منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   الادباء والكتاب العرب (https://www.liilas.com/vb3/f202/)
-   -   حسين قدري , حكايات أوروبية (https://www.liilas.com/vb3/t37065.html)

mallouli 12-04-07 02:06 PM

حسين قدري , حكايات أوروبية
 
مقتطف من الكتاب:

"هذه الصورة التي أحكيها لكم الآن من حياتنا في المهجر؛ تجمعت تفاصيلها أمامي على امتداد أكثر من10 سنوات.. رأيت بدايتها، ورأيت نهايتها وشاركت في أجزاء منها.. ولكنني كنت طول الوقت مندهشًا، ولا أزال مندهشًا.. وتنبأت بنهايتها من قبل أن تحدث البداية..

هناك قول مأثور يقول: "لزوم مالا يلزم".. كأن يستطيع شخص ما أن يعد من 1000 إلى 1، بالعكس، يعني بسرعة ودون أن يتلعثم أو يخطئ.. أو أن يستطيع أن "يبربش" بعينيه لمدة 10 دقائق متصلة دون أن يتوقف لحظة واحدة.. أو أن يستطيع أن يأكل طبقًا كبيرًا من الأرز "رزاية" بعد "رزاية"؛ يعني يضع "رزاية" واحدة في فمه في كل مرة، حتى ينتهي طبق الأرز .. "لزوم ما لا يلزم" هنا معناها أن هذه كلها قد تكون "خبرات" صحيح، واستغرقت من صاحبها وقتًا طويلاً حتى تدرب عليها وأجادها صحيح؛ لكنها كلها خبرات تافهة وغير مفيدة على الإطلاق.. لا تفيد صاحبها بأي شيء ولا تجعله يتقدم لوظيفة ما بهذه الخبرات، ولا تفيد الناس والمجتمع الذي حوله ولا أي مجتمع في الدنيا، بأي شيء..

والحكاية تبدأ حين دعتني زميلة عربية كنا نعمل معًا في مجلة من المجلات العربية التي تصدر في لندن؛ دعتني للغداء في بيتها، وعرفتني بأسرتها؛ أبيها رجل القانون الكبير المتقاعد واللاجيء بأسرته إلى بريطانيا، وأمها التي كانت مديرة للتعليم في وطنها قبل أن تهرب منه مع أسرتها، وزوج الزميلة وهو رجل أعمال، وطفلتيها، و.. أخيها..

قدمت لي أخاها الأصغر باعتباره يدرس الهندسة في إحدى جامعات إنجلترا.. لكن الأهم من ذلك أنه عاشق إلى حد الهوس لأم كلثوم.. يحفظ كل كلمات أغانيها مجرد حفظ؛ يعني لا يغني، ولديه مكتبة أشرطة وإسطوانات كاملة لكل ما غنته أم كلثوم، ويعرف كل شيء كل شيء كل شيء عن أم كلثوم، من قبل مولدها إلى بعد وفاتها؛ ماذا كانت تلبس، وعدد الفساتين والأحذية والشباشب التي عندها، ومتى اشترت كل منها ومن أين، وماذا كانت تأكل في الصباح، وماذا كانت تأكل على الغداء، وماذا كانت تأكل في العشاء، وماذا كانت تتناول بين الوجبات، وماذا كانت تشرب، وكيف كانت تجلس، وكيف كانت تقف، وكيف كانت تنام، وكيف كانت تضحك، وأين كانت تتنزه، ومن هم أهلها، ومن هم أقاربها وأسرتها، ومن هم أصدقاؤها، وكيف كانت تختار أغانيها، وكيف كانت تختار الملحنين، وشكل علاقاتها بهم، وكيف كانت تحفظ الألحان، وكيف كانت تغني كل أغنية، وكل أغنية غنتها كم مرة في كم حفلة، ومتى كانت أول مرة غنتها، وآخر مرة غنتها، ومجموع الساعات والدقائق والثواني التي غنت فيها كل أغنية وووو ... كل شيء مهما كان تافهًا كان يعرفه "مصطفى"، أخو زميلتي العربية!!

وأخذني "مصطفى" طالب الهندسة معه إلى غرفته، ودلق فوق دماغي طنًا من المعلومات عن أم كلثوم كنت أعرف معظمه، والجزء الذي لم أكن أعرفه لم يكن يهمني أصلاً أن أعرفه.. وقلت لمصطفى يومها منذ 12 سنة: "لكن هذه يا مصطفى كلها معلومات موجودة في الكتب التي نُشرت عن أم كلثوم في حياتها وبعد وفاتها، وفي الصحف والمجلات التي كتبت عن أم كلثوم.. فما الجديد في الموضوع إذن!؟" فأجاب "مصطفى" فخورًا وهو يشير إلى رأسه: "الجديد أنها كلها مجتمعة في رأسي أنا هنا..
أنا موسوعة وإنسيكلوبيديا حية عن أم كلثوم!!" "لزوم مالا يلزم" هنا..

وتصورت أن هذه الحدوتة كلها نزوة مراهقة عند طالب الهندسة الشاب سوف تتوارى وتضمحل وتختفي بمجرد أن يتخرج في الجامعة، ويبدأ حياته العملية فينشغل بعمله ووظيفته، وبما هو أهم، ثم يتزوج وينجب ويصبح بني آدم عادٍ مثل كل الناس، ورب أسرة مثل كل الناس، وينسى حكاية أم كلثوم هذه.. وقد يتذكرها في يوم من الأيام بعد 10 سنوات فيضحك لها وتضحك لها أسرته، ويقولون له مداعبين: "فاكر يا مصطفى أيام ما كنت مهووس بأم كلثوم.. ها ها ها ها"، ويضحك ويضحكون...

وباعدت الأيام بيني وبين الزميلة العربية 10 سنوات كاملة، خصوصًا وأن كلاً منا قد ترك المجلة التي كنا نعمل فيها معًا.. حتى أخبارها لم تعد تصلني؛ فظننت أنها ربما تكون قد عادت وأسرتها إلى وطنها.. حتى كنت في مصر في إجازة منذ عامين حين رن جرس التليفون في بيتي رنة مكالمة خارجية، وأتاني صوت يتكلم بلكنة عربية: "أنا الدكتور مصطفى باكلمك من لندن"، ويتضح إنه شقيق زميلتي العربية القديمة، بعد أن تخرج في كلية الهندسة، ثم حصل على الدكتوراة في هندسة الكمبيوتر، وكان قد احتفظ بأرقام تليفوني في مصر منذ المرة الوحيدة التي التقينا فيها في لندن منذ 10 سنوات.. "مبروك يا دكتور مصطفى.. وماذا تعمل الآن!؟".. وكانت المفاجأة التي لم أكن أتوقعها: الدكتور "مصطفى" هو مدير مركز تراث أم كلثوم في بريطانيا (!!).. وهل لأم كلثوم مركز تراث في بريطانيا !؟ وأم كلثوم مصرية وأنا مصري، وصحفي، وما اعرفش!؟

وانتهت إجازتي وعدت إلى لندن، واستقبلني الدكتور "مصطفى" في المطار ليوصلني إلى بيتي.. وفي الطريق حكى لي في دقيقة ونصف أخباره وأخبار أسرته: أسرته كلهم كويسين.. الكبار صحتهم كويسة والصغيرين كبروا.. هو تزوج من بنت خاله وهي مهندسة أيضًا، لكنها تخرجت في الجامعة في وطنها، وأنجبا طفلتين و.. وبس.. كل الوقت بعد ذلك طول الطريق من مطار هيثرو إلى بيتي، ثم في بيتي حتى العاشرة ليلاً، من الرابعة عصرًا؛ و"مصطفى" يتكلم بلا انقطاع عن أم كلثوم!!.. ولولا أنني كنت مرهقًا وتعبان من السفر، وأريد أن أرتب أموري بعد عودتي من الإجازة، لقضى "مصطفى الليلة عندي يحدثني عن أم كلثوم.

"مصطفى " يتصل بي 20 مرة في اليوم، ويزورني مرتين أو 3 مرات في الأسبوع ليقضي معي عدة ساعات، وحديثه الواحد الوحيد هو عن أم كلثوم.. وأنا أحب أم كلثوم صحيح كما يحبها كل الناس لكن ليس إلى حد أن أتكلم عنها وأسمع عنها 6 ساعات في اليوم، 6 مرات في الأسبوع، و3 ساعات في التليفون كل يوم بقية أيام الأسبوع!!

ودعاني "مصطفى" إلى العشاء في بيته.. أول مرة أرى زوجته وطفلتيه، وأنا أحب الأطفال كثيرًا، وأحب أن ألاعبهم وألعب معهم.. لكن الدكتور "مصطفى" شغال "فول أوتوماتيك" 24 ساعة في اليوم لا يكل ولا يمل، ولا يهدأ ولا يهمد من الكلام عن أم كلثوم.. قلت لمصطفى يومها مداعبًا جادًا: "ندي أم كلثوم إجازة النهاردة يا مصطفى.. خليني أتعرف على نضال زوجتك، وألعب مع آمنة وسارة طفلتيك.. زهقتني من أم كلثوم، وخليتني قربت أكرهها.. ده أنا لو أكلت 5 كيلو مانجو في يوم واحد سأكره المانجو طول عمري بعد كده".. وكأنني دست على "زر" عند زوجته "نضال" دون أن آخذ بالي.. فقد انفجرت "نضال" فجأة باكية وهي تصرخ بخليط من الإنجليزية والعربية باللهجة العراقية واللهجة المصرية، تستغيث بي من أم كلثوم التي تعاشرها في بيتها منذ أن تزوجت "مصطفى" من 8 سنوات، ولا حديث له في البيت أو في الغيط أو في أي مجتمع أو زيارة يذهبان إليها معًا غير عن أم كلثوم، وأغنيات أم كلثوم وأفلام أم كلثوم وأشرطة وأسطوانات أم كلثوم شغالة في البيت 24 ساعة في اليوم، "ومصطفى" لا يريد أن ينطق أحد في البيت بكلمة أو يتنفس ما دامت أم كلثوم تغني، وهي تعاني على طول وإذا غنت أم كلثوم فاستمعوا لها وأنصتوا..!! أم كلثوم تشاركني في بيتي وفي حياتي، ولا أشاركها في زوجي لأنه لها لوحدها.. مصطفى بتاع أم كلثوم وليس بتاع أي حد آخر.. أم كلثوم معي في غرفة نومي والله أعلم كيف أنجبنا الطفلتين.. مركز تراث أم كلثوم الذي يديره مصطفى هو غرفة في البيت هنا لا يدخلها إلا مصطفى فيها كل شيء عن أم كلثوم.. كيف حصل مصطفى على دكتوراة الهندسة التي يقول إنه يحملها إذا كان لا يعرف أي شيء في الدنيا إلا أم كلثوم.. مصطفى لا يعمل، وليس موظفًا؛ لأنه متفرغ تمامًا لأم كلثوم.. والذي ينفق على بيتنا وأولادنا هو أبوه وأمه اللذان استسلما تمامًا للداء المصاب به ابنهما الوحيد؛ داء أم كلثوم، واعتبره نوعًا من "الصرع" لا علاج له، إلا أن يشفيه الله وحده في يوم من الأيام، لكن حين يجيء هذا اليوم (إذا جاء) سأكون أنا قد أصبت بانهيار عصبي، وأموت شهيدة أم كلثوم.. زهقت، طهقت، وسأهرب من هذه العيشة كلها في يوم من الأيام لن يكون بعيدًا جدًا..

سافرت في مهمة عمل وعدت إلى لندن بعد 3 شهور.. وجاء الدكتور "مصطفى" ليزورني لكي يستمر في حديثه عن أم كلثوم..

في وسط الحديث سألته: "كيف حال نضال!؟" فقال مندهشًا: "نضال مين !؟" قلت وأنا أكثر اندهاشًا: "مش عارف نضال مين !؟ نضال زوجتك"..

قال ببساطة: "آه .. نضال هربت وتركت البيت والبنتين منذ 3 شهور، وطلبت الطلاق وحصلت عليه، ولا أعرف عنها شيئًا بعد ذلك.. نرجع لأم كلثوم...."

*************************

للتحميل من هنا

:liilas---new:


قراءة موفقة للجميع



قادم من الماضي 12-04-07 03:52 PM

الف شكر لك اخي ابراهيم

nabil1227 12-04-07 11:33 PM

كللللللللللللللللللللل الشكر

na4ever 13-04-07 08:08 AM

Thanks a lot...

dali2000 07-06-09 11:30 PM

تم تعديل الرابط ،وقراءة موفقة للجميع (:


الساعة الآن 04:18 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية