنتِ لم تفعلي شيئاً لأسامحكِ عليه..



- أرجوك قلها فقط، ستسامحني، ستغفر لي يوماً، أتوسلُ إليك!!



- أعدكِ بذلك.. ردّ بإنقباض.



و أراد الاستفسار لكن صوتاً آخر كبحه من جديد..


- هذا صوت عمي يناديك.. علقت "شيماء" بقلق.


- سأذهب لأرى...



و قام من مكانه بعد أن وصاها...



هزت رأسها بشرود دون أن تسمع..



سيسامحني، قال أنهُ سيسامحني!!



=======




كان جسدها يشتعل حرارة رغم البلل التي يسري في جسدها كقُطر الندى!!



فتحت عينيها ببطء لتجد "ندى" بجوارها و بيدها شيء..


حركت رأسها بضيق لتتجنبه..


عللت "ندى" مُعاتبة:


- هذه كمادات، أنتِ محمومة من بقاءك في المطر لساعات..


ثم أردفت بصوتٍ أكثر حدة:



- تلك كانت قمة الغباء..


- ليتني مُت و ارتحت..


- ماذا تقولين؟! صاحت بإستنكار.



أشاحت وجهها و لم تحر جواباً، وإن كان صدرها يعلو و يهبط بإنفعال...



سألتها بتعب:


- منذُ متى و أنا على الفراش؟!


- منذُ يومان..


- يومان!!



و أزاحت الغطاء عنها قليلاً لكن "ندى" أمسكتها بسرعة:



- أين ستذهبين، لازلتِ مريضة!!


- أنا بخير الآن، أريدُ أن أخرج سأختنق!!


- كلا، خروج لا!! صاحت بإندفاع.


- لماذا؟!


- ............


- لماذا؟!


نظرت لها "ندى" بإرتباك دون أن تنبس ببنت شفه.....


أخذت "غدير" تحدق فيها بشك....


خاطبتها بصوتٍ متهدج:


- خالي هو من قال هذا!! لم يعد يثق بي أليس كذلك؟!!


- .......................


- أليس كذلك؟! كررت بصياح.



و قلبت وجهها للجانب الآخر و هي تضغطُ بالوسادة على فمها علها تكتم شهقاتها...



" ليس هكذا، فقط لو تعلمين!!"...

=======



جدار!!!



أيّ قاصمِ ظهرٍ وضعوه ليحولوا بيني و بينها؟!!



إنها هنا بجواري، أكادُ أسمع صوتها....


لم أنم البارحة قط، ليس من الألم و لكن بسببها!!



يبدو أنها كانت تهذي، كانت تصرخ!!


كدتُ أفزُّ لها، أرى ما بها، أملأ عيني بمرآها...


لكنهم لم يسمحوا لي، قالوا لي لا يجوز!!


لا يجوز أن أرى زوجتي!!!



زوجتك؟!!



زوجتك أم طليقتك!!



بلى زوجتي أتسمعون، زوجتي مهما فعلت!!



و إن لم أرها اليوم سأراها غداً و بعد غد و متى ما شئت!!




فقط ابتعد يا "عمر" ابتعد قليلاً و ستدنو منك...



الطيور هكذا مهما فرّت، لا بد أن تعود يوماً لأعشاشها...



و أنت ملاذها يا "عمر"، ملاذها و إن طال انتظارك...


جرب و لن تخسر، ماذا لديك لتخسره بعدها؟!!



و شعر بوخزٍ مفاجئ فتحسس جبهته...



لازال الدمُ ندياً و الجرح لم يلتأم بعد...



لا يهم لو نفذ بأكمله، المهم أني حطمتُ أضلاعه، هشمتُ لذاك السكير وجهه!!!



لا أدري أما زال حيّاً!!


أما زال به رمق!!



الحثالة مقرها السجون حيثُ تقبع الحثالة التي تشابهها...



و ابتسم بقسوة...



الواسطة تنفع أحياناً!!




===========



تسلل نور الصباح خلسةً خلف الزجاج....


نهضت بهدوء كي لا تحدث أي ضوضاء فيستيقظ...


فاليوم عطلته، و من حقه أن يرتاح خصوصاً بعد حادثة اليومين الماضيين!!



شعرت بنشاطٍ غير عادي و هي تتلفت حولها!!!


مررت ببصرها حول المكان بحب...


هذه المرة الأولى التي تكتشف فيها جمال حجرتها...


أخذت تلمُّ ما تبعثر و تضعهُ في مكانه الأصلي...


اليوم، ليس ككل الأيام...


اليوم لا بد أن يعود كل شيء لمكانه، لحجمه الطبيعي و أولهم بطنها!!



و لاح طيفُ ابتسامةٍ شاحبة على شفتيها...



==========



شدّت على أصابعها بعصبية و هي تصيح:


- لم لم يخبرني أحدكم؟!


- كنتِ مريضة آنذاك..



أخفضت صوتها فجأة و هي تسألها بصوتٍ متوتر:



- كــ..كيف حاله؟!


- بخير، ناصر و أبي لم يتركاه لحظةً واحدة.


- جيد. ردت بغصة.



طالعتها "ندى"بطرف عينيها مُعلقةً:


- إنهُ في غرفة الجلوس الآن!!



رفعت "غدير" رأسها بعدائية:



- لم تخبريني ها؟!



- ...............


- لم أقل لكِ أني أريدُ أن أراه. صاحت بإنفعال.



هزت "ندى" كتفيها و مطّت شفتيها بلا مبالاة:


- كما تشائين!!



خرجت "غدير" من فورها و هي تصفق الباب خلفها بغضب..



ولجت إلى الصالة، و جلست على الأريكة ضاغطةً على جهاز "الريموت كنترول"...



رفعت الصوت عالياً، عالياً دون أن تفقه شيئاً مما يُنطق!!


الصور تبدو غائمة و العينان ترمشان، ترمشان بسرعة...



هو هنا الآن!!


تقول أنهم غرزوا جبينه، غرزوه؟!


هذا يعني أن الجرح بليغ..


مطواة!! استخدم مطواة!!


ذاك المجرم يفعلُ أي شيء..



و انقبض صدرها و قلبها يكادُ يخرج من ضلوعه، من قفصه الصدري..



لا تنظروا إليّ هكذا!!



لن أذهب إليه، أتسمعون!!



هو بخير، قالت أنهُ بخير الآن....



عادت لتشدُ على الأريكه، لتقبض عليها بأصابعها علّها تخفف تلك النار المشبوبة في جوفها...



تراخت أصابعها بعد برهة، أفلتتها و نهضت من فورها بلا شعور..



طرقت الباب بخفوت و دفعته ببطء دون أن تنتظر الإذن بالدخول...



كان وجهه محمرّاً و هو يشعل سجارته بلا مبالاة...



و رغم أنهُ أحسّ بوجودها إلا أنهُ لم يرفع رأسه بل لازال بصره مصوباً ناحية النافذة..



و لازالت هي واقفة عند الباب تُطالع كل شيء إلاه!!!



تحركت و هي تجرُّ قدميها جرّاً ناحيته علّها ترى شيئاً أو تتضح لها الرؤية و لو قليلاً، قليلاً فقط....



وضعت يدها على صدرها و عيناها معلقتان على ذقنه الذي لم يشذبه بعد، إنها لا تريد أن تشرأبًّ أكثر، لا تريد أن تنظر لأعلى، لذاك الامتداد!!!


و سقط بصرها سهواً!!


الحروف تتعثر، تنحبس بجوفها، تصارعُ لوعةً اجتاحتها ببطء، بقوة، بحرقان!!



هتفت غير مصدقة:


- ماذا فعلت بنفسك!!


- ....................



كان خطاً طويلاً، مائلاً على الجانب الأيسر من وجهه بالقرب من حاجبه...



- أأنت أحمق؟! صاحت بغصة و هي تقبض على صدغها بإختناق.




التفت حينها إليها بشزر ثم سحق سجارته و عاد لينظر إلى النافذة...



- أقلتُ لك اذهب إليه!! من خوّلك بذلك، كم مرة قلتُ لك لا شأن لك بي؟!!


- .................


- ثم، ثم منذُ متى تدخن!! ألا تعرف أن التدخين ضار بصحتك!!


- منذُ أن عرفتك، ارتحتي!! صاح فيها بنفاذ الصبر.


تطلعت إليه بعينين دامعتين و هي تعضُ على شفتيها...


- منذُ أن عرفتني!! ماذا فعلتُ لك؟! سألته بصوتٍ مبحوح.



- ألا تعرفين!! و أشاح وجهه بسرعة كي لا يرى نظرتها تلك..


- تريد أن تحملني مسؤولية ما حدث لك؟!


- أنا لم أقل هذا؟! صاح بغضب و هو ينهض من مكانه..


- أنت تتحدث كما لو كنت البريء و أنا من أخطأ!! صرخت.


- اعتذر، أنا المخطئ الأول و الأخير، ارتحتي الآن!!


- ...................


و انقطع ذلك الخيط من الصبر الذي يشده، انفلت من بكرته و تقطعت أسبابه..



- ماذا تريدين أكثر؟! اعتذار واعتذرتُ لك، تريدين أن أجثو تحت قدميك كي تعلمي بأني نادم أشدّ الندم..


- لا أريدُ منك شيئاً..



- كلانا أخطأ يا "غدير"، لستُ وحدي المذنب..


- لا تفتأ أن تلومني، كأنني السبب في ذلك!!


- لمَ تعقدين الأمور، لم تؤولين كلامي كما تريدين، لم تفعلين بي ذلك!!


- كي ترتاح، صدقني ذلك أفضل لي و لك...


- أنا لا أريد أن أرتاح، أنا أريدكِ أنتِ..


- و أنا لا أريدك!! صاحت بصوتٍ متهدج..


تقدم منها بغضب فانكمشت و هي تتراجع للوراء و تمسك بالجدار..


- لا تحاولي أن تستفزيني، أتسمعين!!


- لا تصرخ علي..


- لا تُملي عليّ ما أفعله، أنا أصرخ كما يحلو بي و أفعل ما يحلو لي...


- ستبقى ظالماً، لطالما كنتُ كذلك..


- ماذا عنكِ ها، أنتِ مجردة من الرحمة، أنتِ لا قلب لكِ..


- أجل أنا لا قلب لي، أنا أكرهك، اذهب من هنا، لا أريدُ أن أراك.. صاحت بإنفعال و جسدها يرتعد..



خطف مفتاح سيارته الموضوع بجانب المنفضة..



- أجل، اذهب، اذهب كما تذهب دائماً..



التفت لها بيأس و قد ارتسم الألم بحدّة في عينيه...



- أنا لا أفهمك، تريدينني أن أذهب أم أبقى؟!




- اذهب أو..ابقى هذا بيتكم وليس بيتي..



- كلا هذا بيتك وأنا من عليه الخروج، لا ينبغي عليّ الحضور هنا من جديد...


و قطعت حديثها و هي تراه يدلك جبهته بضيق...


- أراجعت الطبيب؟! سألتهُ بقلق.



أخفض يدهُ بسرعة و هو ينظر لعينيها بثبات، يغوصُ في أعماقها، في ذلك الليل الطويل!!


علّق ببرود:


- لمَ تسألين؟! لا شأن لكِ بي!! متساويان أليس كذلك؟!



صاحت من بروده، من لا مبالاته، من قسوته:


- خالي قلقٌ على صحتك ليس إلا، أنا لا يهمني ما تفعله بنفسك!!



و غطت وجهها بكفيها الصغيرين و هي تجهشُ بالبكاء...



الجو متوتر، مكهرب، مشحون بشتى الشحنات الإنفعالية...
اقترب منها أكثر حتى بات في مواجهتها...


- "غدير"!! ناداها بهمس...


- ................


- أنا آسف.


- ...............


- أرجوكِ..




رفعت رأسها لتراهُ أمامها، لترى عيناه...


كانتا تنضحان بشيءٍ قديم، شيءٍ لطالما رأته إبان زواجهما، حين كانا هنا معاً في البيت..



ذلك الشوق، تلك اللهفة، ذلك الحب الدفين...


ارتجفت أهدافها الذابلة و هي تخاطبه بغصة:



- كنت ستسجن للأبد لو مات!!


و صمتت و هي تتأمل جرحه...


لقد دافع عني يا أبي، دافع عني...


لقد أخذ حقي منه!!


ضرب على صدره بقوة، بإتجاه الوجيب، ذاك الذي يخفق بين الضلوع...



صاح بعذاب:


- أتخالينني حيّاً، أنا أموت في الثانية ألف مرة لكنكِ لا ترحمين!!




ماذا عني يا "عمر"، أنا لا أستطيع العيش بدونك..


لا أقوى على فراقك...


من منا من لا يرحم ها؟!



أجل، أنا كاذبة لا تُجيد الكذب...



أحبك يا "عمر" أقلتها لك مرّة!!




مسحت عينيها بسرعة و هي تنكس رأسها من جديد :


- سأنادي لك "ندى" لتعيد تضميد جرحك..


- لا تتعبي نفسك.. و تنهد بألم.


ثم أردف و هو يبتسم لها ابتسامةً حزينة:



- حسناً، سأذهب الآن..


- ....................


- انتبه لنفسك. و ارتجف صوتها بهمس و هي تشيح بوجهها..

لكنه لم يتحرك وقتها بل بقي يتأملها، يحتويها بعينيه...


النبضات تخفت، تتضاءل، تتوارى وراء الحُجب...



تناهى إلى مسمعها تباعد خطواته كطرقات المطرقة على المسمار!!


الأزيز مزعج، مؤذي للسمع، موجع للقلب!!!



صاحت بجزع:


- انتظر..


- ماذا؟


و التفت نحوها...


ردت بتلعثم دون أن تنظر إليه:


- أ..أ..


- ............


- أنا، أأ.. "ندى" تريدك!!


- .................



- لا تذهب، انتظر قليلاً..



و نظر لوجهها، كان قد احمرّ فجأة و بعنف...


أشاحت بسرعة و هي توصد الباب خلفها بخفوت...



ثم هرعت لغرفتها...



كان الجدال على أحدّه مع تلك الأخيرة..



- كلا لن أقول له ذلك، قولي له بنفسك..


- أنا أخجل، لا أستطيع لكن أنتِ لا...


- ماذا تعنين؟! أني عديمة الحياء!! صاحت بإستنكار.


وضعت "غدير" يدها على فمها و هي ترد:


- اخفضي صوتك، لم أعني ذلك، أنت مهذبة جداً، هيا أرجوكِ قبل أن يذهب...


- ماذا أقولُ له بالضبط؟!


- قولي له أيّ شيء، أي شيء قبل أن يذهب..


- حسناً، حسناً لقد حطمتي كتفي!!



و نهضت و هي تزفر و إن شابها ابتسامة شيطانية...



أما تلك فوقفت خلف الباب و يدها على قلبها الذي كان يدقُ بجنون...


أتراها تهورت...


أتُراها على صواب!!!


و لم تكن بحاجة لأن ترهف السمع، كان الصوتُ عالياً!!!



- "عمر" تقول لك "غدير" أنها خلف الباب تسمعنا!!



ندت من فمها شهقة مكتومة..



و انفتح الباب لترى زوجان من العيون مصوبة ناحيتها....


أشارت لها "ندى" بإصبعها الإبهام و هي تخاطب "عمر":



- أرأيت؟!


- ...........


- لقد قالت لي كما قلتُ لك بالضبط!!



تضرج وجه "غدير" و هي تضع يديها على خدها الذي التهب:


- أ..أ... أنا لم أقل شيئاً..



- بلى، تريدك أن تردّها الآن إن أمكن!!



رفعت "غدير" نظرها بصدمة لندى و هي تصيح فيها بإنفعال:


- أيتها الكاذبة!!


- ............



شهقت و هي تضربُ على صدرها:


- أنا كاذبة؟! ألم تتوسلي لي للتو لأخبره بأن يتزوجك..


- لا تصدقها!! و لكزتها بقوة بذراعها..



أخذت "ندى" تفركُ يدها و هي تهرب مبتعدةً عن قرصاتها:


- قلتُ لها لم أسمع قط بأن الفتاة تخطب، قالت لي بلى يحدث ذلك في الهند!!!



- أنا..أنا لم أقل ذلك أبداً.. خاطبته مطرقةً و هي تكاد تبكي.


- أجل، أعرف!!



- ...................



- "غدير"!! نادها بصوتٍ مخملي.



و دقّ قلبها بعنف..



- أتقبلين بي زوجاً؟!



رفعت رأسها إليه لثانية فضاع الأمسُ و اليوم و الغد!!!



ارتحلَ من روزنامة الزمن و لم يتبقَ إلا هو، هو فقط!!!



أطرقت بإستحياء..


- ماذا قلتِ؟!



تحركت شفتاها بإرتعاش، بهمس، بصوتٍ لا يكاد يُسمع:



- لا أعلم، اسأل خالي أولاً..


- سأحادثه الآن..


- كلا، ليس اليوم!!





و رفعت رأسها نحوه ببطء..



- بل غداً أو بعد الغد، أو انتظر، انتظر قليلاً..



أخذ يطالعها بحيرة....



كانت قد غابت نظرتها الخجولة وحل محلها نظرة خوف و قلق...



إنها لازالت خائفة ربما منه، أو من عودة الذكريات من جديد...


لا بأس سأنتظر، سأصبر، صبرتُ شهوراً ألن أصبر أياماً!!



ستعود، الطيور لا بدُ أن تعود لملاذها...



و حبيبتي ليست كأي عصفور...


تلك كانت حبيبة عمر!!


أليس كذلك؟!!


========




- أنا أشتهي توتاً، اشتر لي توت!!



وابتسمت ابتسامةً مضيئة في وجهه...


سألها بدهشة:


- توت!!


- أجل، توت!!


عقد حاجبيه باستفهام و هو يمرر أصابعه في شعره:


- توت في هذا الفصل من السنة، من أين!!


- يوجد في البقالة الكبيرة عند تقاطع الشارع الأخير... ناشدتهُ بلهفة.



ابتسم، بل شعر بغبطة و هو يتأملها...


هذه المرة الأولى منذُ زمن تطلبُ منه شيء...


و ماذا؟! طعام!!


تطور ملحوظ....



- كما تريدين يا سيدتي، تريدين شيئاً آخر؟!



- كلا، فقط توت!!



و شيعته حتى الباب..


و عادت لتبتسم من جديد!!



========




الصمت يجوبُ المكان...


لا أحد هنا، كلهم ذهبوا، و لم تبقَ إلا هي...



ها قد عاودها الملل من جديد، لن تجد من يسامرها الآن، من تتشاجر معه، من تخاطبه حتى!!!



لقد عادت "غدير" لعمر هذا الصباح.....



و رغم أنها كانت مترددة إلا أنّ الفرحة كانت تتراقصُ في عينيها السوداوان كل حين...


و تذكرت منظرها و هي تسحبها من الغرفة و هي تمتنع ضاحكة..


- اخرجي من غرفتي لا أريدك..


- هذه ليست غرفتك لوحدك، لي قسمٌ منها..


- من قال ذلك؟!


- خالي قال ذلك.


- لا تجبريني لإستعمال العنف!! شمرت "ندى" عن ساعديها..


- أأهونُ عليكِ هكذا، أنسيتِ ليالينا معاً!! و عبست "غدير" في وجهها.


- طبعاً و كيف أنسى!! هذا هو دافعي الأكبر لطردك..


- ماذا فعلتُ لك؟!


- أنتِ تشخرين، شخيرك المزعج يمنعني من أن أنام بهدوء!!


- أنا أشخر!! شهقت و هي تتمسك بعمود السرير بقوة و الأخيرة تدفعها.



- أجل لكني لم أخبرك من قبل، خفتُ أن أجرح مشاعرك!!


- أنتِ كاذبة..


و سمعتا نحنحة بالقربِ منهما....


تركت "غدير" العمود و أخذت تنظر لنفسها بتعثر...


"لم أنظر لنفسي في المرآة، يا إلهي كيف أبدو الآن!!"..


التفت له "ندى" بظفر و كأنها وجدت غنيمة...


صاحت بإنفعال:


- ها قد جئت في وقتك، "عمر" قل الحقيقة، زوجتك تشخر أم لا؟!


و التقت عيناها به تلك اللحظة....


بقيا هكذا مدةً طويلة و كأن الزمن نفذ هو الآخر...


و لم يتبقَ الآن إلا هو و هي فقط!!!



وضعت "ندى" يديها على خصرها و هي تنقل البصر بينهما بإستنكار...


- أنت..أنتِ!!



و انتبه لنفسه، فنظر لأخته بعينين ضيقتين و هو يخاطبها بصوتٍ مصرور:



- كفي عن التلفيق عن زوجتي..


- أنا من يلفق أم أنت!! لا تضطرني لأن أخبرها بمَ اتفقت به معي ذلك اليوم!!


وأشارت له بغيظ مهددةً..


- عمّ اتفقتما؟!


- لا عليكِ منها، هيا تأخرنا.


و سحبها من يدها بسرعة دون أن يترك لها المجال لتسأل أكثر و هي تخاطبه بأنفاسٍ متقطعة:


- انتظر، أغراضي لم آخذها..


- سنأخذها مرةً أخرى..


توقفت فجأة بشك:


- عمّا اتفقتما؟!


- لا شيء، لا شيء، إنها تهلوس، ألا تعرفينها!!



و لم تسمع بعد ذلك بقية حوارهما...



و قطع سرحانها الدق المتواصل على باب غرفتها..


- من؟!


- أنا ماما.


- ماذا تريدين؟!


- رجل هنا، يريد بابا.


- قولي له أنهُ غير موجود.


- قلتُ ذلك ماما، قال يريد أنت يكلمك..

فتحت "ندى" عينيها على اتساعهما و هي تفتح الباب لــ "أوميني" الخادمة...


- هو قال يريدني؟!


- يس ماما.


- ماذا قال بالضبط؟!


- قال يريد آنسة "ندى"!!


فغرت فاهها...


من ذا الذي يريدها!!


آنسة "ندى"!!


أتراه هو!!


معقول؟!!


التفتت للخادمة و هي تسألها:


- كيف شكله، أهو أصلع من الأمام؟!


- أجل ماما..


"هذا هو إذن"..


- ماذا أقول له؟!


- امممم قولي له ستأتي في الحال..


وأوصدت الباب في وجهها بعنف....


أسرعت للمرآة، وضعت "بلاش" و أحمر شفاه طبيعي و هي تربت على خديها...


فتحت خزانتها بوجل و هي تسحب لها شالاً من المنتصف فتناثرت ملابسها بأكملها على الأرض!!


هذا ما كان ينقصني!! و ركلتها بقدمها.



تطلعت لنفسها من شتى الزواية و حين استوثقت من نفسها خرجت...


و مشت بوقار!!!



فتحت باب غرفة الضيوف و هي تتنحنح بصوتٍ خافت...


و لم يلتفت، كان مُعطياً ظهرهُ لها و هو يتأمل محتويات المكتبة..


عادت لتتنحنح من جديد لكن لا حياة لمن تُنادي...




صاحت بنفاذ صبر:


- حتى متى!! أحبالي الصوتية تقطعت!


و استدار لها مبتسماً...


- أوه معذرةً، لم انتبه...



قالب ثلج، قالب ثلج!!!


لا فائدة منه إطلاقاً...


خاطبته بعجرفة من طرف أنفها:


- نعم ماذا تريد؟! والدي ليس هنا و أخوتي ليسوا هنا، لا أحد هنا إلاي، قل ما لديك بسرعة و خلصني..


لم يُجب بل جلس على أحد المقاعد بأريحية دون أن يعبأ بصياحها..


قال بهدوء:


- ألن تقدمي لي شيئاً؟!


- ليس لدينا شيء لنعطيك إياه، ثلاجتنا خالية!!


- حتى ماء!!


- بلى لدينا، لكن خادمتنا مريضة والمطبخ بعيد!!


- ....................


- لا تنظر إلي هكذا، إذا ماتت لا سمح الله من سيعمل لنا بعد ذلك!! ستأتي أنت لتطبخ؟!


تطلع لها بشزر:


- انتبهي لحديثك أم نسيتي أني المدير!!



- المدير هناك في شركتك المقرفة و ليس في بيتي...




ثم وضعت ساقاً على أخرى و هي تنظر له بفمٍ مزموم..



- اجلسي جيداً و تحدثي جيداً!! صاح بغضب.


عدلت من وضعها بسرعة و هي تجلس بخوف كتلميذة في المدرسة...



هزّ رأسه أسفاً و هو يتمتم:


- لا أدري متى ستهذبين ألفاظك؟!


عبست في وجهه لكن دون أن تنبس ببنت شفه...


ثم زفر و هو يردف بصوتٍ أكثر جدية و إن شابه توتر:


- اسمعي يا "ندى"..


حملقت فيه بدهشة، دون أن تستوعب ما سمعته...


ندى!!


أسمعتموه، قال "ندى"!!


هذه المرة التي يناديني بإسمي المجرد!!



- أأنتِ معي؟!

- ...........


- أأنتِ معي؟! كرر.



انتبهت لنظراتها، فعقدت ذراعيها على حجرها و هي تجيب بعدائية:



- أجل، تخالني أسرحُ بك!!


- قبل أن أقولُ لكِ ما أريد، أريدُ أن أحدثك عن نفسي قليلاً..


- ماذا، تفضل؟! سألته بفضول..


أطرق قليلاً و هو يقول:


- والدتي توفيت منذُ أن كنتُ في الثالة من عمري، كنتُ البكر، وبالرغم من ذلك إلا أن والدي لم يتزوج مرةً أخرى...


و صمت برهة ثم أردف:


- و قد عشنا معاً لوحدنا فلم أعرف النساء في حياتي قط..


- .....................


- لم أكن لأنتبه لهن، فقد كنّ في رأيي شيئاً هامشياً، شيئاً لم أعتد على وجوده بعد، لم أتعايش معه، أتفهميني؟!


هزت رأسها بإيجاب..


أجل فهمت....


يا إلهي أنت معقد!!!



و تغيرت نبرة صوته و بدا عليه الإرتباك للمرةِ الأولى منذُ أن عرفته...


- حتى جئتِ أنتي..


أنا!!


و استيقظت حواسها و هي تنظر له مشدوهة...


- كنتِ نوعاً آخر من النساء، ليس من النوع الذين اعتدتُ على التعامل معه بلا وجود في العمل، اقتحمتِ حياتي فجأة بحيوتيك، بنشاطك و جنونك اللامتناهي!!


- !!!!!!!!!!!


- و حين أحضرتكِ إلى مكتبي علمتُ أني كنتُ أجازف، أني سأكشفُ لكِ نفسي، كنتُ أريدكِ بجانبي، أن تلطفي حياتي الجافة التي تشبه حياة المعسكرات..


- .........................


- لكني فكرتُ كثيراً و وجدتُ نفسي أسوأ من يتعامل مع النساء، أنا لا أجيد التعامل معهم البتة و خفتُ أن أظلمك...


- ....................


- و حاولتُ إبعادك بعدها لكن لم أقدر، كنتُ أماطل نفسي حتى اللحظة الأخيرة..


- ....................


- قلتُ لنفسي أنكِ نزوة في حياتي ستنتهي بإنتهاء ضوضائها، لكني كنتُ أخادعُ نفسي..


و رفع رأسه و هو ينظر لها بثبات:


- أتتزوجيني يا "ندى"؟!


و انعقد لسانها فجأة و هي تمسك الأريكة كي لا تسقط من عليها...



- أتتزوجيني؟! أتقبليني بعيوبي؟!


لازال فمها مفغوراً...


لا بد أني أحلم، لا شك في ذلك!!


تطلعت إليه من جديد و هي تخاطبه بذهول:


- تريد أن تتزوجني؟!


- أجل..


- تتزوجني أنا!!


و هبت من مكانها واقفة دون تصديق، اقتربت منه فنظر لها بقلق:


- أنا لا مانع عندي أبداً..


- ..............


- و إذا شئت منذُ اليوم، لا داعي للحفلات و الشكليات!!!


- اليوم؟! في المرة القادمة بإذن الله.. ردّ بخوف.


- كلا، ربما تُغير رأيك!! صاحت في وجهه.


ثم وضعت يدها على فمها بصدمة....


ماذا تقولين؟!


سيهرب هكذا!!!


اثقلي يا "ندى" اثقلي!


لا بد أن تخجلي، لا فائدة منكِ، لن تتعلمي أبداً السلوك القويم!!



أسبلت عينيها و هي تقول بعتاب:


- ما بالك مستعجل هكذا، الدنيا لن تطير!!


- !!!!!!!



- صحيح أنّ الخطاب لا يتوقفون عند باب البيت لكني لا أقبلُ أيّ أحدٍ..


- لابد من أن تتوفر فيه شروط و أهمها السينما!!


و رفعت رأسها و هي تطالعه بعينين نصف مغمضتين:


- أتذهب للسينما؟!


- لا، ليس لدي وقت لهذه التفاهات..


- اها.. و مدتها و هي تطالعِ السقف.


- .................


- أنت مثلي تماماً، أنا لا أحب السينما أيضاً، كثيراً ما يدعوني الآخرين إلى هناك خصوصاً أخوتي "عمر" و "ناصر" لكني أرفض!!


- ........................


- أقول لهم لا يجوز!! نحنُ فتيات ما الداعي للذهاب للسينما التلفازُ موجود، لكن ماذا نقولُ عن شباب اليوم!!


وابتسمت له ابتسامةً واسعة و هي تسبلُ أهدابها من جديد...


"ستذهب رغماً عن أنفك!!!"


و خيم الصمت بينهما لكنها قطعته و هي تحمحم:


- احم، اذهب الآن و عُد مساءاً، في الساعة السابعة تقريباً!!


- لماذا؟!


نظرت إليه بغضب و هي تضع يديها على خصرها:



- كي تخطبني من والدي رسمياً، أم غيرت رأيك!!



- كلا، سآتي بالطبع!!


- جيد، سأذهب الآن إلى غرفتي، لا تنسى!!!


و استدارت بعد أن حدجته بتهديد!!




=========




جثت على التراب و هي تضع "المشموم" بعناية على القبر....



قرأت سورة الفاتحة في سرها ثم أغمضت عيناها و هي تتنهد..


الصور تمرُّ بطيئة، ثقيلة، ترزءُ بأوجامها....


حين كانت تسرح شعرها، حين كانت تغني لها قبل أن تنام، حين كانت تقول لها:


- كان يا مكان، في سالف العصر و الزمان، كان هناك فتاةٌ جميلة، تشبه البدر...


- ما اسمها؟! سألتها بطفولية.


- غدير!!


- مثل اسمي أنا!! وضحكت و هي تُشير لنفسها.

- أجل، دعيني فقط أُكمل..


- أكملي ماما..


- كان والدها تاجر كبير، يملك صناديق كبيرة مليئة بالذهب والفضة و ....


- كلا، كلا.. قاطعتها و هي تضرب بيديها على الفراش.


- ماذا يا ابنتي؟!


- هذا ليس والدي، أبي ليس تاجراً..


- أعلم و لكن هذه قصة!!


- كلا، كلا، لا أريدها، أريدُ أن أسمع قصتي أنا، "غدير" في المدرسة الإبتدائية و لديها أب يعمل سائقاً و أم لا تعرف صنع الحلويات كأمهات صديقاتي!!


- أنا!! قالت "الأم" بعتاب..


- أجل، أنتِ!!


و هكذا دواليك....



قبضت على حفنةٍ من التراب فتخللت أصابعها، تطايرت مع هبات النسيم..



لمَ نحسُ بقيمة الشيء بعد أن نفقده!!



رحمكِ الله يا أماه!!!



مسًّ كتفها فهزت رأسها و نهضت بعد فترة و هي تلملمُ نفسها...



مشيا صامتين ربما احتراماً لصمتِ أصحاب القبور...


صمتهم الأبدي!!!


و ما أن تجاوزاها حتى خاطبته بشرود:


- أتخالها سامحتني؟!


- بالطبع..



و عادت لصمتها من جديد و هي تركب السيارة بجواره..



- غدير!!


رفعت رأسها إليه بإستفهام...


عبث بجيب بنطاله ثم أخرج شيئاً...


- خذي.


و تطلعت إلى النقود التي دسها في يدها و أثنى أصابعها عليها..



- ما هذا؟!


- المكتوب!!


- المكتوب؟! كررت بتساءل.


- أجل أنتِ من قال إذا تحقق لك ما تريد، لا بد أن تدفع شيئاً...


- ...................



- أنسيتي!!


و ما أن استوعبت حتى نظرت إليه بدهشة:


- أستشيعت؟!



هزّ رأسه نافياً و هو يبتسم بهدوء:


- كلا.


أرخت قبضتها و هي تطالع النقود المرصوصة في كفها..


رفعت رأسها إليه و هي تبادله بإبتسامة:


- امممم وماذا تمنيت؟!


- لن أخبرك.. ردّ بعناد.


- أرجوك!!


- آسف، أشياء خاصة!! و أدار محرك السيارة.



ضربته على كتفه بخفة و هي تقول:


- و منذُ متى لديك أشياء خاصة لا أعلمها؟!


- ماذا الآن؟! أراكِ بدأتي تتصرفين كالزوجات الفضوليات، أنا لا أحبُ هذا الطبع أبداً!!


- هذا طبعي و لن أغيره، ماذا ستفعل؟! نظرت إليه بتحدي.


- ماذا أفعل؟! قال مفكراً و كأنهُ يحل معضلة..


- أجل، ماذا ستفعل!!


و التفت لها حينها بثبات...


أجاب بشغف، و عيناهُ تهيمان بوجهها:


- سأسجد لله شاكراً، يكفيني أن عدتِ لي..


و تفاجئت من رده..


أخذت تطالعه بحب، بشوقٍ دفين، ليس منذُ اليوم و لا حتى الأمس...


بل منذُ سنين، أبعد من السنين!!




- عمر.. نادته بهمس.


- نعم؟!



- .............



- ماذا تريدين؟! كرر بإهتمام.



- كنتُ أريد أن أسألك..


و تطلعت إلى عينيه، إلى السؤال الذي كان يلحُّ عليها دائماً..


- ماذا؟!


- امممم لاشيء..


و أردفت و هي تزمُّ شفتيها بلؤه:


- أشياء خاصة!!




ثم أمالت برأسها على كتفه و هي تضحك بخفوت من دمدمته...



========





- قلتُ لك يا "ناصر" لا تقف أمام هذه النافذة.


ابتسم في وجهها وهو يهمس:


- تخافين علي؟!


تورد وجهها، لكنها سرعان ما قطبت جبينها بعبوس وهي تردف:


- هذة النافذة خطيرة، انظر ليس بها قضبان، الحمد لله لا يوجد في هذا المنزل أطفال..


- لكن قريباً سيفدون مثنى وثلاث ورباع...


قالها وهو يفرد أصابعه للعد، ثم أردف متسائلاً بابتسامة:


- أم نكتفي باثنين، أعتقد أن هذا الزمن تصعب فيه تربية أطفال كثيرين...


- ..........................


- لكن لو كانوا يشبهونك فلا مانع أن يكونوا عشرة، حتى إذا رأيتُ أحداً منهم في الشارع تذكرتك...




ثم عاد ليردد لها هامساً:


- سننجب طفلاً، طفلاً جميلاً..


- وإن كانت طفلة؟!


- سيكون هذا أروع، سأسميها شيماء2 ، واحدة في قلبي والأخرى في سويداءه...






و أفاقت من ذكرياتها، ذكرياتِ الأمس البعيد...



قال سيسميها بإسمي، لقد وعدني بذلك...



و أغمضت عينيها بقوة و هي تعضُ على شفتيها الذي بللها مجرى الدموع المالح...



سامحني يا "ناصر"...



سامحني...





و في بقعةٍ ليست ببعيدة، على الشارع المقابل....



و قف هناك مشرأباً بعنقه حيثُ جمهرة الناس..




الريحُ عاصفة، زمهريرة، تلقفُ ما أمامها، تقتلعهُ من الجذور!!!!




الرؤوس تبتعد، تتركُ المجال للآخرين لكي يروا بعد أن ملّوا هم الرؤية!!


فتناثرت محتويات الكيس...





أكان دمها ذاك أم بقع التوت!!!!









انتهى!!!

عاشقة الكتب 24-05-07 06:59 PM

النهااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااايه

اتمنى ان تنال اعجابكم

حسين السريعي 12-06-07 08:24 PM

وآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
 
السلام عليكم
عزيزتي عاشقة الكتب أولا ذوقك حلو جداً الرواية فعلا رائعة 00وأحب اقول لك أني أنا وشذى الوردة وأنت نتشارك في الأذواق !!!!
لكن حبيبتي الرواية منزلتها شذى وساعدتها أنا من زمان على هذا الرابط :flowers2:
http://www.liilas.com/vb3/showthread.php?t=33609

♫ معزوفة حنين ♫ 19-02-11 09:47 PM




مكرر ، يُنقل للآرشيــف ..




الساعة الآن 08:49 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية