منتديات ليلاس

منتديات ليلاس (https://www.liilas.com/vb3/)
-   أغاثا كريستي , روايات أغاثا كريستي (https://www.liilas.com/vb3/f186/)
-   -   اجاثا كريستي , المذبح , على شكل كتابة (https://www.liilas.com/vb3/t31553.html)

Lovely Rose 15-02-07 01:35 PM

اجاثا كريستي , المذبح , على شكل كتابة
 
المذبح


انعطفت زوجة القس عند زاوية بيتها وهي تحمل ملء ذراعيها من أزهار الأقحوان. وكان الكثير من تراب الحديقة الخصب يلتصق بحذائها القوي الغليظ كما كانت بعض ذرات التراب ملتصقة بأنفها ولكنها لم تكن تدرك ذلك.

وجدت شيئا من الصعوبة في فتح بوابة بيت القس التي أوشكت مفاصلها الصدئة أن تنخلع وهبت نسمة من الريح على قبعتها البالية مما جعلها في وضع أكثر ميلا مما كانت عليه من قبل. قالت بنتش: "تبا!", ثم شقت طريقها من خلال الباب وهي تحمل أزهار الأقحوان واتجهت الى فناء الكنيسة ثم الى بابها.

وقد صارت السيدة هارمون (التي سماها والداها المتفائلان ديانا) تدعى بنتش في سن مبكرة وذلك اشارة الى لحدبتها كما تعني الكلمة وقد اقترن هذا الاسم بها منذ ذلك الحين.

كان هواء تشرين الثاني (نوفمبر) لطيفا ورطبا وكانت السحب تندفع في السماء مظهرة بقعا من زرقة السماء هنا وهناك أما في الداخل فقد كانت الكنيسة مظلمة وباردة.

قالت بنتش على نحو معبر: برررر! من الأفضل أن أنتهي من هذا بسرعة؛ فلا أريد أن أموت بردا.

وبسرعة اكتسبتها من طول المران جمعت مستلزمات عملها المختلفة من مزهريات وماء وحاملات أزهار وفكرت في نفسها قائلة: "ليت عندنا أزهار الليلك! لقد سئمت أزهار الأقحوان النحيلة هذه". ثم رتبت أصابعها الرشيقة الأزهار في الحاملات.

لم يكن في تنسيق الأزهار أي فن أو ابداع خاص ذلك أن بنتش هارمون نفسها لم تكن فنانة ولا مبدعة ولكنه كان تنسيقا بسيطا ومفرحا. وبعد ذلك مشت في الممر وهي تحمل المزهريات بحذر وشقت طريقها نحو المذبح. وفي هذه الأثناء أشرقت الشمس.

دخلت أشعة الشمس من خلال النافذة الشرقية ذات الزجاج الملون باللونين الأزرق والأحمر (وهو هبة أحد الأثرياء الفكتوريين ممن كانوا يترددون على الكنيسة). وقد كاد أثر ذلك الاشراق يكون مذهلا في غناه ودفقه المفاجئ, وقالت بنتش تخاطب نفسها: "انها تتلألأ كالجواهر...". وفجأة توقفت وهي تحدق أمامها, فعلى درجات الفسحة أمام المذبح جثم جسم معتم.

وضعت بنتش الأزهار على الأرض بحذر وصعدت نحوه وانكبت عليه. كان رجلا متكورا على نفسه وجثت بنتش على ركبتها بجانبه وقلبته ببطء وحذر ثم فحصت نبضه بأصابعها. كان النبض ضعيفا مرتجفا بحيث يتحدث عن نفسه حاله في ذلك حال وجهه الشاحب الذي يوشك أن يكون مخضرا. ورأت بنتش أن الرجل يحتضر دون شك.

كان رجلا في الخامسة والأربعين من عمره تقريبا ويلبس بدله قاتمة بالية. وضعت يده المرتخية التي كانت قد رفعتها ونظرت الى يده الأخرى وبدأ وكأن تلك اليد كانت مشدودة على شكل قبضة فوق صدره. وعندما نظرت اليها عن كثب رأت أن الأصابع كانت مغلقة على حشوه كبيرة أو منديل كان يمسك به بقوة الى صدره. وحول قبضته تلك كانت بقع من سائل بني جاف خمنت بنتش أنه دم جاف.

جلست بنتش على عقبيها وهي عابسة. حتى تلك اللحظة كانت عينا الرجلين مغمضتين ولكنهما فتحتا فجأة وركزتا على وجه بتنش. ولم تكونا منبهرتين ولا تائهتين بل بدتا مليئتين بالحيوية والذكاء. وتحركت شفتاه فمالت بنتش عليه لتسمع الكلمات التي يقولها... أو بالأحرى الكلمة؛ اذ لم يقل الا كلمة واحدة
"المذبح".

خيل اليها أنها لمحت ابتسامة باهتة جدا على شفتيه وهو يتنفس بتلك الكلمة. لم يكن فيها مجال لأي خطأ فقد كررها ثانية بعد لحظة: "المذبح..."!

ثم أغلق عينيه ثانية وهو يسحب نفسا طويلا خافتا ومرت أخرى تحسست بنتش نبضه وكان نبضا متصلا ولكنه بات الآن أضعف وأكثر تقطعا.

نهضت بشئ من التصميم وقالت: لا تتحرك أو تحاول أن تتحرك... سأخرج لطلب النجدة.

فتحت عينا الرجل مرة أخرى ولكنه بدا الآن وكأنه يركز انتباهه على الضوء الملون القادم من خلال النافذة الشرقية. ثم تمتم بشئ لم تفهمه بنتش تماما, وظنت -مرعوبة- أنه ربما تلفظ باسم زوجها.

قالت: جوليان؟ هل جئت الى هنا لتبحث عن جوليان؟

ولكنها لم تسمع اجابة. كان الرجل مستلقيا وعيناه مغمضتين وأنفاسه بطيئة قصيرة. واستدارت بنتش وغادرت الكنيسة بسرعة ونظرت الى ساعتها وأومأت برأسها بشئ من الرضا؛ فالدكتور غريفيث ما زال في عيادته التي لا تبعد عن الكنيسة أكثر من دقيقتين مشيا على الأقدام.

دخلت العيادة دون أن تقرع الباب أو الجرس وعبرت غرفة الانتظار ثم دخلت غرفة الطبيب وقالت: يجب أن تأتي على الفور؛ في الكنيسة رجل يحتضر.

بعد بضع دقائق كان الدكتور غريفيث ينهض بعد أن فحص الرجل بسرعة ثم قال: هل يمكننا أن ننقله من هنا الى بيت القس؟ هناك أستطيع العناية به بشكل أفضل... دون أن يعني ذلك فائدة كبيرة له.

- بالطبع؛ سأذهب أمامك وأجهز الأمور. ما رأيك في أن أستدعي هاربر وجونز لمساعدتك في حمله؟

- أشكرك. يمكنني الاتصال هاتفيا لطلب سيارة اسعاف ولكنني أخشى أن لا تصل السيارة الا...

ثم ترك العبارة دون أن ينهيها فسألته: أهو نزيف داخلي؟

أومأ الدكتور غريفيث برأسه بالايجاب وقال: كيف وصل الى هنا يا ترى؟

قالت بنتش وهي تفكر: لا بد أنه كان هنا طوال الليل. ان هاربر يفتح الكنيسة في الصباح عندما يذهب الى العمل ولكنه لا يدخلها في العادة.

بعد ذلك بخمس دقائق تقريبا كان الدكتور غريفيث يضع سماعة الهاتف ويعود الى غرفة الجلوس حيث كان الرجل المصاب ممدا على بطانيات وضعت على عجل وكانت بنتش تنقل بعض الماء وتنظف ما خلفه فحص الطبيب.

قال الطبيب: "حسنا, هذا كل شئ. لقد أرسلت في طلب سيارة اسعاف وأبلغت الشرطة". ثم وقف عابسا ينظر الى المريض الذي استلقى وقد أغلق عينيه وكانت يده اليسرى تنتفض وتتشنج على جانبه في حركة عصبية.

قال غريفيث: لقد أطلق عليه الرصاص... أطلق الرصاص عليه من مكان قريب تماما. وقد كور منديله على شكل كرة وأغلق به الجرح حتى يوقف النزيف.

- أكان بوسعه أن يسير مسافة طويلة بعد حدوث ذلك؟

- آه, نعم, هذا ممكن تماما. أصيب رجل -ذات مرة- اصابة قاتلة وتحامل على نفسه وسار في الشارع وكأن شيئا لم يحدث ثم انهار فجأة بعد خمس دقائق أو عشر. ولذلك فان الرصاص لم يطلق عليه داخل الكنيسة بالضرورة. نعم, ربما أطلق عليه الرصاص في مكان بعيد الى حد ما وربما كان قد أطلق الرصاص على نفسه ثم أسقط المسدس وسار متعثرا نحو الكنيسة... لا أعرف تماما لماذا قصد الكنيسة ولم يقصد بيت القس الملحق بها.

- آه, أنا أعرف ذلك؛ فقد قال: "المذبح".

قالت بنتش وهي تلتفت بعد أن سمعت وقع أقدام زوجها في الصالة: ها قد جاء جوليان. جوليان!تعال هنا.

دخل جوليان هارمون الى الغرفة. كان طريقة تصرفه الغامضة الموحية بسعة العلم ما يظهره دائما أكبر من عمره الحقيقي. قال وهو يحدق بهدوء وحيرة الى الأجهزة الطبية والجسد الممد على الأريكة: ياالهي!

أوضحت بنتش بأسلوبها المختصر المعتاد: كان يحتضر داخل الكنيسة. لقد أطلق عليه الرصاص. هل تعرفه يا جوليان؟ أظنه ذكر اسمك.

اقترب الكاهن من الأريكة ونظر الى الرجل المحتضر وقال: "مسكين!", ثم هز رأسه نافيا وقال: لا, لا أعرفه بل أكاد أكون واثقا من أنني لم أره من قبل أبدا.

في تلك اللحظة فتحت عينا الرجل المحتضر مرة أخرى. نقلهما من الطبيب الى جوليان هارمون ومنه الى زوجته وبقيت العينان هناك, تحدقان الى وجه بنتش.

تقدم غريفيث وقال بسرعة: لو استطعت اخبارنا...

لكن الرجل قال بصوت ضعيف وعيناه مركزتان على بنتش: "أرجوك... أرجوك...", ثم ارتعش ارتعاشة خفيفة ومات.
* * *

لحس الرقيب هيز قلم الرصاص وقلب صفحة من دفتر ملاحظاته وقال: أهذا -اذن- كل ما يمكنك قوله لي يا سيدة هارمون؟

قالت بنتش: هذا كل ما عندي. بالاضافة الى الأشياء التي كانت موجودة في جيوب معطفه.

كانت على الطاولة عند مرفق الرقيب هيز محفظة وساعة قديمة مضربة بعض الشئ عليها حرفا (وس) وتذكرة عودة الى لندن... ولا شئ غير ذلك.

سألته بنتش: هل عرفتم من يكون؟

- لقد اتصلت امرأة تدعى السيدة ايكلس وزوجها بمركز الشرطة. يبدو أن الرجل المتوفى أخوها واسمه ساندبورن, وقد كان في حالة صحية وعصبية ضعيفة منذ بعض الوقت وساءت حالته في الفترة الأخيرة وقد خرج أول أمس من البيت ولم يعد, وأخذ معه مسدسا.

قالت بنتش: وجاء الى هذا المكان فقتل نفسه فيه؟ لماذا؟

- لقد كان يشعر بالاكتئاب...

قاطعته بنتش: لا أقصد هذا. أقصد لماذا هنا؟

ولأنه كان واضحا أن الرقيب هيز لا يعرف الاجابة على ذلك السؤال فقد رد عليها بطريقة ملتوية: لقد جاء الى هنا في حافلة الساعة الخامسة وعشر دقائق.

قالت بنتش ثانية: نعم. ولكن لماذا؟

- لا أعرف يا سيدة هارمون ليس لدي تفسير. اذا كان العقل مختلا...

أكملت بنتش عنه: فيمكنه أن يفعلها في أي مكان... ولكني ما زلت لا أرى ضرورة لأن يركب حافلة ويأتي الى مكان ريفي صغير كهذا. انه لا يعرف أحدا هنا, أليس كذلك؟

قال الرقيب هيز: "لا نعرف على وجه الجزم". ثم سعل بطريقة اعتذارية وقال وهو يقف: ربما رغب السيد ايكلس وزوجته بالقدوم لرؤيتك يا سيدتي... ان كنت لا تمانعين.

- لا أمانع بالطبع, هذا أمر طبيعي جدا. أتمنى -فقط- لو كان عندي ما أبلغهما به.

- سأذهب الآن.

قالت بنتش وهي تسير معه الى الباب الأمامي: أحمد الله كثيرا على أنها لم تكن جريمة قتل.

جاءت سيارة وتوقفت عند بوابة بيت القس. قال الرقيب هيز وهو ينظر اليها: يبدو لي أن السيد ايكلس وزوجته قد وصلا للحديث معك يا سيدتي.

استعدت بنتش لتحمل ما شعرت أنه قد يكون محنة عصيبة بعض الشئ وفكرت في نفسها قائلة: مهما يكن الأمر أستطيع دائما استدعاء جوليان لمساعدتي.

وقد كان السيد ايكلس وزوجته كما توقعتهما بنتش تماما, الأمر الذي جعلها تحس بشئ من الدهشة عندما حيتهما. ورغم أنها لم تستطع أن تظهر هذا الاحساس الا أنها كانت تعيه تماما. كان السيد ايكلس رجلا ممتلئ الجسم متورد الوجه من شأن سلوكه الطبيعي أن يكون مرحا وفكها, وكانت السيدة ايكلس ذات شكل يوحي بالبهرجة على نحو غامض وفم صغير مزموم الى الأعلى بشكل يوحي باللؤم وكان صوتها رفيعا أشبه بالصفير.

قالت: كانت صدمة عنيفة لنا كما تعلمين يا سيدة هارمون.

- آه, أعرف؛ انها صدمة بالتأكيد. اجلسا من فضلكما. هل أقدم لكما... لعل الوقت ما زال مبكرا بعض الشئ على تناول الشاي.

لوح السيد ايكلس بيد سمينة وقال: لا, لا؛ لا نريد شيئا. هذا لطف بالغ منك. أردنا فقط أن... أن نعرف ما قاله المسكين ويليام, وما الى ذلك.

قالت السيدة ايكلس: لقد كان في الخارج لفترة طويلة وأظن أنه عانى من بعض التجارب بالغة الصعوبة. كان شديد الهدوء والكآبة منذ أن عاد من الخارج, وقد قال ان العالم غير مناسب للعيش فيه وليس عنده ما يتطلع أو يصبو اليه. مسكين بيل, كان دائما مرير المزاج.

نظرت بنتش اليهما معا لبضع ثوان دون أن تتكلم.

وأكملت السيدة ايكلس: لقد سرق مسدس زوجي دون أن ندري, ويبدو أنه جاء الى هنا بعد ذلك في الحافلة. أظن أن ذلك كان احساسا جميلا من طرفه فهو لم يرغب في فعل ذلك في بيتنا.

قال السيد اكليس وهو يتنهد: مسكين, مسكين! لا ينفع أن نحكم عليه الآن.

ساد صمت قصير مرة أخرى, ثم قال السيد ايكلس: هل ترك رسالة؟ أية كلمات أخيرة أو شيئا من ذلك؟

كانت عيناه اللامعتان تراقبان بنتش عن كثب, ومالت السيدة ايكلس الى الأمام هي الأخرى وكأنها متلهفة لسماع الرد.

قالت بنتش بهدوء: لا؛ فقد دخل الكنيسة عندما كان يحتضر طلبا للملاذ في المذبح.

قالت السيدة اكليس بصوت مرتبك: المذبح؟ لا أظن أنني...

قاطعها السيد ايكلس قائلا بنفاد صبر: انه المكان المقدس يا عزيزتي. هذا هو ما تعنيه زوجة القس؛ فالانتحار خطيئة كما تعلمين وأظنه أراد طلب المغفرة.

قالت بنتش: لقد حاول أن يقول شيئا قبل وفاته. بدأ يقول "أرجوك", ولكن هذا كل ما استطاع أن يقوله.

وضعت السيدة ايكلس منديلها على عينيها ومسحت دموعها ثم تنشقت وقالت: يا الهي! أمر مزعج جدا, أليس كذلك؟

قال زوجها: اهدأي يا بام, اهدأي تمالكي نفسك. هذه الأشياء لا يمكن تفاديها. مسكين ويليام! ولكنه يرقد في طمأنينة الآن. نشكرك كثيرا يا سيدة هارمون. أرجو ألا نكون قد شغلناك, فنحن نعرف أن زوجة القس كثيرة المشاغل.

صافحاها, ثم التفت ايكلس الى الوراء فجأة ليقول: آه, نعم, أمر آخر فقط. أظن أن معطفه عندك هنا, أليس كذلك؟

قطبت بنتش جبينها وقالت: معطفه؟

قالت السيدة ايكلس: نريد أن نأخذ جمع أغراضه... للذكرى.

- كان يحمل في جيوبه ساعة ومحفظة وتذكرة قطار, وقد أعطيتها للرقيب هيز.

قال السيد ايكلس: هذا حسن اذن؛ أظن أنه سيسلمها لنا. لا بد أن أوراقه الخاصة كانت في المحفظة.

- كان في المحفظة ورقة نقدية من فئة الجنيه فقط, ولا شئ غيرها.

- هل كان فيها رسائل؟ أو أشياء مثلها؟

هزت بنتش رأسها بالنفي.

- حسنا, شكرا لك مرة أخرى يا سيدة هارمون. بالنسبة للمعطف الذي كان يلبسه... ربما أخذه الرقيب أيضا, أليس كذلك؟

قطبت بنتش جبينها في محاولة للتذكر ثم قالت: لا, لا أظن... دعني أتذكر. لقد قمت أنا والطبيب بخلع معطفه لفحص الجرح.

نظرت حول الغرفة نظرات مبهمة ثم قالت: لا بد أنني أخذته معي الى الطابق العلوي مع المناشف وحوض الماء.

- ترى هل تمانعين يا سيدة هارمون...؟ اننا نود لو نأخذ معطفه هذا فهو آخر شئ لبسه في حياته. ان زوجتي حساسة تجاه هذا الأمر.

- بالطبع. هل تريدني أن أنظفه لكما؟ أخشى أنه... أنه ملئ بالبقع.

- آه, كلا, كلا, هذا لا يهم.

عبست بنتش وقالت: ترى أين... لحظة من فضلكما.

صعدت الى الطابق العلوي ومضت بضع دقائق قبل أن تعود قائلة وهي تلهث: آسفة جدا, لابد أن خادمتي قد وضعته جانبا مع الملابس التي كانت سترسل للتنظيف. لقد بحثت طويلا قبل أن أجده. ها هو, سألفه لك في ورق بني.

لفته بالورق دون أن تلتفت لاعتراضاتهما, ثم ودعاها باسهاب مرة أخرى وغادرا.

عادت بنتش الى الصالة ببطء ودخلت غرفة المكتب, فرفع زوجها بصره وقال مشجعا: نعم يا عزيزتي؟

- جوليان, ما هي العلاقة بين كلمتي الملاذ والمذبح بالضبط.

وضع جوليان هارمون الورقة التي كان يكتب فيها جانبا وقال: المذبح في المعابد الاغريقية والرومانية هو المكان الذي يقف فيه تمثال الاله, والكلمة اللاتينية المقابلة للمذبح (وهي آرا) كانت تعني أيضا الحماية أو الملاذ. وفي عام 399 بعد الميلاد تم الاعتراف بشكل نهائي ومحدد بحق اللجوء الى المذبح في الكنائس كملاذ للمطاردين, وأول ذكر لهذا الحق في اللجوء الى المذبح في انكلترا موجود في كتاب القوانين الذي أصدره ايثلبرت عام 600 بعد الميلاد...

واصل خطابه لبعض الوقت, ولكن أزعجته -كما هي العادة- الطريقة التي كانت زوجته تستقبل بها شروحا ته الموسوعية.

قالت: "يا حبيبي, انك رائع فعلا". ثم انحنت وقبلته, فأحس كأنه كلب تلقى تهنئة على أدائه حركة بارعة.

قالت بنتش: كان ايكلس وزوجته موجودين هنا.

قطب جبينه وقال: ايكلس؟ انني لا أتذكر...

- أنت لا تعرفهما. انها أخت الرجل الذي وجدناه بالكنيسة وزوجها.

- يا عزيزتي, كان يجب أن تناديني.

قالت: "لم تكن لذلك أية حاجة؛ فلم يكونا بحاجة الى مواساة". ثم قالت عابسة: أتساءل ان كان بوسعك أن تتدبر أمر طعامك غدا ان تركت لك الصينية في الفرن؟ أظنني سأذهب الى لندن لحضور التنزيلات.

نظر زوجها اليها مشدوها: التنزيلات؟

ضحكت بنتش وقالت: توجد تنزيلات على البياضات في محل باروز وبورتمان. الشراشف وأغطية الطاولات والمناشف ومماسح الزجاج... لا أعرف ماذا نفعل بهذه المماسح, فهي تهترئ بسرعة.

ثم أضافت متأملة: بالاضافة الى أن علي الذهاب لرؤية العمة جين.

* * *

كانت تلك العجوز اللطيفة الآنسة جين ماربل, تستمتع بمباهج المدينة لفترة أسبوعين وقد احتلت شقة ابن أخيها بكل ارتياح.

تمتمت قائلة: كان هذا تصرفا في غاية اللطف من ريموند. لقد ذهب هو وجوان الى أمريكا لفترة أسبوعين وأصرا على أن آتي الى هنا لأمتع نفسي. والآن يا عزيزتي بنتش أخبريني بما يقلقك.

كانت بنتش امرأة أثيرة لدى الآنسة ماربل وقد نظرت السيدة العجوز اليها بكثير من المحبة بينما كانت تدفع قبعتها المفضلة الى مؤخرة رأسها وتنطلق في سرد حكايتها.

كان سرد بنتش القصة مختصرا وواضحا. أومأت الآنسة ماربل برأسها بعد أن انتهت بنتش من روايتها وقالت: فهمت. نعم, لقد فهمت.

- هذا هو السبب الذي جعلني أشعر بوجوب رؤيتك. كما تعرفين فأنا لست على هذا القدر من الذكاء...

- ولكنك ذكية يا عزيزتي.

- لا, لست ذكية... لست ذكية مثل جوليان.

- ان لجوليان عقلا راجحا جدا بالطبع.

- هذا صحيح؛ ان لجوليان عقلا ولكن لي من -ناحية أخرى- نظرا سليما للأمور.

- لديك الكثير من الفطرة السليمة يا بنتش, كما أنك ذكية جدا.

- أنا لا أعرف حقا ما يتوجب علي عمله ولا أستطيع أن أسأل جوليان لأنه... أعني أن جوليان شديد الاستقامة.

بدا أن هذه العبارة مفهومة تماما من قبل الآنسة ماربل التي قالت: "أعرف ما تعنينه يا عزيزتي. أما نحن معشر النساء... أعني أن الأمر مختلف عندنا". ثم أكملت: لقد أخبرتني بما حدث يا بنتش ولكني أريد أن أعرف أولا رأيك أنت بالضبط.

- الأمر كله غير طبيعي. الرجل الذي كان يحتضر هناك في الكنيسة كان يعرف كل شئ عن المذبح وقد ردد الكلمة بنفس الطريقة التي كان من شأن جوليان أن يقولها. أقصد أنه رجل مطلع ومثقف. ولو كان قد أطلق النار على نفسه لما كان من شأنه أن يسحب نفسه بعد ذلك الى كنيسة ليقول: "المذبح"! ان المذبح -في هذا الاطار- يعني أن يكون المرء مطاردا وعندما يدخل الكنيسة يصبح آمنا وعندها لا يستطيع ملاحقوه أن يمسوه بسوء. لقد مر زمن لم يكن فيه بوسع رجال القانون أنفسهم ملاحقة المطلوبين هناك.

نظرت الى الآنسة ماربل متسائلة, وأومأت الأخيرة برأسها لتعود بنتش قائلة: هؤلاء الشخصان, ايكلس وزوجته كانا مختلفين تماما كانا جاهلين وجلفين. كما أن هناك شيئا آخر. تلك الساعة... ساعة الرجل الميت. كان عليها من الخلف الحرفان "و. س", وقد فتحتها فوجدت مكتوبا عليها من الداخل وبحروف صغيرة جدا عبارة "الى والتر من أبيه"... والتر, ولكن ايكلس وزوجته ظلا يتحدثان عنه باسم ويليام أو بيل.

كانت الآنسة ماربل على وشك الكلام, لكن بنتش أسرعت في اكمال حديثها: آه, أعرف أن الناس دائما لا يدعون دائما الشخص باسمه الأصلي. أقصد أنني أفهم أن يسمى الشخص باسم ويليام وينادى باسم آخر من قبل التحبب أو غير ذلك ولكن ليس من شأن أخت امرئ أن تناديه باسم ويليام أو بيل ان كان اسمه والتر.

- أتقصدين أنها لم تكن أخته؟

- أنا واثقة تماما من أنها ليست أخته. كانا خائفين... كلاهما, وقد قدما لأخذ حاجياته وليعرفا ان كان قد قال شيئا قبل أن يموت. وعندما قلت انه لم يقل شيئا رأيت أثر ذلك على وجهيهما... رأيت ارتياحهما. أنا -شخصيا- أظن أن ايكلس هو الذي قتله.

- جريمة قتل؟

- نعم, جريمة قتل. ولهذا جئت اليك يا عزيزتي.

ربما لم يكن من شأن مستمع جاهل أن يرى معنى لهذا التبرير الذي ساقته بنتش لزيارتها, ولكن الآنسة ماربل كانت مشهورة في بعض الدوائر بتعاملها مع جرائم القتل.

قالت بنتش: قال لي قبل أن يموت: "أرجوك". لقد أراد مني أن أفعل شيئا له, والأمر الفظيع أنني لا أعرف ما هو هذا الشئ.

فكرت الآنسة ماربل لحظات ثم أشارت الى النقطة التي خطرت لبنتش من قبل. سألتها: ولكن لماذا كان موجودا هناك أساسا؟

- تقصدين أن باستطاعته لو أرد الملاذ, دخول أية كنيسة في أي مكان ولا حاجة لركوب حافلة لا تسافر الا أربع مرات في اليوم والقدوم الى منطقة منعزلة كمنطقتنا من أجل ذلك.

قالت الآنسة ماربل وهي تفكر: لا بد أنه ذهب الى هناك لغرض معين... لا بد أنه ذهب لرؤية شخص ما ان قرية تشيبنغ كليغورن ليست كبيرة يا بنتش ولا بد أن لديك فكرة عن الشخص الذي قصده هذا الرجل؟

استعرضت بنتش سكان قريتها في نفسها قبل أن تهز رأسها مرتابة وتقول: يمكن أن يكون أي شخص.

- ألم يذكر أي اسم أبدا؟

- قال "جوليان", أو هكذا ظننته قال. ربما كان يقول "جوليا", وحسب علمي لا توجد امرأة باسم جوليا في تشيبنغ كليغورن.

أغمضت عينيها وهي تستعيد المشهد... الرجل الممدد على عتبات المذبح, والضوء يأتي من خلال النافذة بلون أحمر وأزرق كالجواهر.

قالت الآنسة ماربل متفكرة: الجواهر.

- سآتي الآن الى أهم شئ على الاطلاق, الى السبب الذي جعلني آتي اليك هنا اليوم. كان ايكلس وزوجته متلهفين كثيرا للحصول على معطفه. وقد خلعنا عنه معطفه عندما كان الطبيب يفحصه, وكان معطفا قديما باليا ولم يكن لاصرارهما على أخذه أي سبب مقنع. لقد تظاهرا بأنهما يريدانه للذكرى ولكن هذا هراء. على أية حال ذهبت لأبحث عنه وعندما كنت أصعد الدرجات تذكرت كيف أن الرجل الميت أشار بيده الى جيبه وكأنه أراد أن يتحسس معطفه, ولذلك فعندما وجدت المعطف تفحصته بكل عناية ورأيت أن البطانة في مكان معين قد خيطت مرة أخرى بخيط مختلف. وحين فتحتها وجدت قصاصة صغيرة من الورق في الداخل فأخذتها ثم خيطت البطانة من جديد بخيط شبيه. كنت حذرة في ذلك, ولا أظن أن ايكلس وزوجته عرفا بما فعلته. لا أظن ذلك... ولكني لا أستطيع الجزم. ثم أخذت المعطف اليهما واختلقت عذرا لتأخري.

- وأين قصاصة الورق؟

فتحت بنتش حقيبتها وقالت: لم أرها لجوليان لأنه كان سيطلب مني أعطيها لايكلس, وقد رأيت من الأفضل أن أحضرها اليك بدلا من ذلك.

قالت الآنسة ماربل وهي تنظر اليها: تذكرة ايداع الأمانات في محطة بادينغتن للقطارات.

- كانت في جبيه تذكرة عودة الى محطة بادنغتون.

تبادلت المرأتان النظرات, ثم قالت الآنسة ماربل بسرعة: هذا يستدعي منا العمل. ولكن أرى أن من الضروري أن نحذر. هل لاحظت -يا بنتش- ان كان أحدا يتبعك عندما جئت الى لندن اليوم.

صاحت بنتش: يتبعني! أتظنين...

- أظن أن ذلك ممكنا, وعندما يكون أي شئ ممكنا فيجب أن نأخذ احتياطاتنا.

نهضت بحركة رشيقة وقالت: لقد جئت الى هنا -يا عزيزتي- لحضور التنزيلات من الناحية الظاهرية ولذلك أظن أن من الصواب أن نذهب الى التنزيلات. ولكن قبل أن ننطلق يجب أن نأخذ بعض التدابير. لا أظن أنني سأحتاج معطف الصوف القديم المرقط ذا الياقة العالية في الوقت الحالي.

بعد ذلك بساعة ونصف تقريبا كانت السيدتان تلبسان ملابس شبه بالية ومظهرهما يوحي بالتعب, وهما تحملان أكياسا من الشراشف التي حصلتا عليها بشق الأنفس ولما لبثتا أن جلستا في مطعم صغير معزول يدعى أبل باف لكي تستعيدا قواهما بتناول وجبة خفيفة من شرائح اللحم وفطائر الكلى وتبع ذلك كعكة التفاح والكسترد.

قالت الآنسة ماربل لاهثة: انها مناشف من النوعية الجيدة التي كانت سائدة قبل الحرب وقد نقش عليها الحرف "ج" أيضا, ولحسن الحظ فان اسم جوان (زوجة ريموند) يبدأ بهذا الحرف. سأحتفظ بهذه المناشف لحين حاجتي اليها وسوف تنفعها اذا مت قبل الأوان.

قالت بنتش: كنت بحاجة لمماسح زجاج بالفعل وقد كانت رخيصة جدا رغم أنها ليست برخص تلك المماسح التي نجحت المرأة ذات الشعر البني في خطفها من يدي.

دخلت المطعم في تلك اللحظة فتاة أنيقة تضع كثيرا من الصبغة على وجهها, وبعد أن نظرت حولها نظرات غامضة أسرعت الى طاولة السيدتين ووضعت مغلفا أمام الآنسة ماربل وهي تقول بسرعة: هاك يا سيدتي.

قالت الآنسة ماربل: آه, أشكرك يا غلاديس. أشكرك كثيرا هذا لطف منك.

- يسعدني دوما أن أخدمك. ان ايرني يقول لي دائما: "كل خصلة جيدة لديك انما تعلمتها من تلك الآنسة ماربل التي كنت تعملين عندها". وتأكدي أنني أسر كثيرا بتقديم أية خدمة لك يا سيدتي.

قالت الآنسة ماربل بعد أن غادرت غلاديس المطعم: يا لها من فتاة عزيزة! دائما خدومة ولطيفة.

نظرت الى داخل المغلف ثم أعطته لبنتش وقالت: والآن, كوني في غاية الحرص يا عزيزتي. وبالمناسبة أما زال ذلك المفتش الشاب اللطيف الذي أذكره موجودا في ميلشستر؟

- لا أعرف, أظن ذلك.

- حسنا, ان لم يكن موجودا يمكنني الاتصال برئيس الشرطة فمن شأنه أن يتذكرني كما أظن.

قالت بنتش وهي تنهض: من شأنه أن يتذكرك بالطبع. لا أحد ينساك؛ فأنت امرأة فريدة.

* * *

عندما وصلت بنتش الى بادنغتون ذهبت الى مكتب الأمتعة وقدمت تذكرة الأمانات وبعد لحظات قدمت لها حقيبة قديمة بالية بعض الشئ فحملتها وانطلقت نحو الرصيف.

مضت رحلة العودة الى القرية خالية من الأحداث وعندما اقترب القطار من تشيبنغ كليغورن نهضت نبتش عن مقعدها وحملت الحقيبة القديمة. وكانت قد غادرت مقصورتها لتوها عندما اندفع رجل بسرعة فائقة على الرصيف وانتزع الحقيبة فجأة منها وانطلق هاربا بها.

صاحت بنتش: توقف! أوقفوه, أوقفوه. لقد أخذ حقيبتي.

أما مفتش التذاكر (الذي كان في هذه المحطة الريفية رجلا بطئ التجاوب) فما أن بدأ يقول: "قف, لا يمكنك أن تفعل هذا..." حتى أتته ضربة قوية على صدره دفعته جانبا. وخرج الرجل من المحطة مسرعا وبيده الحقيبة ثم ذهب الى سيارة كانت في انتظاره فألقى الحقيبة داخلها وكان على وشك دخول السيارة عندما أمسكت به يد من كتفه وأتاه صوت الشرطي أبل قائلا: والآن, ما كل هذا؟

وصلت بنتش من المحطة وهي تلهث قائلة: لقد سرق حقيبتي وكنت قد نزلت لتوي من القطار وأنا أحملها.
قال الرجل: هراء! لا أعرف ما تعنيه هذه السيدة. انها حقيبتي وقد خرجت من القطار وهي معي.

ثم نظر الى بنتش نظرة بليدة محايدة. ولم يكن من شأن أحد أن يخمن أن الشرطي أبل قد سبق له أن قضى مع السيدة هارمون ساعات طوال في أوقات فراغه يناقش معها فوائد السماد ومسحوق العظام لزراعة الورود.

قال الشرطي: أتقولين ان هذه حقيبتك يا سيدتي؟

قالت بنتش: نعم, دون شك.

- وأنت يا سيدي؟

- أقول انها حقيبتي.

كان الرجل طويلا أسمر أنيق الملابس يركز على مخارج ألفاظه ويتصرف بكبرياء. ثم جاء من داخل السيارة صوت امرأة تقول: انها حقيبتك -بالطبع- يا ادوين. لا أعرف ماذا تعني هذه المرأة.

قال الشرطي: علينا أن نستوضح هذه المسألة. ان كانت هذه حقيبتك يا مدام, فماذا يوجد بداخلها؟

قالت بنتش: ملابس... معطف طويل مرقط ياقته عالية وكنزتان من الصوف وزوج من الأحذية.

قال الشرطي: "حسنا, هذا واضح بما فيه الكفاية". ثم التفت الى الآخر, فقال الرجل الأسمر بعنجهية: انني أبيع ملابس للتمثيل المسرحي وهذه الحقيبة تحتوي على ملابس مسرحية أحضرتها معي الى هنا لمسرحية تقدمها فرقة للهواة.

قال الشرطي: حسنا يا سيدي. هل لنا أن ننظر الى ما بداخلها؟ يمكننا أن نذهب الى مركز الشرطة وان كنت في عجلة من أمرك فسنأخذ الحقيبة الى المحطة ثم نفتحها هناك.

قال الرجل: هذا يناسبني. واسمي -بالمناسبة- هو موس, ادوين موس.

عاد الرجل الى محطة القطارات وهو يحمل الحقيبة بيده وقال لمفتش التذاكر: نريد فقط أن ندخل هذه الى مكتب الطرود يا جورج.

وضع الشرطي الحقيبة على الطاولة في مكتب الطرود وفتح أزرارها ولم تكن الحقيبة مقفلة. كانت بنتش والسيد ادوين موس يقفان على جانبيه وهما ينظران الى بعضهما بحقد.

قال الشرطي أبل وهو يفتح الحقيبة: آه!

كان بداخل الحقيبة معطف طويل من الصوف بياقة عالية من الفراء كما كان بها كنزتان من الصوف وزوج من الأحذية الريفية.

قال الشرطي وهو يلتفت الى بنتش: انها كما قلتِ بالضبط.

ما كان لأحد أن يزعم أن السيد ادوين موس لا يتقن فن الاعتذار فقد كان فزعه وندمه هائلين, اذ قال: انني آسف فعلا... آسف جدا. أرجو أن تصدقيني -يا سيدتي العزيزة- عندما أعرب لك عن بالغ أسفي. تصرف لا يغتفر... لا يغتفر آبدا.

نظر الى ساعته وقال: يجب أن أذهب الآن بسرعة, فربما ذهبت حقيبتي مع القطار.

رفع قبعته بالتحية مرة أخرى وقال يخاطب بنتش برقة: أرجوك أن تسامحيني.

ثم اندفع مسرعا خارج مكتب الطرود, فقالت بنتش وهي تهمس في أذن الشرطي: هل ستتركه يفلت؟

غمزها الشرطي بعينه وقال: لن يبتعد كثيرا يا سيدتي. أعني أنه لن يذهب بعيدا دون مراقبة.

أطلقت بنتش آهة ارتياح, وقال الشرطي: لقد كلمتني تلك السيدة العجوز بالهاتف. السيدة التي كانت تعيش هنا قبل بضع سنوات. انها ذكية, أليس كذلك؟ ولكن هذا اليوم شهد كثيرا من التمثيل. لن أتعجب اذا جاءك المفتش أو الرقيب صباح غد بخصوص هذا الأمر.

* * *

كان المفتش كرادوك هو الذي جاء اليها وهو الذي كانت الآنسة ماربل تتذكره. حياها مبتسما كصديق قديم, ثم قال مبتهجا: جريمة قتل في تشيبنغ كليغورن ثانية. لا تنقصكم الاثارة هنا يا سيدة هارمون, أليس كذلك؟

- كنت أفضل لو لم يكن لدينا منها الا القليل. هل جئت لتوجه الي أسئلة أم أنك ستخبرني بأشياء من باب التغيير.

- سأخبرك بعض الأشياء أولا. في البداية سأخبرك بأننا نراقب السيد ايكلس وزوجته منذ فترة؛ فلدينا أسباب تدفعنا الى الاعتقاد بأنهما متورطان بكثير من حوادث السطو في هذه المنطقة. ويوجد أمر آخر فبالرغم من وجود أخ للسيد ايكلس يدعى ساندبورن عاد مؤخرا من الخارج الا أن الرجل الذي وجدته يحتضر في الكنيسة بالأمس لم يكن ساندبورن بالتأكيد.

- لقد عرفت ذلك فقد كان اسمه والتر وليس ويليام.

أومأ المفتش برأسه وقال: كان اسمه والتر سينت جون, وقد فر من سجن تشارينغتن قبل 48 ساعة.

قالت بنتش بصوت منخفض تحدث نفسها: بالطبع! كان الشرطة يتعقبونه, ولذا لجأ الى المذبح.

ثم سألت المفتش بصوت مرتفع: ما الذي فعله؟

- للاجابة على ذلك سأضطر للعودة الى الوراء بعيدا. انها حكاية معقدة, فقبل عدة سنوات عاشت راقصة تعمل في المسارح المنوعة. لا أظن أنك سمعت بها من قبل ولكنها تخصصت بفقرة من رقص ألف ليلة وليلة, وكانت فقرتها تدعى: ((علاء الدين في كهف المجوهرات)). وكانت تضع بعض الأحجار الكريمة الزائفة ولا أكثر. أظن أنها لم تكن راقصة ماهرة ولكنها كانت جذابة. على أية حال وقع شخص من أسرة مالكة في آسيا في حبها, ومن بين الأشياء التي أهداها لها كان عقد رائع من الزمرد.

همست بنتش بانفعال: مجوهرات المهراجا التاريخية؟

سعل المفتش كرادوك وهو يقول: لنقل انه كان نسخة حديثة عن تلك المجوهرات يا سيدة هارمون. ولكن لم تدم العلاقة بينهما فترة طويلة حيث انقطعت بعد أن تحول الرجل الى حب نجمة سينمائية أخرى لم تكن مطالبها على نفس القدر من التواضع. وقد احتفظت زبيدة (وهو الاسم الفني لراقصتنا) بالعقد, ولكنه سرق منها أخيرا... اختفى من غرفة تغيير ملابسها في المسرح! وقد بقي الشرطة يشتبهون في أن الراقصة نفسها هي التي خططت لاختفائه. فمثل هذه الأشياء معروفة كمناورة تهدف للدعاية أو لأغرض أكثر سوءا من ذلك أحيانا.

وبعد توقف قصير مضى المفتش قائلا: ولم يتم العثور على العقد أبدا, ولكن أثناء سير التحقيقات بدأ هذا الرجل يسترعي انتباه الشرطة (وأعني والتر سينت جون). كان رجلا مثقفا من أسرة كريمة ولكن ضاقت به سبل العيش بحيث أصبح عاملا في صياغة المجوهرات لدى شركة مغمورة يشتبه في أنها كانت كستار لأعمال السطو على المجوهرات وكان لدينا دليل على أن ذلك العقد قد مر من بين يديه. ولكنه اعتقل أخيرا في مسألة تخص سرقة مجوهرات أخرى وقدم الى محاكمة ودين وحكم عليه بالسجن. وكان قد أوشك على انتهاء مدة محكوميته عندما هرب ولذلك كان هروبه مفاجأة الى حد ما.

- ولكن لماذا جاء الى هنا؟

- نحن في أشد الرغبة لمعرفة ذلك يا سيد هارمون. يبدو من تقصينا لآثاره أنه ذهب أولا الى لندن ولم يزر أيا من معارفه القدامى ولكنه زار امرأة مسنة تدعى السيدة جاكوب كانت تعمل فيما مضى في الأزياء المسرحية. وهي لم تقبل قول أي كلمة عن سبب مجيئه اليها ولكن حسب كلام الآخرين الذين يسكنون معها في المنزل فقد غادر المنزل وهو يحمل حقيبة.

- فهمت... وقد تركها في حجرة ايداع الحقائب في محطة بادنغتون ثم جاء الى هنا.

- في غضون ذلك كان ايكلس والرجل الذي يسمي نفسه ادوين موس يقتفيان أثره فقد أرادا تلك الحقيبة وشاهداه وهو يركب الحافلة ولا بد انهما انطلقا في سيارة أمامه وانتظراه عندما غادر الحافلة.

- وهناك قتل؟

- نعم. أطلق عليه الرصاص, وكان ذلك مسدس ايكلس ولكني أظن أن أن موس هو الذي أطلق النار. والآن يا سيدة هارمون ما نريد معرفته هو مكان الحقيبة التي أودعها والتر سينت جون فعلا في محطة باندغتن.

ابتسمت بنتش وقالت: أظن أن العمة جين قد أخذتها الآن... أقصد الآنسة ماربل فقد كانت تلك خطتها. أرسلت خادمة كانت تعمل لديها فيما مضى ومعها حقيبة مليئة بأشيائها الخاصة فأودعتها في غرفة الايداع في محطة بادنغتن, ثم تبادلنا التذاكر فأخذت أنا حقيبتها وأحضرتها معي في القطار. ويبدو أنها توقعت قيام محاولة لانتزاعها مني.

ابتسم المفتش كرادوك بدوره وقال: قالت لي هذا عندما اتصلت بي بالهاتف. سأذهب الى لندن لرؤيتها. هل تريدين الذهاب معي يا سيدة هارمون؟

قالت بنتش وهي تفكر: حـ... حسنا, هذا أمر جميل. كان ضرسي يؤلمني الليلة الماضية ولذلك لا بد من الذهاب الى لندن لمراجعة طبيب الأسنان, أليس كذلك؟

- بالتأكيد.

* * *

قلبت الآنسة ماربل بصرها بين المفتش كرادوك ووجه بنتش هارمون المتلهف, وكانت الحقيبة على الطاولة.

قالت السيدة العجوز: "لم أفتحها بالطبع؛فلم أكن لأحلم بالقيام بمثل هذا الأمر حتى يصل شخص مسؤول". ثم أضافت بابتسامة فكتورية خجولة لا تخلو من المكر: والى جانب ذلك فهي مقفلة بالمفتاح.

سألها المفتش: هل تحزرين ما بداخلها يا آنسة ماربل؟

قالت الآنسة ماربل: يخيل الي أنها تحتوي على أزياء زبيدة المسرحية. أتريد ازميلا يا حضرة المفتش؟

أدى الازميل غرضه في الحال وعندما فتحت الحقيبة شهقت السيدتان قليلا. كان ضوء الشمس الذي يأتي من خلال النافذة يضئ ما بدا وكأنه كنز لا ينفد من المجوهرات البراقة, حمراء وزرقاء وخضراء وبرتقالية.

قالت الآنسة ماربل: كهف علاء الدين. انها المجوهرات اللامعة التي كانت الفتاة تلبسها للرقص.

قال كرادوك: آه, ولكن ما هي تلك القيمة الكبيرة لها بحيث يقتل رجل في سبيل الحصول عليها؟

قالت الآنسة ماربل متأملة: أظنها كانت فتاة ذكية. لقد ماتت, أليس كذلك يا حضرة المفتش؟

- نعم؛ ماتت قبل ثلاث سنين.

- وكانت تملك عقد الزمرد الثمين ذاك. لقد انتزعت الحجارة الكريمة من أماكنها في العقد ووضعتها هنا وهناك على ملابس الرقص التي تريدها حيث يظن الجميع أنها مجرد مجوهرات زائفة, ثم عملت نسخة مزيفة عن العقد الأصلي وهي النسخة التي سرقت بالطبع. لا عجب أن العقد لم يظهر في السوق فقد اكتشف السارق -في الحال- أن الحجارة كانت زائفة.

قالت بنتش وهي تسحب بعض الأحجار اللامعة جانبا: ها هنا مغلف.

أخذه المفتش كرادوك منها وأخرج منه ورقتين رسميتين, ثم قرأ بصوت مرتفع: "عقد زواج بين والتر ادموند سينت جون وماري موس". هذا اسم زبيدة الحقيقي.

قالت الآنسة ماربل: كانا متزوجين اذن... فهمت.

سألته بنتش: وما هي الورقة الأخرى؟

- شهادة ميلاد ابنة, تدعى جويل.

صاحت بنتش: جويل؟ بالطبع. جويل! جيل! لقد فهمت. فهمت الآن لماذا جاء الى تشيبنغ كليغورن. هذا ما كان يحاول قوله لي... جويل. عائلة ماندي التي تسكن في قريتنا ترعى طفلة صغيرة لشخص ما وهم يحبون الطفلة كثيرا ويعاملونها وكأنها حفيدتهم. نعم, أتذكر الآن, كان اسمها جويل وهم ينادونها جيل. وقد أصيبت السيدة ماندي بسكتة دماغية قبل حوالي أسبوع ومرض الرجل العجوز بذات الرئة وكانا الاثنان سيذهبان الى مأوى العجزة. وكنت أحوال -جاهدة- أن أجد منزلا جيدا لجيل يؤويها فلم أرد لها أن تأخذ الى دار للقاصرات. وأظن أن والدها سمع عن ذلك وهو في السجن فتمكن من الهروب وأخذ هذه الحقيبة من المرأة التي تركها هو أو زوجته عندها. ولئن كانت المجوهرات تخص والدة الفتاة فعلا فانني أظن أن باستطاعتها استخدامها الآن.

- أعتقد هذا يا سيدة هارمون. اذا كانت المجوهرات هنا.

قالت الآنسة ماربل مبتهجة: ستكون هنا بالتأكيد.

* * *

قال جوليان هارمون وهو يحيي زوجته بكثير من المحبة والارتياح: أحمد الله أنك عدت الى البيت يا عزيزتي. ان السيدة بيرت تبذل جهدها دائما عندما تكونين في الخارج ولكنها قدمت لي فطائر سمك غريبة جدا على الغذاء. ولم أرد جرح مشاعرها ولذلك أعطيتها لقطنا بايلسر ولكن حتى بايلسر لم يأكلها ولذلك اضطررت لالقائها من النافذة.

قالت بنتش وهي تربت على القط الذي كان يموء عند قدمها: ان بايلسر شديد التدقيق فيما يأكله!

- وماذا عن ضرسك يا عزيزتي؟ هل فحصته؟

- نعم, ولم يؤلمني كثيرا. وقد ذهبت -أيضا- لرؤية العمة جين مرة أخرى.

- يا لها من عجوز مسكينة! أرجو ألا تكون قد ضعفت.

قالت بنتش مبتسمة: أبدا.

* * *

في صباح اليوم التالي أخذت بنتش حزمة جديدة من أزهار الأقحوان الى الكنيسة. كانت الشمس تشع مرة أخرى من خلال النافذة الشرقية ووقفت بنتش على عتبات المذبح الذي تسقط عليه الأشعة الملونة وقالت تخاطب نفسها: ستكون فتاتك الصغيرة على ما يرام. سأحرص أنا على هذا الأمر... أعدك بذلك.


تمــــــــــــــــــــــــــــت:dancingmonkeyff8:

علاء سيف الدين 15-02-07 01:44 PM

يسلمو أختي الكريمة علي القصة
ولكن توجد الرواية في المنتدي بطبعتها الاصلية وكاملة

http://www.liilas.com/vb3/showthread.php?t=30671

Lovely Rose 15-02-07 01:49 PM

مشكور أخوي

ايوة شفتها بس ياخسارة

بعد مانزلتها انتبهت عليها

خلاص ما حأكتب من هذا الكتاب تاني

انا غير الناس 16-02-07 02:30 AM

مشكوره حبيبتي علي القصه

Lovely Rose 18-02-07 11:19 AM

تسلمي حياتي على مرورك وردك


الساعة الآن 12:07 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية