قصة قصيرة / الجزء الثاني -- القصة كاملة
ما إن دقَّ جَرسُ الفُسحةِ حَتى وَجدَ الأستاذُ "محمد" مُديرُ المدرسةِ نَفسَهُ أَمامَ الأستاذة "إلهام".
منتدى ليلاس الثقافيـ "أستاذ "محمد"، كنتُ سأذهبُ لمكتبِكَ حَالاً". قَالتها بلهفةٍ، وردَّ هو بتساؤلٍ لا يَخلو مِنَ الوقارِ: ـ خيراً يا ابنتي، تعَالي لنتحدثَ في المكتبِ. الأطفالُ مِنْ حولهما يتَحركون في كُلِ الاتجاهاتِ، على وجوهِهم فرحٌ حقيقي بالفسحةِ، يأكلونَ، يجرونَ وراءَ بعضِهم البعض أو يتَبادلونَ الإجاباتِ الصحيحةِ في دفاترِهم التي سوفَ يُسلمونها في الحصةِ التاليةِ.. - أستاذ "محمد"، بالنسبةِ للجزءِ الثاني مِنَ المدرسةِ، أعتقدُ أنَّ أحدَ الطلابِ يفكرُ في الوصولِ إليه، اسمُه "حُسين" وهو في الصفِّ الثالثِ، لقدْ سَألني إنْ كنتُ أعرفُ مَا وراءَ أَحدِ الأبوابِ المؤديةِ للجزءِ الثاني، وَلمْ أستطعْ أنْ أجيبَ، وقدْ أحسَّ هو بترددي. أَخشى أَن يحاولَ... أَنتَ تعرفُ ما قدْ يحدثُ عندئذٍ. بهدوءٍ قالَ: لا تتَردي يا "إلهام"، إذا سألَك أحدُ الطلابِ بعدَ ذلكَ، أخبريه بالحقيقةِ مباشرةً!. تغيرتْ ملامحُ "إلهام" مِنَ الإرتباكِ إِلى الرعبِ وقالت: ـ الحقيقةِ؟ أخبرُهم بالحقيقةِ يا أستاذ "محمد"؟. وبنفسِ الهدوءِ والبساطةِ قالَ الأستاذ "محمد": ـ نعم، الجزءُ الثاني مِنَ المبنى الخاصِ بالمدرسةِ لمْ يتم الانتهاءُ مِن إعدادِه، وسنقومُ بتجهيزِه في إجازةِ الصيفِ لتبدأَ الدراسةُ فيه في العامِ القادمِ. أليستْ هذه هي الحقيقةُ؟. فهمتْ "إلهام" ما يريده مديرُها فقالتْ: ـ بلى يا سيدي إنها الحقيقةُ، وإنْ كانتْ ناقصةً قليلاً. قالَ المديرُ: ـ لا ينبغي أنْ يعرفَ الطلابُ أكثرَ مِنْ هذا، غداً في طابورِ الصَّباحِ سأَخبرُهم بأَنَّ المدرسةَ بها جزءٌ ناقصٌ كي يتوقفَ فضولُهم، وسأتأكدُ مِن إغلاقِ كلِّ الأَبوابِ والممراتِ المؤديةِ إلى هناك بنفسي، هذا هو الأسبوعُ الأولِ مِنَ الدراسةِ ولا نريدُ أيةَ مشكلاتٍ، أنتِ مَعي في هذا طبعاً؟. هزتْ رأسها بالموافقةِ، وتمتمتْ: ـ بالتأكيدِ يا أستاذ "محمد"، بكلِ تأكيد. * * * يتحركونَ في كلِّ الاتجاهاتِ، يأكلونَ، يجرونَ، يتبادلونَ الإجاباتِ الصحيحةِ. لكنَّ أحدَهم كانَ يفعلُ شيئاً مُختلفاً. كانَ "حُسين" قَدْ استكشفَ كُلَّ الفصولِ والممراتِ في أولِ يومٍ لهُ في المدرسةِ، دَخلَ المكتبةَ، وصلَّى في الجامعِ، رأى غرفةَ المدرسين، ولمحَ جزءاً مِن غرفةِ المديرِ. لكنَّ هذا الجزء المغلق مِن المدرسةِ يبدو أنه يحوي شيئاً فريداً، كلُّ المدرسينَ يتحاشون ذكرَه، لا أحد يذهبُ أو يعودُ مِن هناك. الأبوابُ التي يفترضُ أنها تؤدي إليه مغلقةٌ بأقفالٍ كبيرةٍ، لو استطاعَ عبورَها سيشبعُ فضولَه وسيكونُ لديه مِنَ المعرفةِ ما ليسَ لدى أحدٍ مِن زملائِه، سيعرفُ ما يخفيه المديرُ والمدرسونَ في الجزءِ الثاني فقط لو وجدَ ثغرةً ما، باباً منسياً، فتحةً في جدارٍ، أو لعلها تلكَ النافذةُ في الفصلِ الأخيرِ هناك. سيحضرُ كرسياً ليقفَ عليه ثمَّ يقفزُ مِنَ النافذةِ ليكونَ أولَ طالبٍ يضعُ قدمَيه على أرضِ الجزءِ الثاني! لحظة واحدة، لماذا لم يقلْ أحدٌ إنَّ هذا الجزءُ مِنَ المدرسةِ ليسَت بِه كهرباءٌ؟ صحيحٌ أننا في منتصفِ النهارِ لكنَّ نورَ الشمسِ لا يدخلُ إلى هذا الجزءِ كأنه يهربُ منه. طبعاً لا أحد هنا، لا طلاب، لا مدرسينَ، لا كتب، لا فصول، والأسوأُ أنه لا يوجدُ كرسي يساعده على الرجوعِ من نفسِ النافذةِ! إذن فليسر في هذا الجزءِ مستكشفاً وليبحث عن سُلم خشبىٍ أو أيَ شيء يساعدُه على العودة.. * * * قالَ الأستاذُ "محمد" مديرُ المدرسةِ: ـ إنها الحربُ يا "إلهام". الحربُ التي كدْنا نفقدُ فيها الوطنَ لولا رحمةُ اللهِ بنا. لقدْ كانت القواتُ المحتلةُ تستخدمُ هذا المبنى كسجنٍ ومكانٍ لتعذيبِ المقاومين، وعندما استلمنا المبنى، قامت الوزارةُ بتنظيفِ هذه الغرف وطلائِها مِن جديد... هذه الغرفةُ مثلاً كانت ملطخةً بالدماءِ ولها رائحةٌ رهيبةٌ. بعضُ الغرفِ كانت بها عظامٌ بشريةٌ وملابسٌ ممزقةٌ، لقد بذلنا كلَّ جهدنا لكي تعودَ الحياةُ للمدرسةِ الابتدائيةِ ولكي لا يشعرَ الطلابِ بما حدث.. لكنَّ العامَ الدراسي بدأَ ولمْ تنتهِ عملية التنظيف، ونفذت الميزانيةُ قبلَ أنْ نتمكنَ مِنَ شراءِ المقاعدِ والأدواتِ الخاصةِ بالجزءِ الثاني؛ لذلكَ أغلقناهُ حتى تنتهي الدراسةُ هذا العامِ.. انظري إلى اللوحاتِ الفنيةِ التي زيَّنا بها الممرات، والزهورِ التي زرعناها في أحواضٍ خاصةٍ في كلِ فصلٍ. كُل هذا الجمالِ والنظامِ يقابله بشاعةٌ وإهمالٌ في الجزءِ الثاني. ينبغي ألا يعرف الطلابُ –حتى عندما يكبرون– أنَّ مدرستَهم كان بها مكانٌ بهذا السوء، وسأفعلُ كلَّ ما بوسعي لإخفاءِ هذا السر.. * * * تأكدَ "حُسين" مِنَ أنه لا توجدُ وسيلةٌ للعودةِ للمدرسةِ في هذا الدور من الجزءِ الثاني.. كلُ الفصولِ مدمرةٌ وعليها بقعٌ وأتربةٌ كثيفةٌ؛ أحذيةٌ قديمةٌ ملقاه في كلِ مكانٍ؛ وهناكَ زجاجٌ مهشمٌ ومسامير على الأرضِ. كانَ هناك سلمٌ يقودُ للدورِ الأرضي، لكنّ شجاعته كانت قد انتهت ولم يعدْ يجرؤُ على الذهابِ بعيداً؛ قد يضلُ الطريقَ، أو قد يصادفُ كلباً، وهو لا يرى كابوساً أسوأَ من مقابلةِ كلبٍ ضالٍ في مكانٍ مظلمٍ كهذا. لكنه بعدَ ترددٍ سينزلُ للدورِ الأرضي بخطواتٍ مرتجفةٍ وسيكونُ مستعداً للعودةِ بأقصى سرعةٍ إذا لمحَ أي شيء يتحركُ. الإضاءةُ شبه منعدمةٍ والسكونُ يشيرُ إلى عدم وجود أي حياة. يبحثُ عن مخرجٍ، عن سلمٍ، عن جهازِ هاتف ليتصل بأخيه، عن كوبٍ من الماءِ لأَنه بدأَ يعطشُ فعلاً. توقفَ بغتةً والتفتَ إلى أحدِ الفصولِ عن يمينه بعدما أحس بحركةٍ صامتهٍ فيه. كانت عيناه قد اعتادتا على الظلام واستطاعَ أن يميزَ مصدرَ الحركةِ. لثوانٍ لم يفهمْ كُنهَ الشيء الذى يراهُ لكنه أدركَ فجأةً أنه يجبُ أن يعودَ بسرعةٍ، أن يجري ولا ينظرَ خلفَه، سيصعدُ إلى الدورِ الثاني ويقفُ تحت النافذةِ ويصرخُ ويصرخُ حتى يسمعَه أحدٌ من الجهةِ الأخرى. فقط كان يتمنى أن يحدثَ هذا قبل فواتِ الأوان! * * * قالت "إلهام" لتلاميذِ الفصلِ: ـ ماذا تقصدونَ بأنكم لا تجدون "حُسين" في أيِ مكان؟ إنه هنا حتماً. تذكرت أسئلةَ "حُسين" عن الجزء الثاني فأمرت أحدَ الطلابِ أن يقفَ مكانها ويقرأَ الدرسَ عدةَ مراتٍ بصوتٍ عالٍ حتى تعود.. كانَ صراخُ "حسين" قد وصلَ إلى أحدِ الفصولِ وارتبكَ مدرسُ الفصلِ الشابِ وهو يطلبُ من الطلابِ الهدوء حتى يستطيعَ أن يعرفَ مصدرَ الصوت. بعدَ دقيقةٍ واحدةٍ كانَ المدرسُ ومعه أحدُ الفراشين قد وصلا إلى النافذة التي يقف "حسين" تحتها من الجهةِ الأخرى. صعدَ المدرس فوق الكرسي وأشار لـ "حسين" كي يهدأ حتى يحضر الفراشُ مفتاح أحد الأبواب. في نفسِ اللحظة، دخلَ المديرُ مع "إلهام" وصاح: ـ أين هو الآن؟. أشار المدرس إلى النافذةِ وقال: ـ إنه هناك بالأسفل من الجهة الأخرى. أنا أراه ولكن وجهه أصفر من الرعبِ. لقد ذهبَ الفراشُ ليحضر مفتاحاً و.... لم يكملْ عبارتَه فقد أزاحه المديرُ وصعدَ على الكرسي وعبرَ النافذةَ ليقفزَ بجوارِ الطفلِ المرعوبِ ويحتضنه بعتابٍ: ـ لماذا أتيتَ إلى هذا المكان؟ لماذا لم تسمع الكلام؟ وسط ذهول المدرسين. أشار "حسين" إلى السلم وقال بحروف متقطعة: "إنه هناك... أسفل... السلم... أول غرفة.. إنه... الدور... يمين... ثم فقدَ الوعي بين يدي المدير. صاحَ الاستاذُ "محمد": اطلبوا الدكتور "فايز" فوراً، وأسرعوا بفتحِ البابِ. فتحَ الفراشُ البابَ والتقطَ الطفلَ من بينِ يديه. أشارَ المديرُ نحو الدورِ الأرضي وسألَ الفراشَ: ـ هل تتذكرُ ماذا كانَ أسفلَ هذا السلمِ على اليمين؟ هز الفراشُ رأسه نافياً وقالَ وهو يعودُ بالطفلِ للمدرسةِ: ـ لا يا سيدي، لم يذهبْ أحدٌ إلى هذا المكان منذ أن استلمنا المدرسةَ. توقفَ المديرُ ونظر إلى السلمِ مفكراً ثمَّ قالَ: ـ إذن اذهبْ بـ"حسين" إلى الدكتور وأحضرْ لي مصباحاً كهربائياً، أعتقدُ أنه رأى شيئاً ويجبُ أن أعرفَ ما هو، وأن أجدَ له تفسيراً قبلَ أن يفيق. * * * كانَ واضحاً أن هذا اليوم ليسَ عادياً في المدرسةِ، فقد صُرفَ التلاميذُ مبكراً واحتلتْ عرباتُ الإسعافِ والشرطةِ فناءَ المدرسةِ. وشُوهدَ المديرُ يتهربُ من أحدِ الصحفيين الذي يلاحقه بعبارةٍ ثابتةٍ: ـ أرجوكَ يا سيدي، أجبْ لي عن سؤالٍ واحدٍ فقط!. التفتَ المديرُ إلى ضابط شرطة، فقالَ الأخيرُ: ـ أخبرهم يا أستاذ "محمد"، لمْ تعد هناك أسرارٌ. قالَ الأستاذُ "محمد": ـ بل تفضل حضرتك بالكلام، ليس لدي ما أقوله عن هذا الأمر. هزَّ الضابط رأسه متفهماً وصاحَ: ـ من كان لديه سؤالٌ فليأت إليّ. صحفي: من أين جاءَ كلُّ هؤلاءِ المصابين؟ الضابط: لقد كانوا في سجن أسفلَ المدرسةِ ويبدو أن المحتلين تركوهم مقيدين قبل أن يغادروا السجن.. صحفي آخر: هل استطاعوا البقاءَ شهراً كاملاً منذ أن رحلَ الاحتلالُ، بلا ماءٍ أو طعام؟. الضابط: التحقيقاتُ لم تبدأْ بعد، لكني رأيتُ آثاراً لكميةٍ من الخبزِ والماء، يحتملُ أن يكون المحتلون قد تركوها بجوارهم، ومع ذلك فقد توفي معظمُ السجناء ولكنَّا فككنا قيودَ الناجين، وكما ترى فسياراتُ الإسعافِ تنقلهم للمستشفى.. صحفي ثالث: هل يمكن أن نعرفَ كيف تمَّ اكتشافُ هذا السجن؟. الضابط: ياه، ليسَ الآن، هذه قصةٌ طويلةٌ، سأخبركم بها فيما بعد.. معاذ رياض |
قصة معبرة
اعتقد هناك ثغرة صغيرة بان المدير قال: لكنَّ العامَ الدراسي بدأَ ولمْ تنتهِ عملية التنظيف، ونفذت الميزانيةُ قبلَ أنْ نتمكنَ مِنَ شراءِ المقاعدِ والأدواتِ الخاصةِ بالجزءِ الثاني؛ ولم يقل ان الجزء الثاني لم ينظف ابدا ولكن الايحاء الى ترك احياء دون البحث عنهم لمدة شهر ممتاز ويدل على قمة الاهمال والتلاعب بحياة الاشخاص كذلك التطرق الى وجود براويز واحواض ورد مع انه وراءها هناك مصائب لم تطأها قدم انسان بشكل عام القصة ممتازة وشكرا لك |
زهرة ،
لم تنته عملية التنظيف توضح أن العملية توقفت عند حد أو مكان معين. ولأن الميزانية نفذت والمقاعد والأدوات الخاصة بالجزء الثاني لم تكن متوفرة فإنه لا معنى - من وجهة نظر إدارة المدرسة - لتنظيف ذلك الجزء إذا كان لن يستخدم في الدراسة هذا العام .. أيضا لا تتوقفي عند حدود المعنى المباشر للقصة ، هناك معاني أخرى أكثر عمقا .. اسمحي لي أن أنقل لكي هذه القراءات في القصة لعل المعنى يتضح قليلا : اقتباس:
اقتباس:
|
يسلموووو
قصـــــهـ جميلهـ واسلوب ممتع موفق يارب ^_^ |
بحر الندى ،
الله يسلمك .. شكرا لمرورك .. |
الساعة الآن 05:39 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية