منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء (https://www.liilas.com/vb3/f484/)
-   -   فرسان الارض- الكتاب الاول (https://www.liilas.com/vb3/t37703.html)

اسلام ادريس 22-04-07 12:57 PM

فرسان الارض- الكتاب الاول
 
بسم الله الرحمن الرحيم

اصدقاء المنتدى, هذه رواية خيالية من تأليفي, ارجو منكم موافاتي بالاراء حتى استكملها, وشكرا لكم

[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URL

فرسان الارض..

على ارض بعيدة..

كانت موجودة في زمن موغل في القدم..

ستدور الاحداث..

وعن شخصيات لا نقرأ عنها الا في كتب الاساطير المنسية..

ستكون المغامرة..

انهم ابطال لم يسعوا للبطولة..

ولكنها كانت قدرهم..

معارك لا تنتهي..

ومغامرات مثيرة..

واجواء ساحرة..

انها ملحمة عن الشجاعة..

عن الصراع الازلي.. بين الخير والشر..

ملحمة سنطلق عليها لقبا مميزا..

انه لقب الفرسان.. فرسان الارض..

اسلام ادريس


الكتاب الاول..

(فارس الصحراء)..

اسمه مجد..

ينتمي الى قبيلة تعيش في الصحراء الشمالية..

كان قدره ان يغادر الصحراء..

تاركا وراءه كل شيئ..

ليبدأ مغامرته الكبرى..

لايعرف كيف, واين, ومتى تنتهي..

امور كثيرة سيراها مجد خارج الصحراء الشمالية..

وامور اكثر سيواجهها.. فمالذي سيواجهه ياترى؟!..

انه من الصعب الاجابة في هذه المساحة الضيقة!!..

فالأمر بالتأكيد يحتاج الى مساحة اكبر.. واكثر رحابة!!..








طبول الحرب..

امتدت الصحراء الواسعة برمالها التي تسلطت عليها اشعة الشمس, وتلالها الرملية المتناثرة هنا وهناك, وجبالها العالية التي بدت كأشباح قائمة في المدى البعيد..
ومن خلف تل رملي انطلق صهيل قوي قبل ان يبرز جواد اسود كليل بهيم بلاقمر, وعلى صهوته استقر الفارس..
بنيان متماسك وقوي, بشرة سمراء لوحتها الشمس, عينان سوداوان واسعتان يعلوهما حاجبين كثين, وندبة امتدت على جانب وجهه الايسر, وشعر اسود طويل انتثر على كتفيه بلا انتظام..
ملابسه بدت بسيطة ومتمشية مع اجواء الصحراء الحارة, ومن حزامه تدلى سيف ضخم, وعلى ظهره كنانة امتلأت بالسهام, وعلى كتفه الايمن قوس ذو وتر مشدود جيدا..
اسمه مجد, فارس ينتمي الى واحدة من القبائل التي تسكن الصحراء الشمالية منذ سنوات طويلة للغاية, وكعادته كل يوم, خرج على صهوة جواده الادهم مبتعدا عن مضارب القبيلة, يجوب الصحراء الواسعة بحثا عن صيد ما..
وهاهو يدور بعينيه في كل اتجاه, وماان وقعتا على غزال يقتات من شجيرات الصحراء الجافة حتى تألقتا, وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة واسعة وهو يقول:
- هاهو صيد ثمين ايها الادهم.
قالها وجذب من كنانته سهما, وبكل هدوء ثبته في وتر القوس, وصوبه تجاه الغزال الغافل عن الخطر المحدق به, وافلت السهم ليشق الهواء بصفير حاد قبل ان ينغرس في عنق الغزال الذي سقط مضرجا في دمائه التي سالت تروي الرمال العطشى..
ولكز مجد جواده ليتقدم به نحو الغزال الصريع, وعاد يعلق القوس على كتفه, وماان هم بالترجل عن صهوة الجواد حتى تناهى الى سمعه صوت حوافر جواد يقترب من جهة الجنوب, فقطب وهو يدير عنان الجواد, ومن خلف التلال بدا جواد اشهب يقترب وفارسه يصيح بأعلى صوته:
- مجد.. يا مجد.
قال مجد متعجبا:
- انه زعس!!.. مالذي اتى به الى هنا؟!.
وسرعان ما اتته الاجابة عندما توقف الجواد الاشهب امامه وزعس يقول بصوت لاهث:
- هجير وفرسانه يهاجمون يامجد.
قطب مجد مرة اخرى قبل ان يقول:
- هجير وفرسانه؟!.
هز زعس رأسه بالايجاب وهو قول:
- اجل يا مجد, انهم يهاجمون بأعداد كبيرة هذه المرة, وقد اخذ فرساننا على حين غرة.
شدد مجد قبضته على عنان الادهم وقال بلهجة امتزج فيها الغضب بالصرامة:
- هلم بنا اذن يا زعس, فلابد من تلقين هجير وفرسانه درسا قاسيا.
قالها وانطلق يتبعه زعس..
انه هجير زعيم عصابات الجبال البعيدة, وهاهو يغير على مضارب القبيلة من جديد, ولكن بأعداد كبيرة هذه المرة, اذن فهو ينوي فرض سيطرته التامة بلاشك..
وارتقى مجد تلا رمليا يشرف على مضارب القبيلة ليطالعه مشهد فرسان هجير وقد اشتبكوا مع فرسان القبيلة في معركة حامية الوطيس..
واستل مجد سيفه ورفعه عاليا وهو يهتف:
- لقد اتاك مجد يا هجير.
قالها وانطلق يهبط التل مثيرا خلفه عاصفة من الغبار, وهلل فرسان القبيلة لدى رؤيته في ساحة المعركة, فمجد لم يكن ابدا مجرد فارس عادي, بل هو تميمة النصر في اي معركة تخوضها القبيلة..
وبدا مجد على متن جواده الادهم, وسيفه يضرب يمينا ويسارا كأسد ثائر تجرأت مجموعة من الثعالب على اقتحام عرينه في غيابه, وبات واضحا ان الهزيمة ستكون من نصيب هجير وفرسانه, وعلى صهوة جواده زمجر هذا الاخير وهو يقول غاضبا:
- تبا لك يا مجد.. تبا لك.
ثم التفت الى احد فرسانه وقال:
- قم بتنظيم انسحاب سريع يا سعدون.
قالها وانطلق بجواده نحو خيام نساء القبيلة, فقال سعدون يسأله:
- الى اين تذهب ايها الزعيم؟.
مجيبا قال هجير وهو يبتعد بجواده:
- نفذ ماامرتك به ولا تسأل يا سعدون.
ولم يمض على عبارته وقت كثير قبل ان يبدأ فرسانه في الانسحاب من ساحة المعركة يجرون وراءهم اذيال الهزيمة, واخذ فرسان القبيلة يطلقون صيحات حماسية, في حين اعاد مجد سيفه الى غمده, ودار بعينيه بين جثث القنلى التي مزقتها السيوف والرماح, وتنهد بقوة قبل ان يقول:
- معركة اخرى, والمزيد من الدماء تروي الرمال.
ودون ان يشارك الفرسان حماسهم لكز جواده ليبتعد به عن المكان, ولكنه سرعان ماجذب عنانه ليتوقف عندما سمع صوت صراخ وعويل آت من خيمة كبيرة توسطت خيام النساء, فأسرع الى هناك ليستطلع الامر, وقبل ان يبلغ الخيمة اعترض زعس طريقه ليقول وقد تجهمت ملامحه:
- لقد اختطف هجير الاميرة ياسمينا زوجة الامير خالد يا مجد.
قال مجد منزعجا:
- ماذا؟!!, وكيف نجح هجير في اختطاف الاميرة يازعس؟!!.
زفر زعس وقال مجيبا:
- من المؤكدانه استغل الفوضى التي سادت المضارب يامجد و..
قاطعه مجد ليقول بحزم:
- ابلغ الامير خالد ان الامير ياسمينا ستعود الى القبيلة قبل ان تتوسط الشمس كبد السماء.
ودون ان يضيف حرفا انطلق بجواده الادهم كالريح, فقال زعس مندهشا:
- انتظر يا مجد, لا تذهب اليهم وحدك يا مجنون!.
ولكن مجد اختفى مع جواده خلف التلال, فعض زعس على شفته السفلى قبل ان يقول:
- لابد ان يعلم الامير خالد بهذا, لابد.
* * * *
مبـــارزة..

- لقد اجاد هجير اختيار مخبئه حقا.
قالها مجد وهو يسير بجواده الادهم الهويني عبر ممرات الجبال التي اكتنفها الضباب, وامتدت يده الى مقبض سيفه تحسبا لأي هجوم مباغت من فرسان هجير..
واسمتر مجد في طريقه عبر الممرات الجبلية دون ان يصادف اي اثر او علامة على وجود اي كائن حي في هذه الجبال حتى بلغ ساحة واسعة بين الجبال, فجذب عنان الادهم ليتوقف, وترجل عن صهوته وهو يتلفت حوله و..
- هجير..اني اتحداك ان تواجهني الآن في عرينك, وبين رجالك.
قالها مجد وهو يستل سيفه ويلوح به في الهواء, وسمع صدى صوته يتردد من حوله, ولكن مامن اجابة على تحديه لهجير, فقطب قبل ان يصيح مرة اخرى:
- اخرج من مخبئك يا هجير, وواجهني كرجل.
وماان اتم عبارته حتى انطلق سهم يشق الهواء لينغرس في الارض امام مجد الذي قال بصرامة:
- انك تثبت لي جبنك وتراجعك عن مواجهتي يا هجير.
ومع آخر حروف عبارته برز من خلف الصخور العملاقة فرسان هجير واحاطوه بدائرة مغلقة, فقال مجد متسائلا:
- اين زعيمكم هجير, لقد تحديته هو؟.
اتته الاجابة من خلفه بصوت هجير الغليظ:
- خلفك مباشرة يا مجد.
التفت مجد الى مصدر الصوت ليرى هجير واقفا امامه وقد عقد ذرعيه امام صدره العريض غزير الشعر, فقال:
- اين الاميرة ياسمينا يا هجير؟.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي هجير وهو يقول:
- يالوقاحتك يا مجد!, الا ترى انك محاط بفرساني من كل جانب دون اي فرصة للفرار!.
نظر مجد الى فرسان هجير بلامبالاة وقد قبض كل واحد منهم على رمحه, وتعبير متحفز على وجه كل واحد منهم, قبل ان يعود بعينيه الى هجير ويقول:
- الاميرة ياسمينا ياهجير.
اطلق هجير ضحكة قصيرة ثم قال متسائلا وقد تألقت عيناه:
- اذن, فأنت تريد الاميرة ياسمينا يامجد, اليس كذلك؟.
لم ينبس مجد ببنت شفة تعليقا على سؤال هجير الذي قال متابعا:
- لنفعلها على طريقة الاجداد يامجد, سنتبارز هنا بين رجالي, مبارزة حتى الموت, واذا انتصرت علي سيسلمك رجالي الاميرة ياسمينا, فما رأيك؟.
تقدم مجد بضع خطوات للامام قبل ان يقول مجيبا:
- موافق ياهجير, لنفعلها على طريقة الاجداد.
استل هجير سيفه ونظر الى سعدون وقال:
- احضر الاميرة ياسعدون.
قال سعدون مترددا:
- ولكن ايها الزعيم..
قاطعه هجير ليقول بشراسة:
- قلت لك احضر الاميرة ياسعدون.
أومأ سعدون برأسه وقال:
- امرك ايها الزعيم.
وغاب لحظات قبل ان يعود ومعه الاميرة ياسمينا بملامحها الرقيقة التي اعتراها الشحوب والرعب الشديدين, وماان رأت مجد حتى قالت بلهفة:
- مجد, انقذني من هؤلاء الوحوش.
نظر اليها مجد وقال بلهجة واثقة:
- اطمئني يا سمو الاميرة, فكل شيئ سيكون على مايرام.
افلتت ضحكة ساخرة من هجير قبل ان يمسح شفتيه بظهر كفه ويقول:
- حذار من الاسراف في التفاؤل يا عزيزي مجد, فأنت ستواجه هجير.
لاح شبح ابتسامة متهكمة على شفتي مجد وهو يقول:
- اجل, سأواجه هجير الذي فر من ارض المعركة اليوم كفأر مذعور.
اشتعل الغضب في عيني هجير الضيقتين, وامسك سيفه بكلتا يديه وقال:
- سأروي الارض بدمائك يامجد.
قالها وانقض كثور هائج على مجد الذي ظل واقفا في مكانه دون ان يحرك ساكنا, وماان رفع هجير سيفه ليهوى به على رأسه حتى تحرك بسرعة, فتلقى سيف هجير على حد سيفه, وفي ذات اللحظة دفع قدمه في معدة هجير الذي تراجع للوراء وقد اختل توازنه, فسقط ارضا على ظهره..
- يالشجاعتك الفائقة يا هجير.
قالها مجد بسخرية, فتجهمت ملامح هجير بشدة, وهب واقفا بسرعة, واطلق صيحة عالية وهو ينقض مرة اخرى على مجد الذي رفع سيفه يصد سيف هجير, وتردد صليل السيوف, وبقوة امتزجت بشراسة اخذ هجير يسدد ضرباته الى مجد الذي تحرك برشاقة وهو يصد هذه الضربات على سيفه بمهارة متحركا الى اليمين واليسار..
وتصبب العرق غزيرا على وجه هجير, وراح صدره يعلو ويهبط وقد تلاحقت انفاسه, فقال مجد ساخرا:
- هل اصابك اليأس من هزيمتي ياهجير؟.
فزمجر هجير وعاود الانقضاض على مجد, والتقت السيوف مرة اخرى بصليل قوي وعنيف, هجير يضرب بقوة وعنف محاولا افقاد مجد سيفه, ومجد يتحرك برشاقة, وسيفه يضرب بسرعة ودقة محاولا افقاد هجير قوته اكثر واكثر..
واثمرت محاولات مجد, فهجير بدأ يقف قوته, واصيبت ضرباته بالوهن, فاستغل مجد هذا وانقض يسدد عدة ضربات متلاحقة الى سيف هجير انهاها بضربة بارعة الى مقبض سيفه ليسقطه ارضا..
وانتفض جسد هجير عندما وضع مجد ذبابة سيفه على عنقه وقال:
- بإمكاني الآن ان انهي حياتك القذرة يا هجير.
تبادل فرسان هجير نظرات ملؤها الدهشة لهزيمة زعيمهم, وتوقعوا ان يغوص سيف مجد في عنقه, ولكن مجد ابعد السيف عن عنقه وقال وهو يوليه ظهره:
- ولكني سأتركك حيا تتجرع مرارة هزيمتك مرتين في يوم واحد.
قال هجير بصوت لاهث وهو يستل من حزامه خنجرا ماضيا:
- الامر لم ينتهي بعد يا مجد.
وانقض يريد ان يغمد الخنجر في ظهر مجد الذي استدار بسرعة وكأنما توقع فعلا خسيسا كهذا من هجير, وبكل قوته دفع سيفه للامام, فشهق هجير واتسعت عيناه عن آخرهما عندما غاص سيف مجد في صدره ونفذ من ظهره, وجذب مجد سيفه ليطلق هجير شهقة اخيرة قبل ان يسقط على وجهه جثة هامدة ودماؤه تسيل على الارض..
وقال مجد وهو يعيد سيفه الى غمده:
- لقد ارتوت الارض بدمائك انت يا هجير.
واتجه نحو الاميرة ياسمينا وقال يسألها:
- هل انت بخير يا سمو الاميرة؟.
هزت الاميرة ياسمينا رأسها ايجابا, في نفس اللحظة التي استل فيها سعدون سيفه وقال:
- لقد قُتل زعيمكم امام اعينكم, فهل ستتركون قاتله يفر منكم؟.
اتته اجابة الفرسان وقد اشهروا رماحهم, فقطب مجد وهو يستل سيفه..
ان هزيمة كل هذا العدد من الفرسان مستحيلة مهما بلغت شجاعته, فالكثرة ستهزم الشجاعة دون شك و..
وانطلق سيل من السهام يخترق صدور واعناق فرسان هجير, فدب الذعر في نفوسهم, وتراجع سعدون يحتمي بصخرة وهو يهتف بسخط:
- تراجعوا يارجال, تراجعوا.
وتنفس مجد الصعداء عندما رأى كوكبة من فرسان القبيلة يقودهم زعس يقتربون منه, وماان توقفوا امامه حتى ترجل زعس عن صهوة جواده وقال وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه:
- مرحى يامجد, لقد قتلت هجير.
ابتسم مجد بدروه وقال:
- لولا وصولكم للحقت بهجير يا زعس.
وتلاشت ابتسامته وهو يقول مردفا:
- والآن, ساعد الاميرة على امتطاء صهوة جواد وعد بها الى القبيلة.
قالها وقفز على صهوة جواده الادهم, ولكزه بكعبه, فرفع الادهم قائميه الاماميين واطلق صهيلا قويا قبل ان ينطلق بفارسه ويختفي عن الانظار, فهز زعس رأسه وقال:
-انت بطل لم يسع للبطولة يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- ولكنها قدرك الذي لا مفر منه يا صديقي.
* * * *
ذكــرى من المــاضي..

-" لماذا تعلمني القتال يا ابي؟".
قالها صبي في التاسعة من عمره, اسمر البشرة, ذو شعر اسود قصير, فابتسم والده وقال مربتا على كتفه:
- حتى تصبح فارسا بالطبع يا مجد.
قطب مجد وقال يسأله:
- ولماذا تريدني ان اصبح فارسا يا ابي؟, لأدافع عن مضارب القبيلة؟.
اتسعت ابتسامة والده, وداخل لهجته قدر كبير من الغموض وهو يقول:
- كلا يا مجد, مالهذا السبب ادربك حتى تصبح فارسا.
قال مجد متسائلا:
- لماذا تدربني اذن يا ابي؟!.
اتسعت ابتسامة والده اكثر دون ان ينبس بحرف واحد ردا على سؤال مجد!!.
* * * *
تداعت هذه الذكرى من قلب الماضي الى ذهن مجد وهو جالس امام خيمته يتطلع الى السنة اللهب التي اخذت تتطاير من كومة الشجيرات المشتعلة امامه..
السماء توسطها قمر كامل الاستدارة ارسل سنا من ضوئه على الرمال فمنحها القا فضيا ساحرا, هبات من الهواء البارد تحركت بين التلال, وتسللت بين خيام القبيلة..
-" لماذا دربتني اذن اذا لم يكن من اجل القبيلة؟!, لماذا ياابي؟!.
قالها مجد بصوت هامس وهو يحرك الشجيرات المشتعلة بخنجر صغير في يده..
هذا السؤال يؤرق تفكيره على الدوام, ولا يفارقه ليلا او نهارا, يطرحه على نفسه مرارا وتكرارا دون ان يحصل على اجابة شافية..
حتى والده رفض ان يمنحه هذه الاجابة الشافية كلما طرح عليه هذا السؤال..
ففي كل مرة يسأله فيها يبتسم تلك الابتسامة الغامضة ويربت على كتفه ويقول:
- دع الايام تجيبك يا مجد, وليس انا.
حتى مات والده متأثرا بجراح بالغة اصيب بها في واحدة من المعارك التي خاضتها القبيلة ضد عصابات الجبال البعيدة..
ومرت السنوات, واصبح هو فارسا لايشق له غبار, بل تحول بمرور الايام الى مثل يحتذى به في الفروسية, والشجاعة, والاقدام, وتناقل ابناء الصحراء احاديث فروسيته كالاساطير, اصبح رمزا للنصر في كل معركة يقود فيها فرسان القبيلة..
ولكنه ابدا لم يشعر بالالفة والارتياح مع كل هذا, لم يفخر يوما بالدماء التي اراقها سيفه لتروي رمال الصحراء, دائما يراوده شعور بأنه لاينتمي الى هذه الصحراء, لاينتمي الى صراعاتها وحروبها التي لاتنتهي, انه لم يصبح فارسا ليعيش ويموت ويدفن في الصحراء و..
- كعادتك يا مجد,تفضل البقاء وحيدا.
قال مجد دون ان يلتفت الى قائل العبارة:
- انت تعلم انني افضل الوحدة يا زعس, بعيدا عن الآخرين.
ابتسم زعس وقال وهو يجلس الى جواره:
- حتى لو اخبرتك ان الآخرين يقيمون احتفالا من اجلك؟.
لاح شبح ابتسامة على شفتي مجد وهو يقول:
- انا لا استحق ان تقام الاحتفالات من اجلي.
قال زعس مستنكرا:
- لماذا تنتقص من قدر نفسك هكذا يا مجد؟!.
هازا كتفيه قال مجد:
- وماقدر نفسي يا زعس؟, بل ماقدر حياتي وضربة سيف او طعنة رمح قادرة على انهائها في لمح البصر؟.
قال زعس:
- الموت هو النهاية لكل كائن حي يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- ولكن ليس هذا ماعنيته, فأنت افضل فرسان الصحراء الشمالية بلا منازع, واليوم فقط اثبت هذا بذهابك وحيدا الى الجبال وبارزت هجير وقتلته بين رجاله, وفي بؤرة نفوذه وقوته, انت فارس الصحراء يا مجد و..
قاطعه مجد ليقول مقطبا:
- فارس الصحراء؟!, من اوحى اليك بهذه الفكرة السخيفة يا زعس؟!.
مبتسما قال زعس:
- انها ليست فكرة سخيفة يا مجد, ولكنها الحقيقة التي تأبى الاعتراف بها.
وربت على كتف مجد قبل ان يقول مردفا:
- انت فارس الصحراء, شئت ام ابيت يا مجد.
قال مجد محاولا الاعتراض:
- ولكن يا زعس..
قاطعه زعس ليقول:
- في كثير من الاحيان تغدو البطولة امرا محمودا يا مجد, وانت بطل باعتراف الجميع, فلا تدر ظهرك لهذه البطولة يا صديقي, وحذار ان تترك احدا يسلبك اياها.
وقام واقفا, ونظر الى السماء ثم قال:
- القمر بدر هذه الليلة, ولو صدقت اساطير الاجداد, فإن ارواح الابطال القدامى تتحرك بيننا الآن.
تجهمت ملامح مجد دون ان يعلق على عبارة زعس الذي ابتعد عن المكان بخطوات واسعة..
انه لا يؤمن بالاساطير التي يستمتع عجائز القبيلة بسردها على مسامع الاجيال الجديدة من ابناء القبيلة..
اساطير عن الابطال القدامى, وارواحهم التي تتحرر في ليلة اكتمال القمر والكثير من هذه الامور التي يراها محض هراء..
" ودع الايام تجيبك يا مجد, و ليس انا"..
"وليس انا.."...
* * * *
مــرآة الافــق..

اسمه همام, حكيم الصحراء الشمالية, هكذا يعرفه ابناء الصحراء, يعيش وحيدا في خيمته عند اطراف الصحراء الغربية, لا احد يعرف اصله او المكان الذي اتى منه على وجه التحديد, الكثيرون قالوا بأنه واحد من جماعة مارست فنون السحر المختلفة منذ زمن بعيد, واستوطنوا الجبال البعيدة قبل ان تتخذها شرذمة من الرجال مقرا لها, قالوا بأن افراد جماعته غادروا الصحراء فجأة ولم يبق سواه..
البعض الآخر زعموا بأنه قادم من بلاد بعيدة تقع وراء البحر العظيم الواقع خلف الجبال البعيدة,وزعموا ايضا انه يعرف اسرار الماضي, وباستطاعته قراءة المستقبل, والكثير من الاقاويل والمزاعم, ولكن لا شئ مؤكد على الاطلاق.
المهم انه موجود, يملك حكمة وعلما لايملكهما احد في الصحراء, وكل من يشعر بحاجة الى النصيحة يذهب اليه, والكثير من امراء القبائل يستشيرونه في امور استغلقت عليهم, فتحول الى رمز الحكمة, والمعرفة, والغموض في الصحراء.
وفي يوم اشرقت فيه الشمس, ونشرت اشعتها الذهبية على كل شيئ استيقظ مجد من نومه وعرق غزير يغمر وجهه..
صدره اخذ يعلو ويهبط مع تلاحق انفاسه, لازالت تفاصيل الحلم الذي رآه عالقة في ذهنه, يراها ماثلة امام عينيه..
لقد رأى نفسه يهيم في الصحراء على صهوة جواده الادهم, بلا هدف او جهة معينة يذهب اليها, عندما ظهر والده فجأة..
ووجد نفسه يهتف:
- ابي, مالذي تفعله هنا؟!.
ابتسم والده وقال:
- لقد جئت لأدلك على الطريق يا مجد.
قال مجد يسأله:
- الطريق؟!, عن اي طريق تتحدث ياابي؟!.
اتسعت ابتسامة والده وقال وهو يشير بسبابته الى نقطة ما بدت لعيني مجد يكتنفها ضباب كثيف:
- هذا الطريق يا مجد.
وكما ظهر والده فجأة, اخنفى فجأة, واستيقظ من نومه والعرق يغمر وجهه..
- ياله من حلم عجيب.
قالها مجد وهو ينهض من على فراشه البسيط, وتناول اناءا فخاريا امتلئ بالماء, وارتشف منه بضع رشفات ومسح شفته بكفه ثم قال:
- اي طريق هذا الذي اشرت اليه يا ابي؟, اي طريق؟.
- الحكيم همام, لا احد سواه قادر على جعل الامور واضحة امام عيني.
قالها مجد واسرع يرتدي ثيابه, ولف حول خصره حزاما تدلى منه سيفه الضخم, وغادر الخيمة, واطلق صفيرا متصلا, فجاوبه صهيل قوي قبل ان يظهر جواده الادهم من خلف تل رملي قريب, وماان توقف الجواد امامه حتى ربت مجد على معرفته وقال مبتسما:
- كيف حالك ايها الادهم؟.
صهل الادهم واخذ ينفث الهواء من منخريه, فربت مجد مرة اخرى على معرفته قبل ان يشرع في تثبيت السرج على ظهره, وماان انتهى حتى اعتلى صهوته بقفزة رشيقة ولكزه بكعبه وقال:
- هيا ايها الادهم, هيا.
صهل الادهم ورفع قائميه الاماميين ثم انطلق مثيرا خلفه سحابة كثيفة من الغبار..
وعبر رمال الصحراء المنبسطة انطلق بفارسه نحو اطراف الصحراء الغربية حيث يعيش الحكيم همام..
ان الحلم الذي راوده يحمل رسالة ما بالتأكيد..
لقد اراد والده ان يرشده الى طريق ما لابد ان يسلكه..
ولن يجد مجد في الصحراء كلها شخصا باستطاعته ان يدله على هذا الطريق سوى الحكيم همام..
-" الحكيم همام رجل كلنا نثق بعلمه وحكمته يا مجد"..
-" وسيأتي يوم, ستسعى فيه الى نصيحة الحكيم همام ومساعدته يا مجد"..
عبارات رددها والده على مسامعه كثيرا وهو لايزال بعد صبيا..
عبارات بدت له حينذاك غامضة, بلا معنى, ولكنها الآن باتت واضحة, لقد اتى اليوم الذي تحدث عنه والده اخيرا..
اليوم الذي يسعى فيه الى الحكيم همام يطلب المساعدة والنصيحة..
وامام عينيه لاحت خيمة الحكيم همام, وامام مدخلها وقف الاخير وابتسامة واسعة تتألق فوق شفتيه..
ولابد لنا من وقفة لتأمل ملامح الحكيم همام وهيئته..
انها ملامح لابد ان تزرع المهابة في نفس كل من ينظر اليها..
القامة طويلة, البشرة بيضاء, العينان رماديتان واسعتان تحيطهما التجاعيد, الانف طويل ومستدق, الشعر رمادي قصير, اللحية رمادية تصل الى منتصف الصدر, الثوب رمادي فضفاض, وفي يده استقرت عصا خشبية على قمتها بللورة سداسية الاضلاع انعكست عليها اشعة الشمس..
- لقد انتظرت هذه الزيارة لسنوات طويلة يا مجد.
قالها الحكيم بصوت عميق عندما توقف الادهم امامه, فترجل مجد عن صهوته وقال متعجبا:
- انتظرتها؟!, ولسنوات طويلة؟!, ولكن كيف وانت لا تعرفني, ولم ترني قبل هذه اللحظة؟!.
اتسعت ابتسامة الحكيم همام اكثر وقال:
- انا اعرف هذه الصحراء بكل مافيها ومن فيها كما اعرف نفسي يا مجد.
قطب مجد دون ان يعلق, فضحك الحكيم همام ثم قال وهو يستدير نحو مدخل الخيمة:
- اتبعني يا مجد.
تردد مجد قليلا قبل ان يهزم تردده ويدلف الى الخيمة وراء الحكيم همام..
الخيمة من الداخل بدت شديدة النظافة, وتعبق بها رائحة عطرة, وفي منتصفها انتصب عمود حجري مصقول متوسط الطول لم ير مجد له مثيلا من قبل, وعلى قمته المستديرة استقر حوض زجاجي امتلئ بسائل فضي اللون..
- ماهذا الشيئ ايها الحكيم همام؟!.
قالها مجد وهو يشير بسبابته نحو العمود والحوض, فابتسم الحكيم همام وقال:
- اقترب يا مجد ولا تخش شيئا.
وماان اصبح مجد الى جواره حتى قال مردفا:
- هذه هي مرآة الافق يا مجد.. ارث قديم في الواقع.
وصمت لحظة ثم قال مكملا:
- لقد اتيت لتعرف الطريق الذي ينبغي عليك ان تسلكه, وهذه المرآة ستساعدك على هذا يا مجد, ستجعل الطريق الذي اشار اليه والدك في الحلم واضحا امام عينيك.
قال مجد مندهشا:
- ولكن كيف..
ولكنه بتر عبارته عندما مرر الحكيم همام البللورة في قمة عصاه فوق سطح السائل الفضي وهو يتمتم بكلمات لم يفهم منها حرفا واحدا, ونظر اليه الحكيم وهو يقول:
- والآن انظر الى المرآة لتعرف ماجئت تبحث عنه هنا.
حدق مجد في وجهه دون ان يجرؤ على النظر في الحوض, فابتسم الحكيم همام وقال:
- انظر يا مجد قبل فوات الآوان.
انتفض جسد مجد قبل ان ينظر الى سطح السائل الفضي, وامام عينيه تموج سطح السائل وتحول الى سطح شفاف, وفي المرآة رأى مجد مالم يكن يتوقعه ابدا!!..
فأمامه رآى غابة, اشجار عالية, وحشائش متشابكة, ورأى نفسه يقاتل قوما لم يتبين ملامحهم, انه هو بلاشك, ولكن اين توجد هذه الغابة يا ترى؟!, انها ليست هنا في الصحراء بالتأكيد!..
وفجأة تغير المشهد في المرآة ليرى مجد نفسه في ارض صخرية موحشة, ومن حوله جبال عالية ذات قمم مدببة, وضباب كثيف حول هذه القمم, وامامه مباشرة قلعة ضخمة جدرانها مبنية من حجارة شديدة السواد, لها ابراج اشتعلت النار في قممها, بوابتها حديدية برزت منها نصال حادة يقطر الدم منها..
وللمرة الثالثة تغير المشهد امام عينيه ليرى سهلا فسيحا, تدور فيه معركة رهيبة, وفي السماء ظل اسود عملاق حجب اشعة الشمس, واخذ ينفث السنة متتابعة من اللهب فوق رؤوس المتقاتلين..
واخيرا تموج سطح المرآة ليرى مجد نفسه على صهوة جواده الادهم, امامه طريق طويل تسلطت عليه اشعة الشمس, وهاهو يلكز جواده لينطلق به عبر هذا الطريق..
وعاد سطح المرآة الى لونه الفضي مرة اخرى, ومرت لحظات من الصمت قبل ان يقول مجد متسائلا:
- ماهذا الذي رأيته ايها الحكيم؟!.
مجيبا قال الحكيم همام:
- انه الطريق الذي اشار اليه والدك يامجد, وارادك ان تعرفه وتسلكه.
قال مجد يسأله مرة اخرى:
- ولكن كيف تعرف كل هذا ايها الحكيم؟, ولماذا اشرت الى هذه المرآة بأنها ارث قديم؟.
ابتسم الحكيم همام وقال وهو يربت على كتفه:
- ليست كل الاسئلة تحتمل الاجابات يا مجد.
ساد الصمت للحظات قبل ان يقول مجد:
- مارأيته في هذه المرآة يشير الى شيئ واحد ايها الحكيم.
ونظر الى عيني الحكيم همام مباشرة وهو يردف قائلا:
- الرحيل عن الصحراء الشمالية.
قال الحكيم همام وهو يربت على كتفه مرة اخرى:
- انه قدرك يا مجد.
هز مجد رأسه بالايجاب وقال:
- صدقت ايها الحكيم.. انه قدري الذي لا مفر منه.. الا اليه.
* * * *



الرحــــيـــل..

دلف مجد الى خيمة الامير خالد وانحنى امامه وهو يقول:
- لك السلام يا سمو الامير.
ارتسمت ابتسامة على شفتي الامير خالد وقال وهو يشير لمجد بالاعتدال:
- اجلس يا مجد..اجلس يا بطل.
اتخذ مجد مجلسه على بساط مجاور لمجلس الامير خالد الذي قال وابتسامته تتسع:
- اولا, وقبل ان اعرف السبب الذي طلبت لقائي من اجله, اريد ان اشكرك بشدة على انقاذ ياسمينا من قبضة هجير يا مجد, صحيح انه شكر متأخر بعض الشيئ, ولكنك تستحقه بالطبع.
قال مجد:
- لم افعل شيئا استحق عليه الشكر يا مولاي, ماهو الا واجب كان سيقوم به اي فارس بالقبيلة ان لم اقم به انا.
قال الامير خالد:
- لا احد في القبيلة يملك شجاعتك واقدامك يا مجد.
ورفع حاجبيه وقال بلهجة طغى عليها الاعجاب:
- ان تقتحم عرين هجير وحدك, وتبارزه بين رجاله وتقتله امام اعينهم!, انها لعمري شجاعة تستحق كل اعجاب وكل تقدير يا مجد.
اطرق مجد برأسه وهو يقول:
[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URL- اشكرك يا مولاي على هذا الثناء.
ابتسم الامير خالد وقال:
- لا تشكرني على ماانت حقيق بنيله يا مجد.
ثم انه قال مردفا:
- والآن هات مالديك يا مجد, فكلي آذان مصغية.
مرت هنيهة من الصمت قبل ان يقول مجد:
- في الواقع انه قرار اتخذته واردت ان اخبرك به يامولاي.
قال الامير خالد يسأله:
- اي قرار هذا يا مجد؟.
اخذ مجد نفسا عميقا ملأ به صدره واخرجه في زفرة قوية قبل ان يقول ردا على سؤال الامير خالد:
- انه قرار بالرحيل يا مولاي.
بدت الدهشة على وجه الامير خالد وهو يقول:
- الرحيل؟!!!.. مالذي تقصده يا مجد؟!!!.
مجيبا قال مجد:
- الرحيل عن الصحراء الشمالية يا مولاي.
ظل الامير خالد على دهشته وهو يحدق في وجه مجد, ولكنه سرعان ماتجاوز دهشته وهو يقول متسائلا:
- ولماذا قررت امرا كهذا يامجد؟, اعني مالسبب الذي دفعك الى هذا؟.
لم ينطق مجد بكلمة واحدة يرد بها على الاميرخالد, وفي هذه اللحظة تنازعته رغبتان متناقضتان..
الاولى ان يخبر الامير خالد بكل شيئ, عن الحلم الذي رآه, وذهابه الى الحكيم همام, والمشاهد التي رآها في مرآة الافق..
والثانية ان يكتم الامر ويحتفظ به لنفسه, والا يطلع عليه احدا على الاطلاق..
- لم تجب عن سؤالي يا مجد.
قالها الامير خالد بحزم ليحسم مجد امره ويقول:
- اعذرني يا مولاي, ولكني افضل الاحتفاظ بالسبب لنفسي.
قطب الامير خالد وهو يقول:
- حتى عني انا يا مجد؟!, امير القبيلة ورأسها؟!.
ازدرد مجد ريقه بصوت مسموع ثم قال:
- ارجوك يا مولاي.. انه رجاء اتمنى ان تحققه لي.
تطلع اليه الامير خالد للحظات قبل ان يتنهد ويقول:
- ولكن, الا تعلم بأن القبيلة تحتاج اليك يا مجد؟, فمن الذي سيقود فرسانها اذا ما قررت عصابات الجبال ان تقوم بهجوم انتقامي علينا؟.
قال مجد مجيبا:
- سيمر وقت طويل قبل ان يفكر رجال هجير في الهجوم علينا يا مولاي, على الاقل حتى تنتظم صفوفهم ويعتادون موت زعيمهم.
وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول:
- ودعني اقولها لك يا مولاي, فالقبيلة بها فرسانا اشداء قادرين على تولي القيادة افضل مني, فقط امنحهم الفرصة ليثبتوا لك كفاءتهم وجدارتهم.
ابتسم الامير خالد بدوره وهو يقول:
- كلا يا مجد, فليس في الصحراء كلها من يفوقك فروسية وحسن قيادة, فأنت الافضل بلا منازع, وبشهادة الجميع كذلك.
انفرجت شفتا مجد ليقول شيئا ما, ولكن الامير خالد قال مستدركا:
- ولكني لا استطيع ان اقف في طريقك يا مجد, فأنت كوالدك الراحل تماما, اذا ما قرر ان يفعل شيئا, فإنه يمضي فيه حتى النهاية دون ان تثنيه قوة عن عزمه.
وربت على كتف مجد وهو يقول:
- اذهب يا مجد, ولكن حاول ان تعود الينا سالما, فإنها لخسارة فادحة ان تفقد الصحراء فارسا مثلك.
حاول مجد ان يبتسم وهو يقول:
- اعدك بأن احاول يا مولاي.
وكانت عبارته هي فصل الختام.
* * * *


الشمس بدأت رحلة الغروب, اضواؤها الدامية لطخت صفحة السماء وانعكست على رمال الصحراء الممتدة, هبات من الرياح الباردة اخذت تسري معلنة بداية ليلة جديدة..
وامام خيمة مجد وقف زعس بملامح متجهمة, وذراعين معقودين امام صدره ينظر الى مجد الذي انهمك في تثبيت السرج على ظهر الادهم..
- ولماذا الآن بالذات يا مجد؟.
قالها زعس وهو يخطو للامام قليلا, فقال مجد يجيبه دون ان يتوقف عما يفعله:
- لكل شيئ وقت معلوم يا زعس.
ازدادت ملامح زعس تجهما وهو يقول:
- ولماذا الرحيل يا مجد؟!, لماذا يا صديقي؟!.
- منذ وقت طويل وانا اشعر بأنني لا انتمي الى الصحراء يا زعس.
اجاب بها مجد وهو يتأكد من احكام اربطة السرج, فقال زعس مستنكرا:
- الهذا السبب فقط قررت الرحيل بهذ البساطة عن الارض التي نشأت فيها؟!.
وهز رأسه وهو يردف قائلا:
- كلا يا مجد, ان عقلي يأبى ان يصدق, فأنا واثق من وجود سبب آخر دفعك لاتخاذ قرار كهذا.
اطرق مجد للحظة قبل ان يلتفت اليه ويقول:
- صدقت يا زعس, فهناك سبب آخر يدفعني للرحيل.
تهللت اسارير زعس وقال بحماس:
- لقد كنت وا..
ولكن مجد لم يمهله وقال يقاطعه:
- ولكني لن اخبر به اي مخلوق يا زعس.
قال زعس مندهشا:
- ولكني صديقك الوحيد يا مجد, فكيف..
عاد مجد يقاطعه ويقول:
- لا داعي لجدل عقيم ومحاولات لن تجدي نفعا يا زعس.
ساد الصمت بعد عبارته, واخذ الظلام يفرض هيمنته تدريجيا, وعلى ظهر الادهم قام مجد بثبيت لفافة جلدية وضع بها شيئا من الطعام وجرابا جلديا للماء, و..
- سأرحل معك اذن يا مجد.
- قالها زعس بتصميم, فاربدت ملامح مجد والتفت اليه بحركة حادة وهو يقول:
- ماذا تقول؟!, ترحل معي؟!.
هز زعس رأسه ايجابا وقال:
- اجل يا مجد, فمادمت ترفض اخباري بالسبب الذي يدفعك للرحيل عن الصحراء, فسآتي معك, و..
قاطعه مجد بلهجة صارمة كحد الحسام:
- مستحيل يا زعس, فقرار الرحيل قراري انا, طريقي الذي سأسير فيه وحدي,ولن يشاركني فيه احد, هل تفهم هذا؟.
قال زعس بعناد وهو يعقد ذراعيه امام صدره:
- حاول ان تمنعني اذن يا مجد.
تجاوز مجد المسافة التي تفصله عن زعس بقفزة واحدة وقال:
- زعس, لا تجبرني على فعل مالا احب.
ابتسم زعس وقال يسأله:
- ومالذي ستفعله يا مجد؟, هل ستقتلني حتى لا ارحل معك؟.
ضيق مجد عينيه وهو يقول:
- كلا يا زعس, ولكن هناك وسيلة اخرى بالتأكيد .
اتسعت ابتسامة زعس, وقبل ان يهم بسؤال مجد عما يعنيه فاجأه هذا الاخير بلكمة قوية على فكه ارتج لها كيانه, وعاجله مجد بلكمة اخرى اشد من الاولى ليسقط على الرمال فاقد الوعي وخيط رفيع من الدم يسيل من ركن فمه, فتنهد مجد وقال:
- سامحني يا زعس, ولكني لا اعرف مالذي سأواجهه خارج الصحراء, ولااريد ان اعرض حياتك لأي خطر يا صديقي.
قالها واعتلى صهوة الادهم, والقى نظرة اخيرة على زعس قبل ان يلكز الادهم الذي صهل بقوة وانطلق به مبتعدا..
انطلق والظلام يواصل فرض السيطرة.. والانتشار..

* * * *










عن قرية الاقزام.. وحكيم.. ونبوءة..

اخيرا تخطى حدود الصحراء الشمالية..
هكذا فكر مجد وجواده الادهم ينطلق به فوق ارض كساها الاخضرار تماما..
اخيرا اصبح خارج الصحراء الشمالية بعد كل السنوات التي قضاها فيها, وبعد كل المعارك التي خاضها, والانتصارات التي حققها على اعداء قبيلته,وهاهو مقبل على فصل جديد من فصول حياته..
انه الآن في ارض لم تطأها قدمه من قبل, لا يعرف ماينتظره فيها, ولاشيئ يضيء ظلام الطريق امامه سوى تلك المشاهد التي رآها في مرآة الافق عند الحكيم همام..
رفع عينيه الى السماء ليجد انها تدثرت بضوء شاحب يعلن ميلاد يوم جديد, لقد ظل يعدو بجواده طوال الليل دون ان يتوقف الا لماما ليتناول شيئا من الطعام والشراب..
ومن حوله, ومع بداية شروق الشمس اخذت ملامح الارض تتضح امام عينيه اكثر من ذي قبل, فبين الحين والآخر مرت به تلال مكسوة بأعشاب خضراء اختلطت بها زهور متعددة الالوان, ومع توغله في هذه الارض اكثر واكثر كانت اعداد التلال من حوله تزداد, ومن مكان ما تناهى الى سمعه صوت مياه متدفقة, فقطب وهو يقول:
- من المؤكد ان هذه المياه قريبة من هنا ايها الادهم.
ولم يمض الكثير على عبارته حتى لاح امام عينيه نهر تدفقت مياهه من الشمال الى الجنوب, فجذب عنان الادهم الذي اطلق صهيلا قبل ان يتوقف امام حافة النهر وهو ينفث الهواء من منخريه..
وترجل مجد عن صهوته, ودار بعينيه في المنطقة المحيطة بالنهر..
في الجهة الاخرى من النهر بدا امامه صف من الاشجار تفاوتت في احجامها, فمنها ما كان ذا ارتفاع شاهق واغصان متشابكة واوراق كثيفة, وبعضها ذو ارتفاع متوسط واغصان متفرعة بدت كأذرع مفرودة في الهواء, وبين هذه الاشجار نمت حشائش كثيفة متوسطة الارتفاع, بعضها اكتسب لونا قرمزيا داكنا اختلط بلون ابيض باهت, والبعض الآخر اكتسب لونا ازرق خالطه شيئ من اللون الاخضر, ومن بين اغصان الاشجار تعالى صوت تغريد عذب انتشت له نفس مجد..
ولاحت ابتسامة على شفتيه وقال وهو يربت على عنق الادهم:
- انه مكان جميل وهادئ, اليس كذلك ايها الادهم؟.
قالها وانحنى على ركبتيه امام مياه النهر, وبمياهه الباردة اخذ يغسل وجهه وذراعيه, في حين انحنى الادهم يقتات من الارض الخضراء..
ومع ملامسة المياه لوجهه شعر مجد بأنه في امس الحاجة الى قسط من الراحة بعد رحلته الطويلة من الصحراء حتى هذا المكان..
وعلى الارض الخضراء تمدد وهو يسبل جفنيه, واخذ النوم يغزو عينيه وكل حواسه سريعا, ولكن قبل ان يغرق فيه تماما صهل الادهم فجأة, ففتح عينيه وهب واقفا وهو يستل سيفه بسرعة, ولكن جسدا دافئا ارتطم به بقوة ليسقطه ارضا ويفقده سيفه..
واعتدل مجد جالسا وهو ينظر الى مهاجمه, وتجهمت ملامحه عندما رآه, ذئب ضخم, فراؤه شديد السواد, عيناه حمراوان بلون الدم, انيابه ضخمة يسيل منها الزبد..
وببطئ امتزج بالحذر نهض مجد, وبخطوات وئيدة اخذ يقترب من سيفه وعيناه معلقتان بالذئب الذي بدا وكأنه ادرك ما يسعى اليه, فزمجر قبل ان ينقض مرة اخرى على مجد ولعابه يتطاير في الهواء, وقبل ان يبلغ منتصف المسافة بينه وبين مجد انطلق سهم من مكان ما يشق الهواء بصفير حاد لينغرس في عنق الذئب, فسقط ارضا وهو يطلق عواءا متقطعا والدماء تسيل منه بغزارة..
وما ان همدت حركة الذئب تماما حتى اخذ مجد يتلفت حوله بحثا عن المكان الذي انطلق منه السهم تحديدا..
ولكن بحثه لم يطل, فمن بين الاشجار على الجهة الاخرى من النهر برزت فتاة تمسك قوسا في يدها..
متوسطة القامة, سمراء البشرة, عيناها سوداون ضيقتان, شعرها اسود قصير لا يصل الى كتفيها, ثيابها بدت بسيطة تنم عن الفقر ورقة الحال..
- من انت؟, ومالذي تفعله هنا؟.
قالتها الفتاة وهي تثبت سهما آخر في القوس وتصوبه نحو مجد الذي قال وهو يلوح بكفه:
- على رسلك, فلست اضمر لك اي شر.
قطبت الفتاة وهي تقول:
- انت لا تنتمي الى هذا المكان, اليس كذلك؟.
أومأ مجد برأسه ايجابا وقال:
- هذا صحيح, فأنا غريب عن هذا المكان.. قادم من الصحراء الشمالية.
ازدادت تقطيبتها وهي تقول:
- لم ار اي غريب هنا من قبل.
قال مجد مندهشا:
- لماذا؟!, الم يأت اي غريب الى هنا من قبل؟!.
تطلعت اليه الفتاة قليلا قبل ان تخفض قوسها وتقول ردا على سؤاله:
- ليس في هذه الايام على الاقل .
قال مجد يسألها:
- مالذي تقصدينه بهذه الايام؟.
اولته الفتاة ظهرها وقالت دون ان تهتم بالاجابة على سؤاله:
- لا انصحك بالبقاءهنا طويلا, فالذئاب كثيرة في هذه البقعة, وهذا الذئب ماهو الا اول الغيث.
قال مجد متسائلا:
- الاتدليني اذن على مكان آمن انال فيه قسطا من الراحة؟.
قالت دون ان تلتف اليه:
- اذا سرت بمحاذاة النهر صوب الشمال ستجد خانا يملكه عجوز يدعى آسر, ستحصل هناك على ماتريد.
وصمتت لحظة ثم قالت:
- ولكن احذر ايها الغريب, فعيون الملك كاسر وجواسيسه في كل مكان تترصد الاخبار له.
قالتها واسرعت تختفي بين الاشجار, وظل مجد واقفا في مكانه للحظات قبل ان ينظر الى الذئب الصريع وهو يقول:
- يالها من فتاة!.
وانحنى يلتقط سيفه ويعيده الى غمده, واعتلى صهوة الادهم وقال وهو يلكزه:
- هيا بنا.
* * * *
فوق ربوة لا ترتفع عن سطح الارض كثيرا لاح خان العجوز آسر, مبني من حجارة بيضاء خالطها شيئ من سواد, سقفه مبني من الخشب, وتعلوه مدخنة اسطوانية من الحجر تعالى منها دخان اسود, وسبق مدخله طريق صاعد على كلا جانبيه سياج خشبي قصير..
وارتقى مجد الطريق الصاعد على قدميه بعد ان ربط عنان الادهم في جذع شجرة قريبة, ودفع الباب الخشبي ودلف الى الخان..
المكان بالداخل بدا واسعا, وفي كل مكان تراصت ارائك وطاولات خشبية مثبتة الى الارضية الحجرية, ومع اول خطوة خطاها مجد داخل الخان, ساد صمت مفاجئ وعيون رواد الخان تتجه اليه, فقال:
- مرحبا.. اسمي مجد, وانا قادم من الصحراء الشمالية.
لم ينبس احدهم ببنت شفة في حين اتاه صوت واهن يقول:
- هنا ايها الغريب.
التفت مجد الى مصدر الصوت ليرى عجوزا قصير القامة, ممتلئ الجسد يتوكأ على عصا خشبية غليظة واقفا امامه, فقال مبتسما:
- انت آسر مالك هذا الخان, اليس كذلك؟.
قال العجوز وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه:
- هل بلغت سمعتي الى الصحراء الشمالية ايها الغريب؟.
قال مجد وابتسامته تتسع بدروه:
- كلا, ولكني التقيت منذ قليل بفتاة عند النهر هي التي ارشدتني الى هنا.
قال آسر متسائلا:
- اهي فتاة متوسطة القامة, سمراء البشرة, ذات عينين سوداوين, وشعر اسود قصير؟.
هز مجد رأسه ايجابا وقال متعجبا من دقة وصف العجوز للفتاة:
- اجل, وهي تجيد استخدام القوس ايضا.
اطلق آسر ضحمة قصيرة قبل ان يقول:
- انها حفيدتي زهرة ايها الغريب.
قال مجد وقد التقى حاجبيه:
- حفيدتك؟!, وهل اعتدت تدريبها على استخدام القوس بهذه الدقة؟؟!.
هم آسر بالاجابة على سؤاله, ولكن الاجابة اتته من ركن خافت الاضاءة بالخان:
- في ظل مانعانيه هذه الايام يغدو هذا امرا طبيعيا ايها الغريب.
حانت من مجد التفاتة الى الركن الذي اتت منه الاجابة, وضيق عينيه محاولا استجلاء ملامح صاحبها, ولكنه لم ير سوى جسد ضئيل تخرج منه سحب زرقاء داكنة ذات رائحة نفاذة..
- انه القزم فاتح, من المترددين كثيرا على الخان.
قالها آسر قبل ان يمسك بذراع مجد ويقوده نحو احدى الارائك الخشبية وهو يردف:
- تعال يا مجد, فلابد انك متعب وبحاجة الى الراحة.
ولوح بعصاه في وجوه رواد الخان وهو يقول بغلظة:
- الام تنظرون؟, هيا عودوا الى احاديثكم التافهة, هيا.
ساد الصمت لهنيهة اخرى قبل ان تعلو اصوات رواد الخان, وسعل آسر قبل ان يقول:
- اعذرهم يا مجد, فلم ير احدهم غريبا هنا من قبل.
قال مجد وهو يجلس على الاريكة وعيناه تتجهان لااراديا الى حيث جلس القزم فاتح:
- هذا ماقالته لي حفيدتك ايضا.
لماذا يراوده شعور بأن عيني القزم مثبتتة عليه؟ََ!..
اشار آسر بعصاه وقال بعد اذ مط شفته السفلى:
- كلهم من الاجيال الجديدة التي ولدت ونشأت في ظل حكم الملك كاسر الذي يحكم هذه البلاد منذ سنوات طويلة, ولم يشهد احدهم ايام العدل والرخاء قبل جلوسه على العرش, في تلك الايام كان امرا عاديا ان نرى الغرباء القادمين من الصحراء الشمالية, اوحتى من الاراضي الجنوبية.
قال مجد وهو يتناول منه كوبا امتلئ حتى حافته بسائل داكن له رائحة عطرية قوية:
- لابد انكم تعانون كثيرا من هذا الملك كاسر.
ابتسم آسر وقال:
- هذا صحيح يا مجد, اننا نعاني منه اكثر مما تتصور.
ارتشف مجد بضع رشفات من الشراب, فوجد طعمه رائعا, فقال يسأل آسر:
- مم صنع هذا الشراب؟.
قال آسر مشيرا الى صدره بسبابته:
- انه مشروبي الخاص الذي اصنعه بنفسي من مزيج من الاعشاب العطرية و..
ولكنه بتر عبارته عندما انفتح باب الخان بقوة, ودلف اليه خمسة جنود يرتدون دروعا سوداء ازدانت عند منتصف الصدر بشعار يمثل طائرا اسطوريا ينفث النار من فمه بلون احر دموي, وقد امسك كل واحد منهم بسيف ضخم..
وساد الصمت في الخان, واخذت عيون رواده تحدق في الجنود الخمسة بخوف واضح, وبصوت منخفض قال آسر:
- انهم من جنود الملك كاسر.
وتقدم نحو الجنود وقال يسألهم:
- مالذي تريدونه؟, لقد اديت ماعلي من ضرائب و..
قاطعه احد الجنود ليقول بصوت مخيف:
- لقد رصد جواسيسنا غريبا وصل الى خانك منذ قليل, فأين هو يا آسر؟.
ازدرد آسر ريقه بصعوبة وقال:
- عن اي غريب تتحدث ايها الجندي؟, فلم ارى اي غرباء منذ وقت طويل.
انقض عليه الجندي ورفعه من عنقه وهو يقول بصرامة تجمد الدماء في العروق:
- حذار من الكذب على جنود الملك كاسر ايها العجوز اللعين, فأنت تعرف عقوبة هذا جيدا و..
قاطعه مجد ليقول وهو يستل سيفه:
- هاأنذا, فاتركه وشأنه ايها الوغد.
افلت الجندي آسر وتركه يسقط ارضا, والتفت الى مجد الذي ارتسم التحدي على ملامحه, وقال:
- هل تتحدى جنود الملك كاسر ايها الغريب؟.
قطب مجد وهو يقول:
- الجندي الحق لا يستعرض قوته امام الضعفاء امثال هذا العجوز المسكين.
اربدت ملامح الجندي وهو يقول:
- حذرا من التعدي على جنود الملك كاسر ولو بالكلمات ايها الغريب والا..
قال مجد ساخرا:
- والا ماذا ايها الوغد؟, هل ستفعل معي مثل مافعلت مع آسر؟.
جز الجندي على اسنانه وقال:
- ستدفع ثمن جرأتك هذه غاليا ايها الغريب.
والتفت الى الجنود الاربعة وراءه وقال:
- هيا نمزقه اربا يا رجال.
وفي نفس اللحظة التي انقض فيها الخمسة على مجد وصيحات هادرة تنطلق من حناجرهم, اعتدل القزم فاتح في جلسته وتألقت عيناه وقال وهو ينفث الدخان الازرق من قصبة قصيرة في يده الصغيرة:
- ترى هل..
* * * *
خمسة جنود اشداء, يرتدي الواحد منهم درعا صلبا, ويمسك بسيف ضخم ينقضون على مجد الذي لم تهتز في جسده شعرة واحدة مع الصيحات الهادرة التي انطلقت من حناجرهم..
وماان اصبح اول الخمسة على مقربة منه تحرك مجد, وبقفزة بالغة الخفة اعتلى الطاولة الخشبية امامه, واطلق صيحة مجلجلة وهو يركل الجندي في فكه بقوة القته ارضا ليحدث اصطدام درعه بالارض الحجرية للخان دويا وصخبا شديدين..
وهبط مجد على قدميه بين الجنود الاربعة, وانقض بسيفه على اقربهم اليه, والتقى السيفان بصليل قوي رددته جدران الخان..
وامام اعين رواد الخان الذاهلة دار اشرس واقوى نزال شهدوه في حياتهم..
فصحيح ان ضربات مجد لم تنجح في اختراق دروع الجنود الا انه تحرك بخفة ورشاقة مذهلتين..
جسده تحرك في كل اتجاه دون ان يستقر في مكان واحد, فتارة تراه يضرب سيف جندي, ثم ينحني ليتفادى سيف الثاني, ويدور حول نفسه وهو يعتدل ليسدد بمقبض سيفه ضربة قوية الى فك الثالث..
ولهث جنود الملك كاسر وهم يتطلعون الى مجد بعيون ملأها الغل والحقد..
انهم يواجهون الآن خصما غيرعادي..
فارس من طراز خاص لم يواجهوا مثله من قبل..
ضرباته عاجزة عن اختراق دروعهم والنفاذ الى صدورهم..
ولكنها ضربات قوية, عنيفة على نحو لم يعهدوه حتى في اكثر تدريباتهم قوة وشراسة..
وقطب الجندي الذي ركله مجد في فكه مع بداية القتال وقال وهو يلوح بسيفه في الهواء:
- قد تكون فارسا مغوارا ايها الغريب, ولكن فرصتك في هزيمتنا ضئيلة مهما طال امد هذه المبارزة.
قطب مجد بدوره, وادرك ان الجندي محق في كل كلمة نطق بها..
فهو بالفعل فارس باسل, وشجاع..
قادر على الصمود لأطول وقت ممكن دون ان يناله سيف بضربة قاتلة..
ولكن مهما طال امد احتماله وصموده, فهو مجرد بشر في نهاية الامر..
والدروع تمنح مهاجميه نقطة تفوق لا يمكن اغفالها..
- القتال لم ينته بعد يا هذا.
قالها مجد وهو يمسك سيفه بكلتا يديه, كل شبر من وجهه ينطق بالتحدي ورفض الاستسلام..
حتى لو كان الموت هو النتيجة..
فهو لن يخشاه.. سيواجهه كفارس..
لقد عاش فارسا لايشق له غبار..
وان مات, فلابد ان يموت كذلك ايضا..
وبكل قوته انقض على الجنود الخمسة في مشهد يثير الاعجاب الى اقصى حد..
سيفه يضرب بقوة..
يصد.. ويضرب, ثم يصد من جديد..
ينحني بخفة, يقفز فوق الطاولات والارائك الخشبية, يطير في الهواء ليضرب بقدميه معا, فلا استسلام, ولاتراجع ابدا..
ومن مكانه تألقت عينا فاتح وهو يقول:
- شجاعة وبسالة نادرتان.
واستل من حزام حول خصره خنجر وهو يردف قائلا:
- اعتقد ان سنوات الانتظار لم تذهب هباءا.
وبمهارة القى الخنجر نحو واحد من الجنود الخمسة الذي تراجع للوراء بحركة غريزية, وارتسمت ابتسامة واثقة على شفتي فاتح عندما احتك الخنجر بكتف الجندي وتجاوزه لينغرس في طاولة خشبية..
وهوى صمت ثقيل على الخان..
صمت دام للحظات قبل ان ينفصل الدرع عن صدر الجندي ليسقط على الارض محدثا دويا قويا ويهتز للحظات قبل ان يستقرساكنا..
وقطب مجد عندما لمح حزاما جلديا عريضا يسقط عن كتف الجندي..
حزام ثبت الدرع الى جسده قبل ان يمزقه فاتح بخنجره..
هذه هي نقطة الضعف اذن..
والوسيلة لهزيمتهم كذلك..
فقال وهو ينقض على الجندي الذي فقد درعه ويغمد سيفه في صدره:
- لقد تغير الوضع الآن ايها الاوغاد.
وسحب سيفه ليطلق الجندي شهقة قوية ويسقط على الارض جثة هامدة..
واستؤنف القتال من جديد, ولكن على نحو مختلف هذه المرة, فضربات مجد اصبحت تنتقي اهدافها بدقة, ودون اي مجال للخطأ..
ضربة الى الحزام الجلدي, فينفصل الدرع الصلب, ثم يغوص السيف لينتزع حياة من جسد صاحبها..
وسقط جندي ثان, وتبعه الثالث والرابع, واتسعت عينا الخامس في رعب شديد عندما رأى دماء رفاقه تلوث ارضية الخان, وسيف مجد..
مجد الذي اخذ صدره يعلو ويهبط, وقطرات من الدم على وجهه..
- الرحمة ايها الغريب, الرحمة.
قالها الجندي وهو يلقي سيفه ارضا, وينحني على ركبتيه امام مجد..
وتوقع جميع رواد الخان ان ينتزع مجد درع الجندي ويقتله, لكنه اعاد سيفه الى غمده وقال بلهجة آمرة:
- اذهب.
تطلع اليه الجندي وهو عاجز عن التصديق ان قد نجا من الموت, وكأنما تطارده شياطين الجحيم مجتمعة هب واقفا واستدار يغادر الخان دون ان يهتم حتى باستعادة سيفه الذي القاه ارضا..
وزفرمجد قبل ان ينظر لآسر ويقول:
- اعتقد انني افسدت عليك كل شيئ.
لم ينبس آسر ببنت شفة, فالدهشة عقدت لسانه واعجزته عن النطق..
- ماحدث قد حدث بالفعل, ولااظن آسرا سيأسى كثيرا على ترك الخان.
قالها فاتح وهو يغادر الركن خافت الاضاءة..
قامة ضئيلة وقصيرة كما ينبغي لقزم ان يكون, وجه مستدير مكتنز, انف صغير, شفتان رفيعتان, عينان زرقاوان واسعتان اكثر من المألوف, وشعر اشقر قصير..
وقال وهو يقترب من آسر:
- من الافضل ان تعجل بالرحيل من هنا يا آسر قبل ان تجد حشدا من جنود الملك في الخان, فينتقموا منك شر انتقام.
هز آسر رأسه ايجابا وقال بصوت بحه الانفعال الشديد الذي يجيش به صدره:
- انت محق يافاتح, فلابد ان ارحل سريعا, لابد.
منحه فاتح ابتسامة مشجعة قبل ان ينظر لمجد ويقول:
- وانت.. اتبعني.
قالها واسرع يغادر الخان, وتردد مجد للحظات قبل ان يربت على كتف آسر ويقول:
- اتمنى لك حظا طيبا.
وغادر الخان ليجد فاتح على صهوة جواد ابيض يقل حجمه عن نصف حجم الجواد العادي, له معرفة وذيل بلون ازرق داكن, وعلى شفتيه ابتسامة واسعة وهو يقول:
- هيا بنا, فلاوقت نضيعه.
وتألقت عيناه جذلا وهو يلكز جواده الذي اطلق صهيلا رفيعا قبل ان ينطلق بسرعة فوق العشب الاخضر, فاعتلى مجد صهوة جواده ولكزه لينطلق به خلف فاتح..
وفي رأسه تردد سؤال واحد..
فبعد الذي حدث في الخان..
وهزيمته لجنود الملك كاسر..
الى اين يأخذه القزم فاتح ياترى؟.
* * * *
تحت سماء زرقاء صافية تدثرت بسحب بيضاء, وقرص شمس ارسل اشعته الذهبية الدافئة,وفوق مساحات منبسطة من الاخضر المرصع بالعديد من التباب المتفاوتة في درجة ارتفاعها عن الارض انطلق الجوادان, جواد فاتح الابيض بذيله ومعرفته الازرقين, وجواد مجد الادهم..
الحماس ارتسم على وجه فاتح المكتنز, في حين بدا التجهم على وجه مجد, وعشرات من الاسئلة تعربد في رأسه دون اجابة..
واستمر الجوادان في انطلاقتهما حتى ارتقيا تبة متوسط الانحدار ذات قمة منبسطة, فجذب فاتح معرفة جواده ليتوقف مطلقا صهيله الرفيع ويتوقف ضاربا الارض بقائميه الاماميين, فجذب مجد عنان الادهم ليتوقف بدروه..
- اقترب وانظر يا مجد.
قالها فاتح وهو يجفف عرقه بكفه, فلكز مجد الادهم ليتقدم به نحو حافة التبة, وماان فعل حتى حلت الدهشة والانبهار محل التجهم على ملامحه, فقد طالعه اسفل التبة مشهد لا يمكن وصفه الابأنه رائع وخلاب..
فأمام عينيه امتد سهل شديد الانبساط, شديد الاخضرار, في منتصفه تدفق نهر ذو مجرى عريض ومتسع انعكست اشعة الشمس على مياهه فبدت كبحيرة متألقة من الذهب, وفي اكثر من موضع اعترضت مجراه تكوينات صخرية بديعة, وفوق هذه التكوينات الصخرية بدت مجموعات من الطيور الملونة التي لم ير مجد مثلها من قبل في حياته اخذت تصدر اصواتا عذبة بلغته في وقفته فوق التبة مع فاتح, ولكن اكثر مااثار دهشته هو ان النهر استمر في تدفقه حتى اخترق دغلا كثيفا بدا واضحا على امتداد البصر, وبدا وكأن الدغل يضم النهر اليه ويحتويه في قلبه..
- انه مشهد رائع, اليس كذلك؟.
قالها فاتح وابتسامة ترتسم على شفتيه الرفيعتين, فهز مجد رأسه ايجابا وقال:
- بل هو اكثر من رائع, فالطبيعة هنا على النقيض تماما من الصحراء الشمالية التي جئت منها.
اتسعت ابتسامة فاتح وهو يقول:
- اتعلم انني اتمنى رؤية الصحراء يا مجد؟.
ابتسم مجد دون ان يعلق, فهز فاتح كتفيه وقال وهو يشير بسبابته نحو الدغل:
- هناك.. في قلب ذلك الدغل توجد قريتنا يا مجد.
تلاشت ابتسامة مجد وهو يقول:
- قريتكم؟!.
هازا رأسه ايجابا قال فاتح:
- اجل يا مجد, قرية الاقزام.. التي سآخذك اليها الآن.
تبدى الشك في عيني مجد وهو يتطلع الى الدغل البعيد, فضحك فاتح قبل ان يقول:
- اطمئن يا مجد, فلو اردت بك سوءا لما اهتممت بمساعدتك في خان آسر.
قال مجد دون ان ينظر اليه:
- اعتقد انني بحاجة الى الكثير من الشرح والتوضيح لكثير من الامور.
تألقت عينا فاتح وهو يقول:
- ستحصل عليهما بالتأكيد يا مجد, ولكن ليس مني.
متسائلا قال مجد:
- ممن اذن يافاتح؟.
مجيبا قال فاتح:
- من الشخص الذي يعرف عن هذا الارض اكثر مما اعرفه انا يا مجد.
مرة اخرى قال مجد يسأله:
- اهو واحد من الاقزام؟.
قال فاتح يرد على سؤاله:
- اجل, ولكنه ليس قزما عاديا.. انه حكيم الاقزام الذي عاش من السنوات الكثير, وخبر الحياة بحلوها ومرها, وعركته تجاربها اكثر مما يمكنك تخيله.
ثم انه قال بعد هنيهة من الصمت:
- والآن دعنا نواصل طريقنا, هيا ولا تخش شيئا يا مجد.
قالها ولكز جواده لينطلق به هابطا التبة نحو السهل الاخضر, وتردد مجد قليلا في اللحاق به, ولكنه هزم تردده وقال بعد اذ زفر بقوة:
- الامر منذ بدايته لم يكن عاديا على الاطلاق.
ولكز الادهم وهو يقول مردفا:
- فلابأس من اتباعك ايها القزم.
* * * *
عبر ممرات ممهدة بعناية بين اشجار الدغل, بمحاذاة الضفة الشرقية للنهر الذي ضاق مجراه مع توغله في قلب الدغل سار جوادا فاتح ومجد الهويني..
وبعينين لم تفارقهما الدهشة والانبهار اخذ مجد يتأمل كل شيئ من حوله, الاشجار ذات الجذوع الضخمة والارتفاع الشاهق, بأغصانها المتشابكة, واوراقها الخضراء العريضة التي القت ظلالا وارفة, والطيور الملونة التي تنقلت بين اغصان الاشجار في تشكيلات بديعة متناغمة, ومياه النهر الشفافة التي بدت من خلالها الاسماك بالوانها الرائعة واشكالها المختلفة..
- نحن نقترب من القرية كثيرا يا مجد.
قالها فاتح بلهجة غلب عليها الحماس, فأومأ مجد برأسه ايجابا دون ان ينبس ببنت شفة..
ومع انحناءة النهر انحنى سار الجوادان وغادرا منطقة الاشجار الى مساحة مستديرة وواسعة خالية من الاشجار..
وامام عينين مجد المندهشتين بدت قرية الاقزام التي اخترقها النهر في منتصفها تماما, وعلى ضفتيه بنى الاقزام منازلهم..
منازل مبنية من اخشاب الاشجار ذات اسقف مصنوعة من اغصان الاشجار المجدولة في ضفائر سميكة واوراق الاشجار الخضراء, وفوق اغصان الاشجار التي احاطت بالقرية بنيت اكواخ من الخشب, ومن مداخلها امتدت سلالم من الحبال التي تم تثبيتها الى جذوع الاشجار السميكة..
وتعلقت انظار الاقزام المندهشة بمجد, فابتسم فاتح وهو يقول:
- انها المرة الاولى التي يرون فيها رجلا عاديا يأتي الى القرية.
هز محد رأسه ايجابا وقال:
- هذا يبدو واضحا من الدهشة على وجوههم.
هز فاتح كتفيه وقال:
- الكثير من الاقزام الذين ولدوا ونشأوا في هذه القرية لم يغادروها ابدا, قلة فقط هي من تغادر القرية بين الحين والآخر.
قال مجد متسائلا:
- وانت من هذه القلة, اليس كذلك؟.
قال فاتح مجيبا:
- بل انا اكثر قزم غادر هذه القرية يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مشيرا الى منزل بدا اكبر من كل منازل القرية على الضفة الاخرى من النهر:
- هذا هو منزل حكيم الاقزام يا مجد.
وامام جسر خشبي صغير ترجل الاثنان وعبراه الى الضفة الاخرى, وامام بوابة المنزل توقفا, وقال مجد يسألفاتح وهو يشير بسبابت الى نقوش غائرة على البوابة:
- ماهذه النقوش يافاتح؟.
مجيبا قال فاتح:
- انها عبارة ترحيب بلغة الاقزام القديمة.. لغة موغلة في القدم لم يعد احد يتحدث بها الآن الا ندرة من الاقزام.
قال مجد يسأله مرة اخرى:
- وهل تجيد هذه اللغة يا فاتح؟.
هازا كتفيه قال فاتح ردا على السؤال:
- القليل منها فحسب.
ثم انه اردف ويده على مقبض البوابة:
- انتظرني هنا قليلا يامجد.
وما ان غاب داخل المنزل حتى اخذ مجد يتأمل القرية من حوله, منازلها على الارض, والاكواخ الخشبية فوق الاشجار والاطفال يصعدون اليها او يهبطون منها, النساء وقد انهمكن في ملئ الجرار بالماء من النهر, الرجال وفد انهمك بعضهم في صيد الاسماك, والبعض الآخر اخذ ينقل اخشابا مقطوعة الى بعض الاكواخ على ضفة النهر..
وعقد مجد مقارنة بين هذا المجتمع الصغير الرائع, وبين حياة الصحراء القاسية, حيث الرمال الممتدة, والحرارة المحرقة نهارا, والبرودة القارصة ليلا..
وانتزعه من تأمله صوت البوابة الخشبية وهي تنفتح, ورأى فاتح يغادر المنزل يتبعه حكيم الاقزام..
عجوز طاعن في السن, جسد نحيل, وظهر منحن, وجه بيضاوي حفر فيه الزمن اخاديد عميقة, عينان خضراوان واسعتان تشيان بحكمة بالغة..
- هذا هو حكيم قرية الاقزام يا مجد.
قالها فاتح باحترام بالغ, في حين تفحصت عينا الحكيم كل شبر من ملامح مجد, وعند عينيه توقفتا, وشعر مجد برعشة تسري في جسد وعيني الحكيم تخترقانه وتنفذان الى اعمق اعماق نفسه, واخيرا ابتسم الحكيم وهو يقول بصوت واهن النبرات:
- روح الفارس بداخلك ثائرة ومتمردة يا مجد.
ثم انه اخذ نفسا عميقا قبل ان يقول وهو ينظر لفاتح:
- انه هو حقا.
قطب مجد ولم يفهم ماعناه الحكيم الذي اردف قائلا:
- اتبعني يا مجد, فمن حقك ان تعرف وتفهم كل شيئ مادمت قد وصلت الى هنا, وفيى هذا الوقت بالذات.
تبعه مجد وفاتح الى خارج القرية حتى بلغا مكانا هادئا بين الاشجار, وعلى صخرة قريبة من النهر جلس الحكيم وقال:
- ما سأخبرك به الآن امر قديم للغاية يا مجد, لايعرفه الكثيرون من سكان هذه الارض, وقلة هي من تذكره كما حدث بالضبط.
وصمت هنيهة ثم قال:
- فالامر يعود الى زمن بعيد وموغل في القدم عندما حكم هذه الارض ملوك انحدروا من سلالة اطلق عليها الناس سلالة الملوك الاقوياء, ملوك حكموا الناس بالعدل, ودافعوا عن الارض ضد اعدائها زمنا طويلا, فازدهرت الحياة وانتعشت.. حتى جاء اليوم الذي اطلق فيه ساحر عجوز نبوءة ازعجت ملك البلاد واغضبته بشدة, نبوءة عن اقتراب نهاية زمن الملوك الاقوياء وسيادة الشر والظلام لزمن طويل قبل ان يظهر فارس من ارض صحراوية ليقود قوى الخير ضد قوى الظلام في معركة فاصلة واخيرة.
وصمت الحكيم للحظات التقط فيها انفاسه ثم قال مكملا:
- وارسل الملك فرسانه لقتل الساحر العجوز قبل ان تنتشر نبوءته ويصدقها الناس, ولكنهم لم يجدوه, بحثوا عنه طويلا دون فائدة, وتنفس الملك الصعداء عندما استهزأ الناس بالنبوءة واعتبروها محض هراء وتخريف رجل عجوز, الا نحن معشر الاقزام.
واغلق عينيه قليلا قبل ان يفتحهما ويتابع:
- فنحن لاننسى النبوءات ابدا, وتاريخ امتنا حافل بالكثير من النبوءات التي تحققت, كنا واثقين من صحة النبوءة التي اطلقها الساحر قبل ان يختفي دون اي اثر.. حتى جاء اليوم الذي ظهر فيه كاسر في بلاط الملك.
ساد الصمت قليلا, وعينا مجد وكل حواسه معلقة بشقتي الحكيم الذي قال:
- ساحر شرير, اجاد فنون السحر الاسود والاتصال بأرواح اكثر مخلوقات العالم الآخر شرا, وفي زمن يسير تمكن من السيطرة على الملك وكل شيئ في البلاد, وماان ثبّت وجوده في البلاط حتى تخلص من الملك وابنائه ووزرائه وقادة جيشه المخلصين, واعلن نفسه ملكا على البلاد, ليبدأ عهد الظلام الذي ذكرته النبؤة, ويعاني الناس ويلات الظلم والذل والاضطهاد, واضطررنا نحن الاقزام للهجرة من الاراضي الجنوبية الى هنا بعد ان اباد الملك كاسر الكثيرين منا, وفي هذه الغابة انشأنا هذه القرية, وعشنا جميعا على امل ان يتحقق الجزء الآخر من النبوءة بظهور ذلك الفارس.
وازدرد مجد لعابه بصعوبة, وخفق قلبه بين ضلوعه بقوة عندما نظر الحكيم الى عينيه مباشرة وقال وهو ينهض من على الصخرة:
- ولقد تحققت النبوءة اخيرا, وجاء الفارس من ارض صحراوية, جاء بعد كل هذه السنوات من الظلام الجاثم فوق الصدور ليثبت لنا معشر الاقزام ان صبر السنين لم يذهب هباءا, وفي خان آسر تحدى هذا الفارس جنود الملك كاسر وهزمهم, فأحيى الامل في نفوسنا من جديد.
وتشبث بذراع مجد وهو يقول مضيفا:
- هذا الفارس هو... انت يا مجد.
وساد بعد عبارته صمت رهيب!!..
* * * *

القناع الأحمر 25-04-07 09:06 PM

السلام عليكم أخي إسلام ، ما قرأته كان جزءً بسيطاً ، وأكثر ما شدني هو الوصف الدقيق الرائع ، ويبدو أنك يا عزيزي من مدمني مشاهدة الأنمي ، لأنني أيضا مدمن أوعرف أمثالي عن بعد .. طبعاً هذا العمل متأثر بالمسلسلات اليابانية ، لكن ما يميزه هو الوصف ..
بالتأكيد لي رجعة أخرى ناقدة بعد قراءة العمل إلى النهاية ، وطبعاً أنصحك باإكمال هذا العدد إلى النهاية .. وأتمنى أن نتواصل مع بعض على بريدي الإلكتروني لكي أسألك عن بضعة أشياء تخص الأعمال الأدبية بشكل خاص ..
norsh814@hotmail.com
أنتظر منك رسالة مع بريدك الألكتروني للتواصل المثمر ..
القناع الأحمر

red nemo 02-05-07 01:55 PM

[FONT="Arial Black"][/FONT
رائعة جدا جدا

اسلام ادريس 26-05-07 06:51 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

الصديقين القناع الاحمر و red nemo

اشكركما جدا جدا على هذا المرور وهذا التشجيع الرائع الذي رفع من روحي المعنوية كثيرا

الجزء الاول من الرواية اوشك على الانتهاء بإذن الله تعالى

عزيزي القناع الاحمر انتظر مني رسالة على بريدك الالكتروني في خلال يومين انشاء الله

وشكرا

اسلام ادريس 15-06-07 03:17 PM

بسم الله الرحمن الرحيم

اصدقائي في هذا المنتدى الرائع
بحمد الله تعالى انهيت الكتاب الاول من رواية فرسان الارض بعنوان" فارس الصحراء"

وهاأنذا انشر كاملا دون انقطاع

اتمنى منكم التعليق من اجل الافادة


فرسان الارض..

الكتاب الاول..( فارس الصحراء)..

الفصل الاول.. طبول الحرب.

الفصل الثاني.. مبارزة.

الفصل الثالث.. ذكرى من الماضي.

الفصل الرابع.. مرآة الافق.

الفصل الخامس.. الرحيل.

الفصل السادس.. قرية الاقزام.. وحكيم.. ونبوءة.

الفصل السابع.. احتفال القمر.. وهجوم البرابرة.

الفصل الثامن.. حــلم.. وامرأة ذات رداء زمردي.

الفصل التاسع.. ملك الاقــزام.

الفصل العاشر.. تتــويج.

اسلام ادريس












فرسان الارض..

على ارض بعيدة..

كانت موجودة في زمن موغل في القدم..

ستدور الاحداث..

وعن شخصيات لا نقرأ عنها الا في كتب الاساطير المنسية..

ستكون المغامرة..

انهم ابطال لم يسعوا للبطولة..

ولكنها كانت قدرهم..

معارك لا تنتهي..

ومغامرات مثيرة..

واجواء ساحرة..

دراما ملحمية عن الشجاعة..

عن الصراع الازلي.. بين الخير والشر..

دراما ملحمية سنطلق عليها لقبا مميزا..

انه لقب الفرسان..

فرسان الارض..

اسلام ادريس



الكتاب الاول..

(فارس الصحراء)..

اسمه مجد..

ينتمي الى قبيلة تعيش في الصحراء الشمالية..

كان قدره ان يغادر الصحراء..

تاركا وراءه كل شيئ..

ليبدأ مغامرته الكبرى..

لايعرف كيف, واين, ومتى تنتهي..

امور كثيرة سيراها مجد خارج الصحراء الشمالية..

وامور اكثر سيواجهها.. فمالذي سيواجهه ياترى؟!..

انه من الصعب الاجابة في هذه المساحة الضيقة!!..

فالأمر بالتأكيد يحتاج الى مساحة اكبر.. واكثر رحابة!!..














طبول الحرب..

امتدت الصحراء الواسعة برمالها التي تسلطت عليها اشعة الشمس, وتلالها الرملية المتناثرة هنا وهناك, وجبالها العالية التي بدت كأشباح قائمة في المدى البعيد..
ومن خلف تل رملي انطلق صهيل قوي قبل ان يبرز جواد اسود كليل بهيم بلاقمر, وعلى صهوته استقر الفارس..
بنيان متماسك وقوي, بشرة سمراء لوحتها الشمس, عينان سوداوان واسعتان يعلوهما حاجبين كثين, وندبة امتدت على جانب وجهه الايسر, وشعر اسود طويل انتثر على كتفيه بلا انتظام..
ملابسه بدت بسيطة ومتمشية مع اجواء الصحراء الحارة, ومن حزامه تدلى سيف ضخم, وعلى ظهره كنانة امتلأت بالسهام, وعلى كتفه الايمن قوس ذو وتر مشدود جيدا..
اسمه مجد, فارس ينتمي الى واحدة من القبائل التي تسكن الصحراء الشمالية منذ سنوات طويلة للغاية, وكعادته كل يوم, خرج على صهوة جواده الادهم مبتعدا عن مضارب القبيلة, يجوب الصحراء الواسعة بحثا عن صيد ما..
وهاهو يدور بعينيه في كل اتجاه, وماان وقعتا على غزال يقتات من شجيرات الصحراء الجافة حتى تألقتا, وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة واسعة وهو يقول:
- هاهو صيد ثمين ايها الادهم.
قالها وجذب من كنانته سهما, وبكل هدوء وثقة ثبته في وتر القوس, وصوبه تجاه الغزال الغافل عن الخطر المحدق به, وافلت السهم ليشق الهواء بصفير حاد قبل ان ينغرس في عنق الغزال الذي سقط مضرجا في دمائه التي سالت تروي الرمال العطشى..
ولكز مجد جواده ليتقدم به نحو الغزال الصريع, وعاد يعلق القوس على كتفه, وماان هم بالترجل عن صهوة الجواد حتى تناهى الى سمعه صوت حوافر جواد يقترب من جهة الجنوب, فقطب وهو يدير عنان الجواد, ومن خلف التلال بدا جواد اشهب يقترب وفارسه يصيح بأعلى صوته:
- مجد.. يا مجد.
قال مجد متعجبا:
- انه زعس!!.. مالذي اتى به الى هنا؟!.
وسرعان ما اتته الاجابة عندما توقف الجواد الاشهب امامه وزعس يقول بصوت لاهث:
- هجير وفرسانه يهاجمون يامجد.
قطب مجد مرة اخرى قبل ان يقول:
- هجير وفرسانه؟!.
هز زعس رأسه بالايجاب وهو يقول:
- اجل يا مجد, انهم يهاجمون بأعداد كبيرة هذه المرة, وقد اخذ فرساننا على حين غرة.
شدد مجد قبضته على عنان الادهم وقال بلهجة امتزج فيها الغضب بالصرامة:
- هلم بنا اذن يا زعس, فلابد من تلقين هجير وفرسانه درسا قاسيا.
قالها وانطلق يتبعه زعس..
انه هجير زعيم عصابات الجبال البعيدة, وهاهو يغير على مضارب القبيلة من جديد, ولكن بأعداد كبيرة هذه المرة, اذن فهو ينوي فرض سيطرته التامة بلاشك..
وارتقى مجد تلا رمليا يشرف على مضارب القبيلة ليطالعه مشهد فرسان هجير وقد اشتبكوا مع فرسان القبيلة في معركة حامية الوطيس..
واستل مجد سيفه ورفعه عاليا وهو يهتف:
- لقد اتاك مجد يا هجير.
قالها وانطلق يهبط التل مثيرا خلفه عاصفة من الغبار, وهلل فرسان القبيلة لدى رؤيته في ساحة المعركة, فمجد لم يكن ابدا مجرد فارس عادي, بل هو تميمة النصر في اي معركة تخوضها القبيلة..
وبدا مجد على متن جواده الادهم, وسيفه يضرب يمينا ويسارا كأسد ثائر تجرأت مجموعة من الثعالب على اقتحام عرينه في غيابه, وبات واضحا ان الهزيمة ستكون من نصيب هجير وفرسانه, وعلى صهوة جواده زمجر هذا الاخير وهو يقول غاضبا:
- تبا لك يا مجد.. تبا لك.
ثم التفت الى احد فرسانه وقال:
- قم بتنظيم انسحاب سريع يا سعدون.
قالها وانطلق بجواده نحو خيام نساء القبيلة, فقال سعدون يسأله:
- الى اين تذهب ايها الزعيم؟.
مجيبا قال هجير وهو يبتعد بجواده:
- نفذ ماامرتك به ولا تسأل يا سعدون.
ولم يمض على عبارته وقت كثير قبل ان يبدأ فرسانه في الانسحاب من ساحة المعركة يجرون وراءهم اذيال الهزيمة, واخذ فرسان القبيلة يطلقون صيحات حماسية, في حين اعاد مجد سيفه الى غمده, ودار بعينيه بين جثث القنلى التي مزقتها السيوف والرماح, وتنهد بقوة قبل ان يقول:
- معركة اخرى, والمزيد من الدماء تروي الرمال.
ودون ان يشارك الفرسان حماسهم لكز جواده ليبتعد به عن المكان, ولكنه سرعان ماجذب عنانه ليتوقف عندما سمع صوت صراخ وعويل آت من خيمة كبيرة توسطت خيام النساء, فأسرع الى هناك ليستطلع الامر, وقبل ان يبلغ الخيمة اعترض زعس طريقه ليقول وقد تجهمت ملامحه:
- لقد اختطف هجير الاميرة ياسمينا زوجة الامير خالد يا مجد.
قال مجد منزعجا:
- ماذا؟!!, وكيف نجح هجير في اختطاف الاميرة يازعس؟!!.
زفر زعس وقال مجيبا:
- من المؤكدانه استغل الفوضى التي سادت المضارب يامجد و..
قاطعه مجد ليقول بحزم:
- ابلغ الامير خالد ان الامير ياسمينا ستعود الى القبيلة قبل ان تتوسط الشمس كبد السماء.
ودون ان يضيف حرفا انطلق بجواده الادهم كالريح, فقال زعس مندهشا:
- انتظر يا مجد, لا تذهب اليهم وحدك يا مجنون!.
ولكن مجد اختفى مع جواده خلف التلال, فعض زعس على شفته السفلى قبل ان يقول:
- لابد ان يعلم الامير خالد بهذا, لابد.
* * * *
مبـــارزة..

- لقد اجاد هجير اختيار مخبئه حقا.
قالها مجد وهو يسير بجواده الادهم الهويني عبر ممرات الجبال التي اكتنفها الضباب, وامتدت يده الى مقبض سيفه تحسبا لأي هجوم مباغت من فرسان هجير..
واستمر مجد في طريقه عبر الممرات الجبلية دون ان يصادف اي اثر او علامة على وجود اي كائن حي في هذه الجبال حتى بلغ ساحة واسعة بين الجبال, فجذب عنان الادهم ليتوقف, وترجل عن صهوته وهو يتلفت حوله و..
- هجير..اني اتحداك ان تواجهني الآن في عرينك, وبين رجالك.
قالها مجد وهو يستل سيفه ويلوح به في الهواء, وسمع صدى صوته يتردد من حوله, ولكن مامن اجابة على تحديه لهجير, فقطب قبل ان يصيح مرة اخرى:
- اخرج من مخبئك يا هجير, وواجهني كرجل.
وماان اتم عبارته حتى انطلق سهم يشق الهواء لينغرس في الارض امام مجد الذي قال بصرامة:
- انك تثبت لي جبنك وتراجعك عن مواجهتي يا هجير.
ومع آخر حروف عبارته برز من خلف الصخور العملاقة فرسان هجير واحاطوه بدائرة مغلقة, فقال مجد متسائلا:
- اين زعيمكم هجير, لقد تحديته هو؟.
اتته الاجابة من خلفه بصوت هجير الغليظ:
- خلفك مباشرة يا مجد.
التفت مجد الى مصدر الصوت ليرى هجير واقفا امامه وقد عقد ذرعيه امام صدره العريض غزير الشعر, فقال:
- اين الاميرة ياسمينا يا هجير؟.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتي هجير وهو يقول:
- يالوقاحتك يا مجد!, الا ترى انك محاط بفرساني من كل جانب دون اي فرصة للفرار!.
نظر مجد الى فرسان هجير بلامبالاة وقد قبض كل واحد منهم على رمحه, وتعبير متحفز على وجه كل واحد منهم, قبل ان يعود بعينيه الى هجير ويقول:
- الاميرة ياسمينا ياهجير.
اطلق هجير ضحكة قصيرة ثم قال متسائلا وقد تألقت عيناه:
- اذن, فأنت تريد الاميرة ياسمينا يامجد, اليس كذلك؟.
لم ينبس مجد ببنت شفة تعليقا على سؤال هجير الذي قال متابعا:
- لنفعلها على طريقة الاجداد يامجد, سنتبارز هنا بين رجالي, مبارزة حتى الموت, واذا انتصرت علي سيسلمك رجالي الاميرة ياسمينا, فما رأيك؟.
تقدم مجد بضع خطوات للامام قبل ان يقول مجيبا:
- موافق ياهجير, لنفعلها على طريقة الاجداد.
استل هجير سيفه ونظر الى سعدون وقال:
- احضر الاميرة ياسعدون.
قال سعدون مترددا:
- ولكن ايها الزعيم..
قاطعه هجير ليقول بشراسة:
- قلت لك احضر الاميرة ياسعدون.
أومأ سعدون برأسه وقال:
- امرك ايها الزعيم.
وغاب لحظات قبل ان يعود ومعه الاميرة ياسمينا بملامحها الرقيقة التي اعتراها الشحوب والرعب الشديدين, وماان رأت مجد حتى قالت بلهفة:
- مجد, انقذني من هؤلاء الوحوش.
نظر اليها مجد وقال بلهجة واثقة:
- اطمئني يا سمو الاميرة, فكل شيئ سيكون على مايرام.
افلتت ضحكة ساخرة من هجير قبل ان يمسح شفتيه بظهر كفه ويقول:
- حذار من الاسراف في التفاؤل يا عزيزي مجد, فأنت ستواجه هجير.
لاح شبح ابتسامة متهكمة على شفتي مجد وهو يقول:
- اجل, سأواجه هجير الذي فر من ارض المعركة اليوم كفأر مذعور.
اشتعل الغضب في عيني هجير الضيقتين, وامسك سيفه بكلتا يديه وقال:
- سأروي الارض بدمائك يامجد.
قالها وانقض كثور هائج على مجد الذي ظل واقفا في مكانه دون ان يحرك ساكنا, وماان رفع هجير سيفه ليهوى به على رأسه حتى تحرك بسرعة, فتلقى سيف هجير على حد سيفه, وفي ذات اللحظة دفع قدمه في معدة هجير الذي تراجع للوراء وقد اختل توازنه, فسقط ارضا على ظهره..
- يالشجاعتك الفائقة يا هجير.
قالها مجد بسخرية, فتجهمت ملامح هجير بشدة, وهب واقفا بسرعة, واطلق صيحة عالية وهو ينقض مرة اخرى على مجد الذي رفع سيفه يصد سيف هجير, وتردد صليل السيوف, وبقوة امتزجت بشراسة اخذ هجير يسدد ضرباته الى مجد الذي تحرك برشاقة وهو يصد هذه الضربات على سيفه بمهارة متحركا الى اليمين واليسار..
وتصبب العرق غزيرا على وجه هجير, وراح صدره يعلو ويهبط وقد تلاحقت انفاسه, فقال مجد ساخرا:
- هل اصابك اليأس من هزيمتي ياهجير؟.
فزمجر هجير وعاود الانقضاض على مجد, والتقت السيوف مرة اخرى بصليل قوي وعنيف, هجير يضرب بقوة وعنف محاولا افقاد مجد سيفه, ومجد يتحرك برشاقة, وسيفه يضرب بسرعة ودقة محاولا افقاد هجير قوته اكثر واكثر..
واثمرت محاولات مجد, فهجير بدأ يقف قوته, واصيبت ضرباته بالوهن, فاستغل مجد هذا وانقض يسدد عدة ضربات متلاحقة الى سيف هجير انهاها بضربة بارعة الى مقبض سيفه ليسقطه ارضا..
وانتفض جسد هجير عندما وضع مجد ذبابة سيفه على عنقه وقال:
- بإمكاني الآن ان انهي حياتك القذرة يا هجير.
تبادل فرسان هجير نظرات ملؤها الدهشة لهزيمة زعيمهم, وتوقعوا ان يغوص سيف مجد في عنقه, ولكن مجد ابعد السيف عن عنقه وقال وهو يوليه ظهره:
- ولكني سأتركك حيا تتجرع مرارة هزيمتك مرتين في يوم واحد.
قال هجير بصوت لاهث وهو يستل من حزامه خنجرا ماضيا:
- الامر لم ينتهي بعد يا مجد.
وانقض يروم اغماد الخنجر في ظهر مجد الذي استدار بسرعة وكأنما توقع فعلا خسيسا كهذا من هجير, وبكل قوته دفع سيفه للامام, فشهق هجير واتسعت عيناه عن آخرهما عندما غاص سيف مجد في صدره ونفذ من ظهره, وجذب مجد سيفه ليطلق هجير شهقة اخيرة قبل ان يسقط على وجهه جثة هامدة ودماؤه تسيل على الارض..
وقال مجد وهو يعيد سيفه الى غمده:
- لقد ارتوت الارض بدمائك انت يا هجير.
واتجه نحو الاميرة ياسمينا وقال يسألها:
- هل انت بخير يا سمو الاميرة؟.
هزت الاميرة ياسمينا رأسها ايجابا, في نفس اللحظة التي استل فيها سعدون سيفه وقال:
- لقد قُتل زعيمكم امام اعينكم, فهل ستتركون قاتله يفر منكم؟.
اتته اجابة الفرسان وقد رفعوا رماحهم, فقطب مجد وهو يستل سيفه..
ان هزيمة كل هذا العدد من الفرسان مستحيلة مهما بلغت شجاعته, فالكثرة ستهزم الشجاعة دون شك و..
وانطلق سيل من السهام يخترق صدور واعناق فرسان هجير, فدب الذعر في نفوسهم, وتراجع سعدون يحتمي بصخرة وهو يهتف بسخط:
- تراجعوا يارجال, تراجعوا.
وتنفس مجد الصعداء عندما رأى كوكبة من فرسان القبيلة يقودهم زعس يقتربون منه, وماان توقفوا امامه حتى ترجل زعس عن صهوة جواده وقال وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه:
- مرحى يامجد, لقد قتلت هجير.
ابتسم مجد بدروه وقال:
- لولا وصولكم للحقت بهجير يا زعس.
وتلاشت ابتسامته وهو يقول مردفا:
- والآن, ساعد الاميرة على امتطاء صهوة جواد وعد بها الى القبيلة.
قالها وقفز على صهوة جواده الادهم, ولكزه بكعبه, فرفع الادهم قائميه الاماميين واطلق صهيلا قويا قبل ان ينطلق بفارسه ويختفي عن الانظار, فهز زعس رأسه وقال:
-انت بطل لم يسع للبطولة يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- ولكنها قدرك الذي لا مفر منه يا صديقي.
* * * *
ذكــرى من المــاضي..

-" لماذا تعلمني القتال يا ابي؟".
قالها صبي في التاسعة من عمره, اسمر البشرة, ذو شعر اسود قصير, فابتسم والده وقال مربتا على كتفه:
- حتى تصبح فارسا بالطبع يا مجد.
قطب مجد وقال يسأله:
- ولماذا تريدني ان اصبح فارسا يا ابي؟, لأدافع عن مضارب القبيلة؟.
اتسعت ابتسامة والده, وداخل لهجته قدر كبير من الغموض وهو يقول:
- كلا يا مجد, مالهذا السبب ادربك حتى تصبح فارسا.
قال مجد متسائلا:
- لماذا تدربني اذن يا ابي؟!.
اتسعت ابتسامة والده اكثر دون ان ينبس بحرف واحد ردا على سؤال مجد!!.
* * * *
تداعت هذه الذكرى من قلب الماضي الى ذهن مجد وهو جالس امام خيمته يتطلع الى السنة اللهب التي اخذت تتطاير من كومة الشجيرات المشتعلة امامه..
السماء توسطها قمر كامل الاستدارة ارسل سنا من ضوئه على الرمال فمنحها القا فضيا ساحرا, هبات من الهواء البارد تحركت بين التلال, وتسللت بين خيام القبيلة..
-" لماذا دربتني اذن اذا لم يكن من اجل القبيلة؟!, لماذا ياابي؟!.
قالها مجد بصوت هامس وهو يحرك الشجيرات المشتعلة بخنجر صغير في يده..
هذا السؤال يؤرق تفكيره على الدوام, ولا يفارقه ليلا او نهارا, يطرحه على نفسه مرارا وتكرارا دون ان يحصل على اجابة شافية..
حتى والده رفض ان يمنحه هذه الاجابة الشافية كلما طرح عليه هذا السؤال..
ففي كل مرة يسأله فيها يبتسم تلك الابتسامة الغامضة ويربت على كتفه ويقول:
- دع الايام تجيبك يا مجد, وليس انا.
حتى مات والده متأثرا بجراح بالغة اصيب بها في واحدة من المعارك التي خاضتها القبيلة ضد عصابات الجبال البعيدة..
ومرت السنوات, واصبح هو فارسا لايشق له غبار, بل تحول بمرور الايام الى مثل يحتذى به في الفروسية, والشجاعة, والاقدام, وتناقل ابناء الصحراء احاديث فروسيته كالاساطير, اصبح رمزا للنصر في كل معركة يقود فيها فرسان القبيلة..
ولكنه ابدا لم يشعر بالالفة والارتياح مع كل هذا, لم يفخر يوما بالدماء التي اراقها سيفه لتروي رمال الصحراء, دائما يراوده شعور بأنه لاينتمي الى هذه الصحراء, لاينتمي الى صراعاتها وحروبها التي لاتنتهي, انه لم يصبح فارسا ليعيش ويموت ويدفن في الصحراء و..
- كعادتك يا مجد,تفضل البقاء وحيدا.
قال مجد دون ان يلتفت الى قائل العبارة:
- انت تعلم انني افضل الوحدة يا زعس, بعيدا عن الآخرين.
ابتسم زعس وقال وهو يجلس الى جواره:
- حتى لو اخبرتك ان الآخرين يقيمون احتفالا من اجلك؟.
لاح شبح ابتسامة على شفتي مجد وهو يقول:
- انا لا استحق ان تقام الاحتفالات من اجلي.
قال زعس مستنكرا:
- لماذا تنتقص من قدر نفسك هكذا يا مجد؟!.
هازا كتفيه قال مجد:
- وماقدر نفسي يا زعس؟, بل ماقدر حياتي وضربة سيف او طعنة رمح قادرة على انهائها في لمح البصر؟.
قال زعس:
- الموت هو النهاية لكل كائن حي يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- ولكن ليس هذا ماعنيته, فأنت افضل فرسان الصحراء الشمالية بلا منازع, واليوم فقط اثبت هذا بذهابك وحيدا الى الجبال وبارزت هجير وقتلته بين رجاله, وفي بؤرة نفوذه وقوته, انت فارس الصحراء يا مجد و..
قاطعه مجد ليقول مقطبا:
- فارس الصحراء؟!, من اوحى اليك بهذه الفكرة السخيفة يا زعس؟!.
مبتسما قال زعس:
- انها ليست فكرة سخيفة يا مجد, ولكنها الحقيقة التي تأبى الاعتراف بها.
وربت على كتف مجد قبل ان يقول مردفا:
- انت فارس الصحراء, شئت ام ابيت يا مجد.
قال مجد محاولا الاعتراض:
- ولكن يا زعس..
قاطعه زعس ليقول:
- في كثير من الاحيان تغدو البطولة امرا محمودا يا مجد, وانت بطل باعتراف الجميع, فلا تدر ظهرك لهذه البطولة يا صديقي, وحذار ان تترك احدا يسلبك اياها.
وقام واقفا, ونظر الى السماء ثم قال:
- القمر بدر هذه الليلة, ولو صدقت اساطير الاجداد, فإن ارواح الابطال القدامى تتحرك بيننا الآن.
تجهمت ملامح مجد دون ان يعلق على عبارة زعس الذي ابتعد عن المكان بخطوات واسعة..
انه لا يؤمن بالاساطير التي يستمتع عجائز القبيلة بسردها على مسامع الاجيال الشابة من ابناء القبيلة..
اساطير عن الابطال القدامى, وارواحهم التي تتحرر في ليلة اكتمال القمر والكثير من هذه الامور التي يراها محض هراء..
" ودع الايام تجيبك يا مجد, و ليس انا"..
"وليس انا.."...
* * * *
مــرآة الافــق..

اسمه همام, حكيم الصحراء الشمالية, هكذا يعرفه ابناء الصحراء, يعيش وحيدا في خيمته عند اطراف الصحراء الغربية, لا احد يعرف اصله او المكان الذي اتى منه على وجه التحديد, الكثيرون قالوا بأنه واحد من جماعة مارست فنون السحر المختلفة منذ زمن بعيد, واستوطنوا الجبال البعيدة قبل ان تتخذها شرذمة من الرجال مقرا لها, قالوا بأن افراد جماعته غادروا الصحراء فجأة ولم يبق سواه..
البعض الآخر زعموا بأنه قادم من بلاد بعيدة تقع وراء البحر العظيم الواقع خلف الجبال البعيدة,وزعموا ايضا انه يعرف اسرار الماضي, وباستطاعته قراءة المستقبل, والكثير من الاقاويل والمزاعم, ولكن لا شئ مؤكد على الاطلاق.
المهم انه موجود, يملك حكمة وعلما لايملكهما احد في الصحراء, وكل من يشعر بحاجة الى النصيحة يذهب اليه, والكثير من امراء القبائل يستشيرونه في امور استغلقت عليهم, فتحول الى رمز الحكمة, والمعرفة, والغموض في الصحراء.
وفي يوم اشرقت فيه الشمس, ونشرت اشعتها الذهبية على كل شيئ استيقظ مجد من نومه وعرق غزير يغمر وجهه..
صدره اخذ يعلو ويهبط مع تلاحق انفاسه, لازالت تفاصيل الحلم الذي رآه عالقة في ذهنه, يراها ماثلة امام عينيه..
لقد رأى نفسه يهيم في الصحراء على صهوة جواده الادهم, بلا هدف او جهة معينة يذهب اليها, عندما ظهر والده فجأة..
ووجد نفسه يهتف:
- ابي, مالذي تفعله هنا؟!.
ابتسم والده وقال:
- لقد جئت لأدلك على الطريق يا مجد.
قال مجد يسأله:
- الطريق؟!, عن اي طريق تتحدث ياابي؟!.
اتسعت ابتسامة والده وقال وهو يشير بسبابته الى نقطة ما بدت لعيني مجد يكتنفها ضباب كثيف:
- هذا الطريق يا مجد.
وكما ظهر والده فجأة, اختفى فجأة, واستيقظ هو من نومه والعرق يغمر وجهه..
- ياله من حلم عجيب.
قالها مجد وهو ينهض من على فراشه البسيط, وتناول اناءا فخاريا امتلئ بالماء, وارتشف منه بضع رشفات ومسح شفته بكفه ثم قال:
- اي طريق هذا الذي اشرت اليه يا ابي؟, اي طريق؟.
- الحكيم همام, لا احد سواه قادر على جعل الامور واضحة امام عيني.
قالها مجد واسرع يرتدي ثيابه, ولف حول خصره حزاما تدلى منه سيفه الضخم, وغادر الخيمة, واطلق صفيرا متصلا, فجاوبه صهيل قوي قبل ان يظهر جواده الادهم من خلف تل رملي قريب, وماان توقف الجواد امامه حتى ربت مجد على معرفته وقال مبتسما:
- كيف حالك ايها الادهم؟.
صهل الادهم واخذ ينفث الهواء من منخريه, فربت مجد مرة اخرى على معرفته قبل ان يشرع في تثبيت السرج على ظهره, وماان انتهى حتى اعتلى صهوته بقفزة رشيقة ولكزه بكعبه وقال:
- هيا ايها الادهم, هيا.
صهل الادهم ورفع قائميه الاماميين ثم انطلق مثيرا خلفه سحابة كثيفة من الغبار..
وعبر رمال الصحراء المنبسطة انطلق بفارسه نحو اطراف الصحراء الغربية حيث يعيش الحكيم همام..
ان الحلم الذي راوده يحمل رسالة ما بالتأكيد..
لقد اراد والده ان يرشده الى طريق ما لابد ان يسلكه..
ولن يجد مجد في الصحراء كلها شخصا باستطاعته ان يدله على هذا الطريق سوى الحكيم همام..
-" الحكيم همام رجل كلنا نثق بعلمه وحكمته يا مجد"..
-" وسيأتي يوم, ستسعى فيه الى نصيحة الحكيم همام ومساعدته يا مجد"..
عبارات رددها والده على مسامعه كثيرا وهو لايزال بعد صبيا..
عبارات بدت له حينذاك غامضة, بلا معنى, ولكنها الآن باتت واضحة, لقد اتى اليوم الذي تحدث عنه والده اخيرا..
اليوم الذي يسعى فيه الى الحكيم همام يطلب المساعدة والنصيحة..
وامام عينيه لاحت خيمة الحكيم همام, وامام مدخلها وقف الاخير وابتسامة واسعة تتألق فوق شفتيه..
ولابد لنا من وقفة لتأمل ملامح الحكيم همام وهيئته..
انها ملامح لابد ان تزرع المهابة في نفس كل من ينظر اليها..
القامة طويلة, البشرة بيضاء, العينان رماديتان واسعتان تحيطهما التجاعيد, الانف طويل ومستدق, الشعر رمادي قصير, اللحية رمادية تصل الى منتصف الصدر, الثوب رمادي فضفاض, وفي يده استقرت عصا خشبية على قمتها بللورة سداسية الاضلاع انعكست عليها اشعة الشمس..
- لقد انتظرت هذه الزيارة لسنوات طويلة يا مجد.
قالها الحكيم بصوت عميق عندما توقف الادهم امامه, فترجل مجد عن صهوته وقال متعجبا:
- انتظرتها؟!, ولسنوات طويلة؟!, ولكن كيف وانت لا تعرفني, ولم ترني قبل هذه اللحظة؟!.
اتسعت ابتسامة الحكيم همام اكثر وقال:
- انا اعرف هذه الصحراء بكل مافيها ومن فيها كما اعرف نفسي يا مجد.
قطب مجد دون ان يعلق, فضحك الحكيم همام ثم قال وهو يستدير نحو مدخل الخيمة:
- اتبعني يا مجد.
تردد مجد قليلا قبل ان يهزم تردده ويدلف الى الخيمة وراء الحكيم همام..
الخيمة من الداخل بدت شديدة النظافة, وتعبق بها رائحة عطرة, وفي منتصفها انتصب عمود حجري مصقول متوسط الطول لم ير مجد له مثيلا من قبل, وعلى قمته المستديرة استقر حوض زجاجي امتلئ بسائل فضي اللون..
- ماهذا الشيئ ايها الحكيم همام؟!.
قالها مجد وهو يشير بسبابته نحو العمود والحوض, فابتسم الحكيم همام وقال:
- اقترب يا مجد ولا تخش شيئا.
وماان اصبح مجد الى جواره حتى قال مردفا:
- هذه هي مرآة الافق يا مجد.. ارث قديم في الواقع.
وصمت لحظة ثم قال مكملا:
- لقد اتيت لتعرف الطريق الذي ينبغي عليك ان تسلكه, وهذه المرآة ستساعدك على هذا يا مجد, ستجعل الطريق الذي اشار اليه والدك في الحلم واضحا امام عينيك.
قال مجد مندهشا:
- ولكن كيف..
ولكنه بتر عبارته عندما مرر الحكيم همام البللورة في قمة عصاه فوق سطح السائل الفضي وهو يتمتم بكلمات لم يفهم منها حرفا واحدا, ونظر اليه الحكيم وهو يقول:
- والآن انظر الى المرآة لتعرف ماجئت تبحث عنه هنا.
حدق مجد في وجهه دون ان يجرؤ على النظر في الحوض, فابتسم الحكيم همام وقال:
- انظر يا مجد قبل فوات الآوان.
انتفض جسد مجد قبل ان ينظر الى سطح السائل الفضي, وامام عينيه تموج سطح السائل وتحول الى سطح شفاف, وفي المرآة رأى مجد مالم يكن يتوقعه ابدا!!..
فأمامه رآى غابة, اشجار عالية, وحشائش متشابكة, ورأى نفسه يقاتل قوما لم يتبين ملامحهم, انه هو بلاشك, ولكن اين توجد هذه الغابة يا ترى؟!, انها ليست هنا في الصحراء بالتأكيد!..
وفجأة تغير المشهد في المرآة ليرى مجد نفسه في ارض صخرية موحشة, ومن حوله جبال عالية ذات قمم مدببة, وضباب كثيف حول هذه القمم, وامامه مباشرة قلعة ضخمة جدرانها مبنية من حجارة شديدة السواد, لها ابراج اشتعلت النار في قممها, بوابتها حديدية برزت منها نصال حادة يقطر الدم منها..
وللمرة الثالثة تغير المشهد امام عينيه ليرى سهلا فسيحا, تدور فيه معركة رهيبة, وفي السماء ظل اسود عملاق حجب اشعة الشمس, واخذ ينفث السنة متتابعة من اللهب فوق رؤوس المتقاتلين..
واخيرا تموج سطح المرآة ليرى مجد نفسه على صهوة جواده الادهم, امامه طريق طويل تسلطت عليه اشعة الشمس, وهاهو يلكز جواده لينطلق به عبر هذا الطريق..
وعاد سطح المرآة الى لونه الفضي مرة اخرى, ومرت لحظات من الصمت قبل ان يقول مجد متسائلا:
- ماهذا الذي رأيته ايها الحكيم؟!.
مجيبا قال الحكيم همام:
- انه الطريق الذي اشار اليه والدك يامجد, وارادك ان تعرفه وتسلكه.
قال مجد يسأله مرة اخرى:
- ولكن كيف تعرف كل هذا ايها الحكيم؟, ولماذا اشرت الى هذه المرآة بأنها ارث قديم؟.
ابتسم الحكيم همام وقال وهو يربت على كتفه:
- ليست كل الاسئلة تحتمل الاجابات يا مجد.. في الوقت الحالي على الاقل.
ساد الصمت للحظات قبل ان يقول مجد:
- مارأيته في هذه المرآة يشير الى شيئ واحد ايها الحكيم.
ونظر الى عيني الحكيم همام مباشرة وهو يردف قائلا:
- الرحيل عن الصحراء الشمالية.
قال الحكيم همام وهو يربت على كتفه مرة اخرى:
- انه قدرك يا مجد.
هز مجد رأسه بالايجاب وقال:
- صدقت ايها الحكيم.. انه قدري الذي لا مفر منه.. الا اليه.
* * * *
الرحــــيـــل..

دلف مجد الى خيمة الامير خالد وانحنى امامه وهو يقول:
- لك السلام يا سمو الامير.
ارتسمت ابتسامة على شفتي الامير خالد وقال وهو يشير لمجد بالاعتدال:
- اجلس يا مجد..اجلس يا بطل.
اتخذ مجد مجلسه على بساط مجاور لمجلس الامير خالد الذي قال وابتسامته تتسع:
- اولا, وقبل ان اعرف السبب الذي طلبت لقائي من اجله, اريد ان اشكرك بشدة على انقاذ ياسمينا من قبضة هجير يا مجد, صحيح انه شكر متأخر بعض الشيئ, ولكنك تستحقه بالطبع.
قال مجد:
- لم افعل شيئا استحق عليه الشكر يا مولاي, ماهو الا واجب كان سيقوم به اي فارس بالقبيلة ان لم اقم به انا.
قال الامير خالد:
- لا احد في القبيلة يملك شجاعتك واقدامك يا مجد.
ورفع حاجبيه وقال بلهجة طغى عليها الاعجاب:
- ان تقتحم عرين هجير وحدك, وتبارزه بين رجاله وتقتله امام اعينهم!, انها لعمري شجاعة تستحق كل اعجاب وكل تقدير يا مجد.
اطرق مجد برأسه وهو يقول:
- اشكرك يا مولاي على هذا الثناء.
ابتسم الامير خالد وقال:
- لا تشكرني على ماانت حقيق بنيله يا مجد.
ثم انه قال مردفا:
- والآن هات مالديك يا مجد, فكلي آذان مصغية.
مرت هنيهة من الصمت قبل ان يقول مجد:
- في الواقع انه قرار اتخذته واردت ان اخبرك به يامولاي.
قال الامير خالد يسأله:
- اي قرار هذا يا مجد؟.
اخذ مجد نفسا عميقا ملأ به صدره واخرجه في زفرة قوية قبل ان يقول ردا على سؤال الامير خالد:
- انه قرار بالرحيل يا مولاي.
بدت الدهشة على وجه الامير خالد وهو يقول:
- الرحيل؟!!!.. مالذي تقصده يا مجد؟!!!.
مجيبا قال مجد:
- الرحيل عن الصحراء الشمالية يا مولاي.
ظل الامير خالد على دهشته وهو يحدق في وجه مجد, ولكنه سرعان ماتجاوز دهشته وهو يقول متسائلا:
- ولماذا قررت امرا كهذا يامجد؟, اعني مالسبب الذي دفعك الى هذا؟.
لم ينطق مجد بكلمة واحدة يرد بها على الاميرخالد, وفي هذه اللحظة تنازعته رغبتان متناقضتان..
الاولى ان يخبر الامير خالد بكل شيئ, عن الحلم الذي رآه, وذهابه الى الحكيم همام, والمشاهد التي رآها في مرآة الافق..
والثانية ان يكتم الامر ويحتفظ به لنفسه, والا يطلع عليه احدا على الاطلاق..
- لم تجب عن سؤالي يا مجد.
قالها الامير خالد بحزم ليحسم مجد امره ويقول:
- اعذرني يا مولاي, ولكني افضل الاحتفاظ بالسبب لنفسي.
قطب الامير خالد وهو يقول:
- حتى عني انا يا مجد؟!, امير القبيلة ورأسها؟!.
ازدرد مجد ريقه بصوت مسموع ثم قال:
- ارجوك يا مولاي.. انه رجاء اتمنى ان تحققه لي.
تطلع اليه الامير خالد للحظات قبل ان يتنهد ويقول:
- ولكن, الا تعلم بأن القبيلة تحتاج اليك يا مجد؟, فمن الذي سيقود فرسانها اذا ما قررت عصابات الجبال ان تقوم بهجوم انتقامي علينا؟.
قال مجد مجيبا:
- سيمر وقت طويل قبل ان يفكر رجال هجير في الهجوم علينا يا مولاي, على الاقل حتى تنتظم صفوفهم ويعتادون موت زعيمهم.
وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يقول:
- ودعني اقولها لك يا مولاي, فالقبيلة بها فرسانا اشداء قادرين على تولي القيادة افضل مني, فقط امنحهم الفرصة ليثبتوا لك كفاءتهم وجدارتهم.
ابتسم الامير خالد بدوره وهو يقول:
- كلا يا مجد, فليس في الصحراء كلها من يفوقك فروسية وحسن قيادة, فأنت الافضل بلا منازع, وبشهادة العدو قبل الصديق.
انفرجت شفتا مجد ليقول شيئا ما, ولكن الامير خالد قال مستدركا:
- ولكني لا استطيع ان اقف في طريقك يا مجد, فأنت كوالدك الراحل تماما, اذا ما قرر ان يفعل شيئا, فإنه يمضي فيه حتى النهاية دون ان تثنيه قوة عن عزمه.
وربت على كتف مجد وهو يقول:
- اذهب يا مجد, ولكن حاول ان تعود الينا سالما, فإنها لخسارة فادحة ان تفقد الصحراء الشمالية فارسا مثلك.
حاول مجد ان يبتسم وهو يقول:
- اعدك بأن احاول يا مولاي.
وكانت عبارته هي فصل الختام.
* * * *
الشمس بدأت رحلة الغروب, اضواؤها الدامية لطخت صفحة السماء وانعكست على رمال الصحراء الممتدة, هبات من الرياح الباردة اخذت تسري معلنة بداية ليلة جديدة..
وامام خيمة مجد وقف زعس بملامح متجهمة, وذراعين معقودين امام صدره ينظر الى مجد الذي انهمك في تثبيت السرج على ظهر الادهم..
- ولماذا الآن بالذات يا مجد؟.
قالها زعس وهو يخطو للامام قليلا, فقال مجد يجيبه دون ان يتوقف عما يفعله:
- لكل شيئ وقت معلوم يا زعس.
ازدادت ملامح زعس تجهما وهو يقول:
- ولماذا الرحيل يا مجد؟!, لماذا يا صديقي؟!.
- منذ وقت طويل وانا اشعر بأنني لا انتمي الى الصحراء يا زعس.
اجاب بها مجد وهو يتأكد من احكام اربطة السرج, فقال زعس مستنكرا:
- الهذا السبب فقط قررت الرحيل بهذ البساطة عن الارض التي نشأت فيها؟!.
وهز رأسه وهو يردف قائلا:
- كلا يا مجد, ان عقلي يأبى ان يصدق هذا, فأنا واثق من وجود سبب آخر دفعك لاتخاذ قرار كهذا.
اطرق مجد للحظة قبل ان يلتفت اليه ويقول:
- صدقت يا زعس, فهناك سبب آخر يدفعني للرحيل.
تهللت اسارير زعس وقال بحماس:
- لقد كنت وا..
ولكن مجد لم يمهله وقال يقاطعه:
- ولكني لن اخبر به اي مخلوق يا زعس.
قال زعس مندهشا:
- ولكني صديقك الوحيد يا مجد, فكيف..
عاد مجد يقاطعه ويقول:
- لا داعي لجدل عقيم ومحاولات لن تجدي نفعا يا زعس.
ساد الصمت بعد عبارته, واخذ الظلام يفرض هيمنته تدريجيا, وعلى ظهر الادهم قام مجد بثبيت لفافة جلدية وضع بها شيئا من الطعام وجرابا جلديا للماء, و..
- سأرحل معك اذن يا مجد.
قالها زعس بتصميم, فاربدت ملامح مجد والتفت اليه بحركة حادة وهو يقول:
- ماذا تقول؟!, ترحل معي؟!.
هز زعس رأسه ايجابا وقال:
- اجل يا مجد, فمادمت ترفض اخباري بالسبب الذي يدفعك للرحيل عن الصحراء, فسآتي معك, و..
قاطعه مجد بلهجة صارمة كحد الحسام:
- مستحيل يا زعس, فقرار الرحيل قراري انا, طريقي الذي سأسير فيه وحدي,ولن يشاركني فيه احد, هل تفهم هذا؟.
قال زعس بعناد وهو يعقد ذراعيه امام صدره:
- حاول ان تمنعني اذن يا مجد.
تجاوز مجد المسافة التي تفصله عن زعس بقفزة واحدة وقال:
- زعس, لا تجبرني على فعل مالا احب.
ابتسم زعس وقال يسأله:
- ومالذي ستفعله يا مجد؟, هل ستقتلني حتى لا ارحل معك؟.
ضيق مجد عينيه وهو يقول:
- كلا يا زعس, ولكن هناك وسيلة اخرى بالتأكيد .
اتسعت ابتسامة زعس, وقبل ان يهم بسؤال مجد عما يعنيه فاجأه هذا الاخير بلكمة قوية على فكه ارتج لها كيانه, وعاجله مجد بلكمة اخرى اشد من الاولى ليسقط على الرمال فاقد الوعي وخيط رفيع من الدم يسيل من ركن فمه, فتنهد مجد وقال:
- سامحني يا زعس, ولكني لا اعرف مالذي سأواجهه خارج الصحراء, ولااريد ان اعرض حياتك لأي خطر يا صديقي.
قالها واعتلى صهوة الادهم, والقى نظرة اخيرة على زعس قبل ان يلكز الادهم الذي صهل بقوة وانطلق به مبتعدا..
انطلق والظلام يواصل فرض السيطرة.. والانتشار..

* * * *
قرية الاقزام.. وحكيم.. ونبوءة..

اخيرا تخطى حدود الصحراء الشمالية..
هكذا فكر مجد وجواده الادهم ينطلق به فوق ارض كساها الاخضرار تماما..
اخيرا اصبح خارج الصحراء الشمالية بعد كل السنوات التي قضاها فيها, وبعد كل المعارك التي خاضها, والانتصارات التي حققها على اعداء قبيلته,وهاهو مقبل على فصل جديد من فصول حياته..
انه الآن في ارض لم تطأها قدمه من قبل, لا يعرف ماينتظره فيها, ولاشيئ يضيء ظلام الطريق امامه سوى تلك المشاهد التي رآها في مرآة الافق عند الحكيم همام..
رفع عينيه الى السماء ليجد انها تدثرت بضوء شاحب يعلن ميلاد يوم جديد, لقد ظل يعدو بجواده طوال الليل دون ان يتوقف الا لماما ليتناول شيئا من الطعام والشراب..
ومن حوله, ومع بداية شروق الشمس اخذت ملامح الارض تتضح امام عينيه اكثر من ذي قبل, فبين الحين والآخر مرت به تلال مكسوة بأعشاب خضراء اختلطت بها زهور متعددة الالوان, ومع توغله في هذه الارض اكثر واكثر كانت اعداد التلال من حوله تزداد, ومن مكان ما تناهى الى سمعه صوت مياه متدفقة, فقطب وهو يقول:
- من المؤكد ان هذه المياه قريبة من هنا ايها الادهم.
ولم يمض الكثير على عبارته حتى لاح امام عينيه نهر تدفقت مياهه من الشمال الى الجنوب, فجذب عنان الادهم الذي اطلق صهيلا قبل ان يتوقف امام حافة النهر وهو ينفث الهواء من منخريه..
وترجل مجد عن صهوته, ودار بعينيه في المنطقة المحيطة بالنهر..
في الجهة الاخرى من النهر بدا امامه صف من الاشجار تفاوتت في احجامها, فمنها ما كان ذا ارتفاع شاهق واغصان متشابكة واوراق كثيفة, وبعضها ذو ارتفاع متوسط واغصان متفرعة بدت كأذرع مفرودة في الهواء, وبين هذه الاشجار نمت حشائش كثيفة متوسطة الارتفاع, بعضها اكتسب لونا قرمزيا داكنا اختلط بلون ابيض باهت, والبعض الآخر اكتسب لونا ازرق خالطه شيئ من اللون الاخضر, ومن بين اغصان الاشجار تعالى صوت تغريد عذب انتشت له نفس مجد..
ولاحت ابتسامة على شفتيه وقال وهو يربت على عنق الادهم:
- انه مكان جميل وهادئ, اليس كذلك ايها الادهم؟.
قالها وانحنى على ركبتيه امام مياه النهر, وبمياهه الباردة اخذ يغسل وجهه وذراعيه, في حين انحنى الادهم يقتات من الارض الخضراء..
ومع ملامسة المياه لوجهه شعر مجد بأنه في امس الحاجة الى قسط من الراحة بعد رحلته الطويلة من الصحراء حتى هذا المكان..
وعلى الارض الخضراء تمدد وهو يسبل جفنيه, واخذ النوم يغزو عينيه وكل حواسه سريعا, ولكن قبل ان يغرق فيه تماما صهل الادهم فجأة, ففتح عينيه وهب واقفا وهو يستل سيفه بسرعة, ولكن جسدا دافئا ارتطم به بقوة ليسقطه ارضا ويفقده سيفه..
واعتدل مجد جالسا وهو ينظر الى مهاجمه, وتجهمت ملامحه عندما رآه, ذئب ضخم, فراؤه شديد السواد, عيناه حمراوان بلون الدم, انيابه ضخمة يسيل منها الزبد..
وببطئ امتزج بالحذر نهض مجد, وبخطوات وئيدة اخذ يقترب من سيفه وعيناه معلقتان بالذئب الذي بدا وكأنه ادرك ما يسعى اليه, فزمجر قبل ان ينقض مرة اخرى على مجد ولعابه يتطاير في الهواء, وقبل ان يبلغ منتصف المسافة بينه وبين مجد انطلق سهم من مكان ما يشق الهواء بصفير حاد لينغرس في عنق الذئب, فسقط ارضا وهو يطلق عواءا متقطعا والدماء تسيل منه بغزارة..
وما ان همدت حركة الذئب تماما حتى اخذ مجد يتلفت حوله بحثا عن المكان الذي انطلق منه السهم تحديدا..
ولكن بحثه لم يطل, فمن بين الاشجار على الجهة الاخرى من النهر برزت فتاة تمسك قوسا في يدها..
متوسطة القامة, سمراء البشرة, عيناها سوداون ضيقتان, شعرها اسود قصير لا يصل الى كتفيها, ثيابها بدت بسيطة تنم عن الفقر ورقة الحال..
- من انت؟, ومالذي تفعله هنا؟.
قالتها الفتاة وهي تثبت سهما آخر في القوس وتصوبه نحو مجد الذي قال وهو يلوح بكفه:
- على رسلك, فلست اضمر لك اي شر.
قطبت الفتاة وهي تقول:
- انت لا تنتمي الى هذا المكان, اليس كذلك؟.
أومأ مجد برأسه ايجابا وقال:
- هذا صحيح, فأنا غريب عن هذا المكان.. قادم من الصحراء الشمالية.
ازدادت تقطيبتها وهي تقول:
- لم ار اي غريب هنا من قبل.
قال مجد مندهشا:
- لماذا؟!, الم يأت اي غريب الى هنا من قبل؟!.
تطلعت اليه الفتاة قليلا قبل ان تخفض قوسها وتقول ردا على سؤاله:
- ليس في هذه الايام على الاقل .
قال مجد يسألها:
- مالذي تقصدينه بهذه الايام؟.
اولته الفتاة ظهرها وقالت دون ان تهتم بالاجابة على سؤاله:
- لا انصحك بالبقاءهنا طويلا, فالذئاب كثيرة في هذه البقعة, وهذا الذئب ماهو الا اول الغيث.
قال مجد متسائلا:
- الاتدليني اذن على مكان آمن انال فيه قسطا من الراحة؟.
قالت دون ان تلتف اليه:
- اذا سرت بمحاذاة النهر صوب الشمال ستجد خانا يملكه عجوز يدعى آسر, ستحصل هناك على ماتريد.
وصمتت لحظة ثم قالت:
- ولكن احذر ايها الغريب, فعيون الملك كاسر وجواسيسه في كل مكان تترصد الاخبار له.
قالتها واسرعت تختفي بين الاشجار, وظل مجد واقفا في مكانه للحظات قبل ان ينظر الى الذئب الصريع وهو يقول:
- يالها من فتاة!.
وانحنى يلتقط سيفه ويعيده الى غمده, واعتلى صهوة الادهم وقال وهو يلكزه:
- هيا بنا.
* * * *
فوق تبة لا ترتفع عن سطح الارض كثيرا لاح خان العجوز آسر, مبني بحجارة بيضاء خالطها شيئ من سواد, سقفه من الخشب, تعلوه مدخنة اسطوانية من الحجر تعالى منها دخان اسود, وسبق مدخله طريق صاعد على كلا جانبيه سياج خشبي قصير..
وارتقى مجد الطريق الصاعد على قدميه بعد ان ربط عنان الادهم في جذع شجرة قريبة, ودفع الباب الخشبي ودلف الى الخان..
المكان بالداخل بدا واسعا ودافئا بوجود مدفئة حجرية اشتعلت فيها النار في احد اركان المكان الذي تراصت في ارائك وطاولات خشبية مثبتة الى الارضية الحجرية, ومع اول خطوة خطاها مجد داخل الخان, ساد صمت مفاجئ وعيون رواد الخان تتجه اليه, فقال:
- مرحبا.. اسمي مجد, وانا قادم من الصحراء الشمالية.
لم ينبس احدهم ببنت شفة في حين اتاه صوت واهن يقول:
- هنا ايها الغريب.
التفت مجد الى مصدر الصوت ليرى عجوزا قصير القامة, ممتلئ الجسد يتوكأ على عصا خشبية غليظة واقفا امامه, فقال مبتسما:
- انت آسر مالك هذا الخان, اليس كذلك؟.
قال العجوز وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه:
- هل بلغت سمعتي الى الصحراء الشمالية ايها الغريب؟.
قال مجد وابتسامته تتسع بدروه:
- كلا, ولكني التقيت منذ قليل بفتاة عند النهر هي التي ارشدتني الى هنا.
قال آسر متسائلا:
- اهي فتاة متوسطة القامة, سمراء البشرة, ذات عينين سوداوين, وشعر اسود قصير؟.
هز مجد رأسه ايجابا وقال متعجبا من دقة وصف العجوز للفتاة:
- اجل, وهي تجيد استخدام القوس ايضا.
اطلق آسر ضحمة قصيرة قبل ان يقول:
- انها حفيدتي زهرة ايها الغريب.
قال مجد وقد التقى حاجبيه:
- حفيدتك؟!, وهل اعتدت تدريبها على استخدام القوس بهذه الدقة؟؟!.
هم آسر بالاجابة على سؤاله, ولكن الاجابة اتته من ركن خافت الاضاءة بالخان:
- في ظل مانعانيه هذه الايام يغدو هذا امرا طبيعيا ايها الغريب.
حانت من مجد التفاتة الى الركن الذي اتت منه الاجابة, وضيق عينيه محاولا استجلاء ملامح صاحبها, ولكنه لم ير سوى جسد ضئيل تخرج منه سحب زرقاء داكنة ذات رائحة نفاذة..
- انه القزم فاتح, من المترددين كثيرا على الخان.
قالها آسر قبل ان يمسك بذراع مجد ويقوده نحو احدى الارائك الخشبية وهو يردف:
- تعال يا مجد, فلابد انك متعب وبحاجة الى الراحة.
ولوح بعصاه في وجوه رواد الخان وهو يقول بغلظة:
- الام تنظرون؟, هيا عودوا الى احاديثكم التافهة, هيا.
ساد الصمت لهنيهة اخرى قبل ان تعلو اصوات رواد الخان, وسعل آسر قبل ان يقول:
- اعذرهم يا مجد, فلم ير احدهم غريبا هنا من قبل.
قال مجد وهو يجلس على الاريكة وعيناه تتجهان لااراديا الى حيث جلس القزم فاتح:
- هذا ماقالته لي حفيدتك ايضا.
لماذا يراوده شعور بأن عيني القزم مثبتتة عليه؟ََ!..
اشار آسر بعصاه وقال بعد اذ مط شفته السفلى:
- كلهم من الاجيال الجديدة التي ولدت ونشأت في ظل حكم الملك كاسر الذي يحكم هذه البلاد منذ سنوات طويلة, ولم يشهد احدهم ايام العدل والرخاء قبل جلوسه على العرش, في تلك الايام كان امرا عاديا ان نرى الغرباء القادمين من الصحراء الشمالية, اوحتى من الاراضي الجنوبية.
قال مجد وهو يتناول منه كوبا امتلئ حتى حافته بسائل داكن له رائحة عطرية قوية:
- لابد انكم تعانون كثيرا من هذا الملك كاسر.
ابتسم آسر وقال:
- هذا صحيح يا مجد, اننا نعاني منه اكثر مما تتصور.
ارتشف مجد بضع رشفات من الشراب, فوجد طعمه رائعا, فقال يسأل آسر:
- مم صنع هذا الشراب؟.
قال آسر مشيرا الى صدره بسبابته:
- انه مشروبي الخاص الذي اصنعه بنفسي من مزيج من الاعشاب العطرية و..
ولكنه بتر عبارته عندما انفتح باب الخان بقوة, ودلف اليه خمسة جنود يرتدون دروعا سوداء ازدانت عند منتصف الصدر بشعار يمثل طائرا اسطوريا ينفث النار من فمه بلون احر دموي, وقد امسك كل واحد منهم بسيف ضخم..
وساد الصمت في الخان, واخذت عيون رواده تحدق في الجنود الخمسة بخوف واضح, وبصوت منخفض قال آسر:
- انهم من جنود الملك كاسر.
وتقدم نحو الجنود وقال يسألهم:
- مالذي تريدونه؟, لقد اديت ماعلي من ضرائب و..
قاطعه احد الجنود ليقول بصوت مخيف:
- لقد رصد جواسيسنا غريبا وصل الى خانك منذ قليل, فأين هو يا آسر؟.
ازدرد آسر ريقه بصعوبة وقال:
- عن اي غريب تتحدث ايها الجندي؟, فلم ارى اي غرباء هنا منذ وقت طويل.
انقض عليه الجندي ورفعه من عنقه وهو يقول بصرامة تجمد الدماء في العروق:
- حذار من الكذب على جنود الملك كاسر ايها العجوز اللعين, فأنت تعرف عقوبة هذا جيدا و..
قاطعه مجد ليقول وهو يستل سيفه:
- هاأنذا, فاتركه وشأنه ايها الوغد.
افلت الجندي آسر وتركه يسقط ارضا, والتفت الى مجد الذي ارتسم التحدي على ملامحه, فضيق عينيه وقال:
- هل تتحدى جنود الملك كاسر ايها الغريب؟.
قطب مجد وهو يقول:
- الجندي الحق لا يستعرض قوته امام الضعفاء امثال هذا العجوز المسكين.
اربدت ملامح الجندي وهو يقول:
- حذرا من التعدي على جنود الملك كاسر ولو بالكلمات ايها الغريب والا..
قال مجد ساخرا:
- والا ماذا ايها الوغد؟, هل ستفعل معي مثل مافعلت مع آسر؟.
جز الجندي على اسنانه وقال:
- ستدفع ثمن جرأتك هذه غاليا ايها الغريب.
والتفت الى الجنود الاربعة وراءه وقال:
- هيا نمزقه اربا يا رجال.
وفي نفس اللحظة التي انقض فيها الخمسة على مجد وصيحات هادرة تنطلق من حناجرهم, اعتدل القزم فاتح في جلسته وتألقت عيناه وقال وهو ينفث الدخان الازرق من قصبة قصيرة في يده الصغيرة:
- ترى هل..
* * * *
خمسة جنود اشداء, يرتدي الواحد منهم درعا صلبا, ويمسك بسيف ضخم ينقضون على مجد الذي لم تهتز في جسده شعرة واحدة مع الصيحات الهادرة التي انطلقت من حناجرهم..
وماان اصبح اول الخمسة على مقربة منه حتى تحرك مجد, وبقفزة بالغة الخفة اعتلى الطاولة الخشبية امامه, واطلق صيحة مجلجلة وهو يركل الجندي في فكه بقوة القته ارضا ليحدث اصطدام درعه بالارض الحجرية للخان دويا وصخبا شديدين..
وهبط مجد على قدميه بين الجنود الاربعة, وانقض بسيفه على اقربهم اليه, والتقى السيفان بصليل قوي رددته جدران الخان..
وامام اعين رواد الخان الذاهلة دار اشرس واقوى نزال شهدوه في حياتهم..
فصحيح ان ضربات مجد لم تنجح في اختراق دروع الجنود الا انه تحرك بخفة ورشاقة مذهلتين..
جسده تحرك في كل اتجاه دون ان يستقر في مكان واحد, فتارة تراه يضرب سيف جندي, ثم ينحني ليتفادى سيف الثاني, ويدور حول نفسه وهو يعتدل ليسدد بمقبض سيفه ضربة قوية الى فك الثالث..
ولهث جنود الملك كاسر وهم يتطلعون الى مجد بعيون ملأها الغل والحقد..
انهم يواجهون الآن خصما غيرعادي..
فارس من طراز خاص لم يواجهوا مثله من قبل..
ضرباته عاجزة عن اختراق دروعهم والنفاذ الى صدورهم..
ولكنها ضربات قوية, عنيفة على نحو لم يعهدوه حتى في اكثر تدريباتهم قوة وشراسة..
وقطب الجندي الذي ركله مجد في فكه مع بداية القتال وقال وهو يلوح بسيفه في الهواء:
- قد تكون فارسا مغوارا ايها الغريب, ولكن فرصتك في هزيمتنا ضئيلة مهما طال امد هذه المبارزة.
قطب مجد بدوره, وادرك ان الجندي محق في كل كلمة نطق بها..
فهو بالفعل فارس باسل, وشجاع..
قادر على الصمود لأطول وقت ممكن دون ان يناله سيف بضربة قاتلة..
ولكن مهما طال امد احتماله وصموده, فهو مجرد بشر في نهاية الامر..
والدروع تمنح مهاجميه نقطة تفوق لا يمكن اغفالها..
- القتال لم ينته بعد يا هذا.
قالها مجد وهو يمسك سيفه بكلتا يديه, وكل شبر من وجهه ينطق بالتحدي ورفض الاستسلام..
حتى لو كان الموت هو النتيجة..
فهو لن يخشاه.. سيواجهه كفارس..
لقد عاش فارسا لايشق له غبار..
وان مات, فلابد ان يموت كذلك ايضا..
وبكل قوته انقض على الجنود الخمسة في مشهد يثير الاعجاب الى اقصى حد..
سيفه يضرب بقوة..
يصد.. ويضرب, ثم يصد من جديد..
ينحني بخفة, يقفز فوق الطاولات والارائك الخشبية, يطير في الهواء ليضرب بقدميه معا, فلا استسلام, ولاتراجع ابدا..
ومن مكانه تألقت عينا فاتح وهو يقول:
- شجاعة وبسالة نادرتان.
واستل من حزام حول خصره خنجر وهو يردف قائلا:
- اعتقد ان سنوات الانتظار لم تذهب هباءا.
وبمهارة القى الخنجر نحو واحد من الجنود الخمسة الذي تراجع للوراء بحركة غريزية, وارتسمت ابتسامة واثقة على شفتي فاتح عندما احتك الخنجر بكتف الجندي وتجاوزه لينغرس في طاولة خشبية..
وهوى صمت ثقيل على الخان..
صمت دام للحظات قبل ان ينفصل الدرع عن صدر الجندي ليسقط على الارض محدثا دويا قويا ويهتز للحظات قبل ان يستقرساكنا..
وقطب مجد عندما لمح حزاما جلديا عريضا يسقط عن كتف الجندي..
حزام ثبت الدرع الى جسده قبل ان يمزقه فاتح بخنجره..
هذه هي نقطة الضعف اذن..
والوسيلة لهزيمتهم كذلك..
فقال وهو ينقض على الجندي الذي فقد درعه ويغمد سيفه في صدره:
- لقد تغير الوضع الآن ايها الاوغاد.
وسحب سيفه ليطلق الجندي شهقة قوية ويسقط على الارض جثة هامدة..
واستؤنف القتال من جديد, ولكن على نحو مختلف هذه المرة, فضربات مجد اصبحت تنتقي اهدافها بدقة, ودون اي مجال للخطأ..
ضربة الى الحزام الجلدي, فينفصل الدرع الصلب, ثم يغوص السيف لينتزع حياة من جسد صاحبها..
وسقط جندي ثان, وتبعه الثالث والرابع, واتسعت عينا الخامس في رعب شديد عندما رأى دماء رفاقه تلوث ارضية الخان, وسيف مجد..
مجد الذي اخذ صدره يعلو ويهبط, وقطرات من الدم على وجهه..
- الرحمة ايها الغريب, الرحمة.
قالها الجندي وهو يلقي سيفه ارضا, وينحني على ركبتيه امام مجد..
وتوقع جميع رواد الخان ان ينتزع مجد درع الجندي ويقتله, لكنه اعاد سيفه الى غمده وقال بلهجة آمرة:
- اذهب.
تطلع اليه الجندي وهو عاجز عن التصديق ان قد نجا من الموت, وكأنما تطارده شياطين الجحيم مجتمعة هب واقفا واستدار يغادر الخان دون ان يهتم حتى باستعادة سيفه الذي القاه ارضا..
وزفرمجد قبل ان ينظر لآسر ويقول:
- اعتقد انني افسدت عليك كل شيئ.
لم ينبس آسر ببنت شفة, فالدهشة عقدت لسانه واعجزته عن النطق..
- ماحدث قد حدث بالفعل, ولااظن آسرا سيأسى كثيرا على ترك الخان.
قالها فاتح وهو يغادر الركن خافت الاضاءة..
قامة ضئيلة وقصيرة كما ينبغي لقزم ان يكون, وجه مستدير مكتنز, انف صغير, شفتان رفيعتان, عينان زرقاوان واسعتان اكثر من المألوف, وشعر اشقر قصير..
وقال وهو يقترب من آسر:
- من الافضل ان تعجل بالرحيل من هنا يا آسر قبل ان تجد حشدا من جنود الملك في الخان, فينتقموا منك شر انتقام.
هز آسر رأسه ايجابا وقال بصوت بحه الانفعال الشديد الذي يجيش به صدره:
- انت محق يافاتح, فلابد ان ارحل سريعا, لابد.
منحه فاتح ابتسامة مشجعة قبل ان ينظر لمجد ويقول:
- وانت.. اتبعني.
قالها واسرع يغادر الخان, وتردد مجد للحظات قبل ان يربت على كتف آسر ويقول:
- اتمنى لك حظا طيبا.
وغادر الخان ليجد فاتح على صهوة جواد ابيض يقل حجمه عن نصف حجم الجواد العادي, له معرفة وذيل بلون ازرق داكن, وعلى شفتيه ابتسامة واسعة وهو يقول:
- هيا بنا, فلاوقت نضيعه.
وتألقت عيناه جذلا وهو يلكز جواده الذي اطلق صهيلا رفيعا قبل ان ينطلق بسرعة فوق العشب الاخضر, فاعتلى مجد صهوة جواده ولكزه لينطلق به خلف فاتح..
وفي رأسه تردد سؤال واحد..
فبعد الذي حدث في الخان..
وهزيمته لجنود الملك كاسر..
الى اين يأخذه القزم فاتح ياترى؟.
* * * *
تحت سماء زرقاء صافية تدثرت بسحب بيضاء, وقرص شمس ارسل اشعته الذهبية الدافئة,وفوق مساحات منبسطة من الاخضر المرصع بالعديد من التباب المتفاوتة في درجة ارتفاعها عن الارض انطلق الجوادان, جواد فاتح الابيض بذيله ومعرفته الازرقين, وجواد مجد الادهم..
الحماس ارتسم على وجه فاتح المكتنز, في حين بدا التجهم على وجه مجد, وعشرات من الاسئلة تعربد في رأسه دون اجابة..
واستمر الجوادان في انطلاقتهما حتى ارتقيا تبة متوسط الانحدار ذات قمة منبسطة, فجذب فاتح معرفة جواده ليتوقف مطلقا صهيله الرفيع ويضرب الارض بقائميه الاماميين, فجذب مجد عنان الادهم ليتوقف بدروه..
- اقترب وانظر يا مجد.
قالها فاتح وهو يجفف عرقه بكفه, فلكز مجد الادهم ليتقدم به نحو حافة التبة, وماان فعل حتى حلت الدهشة والانبهار محل التجهم على ملامحه, فقد طالعه اسفل التبة مشهد لا يمكن وصفه الابأنه رائع وخلاب..
فأمام عينيه امتد سهل شديد الانبساط, شديد الاخضرار, في منتصفه تدفق نهر ذو مجرى عريض ومتسع انعكست اشعة الشمس على مياهه فبدت كبحيرة متألقة من الذهب, وفي اكثر من موضع اعترضت مجراه تكوينات صخرية بديعة, وفوق هذه التكوينات الصخرية بدت مجموعات من الطيور الملونة التي لم ير مجد مثلها من قبل في حياته اخذت تصدر اصواتا عذبة بلغته في وقفته فوق التبة مع فاتح, ولكن اكثر مااثار دهشته هو ان النهر استمر في تدفقه حتى اخترق دغلا كثيفا بدا واضحا على امتداد البصر, وبدا وكأن الدغل يضم النهر اليه ويحتويه في قلبه..
- انه مشهد رائع, اليس كذلك؟.
قالها فاتح وابتسامة ترتسم على شفتيه الرفيعتين, فهز مجد رأسه ايجابا وقال:
- بل هو اكثر من رائع, فالطبيعة هنا على النقيض تماما من الصحراء الشمالية التي جئت منها.
اتسعت ابتسامة فاتح وهو يقول:
- اتعلم انني اتمنى رؤية الصحراء يا مجد؟.
ابتسم مجد دون ان يعلق, فهز فاتح كتفيه وقال وهو يشير بسبابته نحو الدغل:
- هناك.. في قلب ذلك الدغل توجد قريتنا يا مجد.
تلاشت ابتسامة مجد وهو يقول:
- قريتكم؟!.
هازا رأسه ايجابا قال فاتح:
- اجل يا مجد, قرية الاقزام.. التي سآخذك اليها الآن.
تبدى الشك في عيني مجد وهو يتطلع الى الدغل البعيد, فضحك فاتح قبل ان يقول:
- اطمئن يا مجد, فلو اردت بك سوءا لما اهتممت بمساعدتك في خان آسر.
قال مجد دون ان ينظر اليه:
- اعتقد انني بحاجة الى الكثير من الشرح والتوضيح لكثير من الامور.
تألقت عينا فاتح وهو يقول:
- ستحصل عليهما بالتأكيد يا مجد, ولكن ليس مني.
متسائلا قال مجد:
- ممن اذن يافاتح؟.
مجيبا قال فاتح:
- من الشخص الذي يعرف عن هذه الارض اكثر مما اعرفه انا يا مجد.
مرة اخرى قال مجد يسأله:
- اهو واحد من الاقزام؟.
قال فاتح يرد على سؤاله:
- اجل, ولكنه ليس قزما عاديا.. انه حكيم الاقزام الذي عاش من السنوات الكثير, وخبر الحياة بحلوها ومرها, وعركته تجاربها اكثر مما يمكنك تخيله.
ثم انه قال بعد هنيهة من الصمت:
- والآن دعنا نواصل طريقنا, هيا ولا تخش شيئا يا مجد.
قالها ولكز جواده لينطلق به هابطا التبة نحو السهل الاخضر, وتردد مجد قليلا في اللحاق به, ولكنه هزم تردده وقال بعد اذ زفر بقوة:
- الامر منذ بدايته لم يكن عاديا على الاطلاق.
ولكز الادهم وهو يقول مردفا:
- فلابأس من اتباعك ايها القزم.
* * * *
عبر ممرات ممهدة بعناية بين اشجار الدغل, بمحاذاة الضفة الشرقية للنهر الذي ضاق مجراه مع توغله في قلب الدغل سار جوادا فاتح ومجد الهويني..
وبعينين لم تفارقهما الدهشة والانبهار اخذ مجد يتأمل كل شيئ من حوله, الاشجار ذات الجذوع الضخمة والارتفاع الشاهق, بأغصانها المتشابكة, واوراقها الخضراء العريضة التي القت ظلالا وارفة, والطيور الملونة التي تنقلت بين اغصان الاشجار في تشكيلات بديعة متناغمة, ومياه النهر الشفافة التي بدت من خلالها الاسماك بالوانها الرائعة واشكالها المختلفة..
- نحن نقترب من القرية كثيرا يا مجد.
قالها فاتح بلهجة غلب عليها الحماس, فأومأ مجد برأسه ايجابا دون ان ينبس ببنت شفة..
ومع انحناءة النهر سار الجوادان وغادرا منطقة الاشجار الى مساحة مستديرة وواسعة خالية من الاشجار, غمرتها الشمس بأشعتها الدافئة..
وامام عيني مجد المندهشتين بدت قرية الاقزام التي اخترقها النهر في منتصفها تماما, وعلى ضفتيه بنى الاقزام منازلهم..
منازل مبنية من اخشاب الاشجار ذات اسقف مصنوعة من اغصان الاشجار المجدولة في ضفائر سميكة مع اوراق الاشجار الخضراء, وفوق اغصان الاشجار التي احاطت بالقرية بنيت اكواخ من الخشب, ومن مداخلها امتدت سلالم من الحبال التي تم تثبيتها الى جذوع الاشجار السميكة..
وتعلقت انظار الاقزام المندهشة بمجد, فابتسم فاتح وهو يقول:
- انها المرة الاولى التي يرون فيها رجلا عاديا يأتي الى القرية.
هز محد رأسه ايجابا وقال:
- هذا يبدو واضحا من الدهشة على وجوههم.
هز فاتح كتفيه وقال:
- الكثير من الاقزام الذين ولدوا ونشأوا في هذه القرية لم يغادروها ابدا, قلة فقط هي من تغادر القرية بين الحين والآخر.
قال مجد متسائلا:
- وانت من هذه القلة, اليس كذلك؟.
قال فاتح مجيبا:
- بل انا اكثر قزم غادر هذه القرية يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مشيرا الى منزل بدا اكبر من كل منازل القرية على الضفة الاخرى من النهر:
- هذا هو منزل حكيم الاقزام يا مجد.
وامام جسر خشبي صغير ترجل الاثنان وعبراه الى الضفة الاخرى, وامام بوابة المنزل توقفا, وقال مجد يسأل فاتح وهو يشير بسبابته الى نقوش غائرة على البوابة:
- ماهذه النقوش يافاتح؟.
مجيبا قال فاتح:
- انها عبارة ترحيب بلغة الاقزام القديمة.. لغة موغلة في القدم لم يعد احد يتحدث بها الآن الا ندرة من الاقزام.
قال مجد يسأله مرة اخرى:
- وهل تجيد هذه اللغة يا فاتح؟.
هازا كتفيه قال فاتح ردا على السؤال:
- القليل منها فحسب.
ثم انه اردف ويده على مقبض البوابة:
- انتظرني هنا قليلا يامجد.
وما ان غاب داخل المنزل حتى اخذ مجد يتأمل القرية من حوله, منازلها على الارض, والاكواخ الخشبية فوق الاشجار والاطفال يصعدون اليها او يهبطون منها, النساء وقد انهمكن في ملئ الجرار بالماء من النهر, الرجال وفد انهمك بعضهم في صيد الاسماك, والبعض الآخر اخذ ينقل اخشابا مقطوعة الى بعض الاكواخ على ضفة النهر..
وعقد مجد مقارنة بين هذا المجتمع الصغير الرائع, وبين حياة الصحراء القاسية, حيث الرمال الممتدة, والحرارة المحرقة نهارا, والبرودة القارصة ليلا..
وانتزعه من تأمله صوت البوابة الخشبية وهي تنفتح, ورأى فاتح يغادر المنزل يتبعه حكيم الاقزام..
عجوز طاعن في السن, جسد نحيل, وظهر منحن, وجه بيضاوي حفر فيه الزمن اخاديد عميقة, عينان خضراوان واسعتان تشيان بحكمة بالغة..
- هذا هو حكيم قرية الاقزام يا مجد.
قالها فاتح باحترام بالغ, في حين تفحصت عينا الحكيم كل شبر من ملامح مجد, وعند عينيه توقفتا, وشعر مجد برعشة تسري في جسد وعيني الحكيم تخترقانه وتنفذان الى اعمق اعماق نفسه, واخيرا ابتسم الحكيم وهو يقول بصوت واهن النبرات:
- روح الفارس بداخلك ثائرة ومتمردة يا مجد.
ثم انه اخذ نفسا عميقا قبل ان يقول وهو ينظر لفاتح:
- انه هو حقا.
قطب مجد ولم يفهم ماعناه الحكيم الذي اردف قائلا:
- اتبعني يا مجد, فمن حقك ان تعرف وتفهم كل شيئ مادمت قد وصلت الى هنا, وفيى هذا الوقت بالذات.
تبعه مجد وفاتح الى خارج القرية حتى بلغا مكانا هادئا بين الاشجار, وعلى صخرة قريبة من النهر جلس الحكيم وقال:
- ما سأخبرك به الآن امر قديم للغاية يا مجد, لايعرفه الكثيرون من سكان هذه الارض, وقلة هي من تذكره كما حدث بالضبط.
وصمت هنيهة ثم قال:
- فالامر يعود الى زمن بعيد وموغل في القدم عندما حكم هذه الارض ملوك انحدروا من سلالة اطلق عليها الناس سلالة الملوك الاقوياء, ملوك حكموا الناس بالعدل, ودافعوا عن الارض ضد اعدائها زمنا طويلا, فازدهرت الحياة وانتعشت.. حتى جاء اليوم الذي اطلق فيه ساحر عجوز نبوءة ازعجت ملك البلاد واغضبته بشدة, نبوءة عن اقتراب نهاية زمن الملوك الاقوياء وسيادة الشر والظلام لزمن طويل قبل ان يظهر فارس من ارض صحراوية ليقود قوى الخير ضد قوى الظلام في معركة فاصلة واخيرة.
وصمت الحكيم للحظات التقط فيها انفاسه ثم قال مكملا:
- وارسل الملك فرسانه لقتل الساحر العجوز قبل ان تنتشر نبوءته ويصدقها الناس, ولكنهم لم يجدوه, بحثوا عنه طويلا دون فائدة, وتنفس الملك الصعداء عندما استهزأ الناس بالنبوءة واعتبروها محض هراء وتخريف رجل عجوز, الا نحن معشر الاقزام.
واغلق عينيه قليلا قبل ان يفتحهما ويتابع:
- فنحن لاننسى النبوءات ابدا, وتاريخ امتنا حافل بالكثير من النبوءات التي تحققت, كنا واثقين من صحة النبوءة التي اطلقها الساحر قبل ان يختفي دون اي اثر.. حتى جاء اليوم الذي ظهر فيه كاسر في بلاط الملك.
ساد الصمت قليلا, وعينا مجد وكل حواسه معلقة بشفتي الحكيم الذي قال:
- ساحر شرير, اجاد فنون السحر الاسود والاتصال بالارواح الشريرة واكثر مخلوقات عالم الظلام شرا, وفي زمن يسير تمكن من السيطرة على الملك وكل شيئ في البلاد, وماان ثبّت وجوده في البلاط حتى تخلص من الملك وابنائه ووزرائه وقادة جيشه المخلصين, واعلن نفسه ملكا على البلاد, ليبدأ عهد الظلام الذي ذكرته النبؤة, ويعاني الناس ويلات الظلم والذل والاضطهاد, واضطررنا نحن الاقزام للهجرة من الاراضي الجنوبية الى هنا بعد ان اباد الملك كاسر الكثيرين منا, وفي هذه الغابة انشأنا هذه القرية, وعشنا جميعا على امل ان يتحقق الجزء الآخر من النبوءة بظهور ذلك الفارس.
وازدرد مجد لعابه بصعوبة, وخفق قلبه بين ضلوعه بقوة عندما نظر الحكيم الى عينيه مباشرة وقال وهو ينهض من على الصخرة:
- ولقد تحققت النبوءة اخيرا, وجاء الفارس من ارض صحراوية, جاء بعد كل هذه السنوات من الظلام الجاثم فوق الصدور ليثبت لنا معشر الاقزام ان صبر السنين لم يذهب هباءا, وفي خان آسر تحدى هذا الفارس جنود الملك كاسر وهزمهم, فأحيى الامل في نفوسنا من جديد.
وتشبث بذراع مجد وهو يقول مضيفا:
- هذا الفارس هو... انت يا مجد.
وساد بعد عبارته صمت رهيب!!..
* * * *
احتفال القمر.. وهجوم البرابرة..

لم يجد مجد مايقوله بعد تصريح حكيم الاقزام الاخير, فمالذي سيقوله ياترى؟!, لقد جاء الى هذه الارض سعيا وراء حلم وعدة مشاهد غامضة في تلك المرآة عند الحكيم همام, وهاهو الآن اصبح الفارس الذي تنتظره هذه الارض ليقود قوى الخير فيها ضد قوى الشر في معركة فاصلة!!..
انه امر لم يكن ليصدقه ابدا لو علمه وهو في الصحراء الشمالية قبل ان يغادرها..
- اعلم انه امر عسير التصديق يا مجد.
قالها حكيم الاقزام وابتسامة ترتسم على شفتيه, فنظر اليه مجد وقال محتدا:
- بل هو امر مستحيل لو شئت الدقة ايها الحكيم.
اتسعت ابتسامة الحكيم, في حين قال فاتح يسأله:
- ولماذا تراه مستحيلا يا مجد؟.
التفت اليه مجد وقال بذات اللهجة المحتدة:
- لأنه كذلك بالفعل يافاتح, فأنا لم اغادر الصحراء الشمالية لأصبح فارسا ينتظر ظهوره, وتعقد عليه الآمال والاحلام, لا.. ليس انا.
اقترب منه فاتح وقال يسأله مرة اخرى:
- الاتؤمن بالنبوءات يا مجد؟.
تطلع اليه مجد قليلا قبل ان يقول ردا على سؤاله:
- اجل يا فاتح, انا لااؤمن بالنبوءات والاساطير البتة, واراها محض هراء واوهام لااساس لها من الصحة.
هازا كتفيه قال فاتح:
- لو اردت اذكر لك عشرات النبوءات التي تحققت يا مجد, فتاريخ الاقزام يحفل بها و..
قال مجد يقاطعه بلهجة حازمة:
- حتى لو ذكرت لي آلاف النبوءات التي تحققت يا فاتح, فلن يغير هذا من الامر شيئا.
ساد الصمت بعد عبارته للحظات, صمت ثقيل..ولأقصى حد.. و
- قل لي يا مجد.. لماذا غادرت الصحراء الشمالية؟.
شعر مجد برجفة تسري في اوصاله عندما القى الحكيم هذا السؤال وابتسامة امتزج فيها الغموض بالثقة تلوح على شفتيه, وتجهمت ملامحه عندما قال مردفا:
- من المؤكد انك لم تغادرها هاربا او مطرودا, ففارس مثلك من المستحيل الا يكون بطلا في قومه.
قال مجد يسأله:
- ومالذي تعرفه عن فروسيتي ايها الحكيم؟!.
اتسعت ابتسامة الحكيم وهو يقول مجيبا:
- لقد اخبرتك ان روح الفارس بداخلك ثائرة ومتمردة, فنحن معشر الاقزام نستطيع تمييز الفارس الحق من روحه يا مجد, انه واحد من اسرار الاقزام التي لانهاية لها.
ثم انه اشار بسبابته في الهواء وقال وابتسامته تواصل اتساعها:
- ولاتنس تحديك لجنود الملك كاسر في خان العجوز آسر, فلا احد في هذه الارض يجرؤ على امر كهذا.. الا لو كان فارسا حقا يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال:
- والآن.. الن تخبرني عن السبب الذي دفعك لمغادرة الصحراء الشمالية؟.
بدا التوتر الشديد على وجه مجد..
وشعر بعيني الحكيم تخترقانه كسهمين حادين..
تخترقانه وتحثانه على البوح بكل شيئ.. بلا استثناء..
ومن صدره انطلق تنهيدة حارة قبل ان يقول:
- حسنا ايها الحكيم.. سأخبرك بكل شيئ.
وبكل اهتمام انصت الحكيم وفاتح الى رواية مجد عن مغادرته للصحراء الشمالية..
وماان انتهى من روايته حتى قال الحكيم وعيناه تتألقان:
- الم اقل لك يا مجد؟.. انت الفارس الذي ذكرته النبوءة, وكلي ثقة بأن قدومك هو بداية الحرب التي ستحرر هذه الارض من الظلام الجاثم فوقها منذ سنوات طويلة.
عاد الصمت يسود بعد عبارته مرة اخرى, صمت شعر خلاله مجد بتيار متدافع من المشاعر يثور في صدره, يحاول السيطرة عليها, فتبوء محاولته بالفشل..
- ولكن لتنس هذا الامر مؤقتا يا مجد.
قالها الحكيم, فنظر اليه مجد بتساؤل ليقول موضحا:
- قريتنا الليلة تستعد لإحتفال القمر, انه واحد من اهم احتفالات الاقزام, ونحن نتفاءل به كثيرا.
ثم انه نظر الى فاتح وقال:
- خذ مجد الى كوخ الصياد القديم يا فاتح لينال قسطا من الراحة قبل بدء الاحتفال.
هز فاتح رأسه ايجابا وقال بحماس:
- حسنا يا سيدي الحكيم.
وارتسمت على شفتي الحكيم ابتسامة عندما لمح التساؤل في عيني مجد, فقال:
- انه كوخ قديم, عاش فيه صياد عجوز قبل ان يموت ويتركه مهجورا.. انه قريب من هنا.
ولم يدر مجد وهو يسير وراء فاتح عبر الدغل بأن احتفال القمر الذي سيقيمه الاقزام الليلة يخبئ له مواجهة لم يكن يتوقعها ابدا!.
* * * *
مع غروب الشمس مخلفة وراءها في السماء شفقا احمر,معلنة حلول المساء, بدت قرية الاقزام في قلب الدغل مختلفة عما رآها مجد في ضوء الشمس, فالقرية بدت اكثر جمالا وتألقا مع الزينات الملونة التي قام الاقزام بتعليقها على جذوع الاشجار واضاءوا المشاعل بجوارها, وعلى سطح مياه النهر نثر بعض الرجال مسحوقا ابيض اللون, وتقدم من الماء قزم عجوز وهو يتوكأ على عصا خشبية, تعلقت انظار الاقزام جميعا به وهو يسبل جفنيه ويردد بضع كلمات بلغة الاقزام القديمة..
- سيفعلها ككل مرة, اليس كذلك يا عزيزي؟!.
- بلى يا حبيبتي!.
- انه مشهد رائع, ومهما تكرر امامي فأنا لا امله ابدا!.
- ان الساحر ايليا رجل بارع بحق!.
ومرت لحظات من الصمت بعد ان انتهى الساحر ايليا من ترديد الكلمات بلغة الاقزام القديمة, لحظات بدت فيها اللهفة والترقب على وجوه الجميع بلا استثناء, وقطب مجد وقال يسأل فاتح الواقف بجواره:
- مالذي يحدث يا فاتح؟!, ومالذي سيفعله هذا العجوز؟!.
مبتسما قال فاتح يرد على سؤاله:
- انتظر وسترى بنفسك يا مجد.
وماان انهى عبارته حتى ارتسمت الدهشة على وجه مجد, فأمام عينيه اخذت مياه النهر تتموج بسرعة كبيرة ودوامات من الالوان تظهر وتختفي في قلبها..
وفجأة ارتفعت مياه النهر عاليا, وتردد في المكان صوت دوي شديد, وفي السماء التي بدا فيها قرص القمر بدرا تفجرت موجات متتابعة من الالوان في تشكيلات مختلفة ورائعة, طيور مختلفة الاشكال بأحجام ضخمة حلقت في دوائر واسعة, واقزام بوجوه باسمة ينشدون اغان بلغة الاقزام القديمة بصوت عذب رخيم..
وانطلقت هتافات الاقزام وهم يتقافزون على الارض والاشكال الملونة تقترب من الارض وتتحرك بينهم..
وانطلقت الآلات الموسيقية بأعذب الالحان اتي رقص عليها الاقزام في سعادة وانتشاء..
وامام عيني مجد المندهشتين تكونت حلقات من الاقزام في كل مكان, فهذه حلقة للرقص على ايقاعات الموسيقى, وتلك لتناول الطعام والشراب, واخرى للغناء توسطتها قزمة عجوز ذات ملامح حنون, وصوت عذب دافئ تحلق الاطفال حولها و اعينهم تلمح بالفرحة..
ولكن اكثر ما جذب انتباه مجد وهو حلقة بدت له اكبر الحلقات مجتمعة, في منتصفها تماما, وصخرة عالية وقف قزم شاب, قسيم الملامح, على شفتيه ارتسمت ابتسامة وقال بعد ان دار بعينيه العسليتين في الوجوه المحيطة به قليلا:
- اليوم.. نحن معشر الاقزام نحتفل بليلة اكتمال القمر, والتي اعتاد اجدادنا الاحتفال بها واعتبارها جالبة للحظ الحسن على كل الاقزام, وكما عودتكم في هذه المناسبة السعيدة.. سألقي عليكم قصيدة جديدة نظمتها البارحة استعداد للاحتفال, فهل انتم مستعدون لسماعها؟.
رفع جميع المحيطين به ايديهم ولوحوا بها في حماس, وانطلق الهتاف من حناجرهم:
- مستعدون.. هات ماعندك يا قسمت.. هات ماعندك ياشاعر الاقزام.
تألقت عينا القزم قسمت, واخذ نفسا عميقا ملأ به صدره قبل ان يخرجه في زفرة قوية ويقول:


اليوم.. القمر بدر في السماء..
الكل ينتظر هذه اللية بصبر..
كلهم امل.. ويحدوهم الرجاء..
الحبيب سيبوح بحبه لمحبوبته..
تحت الضوء الفضي الساحر..
ليتضرج وجهها بحمرة الخجل..
ويكتسي.. بالحياء..

هلل الجميع لكلمات القصيدة, وابتسم قسمت وهو يلوح بيده قبل ان يواصل القاء القصيدة..
- قسمت.. عائلته منذ القدم مشهورة باحتراف الشعر, والقائه في الاحتفالات.
قالها فاتح قبل ان يلتفت لمجد ويسأله قائلا:
- مارأيك فيما تراه يا مجد؟.
ابتسم مجد وقال مجيبا:
- اكثر من رائع يا فاتح, فهذه هي المرة الاولى التي ارى فيها احتفالا كهذا.
قال فاتح يسأله مبتسما:
- اليست لديكم اي احتفالات في الصحراء الشمالية يا مجد؟.
هازا كتفيه قال مجد ردا على سؤاله:
- بلى, ولكنها احتفالات يغلب عليها طابع الصحراء القاسي, بلا ترف كالذي اراه امامي الآن.
تلاشت ابتسامة فاتح, ومرت سحابة من الحزن على وجهه وهو يقول:
- انت لم تر الترف الحقيقي الذي كان يصاحب احتفالات الاقزام في الماضي قبل سيادة الظلام, فبلاط مملكة الاقزام شهد من الاحتفالات ما فاق هذا بكثير.. احتفالات من الصعب ان تصفها مالم تراها.
قال مجد يسأله متعجبا:
- أكانت للاقزام مملكة يافاتح؟!.
أومأ فاتح برأسه ايجابا وقال مجيبا:
- اجل يا مجد, كانت لنا مملكة في الاراضي الجنوبية, عاش فيها الاقزام آمنين مطمئنين الى ان فرسان الملوك الاقوياء يتولون الدفاع عنهم وحماية اراضيهم, وربما كان هذا هو الخطأ الرهيب الذي ارتكبوه.
وصمت للحظة ازدرد فيها ريقه ثم قال مكملا:
- لقد اعتمد الاقزام على غيرهم في الدفاع عنهم, ولهذا لم تصمد ممكلتهم امام جيوش الملك كاسر التي ابادت المئات, فجاء القرار الحاسم بالهجرة الى هنا, وحكيم قريتنا هو آخر من بقي حيا من حكماء المملكة يا مجد.
وعاد يصمت للحظة اخرى قبل ان يقول:
- ولسنوات عملنا على تدريب انفسنا على القتال, على الاقل حتى نكون قادرين على الدفاع عن هذه القرية.
قال مجد يسأله:
- ولكن.. الا يوجد من يقاوم الملك كاسر في هذه الارض يا فاتح؟.
مجيبا قال فاتح:
- بعد ان استولى الملك كاسر على عرش البلاد, ونجاحه في القضاء على الكثير من رجالها الاوفياء, نجح بعض الفرسان الشرفاء في الفرار الى الجبال الخضراء حيث كونوا مع الوقت فرقا للمقاومة قامت بتوجيه ضربات قوية الى قوات الملك على فترات متباعدة, ولازالت هذه الفرق توجه هذه الضربات بين الحين والآخر.
وهز رأسه يمنة ويسرة وقال مردفا:
- ولكنهم بحاجة الى قائد يقودهم ويجمع شملهم, ويقودهم في المعركة الفاصلة ضد الملك كاسر, فيحرر هذه الارض من ربقة الظلام.
سرى التوتر في كل شبر من جسد مجد عندما نظر فاتح الى عينيه مباشرة وقال:
- وقد اتى الينا هذا القائد بنفسه تحقيقا للنبوءة القديمة, ومن الضروري ان يأخذ مكانه الطبيعي بيننا.
هم مجد بقول شيئ ما, ولكن واحدا من الاقزام اقترب منهما بسرعة والتوتر محفور في ملامحه..
كان يرتدي زيا قتاليا, وعلى كتفه الايمن تدلى قوس, وعلى ظهره كنانة امتلأت بالسهام, ومن حزام زيه تدلى سيف قصير..
ماذا هناك يا عتيق؟.
قالها فاتح ليقول عتيق بصوت لاهث:
- انهم في الدغل يا فاتح.. البرابرة يقتربون من هنا.
قطب فاتح وهو يقول:
- البرابرة؟!.. هل انت واثق من هذا يا عتيق؟.
أومأ عتيق برأسه ايجابا, فقال فاتح بلهجة آمرة:
- اجمع الرجال اذن وانتظروني عند مدخل القرية.
قال عتيق:
- حسنا يا فاتح.
قالها وانطلق يعدو مبتعدا, في حين قال فاتح وهو ينظر لمجد:
- ابتعني يا مجد, فلا ان نستعد.
قال مجد يسأله:
- الاستعداد لماذا يا فاتح؟!.
تألقت عينا فاتح وهو يقول ردا على سؤاله:
- نستعد لتلقين هؤلاء البرابرة درسا قاسيا بالطبع.
* * * *
- ولكن من هؤلاء البرابرة يا فاتح؟.
قالها مجد وهو ينظر الى فاتح الذي ارتدى زيا قتاليا كالذي يرتديه عتيق, فقال هذا الاخير مجيبا وهو يثبت كنانة السهام على ظهره:
- البرابرة.. قبائل من الهمج يا مجد, لايستقرون في مكان واحد, عاشوا قديما على السلب والنهب وسفك دماء الابرياء, ولكن عندما تسلمت سلالة الملوك الاقوياء مقاليد الحكم, نجح ملوكها في اجبارهم على الفرار الى شعاب الجبال بعد معارك ضارية لعدة سنوات.
واخذ نفسا عميقا قبل ان يقول مكملا:
- وعندما استولى الملك كاسر على الحكم عادوا الى سابق عهدهم من السلب والنهب والاغارة على القرى الصغيرة واشاعة الرعب بين سكانها دون ان يقف احد في طريقهم, ولقد واجناهم هنا في الدغل اكثر من مرة.
قال مجد يسأله:
- ولماذا لا تتولى فرق المقاومة امرهم يا فاتح؟.
هز فاتح كتفيه وقال ردا على السؤال:
- اذا فعلوا سيقعوا عنئذ في الفخ الذي ينصبه لهم الملك كاسر بصبر, ان يستهلكوا رجالهم في معارك لن يستفيدوا منها شيئا اللهم الا مزيدا من الضعف.
هز مجد رأسه في تفهم, ومرت لحظات من الصمت قبل ان تمتد يد مجد الى مقبض سيفه ويقول مبتسما:
- من الجيد ان يبث المرء بعض النشاط الى جسده بين الحين والآخر.
ضحك فاتح قبل ان يقول وعيناه تتألقان:
- هيا بنا اذن.
وعند مدخل القرية كان في انتظارهما اكثر من خمسين قزما بأزيائهم القتالية على رأسهم عتيق الذي اقترب من فاتح وقال بلهجة حازمة:
- نحن مستعدون لتلقين البرابرة درسا قاسيا لا ينسوه يا فاتح.
ربت فاتح على كتفه وقال:
- بالتأكيد سنفعل يا عتيق.
ولم يمض الكثير على عبارته قبل ان ينتشر الاقزام بين الشجيرات المتشابكة في الدغل, ومن مكانه انحنى فاتح على الارض, وقطب وهو يقول:
- عجبا!!, آثار اقدامهم تنتهي هنا!!.
ورفع عينيه الى عتيق وقال يسأله:
- هل انت واثق بأن البرابرة اقتحموا الدغل يا عتيق؟!.
هز عتيق رأسه ايجابا وقال بتوتر:
- اجل يا فاتح, فرجالي على حدود الدغل رصدوا اقتحامهم و..
قال فاتح يقاطعه بحدة:
- اين ذهبوا اذن يا عتيق؟!, تلاشوا في الهواء؟!, ام يا ترى انشقت الارض وابتلعتهم؟!.
قال عتيق بحيرة وهو يهز رأسه:
- لا أدري يا فاتح.. ربما انسحبوا.
اما مجد فأخذ يتلفت حوله بحثا عن اي شيئ قد يدله على وجود البرابرة في مكان ما حوله, وحانت منه التفاتة الى قمم الاشجار, فالتقى حاجباه بشدة, ومرت لحظات وهو مستمر في تحديقه في القمم قبل ان يقول:
- لم ينسحبوا.. ولكنهم هناك.
واشار بسبابته الى اعلى, فرفع الاثنان رأسيهما والدهشة مرتسمة عليهما, وقال فاتح متسائلا:
- مالذي تقصده يا مجد؟!.
وقبل ان يجيبه مجد هبط الهجوم من فوق قمم الاشجار على رؤوسهم..
عشرات الحبال الغليظة تدلت وقد تعلق بها البرابرة..
ومن حناجرهم انطلقت صيحات قتالية شرسة وسيوفهم تدور في الهواء بحركات سريعة..
فاستل مجد سيفه وامسكه بكلتا يديه, في حين تناول فاتح سهما من كنانته وثبته في قوسه قبل ان يطلقه على اقرب البرابرة اليه, فكانت اشارة لبقية الاقزام الذين اطلقوا سهامهم كالمطر على الاجساد التي توالى هبوطها من فوق قمم الاشجار..
وبكل شجاعة وبسالة غادر مجد يتبعه فاتح مكانه بين الشجيرات وهو يطلق صيحة قتالية اهتز لها البرابرة..
واتسعت عيون الكثيرين منهم في دهشة..
فلم يدر بأذهانهم انهم قد يواجهون احدا غير الاقزام في الدغل!!..
ورفع مجد سيفه عاليا وهوى به على اقرب البرابرة اليه..
وطار رأس الرجل, ومن مكان الرأس المقطوع انبثقت نافورة من الدم قبل ان يسقط الجسد على الارض..
وتجاوز البرابرة دهشتهم سريعا..
وانقضوا بسيوفهم على مجد..
والتقت السيوف بصليل عنيف تردد صداه..
وادرك مجد ان خصومه يستحقون ان يكونوا برابرة.. همج, فسيوفهم تضرب على نحو عشوائي شرس بلا اي نظام..
واستغل مجد هذا لصالحه..
فهاهو يغمد سيفه في صدر احدهم, ويسحبه ليقفز برشاقة وهو يصد سيف آخر..
ثم يدور حول نفسه بسرعة ليضرب عنقين مع دورته السريعة تلك..
وانطلقت سهام الاقزام تؤازره..
واما فاتح فقد اخذ يتحرك بخفة بين اقدام البرابرة دون ان تقع ايديهم عليه..
يدور بسرعة ثم يغمد سيفه حتى مقبضه في بطن بربري..
يتدحرج على الارض ليتفادى ضربة سيف قوية.. يعتدل بسرعة ويضرب بسيفه وجه احد مهماجميه..
وقفز مجد يتعلق بواحد من الحبال التي هبط بها البرابرة الى الارض..
وفي جذع الشجرة دفع قدمه ليرتفع جسده في الهواء قبل ان يهبط على قدميه بين مجموعة من البرابرة..
يقاتل بكل قوته..
يضرب.. ويصد..
يقفز يمنة ويسرة..
يتفادى سيفا يهوي على رأسه بانحاءة سريعة..
يعتدل وهو يدفع سيفه في صدر مهماجمه..
يرفع قدمه ليركل بها بربريا في بطنه..
يستند براحته على ظهر البربري الذي انحنى الما..
يقفز في الهواء ليهوي على رأس آخر فيشجها نصفين..
واستمرت سهام الاقزام تهوي كالمطر, فتخترق الاجساد..
وفاتح ومجد يقاتلان بكل قوة.. وبسالة.. وبلارحمة او هوادة..
وادرك البرابرة انهم مهزمون لا محالة..
وانه من العبث الاستمرار في القتال..
فانطلقت صيحاتهم تدعو للانسحاب..
ومع انسحابهم اعاد مجد سيفه الى غمده..
كان صدره يعلو ويهبط مع تلاحق انفاسه.. والدماء تلوث وجهه وثيابه..
- مرحى يا مجد, لقد قاتلت على نحو يثير الدهشة والاعجاب!.
قالها فاتح وهو يقترب من مجد والدماء تلوث نصل سيفه القصير..
ثم انه ابتسم وهو يقول مردفا:
- ولكن كيف عرفت ان البرابرة يختبئون فوق قمم الاشجار؟!, انها المرة الاولى التي يبدون فيها ذكاءا في الهجوم علينا!.
مبتسما قال مجد وقد انتظمت انفاسه:
- الحياة في بيئة شديدة القسوة كالصحراء تساعد المرء على اكتساب العديد من المهارات يا فاتح.
وصمت لحظة قبل ان يردف قائلا:
- وعلى رأس هذه المهارت قوة الملاحظة, فعندما نظرت الى قمم الاشجار راودني الشك بأنها تخفي بين الاغصان المتشابكة اجسادا تصدر حركة لا يمكن ان تلحظها العين العادية, ولكنها بالتأكيد لن تمر على فارس قادم من الصحراء.
ضحك فاتح وقال وهو يرفع سيفه عاليا:
- يحيا مجد.. فارس الصحراء.
استل الاقزام سيوفهم ورفعوها وهم يهتفون في نفس واحد:
- يحيا.. يحيا.
* * * *
حلم.. وامرأة ذات رداء زمردي..

اضافة الى احتفالهم بليلة اكتمال القمر احتفل الاقزام كذلك بالنصر الذي حققه المقاتلين على البرابرة في قلب الدغل, والتف الاقزام حول المقاتلين في حلقات وامطروهم بالاسئلة واللهفة بادية في العيون الواسعة..
- هل لقنتم البرابرة درسا قاسيا؟!.
- اجل.. لقد كبدناهم خسائر فادحة هذه المرة, وسيفكرون كثيرا قبل ان يجرؤا على تنظيم هجوم آخر.
- وماذا عن الفارس القادم من الصحراء الشمالية؟!.. هل قاتل معكم حقا؟!.
- آه.. لم ار في حياتي من هو في شجاعته واقدامه, لقد بدا لي وكأنه قادر على هزيمة البرابرة وحده دون اي مساعدة منا!!.
- ليس هذا وحسب يا زهير, فهو الذي كشف مخبأ البرابرة فوق قمم الاشجار العالية!!.
- الجميع يتحدثون عنك بانبهار يا مجد.
قالها فاتح وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه, فقطب مجد دون ان يعلق على عبارته..
فهو لايحب ان يتحدث عنه الآخرين بكل هذا الانبهار..
لايريد ان يصف احد مهارته وبسالته في القتال بأنها تفوق الآخرين..
فهو برغم شجاعته وفروسيته الواضحة..
يعرف حق المعرفة بأن ضربة سيف او طعنة رمح قادرة على انهاء كل هذه الشجاعة والفروسية في لحظات..
و..
- مجد.. اراك تبدو شاردا.
قالها فاتح وهو يعقد ذراعيه امام صدره, فتطلع اليه مجد قليلا ثم قال ملوحا بكفه:
- لا عليك يا فاتح, فأنا بخير.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- سأذهب الآن لأخذ قسط من الراحة.. اراك لاحقا.
قال فاتح مندهشا:
- هل ستنام وتترك الاحتفال في اوجه يا مجد؟!.
مبتسما قال مجد:
- هكذا انا يا فاتح.. لا اجد في نفسي ميلا للاحتفالات.
قال فاتح يسأله والدهشة لازالت مرتسمة على وجهه:
- حتى وانت الآن نجم هذا الاحتفال يا مجد؟!!.
قال مجد يجيبه وقد اتسعت ابتسامته:
- لهذا السبب بالذات افضل الابتعاد عن الاحتفالات يا فاتح.
قالها واتخذ طريقه في الدغل نحو كوخ الصياد القديم..
وما ان القى بجسده على الحشية البسيطة على الارض المتربة للكوخ حتى شعر بالنوم يتسلل الى جفينه بسرعة..
وحاول مجد ان يقاومه لبعض الوقت, ولكنه هزمه في النهاية..
وفي قلب غابة- لفها الضباب من كل جانب- ذات اشجار عارية من الاوراق وجد نفسه واقفا..
فامتدت يده غريزيا الى مقبض سيفه, ولكنه شعر بتوتر شديد عندما اكتشف عدم وجوده..
اخذ يتلفت يمنة ويسرة عله يجد من يدله على الطريق في هذا المكان الموحش..
- مالذي تفعله هنا ايها الغريب؟.
اتاه السؤال بصوت صارم الى اقصى حد, فالتفت الى مصدره ليجد عشرة رجال امامه واقفين في صف واحد وقد ارتدوا عباءات زمردية واسعة لها اغطية رأس كبيرة اخفت ملامحهم تماما, وقد امسك الواحد منهم برمح طويل له نصل ذهبي في نهايته..
وانفرجت شفتا مجد ليقول شيئا ما, ولكن صاحب السؤال الصارم قال مرة اخرى:
- لقد اقتحمت ارضنا دون رغبة منا ايها الغريب, وجزاء هذا هو الموت بلا رحمة.
وما ان انهى عبارته حتى رفع الرجال رماحهم نحو مجد الذي تراجع للوراء بضع خطوات وقد انعقد حاجباه..
- توقفوا.. فهو لايستحق الموت هكذا.
انطلقت العبارة بصوت انثوي حازم, ومن خلف شجرة خرجت صاحبته, واتسعت عينا مجد عندما رآها..
امرأة ممشوقة القوام, ترتدي ثوبا زمرديا ازدان بماسات متألقة, شعرها كستنائي طويل يلامس الارض خلفها, ملامحها بدت فاتنة, بعينيها الواسعتين بلون الزمرد, ورموشها السوداء الطويلة, وشفتيها المكتنزتين قليلا, مع لمحة من الوقار والمهابة على هذه الملامح..
- انا اعرف سبب مجيئك الى هنا يا مجد.
قالتها المرأة ذات الرداء الزمردي وابتسامة تلوح على شفتيها..
وهم مجد بإخبارها بأنه لا يعرف هذا السبب, لكنها قالت مستدركة:
- ولكن دعني اسألك اولا.. هل انت قادر على بلوغ هدفك وحيدا دون صحبة.. او سلاح؟.
لم يجد مجد ما يرد به على سؤالها, فاتسعت ابتسامتها وهي تقول مردفة:
- لا تقلق يا مجد.. فسأمنحك الصحبة.. والسلاح.
قالتها ورفعت يدها الممسكة بعصا قصيرة تألقت مقدمتها بضوء زمردي اخذت تزداد قوته حتى تحول الى ضوء مبهر اجبر مجد على اغلاق عينيه, وان اتاه صوتها وكأنه آت من اغوار سحيقة:
- الصحبة.. والسلاح يا مجد.. طريقك طويل.. ومحفوف بالكثير من الاخطار القاتلة.
و..
وفتح مجد عينيه ,وخيل اليه انه لازال واقفا في تلك الغابة الضبابية, وان المرأة ذات الرداء الزمردي واقفة امامه والضوء الزمردي المبهر ينبعث من عصاها القصيرة, فأغلق عينيه وفتحهما عدة مرات حتى طالعه ظلام الكوخ من حوله, فنهض من على الحشية, وغادر الكوخ وهو يمسح العرق عن جبينه..
السماء خالط سوادها خيوط من ضوء رمادي شاحب معلنا بداية اليوم الجديد..
ولامست وجهه نسمة عليلة لتسري في جسده رجفة خفيفة..
وتناهى الى سمعه خرير مياه النهر القريب من الكوخ..
ومن صدره انطلقت تنهيدة حارة قبل ان يقول:
- ياله من حلم عجيب.
واخذ نفسا عميقا ملأ به صدره, واخرجه في زفرة قوية وقال
- مالذي يخبئه لك القدر في هذه الارض يا مجد؟!.. مالذي يخبئه؟!.
ولكنه كان واثقا بأنه لن يجد لسؤاله اي اجابة!!.
* * * *





ملك الاقـــزام..

مع مرور الايام على وجوده في قرية الاقزام اكتشف مجد الكثير مما لايعرفه عن هذا المجتمع الصغير الذي نشأ في قلب هذا الدغل منذ سنوات طويلة, فالشاعر الشاب قسمت وجدها فرصة سانحة ليسرد تاريخ اسرته لشخص لا يعرف هذا التاريخ..
- ان عائلتي هي الاسرة الاولى والوحيدة في تاريخ الاقزام التي اتخذت من الشعر حرفة لها يا مجد, فالأمر يعود الى مئات السنين عندما عاش احد اجدادي ويدعى نامق, الذي كان فلاحا فقيرا لايملك من الدنيا سوى رقعة صغيرة من الارض يزرعها مع زوجته وابناؤه, ولقد اعتاد نامق ان يزجي وقته اثناء العمل في ارضه في نظم القصائد لينشدها مع اسرته, وصدف ذات يوم ان مر بأرضه الوزير الاول لملك الاقزام في ذلك الحين مع افراد من الحاشية الملكية, وماان سمع الوزير نامق وهو ينشد قصائده حتى خلبت لبه ونالت اعجابه الى اقصى درجة يمكنك تخيلها, فأمر رجاله بأخذ نامق الى القصر الملكي, فارتعد المسكين وكاد يفقد وعيه فرقا من لقاء ملك الاقزام شخصيا, وفي حضرة الملك امر الوزير نامق ان يسمع الملك شيئا مما نظمه, وماان فعل نامق ما امره به الوزير حتى انبهر به الملك, وامر بإعداد جناح خاص بالقصر ليعيش فيه نامق مع اسرته, وبهذا تحول نامق من فلاح فقير الى شاعر الملك الخاص, وتوارثت الاجيال التالية من العائلة هذه الحرفة حتى يومنا هذا.
وتعرف مجد ايضا على الساحر العجوز ايليا الذي قال له مرة وهو جالس معه عند ضفة النهر:
- منذ سنوات طويلة, عندما اسبغ الملوك الاقوياء حمايتهم على مملكة الاقزام, كان والدي هو ساحر القصر الملكي الاول ابان عهد الملك ايلام آخر ملوك الاقزام, ولقد حرص والدي على تلقيني اصول السحر وخفايا الخدع والحيل السحرية المختلفة, ولأني تعلقت بالسحر منذ نعومة اظافري, فقد تعلمت بسرعة ادهشت والدي, حتى انه سمح لي مشاركته بعض الحيل السحرية البسيطة اثناء الاحتفالات الملكية, او في الترفيه عن الملكة والاميرات والامراء, وبعد موت والدي اصدر الملك ايلام مرسوما ملكيا بتعيني في منصب الساحر الاول للقصر.
وتنهد بحسرة قبل ان يقول مردفا:
- ولكن بعد مرور سنوات قليلة على اصدار هذا المرسوم الملكي, فوجئنا بكاسر يقتل آخر الملوك الاقوياء ويستولي على عرشه, وانقضت جيوشه على مملكتنا تمزقها شر ممزق.
ورفع عينيه الرماديتين لمجد وهو يسأله قائلا:
- هل تظن ان الايام الماضية قد تعود من جديد يا مجد؟.
حاول مجد ان يبتسم وقال متعاطفا مع الساحر العجوز:
- كل شيئ ممكن يا ايليا.. كل شيئ.
واما العجوز سلمى, بوجهها ذو الملامح الوادعة الذي غزته التجاعيد, والنظرة الحانية المطلة من عينيها, وصوتها الدافئ العذب الباعث على الراحة والاطمئنان, هي اكثر من استحوذ على اعجاب مجد..
مع شروق الشمس كل يوم تجمع اطفال القرية حولها عند النهر, تدور بعينيها الحانيتين في الوجوه الناطقة بالبراءة امامها قبل ان ترتسم ابتسامة واسعة على شفتيها وتقول:
- اليوم يا احبائي الصغار.. سأحكي لكم حكاية جديدة من حكايات شعب الاقزام.. حكايات رسمت ملامح هذا الشعب العريق.. حكايات سجلت في صفحات مشرقة لن يخبو القها ابدا.
فترتفع الاصوات من حولها تقول بحماس:
- خبرينا يا جدة سلمى.. خبرينا بسرعة.
واما عن احتفالات الاقزام فحدث ولا حرج!!.
فالاقزام- كما عرف مجد - قوم يحبون حياة المرح والاحتفالات تماما كأجدادهم, ويجعلون لكل مناسبة في حياتهم احتفالا..
فليلة اكتمال القمر يقيمون لها احتفالا..
ويوم جمع ثمار التوت البري من الدغل يقيمون له احتفالا صاخبا يطلقون عليه اسم " احتفال التوت"..
ولإحياء ذكرى ملوكهم القدامى فهم يقيمون اكبر واهم احتفالاتهم قاطبة..
انه احتفال " ذكرى الملوك"..
وغيرها من الاحتفالات التي يصاحبها في العادة مظاهر البهجة من رقص وغناء, وموائد حافلة بأطايب الطعام, والذ انواع الشراب الذي يحضره الاقزام من مزج الاعشاب العطرية- التي تنمو على حافة النهر- معا, اضافة الى القصائد التي ينظمها قسمت خصيصا لهذه الاحتفالات..
وعلى الرغم من ان مجد قد احب هذا المكان الرائع كثيرا, وشعر بالألفة لوجوده بين الاقزام, الا انه في الوقت ذاته يضيق بجلوسه هكذا في دعة واسترخاء..
فصحيح ان لم يتكيف بعد مع تلك النبوءة التي جعلت منه الفارس الذي عقدت عليه اللآمال في انقاذ هذه الارض من الظلم والطغيان والاستبداد..
الا ان الدعة والاسترخاء على هذا النحو لم يكونا ابدا جزءا من حياته..
فلقد نشأ في بيئة شديدة القسوة, لاتعرف استقرارا او حياة هادئة كالتي يحياها الاقزام هنا..
فلقد قضى سنوات كثيرة من عمره في الصحراء الشمالية في معارك مستمرة دون توقف.. وبلا انقطاع..
معارك لم يؤمن ابدا بحتميتها, وبجدوى أنهار الدم التي تراق فيها, ولكنها الحياة التي اعتادها.. والفها, ولم يعرف لها بديلا..
ومع كل هذه الافكار التي تزاحمت في ذهنه وجد مجد نفسه يتسآءل..
الى متى ستظل الامور على هدوئها واستقرارها؟!..
الى متى؟!!.
* * * *
- لقد تحدث معي حكيم الاقزام في امر مهم صباح اليوم يا مجد.
قالها فاتح وهو جالس مع مجد بجوار الجسر الخشبي الذي اقامه الاقزام فوق النهر..
فقال مجد وعيناه معلقتان بمياه النهر التي انعكست عليها اشعة شمس الغروب اللطيفة:
- استطيع ان اخمن ما تحدثتما بشأنه يا فاتح.
ارتسمت ابتسامة مرتبكة على شفتي فاتح وهو يقول ملوحا بكفه:
- كلا يا مجد, فما اخبرني به حكيم الاقزام كان بعيدا كل البعد عن اكثر خيالاتي جموحا.
نظر اليه مجد وقال وهو يزوي ما بين حاجبيه:
- لا تبدو على ما يرام يا فاتح,فمالامر يا ترى؟!.
تطلع اليه فاتح قليلا قبل ان تنطلق من صدره تنهيدة حملها كل ما يجيش به صدره من انفعالات, وازدرد ريقه ثم قال:
- حسن يا مجد.. سأخبرك بكل شيئ.
* * * *
- اجلس يا فاتح.
قالها حكيم الاقزام- بلهجة لمس فيها فاتح قدرا من الاحترام والتبجيل- وهو جالس على حشية بسيطة في منزله, فجلس فاتح على حشية مجاورة له, وهو يتسآءل في نفسه عن سبب هذه اللهجة التي يخاطبه بها الحكيم لأول مرة في حياته..
- لقد اردت ان اتحدث معك في امر على قدر كبير من الاهمية يا ولدي.
قالها الحكيم وهو ينظر الى الارض, فقال فاتح بلهجة اودعها حذرا لم يعرف له اي مبرر:
- كلي آذان مصغية يا سيدي.
هز الحكيم رأسه قبل ان يتناول لفافة جلدية ويضعها بإجلال امام فاتح ويقول:
- افتحها يا فاتح.
تردد فاتح قليلا, ولكن نظرة مشجعة من عينين الحكيم الخضراوين جعلته يلقي تردده وراء ظهره ويمد يده ليفض اللفافة الجلدية..
وندت عنه شهقة قوية وبريق ذهبي أخاذ ينعكس على زجاج عينيه الزرقاوين, فأمامه في اللفافة استقر تاج مستدير من الذهب الخالص مرصع بأحجار كريمة تناغمت الوانها في اتساق بديع مع البريق الذهبي للتاج, وفي مقدمة التاج بدا شعار لزهرة سداسية البتلات ذات لون ازرق شديد الصفاء..
وبجوار التاج الذهبي استقر صولجان من الفضة محلى بشرائط حلزونية من معدن ازرق براق, وفي قمته ذات الزهرة سداسية البتلات..
- م.. ما هذه الاشياء يا سيدي؟!!.
قالها فاتح ويده تتحسس التاج والصولجان, فأخذ الحكيم نفسا عميقا قبل ان يقول:
- هذا هو تاج الملك ايلام- آخر ملوك الاقزام- يا فاتح, وهذا الصولجان هو صولجان حكمه الذي اهداه اليه آخر الملوك الاقوياء.. هذه هي آخر الودائع الملكية المقدسة لشعب الاقزام.
ارتفع حاجبا فاتح وهو يقول مأخوذا:
- آخر الودائع الملكية؟!!, ولكن كيف ظلت سليمة بعد ان قتل الملك ايلام ومعه افراد الاسرة الملكية جميعا؟!!, بل كيف وصلت اليك يا سيدي؟!!.
مجيبا قال حكيم الاقزام:
- ان لهذا قصة لابد ان ارويها لك يا فاتح, ولكن قبل ان افعل لابد ان اكشف لك عن السر الذي احتفظت به لسنوات طويلة.
متسائلا قال فاتح:
- اي سر هذا يا سيدي؟!!.
نظر الحكيم الى عينيه مباشرة وقال ردا على سؤاله:
- انه سر يتعلق بحقيقة نسبك يا فاتح.
اتسعت عينا فاتح وهو يقول مذهولا:
- حقيقة نسبي؟!!.. مالذي تقصده يا سيدي؟!.. الست ابن الحطاب جليل؟!!.
هازا رأسه ايجابا قال الحكيم:
- بلى يا فاتح, ولكن والدك جليل لم يكن مجرد حطاب, بل هو ارفع شأنا من هذا, وانت كذلك يا فاتح.
قال فاتح متسائلا دون ان يتزحزح ذهوله قيد انملة:
- وانا ماذا يا سيدي؟!!.
مجيبا قال الحكيم:
- انت الوريث الشرعي والوحيد لعرش الملك ايلام, وآخر من بقي على قيد الحياة من الاسرة الملكية يا فاتح.
تدلى فك فاتح السفلي, وانحفر الذهول اكثر واكثر في ملامحه دون ان يقوى على النطق بحرف واحد!!!!..
فتنهد الحكيم قبل ان يقول:
- ان جدك هو الامير خان شقيق الملك ايلام الوحيد, وعندما قتل آخر الملوك الاقوياء وانهزمت جيوشه في واحدة من اكثر المعارك شراسة, وانقضت جيوش الملك كاسر على مملكة الاقزام كان والدك الامير جليل لايزال رضيعا, وبأعجوبة نجح جدك في الفرار من القصر الملكي ومعه والدك بعد ان نجح في انقاذ التاج والصولجان.. في ذلك الوقت كنت بعيدا عن القصر الملكي, وما ان بلغتني انباء المذبحة الرهيبة التي وقعت بالاسرة الملكية حتى هرعت الى منزلي لأنقد ما استطيع انقاذه من كتب ومخطوطات ذات اهمية بالغة, ففوجئت بوجود جدك ووالدك هناك, وما هي الا سويعات حتى مات جدك متأثرا بجرح بالغ اصيب به اثناء فراره من القصر الملكي, ولكنه اعطاني التاج والصولجان قبل ان يلفظ انفاسه الاخيرة بين ذراعي.
وصمت الحكيم للحظات قبل ان يقول مكملا:
- وبعد ان قمت بدفن جدك, اخذت والدك الرضيع مع كل من استطعت من شعبنا الممزق لنبدأ مسيرة الخروج من الاراضي الجنوبية, مررنا بظروف شديدة القسوة لا يمكن ان يتخيلها بشر, ومات منا المئات من النساء والرجال والاطفال.. ولكنا بلغنا اخيرا هذا الدغل وبدأنا نقيم فيه مجتمعا جديدا نداوي فيه جراحنا النازفة, وفي هذه القرية نشأ والدك الامير جليل ليصبح حطابا دون ان يعرف من حقيقة نسبه شيئا, التقى بأمك وربط الحب بين قلبيهما لينتهي بالزواج, وفي ليلة زفافهما اخبرت والدك بالحقيقة, وسلمته التاج والصولجان اللذان تركهما جدك معي قبل موته, وقام والدك بإخفاء التاج والصولجان في مكان امين حتى لا يصل اليه احد ابدا, ومرت سنوات عاش فيها والداك في سعادة لا يعكر صفوها شيئ حتى ولدت انت يا فاتح, فكانت سعادتهما بالغة.. ولكن القدر لم يمهل امك, فماتت بعد ايام قليلة من ولادتك اثر حمى شديدة لم يحتملها جسدها الضعيف.
وازدرد ريقه ثم قال:
- وبعد اشهر من موتها أتاني والدك يحمل التاج والصولجان, وطلب مني ان اعتني بك لأنه قرر ان يغادر القرية, وعندما سألته عن الوجهة التي سيقصدها لم يجبني.. ورحل والدك لتنقطع اخباره منذ ذلك الحين.
وصمت الحكيم للحظات اخرى قبل ان يقول:
- ولقد انتظرت سنوات حتى يحين الوقت المناسب لأخبرك بالحقيقة كما فعلت مع والدك.. ولم اجد انسب من هذا الوقت ونحن نستعد لبدء حرب التحرير ضد الملك كاسر يا فاتح.
* * * *
تتــــويج..

قال مجد مندهشا مما سمعه:
- ملك الاقزام؟!.. انت يا فاتح؟!.
ازدرد فاتح ريقه بصوت مسموع قبل ان يقول:
- اجل يا مجد, امر يفوق كل تصور, وحقيقة اخفيت عني لسنوات كما حدث مع ابي الذي غادر القرية ولم يعد.
هز مجد رأسه بقوة وقال:
- حقيقة اخفيت عنك في طيات القدر وانكشفت لك اخيرا.. تماما كما هي تلك النبوءة والحقيقة التي حملتها لي.
حاول فاتح ان يبتسم وهو يقول:
- هذا صحيح يا مجد.
وصمت لحظة ثم قال مردفا:
- لقد اخبرني حكيم الاقزام بأن تتويجي سيتم الليلة على مرأى ومسمع من جميع الاقزام بالقرية, فهو يروم بث الحماسة في النفوس, واعادة احياء الامل الذي مات في القلوب, وظهور وريث شرعي لعرش مملكة الاقزام سيقوم بهذا خير قيام خاصة ونحن نستعد لمناهضة الملك كاسر لأول مرة في تاريخنا كشعب محب للسلام وكاره للحرب والدمار.
نظر اليه مجد ان يعلق بكلمة واحدة!..
وفي القرية انتشر الخبر سريعا, وسرى بين الاقزام كما تسري النار في الهشيم..
- ماذا؟!.. الحطاب جليل هو ابن الامير خان شقيق الملك ايلام آخر ملوك الاقزام؟!!.
- انه امر مدهش حقا!!, امير عاش بيننا زمنا ومات دون ان نعرف من حقيقة امره شيئا؟!!.
- ليس هذا وحسب, بل انه ترك بيننا قبل رحيله عن القرية ابنه فاتح!!.
- هل تعتقد ان فاتح كان يعلم هذه الحقيقة قبل اليوم؟!!.
- سؤال لن يجيب عليه الا فاتح يا اخي!!.
ومع حلول المساء تجمع الاقزام في الساحة الواسعة امام منزل حكيم الاقزام, وقد احاطت بهم المشاعل المثبتة الى جذوع الاشجار..
وانفتح باب المنزل المنقوش بعبارة الترحيب بلغة الاقزام القديمة, وخرج حكيم الاقزام يتوكأ على عصا خشبية وقد ارتدى عباءة ناصعة البياض, ومن عنقه تدلت قلادة فضية انتهت بزهرة سداسية البتلات, وحول رأسه اكليل من الفضة, ومن خلفه فاتح يخطر في عباءة فضية لامعة ذات غطاء رأس ازدان بنقوش ذهبية, وقد بدا التوتر على وجهه..
ورفع الحكيم عصاه الخشبية عاليا, وقال بصوت جهوري ليعلو على اللغط الذي ساد بخروج فاتح من المنزل:
- الصمت يا معشر الاقزام.. الصمت.
ساد الصمت اثر عبارته, ودار الحكيم بعينيه في الوجوه قبل ان يخفض عصاه ويقول:
- في هذا المكان عشتم سنوات طويلة تظنون ان مملكة الاقزام قد اختفت من الوجود بموت الملك ايلام مع افراد اسرته.. كثيرون منكم شهد تلك المذبحة الوحشية, وانا بالطبع واحد من هؤلاء.
وصمت قليلا قبل ان يقول مكملا:
- ولكن القدر كانت له تصاريف اخرى, فأعجوبة نجا الامير خان سقيق الملك ايلام مع ابنه الامير جليل من مصير بشع, نجا ومعه آخر الودائع الملكية المقدسة لممكلة الاقزام منذ اسسها الملك الاكبر سارم منذ آلاف السنين.
واشار بعصاه نحو فاتح وقال:
- واليوم.. سنحتفل بإحياء ايام الملوك التي كدنا ننساها, فهاهو امامكم آخر من بقي على قيد الحياة من نسل الملك الاكبر سارم.. الامير فاتح ابن الامير جليل ابن الامير خان.
واشار للقزم عتيق ليقترب منه, فسار هذا الاخير نحوه وقد حمل اللفافة الجلدية التي تحوي التاج الذهبي والصولجان الفضي..
وما ان فض الحكيم اللفافة وانعكست اضواء المشاعل على التاج والصولجان حتى انطلق الشهقات من كل الاقزام..
- اقترب مني يا سمو الامير, فأتوج رأسك الكريمة بالتاج المقدس.
قالها الحكيم وقد امسك التاج- الذي تألق كشمس صغيرة- بين يديه, فأخذ فاتح نفسا عميقا ملأ به صدره قبل ان يقطع المسافة القصير التي تفصله عن الحكيم..
وما ان اصبح امامه حتى رفع التاج عاليا وقال:
- لتشهد ارواح ملوكنا على هذه اللحظة المقدسة.. لحظة تتويج ملك جديد بتاج الملك سارم على عرش مملكة الاقزام المجيدة.
قالها ووضع التاج على رأس فاتح الذي سرت رجفة في جسده عندما التقى التاج المقدس برأسه..
وناول الحكيم الصولجان لفاتح وقال وهو ينحني امامه:
- انحنوا جميعا للملك فاتح بن جليل بن خان, ولتشمله ارواح اسلافه بالعناية والتأييد.
انحنى الجميع امام فاتح الذي شعر برهبة تتملكه وهو يرى كل من عاش بينهم قزما عاديا ينحنون امامه اليوم وقد توج ملكا عليهم..
- ارفعوا رؤوسكم يا اخوتي الاعزاء.
قالها فاتح ويمناه تقبض بقوة على الصولجان, ودار بعينيه الزرقاوين في الوجوه قبل ان يقول:
- اليوم نحن نعيش لحظات شديدة الاهمية في تاريخ امة الاقزام العريقة.. لحظات احيينا فيها مملكتنا من بين الرماد الذي احترقت فيه منذ سنوات طويلة عانينا فيها مرارة الهزيمة, وذل التشتت والضياع.
انطلقت الكلمات من بين شفتي فاتح تمس القلوب والعقول..
وزفر فاتح بقوة ثم قال:
- واريد ان ابدأ ايامي الاولى كملك للاقزام برد بعض الحقوق الى اصحابها, وتكريم اشخاص آخرين اخلصوا لهذه الامة العريقة.
واشار بصولجانه الفضي نحو الساحر العجوز ايليا وقال:
- واول هؤلاء الاشخاص هو ساحر القرية ايليا.. من اسرة كرمهم ملوكنا بأن جعلوهم يشغلون منصب ساحرالقصر الملكي الاول, ولكن هذا المنصب لم يعد موجودا بسقوط مملكتنا واستيلاء الملك كاسر على حكم البلاد, لهذا فسيعود ايليا مرة اخرى الساحر الاول في بلاط ملك الاقزام.
اغرورقت عينا ايليا بدموع الفرح, واخذ يتلفت حوله وهو يقول:
- انا ساحر البلاط الملكي من جديد؟!!.. عاد الحق الى صاحبه.. عاد الحق الى صاحبه.
ابتسم فاتح وهو يقول:
- واما الشخص الثاني فهو الشاعر قسمت, فلا احد هنا يجهل تاريخ عائلته كأول اسرة تحترف الشعر في تاريخ الاقزام, فأنجبت لنا شعراء لازالت قصائدهم تتردد على الالسنة بفخر وشمم.. ولهذا لابد ان يعود الحق الى صاحبه ويصبح قسمت شاعر البلاط الملكي كما كان اجداده.
تهدج صوت قسمت وهو يقول:
- ياله من شرف يا مولاي.. ياله من شرف.
اتسعت ابتسامة فاتح وقال وهو ينظر الى عتيق:
- صديقي العزيز عتيق.. لطالما وانت الاقرب الى نفسي منذ الطفولة, وعندما اشرت بضرورة وجود مقاتلين بين الاقزام, وجدتك اول من ايديني, وشاركني بحماس شديد تكوين اول مجموعة من المقاتلين في تاريخ الاقزام.. شاركتني العديد من المعارك ضد البرابرة, فأبليت فيها بلاءا حسنا, ولن اجد من هو افضل منك ليتولى قيادة مقاتلي الاقزام.. النواة لأول جيش في تاريخنا.
انحنى عتيق امامه ولثم طرف عباءته الفضية قبل ان يقول:
- اعدك الا اخيب ظنك ابدا يا مولاي.
ربت مجد على رأسه وقال مبتسما:
- وانا واثق بأنك ستكون افضل قائد انجبه شعب الاقزام.
قال عتيق وقد التمع الدمع في عينيه:
- من بعدك بالطبع يا مولاي.. من بعدك.
والتفت فاتح الى حكيم الاقزام وقال وابتسامته تتسع:
- اما انت يا سيدي, فلن اجد من اثق به كمستشار لمملكة الاقزام ووزيرا اول لملكها سواك, فلولاك لضاعت الودائع الملكية المقدسة التي انقذها جدي الامير خان, وعرش الملك الاكبر سارم يدين لك بوجوده.
انحنى الحكيم امامه وقال:
- لقد اديت واجبي تجاه مملكة الاقزام كما ينبغي لقزم مخلص ان يفعل يا مولاي.
تطلع اليه فاتح قليلا قبل ان يلتفت الى جموع الاقزام امامه:
- اخوتي.. لابد ان اخبركم الآن بأننا سنبدأ حرب التحرير ضد الملك كاسر, فمن العار ان يقاتل الثوار وحدهم من اجل استعادة ارض شاركناهم فيها يوما, ونعمنا بحماية الملوك الاقوياء ردحا طويلا من الزمن.. لقد صدقت النبوءة القديمة.. واتى الينا الفارس الذي انتظرناه طويلا.
ونظر الى مجد وقال مضيفا بلهجة حازمة:
- وانه ليشرفني ان اصحبه الى معاقل الثوار السرية في الجبال الخضراء ليأخذ مكانه كقائد لنا ولهم.. انها اول خطوة لنا على درب الحرية يا اخوتي.
تعالت الهتافات الحماسية من الحناجر:
- الحرية.. الحرية.. الحرية.
في حين التقت نظرات فاتح ومجد..
نظرات بدت ابلغ من اي حديث قد تجري به الالسنة..
اي حديث على الاطلاق..


* * * *
تم بحمد الله

الكتاب القادم بإذن الله
"طريق الخطر"


الساعة الآن 12:38 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية